قضايا
بدر الفيومي: نحن وثروة المعلومات (3)
الخوارزميات والتطرف الديني.. قراءة تحليلية في آليات الاستقطاب الرقمي
ذكرنا في المقال السابق أن الإنسان اليوم يعيش داخل تدفق مستمر من المعلومات، لا يملك غالبًا السيطرة على سرعته أو مصادره، ما غيّر جذريًا علاقة الفرد بالمعرفة والواقع، وجعل المجال الرقمي مهيأ لإعادة برمجة الانتباه وتوجيه الإدراك بما يخدم أهدافًا لا تكون بالضرورة بريئة أو محايدة.
والأمر الذي يبرز حجم الخطر الحقيقي الذي يهدد المجتمعات هو أن دولًا كاستراليا أدركت هذه المخاطر، فمنذ أيام قليلة لاحظت استراليا أن أدوات الذكاء الاصطناعي ووسائل التواصل الاجتماعي تؤثر بشكل واضح على وعي الشباب وتشتت انتباههم وسط كم هائل من المعلومات المتناقضة، ما يجعل التمييز بين الحقيقة والزيف أمرًا صعبًا. لذلك فرضت الحكومة الاستراليا قيودًا صارمة على محتويات الذكاء الاصطناعي ومنصات التواصل، إضافة إلى تحديد سن الاستخدام، لحماية المراهقين من تأثيرات رقمية قد لا تبدو خطيرة في ظاهرها، لكنها تترك أثرًا عميقًا مع الوقت.
وفي الاتجاه نفسه، نجد أن الصين قد سبقت بخطوات عملية، بإطلاق نسخة محلية من تطبيق تيك توك تخضع لرقابة مشددة وساعات استخدام محددة، لضمان أن يظل الشباب أكثر وعيًا وتحكمًا في تجربتهم الرقمية، وتقليل التأثير السلبي للتصفح المفرط. ولم تقتصر هذه الإجراءات على هاتيك الدولتين، فقد بدأت عدة دول أخرى تدرك خطورة التأثيرات الخفية للعالم الرقمي على الأجيال الجديدة، فاتخذت سياسات مشابهة للحد منها.
وإذا ما انتقلنا إلى فحص دور العالم الرقمي الخوارزمي في استقطاب الشباب أو المستخدمين للتطرف، نجد أنه يبرز بوصفه أحد أخطر الفواعل في صناعة التطرف الديني والاستقطاب العقدي في عصرنا. فالمنصات الرقمية لم تعد مجرد وسائط محايدة لنقل الأفكار، بل غدت بنى خفية تتحكم في ترتيب الأولويات، وفي إبراز بعض المضامين وتهميش أخرى، وفي تحديد ما يبدو مقبولًا أو متطرفًا داخل الوعي الجمعي.
وذلك النهج الذي تقوم عليه الخوارزميات لا يستهدف نقل المعرفة بقدر ما يهدف إلى إدارة السلوك، وتحويل المستخدم من فاعل واعٍ إلى كيان قابل للتوجيه وإعادة التشكيل ضمن مسارات محددة سلفًا. هذه العملية تبدأ بجمع البيانات السلوكية الدقيقة، حيث تتحول كل حركة رقمية يقوم بها المستخدم إلى مؤشر قابل للتحليل والتصنيف. والمشاهدة العابرة، والتفاعل الإيجابي أو السلبي، والتعليق، أو المشاركة، بل وحتى الصمت أو التوقف عند محتوى معيّن، كلها تتحول إلى وحدات بيانات تدخل في بناء صورة رقمية معقّدة عن الفرد.
ومع تراكم هذه البيانات، تبني الخوارزميات ملفات نفسية وسلوكية دقيقة للمستخدم، لا تهدف بالأساس إلى فهم الإنسان في ذاته، بل إلى التنبؤ بتصرفاته المستقبلية وإمكانية التأثير فيها. وفي هذا المناخ، يجد المغرضين من صناع المحتوى المتطرف بيئة مثالية لتوظيف الدين خارج سياقه المقاصدي والروحي، وتحويله إلى أداة تعبئة وانقسام. كل ذلك يتم غالبًا عبر تبديد المثاقفين للمعنى الديني العميق، أي تفريغه من أبعاده الأخلاقية والإنسانية، وتسطيحه في خطابات قصيرة مشحونة بالانفعال، وسهلة التداول، سريعة الانتشار، وقابلة للاستثمار الخوارزمي.
بهذا الأسلوب، يتحول الدين إلى شعارات مختصرة، وتُختزل النصوص في مقاطع مجتزأة، وتُبسَّط القضايا المعقدة إلى ثنائيات حادة. ومع تكرار هذا النوع من الاستخدام الرقمي، تتكوّن ما يُعرف بـ(الفقاعات المعرفية)، وهي دوائر مغلقة يُعاد فيها تداول الأفكار نفسها دون أي احتكاك حقيقي بآراء مختلفة. وفي هذا الجو، لا يعود النقاش الديني مجالًا للفهم وتبادل الرأي، بل يتحول إلى صراع حول الهوية، يتقدّم فيه الخطاب الصدامي والإقصائي، بينما يتراجع الصوت الهادئ والعقلاني. ومع الوقت، يلجأ بعض المدافعين عن الدين إلى ردود أفعال عاطفية تفتقر إلى التحليل، فتزيد من حدّة الاستقطاب بدل أن تسهم في احتوائه.
وقد يتساءل البعض: كيف يستقطب الذكاء الاصطناعي الشباب نحو التطرف؟، والإجابة أن الذكاء الاصطناعي لا يعمل كمحرّض مباشر، ولا يستخدم خطابًا أيديولوجيًا صريحًا لصناعة متطرفين. وذلك لأن قوته الحقيقية تكمن في أنه يعيد تشكيل طريقة تفكير الفرد قبل أن يتبنى الفكرة المتطرفة نفسها. فهو لا يقول للمستخدم كن متطرفًا، بل يجعله يرى العالم بطريقة لا تترك أمامه سوى التطرف كخيار يبدو منطقيًا، بل وأحيانًا أخلاقيًا.
وأول طرق استقطاب الذكاء الاصطناعي تكمن في مطابقة المحتوى مع مشاعر القلق الداخلي لدى المستخدم. فمثلًا، شاب يبحث عن معنى في حياته أو عن تفسير للظلم أو الفشل أو الإحباط، يلاحظ الذكاء الاصطناعي هذه اللحظة ويعرض له محتوى مبسّطًا وواضحًا، لا تحليلات فلسفية أو اجتماعية معقدة، بل تفسير واحد شامل لكل شيء. الأمر الذي يجعل المتلقي يشعر وكأن هذا المحتوى كُتب خصيصًا له، ثم يبدأ الاستقطاب بشكل طبيعي، دون أن يلاحظ أنه أصبح داخل دائرة مؤثرة على وعيه.
الزاوية الثانية هي (التساجل الخفي) بين المحتوى المتشابه. فالذكاء الاصطناعي لا يقدّم فكرة واحدة فقط، بل يعرض نفس الفكرة مرات عديدة بصيغ مختلفة، وأصوات ولهجات متعددة، وأحيانًا بواجهات تبدو مختلفة. هذا يجعل المتلقي يظن أنه يشاهد نقاشًا متنوعًا، بينما في الواقع كل المحتوى يدور حول نفس الفكرة. وبهذا الشكل يختفي الشك، لأن الشك يحتاج إلى اختلاف حقيقي، وليس مجرد تغييرات شكلية على نفس الرسالة.
أما الزاوية الثالثة فتكمن في تحويل النقد إلى طاقة تدفع نحو التطرف، فعندما يشك المستخدم أو يعترض على فكرة ما، لا تتجاهله الخوارزمية، بل تعرض له محتوى يوضّح له رد الشبهات أو فضح المؤامرات أو كشف زيف المثقفين. وهنا يحدث تحول مهم، حيث تنتقل من مجرد نقد الفكرة إلى نقد النقد نفسه، ومن مجرد قراءة لفهم المحتوى إلى قراءة تركز على حماية السردية. وفي هذه المرحلة، يشعر المتلقي أنه لم يعد متابعًا فقط، بل يصبح مدافعًا عن الفكرة، وهي لحظة حاسمة في تشكيل وعيه للمتطرف.
الزاوية الرابعة هي تقديم المتصاولين على حساب المثاقفين. فالذكاء الاصطناعي يفضّل المحتوى السريع والانفعالي والواضح جدًا. المفكر المتزن، الذي يشرح الأمور بدقة ويستدرك ويحذر، يخسر أمام من يتكلم بثقة عالية ومباشرة. مع الوقت، يقلّ ظهور الصوت العلمي ويبرز صوت مغاير، للذين يعتمدون على خطاب تعبوي وليس معرفي. بهذا الشكل، يتعلم المتلقي أن العمق ضعف، والتعقيد خطأ، والتبسيط الحاد هو الشجاعة.
وأخيرا غربلة الواقع عبر غرابيل إفك رقمية. (أي تقطيع الواقع وإعادة عرضه بطريقة مغلوطة). فالذكاء الاصطناعي لا يعرض الأمور كما هي، بل يختار أجزاء معينة تناسب القصة التي يريد إيصالها. كحدث معقد قد يُختصر في مشهد واحد، أو تصريح صغير يُحوَّل إلى دليل، وواقعة نادرة تُعامل كقاعدة عامة. ومع تكرار هذه الطريقة، يصبح المتلقي غير قادر على رؤية الصورة كاملة، ويقبل التفسيرات المتطرفة بسهولة لأنها تبدو وكأنها تشرح كل شيء.
ولفهم آلية الاستقطاب الرقمي نضرب مثالا حيا على ما يشهده الفكر العربي والإسلامي المعاصر اليوم من انتشار واسع لما يمكن تسميته بـ(الفرية المتجددة حول الإمام الغزالي)، حيث نجد أن الإمام الغزالي يُقدَّم في بعض المحتويات الرقمية المختزلة في هذه الآونة على أنه عدو العقل، وكأن كل مشروعه الفكري يسعى لتقويض التفكير النقدي والاجتهاد. ومن هذه الصورة المبسطة تُبنى دعوات لقطيعة معرفية كاملة مع التراث، لتصبح القراءة التقليدية أو الدراسة المتأنية غير مرغوبة أو مشكوك فيها. بعد ذلك، تُقدّم أفكار أكثر راديكالية على أنها تحرير للعقل، وكأن رفض التراث هو السبيل الوحيد للوصول إلى العقل المستنير.
هنا يظهر دور الذكاء الاصطناعي بشكل واضح؛ فهو لا يصنع هذه الأفكار من البداية، لكنه يعيد تكرارها وتضخيمها ويمنحها حضورًا دائمًا على المنصات الرقمية. ومع كل مرة تظهر فيها الفكرة، يزداد إحساس المتلقي بأنها صحيحة وبديهية، لأنه يراها بصور مختلفة، ومن مصادر متعددة. ومع الوقت، تتحول الفكرة المضللة إلى جزء طبيعي من فهمه للدين والتراث، ولا تعود مجرد محتوى عابر على الإنترنت، بل تصبح طريقة تفكير كاملة تسيطر على وعي الشاب الباحث عن إجابات، دون أن يشعر بأنه يتعرض لتوجيه رقمي مقصود.
فأخطر ما في الذكاء الاصطناعي أنه يستقطب دون أن يتكلم بلغة التطرف هو يصنع بيئة نفسية ومعرفية تجعل التطرف نتيجة، لا مقدمة. فيجعل العالم يبدو ثنائيًا؛ معنا أو ضدنا، حق أو باطل، نور أو ظلام. وحين يصل الفرد إلى هذه الرؤية، لا يحتاج إلى تنظيم، ولا إلى داعية أو قائد؛ بل يصبح هو نفسه أداة إعادة إنتاج لهذه الأفكار.
وقد أظهرت الدراسات في علم الاجتماع الرقمي وعلم النفس السلوكي أن هذه الفقاعات لا تتشكل عشوائيًا، بل بطريقة محسوبة، حيث يبدأ المستخدم بمحتوى ديني عام، ثم تنتقل به الخوارزميات تدريجيًا إلى محتوى أكثر حدة، فيترسخ في ذهنه تقسيم العالم إلى معسكرين متقابلين؛ الحق المطلق والباطل المطلق. الأمر الذي يحول تجاوز النقاش العلمي الرصين، إلى منطق التعبئة والتحشيد، وهو ما دفع المتأولين إلى تحميل النصوص ما لا تحتمل، وفتح المجال أمام المجدّفين والمجترئين على النص الديني، إلى التلاعب والترويج لأفكارهم، مستفيدين من غياب السياق، وسرعة التلقي، وضعف الجانب النقدي لدى قطاعات واسعة من الجمهور.
فنظرة بعمق، نجد أن هذه الظاهرة ليست مجرد أحداث عشوائية، بل جزء من نظام رقمي منظم. هذا النظام يعيد تشكيل العلاقة بين الدين والمعرفة، بحيث تتحول العقيدة من منظومة متكاملة قائمة على التوحيد والعدل والأخلاق، إلى شعارات قصيرة ومجزأة تُستَخدم لجذب الناس والتأثير فيهم، بعيدًا عن مقاصد الدين الحقيقية وأخلاقه الأصيلة.
ولا يقتصر تأثير النسق الرقمي على الأفراد، بل يشمل جماعات رقمية متطرفة، حيث تتقاطع الفقاعات المعرفية للأفراد، وتتكون شبكات مغلقة تتبادل نفس السرديات والخطابات، مما يعيد تصوير الآخرين كخطر وجودي، وفي بعض الحالات، قد تصل الأمور إلى تبرير العنف ، كالاعتداء على أشخاص أو ممتلكات بسبب اختلاف ديني أو فكري. وهكذا يُصوَّر الآخرون كتهديد وجودي، وتُصاغ خطابات تشرعن الإقصاء، بل وتسوغ الأذى باسم حماية الهوية أو العقيدة.
وفي هذا السياق، تنتشر سرديات زائفة تعتمد على افتراءات المتآمرين من الخارج، وتُقدَّم وكأنها حقائق مخفية يعرفها فقط الصفوة. وهذه السرديات تنتشر بسرعة على المنصات الرقمية دون تحقق علمي أو تمحيص، بسبب غياب الغربلة المعرفية. ومع ذلك، تتحول هذه المنصات إلى مصانع لإعادة إنتاج الوهم، حيث يُكافأ المحتوى الأكثر تطرفًا لأنه يجذب الانتباه ويحقق أعلى تفاعل، حتى لو كان مضللاً تمامًا.
وإذا ما انتقلنا إلى آلية مواجهة ظاهرة التطرف الديني الرقمي نجد أنها لا تقتصر على إجراءات أمنية أو رقابية فقط، بل يجب الانتقال إلى مستوى أعمق من الفهم والتحليل، ويتمثل هذا المستوى في نقد النقد أو قراءة القراءة، أي تفكيك الخطابات التي تساهم في إنتاج التطرف، وكشف المناهج وآليات اشتغالها، ومساءلة الأطر المعرفية التي تُقدَّم من خلالها النصوص الدينية داخل الفضاء الرقمي، لضمان إدراك أثرها على الوعي وسلوك المتلقي.
يتطلب هذا المسار بناء وعي رقمي نقدي، بحيث يستطيع الأفراد التمييز بين المحتوى المعرفي والمحتوى التعبوي، وتعلّم تحليل ما يُعرض عليهم بدل الاكتفاء باستهلاكه. كما يحتاج إلى سياسات تعليمية وإعلامية طويلة المدى، تعيد الاعتبار إلى التفكير البطيء، وإلى قيم التعدد والاختلاف المشروع، بوصفها أدوات لمواجهة الاستقطاب الحاد الذي تغذيه الخوارزميات.
كما أن استعادة الاستقلال المعرفي في العصر الرقمي تتطلب أن يتعلم الأفراد كيفية عمل المنصات، وكيف تُصنَّف البيانات، وكيف تُقدَّم التوصيات، حتى لا يصبحوا فريسة لآليات خفية. فالمستخدم الذي يفهم هذه العمليات يصبح أكثر قدرة على مقاومة الانغماس في الخطابات المتطرفة، وعلى إعادة فهم الدين كمصدر للقيم والمعنى، بدل أن يتحول إلى أداة للصراع والإقصاء.
وصفوة القول، أن الخوارزميات لم تخلق التطرف الديني من الصفر، لكنها وفرت له بيئة خصبة للنمو والانتشار. فهي تعيد تشكيل الوعي الديني في مسارات محدودة، وتعزز النزعات الإقصائية، وتضعف الصوت النقدي العقلاني. فمواجهة هذا الواقع لا تكون بالهروب من العالم الرقمي، بل باستعادة الإنسان لوعيه النقدي وقدرته على الفهم والاختيار، في عالم تُدار فيه الأفكار قبل الأفعال، ويُبنى فيه الوعي قبل أن تتشكل المواقف.
وللحديث بقية
***
بقلم: د. بدر الفيومي






