قضايا
حيدر شوكان: الوعي المؤجل من الجهاد الكفائي إلى أخلاق المسؤولية

ثمّة مفارقةٌ مركّبة تستدعي التأمل/ فلسفيًا في بنية الوعي الجمعي الشيعي المعاصر، مفارقةٌ لا يمكن فهمها إِلَّا عبر تفكيك العلاقة الملتبسة بين الرمز الدينيَّ والعقل، بين الطاعة والوعي، بين الانفعال الدينيَّ والمساءلة السياسية. فحين أطلقت مرجعية النجف المتمثلة بالسيد السيستاني فتواها التاريخية في الجهاد الكفائي، اندفع المجتمع الشيعي بأسره في لحظةٍ من التماهي الروحي والتعبئة الوجدانية التي أعادت إنتاج قيم الفداء والتضحية بأعلى تجلياتها. لكن هذا الزخم نفسه غاب، أو كاد أنَّ يغيب، حين وجّهت المرجعية نداءاتها اللاحقة وبشكل متكرر نحو الإصلاح السياسي، كدعوتها إلى محاسبة الفاسدين أو مقاطعة المجربين بشعارها المعروف «المجرب لا يُجرَّب»، أو حين أغلقت أبوابها في وجه الأحزاب المتورطة بالنهب والسلطة. عندئذٍ، بدا المجتمع أقل استجابةً، وأكثر ميلًا إلى الصمت والانكفاء، كأنّ الحماسة التي تفجّرت واشتعلت في زمن الخطر الخارجي" داعش" تتبخّر حين يصبح الخطر من الداخل.
هذه المفارقة يتناوشها البعض هنا أو هناك من دون ملامستها سوسيولوجيًّا، إذ لا يمكن ردّها إلى ضعفٍ في الإيمان أو فتورٍ في الولاء للمؤسسة الدينيّة، وإنَّما إلى اختلافٍ جوهري في طبيعة الوعي الذي يُفعّل الاستجابة ويستعيدها. ففي نداء الجهاد خاطبت المرجعية البنية الرمزية الأكثر عمقًا في التكوين الشيعي: بنية الشهادة "كربلاء"، والكرامة، والدفاع عن المقدّس، لقد استدعت السردية الكبرى التي تشكّل الذاكرة الجماعية وتؤسّس لنظام العاطفة الدينيّة المتوارث والمتجذر. وحين يُستدعى هذا المتخيّل الدينيَّ هذا المخزون الرمزي، يتحرك الوجدان الجمعي بكثافة مذهلة، لأنَّ المعركة تُقدَّم هنا بوصفها امتدادًا للرموز المؤسسة، وكفاحًا وجوديًا ضد الباطل لا بوصفها معركةً سياسية مع هذه الجبهة أو هذا الفصيل.
أمّا الدعوات الإصلاحية اللاحقة، في مكافحة الفساد والحدّ منه من خلال إصلاح الواقع السياسي فكانت من طرازٍ مختلف؛ إذ لم تستدعِ الرموز المؤسسة، بل استدعت العقل الأخلاقي والسياسي، وطلبت من المجتمع الانتقال من موقع "المطيع المنفعل" إلى موقع "الفاعل"، من السلوك الشعائري والعاطفي إلى الممارسة النقدية، من الحماسة إلى المحاسبة. وهذه نقلة لم يتهيأ لها المجتمع بعد، لأنَّها تفترض وجود وعيٍ مدنيٍّ راشد لم تتشكل له بيئةٌ مؤسسيةٌ حاضنة، ولا ثقافة نقديةٌ تتيح له أنَّ يتخذ موقفًا دون أنَّ يشعر بالذنب أو بالخذلان تجاه الرمز الدينيَّ الذي يوجّه النصيحة من بعيد.
إنّ ما حدث هو انكشاف الفصام بين مستويين من الوعي: وعيٍ تعبويٍّ طقوسيٍّ ما زال يُحافظ على وحدته عبر الخضوع للرمز الديني، ووعيٍ سياسيٍّ ونباهة اجتماعية لم تولد بعد، أو وُلدت مشوّهة في ظل غياب البنى الحزبية النظيفة والمؤسسات القادرة على ترجمة الإرشاد الدينيَّ إلى فعلٍ سياسيٍّ منضبط. وبهذا الأفق، حين انسحبت المرجعية الدينية من المشهد السياسي أو التدخل في تفاصيله وأغلقت قنوات الوساطة مع السلطة، لم يجد المجتمع من يحتضن تلك الدعوات ويحوّلها إلى برنامجٍ عملي. تركت الفتوى السياسية يتيمة، لا سند لها إِلَّا الضمير الفردي، في مجتمعٍ لا يزال يعيش ضمن أخلاق الجماعة لا أخلاق المسؤولية الفردية المعنوية.
من هنا نفهم أنّ الفتوى الجهادية لم تكن مجرد نداءٍ دينيَّ، وإنَّما فعلًا اجتماعيًا منسجمًا مع بنية الهوية الطقوسية التي تُحرّك الجماعة نحو الميدان، فيما مثّلت الدعوات الإصلاحية خطابًا معرفيًا يصطدم بالحدود البنيوية لهذا الوعي ذاته. فالدين كظاهرة، حين يتحوّل إلى ذاكرة جمعية شعائرية، ينتج طاقةً هائلة للتعبئة والتحرك الجمعي لكنَّه قد يُعطّل في المقابل، قدرة الفرد على مساءلة السلطة باسم المبدأ نفسه. لهذا، لم تتكوّن بعد في التجربة الشيعية الحديثة "معايير اجتماعية- مدنية" موازية لـ"الأخلاق الشعائرية" التي تحكم المجال العاطفي والديني.
ولعلّ الأشد عمقًا في هذه المفارقة هو ما يمكن تسميته بـ«الاقتصاد الرمزي للثقة». فالثقة في المرجعية قائمة على امتثال عاطفي أكثر من كونها علاقة مؤسسية. إنها علاقة "إيمانٍ وجداني" لا "عقدٍ اجتماعي". لذلك حين تُطلب الاستجابة في مجالٍ لا يخاطب الإيمان بل يخاطب العقل السياسي، تظهر فجوةٌ يصعب ردمها. فالمجتمع لا يثق بالبدائل السياسية، ولا يمتلك أدوات تقييمٍ مدنية، ولا يملك مؤسساتٍ تتيح له مراقبة السلطة من خارج النظام الرمزي الذي تشكّل فيه. وهكذا يتحوّل خطاب الإصلاح إلى نداءٍ عائمٍ في فراغٍ سياسيٍّ وأخلاقيٍّ معًا.
إنّ السؤال الحقيقي الجدير بالتأمل ينبغي أنَّ ينحدر إلى أسباب غياب البنية الثقافية التي تجعل الاستجابة للنداء ممكنة لا إلى أسباب عدم الاستجابة لدعوات المرجعية الإصلاحية. فالإصلاح، ليصبح فعلاً لا شعارًا، يحتاج إلى ثقافة نقدية تملك أدوات الفعل، لا إلى وجدانٍ إيماني متحمّس سرعان ما يذوب حين تنتهي الشعائر. إنّ ما تحتاجه المرجعية والمجتمع معًا هو إعادة بناء العلاقة بين الرمز والعقل، إذ لا يكون الأول سجنًا للثاني، ولا يكون الثاني خصمًا للأول، بل شرطًا في اكتماله.
لقد آن الأوان لتحويل الوعي الدينيَّ من طاقةٍ دفاعيةٍ إلى طاقةٍ بنائية، ومن طاعةٍ رمزيةٍ إلى مسؤوليةٍ أخلاقيةٍ ومدنية. فالمجتمع الذي يقاتل دفاعًا عن مقدّساته قادرٌ- لو أعاد تنظيم خياراته- أنَّ يقاتل أيضًا دفاعًا عن قيم العدالة والنزاهة والشفافية.
إنّ الانتقال من "الانفعال الدينيَّ" إلى "العقل النقدي" ليس خيانةً للمقدّس الديني، وإنَّما استعادته في صورته الأسمى: صورة الإنسان الحرّ الذي يعي مسؤوليته أمام الله والتاريخ معًا.
***
أ. م. د. حيدر شوكان السلطانيَّ
جامعة بابل- كلية العلوم الإسلاميَّة-قسم الفقه وأصوله