قضايا
بتول فاروق: إنسان بوجه واحد.. كيف صادر الرجل معنى الإنسانية لصالحه؟

كتبت القوانين وأُقِرّت، وسِيقَت الأعراف لتلبّي حاجات الرجل، وليمتلك كل مقدّرات الحياة وثروات الأرض. أما المرأة، فما تحصل عليه لا يتجاوز ما تقدّمه للرجل من خدمة وطاعة، مقابل عيشة بالتبعية تضمن لها الحق الحيواني في الطعام والكسوة سترًا لعريها. ولا تستطيع أن تعمل أو تحصل على أجر إلا بموافقة الرجل (الأب أو الجد للأب، ثم الزوج). وهكذا صار “الإنسان” في تعريفنا السائد هو الذكر، الممثل الحصري تقريبًا للوجود الإنساني، بينما عُدَّت المرأة جنسًا تابعًا، لا يعيش إلا بتقديم فروض الطاعة. والخروج عن هذا الوضع يُعَدّ – في منطق الحضارة الأبوية – خرقًا للفطرة، أو نسوية متطرفة جاءت بها “السفارات” التي هي بدورها مؤسسات أبوية ذكورية لا تخرج عن الأفكار نفسها.
إن وعي المرأة بهذا الوضع الذي سيقت إليه، يجعلها ترفض أن تكون جزءًا من هذه العجلة الجائرة؛ فلا تبرّر للنظام الظالم، ولا تكون أداة لتمرير منظومة التبعية والعيش بالمقايضة (الجسد مقابل الطعام). فما رسموه من تشريعات ظالمة لم يكن إلا نتاج عقول سعت بكل الوسائل إلى تجهيل المرأة وإبعادها عن العلم، وعن الدخول في حقل القانون والتشريع. وليس من قبيل الصدفة أن التاريخ الأبوي في كل حضارات العالم قد منع النساء من التعليم، وحرمهنّ من معرفة القراءة والكتابة، ومنعهنّ من العمل المأجور، واختزلهنّ في أداة للمتعة ورحمٍ للإنجاب وحاضنة للطفل.
ومع ذلك لم يُعترف لهنّ حتى بتمرير نسبهن للطفل، إذ اعتُبر الطفل أبن الأب وحده، ويحمل نسبه هو فقط وأسمه وأسم أسرته، وله الولاية عليه دونها، في تفسيرات ادُّعي أنها إلهية محضة، بينما هي في حقيقتها نتاج فكر بشري غير مستند إلى نصّ إلهي واضح.
لقد سيطروا على"الإله" وجعلوه ناطقًا باسمائهم، فوظفوا آياته المحكمات لتخدم مصالحهم في كل تفصيلة من تفاصيل الحياة، ورسموا صورة الإله على هيئة ذكر، وخاطبوه بلفظة مذكرة، وكأن الذكر هو الأصل. ثم ابتدعوا القصة التوراتية عن خلق المرأة من ضلع الرجل الأعوج. وهكذا خاضت الحضارة الأبوية حربًا لا هوادة فيها ضد كل ما هو أنثوي، فجعلت سمات النقص والضعف صفة أصيلة للمرأة، فيما حمّلتها أعباء جسيمة، وفرضت عليها حجب جسدها وكيانها عن الفعل العام فيما يسمى بالحجب الاجتماعي، وإقصاءها عن المجال العام، بحجة الحفاظ على ذكورة "هشة " لا تحتمل رؤية جسد حيادي لا يريد أصلًا الاقتراب منه.
لقد صيغت كل القوانين لصالح الرجل، وما يُقال عن قوانين منصفة ليس سوى محاولة تجميل، فهي في أحسن حالاتها لا تمنح المرأة إلا فتاتًا من المال بعد أن تكون قد أدّت كامل فروض الطاعة للرجل.
هذا التصور ليس مجرد ممارسة اجتماعية عابرة، بل منظومة فكرية متكاملة جرى تثبيتها عبر أدوات ثلاث: التقنين، والشرعنة الدينية، والهيمنة الرمزية.
إن مراجعة هذه المنظومة تكشف أن ما سُمّي “تشريعات منصفة” لم يكن في الواقع إلا إصلاحات شكلية، لا تمنح المرأة سوى فتات الحقوق بعد تأديتها أدوار الطاعة والإنفاق العاطفي والجسدي. فالجوهر ظلّ كما هو: قوانين مصاغة لصالح الرجل، تعيد إنتاج البنية الأبوية وتشرعنها بأدوات قانونية ودينية واجتماعية متضافرة.
***
د بتول فاروق - النجف
٢٦/ ٩ / ٢٠٢٥