قضايا

ندى صباح اسد الله: رؤية فلسفية لفهم معنى الحياة.. السعادة بين الرغبة والفضيلة

مقدمة: السعادة بين الحلم الإنساني والفكر الفلسفي

منذ أن استيقظ العقل الإنساني على معنى الوجود، وهو يسعى وراء حلمٍ واحدٍ لا يتغير: السعادة. فهي شعورٌ بالرضا والسكينة الداخلية، لكنها في جوهرها مسألةٌ فلسفيةٌ عميقة، تتصل بعلاقة الإنسان بذاته وبالعالم من حوله. فالإنسان لا يسعى إلى المتعة اللحظية فحسب، بل يبحث عن معنى وجوده وارتباطه بها.

السؤال الذي ظلّ يشغل الفلاسفة عبر العصور: هل تكمن السعادة في المتعة واللذة فقط، أم في الفضيلة والحياة العقلانية التي تتجاوز لحظات الانفعال العابرة؟ وهل يمكن للإنسان أن يكون سعيدًا حقًا في عالم تتصارع فيه الرغبات والواجبات، ويغلب عليه القلق والضغوط المستمرة؟

لقد اختلفت الآراء من الفلاسفة اليونانيين الذين رأوا أن اللذة أساس الحياة الطيبة، إلى الفلاسفة الذين أكدوا أن الفضيلة والعقل هما طريق السعادة الحقيقية. ورغم هذا التنوع، هناك اتفاق ضمني على أن السعادة ليست مجرد حالة عابرة أو شعور لحظي، بل تجربة مستمرة تتطلب الحكمة والوعي والتأمل العميق في طبيعة الحياة البشرية.

أولاً: السعادة: بين لذة الروح وفضيلة العقل

لقد تناول الفلاسفة السعادة من زوايا مختلفة، بين المتعة والفضيلة والعقل. يرى الفيلسوف اليوناني أبيقور أن اللذة أساس السعادة، لكنه لم يقصد اللذة اللحظية أو المفرطة، بل غياب الألم والاضطراب النفسي، إذ تصبح السعادة حكمة في اختيار ما يحقق الطمأنينة الداخلية. ومع ذلك فإن الاعتماد على المتعة وحدها لا يمنح الإنسان الاستقرار الكامل، إذ أن الرغبات متجددة، وما يبهج اليوم قد يملّ غدًا، فتظل السعادة القائمة على اللذة مؤقتة وزائلة. من جهة أخرى يرى أرسطو أن السعادة الحقيقية تتحقق من خلال الحياة الفاضلة وفق العقل، فهي ليست شعورًا عابرًا، بل تحقّق طبيعة الإنسان العاقلة، إذ يصبح الفعل الأخلاقي وممارسة الفضائل جزءًا من طريق الإنسان نحو السعادة الدائمة. وقد أكد الفلاسفة الرواقيون هذا الرأي إذ آمنوا أن الإنسان السعيد هو من يملك ذاته ويتصالح مع نفسه ومع ما لا يمكن تغييره، فيصبح شعوره بالرضا ثابتًا وداخليًا، لا تابعًا للرغبات العابرة، ما يشير إلى أن التوازن بين اللذة العقلانية والفضيلة هو جوهر تجربة السعادة الحقيقية.

ثانياً: السعادة: انسجام داخلي وخارجي في الفكر المعاصر

مع الفلسفة الحديثة والمعاصرة اتسع مفهوم السعادة ليشمل انسجام الإنسان مع ذاته والعالم من حوله، متجاوزًا الرغبات الفردية واللذات العابرة. رأى سبينوزا أن السعادة هي فرح يزيد من قدرة الإنسان على الفعل، أي أن حريته تنبع من فهمه للطبيعة والواقع، بينما أكد إيمانويل كانط أن السعادة الحقيقية لا تتعارض مع الواجب الأخلاقي، بل قد تكون نتيجة طبيعية له. وذهب برتراند راسل إلى أن السعادة تتحقق عندما يعيش الإنسان باتصال حقيقي مع الآخرين والعالم، من خلال الحب والعمل والمعرفة.

في زمننا المعاصر كثيرون يخلطون بين السعادة والماديات أو الشهرة، فتختفي السكينة الداخلية وسط صخب الحياة، غير أن السعادة الحقيقية تظل تجربة داخلية متواصلة: إدراك الذات، حب ما نفعل، والعيش بتوازن مع الآخرين. فهي ليست حالة جاهزة، بل ثمرة ممارسة مستمرة للفضيلة والمعرفة والتواصل الإنساني، ما يجعلها تجربة ثابتة ومتجددة في حياة الإنسان.

خاتمة: السعادة كفن حياة متكاملة

تظل السعادة رحلة الإنسان الأبدية نحو التوازن الداخلي والخارجي، وليست مجرد لحظات من اللذة أو التزامًا بالقيم الأخلاقية وحدها. فهي تجربة مستمرة تتطلب الوعي بالنفس ومراقبة الرغبات، وممارسة الفضائل بحكمة، مع القدرة على الاستمتاع بما تمنحه الحياة من لحظات بسيطة وصغيرة.

السعادة تتعمق عندما يجد الإنسان معنى لوجوده، ويعيش اتصالاً حقيقيًا مع الآخرين من خلال الحب والعمل والمعرفة. إنها شعور بالرضا الداخلي لا يعتمد على الماديات أو الشهرة، بل على تصالح الإنسان مع ذاته ومع ما لا يستطيع تغييره.

إن السعادة ليست حالة جاهزة تُمنح، بل نمط حياة يومي يختاره الإنسان باختياراته الواعية. فهي تمنحه القدرة على مواجهة تحديات الحياة بروح متزنة، وتجعله أكثر قدرة على التفاهم والتواصل مع الآخرين، وأكثر انسجامًا مع الطبيعة والواقع.

في النهاية يمكن عَدّ السعادة فن الحياة المتكاملة، إذ تتقاطع اللذة العقلانية مع الفضيلة، والوعي الذاتي مع الاتصال بالآخرين، لتشكّل تجربة إنسانية عميقة تعكس معنى الوجود الحقيقي، وتمنح الإنسان شعورًا دائمًا بالطمأنينة والرضا.

***

ندى صباح اسد الله

في المثقف اليوم