قضايا
فضل فقيه: العلم وأزماته.. الأكاديميا في دوامة التقدم والمحافظة

يناقش جون هورغان في كتابه "نهاية العلم" تراجع التقدم العلمي إلى حد غير مسبوق. يعيد هورغان سبب ذلك إلى أن الثورة العلمية في أوروبا أنتجت كمية ضخمة من الطفرات العلمية مدعومة بالقياسات والأدلة التجريبية اللتين تجعلاننا قريبين جدا إلى الاجابة عن الأسئلة الكبرى في شتى المجالات. تركت، بحسب هورغان، هذه الإنجازات، الفتات لما يقام به من علم الآن، حيث أصبح العلم متراكمات ضئيلة لسد الثغرات، لا انتاج الطفرات. يدعم هورغان ادعاءاته بأمثلة كنظرية الكم في الفيزياء ونظريات التطور بالانتقاء الطبيعي في البيولوجيا كطفرتين كبيرتين لم تتلوهما أية إنجازات بحجمهما في كلتا المجالين.
إن العلم بحد ذاته مؤسسة محافظة. وهنا نرى تناقضا جميلا. العلم يهدف لمعرفة كل ما هو جديد ولكنه يأخذ كل ادعاء أو قفزة بعين الحذر والشك. ابتكر الوسط العلمي خاصية المراجعة للأبحاث قبل نشرها، حيث يراجع علماء آخرون من ذات المجال البحث فينتقدونه ويطلبون تحسينات للمحتوى. حول هذه المراجعة وحول أشياء أخرى بنيت هيكلية علمية سميت بالأوساط الأكاديمية أو الأكاديميا. هذا الجسم وضع أطرا للمؤسسة العلمية لتطويرها من جهة، ولحمايتها من جهة أخرى. إلا أن الأكاديميا بشكلها الحالي جلبت متاعب للتقدم العلمي والفكري يكاد لا يختلف اثنان عليها. سنناقش في هذا المقال دور هيكلية ونظام عمل الأكاديميا الحالي في التقدم العلم أو نهايته. وسنتوسع أكثر في الأخيرة في مقالات تلي هذا المقال.
إيجابيات جلبتها الأكاديميا
حولت الأكاديميا المعاصرة العلم من كونه عملا فرديا يقوم به أفراد تواقون للمعرفة إلى امبراطورية تتخطى حدود الدول الوطنية وتغذي المعرفة الإنسانية ببراغماتية وموضوعية. قد تثير الجملة الأخيرة حفيظة الكثير من العلماء نظرا للعديد من مشاكل الأكاديميا، إنما ما لا شك فيه هو أن هذه المؤسسة نجحت في حماية العلم من الوقوع في دوامة السفسطة والمعلومات المغلوطة عبر سياسة المراجعة فيما حفزت الروح التنافسية.
سياسة مراجعة الأوراق البحثية قبل نشرها هي من أهم خصائص الأكاديميا المعاصرة. وقد تحدثنا عن كيفية سيرها في المقدمة، فهذه العملية ترفع من مستوى الأبحاث وتمنع الوقوع بأخطاء قد تكون علمية أو محاولات تسويقية للنتائج من قبل ناشر الباحث ذاته. إضافة لهذه السياسة، أصبح العلم مؤسسة قائمة على مراكز أبحاث وجامعات تتبع لمؤسسات بحثية حكومية. يعمل في هذه المراكز باحثون وطلاب دكتوراه تدفع لهم أجور ثابتة. هذا يعطي الباحثين حدا متقدما من الاستقرار لم يكن قبل لدى العلماء الذين عملوا في فناء منزلهم. وعلى نطاق أوسع، تتعاون الدول والحكومات في تمويل الأبحاث وتسيير مخازن المعلومات العملاقة التي توفر العلم مجانا إلى حد ما. بذلك أصبح العلم متوفرا لجميع البشر على حد سواء.
إضافة إلى ما سبق، إن الأكاديميا المعاصرة هي مؤسسة متجددة عبر تدريب طلاب الدراسات العليا إضافة إلى طلاب الدكتوراه لإنتاج أجيال جديدة من الباحثين الذين يخوضون غمار تقصي المعرفة. بفضل ذلك أصبحت امبراطورية العلم العالمية مؤسسة متجددة ومنفتحة تحفز الابداع والتقدم. لكنه لكل شيء إيجابيات وسلبيات.
الأزمات والأخطاء التي وقعت فيها الأكاديميا
أتت الأكاديميا بمصائبها الخاصة أيضا. إن سياسة مراجعة الأبحاث، رغم فوائدها، أثارت ضغوطات كبيرة على الباحثين وخففت من التقدم بشكل أو بآخر. أما المجلات العلمية الناشرة حولت النشر إلى منظومة ربحية فتتقاضى أرقاما ضخمة مقابل نشرها من دون أن تدفع أي شيء حتى للعلماء المراجعين.
أصبح الباحثون يعيشون بين مطرقة المجلات البحثية وسندان الحصول على تمويل لأبحاثهم. الأبحاث العلمية تحتاج تكاليف ضخمة لاستمرارها، وتأتي هذه عبر جهات مانحة غالبا ما تكون حكومية. تعطى المنح بناء على مسيرة الباحث ومدى نوعية البحث وقدرته على انتاج أوراق بحثية. يضع هذا ضغطا على الباحث تحت شعار: انشر أو مت. بذلك يميل العلماء إلى العمل على أبحاث قصيرة وليس فيها الكثير من المجازفة ما يحد من سرعة وفعالية التقدم العلمي. بذلك يتمكن الباحثون الكبار من تحصيل المنح فيما يكافح الجدد للحصول على الفتات.
وأم المشاكل هي مشكلة عدم الاستقرار. فإضافة للضغط الكبير للنشر، فالوظائف الثابتة في الأكاديميا تضمحل أكثر فأكثر. فالباحثون الناشئون مرغمون على البحث على عمل جديد بعد كل ثلاث إلى خمس سنين. إن إيجابيات هذا المنهاج هو الإفساح بالمجال للغير ورفع روح التنافسية. إلا أن هذا الأسلوب يزيد من الضغوطات على العلماء فوق كل ما ذكرناه أعلاه.
خلاصة الأمر أن الأكاديميا ليست نظاما ميثاليا أبدا. إن الكثير من التحسينات مطلوبة على وجه السرعة. إن المشاكل التي تواجه الأكاديميا هي احدى الأسباب الرئيسية في انخفاض زخم التقدم العلمي، إذا أصبح العلمية بيئة تنافسية شرسة مليئة بالضغوطات والمخاوف.
العلم مؤسسة محافظة
يتقدم العلم من خلال الحشرية البشرية وبحثها عن كل ما هو جديد. ولكن الواقع أن العلم، وفي ذلك ما قد يبدو تناقضا، ثقافة محافظة. كل ادعاء علمي يجب أن يوضع في إطار جسم المعرفة البشرية المسبقة ويخضع لتدقيق كبير. فالعلم نفسه يحب التطور، إلا أنه حذر جدا إزاء الطفرات والقفزات الكبرى. يصف توماس كيون هذا النمط بالعلم المألوف أو العلم السائد، أي ان مرحلة البحث عادة ما تجري ضمن النموذج المعرفي القائم لتعميقه وتدعيمه دون تحقيق خروقات ضخمة. أما الطفرات فقد تحدث من وقت إلى آخر، إلا أنها تأخذ وقتا طويلا لتحدث وليتقبلها الوسط الأكاديمي.
والعلم المحافظ ليس مفرزة مؤسساتية، إنما نتاج المنهج العلمي ذاته. فالمنهاج العلمي يتطلب إعادة تكرار التجارب، إعطاء تفسيرات ووضع أطر، فضلا عن وضع الاكتشافات الجديدة في ضوء المعرفة السابقة. وكما ذكرنا، هناك المراجعات المكثفة للاكتشافات. يجعل هذا النقد والشك المكثف بكل تفصيل من تفاصيل البحث العلمي شبكة أمان تمنع العلم من الوقوع في الأخطاء. إذا، فالعلم ثقافة استقرار مع طفرات استثنائية من وقت إلى آخر.
خاتمة
بناء على ما ذكر في هذا المقال، أرى أننا اليوم لسنا أمام نهاية العلم أبدا. إنما نحن أمام علم من نوع آخر. إنه علم مؤسساتي يخضع لتدقيق كبير. إن تباطؤ التقدم العلمي يرجع إلى أن المؤسسة العلمية اليوم هي مؤسسة محافظة. ورغم مشاكل الأكاديميا المعاصرة، يبدو هذا النظام فعالا إلى حد ما. وسنمر بالذكر في مقالات لاحقة على كل فرع من فروع العلم التجريبي لنناقش بشكل مفصل صحة استنتاجاتنا حول العلم المحافظ والأكاديميا المعاصرة.
***
فضل فقيه – باحث
.................
قراءات إضافية:
Horgan, J. (1996). The end of science: Facing the limits of knowledge in the twilight of the scientific age. New York: Broadway Books.