قضايا

علي الخطيب: كيف نرى الإنسان حين يختلف؟

قراءة فلسفية لليوم العالمي للإعاقة في الثالث من ديسمبر

في الثالث من ديسمبر من كل عام، يقف العالم أمام اليوم العالمي للإعاقة، حيث تتجه الأنظار عادة نحو الفعاليات الرسمية والخطب الاحتفالية والصور التي تُظهر التضامن والدعم. غير أن ما يشغلني بوصفي باحثًا في الفلسفة ليس شكل الاحتفال أو زخمه الإعلامي، بل السؤال الذي يختبئ خلفه: كيف نرى الإنسان حين يختلف؟ وكيف نفهم الإعاقة لا بوصفها نقصًا في الجسد أو قصورًا فرديًا، بل باعتبارها اختلافًا يكشف طريقة وجود الإنسان في العالم، ويختبر قدرتنا نحن على بناء مجتمع لا يُقصي أحدًا في زمن تتزايد فيه الفردانية والعزلة؟

ولعل هذا الانشغال لا ينبع من اهتمام نظري فحسب، بل يرتبط بتجربة بحثية خضتها من قبل حين خصصت جزءًا من عملي الأكاديمي لدراسة الموقف الأخلاقي من الأشخاص ذوي الإعاقة في سياق الأخلاق التطبيقية. وقد نُشر هذا العمل عام 2021 في مجلة كلية الآداب بجامعة أسيوط، حيث حاولت من خلاله متابعة الاتجاهات الفلسفية التي تناولت الإنسان ذي الاحتياجات الخاصة، بين رؤى تنكر عليه فاعليته وتختزله في حدود جسده، ورؤى أخرى تعيد إليه قيمته باعتباره ذاتًا كاملة لا ينقصها شيء من حيث إنسانيتها. وقادني ذلك البحث إلى قناعة راسخة مفادها أن الإعاقة لا تكشف حدود الإنسان، بل حدود النظرة التي نرى بها الإنسان، وأن الخطأ لا يسكن الجسد المختلف، بل يسكن الصورة الاجتماعية التي تُعاد صياغة الإنسان وفقًا لها.

ومن هنا لم يعد الثالث من ديسمبر بالنسبة لي احتفالًا موسميًا أو مناسبة رمزية، بل لحظة فكرية تُجبرنا على إعادة النظر في معنى الإنسان وكيف نتعامل مع اختلافه. وهكذا أصبح هذا المقال امتدادًا طبيعيًا لذلك الجهد المعرفي، لا نصًا منفصلًا عنه، محاولةً للإجابة عن سؤال العنوان: كيف نرى الإنسان حين يختلف؟

إن قراءة هذا اليوم قراءة فلسفية تكشف أولًا أن الإعاقة ليست نقصًا في القدرة، بل اختلافًا في طريقة الوجود. فالفلسفة لا تقسم البشر إلى كامل وناقص، بل تراهم بوصفهم كائنات تتشكل عبر إمكاناتهم وحدودهم معًا، وعبر البيئة التي يُسقطون عليها وجودهم. ومن هذا المنطلق لا يصبح الثالث من ديسمبر مناسبة للاحتفال بفئة محددة، بل لحظة للاعتراف بأن التنوع الإنساني شرط رئيس لاكتمال العالم، وأن كل اختلاف جسدي أو عقلي يذكّرنا بأن الإنسان لا يقوم بذاته وحدها، بل بالآخر الذي يعترف به ويمنحه معنى.

وإذا بدأنا من هذا الوعي اتضحت لنا رؤية مختلفة للاحتفال، إذ لا يعود كافيًا أن نرفع شعارات أو نشارك في فعاليات أو نلتقط صورًا تعبر عن الدعم. فالاحتفال الحقيقي يبدأ حين نواجه الأسئلة التي نتجنبها: هل نتيح للأشخاص ذوي الإعاقة ظروفًا تمكّنهم من ممارسة حياتهم بكرامة؟ وهل ننظر إليهم بوصفهم أشخاصًا فاعلين قادرين على الإسهام، أم نستسلم لصورة تجعلهم مجرد متلقين للرعاية؟ وهل نصنع حولهم بيئات مرنة تتسع لاختلافهم، أم نتركهم يواجهون يوميًا عالمًا لم يُصغ ليستوعب احتياجاتهم؟

إن هذه الأسئلة تنقل الاحتفال من صورته الشكلية إلى جوهره الفلسفي، من لحظة عابرة إلى لحظة نقدية تعيد تفكيك ما اعتدنا عليه. وهكذا يتحول اليوم العالمي للإعاقة إلى حركة وعي تُراجع لغتنا وتعيد النظر في البنى التي نعيش داخلها وتختبر طرائق استقبالنا للاختلاف.

وعندما نضع الكرامة في مركز الصورة، لا في هامشها، يتكشف لنا أن الإعاقة ليست مسألة قدرة، بل مسألة حق. فكرامة الإنسان لا تُقاس بما ينجزه ولا تُستمد من درجة استقلاله، بل تقوم على حقيقة ثابتة لا تتغير: أن الإنسان، مهما اختلفت إمكاناته، يحمل قيمة غير مشروطة لا يملك أحد أن ينتقص منها. ومن هنا يتخذ الثالث من ديسمبر بُعدًا مختلفًا، إذ يصبح يومًا لإعادة التفكير في الطريقة التي نعرّف بها الإنسان، لا مناسبة نكرر فيها خطابًا عاطفيًا أو صورًا رمزية اعتدنا عليها.

ومع هذا الوعي يتكشف لنا أن قيمة الاحتفال لا تكمن فيما يحدث خلاله، بل فيما يتركه بعده. فما معنى المناسبة إذا لم تطلق أسئلة جديدة أو تفتح بابًا للتحسين؟ وما جدوى الذكرى إذا لم تتحول إلى مراجعة طويلة المدى للواقع الذي نعيش فيه؟ إن الاحتفال من منظور فلسفي يصبح ناقصًا إذا لم يترك أثرًا، ويصبح فارغًا إذا لم يعيد تشكيل رؤيتنا للعالم. ومن هنا يبدو واضحًا أن أي احتفال بهذا اليوم لا يكتمل ما لم يرتبط بممارسات تعيد توجيه معناه.

ويبدأ ذلك من إعادة صياغة لغتنا حول الإعاقة، فاللغة ليست وصفًا للواقع، بل بناءه. ومن ثم يصبح الانتقال من لغة النقص إلى لغة الاختلاف خطوة أولى نحو تغيير الوعي. ويتبع ذلك ضرورة إشراك الأشخاص ذوي الإعاقة في القرارات التي تخصهم، لأن غيابهم عن طاولة الحوار يجعل الاحتفال نفسه معطوبًا، حديثًا عنهم لا معهم. ثم تبرز أهمية التركيز على البيئة لا على الفرد، لأن الإعاقة في كثير من الأحيان ليست صفة للجسد، بل نتيجة لغياب التهيئة في الأماكن التي يعيش الناس ويتحركون داخلها، مما يجعل تغيير هذه البيئة شرطًا رئيسًا لاستعادة قدرة الإنسان المختلف على المشاركة دون عوائق. ومن هذا المنطلق يكشف دمج الفنون والفلسفة في فعاليات هذا اليوم عن بعد إنساني عميق، فالفلسفة توسع الأفق الفكري، والفن يفتح الوجدان، وكلاهما يسهمان في إعادة تشكيل النظرة الاجتماعية للإعاقة بعيدًا عن الصور النمطية.

وعندما يتحول الثالث من ديسمبر إلى بداية فعلية لتحسين الواقع، لا إلى ذكرى تُطوى بانتهاء الفعالية، يصبح الاحتفال ذاته مفتاحًا لبناء رؤى جديدة ولغة جديدة وبيئات إنسانية أكثر عدلًا وانفتاحًا. ومع اتساع هذا الفهم يتبين أن اليوم العالمي للإعاقة ليس ذكرى ولا مناسبة احتفالية، بل فرصة لإعادة بناء نظرتنا للإنسان. فالإعاقة ليست قدرًا ولا صفة ثابتة تُلصق بصاحبها، ولا حالة تستدعي الشفقة أو البطولة، بل شكل من أشكال التنوع الإنساني الذي يكشف هشاشتنا ويذكرنا أننا لا نكتمل إلا ببعضنا، وأن القيمة لا تُقاس بالقدرة بل بالإنسانية نفسها. ومن هنا يصبح الثالث من ديسمبر يومًا لا نحتفل فيه بفئة محددة، بل بقدرتنا نحن على أن نكون أكثر رحابة واتساعًا وإنسانية، يومًا يعيد طرح السؤال الذي يظل في قلب كل تفكير فلسفي: كيف نرى الإنسان حين يختلف؟

***

أ. د. علي محمد عليان الخطيب

أستاذ ورئيس مجلس قسم الفلسفة – كلية الآلاداب- جامعة المنيا

في المثقف اليوم