قضايا
عماد خالد رحمة: النقد النفسي وبنية اللاوعي النصي

بين التحليل الفرويدي والتفكير البنيوي
لقد بات النقد النفسي واحداً من أكثر الحقول الإجرائية التي أثارت جدلًا واسعاً في الساحة الأدبية خلال العقود الثلاثة الأخيرة، إذ أزاح الستار عن طبقات خفية كامنة في النصوص، لا على مستوى الدلالة الظاهرة فحسب، بل في أعماق لاوعيها الذي يتسرّب إلى اللغة والصورة والرمز. فالنص الأدبي، كما أشار جاك لاكان، ليس مجرّد بنية شكلية متماسكة، بل هو حلم يقظ يكتبه المؤلف بوعيٍ ناقصٍ وذاكرة مشبعة باللاشعور. ومن هنا جاء تلاقح النقد النفسي مع البنيوية اللسانية ليعيد تشكيل طرائقنا في قراءة النصوص.
لقد انبثق تيار النقد النفسي الأدبي في العالم العربي مع أسماء متميّزة مثل يوسف سامي اليوسف، الذي قرأ رواية موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح بوصفها نصّاً مشبعاً بتوترات الهوية والانقسام النفسي، أو في دراساته عن الثابت والمتحوّل لأدونيس، حيث كشف عن الصراع بين اللاوعي الجمعي والوعي الثقافي الموروث. لقد كان اليوسف، بحق، من أوائل من وضعوا الأدب العربي الحديث تحت مجهر التحليل النفسي، ليُظهر أن النص لا يقول ما يريد، بل ما يتهرّب من قوله.
أما في الغرب، فقد شكّل جان بيلمان نويل، وأندري غرين، وبيير بيار، ولوران آسون، وبرنار بانكو، وبول لوران، وفيليب ويلمارت، الطليعة التي دفعت النقد النفسي إلى مسارات أكثر عمقاً. هؤلاء النقاد لم يكتفوا باستحضار فرويد، بل عملوا على إعادة قراءته عبر أدوات البنيوية واللسانيات الحديثة. فكان لاكان ـ مثلًا ـ يعيد بناء مفهوم اللاوعي باعتباره مُبنىً لغويّاً، لا خزاناً غامضاً للرغبات المكبوتة فقط، بل نظاماً دلاليّاً يتجلّى في الانزياحات والانقطاعات والفراغات النصية.
لقد شهدنا خلال ثمانينات القرن الماضي طفرة نوعية، تمثّلت في نشر أبحاث مهمّة في مجلات عربية مثل المعرفة السورية، حيث طُبّقت مناهج التحليل النفسي على نصوص الشعر العربي الكلاسيكي والحديث، بدءاً من المعلّقات السبع وصولاً إلى أعمال محمد مهدي الجواهري. غير أنّ هذه الحيوية النقدية بدأت تخبو مع نهاية التسعينات، وكأن النقد النفسي ـ بعد أن أضاء زوايا معتمة في النصوص ـ انسحب فجأة، تاركاً فراغاً لم يُملأ بالقدر الكافي.
لكنّ اللافت أنّ بعض الأصوات العربية المعاصرة واصلت هذا المشروع، أبرزها حسن المودن، في كتابيه الكتابة والتحوّل والرواية والتحليل النصي: قراءات من منظور التحليل النفسي. فقد واصل المودن رسم خريطة جديدة لعلاقة الأدب بالتحليل النفسي، مؤكّداً أنّ النصوص الأدبية ليست مجرد حوامل جمالية، بل هي مساحات للكشف عن آليات الدفاع النفسي، والرغبات المجهضة، وعقد الطفولة، وتشكّلات الهوية.
إنّ ما يميز النقد النفسي عن غيره من المقاربات، أنّه يذهب إلى ما قبل النص، إلى ذلك الخزّان الكامن في عمق التجربة الإنسانية حيث تتشكّل الكلمات في رحم الصمت والرغبة والمكبوت. فالنص لا يكتفي بما يقوله؛ بل يصرّح بقدر ما يكبت، ويفضح بقدر ما يخفي. ومن هنا تتبدّى قيمة النقد النفسي باعتباره جسراً يصل بين الأدب كإبداع لغوي والإنسان ككائن مأسور بتاريخ طفولته وأحلامه وجروحه.
لقد عبّر رولان بارت في مقولته الشهيرة: "النص نسيج من الاقتباسات واللاوعي الجمعي"، عن أنّ العمل الأدبي ليس ملكية خاصة للمؤلف، بل هو فضاء تتقاطع فيه الرغبات الفردية بالأنساق الاجتماعية والثقافية والرمزية. وعلى هذا الأساس، يصبح التفكير البنيوي للاوعي النص هو المفتاح لفهم ذلك التواشج الخفي بين ما يكتبه الكاتب وما يعيشه القارئ في تجربته الداخلية.
ومن هنا نعيد طرح السؤال الجوهري: من سيكتب عن أدب الهجرة والتهجير النفسي للأدباء المعاصرين؟ فالهجرة ليست حركة جغرافية فقط، بل هي تهجير داخلي، ينعكس في نصوص الكتّاب على شكل انكسارات رمزية، وحنين مشوّه، ولغة متردّدة بين الذاكرة والمنفى. إنّ نقد هذا الأدب لا يكتمل إلا بالاقتراب من لاوعيه، أي من تلك الطبقات التي لا يقولها النص مباشرة، بل يتركها في منطقة الظل، بين المقموع والمرغوب.
إنّ إعادة إحياء النقد النفسي اليوم ليست ترفاً معرفيّاً، بل ضرورة لفهم تحوّلات الأدب في زمن الهجرة والتهجير والاقتلاع. فالنصوص التي يكتبها الكتّاب العرب في المنافي، أو أولئك الذين يعيشون التمزق بين وطنٍ مفقود وآخر مُستعار، لا يمكن قراءتها إلا من خلال فهم عمقها النفسي ـ اللاواعي ـ حيث تتناسل الرموز والكوابيس والحنين.
وبذلك يمكن القول إنّ النقد النفسي، إذا ما تمّت مراجعته وإغناؤه بمكتسبات السيميائيات والتأويلية المعاصرة، سيكون أداة أساسية لإعادة كتابة خريطة الأدب العربي الحديث، وربطها بالتحولات الكبرى التي يعيشها الإنسان في زمن الاغتراب النفسي والجغرافي معاً.
***
بقلم: عماد خالد رحمة – برلين