قضايا

حيدر شوكان: الرومي مرة أخرى.. جدل الذات والحداثة

عندما تنهش الحياة القلب وتثقل العقل بمطالبها المتشابكة، وتترك على الروح أخاديد الهواجس، وأوزار المتاعب، وأوجاع الساعات العابرة، يصبح من الضروري اللجوء إلى ما يخفف ثقل هذه الأعباء: إلى الكتب التي تحمل روح الأدب والفن والشعر والتاريخ، إلى الروايات التي تفتح نوافذ على عوالم بعيدة ومطمورة، أو إلى الدواوين الشعرية التي تناوش الوجدان بلطف، لتمنح النفس فرصة لاستعادة هدوئها، وتغذي الروح بجماليات أخلاقية وفكرية.

حتى أنَّ التاريخ يروي لنا أنّ الشيخ مرتضى الأنصاري، بعد طول انغماس في مطالب الفقه والأصول، كان يجد في حضور مجلس حسيني ملاذًا يريح القلب والروح، ويخفف وطأة البحث وقسوة الدراسة. فالإنسان، مهما اشتدت ثقله بالعلم والعمل، يظل كائنًا يضمأ بسرعة، يحتاج إلى فسحات روحية واحتكاك بالخيال والفن، لتستعيد ذاته توازنها، وتستحضر في داخله ما هو أبدي من هدوء وجمال.

ومن بين هذه الأجواء التي تشهد على انشغال الروح بالهموم اليومية، وجدت نفسي أحيانًا أنصرف إلى قراءة رواية هنا أو ديوان هناك، باحثًا عن فسحة للهدوء والسكينة. لكن الحنين، هذه المرة، كان أشد قوة، أعادني بلا توقف إلى جلال الدين الرومي. وقع بصري على كتاب المستشرقة الألمانية ماري شيمل، المتخصصة في التصوف، وبالخصوص في فكر الرومي، فاغتنمت فرصة القراءة مرة أخرى. ومع ذلك، كانت هذه القراءة مختلفة تمامًا، إذ لم تعد مجرد استرجاع للمعرفة، وإنَّما تحوّلت إلى تجربة تأملية فكرية؛ دفعتني لتسجيل سلسلة من الانطباعات حول الرومي، حول حضوره الثرِي في الفلسفة والروحانية، وأهمية استحضاره في زمن الحداثة وما فوق الحداثة.

ما لفت انتباهي هو أنَّ هذه التأملات لم تلمح إليها ماري شيمل، بل انبثقت من تفاعل الذات مع النصّ، ساعة صمت روحي تواجه فيها النفس تجربة فكرية تتجاوز الزمان والمكان. هنا يظهر الرومي كظاهرة معرفية وجودية: تجربة للوعي، للهوية، وللانفتاح على الآخر والمطلق. تصبح قراءته فعلًا فلسفيًا، مواجهة مع الذات والكون في آن واحد، استحضارًا لما هو أبدي من جمال ومعرفة، وحضورًا للروح في زمن أصبحت فيه الحداثة وما بعدها تبحث عن جذورها الروحية والفكرية.

بهذا المعنى تتحول تجربة القراءة إلى فعل وجودي، إذ يلتقي القارئ بالرومي في حالة من الانصهار بين الذات والنص، بين الفلسفة والشعر، بين المعرفة والروحانية، فتتجسد الحرية الداخلية، ويستعيد العقل مكانته أمام صخب الحياة، وتستدعي النفس جمالها الكامن، هدوءها، وعمقها الأخلاقي والفكري.

لا يمكن إدراك جلال الدين الرومي بوصفه شاعرًا صوفيًا تقليديًا، أو مجرد معلّم روحاني، لأنّ حضوره يتجاوز حدود الزمان والمكان، ويصل إلى أفق الوعي الذي نسميه اليوم الحداثة. فالرومي كتب ليخلق تجربة معرفية حية، تجربة تعيد تشكيل الذات والعالم. حضوره هو حضور فلسفي قبل أنّ تُصاغ مفاهيم الحداثة العقلانية والوجودية في الغرب. إن تجربة الرومي تمثل محاولة مستمرة لتجاوز الحدود التقليدية للفكر، وإعادة قراءة العلاقة بين الذات والكون، بين الفرد والمطلق، بين الحبّ الإلهي والحبّ الإنساني، بطريقة تجعل القارئ يتلمس المعنى العميق للوجود قبل أنّ يكون مفهومًا فلسفيًا مجردًا.

فالعلاقة بين الرومي وشمس التبريزي ليست مجرد صداقة أو ارتباطًا روحيًا عاديًا، وإنَّما تجربة معرفية صادمة للذات. شمس يظهر كرادار يكشف عن وهن الرومي الداخلي، فيفجر فيه القدرة على رؤية الكون كامتداد للوعي والجمال. في هذا اللقاء، يصبح الآخر حدثًا معرفيًا وجوديًا يفرض على الذات مواجهة فراغها وتهافتها. إن تجربة الرومي مع شمس هي تجربة فلسفية أكثر من كونها رمزية: هي اختبار للوعي، للحرية، ولإمكانية تجاوز الذات التقليدية.

في هذه العلاقة، نلاحظ أنَّ شمس يمثل حضورًا ينزع الثوابت ويعيد تشكيل الحدود: الحدود بين الحبّ الروحي والحبّ الإنساني، بين الذات والآخر، بين المعرفة والإدراك. كل لقاء، كل كلمة، وكل تجربة شعورية تصبح فعلًا فلسفيًا يعيد صياغة إدراك الذات للعالم وللوجود. هنا يظهر الرومي كفيلسوف ما قبل الحداثة، لأنّه يعيد تعريف العلاقة بين الفرد والكون قبل أنّ تتشكل هذه المفاهيم في الفلسفة الغربية الحديثة.

ربما ما لم يُكتشف بعد هو أنّ الرومي يقدم نموذجًا للمعرفة الحداثية قبل الحداثة: معرفة تعتمد على مواجهة الفراغ الداخلي، ووعي التناقضات الذاتية، والانفتاح المطلق على الآخر. ديوانه المثنوي هو خريطة معرفية للوعي، إذ تتكشف الهوية في علاقتها بالعدم والحب والآخر.

المعرفة عند الرومي ليست معرفة موضوعية بالمعنى التقليدي، بل هي فعل داخلي وجودي: مواجهة الفقد، إدراك المسؤولية الكاملة عن الذات، والانفتاح على تجربة الحب المطلق. كل نص شعري وكل حديث روحي في المثنوي هو محاولة لتجاوز الأطر التقليدية للوعي، والبحث عن تجربة معرفية وجودية متسقة مع ما يمكن تسميته "الوعي الحداثي".

إذا كان الرومي قد عاش في القرن الثالث عشر، فإن حضوره يمتد إلى عصر الحداثة بلا وسيط. فالحداثة، كما عرفها الفكر الغربي، تقوم على الوعي بالذات، مواجهة الفراغ الوجودي، والانفتاح على الآخر، وهي كلها عناصر مركزية في تجربة الرومي. لكن الرومي يقدم هذا الوعي في شكل شعري وروحي، مما يجعله تجربة معرفية أكثر كثافة وحيوية من مجرد صياغة فلسفية عقلانية.

الحضور الرومي في الحداثة لا يقتصر على الأدب أو التصوف فقط، وإنَّما يمتد إلى الفلسفة، علم النفس، وفهم الذات في علاقتها بالكون. هو يقدم رؤية للوجود قبل أنَّ تتبلور الحداثة الغربية، ويؤكد أنَّ الحرية والمعرفة والهوية هي تجارب حية يمكن للإنسان أنَّ يختبرها في تفاعله مع ذاته والآخر والمطلق.

جلال الدين الرومي ليس شاعرًا أو صوفيًا تقليديًا، وإنَّما فيلسوف ما قبل الحداثة، يقدم نموذجًا للوعي والمعرفة الحرة، ويعيد تعريف العلاقة بين الذات والكون، بين الفرد والمطلق، وبين الحبّ والمعرفة. علاقته بشمس التبريزي تمثل اختبارًا وجوديًا للذات، نموذجًا للثورة الداخلية التي تهدم الحدود التقليدية للفكر والروح. حضوره اليوم، كما كان قبل سبعة قرون، يظل دعوة للتجربة الصافية للوعي،إذ لا تتحقق الذات إِلَّا بانفتاحها على اللامحدود، وإدراكها أنَّ الهوية تتشكل في علاقتها بالآخر والفراغ والحبّ المطلق.

***

د. حيدر شوكان سعيد

قسم الفقه وأصوله- كلية العلوم الإسلامية- جامعة بابل

في المثقف اليوم