قضايا

سامي عبد العال: لحم الشُعراء

الكلمات هي خيوط الشعراء السريّة لنسْج صورة العالم والوجود. لو تخيلنا الشاعر كائناً مختلفاً، لكان أحد مبدعي الحياة بملء المعنى. لا يتعامل مع القصائد كما يتعامل الحَطّاب مع الاشجار، لكنه يرعاها كما يرعى المزارع حقوله الغنّاء بذوراً ونباتاً. عَبر كلمات الشعراءِ، تتجلى آفاق الحقائق، الأوهام، الأخيلة، الأحاسيس. إنّها المادة الحيّة التي يشكلون بها أسرار الإنسانية. فلا تقف الصيغُ الشعرية لدى(الحياد المُعجمي)، ولكنها تتخلق من جديدٍ. تنتشي، تتقافز، تزهو، تتلون بشكل غرائبي حين يصُوغ الشعراءُ أطياف الأشياء. كان الشعرُ وما زال بمثابة الإبداع الذي يقيس قدرتنا على اختراع فنون العيش.

أنْ تكون شاعراً يعني أنّك تمتلك رصيداً لا ينفد من الخيال الخلاّق، أنْ تمتلك عجينة مختمرة بأسرار الحياة والعالم. ليس معنى الامتلاك هاهنا كأنّك تمتلك شيئاً مادياً، ولكنه تفاعُل خطير مع أحداث المجتمعات البشرية بخلاف أي كائن آخر. الشاعر هو من يقول لهذه المجتمعات: منْ تكون على وجه الحقيقة!! هو منْ يُسمي الأحداث راصداً التحولات كما لو لم تكن من قبل. من العراقي بدر شاكر السياب وأحمد مطر إلى المصري نجيب سرور وأحمد فؤاد نجم مروراً بالسوري نزار قباني ومحمد الماغوط والتونسي الصغير أولاد أحمد رُسمت جغرافية الوطن العربي.

من نافذة الشعراء، تأتي العواصف التي تحرك شراع الحياة حيث رياح الاختلاف والحركة. لا يقفون لدى اعتاب الظواهر، ولكنهم يُبحرون إلى المجهول. وليست عبارة (بحور الشعر) بعيدةً عن المشهد، فمن بإمكانة السيطرة فنيَّاَ على بحور الشعر باستطاعته خوض غمار الابحار في لجج الأحداث. وبالتأكيد سيُمثل الشاعر مصدرَ قلق لكل القوى المهيمنة في المجتمعات، وسيصبح محل استفهام حائر بين الإنكار والتوجُس.

أفعال اللغة

لأول وهلةٍ في عالم الشعراء، تمثل اللغةُ" لحمَ الحياةِ " flesh of life. فالأحاسيس تأتيهم لغةً، العشق يغمرهم لغةً، الحقائق تتجلى أمامهم لغةً، الواقع منحوت من جسم اللغة. إن العالم يتكون من كلماتٍ مُبدعةٍ هي القصائد قلّت أو كثُرت. وعبر صورها الشعرية، تمرُق الرغبات والأفعال لغوياً.

دلالة اللحم- فيما يرى الفيلسوف الفرنسي موريس ميرلوبونتي- هي استعارة وجود مشبع بمعانٍ حيةٍ، مترعة بالعطايا والملذات. وأيضاً ثمة معانٍ مشبعة بالآلام والشرور والخيبات والخطايا. ولا سبيل إلى صياغةِ المستويات الإنسانية بأشكال رمزية دون الكلمات كمادةٍ حيّةٍ للابداع الشعري. كأنَّ الشعراء يعيدون الانسانية إلى أزمنة اندماجها في الكون والطبيعة. هذه القوة الأوليّة الناميّة التي كانت منتشرةً في كافة مظاهر الحياة.

لعلّها المسحة الأسطورية للوجود إذْ تلف كائناته ظلال الغموض. فكانت عناصره تنسجم مع بعضها البعض، الأشياء تتبادل المواقع والأدوار. الحيوانات عبارة عن أشجارٍ، والأشجار تمثل جبالاً شاهقة. والصخور تذهب وتجيئ في إهاب نغم كوني عارم. على حد تعبير الفيلسوف اليوناني فيثاغورث العالم: (عدد ونغم). هذه المقولة الرياضية / الشعرية التي ولدت من روح الأسطورة والأحوال الكونية. وهي مقولة شعرية بالدرجة الأولى، لأن الفضاء العام للفكر آنذاك كانت مشبعاً بالأساطير والأشعار.

تعيش اللغة وترتع بالمزيد من التعبيرات الشعرية. وقد تمرض وتخبو وتتحول وترسم حالاً مختلفاً من المعاني. عندما يدرك الشعراء جوهرَ العالم، يعطونه نفَسَاً مجازياً من خيالهم الأثير. يتحدثون إليه ويهمسُ إليهم. يحاورونه بالأصالةِ عن ذاته ويَسِر إليهم بالألغاز. يستدرجونه إلى حيث يُبدعون، ولكنه يأخذهم نحو المفاجأة والإدهاشِ. يهبونه صيغاً هي الصيغ النابضة بأعماقه الحسية/ الشعرية في الوقت الذي يُخرجُ من يراعهم عالماً مذهلاً.

لم يكن الشعرُ في يومٍ من الأيام صيغاً مجردةً، ولكنه صيغ حسية تتجاوز فكرة التجريد. الشعر هو اللغة اللحمية بكل ما تؤكده من كثافةٍ وحضورٍ وحميمية. ولو كان هناك منْ يخلق الكلمات في شكل كائنات من لحم ودم، فهو الشاعر. عملية الخلق مرتبطة بالإله في تراث الأديان، ولكنها لصيقة الصلة بالابداع الشعري الذي يثري وجودنا الإنساني. إذا وصف الشاعر محبوبته، فهو وصف حي يكاد يتحرك لا أقل. ويدفعها لأنْ تمشي في الطرقات وتتضوّع عبيراً وعطراً. وإذا عبر شاعرٌ آخر عن مشهدٍ، فإنه يبث فيه روح الحياة، حتى يكاد يشعر بها الإنسان!! الشعر يخلقُ ما يقول، هذه السمة التي تجعله مُتميزاً عن باقي فنون القول.

لحم الشعراء

تاريخياً الأمر مختلف.." لحم الشعراء" تعبير لشارل بودلير في يومياته على النحو التالي: " لو طلب شاعرٌ من الدّولة الحقَّ في أنْ يضع بعض البرجوازيّين في إسطبلهِ، لأثار الاستِغراب، لكن لو طلب برجوازيٌّ قليلاً من لحم الشُّعَرَاءِ "مَشْوِيّاً"، لَبَدا ذلك أمراً طبيعيّاً جِدّاً! " (شارل بودلير، اليوميات، ترجمة آدم فتحي، منشورات الجمل، كولونيا- ألمانيا، الطبعة الأولى 1999، ص ص 75-76). اليوميات هي صفحات الحياة الهادرة بالتفاصيل إلى آفاق بعيدةٍ. لا يكتبها الشاعر اعتباطاً ولا يترك فرصة سرد الوقائع دون التعبير عن أصالته وقريحته العميقة.

مهمٌ أنْ تأتي مقولة لحم الشعراء- في هذا السياق- بكل غبارها وتعطنها. فاللحم موطئ الفيروسات والحشرات ومرتع الطفيليات الاجتماعية من كل حدبٍ وصوبٍ. لأنه يعكس نظام الغرائز باختلاف منطلقاتها وأغراضها. وهو أيضاَ دليل حي على الاندماج في متن العالم، نحن نندمج بلحمنا في إيقاع المعطيات الحسية. فالحس هو ما يجعلنا نشعر بنبض الأشياء وصدى الكائنات. أنت تحس عندما تكون قادراً على التماهي مع عالمك وقواه الخفية التي تشملنا جميعاً.

لقد استعمل شارل بودلير تعبير (لحم الشعراء) بطريقة ماكرة كمقابل لبراح الشعر تجاه المجتمعات الراهنة من ناحيةٍ، وبمصاحبة قدراته على توجيه لطمات ناعمة لثقافة البيع والشراء من ناحيةٍ أخرى. لحم الشعراء أُدرج على طاولة الاقتصاد كبضاعة متاحة لأصحاب السلطة والنفوذ. اللحم يعبر عن (اقتصاد سياسي) عاصف قد تتبدد خلاله لغة الشعراء من الأساس. فالشعراء أمام البرجوازيين يفضحون نهم الرأسمال الذي يلف المجتمعات بين راحتيه. ولذلك ليس أقل من أنْ ينادي أحد الشعراء الكبار (بودلير) لدولته بوضع البرجوازيين في اسطبلات ... وهنا سيثير المطلب استغراباً ولا يلقى استجابةً!! المطالبة بهكذا وضع من جنس العمل الخطير على رهافة العالم والحياة. أليس الشعر فضحاً لقبح العالم؟ وكأن بودلير - بطرف خفي- يزج بالقبح كي يكون موضوعاً للتعري والانكشاف.

بالمقابل: لو طلب برجوازي لحماً مشوياً من جسد الشعراء لبدا ذلك طبيعياً!! ولكن المفارقة المغفُول عنها: أنَّه إذا كان لحم الشعراء مُستباحاً بوصفه مادةً بشريةً، فالمجتمعات لا تدرك أنَّ لحم الشعراء "سامٌ وقاتل" من جانب كونه مُعجزاً وخالقاً. لم يتناوله أحدٌ أو نهشه إلاَّ ومات ميتة الجاهلية. ذلك لكونه (أي لحم الشعراء) لغةً تند عن الأشياء بمعناها المادي كما أنه متماهٍ مع العالم دون مبارحةٍ. فحينما سيأكل البرجوازي شيئاً من لحم الشعراء، فإنّه سيلقى موتاً يفضحه على الملأ كما نقل بودلير في الفقرة الواردة بالأعلى.

غدا وجود البرجوازي نفسه لغةً مكشوفةً أمام الذباب من كل مكانٍ، سلعة كاسدة أمام المارّة في ردهات التاريخ. البرجوازي لا يفهم سوى ألعاب الاقتصاد والاستغلال، بينما يحول الشعراء الحيل والألعاب إلى حقائق لغوية فوق مستوى الشبهات. يعرض الشعراء كل صاحب نزعة تجارية صرف إلى مادة للسخرية والتهكم في عصر يشتري ويبتاع كل شيء. إن اللغة- بقول مارتن هيدجر– هي أخطر النعم، لكونها تعرضنا للانكشاف والتعري. وهذا ما يحققه الشعر تجاه غرائز الأوغاد والحمقى. إن شعراً أصيلاً لا يخلو من أصداء سياسية بطريقةٍ أو أخرى.

عليكُّم معشر الشعراء أنْ تصنعوا العالم من لحوم قصائدكم، ولا تأبهوا بمن ينادي عليكم في دامس الظلام. هكذا تبدو صور الأشياء والأزمنة والفضاءات لحماً للشعراء كما تدلل تجربة المبدعين، إذْ يشعرون بتحولاتها البعيدة. إنَّ كيان الشعراء هو عوالم اللغة المدهشة، يتجرعون أنفاسها، يصوغون صورها وينزفون دماءها الساخنة رغم مرور القصائد والعبارات بحقب كثيرةٍ. ولئن كان ثمة ثوب مخِيط بالإحساس المرهف والقوي في الآن نفسه، فهو الكلمات الشاعرة. لا ينفصل الشاعر للحظةٍ عن فعلها الحي.

هبة الشعر

على هذا المنوال يُوهِب كلُّ شاعر حقيقي حباً للإنسانية من لحمه الرمزي. ينزع الكراهية من لحمه الرمزي. يُجسد الافكار من لحمه الرمزي. تبدو الأشياء منتميةً إليه لا العكس، الكائنات تتصل بأسباب وجوده العميق. أنفاسه يسكبها حيث الأخيلة والمجازات التي تصل إلينا بكل زخمٍ ممكن.

ولئن دلّ هذا على شيء، فإنما يدلُ على أنَّ اللغة تتماهى مع العالم والطبيعة والحياة والموت. ذلك العشق الذي يجعلنا نحن البشر معجماً لغوياً للكون. نحن نتاج الطبيعة ونفهم ذواتنا ككائنات في عنفوانها الحيوي. إذْ تنسجم عناصر الطبيعة في الأعماق، وتبدو الكلمات زهوراً والمعاني أوراقاُ وروائح فوّاحة بكل ما هو جميل واستثنائي. هذا الطابع الشعري الأسطوري الذي لم يذهب عن عوالم الإنسان منذ القدم.

لا تُشْبه لغة الشعر أيَّةَ لغةٍ سواها، ولن تكون إلاَّ نفسها. وليس ذلك التطابق من باب التقنيات الفنية والأوزان والأشكال الشعرية، بل لكونِّ الشعر عملاً وجودياً على الأصالة. عبارات الشعر هي آثار الإنسانية وأخيلتها الأولى وذاكرتها وإحساسها الخام. وهي أبرز العناصر الممتدة عبر الزمن، فمازال الشاعر مع تطور الحياة محتفظاً بأحلام الإنسانية الخاصة منذ آلاف السنوات. وهو امتداد طبيعي لكل التراكم الثري للإنسان كتجسيد للتاريخ والتراث.

إنَّ دلالة ابداع الشعر كامنةٌ (فيه) لا إزاءه ولا تقع خارجه بحالٍّ من الأحوال. الشعرُ يُقال لا ليوّصِّف الأشياء ولا ليُعبر عنها تعبيراً خارجياً، بل ليخلّق، ليُشكِّل جوانب العالم كأننا لا نعرفه من قبل. وتلك هي البصمة الفلسفية المُبكرة في عُرف الشعراء. كلُّ شاعرٍ حقيقي يدرك جيداً: كيف (يخبز) تراب الحياة وأسرارها القُصوى؟ القصيدة دفقات وراء دفقات، حيث تتجلي عبرها أحاسيس الشاعر وقدراته (البدائية جداً والراهنة جداً) على الخلق.

وكلمة (البدائية الواردة هنا) تقف بمعناها الحفري من وراء تراث الإنسانية البعيد. فالمشاعر سحيقة جداً والأسرار الوجودية غائرة الجذور إلى اقصى مدى. لقد ورثناها كما هي، وسنوصلها إلى آخرين عبر وجودنا مثلما كانت. تظهر المشاعر والأحاسيس في الجسد بوصفها (وثيقة أنطولوجية) كأنّها النقوش، حيث الحب والعواطف والكراهية والغرائز والرغبات والعلاقات والأهواء. وتلك الأشياء هي الموارد الطبيعية الأساسية لدينا جميعاً نحن بني الإنسان. أي هي مواردنا الخام التي نصطنع منها عالماً معقداً ورمزياً. وعبرها نتواصل ونصنع كلَّ ما نملك أمام الآخرين. يصنع الشاعر من اللغة (كوناً له ولها) في الوقت عينه. اللغة بمثابة جسده الرمزي الذي يشكل جسداً فاعلاً في الحياة.

لا يملك الشاعرُ غير أنطولوجيا الابداع التي هي اللغة، إنه يسكن الوجود مؤكداً على معانيه وتأويلاته وفقاً لرأي مارتن هيدجر. عندئذ لا تُراهن على مَنْ لا يملك شيئاً سوى الكلمات، فقد امتلك الخلود، أخذ مواقفه تعبيراً عن الزمن. حينما يعبر الشاعر المُبدع، فهو يحقق غاياته لكل الناس، يذهب بعيداً مخترقاً الحواجز والقيود. وحينما يُصور الأشياء، فهو ينحت أفكاره بأزميل لا يخيب. وحينما يرى الكائنات، فهو يُمثل رؤيته بجسد الكلمات الذي هو متن الابداع.

ما مِنْ أحدٍ يستطيع أنْ يأكل كيانه كما يريد البرجوازي أنْ يفعل. لأنَّ لحم الشعراء لحم نيئ على الدوام. يصعب طهيه إلى حد الاستحالة، نظراً لأصالته العصيّة على الاهدار. يستمد حقائقه من أصالة الطبيعة والإنسان والزمن. فكما يستحيل طهي الطبيعة ككل، فكذلك لا أمل هناك في طبخ لحم الشعراء. لقد خابَ ظن منْ يتطلع إلى مضغه في نظام اجتماعي أو سياسي أيّا كان.

***

د. سامي عبد العال – أستاذ فلسفة

في المثقف اليوم