قضايا
عصمت نصار: الكذب في مباحث فلاسفة الإسلام الأخلاقيّة والتربويّة والسياسية
اعتقد أننا في حاجة ماسة لمراجعة بعض مفاهيم بعض المصطلحات التي طالما نرددها في أحاديثنا عن العقل الجمعي والرأي العام القائد ألا وهي الهويّة الثقافية، وكذا دلالات الولاء والانتماء والانضواء والتميز بينها في التطبيق والممارسة، وذلك للإجابة عن السؤال المطروح كيف نجح الفلاسفة المسلمون في بناء نسق أخلاقي متين تأسست على نهجه تعاليمهم التربويّة وتطبيقاتهم السياسية، وذلك في ظل تعدد هوياتهم الجنسية وولاءاتهم العقدية وانتماءاتهم العرقية والمذهبية، ومع ذلك التنوع نجد العقل الجمعي المسؤول الأول عن تشكيل الرأي العام في الثقافة الإسلامية ينضوي بإرادته الحرة إلى الثوابت المستقاة من القيم القرآنية، وما صح من الخبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم وسنته التي اجتهد في غرسها في من آمن بدعوته في صدر الدعوة حتى أتمّ، صلى الله عليه وسلم رسالته وبعثته (في إتمام مكارم الأخلاق).
فالواضح من قرائتنا المتأنية للتراث الفلسفي الإسلامي حيال قضية الكذب وضرورة معالجته بالصدق أن هويتهم الفلسفيّة في هذا السياق جاءت مطبوعة بالطابع العقدي، وقد استعان بعضهم بتراث الأغيار لتدعيم النسق القرآني وليس العكس بل وربطوا النظر بالعمل والمقصد بالتطبيق وذلك لاستحالة العملية التربوية والسياسية إلى نهوج تستمد شرعيتها من الهويّة العقديّة.
وإذا ما حاولنا مقابلة ما أوردناه بأحدث الدراسات التي تناولت مفهوم الهويّة في الفكر المعاصر سوف نجد أنها لم تعد وليدة العادة أو التبعية أو العواطف التي تولد الولاء والانتماء لدى الافراد لتذوب في النسق الجماعي فيصبح الكل في واحد أي كيانًا واحدًا فترى عالمة الاجتماع والسياسة الفرنسية المعاصرة "كاترين هالبيرن" أن الهوية أصبح من العسير فهمها بوصفها معطى جوهريًا أو ثابتًا يولد مع الانسان، بل أضحت بناءً مستمراً يتشكل عبر التجربة والممارسة والتطبيق فتتداخل الهويات المتعددة (القوميّة، الدينيّة، والمهنيّة) لتنشئ الانسان المعاصر بجوانبه المتعددة أي أن الانسان المعاصر على حد تعبير الوجودين هو الصانع الأول لهويّته.
ولعل هذا التعريف يتوافق تمامًا مع البنية الفلسفية الأخلاقية الإسلامية التي عبر عنها فلاسفة الإسلام في عصر نضج وقوة الحضارة الإسلامية ويعني ذلك أن ظهر الحضارة الإسلامية قد عبر بوضوح عن شمس هويتها الأخلاقية التي بنيت على العقل والنزعة العملية تلك التي شيدوا عليها الإصلاح وبناء الانسان على أسس قيميّة متينة وثابتة، وبمعنى آخر أن العقلية العلمية التجريبية التي توصف بالحداثة في الثقافة الغربية هي التي اتّسمت بها الحضارة الإسلامية التي لم ترتد في انتخابها للنافع إلى أساطير الأمم الغابرة، ولا لسياقية الديانات السابقة عليها أي أنها لم تصبوا إلى الديانات الوضعية أو اليهودية أو المسيحية لانتخاب منها أدوية لعلاج آفة الكذب سواء في التربية أو السياسة.
وخلاصة القول أن فلاسفة الإسلام قد انضووا تحت عباءة الاخلاقيات القرآنية ورغبهم في ذلك ثلاثة دفوع:
أولها: الزخم المعرفي الذي استقوه من ثقافاتهم المتباينة قبل دخولهم في الإسلام.
وثانيها: أن ولائاتهم لتراثهم الماضي لم يكن يحقق لهم القدر الكافي من حرية الفكر والقناعة في صلاحية النسق الذي ينتمون إليه في التطبيق.
أمّا ثالثها: أنهم وجدوا في بنية الهويّة الإسلاميّة وثبات وأصالة النسق القرآني البنية العقلية الجامعة بين النظر والعمل.
ولعلهم أدركوا هذه الحقيقة قبل فلاسفة القرن العشرين ومنهم المستشرق الياباني "توشيهيكو إيزوتسو" (1914: 1993 م) الذي بين في كتابه "المفاهيم الأخلاقية الدينية في القرآن" أن النسق القرآني في الأخلاق والتربية هو أفضل أنموذج للعقلانية الحرة الشاملة التي لا تقيد الانسان في اختياراته لأقوم السبل لتحقيق السعادة للإنسان وهي أفضل الفلسفات العملية لتطبيق القيم الروحية وتهذيب السلوك الإنساني دون أدنى تعصب أو شيفونية جنسية أو عرقية أو قومية الأمر الذي جعل النسق الأخلاقي القرآني هو الأجدر أن يصبح دستورًا للإنسانية.
ويكفيه أنه جعل الصدق شرطًا للإيمان بالملة ومن ثم بات الكذب هو عتبة فساد النفس الإنسانيّة والمجتمع الذي ينشد السعادة التي عبرت عنها آيات القرآن بأنها المقصد الإلهي.
ولا يفوتنا التنبيه على أن فلاسفة الإسلام وفي مقدمتهم "ابن سينا"(ت 1037 م) كان لهم السبق إلى إثبات حقيقة مفادها أن العقل النقدي ( الترسندالي: transcendental ) لم يفلح وحده في دفع الضمير الإنساني لتحويل الإلزام العقلي في الأخلاق والتربية إلى التزام عملي نابع من جوانيّة الأنا المؤمنة، بأن الواجب وليس الهوى هو الطريق الأمثل لبلوغ السعادة بل اليقين الديني والروح العقدي هو الذي في إمكانه الوصول لهذا الهدف، أي أن علم تاريخ الأفكار يثبت بأن ابن سينا كان أسبق من الفيلسوف الألماني (كانط) للوصول إلى تلك الحقيقة فها هو كانط (ت 1804 م) يصرح في كتابه "الدين في حدود العقل" (أن الدين ليس سياقًا ثانويًا في البنية الأخلاقية العقلانية بل هو ركن أساسي فيها ليستمد منه الواجب المجرد عن الكهنوت والطقوس الشكلية والنصوص الملغزة التي لا يستطيع العقل الناقد قبولها) ولعل كانط يقصد بذلك الدين المقصد الإلهي أو العلم الربّاني أو صريح المعقول الذي تتقبله النفس العاقلة وكأنه الرحم الذي لفظها ليدفعها دومًا إلى الخير النافع بمنأى عن الأهواء الكاذبة، أو اللذائذ المادية المضللة.
وصفوة قول كانط في الدين أنه المرجعية العاقلة التي تمكن الانسان الحر للوصول إلى السعادة ليس عن طريق الورع ولا في العزوف عن الطمع بل بالتفكير الناقد الفاحص لجوهر الدين مجردًا عن الملل والنحل والعصبيات والتفاسير المتباينة.
ولعل هذه القراءة للفلسفة الكانطية لا تختلف عن حديث ابن سينا ولاسيما في نظرية اتصال النفس الإنسانية بالعقل الفعال خلال نظرية المعرفة أو دليل خلود النفس المعلقة في الفضاء.
وتجدر بنا الإشارة إلى أن نهجنا في سرد أخبار الفلاسفة وأحاديثهم عن الكذب ينقسم إلى دربين: الأول: - يتمثل في إيراد حرفية قول الفيلسوف في الكذب مشفوعًا بتحليل موجز لتوضيح نهجه ومنهاجه والطابع العام لفلسفته في ضوء آراءه العملية الأخلاقية والسياسية والتربوية وكذا معالجته لهذا الموضوع الشائك.
أمّا الدرب الثاني: هو استنباط أو استقراء مفهوم الكذب عند الفيلسوف وذلك وفق قياس الغائب على الشاهد أو تطبيق منطق المحاكاة أو نظرية المتشابهات والأضداد (المحاسن والأضداد) وجميعها يمكن قراءته لاستنباط أو استقراء مفهوم الفيلسوف للكذب - ذلك إذا لم نجد قول يفيد استخدامه للفظ (الكذب) أو أحد مشتقاته واشكاله.
أمّا عن مجمل آراء فلاسفة الإسلام حيال قضية الكذب وأبعادها الأخلاقية والسياسية والتربوية، ومآلات الإفك على الفرد والمجتمع، وأشكال التدليس وما تحويه من شرور وآثام والمباح من ألوانه وعللها وضرورياتها؛ فسوف نجمله استنادًا على تكرار حديث الفلاسفة عن ماهيته ونقائضها ثم نتطرق بعد ذلك للمشهور من تلك الآراء التي تشير إلى مدى اهتمام صاحبها بشرح أبعاد هذه القضية.
فالكذب عند جلهم ليس خطاب موجه للآخر، بل يمكن أن يكون حديث مع الأنا الكذوب، وهي سمة الأفّاق الذي يكذب ويصدق أقواله التي صنعها.
ويعاني محترفو الكذب من الاضطراب النفسي وضعف الشخصية والقلق والارتياب والتردد، الأمر الذي يدفعهم إلى تجميل القبح في الحديث مع ذواتهم لتبرير كل ألوان الشر حتى يسكتوا تأنيب ضمائرهم أو يخدروها أو يميتوها فيصف هؤلاء النفاق على سبيل المثال، والمداهنة والرياء والخداع بالمجاملة واللباقة والملاطفة. والكذوب: هو البارع في التلفيق والدّس والتزوير واختلاق الأخبار والوقائع والأحداث وحبك الأضاليل.
أمّا أخطر أنواع الكذب فتبدو في ثلاثة أشكال:
أولها: الاجتراء على الباري سبحانه وتعالى، وعلى أنبيائه والتأول عليهم، وإلصاق بهم من الصفات ما ليس فيهم.
وثانيها: الغش في الارشاد والتربية والتعليم والنصح.
وثالثها: التلبيس والتشويش والريبة والسكوت عن الحق وإخفاءه وطمس الأدلة ونقض البراهين وخرص ألسنة الصدق وجميع ذلك قاتل للتراحم بين الناس ومبدد للأمن والإيمان والأمان عند حكماء الإسلام.
ويحاكي الفلاسفة نهوج الفقهاء والمتكلمين في عنايتهم بتوضيح دلالة الالفاظ التي تدخل تحت مظلة الكذب؛ ومنها المكر الذي يعني الخداع وإظهار الأمر على النقيض من حقيقته وهو عندهم شكل من أشكال الدهاء المحمود إذا وجه لمحاربة الشر أو لإحباط مخططه وكيده وذلك مصداقًا للمعنى المستنبط من القرآن فقد قال تعالى في سورة آل عمران الآية 54 " ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين" وقوله تعالى في سورة النحل الآية 45" أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض"
أما المكر المذموم؛ فهو خداع الأمنين للإيقاع بهم فيما يكرهون فقد قال تعالى في سورة فاطر الآية 10 " والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور"، وجاء في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المكر والخديعة في النار" أما المكر بمعنى التحايل لإنقاظ الانسان من شر يدفعه إليه هواه، أو ترغيبه في خير يتباه الجاهل أو المعاند الأحمق فهو مُباح.
ويرى بعض الفلاسفة المتفقهين أن الغدر لا يختلف عن الكذب بل هو درب من دروبه؛ لأن فيه من الخيانة ونقضه للعهد والخداع وهو خلاف الوفاء ويعرف الحكيم الترمذي بالمداراة؛ وهو الخبر المتناقض الذي لا يخلو من الكذب فتارة يأتي في صورة القدح وأخرى في صورة المداهنة وكلاهما مذموم لأنه يصف شيئًا على خلاف الحقيقة ويضيف أن الحكم على المداراة عسير لأنه يتوقف على نية وضمير المداري؛ فالتمويه أو التهويل في وصف المنكر مخالف لمن يقصد الإصلاح للفرد أو المجتمع فالقرح في الجسم لا يصلح فيها مداراة الصديد أو إخفاءه بل يجب تطهيره قبل مداواته، وإن تسبب في ذلك ألمً أو وجعً فالمصارحة أفضل من تجميل المكروه، ولاسيما في التربية والنصح ويؤكد أن أشنع أشكال المداراة هو مداراة الحاكم الظالم أو الولي الفاجر أو المعلم الجاهل. وصفوة القول عنده (أن المداراة وادً عميق لا يمكن استقصاء تفسيره إلا بالملاحظة والمراجعة والمتابعة شأن الاستقصاء الأمبريقي في الملاحظة العملية وللمداراة وفق هذا التحري شكلان أن تسكت عند رؤية المنكر إبقاءً على دينك ودين صاحبك، حتى لا يزداد فهذا من أجل الله عز وجل، أو أن تسكت عنه فتستحيل المداراة إلى مداهنة إبقاءً على دنياك وجاهك وقدرك وأحوال نفسك فهذا من أجل نفسك وهذا الأخير هو المذموم.
وللحديث بقية عن النزعة العلمية في الاخلاق عند فلاسفة الإسلام في الاحاديث المطولة عن الصدق في صورة الصديق والكذب في صورة العدو الغادر.
***
بقلم: د. عصمت نصار






