قضايا

نسمعُ بين الحين والآخر من يتحدث بقضايا التاريخ وبثقة تامة! فنراه "مُحَلّلاً" و"مُفكِّكَاً" لحوادث كبيرة وخطيرة فيه:

كانت ثورة 14 تموز مجرد انقلاب بريطاني ضد النفوذ الأمريكي "الوافد الجديد" الى المنطقة!

سرق عبد الكريم قاسم خطط مجلس الإعمار الملكي ونفّذها ثم نسبها لنفسه!

لم يكن النظام الإقطاعي في العراق من صُنع النظام الملكي العراقي، بل كان "تركَةً عثمانية".

وهي كلمة حق يُراد بها باطل بكل تأكيد، اذ يتم التغاضي من خلالها على "الإدامة الملكية العراقية" لهذه التركة!!، والا فهل اطلّع صاحب هذه المقولة على الرؤية السعيدية ـ نسبة لنوري السعيد ـ للوضع الاجتماعي آنذاك؟ فقد ذكر السعيد وبكل صراحة أمام مجلس النواب في عام 1931، بأن المولود من أبٍ فقير سيبقى فقيراً، والمولود من أبٍ غني سيبقى غنياً، وهكذا تجري الأمور!! (1).

أتحدث هنا عن تاريخ العراق المعاصر، باعتباري مهتمٌ ومختصٌ به. لكني اليوم سأنتقل لتاريخ بلد آخر، ألا وهو "تاريخ ايران المعاصر".

يعلم القارىء المتابع لكتاباتي بأني لم أخض في تاريخ ايران أبداً، ويرجع هذا لعدم الاطلاع على تاريخ هذا البلد الكبير. لكن بعد ان بدأت بقراءة هذا التاريخ، سأسمح لنفسي أن أتحدث عن "المتطفلين" عليه، كما تحدثت عن أقرانهم في تاريخ العراق المعاصر.

يتحدثون كثيراً عن ايران البهلوية، وكيف تم التغيير فيها، من خلال ما يلي:

قامت المخابرات الأمريكية بتدريب وتجنيد آية الله الخميني في فرنسا، ثم جاءت به الى طهران وأزاحت النظام الشاهنشاهي!!!

ديباجة في غاية السهولة! فما أسهل أن يتحدث الشخص بعيداً عن التثبّت والتعَقّل! والأنكى من هذا أن هناك من "يقطع" برأي في التاريخ، وعندما تسأله: كيف وصلت لذلك؟ سيقول: من خلال التفكير العقلي!! وهذا يعني "الجهل" بعينه في التاريخ، إذ لا تاريخ بلا وثائق (2)، لكن أنّى لهؤلاء التحدث من خلال الوثائق والمصادر والمراجع! فلو تحدّثوا من خلالها، لما رأيناهم "يقطعون" بالرأي بهذه السهولة واليُسر! لكني لم أستغرب منها ـ هذه الديباجة ـ كثيراً، فقد خبرتها سابقاً في تاريخ العراق وثورة تموز كما أسلفت. وفي اطار الرد على هذا الزعم لا بُدّ من الآتي:

هل اطّلع هؤلاء على تاريخ الخميني؟ هل تعرّفوا على شخصيته؟ هل قرأوا خطابه الذي ألقاه في المدرسة الفيضية يوم 4 / 6 / 1963 عندما وصف الشاه محمد رضا بهلوي صراحة ب"الشقي البائس" (3)؟ هذه الشخصية الحدّية التي لا تعرف غير ما تؤمن به، وتقولها بشجاعة منقطعة النظير.

هل اطّلعوا على ما حدث بين رسول الرئيس العراقي أحمد حسن البكر ـ وهو زوج ابنة البكر ـ والخميني؟ فقد أرسله البكر في عام 1974 الى الخميني في النجف عندما كانت العلاقات متوترة بين العراق وايران، فطلب البكر تأييد الخميني في حملة يشنها العراق ضد الشاه، فرفض الخميني الطلب، إذ آثر على نفسه ان يختار وقت الهجوم والاّ يتعاون مع أحد (4).

وهل اطّلعوا على المؤتمر الصحفي لرئيس الولايات المتحدة الأمريكية جيمي كارتر في 12 / 12 / 1978 عندما عَرّض فيه بالخميني ضمنياً واصفاً بياناته بالطائشة مع عدم الإشارة لإسمه؟ فعَلّقت صحيفة نيويورك تايمز قائلة: لقد تَعَمّد كارتر عدم الإشارة الى الاسم الذي كان في ذهنه وهو الخميني (5). وهل عرفوا برَدّ الخميني على كارتر عندما وصفه صراحة: أنت كذّاب؟! وكارتر أفسد شخص على وجه الكرة الأرضية عند الخميني!(6).

وهل يعلمون ب"فوضى" الإدارة الأمريكية في التعامل مع الأزمة الإيرانية بين: سوليفان وبرجينسكي وهايزر وفانس لدرجة أن يُصاب كارتر بالصداع كما ذكر شابور بختيار آخر رئيس وزراء بهلوي (7). فكلّ يُلقي اللوم على الآخر، برجينسكي يلوم فانس، وفانس يوجّه اللوم الى العسكريين، والعسكريون يوجهون اللوم لوكالة المخابرات المركزية، والوكالة تشكو من عدم اطلاق يديها (8). والنهاية أن الولايات المتحدة كانت ساذجة في تعاملها مع الشأن الإيراني (9).

ثم هل سأل هؤلاء أنفسهم سؤالاً قهرياً:

ما الذي ستجنيه الولايات المتحدة من اسقاط رجلها المطيع بل "شرطيها" في المنطقة، والمجيء بنظام اصولي قروسطي لا يعترف بالحداثة؟ فقد بدا الخميني لهيكل آنذاك وكأنه شخصية من شخصيات الفتنة الكبرى في الإسلام، رجل لا علاقة له بزماننا (10)؟؟

وأخيراً لا بُد من الآتي:

اعترف آية الله الخميني بجميل الولايات المتحدة التي أوصلته الى السلطة، بأن قام بمحاصرة سفارتها، واحتجز الأمريكيين فيها بحادثة الرهائن المشهورة!!!

النتيجة التي نروم لتسليط الضوء عليها:

لا يمكن لمن هَبّ ودَبّ أن يتحدث في التاريخ، فهو علم له أصول وضوابط لا بُد من مراعاتها قبل الدخول اليه والخوض فيه، أما من يَتَطَفّل ويتَدَخّل لمنطقة لا يُجيد السير فيها، فليس أمامه الا أن يكون "سخرية" للتاريخ.

تنبيه: لا بد من التأكيد هنا على أننا نقول بذلك بعيداً عن الاتفاق والاختلاف مع الاتجاه الإسلامي المتمثل بآية الله الخميني، فالفصل بين اتجاه الباحث ـ آيديولوجيته ـ وبين الموضوع الذي يتناوله، أي الفصل بين الذات والموضوع، ضرورة قاهرة للباحث الموضوعي.

***

بقلم: معاذ محمد رمضان

............................

الحواشي:

1ـ حيدر عطية كاظم: الفقراء في العراق والموقف الرسمي والشعبي منهم 1921 ـ 1945 دراسة تاريخية ج1، وزارة الثقافة والسياحة والآثار، دار الشؤون الثقافية العامة بغداد 2023 ص63 و 64

2ـ المصدر السابق ص12

3ـ غلام رضا نجاتي: التاريخ الإيراني المعاصر ـ ايران في العصر البهلوي، نقله الى العربية: عبد الرحيم الحمراني، مؤسسة دار الكتاب الإسلامي قُم ط1 2008 ص234

4ـ محمد حسنين هيكل: مدافع آية الله ـ قصة ايران والثورة، دار الشروق القاهرة ط6 2002 ص185

5ـ غلام نجاتي: المصدر السابق ص625 و 626

6ـ المصدر السابق ص627 و 679

7ـ المصدر السابق ص670

8ـ هيكل: المصدر السابق ص220

9ـ غلام نجاتي: المصدر السابق ص747

10ـ هيكل: المصدر السابق ص8

 

الاتّجاهات القرائيّة للنّصّ الدّيني تمايزت بين اتّجاهات مختلفة، منها متداخلة، ومنها متوازية، منهم من مال إلى الاتّجاهات الحرفيّة الظّاهريّة للنّصّ الدّينيّ، ومنهم من توسع في التّعامل معه أصوليّا علليّا ومقاصديّا، وهؤلاء أيضا على درجات، ومنهم من مال إلى القراءات الفلسفيّة له، أي وفق المناهج الفلسفيّة قديما وحديثا، ومنهم من مال إلى القراءات العرفانيّة والرّمزيّة، وهؤلاء أيضا على درجات بين موسع ومضيّق.

في المغرب العربيّ مثلا حدث توسع في القراءات المقاصديّة له، فألف محمّد الطّاهر ابن عاشور (ت 1973م) كتابه الشّهير "مقاصد الشّريعة الإسلاميّة"، بينما حدث توسع في إيران في القراءات العرفانيّة والبرهانيّة الفلسفيّة للنّصّ الدّينيّ، وإن كان في جملتها لم تخرج عن إطار النّظريّات القديمة واللّاهوتيّة كنظريّة ابن عربيّ (ت 638هـ) والملّا صدرا (ت 1050هـ) والطّاطبائيّ (ت 1981م)، بينما بدأ يميل العالم العربيّ إلى قراءات أكثر انفتاحا على المناهج الغربيّة كقراءات محمّد أركون (ت 2010م)،  ونصر حامد أبو زيد (ت 2010م)، ومنهم من له قراءات لم تبتعد عن القراءات الكلاسيكيّة، ولكنها وفق مراجعات مختلفة معاصرة، كقراءات الجابري (ت 2010م) ومحمّد شحرور (ت 2019م)، وعلى المناهج الغربيّة في الجانب الإيرانيّ عبد الكريم سروش ومليكان، وعلى القراءات النّاقدة وفق القراءات الكلاسيكيّة كمال الحيدريّ.

بيد أنّه في إيران ساد لديهم القراءات العرفانيّة للنّصّ الدّينيّ،  ويعتبر ابن عربيّ من أكثر المؤثرين في العرفان الشّيعيّ، ثم جاء الملّا صدرا (ت 1050هـ) "وعرفان الفلسفة، أي ألبس الفلسفة لباس العرفان، وممكن أن نقول ألبس العرفان لباس الفلسفة، وفلسفته المسماة بالحكمة المتعالية حسب ظاهرها فلسفة، إلّا أنّ باطنها عرفان"، "وفلسفة الملّا صدرا بالتّحديد في القرن الأخير اتّسعت وتعمّقت في المحاضر الفلسفيّة الشّيعيّة، وبعد الثّورة الإسلاميّة وبما أنّ الإمام الخمينيّ (ت 1989م) كان مؤمنا ومتبنيّا لهذه الفلسفة؛ أخذت أكثر انتشارا وشهرة في الحوزات العلميّة، وكذلك في الزّمان نفسه، وبالتّوازي كان لدينا الطّباطبائيّ، والّذي كان معتقدا ومروّجا لهذه الفلسفة أيضا، وكتب كتابين مهمّين وهما بداية ونهاية الحكمة، والّذين صارا يدرّسان في الحوزة العلميّة".

ويرى مهدي نصيري أنّه "إلى القرن العاشر الهجريّ، لم تكن الفلسفة اليونانيّة والعرفان اليونانيّ، والّتي يطلقون عليهما حاليا الفلسفة الإسلاميّة والعرفان الإسلاميّ رائجة ومنتشرة في الحوزات العلميّة الشّيعيّة عموما، وكان حضورها ضعيفا جدّا، وإلى القرن الرّابع الهجريّ، علم الكلام الشّيعيّ، والّذي بدأ مع الشّيخ الطّوسيّ (ت 460هـ)، واستمر مع الخواجة نصير الدّين الطّوسيّ (ت 672هــ)، ومن ثم مع الحلّيّ (ت 726هـ) شارح تجريد الاعتقاد للخواجة نصير الدّين الطّوسيّ، فإنّ علم الكلام العقليّ كانت له الغلبة، وانتشار الفلسفة والعرفان في الحوزات العلميّة الشّيعيّة بدأ منذ القرن العاشر الهجريّ فيما بعد مع الملّا صدرا، حيث جاء وأسّس الحكمة المتعالية، وجمع بين فلسفة ابن سينا (ت 427هـ) وعرفان ابن عربيّ، وقبل ذلك حتّى فلسفة الملّا صدرا إلى مائة سنة سابقة لم يكن لها هذا الانتشار والنّفوذ، وهذا الانتشار والسّعة لفلسفة الملّا صدرا في الحوزات العلميّة، وبالتّحديد في قم يعود إلى الطّباطبائيّ، والّذي بدأ نشاطه، وكرّس درسه الفلسفيّ قبل الثّورة الإسلاميّة، وحصلت هناك بعض المعارضة، فالمرحوم السّيّد البروجرديّ (ت 1380هـ/ 1961م)، وهو أحد كبار مراجع الشّيعة في قم، وكان لديه اختلاف مع الطّباطبائيّ".

وفق هذا حدث تداخل بين النّصّ الدينيّ والبرهان الفلسفيّ والإشراق العرفانيّ، وبدأت قراءات تدخل في النّصّ الدّينيّ، فولدت في هذا المحيط مدرسة جديدة، قد تكون ذات خصوصيّة إيرانيّة، إلّا أنّها بدأت تتوسع في القراءات الكلاسيكيّة واللّاهوتيّة، وهي مدرسة التّفكيك، أو المدرسة التّفكيكيّة.

والمراد بمدرسة التّفكيك هنا ليس كمراد جاك دريدا (ت 2004م)، وإنّما الاشتراك في المصطلح مع اختلاف المصاديق، فهذه المدرسة تمايز بين ثلاث اتّجاهات: مدرسة الوحي (الدّين والقرآن)، ومدرسة العقل (الفلسفة والبرهان)، ومدرسة الكشف (الرّياضة والعرفان)، أي أنّها تمايز بين الدّين والفلسفة والعرفان، وتفكّك كلّا منهما إلى حدّة، لتخلص أنّ "الحقائق العلميّة والمعرفيّة لا تكون صحيحة إلّا إذا كانت مستقاة عن طريق الوحيّ الإلهيّ، والعلم الرّبانيّ"، لكنّها كما يرى محمد رضا حكيميّ الخراسانيّ ليست ضدّ العلوم الفلسفيّة والعرفانيّة، إلّا أنّ مهمّتها التّفكيك وليس التّعطيل، لأنّه "يجب علينا أن نستخلص العلم الصّحيح، والمعرفة الحقّة الأصيلة من معدن النّور، كلام الله، وكلام المعصوم الّذي هو شرح لكلام الله عزّوجل، ونتمثله في سرائر وجودنا، ولا نمزجه بشيء آخر أبدا".

وإذا كانت مدرسة العرفاء الشّيعيّة ردّة فعل على التصوّف ذات البعد السّنيّ، وأرثدوكسيّة العلماء الشّيعة الّذين جاءوا إلى إيران من جبل عامل بلبنان في بدايات الدّولة الصّفويّة، فمدرسة التّفكيك تقترب من هذه الأرثدوكسيّة، لهذا هي ردّة فعل على المدرسة العرفانيّة الصّدرائيّة والّتي تأثرت بفلسفة ابن عربيّ، وتمثلت في العرفانيّة الخمينيّة بشكل كبير، فهي ترى "أنّ الفلسفة الّتي جاء بها صدر المتألهين جمعت بين المشائيّة والإشراقيّة والرّواقيّة والمسالك الصّوفيّة والعرفانيّة".

 ويرى مهدي نصيري أنّ ما يطلق عليه العرفان الإسلاميّ الّذي وصل إلى ذروته مع ابن عربيّ  متأثر بشدّة بآراء أفلوطين، ونظريّة وحدة الوجود الّتي هي محور البحث العرفانيّ، والتي ينادي بها ابن عربيّ، هي مأخوذة من كتب أفلوطين بشكل دقيق، وما يُعرف بمدرسة التّفكيك، والذي طُرح في زمن الميرزا مهدي الأصفهانيّ (ت 1365هـ) ليست مدرسة جديدة، إنّما صياغة جديدة لهذا النّزاع القديم بين الكلام الشّيعيّ والفلسفة والعرفان اليونانيّ، ثمّ جاء محمّد رضا حكيميّ بعد أربعين سنة من الميرزا مهدي الأصفهانيّ، وصار مروّجا لمدرسة التّفكيك بكتبه وآثاره، وأحيا هذا البحث من جديد بقوّة، ونشره في السّاحة الفكريّة، وصار البحث حيّا ومعاصرا بسببه".

ويرى أنّ "اسم التّفكيك من إبداع الأستاذ الحكيميّ حينما أراد نقد الفلسفة والعرفان، سعى أن لا يكون نقده لاذعا ومثيرا للحساسيّة، خصوصا أنّ المدرسة الفلسفيّة والصّدرائيّة كانت مسيطرة على أجواء الحوزات العلميّة بعد قيام الثّورة الإسلاميّة، وكان الأمر يحتاج إلى جرأة خاصّة، بحيث يأتي شخص وينتقد هذه الفلسفة الّتي يتبناها قائد الثّورة الإسلاميّة أي الامام الخمينيّ، ولأجل أن تكون نبرة ولحن نقده معتدلة، قال: لابدّ أن نفكّك بين الفلسفة الّتي جاءت من اليونان وأرسطو وأفلاطون وأفلوطين وبين علم الكلام الاسلاميّ، وأن لا نخلطهما ببعض، وإذا تمّ الخلطّ فسنقع في المشكلات، وستفهم المسائل بشكل خاطئ، وبهذا نكون قد حرّفنا الوحي، ومن هنا تمّ طرح اسم التّفكيك، أي أن نفكّك بين المعارف الوحيانيّة وبين المعارف الفلسفيّة والعرفانيّة".

هذه المدرسة لقت ردّة فعل كبيرة في المشهد الإيرانيّ وحوزاته الدّينيّة كما يرى الباحثّ في التّأريخ الإيرانيّ والفارسيّ محمّد صادق زاده أنّ "مدرسة التّفكيك كانت ردّة فعل للمدرسة الصّدرائيّة والفلسفيّة عموما، وصاروا أقرب إلى حشويّة الشّيعة، حيث يقفون عند ظاهريّة النّصوص، لهذا تلقى مواجهة وحربا كبيرة من الاتّجاهات العرفانيّة في إيران، لكن لها حضورها الكبير في مشهد وخراسان وطهران وقم، ولها أنصارها ومؤسّساتها الضّخمة".

وإن كنتُ أرى أنّه يصعب في الحقيقة فصل النّصّ عن الفلسفة؛ لأنّ الإنسان بذاته متفلسف في تعامله مع النّصّ الدّينيّ وفق الأداة والحالة الزّمكانيّة، إلّا أنّ العرفان في جوهره صورة من صور التّأريخيّة الفلسفيّة في التّعامل مع النّصّ الدّينيّ، كما أنّ العلليّة الأصوليّة هي صورة منها أيضا، فالأول محاولة للبحث عن جوهر النّصّ والغاية منه، والثّانية محاولة لربط النّصّ بظرفيّته الزّمكانيّة من حيث العلّة، وكلاهما استفادا من تراث الأمم الأخرى خارج دائرة الإسلام، ولا يمكن التّعامل مع النّصّ بحرفيّته الأولى الّتي نزل فيها، لأنّ هذه إماتة للنّصّ ذاته، قبل أن يكون إماتة للعقل وتطوّر الاجتماع البشريّ، وهذا لا يعني أنّ مدرسة التّفكيك ترفص الفلسفة أو العرفان بالكليّة، لكنّها تحاول أن لا تجعلها حاكمة على النّصّ الدّينيّ، خصوصا ما لها مرجعيّات خارج الإطار الإسلاميّ في نظرهم، يونانيّة قديما أو غربيّة في العصر الحالي.

***

بدر العبري – كاتب وباحث عُماني

......................

مراجع المقالة: كتاب  المدرسة التّفكيكيّة لمحمّد رضا حكيمي، ولقاءات مع الباحثين في العرفان والتّفكيك والتّأريخ الإيراني: حسن رمضانيّ، ومحمّد سوريّ، ومهدي نصيريّ، ومحمّد صادق زاده.

 

هناك اربعة أساليب للتواصل او الاتصال بالآخرين .هل سبق لك أن حاولت التحدث إلى شخص ما في العمل، لتقابل برد متعالي عليك؟ هل سبق لك أن تم تكليفك بمشروع مع تفاصيل قليلة، ثم ليخبرك المدير أن تكتشف التفاصيل بنفسك؟ يمكن بسهولة أن تعزى هذه السلوكيات المزعجة إلى الاختلافات في أساليب التواصل التي يمكن أن تعيق سير العمل.

يمكن تقسيم التواصل إلى أساليب -  ومثلما يمتلك كل شخص أسلوبا شخصيا مختلفا قد ينعكس في كيفية تقديم نفسه جسديا ، فإن لديه أيضا أسلوبا مختلفا للتواصل يظهر في العلاقات الشخصية وهولا يقتصر فقط على التواصل الشفهي، وأنما يترجم إلى التواصل المرئي مثل لغة الجسد والتواصل الكتابي.

يمكن أن يكون لجميع أنواع التواصل إيجابيات وسلبيات. هناك جوانب من أساليب الاتصال تجعل التواصل فعالا، ولكن أسلوب الاتصال نفسه قد ينفر بعض الأفراد ويخلق انقطاعا. يعد فهم كيفية عمل أنماط الاتصال هذه أمرا حيويا في الأعمال الناجحة.

هناك أربعة أنماط اتصال شائعة:

أسلوب المتحكم / المدير

أسلوب المروج / الاجتماعي

أسلوب المحلل / المفكر

أسلوب الداعم / المواصل

تلعب هذه الأساليب او الأنماط الأربعة المختلفة دورا هاما في ارتباطات الاشخاص مع الآخرين داخل وخارج مكان العمل. على سبيل المثال، أسلوب الاتصال المتحكم هو إلى حد ما عكس أسلوب الاتصال المروج.

ولكن كيف تلعب هذه الأساليب المختلفة مثل هذه الأهمية في مكان العمل؟ ما هي الاختلافات، وكيف تساعد أو تمنع التواصل الفعال؟ هل تسبب الصراع أو تزيد الإنتاجية؟ فيما يلي تفصيل لأنماط الاتصال الأربعة هذه وكيف تبدو في مواقف مكان العمل.

المتحكم / المدير

أسلوب اتصال المتحكم مباشر للغاية -  يطالب بالحقائق بطريقة مباشرة وصريحة للغاية. يميل الأشخاص الذين يتواصلون بهذه الطريقة إلى امتلاك سمات الشخصية التالية.

- يمكن أن يكونوا متحمسين للغاية ومكرسين لمهامهم.

- هم موجهون للغاية نحو الهدف ومصممون على الوفاء بالمواعيد النهائية والأهداف.

- إنهم يتواصلون بالعين وغالبا ما ينظر إليهم على أنهم يظهرون أسلوبا عدوانيا وسلوكا حازما.

- كما ينظر إليهم أحيانا على أنهم متواصلون عدوانيون ومتسلطون في صرامتهم.

- إنهم من النوع الذي عندما يعملون على مشروع فأنهم يقضون الليل وحتى وقت متأخر حتى يفي بمعاييرهم.

- يجب أن تكون المحادثة مع المتحكم قصيرة وبلطف ومباشرة.

في مكان العمل، يميل هؤلاء الأشخاص إلى أن يكونوا قادة يتمتعون بمهارات الاتصال ولكنهم يميلون إلى الظهور على أنهم متسلطون. بشكل صريح ومباشر. إنهم يوجزون الكلمات ويتوقعون نفس الإيجاز في المقابل. إنهم يريدون معرفة العوامل المهمة ولكن ليس لديهم وقت للتفاصيل الصغيرة. لا تضيع وقتهم بمعلومات غير ضرورية، لأنهم لن يبالغوا في الشرح عند إعطاء مشروع لك. عند التواصل مع المتحكم توقع اكتشاف الكثير من الأشياء أثناء النقاش لأنهم لن يقضوا الكثير من الوقت في الشرح.

المروج / الاجتماعي

أسلوب التواصل مع المروج متحمس ومدفوع بالناس. المروج هو الشخص الذي يتمتع بالخصائص التالية.

- سيقضون ساعات في الحديث عن خطط عطلة نهاية الأسبوع الخاصة بهم ولكنهم سيقومون أيضا بتفصيل المشروع من البداية إلى النهاية، مما يوفر التفاصيل الأكثر تعقيدا.

- إنهم متحمسون وجذابون وليسوا قلقين للغاية بشأن أخذ أنفسهم على محمل الجد.

- هم ممتازون في التواصل الفعال بين الأشخاص.

- من السهل استكشافهم لأنهم عادة ما يمثلون الفراشات الاجتماعية في المكتب.

- إنهم يتحدثون دائما عن حياتهم وخططهم وطموحاتهم، ويسارعون إلى سؤالك عن الشيء نفسه.

- إنهم يحبون توصيل رسالة شخصية عند التحدث مع الزملاء وتلبية مشاريعهم ومحادثاتهم مع جمهورهم.

- أساليب التواصل اللفظي وغير اللفظي لديهم مفتوحة وصادقة ومتحمسة. وهذا يجعل من السهل التعامل معهم بالأسئلة أو التعليقات في مكان العمل.

- يسعدهم تقديم شرح إضافي لمشروع أو عميل ويحبون المساعدة حيثما أمكنهم ذلك.

يمكنك الذهاب إليهم بسؤال سريع وستفقد ساعة من الوقت لأنهم سيقفزون إلى مجموعة من الموضوعات المختلفة. هم ليسوا موجهون نحو التفاصيل بقدر ما نحو الناس والخبرة. عند التعامل مع المروج، اطرح عليه أسئلة شخصية وتوقع أن يقوم بطرحها عليك في المقابل.

المحلل / المفكر

- منظم وذكي، يحب المحلل الحقائق والتفاصيل المعقدة. هذا النوع له الخصائص التالية.

- إنهم منظمون للغاية ويجعلون التنظيم وفهم جميع جوانب المشروع أولوية قبل أي شيء آخر.

- هذا النوع من التواصل عميق ومدروس وتحليلي وعادة ما يكون أكثر جدية من المتصلين الآخرين.

- إنهم يريدون الحصول على جميع الحقائق قبل اتخاذ قرار أو تنفيذ فكرة أو مبادرة يمكن أن تكون محبطة لأعضاء الفريق الذين يرغبون في المضي قدما في المشروع.

- تتطلب هذه الأنواع اتصالا عالي السياق ولكنها لا تبدو حازمة أو عدوانية بشكل مفرط ولكنها متهمة بالتشكيك والمضاربة. لكن عقليتهم التحليلية تعني أنهم ينظرون دائما إلى الصورة الكبيرة بناء على مجموعة من التفاصيل المعقدة.

- يمكن أن ينظر إليهم في بعض الأحيان على أنهم متواصلون متشائمون.

- في مكان العمل، تحتاج هذه الأنواع إلى كل الحقائق في أسرع وقت ممكن. إنهم يريدون تحليل المشروع والتحقيق فيه وفهمه من جميع الزوايا.

عند التعامل مع محلل، تأكد من أن لديك كل الحقائق وحددت مشروعا بالتفصيل قبل لفت انتباهه إليك. استعد أيضا للأسئلة — لأنهم سيكثرون منها عليك و قد يكون هذا محبطا. قد يجعلك تشعر ببعض السخافة أو الغباء بسبب ترددهم في تصديقك أو تقبل فكرتك أو رؤيتك تماما -  ولكن هذا فقط لأنهم يحاولون فهمها بأكبر قدر ممكن من الدقة. يتطلب المحللون الصبر، لكن المردود من التعامل معهم يستحق ذلك. وبالمثل، توقع عرضا تقديميا متعمقا عند إعطاء مشروع من قبل محلل.

الداعم / المواصل

- الهدوء والبرود هو طريقة دقيقة نسبيا لوصف الداعم. هذا النوع من الشخصية له الخصائص التالية.

- إنهم محبوبون ومتساهلون في مشاعرهم وطرق العمل والتفاعل مع الزملاء.

- لديهم مهارات اتصال ممتازة مع الأشخاص وهم دائما منفتحون للحديث عن المزيد من الموضوعات الشخصية -  على الرغم من أنهم لا يبحثون عنها بشغف مثل المروج.

- هذا النوع من التواصل هو الأكثر شيوعا الذي يمكن العثور عليه داخل وخارج مكان العمل لأنهم حريصون على النجاح على الرغم من المحتوى والهدوء في سعيهم.

- يتفوق الداعمون في حل النزاعات لأنهم عادة ما يكونون متزنين للغاية. إنهم مستمعون رائعون ويذهب إليهم الكثيرون بمشاكل ومخاوف.

- هم محبوبون من قبل معظم الناس.

عند التفاعل مع أحد الداعمين في مكان العمل، توقع شخصا هادئا ويسهل الاقتراب منه. إنهم منفتحون ومرحبون للغاية، لكن من الجيد ألا تكون متطرفا جدا في نهجك. إنهم يتطلبون نوعا من الاتصال يقع بين الاتصال عالي السياق والاتصال منخفض السياق. ابدأ ببطء عند التعرف عليهم وتوقع اكتساب الثقة خطوة بخطوة. الداعمون موثوقون وفعالون للغاية، لذا لا تبالغ في استكشاف ذكائهم أو محاولة تقويضه. تحدث إليهم كما لو كنت تتحدث إلى صديق جديد ( أن تكون مترددا في القصص الشخصية ولكنك منفتح على المحادثة غير الرسمية).

يتواصل الجميع بشكل مختلف -  وفهم كيفية تواصل الشخص أمر حيوي لفهم كيفية عمله والتعامل معه. كما أنه أمر حيوي لبناء علاقات في مكان العمل ومساعي تجارية ناجحة. والأمر متروك لك لمعرفة كيف تتشابك أنماط الآخرين أو تتعارض مع أسلوبك.

 يمكن أن يكون التواصل لفظيا وغير لفظي و من المهم ملاحظة لغة جسد المقابل، سواء كان التواصل بالعين او اتصال غير مباشر أو مباشر. سيضمن ذلك معرفة كيفية التفاعل في المستقبل وعدم الدخول في موقف تتعارض فيها شخصيتك وأسلوب اتصالك مع شخصيتهم. التواصل في مكان العمل هو شيء يجب تعلمه أثناء التدرج، ولكن الكشف عن هذه الاختلافات والعمل نحو أرضية مشتركة للتواصل مع الأفراد الآخرين أمر حيوي ليس فقط للنجاح في مكان العمل ولكن أيضا للنجاح على المستوى الشخصي.

ما هو أسلوب الاتصال الذي تتميز به انت ؟ هل تغير أسلوبك اعتمادا على الشخص أو الأشخاص الذين تتواجد معهم، أو البيئة (المنزل، العمل، إلخ)، أو الظروف؟ أسئلة عليك أن تجيب عليها بنفسك.

***

د. احمد المغير

 

يعد الذكاء الاصطناعي فرصة هامة لحل العديد من المشاكل والتحديات التي يواجهها العراق في مجالات مختلفة مثل الصحة والتعليم والزراعة والامن والطاقة والبيئة وغيرها لما يهدف الى تطوير انظمة وبرامج قادرة على تقليد وتجسيد القدرات الذهنية والسلوكية للبشر مثل التعلم والاستنتاج والابداع والتفكير النقدي والتواصل والتعاون. ومع ذلك، يتطلب تحقيق هذا الهدف تطوير مستمر ومتابعة للتقدم العلمي والتكنولوجي الهائل الذي يحدث في هذه المجالات على مستوى العالم.

وفقا للمنظمة العالمية للملكية الفكرية التابعة للأمم المتحدة، يحتل العراق المرتبة ما قبل الأخيرة في مؤشر الابتكار العالمي. وهذا يشير الى حجم التحديات الهائلة التي يواجهها العراق والعقبات التي تعترض طريق تطوره، الأمر الذي يدعو إلى تغيير شامل. من هذه التحديات والمشاكل:

نقص الدعم الحكومي والخاص للبحث العلمي والابتكار في مجال الذكاء الاصطناعي، وعدم وجود استراتيجية وطنية شاملة ومتكاملة لتنمية هذا المجال وتشجيع الشراكات بين القطاعين العام والخاص.

نقص الكفاءات البشرية المؤهلة والمدربة في مجال الذكاء الاصطناعي، وعدم توافر برامج تعليمية وتدريبية متخصصة ومعتمدة في هذا المجال في المؤسسات التعليمية والاكاديمية.

نقص البنية التحتية التكنولوجية اللازمة لتطوير وتشغيل الانظمة والتطبيقات القائمة على الذكاء الاصطناعي، مثل الاتصالات السريعة والموثوقة والامنة والمتاحة والميسورة، والحوسبة السحابية والكمية، والمنصات والادوات والمكتبات البرمجية المفتوحة المصدر.

نقص البيانات الكبيرة والمتنوعة والموثوقة والمتاحة والمشاركة، والتي تعتبر مصدرا اساسيا لتغذية وتدريب وتحسين الخوارزميات والنماذج القائمة على الذكاء الاصطناعي، وخاصة البيانات المحلية والمتعلقة باللغة العربية والثقافة والمجتمع العراقي.

نقص الوعي والثقة والقبول والمشاركة من قبل المجتمع والمستخدمين للذكاء الاصطناعي، وعدم توافر اليات ومعايير وقوانين واخلاقيات تضمن الحماية والخصوصية والامن والمساءلة والشفافية والعدالة في استخدام الذكاء الاصطناعي.

وبالتالي، فان العراق بحاجة الى مواجهة هذه المشاكل والتغلب عليها بجهود مشتركة ومتسقة بين جميع الاطراف المعنية، وبالاستفادة من الخبرات والتجارب الدولية والاقليمية في هذا المجال، وبالتركيز على تحديد الاولويات والاحتياجات والفرص والتحديات الخاصة بالعراق، وبالتوازن بين الجوانب التقنية والاجتماعية والاقتصادية والاخلاقية للذكاء الاصطناعي والابتكار.

***

محمد الربيعي

ليس ثمة إنسان، في الوقت الحاضر، يجهل أسباب هيمنة بلدان العالم الغربي على بلدان العالم الشرقي، كما ليس ثمة ما يعتم عليه رؤية العوامل الحقيقة التي بوأت الحضارة الغربية مكان الصدارة في مضامير التنافس البارد والتصارع الساخن بين حضارة الأول وحضارة الثاني . ولكن، مع ذلك، قلما يحسّ هذا الإنسان بوطأة تلك الوقائع والمعطيات لكي يضعها نصب عينيه حين تداهمه الأحداث وتعصف به الوقائع، ويضطر، من ثم، للانغمار في أتون البحث الحلول واستنباط المعالجات .

وعليه، قد يتساءل الإنسان العربي عن سرّ استمرار تفوق العالم الغربي على نظيره العالم الشرقي، ليس فقط في المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية فحسب، بل وكذلك في الميادين الاجتماعية والثقافية والحضارية والعلمية، حتى بعد أن ظفر هذا الأخير بكل ما كان يعتقد أنها مقومات (الاستقلال) السياسي وبناء دوله (الوطنية) . بالرغم من مرور عشرات العقود من السنين على لحظات (فك الارتباط) ما بين القوى الاستعمارية التي كانت تهيمن على معظم مجتمعات بلدان هذا العالم من جهة، وبين قوى ما يسمى بالأحزاب والحركات المحلية التي كانت تسوق نفسها (كمنقذ) وحيد و(ممثل) وطني بلا منافس من جهة أخرى . هذا في حين استمرت مؤشرات هذه المجتمعات بالتدني في مضامير البناء والتردي في ميادين الإنتاج، كما لو أنها تستعيد مجددا"سيرة كينونتها الأولى يوم كانت تعيش حياة التوحش الاجتماعي والتبربر الحضاري . 

ولكي لا نذهب بعيدا"، فان ما يعطي لدول الغرب ميزة تفاضلية على دول الشرق هي المحافظة على استدامة متلازمة (الإرادة) و(القوة)، ليس فقط على مستوى التحكم باتجاهات العلاقات الدولية فحسب، وإنما على صعيد افتعال وإدارة الأزمات الإقليمية والدولية، بحيث لا تسمح بتاتا"بانفراط عقد طرفي هذه المتلازمة مهما كانت الأسباب أو مهما استجد من ظروف . وهنا نسارع الى القول ؛ ان التأكيد على تلازم هذه الثنائية من قبل دول العالم الغربي، لا يعني أنها معدومة كليا"لدى نظيرها دول العالم الشرقي كما قد يتبادر الى أذهاننا، إنما الفارق يكمن بالنسبة للأولى في الإبقاء على مستوى عال من الترابط العضوي بين طرفي تلك المتلازمة بما يجعلها في حالة من التفاعل الدائم والفاعلية المستمرة، دون السماح لأي طارئ بتعطيل ديناميتها وتنافر عناصرها . أما الفارق بالنسبة للثانية فيتحدد باستحالة قدرتها على الجمع بين طرفي تلك المتلازمة، أي بمعنى أنها قد تمتلك في فترة من الفترات (الإرادة) دون حيازة (القوة) أو بالعكس، باستثناء حالات نادرة لا يعتد بها كونها ذات طبيعة (طارئة) سرعان ما تفقد أحد القطبين ؛

أولا" - إما لأسباب ذاتية تتعلق بتورط الدولة (= السلطة) المعنية بانتهاج سياسات خاطئة وتعسفية، بحيث تستهلك طاقاتها وتستنزف قدراتها في مواجهات عبثية ضد معارضيها سياسيا"وإيديولوجيا"من جهة، وتفقد، من جهة أخرى، كل ما بحوزتها من أرصدة وطنية سابقة وشرعية مكتسبة يصعب - ان لم يستحيل – تعويضها في الأمدين القصير والمتوسط .

وثانيا"- وإما لأسباب موضوعية ترتبط بانخراط ذات الدول في تكتلات إقليمية وصراعات دولية لا ناقة لها فيها ولا جمل، وإنما لمجرد التعبير عن التزاماتها الدبلوماسية إزاء شركائها أو حلفائها ممن يتعذر عليها التنصل من املاءاتهم وشروطهم . من هنا، لا تلبث أن تسرّع عمليات استهلاك إمكاناتها الاقتصادية وقدراتها العسكرية وشرعيتها السيادية، وبالتالي تفقد في كلا الحالتين أحد تينك العنصرين من عناصر المتلازمة المذكورة .

وهكذا نلاحظ على مدى عقود القرنين التاسع عشر والعشرين – يبدو ان المؤشرات ذاتها في القرن الحادي والعشرين -ان مسار متلازمة (الإرادة) و(القوة) وما يستتبعه من رجحان كفة الدول المستعمرة (بالكسر) على الدول المستعمرة (بالفتح)، لم – ولن – ينحرف عن الاتجاه الذي اختطه لنفسه من الغرب الى الشرق، طالما استمرت هذه الأخيرة عاجزة عن حيازة أحد قطبي تلك المتلازمة، ناهيك عن إمكانية الجمع بينهما بحيث يبقى العالم الأول يضع الخطط ويصدر يأمر، ويستمر العالم الثاني بإظهار الطاعة والإذعان لينفذ مضامينها مهما كانت الخسارات والانكسارات ! . 

***

ثامر عباس

"ليست لغة العرب أغنى لغات العالم فحسب، بل إنّ الّذين نبغوا في التأليف بها لا يكاد يأتي عليهم العدّ، وإنّ اختلافنا عنهم في الزمان والسجايا والأخلاق أقام بيننا نحن الغرباء عن العربيّة وبين ما ألّفوه حجاباً لا يتبيّن ما وراءه إلّا بصعوبة"... (المستشرق الألمانيّ فرنباغ)

يرى الباحثون في تاريخ الحضارات الإنسانيّة، أنّ اللغة العربيّة كانت في مرحلة الازدهار الحضاريّ أصلاً في العلم، وروحاً في المعرفة، وشغفاً في الثقافة، ومنطلقاً للنهوض الحضاريّ. وفي هذه المرحلة استطاعت العربيّة أن تكون وطناً للعلوم الطبيعيّة والإنسانيّة في مجالات الهندسة والجبر والفلك والطبّ والفلسفة. وكانت اللغة العربيّة وثيقة الصلة بالوضعيّة الحضاريّة للأمّة، والتعريب كان دائماً هو الوجه الآخر للتعبير عن الحضارة العربيّة حضوراً وانحساراً نهوضاً وانكساراً.

فلكلّ حضارة لسان تعبّر به عن ذاتها ووجودها ولسان الحضارة العربيّة لم يكن سوى العربيّة الّتي ازدهرت في مراحل النموّ الحضاريّ، وامتدّت لتعبّر عن مختلف خلجات الحضارة العربيّة في مختلف العصور. ويقيناً أنّه عندما تضعف الحضارة يضعف لسان حالها، وتذوي لغتها وتنحدر ثمّ تنحسر.

ويمكن أن نميّز حالتين حضاريّتين أساسيّتين في تاريخ التعريب: التعريب في حالة الازدهار الحضاريّ والتعريب في حالة الانحسار الحضاريّ. حيث يأخذ الأوّل صورة المدّ الحضاريّ الشامل، بينما يأخذ الثاني صورة المحافظة على الهويّة الحضاريّة وممانعة الذوبان الحضاريّ في عصر الركود الحضاريّ الّذي تشهده الأمّة العربيّة اليوم.

بدأت حركة التعريب فعليّاً مع بداية الدعوة الإسلاميّة، حيث جمع الإسلام بلغته القرآنيّة لهجات العرب في لغة واحدة سامية هي لغة القرآن الكريم. فانطلق التعريب مع بداية الخلافة الإسلاميّة، وتجسّد ذلك في الاهتمام السياسيّ الّذي أبداه الخلفاء الراشدون باللغة العربيّة، فعملوا على تمكينها في قلوب الناطقين فيها، وفي عقولهم وعلى ألسنتهم. ويرى الباحثون أنّ أولى محاولات التعريب بدأت بـ(تعريب النقود) في عهد الخليفة الراشديّ عمر بن الخطّاب -رضي اللّه عنه- إذ ضرب الدراهم على أسماء عربيّة فجعل نقش بعضها (الحمد لله) ونقش بعضها الآخر (محمّد رسول اللّه) أو (لا إله إلّا اللّه وحده) وقد نهج على نهجه الخلفاء الّذي جاؤوا من بعده.

وقاد الخليفة الأمويّ( ) عبد الملك بن مروان أكبر عمليّة تعريب حضاريّة في تاريخ العرب شملت جميع مناحي الحياة الفكريّة والعلميّة والسياسيّة والعسكريّة، إذ قام بتعريب دواوين الدولة برمّتها، ثمّ عرب عملة الدولة المتداولة بين الناس، وقد أدّت هذه العمليّة إلى نشر اللغة العربيّة في مختلف أصقاع الدولة الإسلاميّة، وأتاحت للعرب فرصة الوصول إلى أرفع المناصب الإداريّة وأهمّها شأناً، بعد أن كان ذلك يقتصر على غير العرب، الأمر الّذي كان يضعف تكوين الدولة القوميّ، ويتناقص مع سياسة الدولة العامّة، ويوهن الثقة بين الدولة والإدارة، ولا يمكن أن تقوى هذه الثقة ما دام موظّفوها ليسوا عرباً، وما دامت لغتها غير عربيّة. لهذا فقد كان لفكرة التعريب أثرها العظيم في رفع شأن اللغة العربيّة، حتّـى غدت اللغة الرئيسيّة بعد أن كانت في عداد اللغات الأجنبيّة كسواها بالنسبة لأهل البلاد المفتوحة. وقد سار على نهجه ابنه الوليد بن عبد الملك وسائر الخلفاء الأمويّين، فعملوا على ترسيخ اللغة العربيّة الواحدة لغة الدولة والثقافة والمعرفة والمصير.

فالحضارة العربيّة الإسلاميّة انطلقت عبر حركة تعريب واسعة في مختلف المدن والمقاطعات والبلدان الّتي فتحها العرب والمسلمون في مختلف أرجاء الأرض. وقد عمل العرب على نشر لغتهم في مختلف أصقاع الدولة حتّى شمل التعريب كلّ مناحي الحياة والوجود. وكان على سكّان البلاد المفتوحة أن يتعلّموا العربيّة وأن يستفيدوا منها لدينهم ودنياهم حتّى اضطرّوا أن يتعلّموا النحو لإصلاح لغتهم. ثمّ أقبل الناس على تعلّم العربيّة، فنقلوا إليها علومهم وحتّى كتبهم المقدّسة وذلك لإظهار تراثهم الحضاريّ والثقافيّ للفاتحين ونتيجة لشعورهم برغبة المسلمين للاطّلاع على ما عند الأمم الأخرى من علوم ومعارف كما أنّ إقبال البعض من أهل البلاد المفتوحة على ذلك تحقيقاً لمكاسب مادّيّة ومعنويّة. وقد شهدت الحضارة العربيّة الإسلاميّة - كنتيجة طبيعيّة لهذه الفعاليّة التعريبيّة - نشاطاً علميّاً يندر مثيله في تاريخ العصور العلماء؛ إذ ظهرت طائفة من العلماء والمفكّرين والعباقرة في مختلف الميادين العلميّة مثل: البيرونيّ، والكنديّ، والرازيّ، وابن سيناء، والإدريسيّ، وابن باجة، وعمر الخيّام، وابن زهر، وابن طفيل، وابن رشد، وابن حزم الأندلسيّ، وكان عدد العلماء والمفكّرين يفوق التعداد والعصر، ولم تكن هذه الظاهرة حالة خاصّة بل كان هذا هو الحال العامّ في الحضارة الإسلاميّة.

وبقيت هذه الحالة قائمة حتّى مرحلة تراجع الحضارة العربيّة وانحسارها السياسيّ حيث بدأت اللغة العربيّة تتراجع وتنحسر وتذوي وتغيب تدريجيّاً حتّى آلت إلى ما هي عليه من انحدار وتصدّع في مختلف البلدان العربيّة والإسلاميّة.

ومن ثمّ استمرّت حركة التعريب على أشدّها في العهد العبّاسيّ ولاسيّما في القرنين الثامن والتاسع الميلاديّين، أي في مرحلة الازدهار الحضاريّ، أي في عهد هارون الرشيد، والأمين، والمأمون، والمعتصم باللّه. وكان المأمون الخليفة العبّاسيّ العالم المستنير (ت 833) يتفانى في خدمة العلم والمعرفة ويحثّ العلماء عليّ طلب العلم، ويضع المكافآت الثنيّة لهم، وقد أنشأ لهم بيت الحكمة لتكون أكاديميّة البحث العلميّ ببغداد تحت رعايته الشخصيّة. وأقام به مرصداً ومكتبة ضخمة. كما أقام مرصداً ثانياً في سهل تدمّر بالشام. وجمع المخطوطات من الدنيا كلّها لتترجم علومها.

ويروي المؤرّخون أنّ بيت المال أيّام المأمون كادت تنفّذ خزائنه من كثرة ما كان يدفع أجراً للمترجمين. ويروي الثقات من أهل العلم أنّ حنين بن إسحاق كان يتقاضى وزن ما يترجم ذهباً، ولمّا كان الرجل نحيلاً وحريصاً على نموّ ثروته، فقد كان يكتب بخطّ كبير الحجم، كما كان يكتب على لوحات ثقيلة، ولا غرابة في هذا المسلك فيما وصلت إليه أمّة الإسلام في ذلك العصر من عزّ ومجد حضاريّ وثقافيّ واجتماعيّ كان نتاجاً طبيعيّاً لحصيلة العلم والرغبة في المعرفة

وفي عهد المأمون شهدت الدولة الإسلاميّة أعظم نهضة علميّة حضاريّة في تاريخ الأمّة؛ فظهرت الجامعات الإسلاميّة لأوّل مرّة بالعالم الإسلاميّ قبل أوروبا بقرنين. وكانت جامعة بيت الحكمة أوّل جامعة أنشئت في بغداد سنة 830 م، ثمّ تلاها جامعة القرويّين سنة 859 م في فاس، ثمّ جامعة الأزهر سنة 970 م في القاهرة. وبالمقارنة فإنّ أوّل جامعة في أوروبا أنشئت في "سالرنو" بصقلّيّة سنة 1090م على عهد ملك صقلّيّة روجر الثاني. وقد أخذ فكرتها عن العرب هناك. ثمّ تلاها جامعة بادوفا بإيطاليا .

ومع ضعف الدولة العربيّة في بغداد وسقوط الدولة العبّاسيّة عام 1258 بدأت اللغة العربيّة تشهد تراجعاً كبيراً وانحساراً في مختلف مناحي الحياة والوجود ولاسيّما في مجال العلوم والمعارف، ويلاحظ الباحثون أنّ اللغة العربيّة بدأت تأفل مع أفول الحضارة العربيّة وتراجعها.

وفي ظلّ الدولة العثمانيّة (1299-1923) تراجعت اللغة العربيّة، وأصبحت اللغة التركيّة هي لغة الدواوين والإدارة والاقتصاد وبقين هذه الحالة قرابة أربعة قرون عجاف أدّت إلى انحسار كبير في اللغة العربيّة وتراجعها في مختلف الميادين. وكانت الطامّة الكبرى بوصول جمعيّة الاتّحاد والترقّي الطورانيّة إلى السلطة في الدولة العثمانيّة، إذ بدؤوا بعمليّة "تتريك" واسعة شاملة لمختلف مناحي الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة في البلدان العربيّة أو الناطقة بها. وتعدّ حركة "التتريك" الّتي تعرّضت لها اللغة العربيّة أولى لمحاولات السياسيّة الممنهجة للقضاء على اللغة العربيّة في ديارها وإحلال اللغة التركيّة بديلاً عنها، وحدث ذلك في بداية القرن العشرين، إذ قام الأتراك "بتتريك" الدواوين والجيش والتعليم. ومنع استخدام اللغات غير التركيّة في الإعلام والتدريس كما فرض على جميع سكّان تركيّا تبنّي أسماء تركيّة، وحوّلت أسماء الكثير من المدن (ومنها العربيّة في الجنوب) إلى أسماء تركيّة. كذلك منعت المطبوعات والأنشطة الثقافيّة بغير اللغة التركيّة، وحول الأذان من العربيّة إلى التركيّة.

وبرهنت العربيّة مرّة ثانية في العصر الحديث، بأنّها صنوّ العلم، وحاضن المعرفة، وملهم الثقافة، حتّى أتى يوم من الدهر أصبحت فيه قصيّة مستبعدة، بعدما أخرجت من عرينها الأكاديميّ، فهزمت في عقر دارها وفي فضاء أوطانها. وقد جاء هذا البرهان العظيم على يد محمّد علي باشا، والي مصر، الّذي تسلّم مقاليد السلطة في مصر عام 1805، فأسّس دولة عربيّة حديثة تقوم على العلم والمدنيّة؛ ثمّ أرسل البعثات الدراسيّة إلى أوربا، وفتح عدداً من المدارس العسكريّة والطبّيّة والهندسيّة، واعتمد اللغة العربيّة لغة رسميّة في مختلف مناحي الحياة العلميّة والسياسيّة والأكاديميّة، فعادت اللغة العربيّة مجدّداً لغة الدولة الرسميّة، وغدت لغة التدريس في جميع المدارس الجديدة والمؤسّسات التعليميّة الناهضة.

وفي هذه المرحلة الجديدة، من حكم محمّد علي باشا، استطاعت اللغة العربيّة أن تثبت جدارتها، ولاسيّما عندما أنشأ محمّد علي باشا أوّل كلّيّة للطبّ في أبي زعبل بمصر عام 1826، فجعل من العربيّة لغة التدريس والبحث العلميّ فيها، وكانت هذه الكلّيّة أعظم مؤشّر على مظاهر النهضة العلميّة الّتي انطلقت في عهده حيث برهنت اللغة العربيّة قدرتها الهائلة على احتواء العلوم وقدرتها على أن تكون لغة التدريس والحوار والإبداع طيلة سبعين عاماً برز خلالها الكثير من الأساتذة والمترجمين الّذين خدموا العربيّة خدمات جليلة.

ويروي الثقات أنّ محمّد علي استقدم الأساتذة الأجانب للتدريس في الكلّيّة بداية، وجعل لهم مترجمين يترجمون الدروس في قاعات المحاضرات، وخلال هذه الفترة ألف الأطبّاء والباحثون في الطبّ في هذه الكلّيّة 53 كتاباً مرجعيّاً في الطبّ. وهكذا عمل الاستعمار البريطانيّ على قهر اللغة العربيّة، وأخرجها من عقر دارها ليجعل من اللغة الإنكليزيّة لغة التعليم الطبّيّ في الجامعات والمؤسّسات العلميّة.

وهكذا انطلقت اللغة العربيّة لتأخذ طريقها إلى دنيا العلوم والحضارة الحديثة، ولم يكتف محمّد علي بتأسيس كلّيّة الطبّ فحسب، بل أسّس مدارس ومؤسّسات ومعاهد في الطبّ والهندسة والزراعة والعسكريّات، وكانت اللغة العربيّة في كلّ هذه المؤسّسات لغة التعليم والخطابة والتأليف والنشر.

 ومن أعظم ما قدّمه محمّد علي للعربيّة هو افتتاحه مدرسة الألسن عام 1836 الّتي شكّلت معلّماً بارزاً من معالم النهوض باللغة العربيّة الفصحى وتطويعها لاستيعاب العلوم الحديثة واحتواء مصطلحاتها بعد ذلك الانقطاع الطويل بين الفصحى والعلم عصوراً متتابعة. ولابدّ من الإشارة في هذا السياق إلى تلك الحماسة الّتي كانت تملأ النفوس، والإخلاص الّذي كان يعمّر القلوب لدى أولئك العلماء الّذين عملوا بطريقة عبقريّة فذّة على نقل العلوم الحديثة وترجمتها إلى اللغة العربيّة.

ويمكن الإشارة في هذا السياق إلى المصلح الكبير رفاعة الطهطاوي الّذي اشتغل بالترجمة في مدرسة الطبّ، فعمل على تطوير مناهج الدراسة بالعربيّة في العلوم الطبيعيّة، وإليه يعود الفضل في افتتاح مدرسة الترجمة عام 1935 الّتي صارت فيما بعد مدرسة الألسن، وعيّـن مديراً لها، إلى جانب عمله مدرّساً بها. وفي هذه الفترة تجلّى المشروع الثقافيّ الكبير لرفاعة الطهطاوي؛ ووضع الأساس لحركة النهضة باللغة العربيّة، إذ ساعد فريق من العلماء والمفكّرين بترجمة متون الفلسفة والعلوم والتاريخ الغربيّ، ونصوص العلوم الغربيّة المتقدّمة، إلى اللغة العربيّة.

 وقد أنشأ الطهطاويّ أقساماً متخصّصة للترجمة في مجالات الرياضيّات والطبيعيّات والإنسانيّات، وكان من أعظم ما قدّمه للّغة العربيّة استصدار قرار تدريس العلوم والمعارف باللغة العربيّة (وهي العلوم والمعارف الّتي تدرس اليوم في بلادنا باللغات الأجنبيّة)، وكان قد أصدر صحيفة الوقائع المصريّة بالعربيّة بدلاً من التركيّة؛ هذا إلى جانب عشرين كتاباً من ترجمته، وعشرات غيرها أشرف على ترجمتها. ويرى الباحثون في هذا السياق أنّ المدارس الطبّيّة والهندسيّة والعلميّة نجحت في التدريس باللغة العربيّة مدّة ستّين عاماً متّصلة، وخرجت لنا أفضل العلماء والباحثين والمفكّرين.

غير أنّ الإنجليز، حين احتلّوا مصر عام 1883، سارعوا إلى جعل التدريس في كلّيّة الطبّ بالإنجليزيّة؛ وكان ذلك انتكاساً أصاب العربيّة وأهلها في عرين العروبة من جديد. وهكذا، وبعد ستّين عاماً من التدريس والبحث العلميّ، اتّخذت الحكومة المصريّة تحت ضغط السلطات الاستعماريّة قراراً بإقصاء العربيّة وتبنّي اللغة الإنكليزيّة فيها عام 1887 بعد أن كانت حركة التعريب للعلوم المختلفة قد سارت بخطى ثابتة، فأبدع عدد من العلماء والمفكّرين، وألّفوا كتباً حيّة أصيلة في مجال علوم النبات والحيوان والفيزياء والجيولوجيا والرياضيّات والصيدلة والنجوم والفلك.

أمّا في بلاد الشام، فقد عملت الإرساليّات التبشيريّة للدول الأجنبيّة في القرن التاسع عشر على تدريس العربيّة، وسعت إلى نشرها؛ مدفوعة بدوافع سياسيّة تهدف إلى تقويض الخلافة العثمانيّة الّتي بالغت في أواخر عهدها في تتريك العرب وإجبارهم على التخلّي عن لغتهم.

وقد تمّ إنشاء الكلّيّة السوريّة الإنجيليّة في بيروت الّتي سمّيت فيما بعد بالجامعة الأمريكيّة ببيروت عام 1866، وأنشئت بعدها عام 1883 مدرسة الطبّ اليسوعيّة، وكان الطبّ يعلّم فيها باللغة العربيّة حتّى اللحظة الّتي وقعت فيها لبنان وسوريا تحت الاستعمار الفرنسيّ، فتحوّل تعليم الطبّ في هاتين الكليّتين إلى الإنجليزيّة والفرنسيّة. وشهدت هذه الحركة التعريبيّة نشاطها الكبير في هذه الكلّيّة، فظهرت مؤلّفات المستشرقين الأمريكان، من أمثال: كرفيلوس فانديك، ويوحنّا، وجورج بوست، بمعاونة أساتذتهم العرب من أمثال بطرس البستانيّ، واليازجيّين ومنهم: ناصيف وإبراهيم، ويوسف الأسير، وأحمد فارس الشدياق، تغطّي برامج الدراسة في علوم الطبّ والفيزياء والكيمياء والصيدلة والرياضيّات والفلك وسواها بلغة عربيّة سليمة ومستوى علميّ جيّد، ولم يخطر ببال روّاد النهضة الحديثة، عرباً أو أجانب من المخلصين، التدريس بغير العربيّة، تطبيقاً لمنطق علميّ براغماتيّ بسيط ما زال هو المنطق العمليّ الصحيح اليوم.

وفي سوريا أسّست كلّيّة الطبّ في دمشق عام 1919، وكانت تدرس الطبّ باللغة العربيّة، واستمرّت فيه حتّى اليوم، على الرغم من محاولات الانتداب الفرنسيّ لفرض اللغة الفرنسيّة فيها .

ويمكن القول في هذا السياق أنّ الجهود العربيّة في المجال العلميّ، والّتي بدأت في عهد النهضة تعدّ حلقة من سلسلة متواصلة لدعم التراث العلميّ العربيّ وتطويره، "وقد واجهت هجمة استعماريّة شرسة، عصفت بتلك الجهود إثر استعمار الوطن العربيّ من محيطه إلى خليجه، هذا الاستعمار أدّى بدوره إلى قتل روح الإبداع، ومنها البذرة الأولى وهي التدريس باللغة العربيّة في المجالات العلميّة في مناطق الشام ومصر وتونس؛ ممّا أدّى إلى النزوح عن اللغة العربيّة، وهجرها كلغة تدريس، والتدريس بلغة المستعمر الأجنبيّ الإنجليزيّة في المشرق والفرنسيّة في المغرب العربيّ" (خريوش، 1997) .

وكذلك فعلت الجامعة الأمريكيّة في بيروت مدّة ثماني عشرة سنة في مطلع عملها وما فعلته جامعة دمشق في سوريا العربيّة منذ مطلع القرن العشرين، ولا تزال حتّى الآن، حيث قامت هذه الجامعة بتعريب عمليّة التدريس بشكل شبه كامل، وخرج إلى النور عدد لا يستهان به من الكتب الّتي تشكّل قواميساً للموادّ العلميّة الّتي تدرس في الجامعات وخاصّة الطبّيّة منها. (الحمود، 2005).

بدأت حركة التعريب في العالم العربيّ في عصر النهضة العربيّة الحديثة في أوائل القرن التاسع عشر، وساهمت في إحياء الثقافة العربيّة بعد زمن طويل من الركود اللغويّ والفكريّ، وكان لها إسهامات كبيرة في مسيرة التحرّر من الاستعمار وآثاره اللغويّة وغيرها، إضافة إلى الدور الفاعل لمجامع اللغة العربيّة في بعض الدول العربيّة، والإسهامات الكبيرة لبعض علماء اللغة والعاملين بالترجمة مثل أحمد فارس الشدياق وبطرس البستانيّ.

ولكنّ حركة التعريب في الوقت الحاضر تعاني من ركود، مقارنة بغيرها من دول العالم المتقدّم وغير المتقدّم غير الناطقة باللغة الإنجليزيّة مثل أرمينيا واليونان وتركيّا وكوريا والصين وأندونيسيا واليابان وألمانيا ممّن تستخدم اللغة القوميّة في التعليم الجامعيّ.

مع انحسار الاستعمار الغربيّ في البلدان العربيّة، وظهور ملامح الدولة الوطنيّة القوميّة بادرت الحكومات العربيّة إلى مواجهة قضيّة التعريب من جديد، وبدأت الجهود العربيّة تتعاظم في مجال تعريب الحياة السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة. وجاء التعبير عن هذه المرحلة من جديد كبير من القرارات السياسيّة الّتي أرادت للعربيّة أن تعيد للعربيّة أمجادها بوصفها لغة الحياة والوجود. وقد ترافقت هذه الجهود السياسيّة بولادة مجاميع اللغة العربيّة في مختلف الأقطار وتقاطر الجهود والقرارات الّتي أرادت للعربيّة أن تكون لغة الأمّة والدولة والوطن.

خلاصة:

شهدت اللغة العربيّة نهضتها العظيمة ووحدتها الكبرى في التجلّيات القرآنيّة للحضارة الإنسانيّة، فاتّحدت لهجات العرب العديدة في لغة عربيّة فصيحة واحدة هي لغة القرآن الكريم. وشهدت هذه اللغة تأكيداً لحضورها وتفانيا في تأصيل قوّتها ووجودها في العهد الراشديّ العظيم.

ثمّ كان العصر الأمويّ الّذي كان عصر العروبة والتعريب بامتياز. واستمرّت العربيّة في تقدّمها في العصر العبّاسيّ الأوّل عصر الازدهار العظيم، فتحوّلت العربيّة إلى لغة الدنيا والحضارة والناس في مشرق الدنيا وفي مغاربها.

وبدأ عصر الانحسار مع ضعف الدولة العربيّة وانهيارها؛ ومن ثمّ سقوطها على يد المغول والتتار في عام 258 ، فكانت المأساة الّتي تعاظمت مع الخلافة العثمانيّة، واشتدّت مخاطرها مع الهجمة على اللغة العربيّة في العهد الطورانيّ حيث تعرّضت اللغة العربيّة لعمليّة تتريك شاملة. وهكذا بقيت اللغة العربيّة أسيرة الضعف والانحلال والإقصاء على مدى أربعمائة سنة من عهد العثمانيّين والأتراك.

وفي عصر النهضة انتفضت العربيّة من جديد بجهود النهضويّين العرب والمفكّرين،  وكانت مرحلة محمّد علي هي مرحلة النهوض العظيم للّغة العربيّة، ولكنّ هذه المرحلة لم تستمرّ طويلاً فجاء الاستعمار الغربيّ ليقلّب الموازين ليقصي اللغة العربيّة عن التعليم والحياة العلميّة؛ ومن ثمّ لينادي باللغات الأجنبيّة والإنكليزيّة لغات للمعرفة والعلم والتدريس. وما يؤسف عليه أنّ تأثير الاستعمار الغربيّ ما زال قائماً، وما زالت اللغة العربيّة قصّيّة نائية عن مقاصدها الحضاريّة والثقافيّة باستمرار هذا الاستعمار في صورة الاستعمار الخفيّ الّذي يأخذ صورة علميّة جارفة ضاربة لا تقيم للّغة العربيّة وزناً أو أهمّيّة.

***

علي أسعد وطفة

جامعة الكويت

روى هذه القصة الدكتور إبراهيم البعيز، الأستاذ الجامعي والخبير البارز في سياسات التواصل الثقافي. وهي تدور حول لحظة اكتشاف الفجوة الثقافية التي تفصلنا عن مجتمعات الغرب. يقول إنه انضم إلى فصل يدرس العلاقات الثقافية، مخصص لطلبة الدكتوراه بجامعة ولاية أوهايو الأميركية، سنة 1983. وكان الطلاب ملزمين بكتابة تقرير أسبوعي عن قراءاتهم في الموضوع. واعتاد الأستاذ أن يحدد أفضل تقرير وأسوأ تقرير، كي يلقيه صاحبه على بقية الزملاء. في أحد الأسابيع أراد البعيز أن يكتب عن تجربته الخاصة في التواصل مع الثقافة الأميركية، فكتب ما خلاصته أنه كان حريصاً على مطالعة جوانب الثقافة الأميركية، كي يختار منها ما يلائم ثقافته وقيمه العربية.

سألني الأستاذ -يقول الدكتور إبراهيم-: هل تستطيع حقاً أن تختار؟ وهل هذي هي الطريقة الأفضل في التواصل الثقافي مع العالم؟

تلك الحادثة فتحت عيني على وهم شائع في مجتمعنا، خلاصته أننا نتخيل علاقة مع العالم تشبه رحلة التسوق: تدخل إلى «السوبرماركت»، تختار ما تريد، تضعه في العربة، ثم تدفع قيمته وتخرج. وقد سألت نفسي كثيراً، وسألت الزملاء: هل نستطيع حقاً أن نطبق «موديل السوبرماركت»؟ أن نفكك ثقافة الآخرين إلى أجزاء فنختار هذا الجزء ونترك ذاك؟

يرى الدكتور إبراهيم أن الانفتاح على العالم يتطلب –من حيث المبدأ– استعداداً لتقبل التغيير، أي التخلي عن المخزون الثقافي الذي ورثناه، أو حُشيت به أدمغتنا، أو اخترناه في سياق تجربتنا المعيشية، وأن نستبدل به منظومة جديدة قادرة على إثبات أفضليتها؛ لا سيما قدرتها على استيعاب تحديات الحاضر، والوفاء بحاجات المجتمع الثقافية والحياتية. هذا يعني –إلى حد كبير– تبديل النظام الثقافي نفسه، وليس استبدال عناصر محددة. أجزاء الثقافة الأجنبية التي ربما نفكر في انتقائها ليست قطعاً صلبة قائمة بذاتها.

إنها أشبه بأجزاء رواية أو قصيدة، تصمم ضمن منظور شامل يجمعها بسائر الأجزاء. تخيل أنك أخذت فقرة من رواية فيكتور هيغو «البؤساء» وأقحمتها وسط صفحة من رواية نجيب محفوظ «ثرثرة فوق النيل»، فهل ستندمج وتمسي جزءاً من نسيجها.

نحن نجادل كثيراً في أن الانتقاء هو الخيار الوحيد المتاح، وأننا لا نستطيع الأخذ بعناصر الثقافة والقيم الغربية، إذا تعارضت مع ثقافتنا أو قيمنا. فهل هذا حقاً هو الخيار الوحيد، وهل هو الخيار المفيد؟

قلت لصديقي الدكتور إبراهيم، إني أنظر للمسألة من زاوية أخرى: التواصل مع الشعوب الأخرى ليس من الأمور المحبذة في موروثنا الثقافي. هناك شعور عميق بالخوف من أن يؤدي التواصل إلى خلخلة الالتزام الديني؛ لا سيما إذا كان الطرف الآخر في التواصل أقوى مادياً أو ثقافياً. ونتذكر على سبيل المثال أن السفر للخارج لم يكن موضع ترحيب من جانب الزعماء الدينيين؛ بل ربما تشدد بعضهم فاعتبره حراماً، إن لم يكن لحاجة ماسة. وكذا التواصل مع القادمين إلينا من خارج إطارنا الثقافي؛ لا سيما إن كانوا غير مسلمين.

في وقت لاحق، تراجع هؤلاء؛ لأن الناس لم يطيعوهم، فطُرحت فكرة الانتقاء مما عند الآخرين بوصفها بديلاً معقولاً في تلك الظروف. وفي الوقت الحاضر يتحدث جميع الناس عن هذا النوع من التبادل، أي «موديل السوبرماركت»، باعتباره الخيار الأمثل.

حسناً، إذا كنا سنختار ما يلائم ثقافتنا وأعرافنا، فهذا يعني أن ثقافتنا وأعرافنا هي المعيار والميزان الذي نقيس عليه بضائع الآخرين. فهل نؤمن –حقاً– بأنَّ ثقافتنا وأعرافنا بلغت هذا المستوى؟.

إذا كان الأمر على هذا النحو، فلماذا نأخذ مما عند الآخرين، لماذا لا نكتفي بالذي عندنا؟.

واقع الأمر أنَّنا نأخذ بثقافة الآخرين؛ لأن ثقافتنا متخلفة، عاجزة عن استيعاب تحديات الحياة في عصرنا، فكيف يكون الفاشل معياراً يوزن به الناجحون؟.

***

د. توفيق السيف

 

استراتيجيات التخاطب اللغوية والصياغة القانونية (السمات النحوية والدلالية) في التفاوض

في عالم المفاوضات، تلعب استراتيجيات التخاطب اللغوية والصياغة القانونية (السمات النحوية والدلالية) دورا حاسما في تشكيل التفاعلات وتحقيق نتائج ناجحة. تشير السمات النحوية إلى الجوانب الهيكلية للغة، بما في ذلك ترتيب الكلمات وبنية الجملة والأنماط النحوية. يتم استخدام هذه الميزات في المفاوضات لعدة أسباب، بما في ذلك تعزيز الوضوح، وإدارة ديناميكيات السلطة، وإقامة علاقة، والتأكيد على النقاط الرئيسية، ونقل المعلومات بشكل فعال. سوف يتعمق هذا المقال في أهمية السمات النحوية في المفاوضات ويستكشف كيفية مساهمتها في التواصل الفعال وتحقيق النتائج المرجوة.

أولا، يتم استخدام السمات النحوية في المفاوضات لتعزيز الوضوح وتقليل سوء الفهم. غالبا ما تتضمن المفاوضات أفكارا معقدة ووجهات نظر متعددة، واستخدام بنية الجملة المناسبة وترتيب الكلمات يمكن أن يساعد في نقل هذه الأفكار بدقة. ويضمن التواصل الواضح من خلال بناء الجملة الدقيق أن كلا الطرفين يفهمان تمامًا مواقف بعضهما البعض ويتجنبان أي ارتباك أو سوء تفسير غير ضروري. على سبيل المثال، يمكن أن يساعد استخدام توافق الفعل والموضوع المناسب ووضع الكلمات المناسب في التعبير عن النوايا والمطالب بوضوح، دون ترك مجال للغموض.

 تعد استراتيجيات التخاطب اللغوية والصياغة القانونية (السمات النحوية والدلالية) ضرورية لإدارة ديناميكيات القوة في المفاوضات. ومن خلال استخدام تركيبات نحوية محددة، يمكن للمفاوضين تأكيد الهيمنة أو التأكيد على المساواة. على سبيل المثال، يمكن أن يؤدي استخدام الجمل الآمرة أو الأوامر المباشرة إلى إنشاء السلطة والإشارة إلى موقف قوي، في حين أن استخدام لغة أكثر مؤقتة أو مهذبة يمكن أن يدل على التعاون. يتيح هذا النشر الاستراتيجي للميزات النحوية للمفاوضين تشكيل ديناميكيات المحادثة والتأثير على النتيجة لصالحهم.

 تعتبر السمات النحوية ضرورية لإقامة علاقة وتطوير الاتصالات بين الأشخاص أثناء المفاوضات. يمكن أن تكون المفاوضات في كثير من الأحيان متوترة ومتعارضة، ولكن من خلال استخدام بعض الهياكل اللغوية، يمكن للمفاوضين تعزيز الشعور بالتفاهم والتعاون. على سبيل المثال، يمكن أن يؤدي استخدام لغة شاملة مثل "نحن" أو "أنتم" بدلا من "أنا" أو "أنت" إلى إنشاء هوية مشتركة وتعزيز التعاون بين الأطراف المتفاوضة. ومن خلال استخدام هذه الآليات النحوية، يستطيع المفاوضون بناء علاقة، وتسهيل الثقة، وخلق جو أكثر إيجابية يفضي إلى التوصل إلى اتفاقيات مفيدة للطرفين.

 يتم استخدام السمات النحوية في المفاوضات للتأكيد على النقاط الرئيسية وتسليط الضوء على المعلومات المهمة. غالبا ما يكون لدى المفاوضين أهداف محددة أو نتائج مرغوبة، واستخدام الهياكل النحوية المناسبة يمكن أن يساعد في لفت الانتباه إلى هذه العناصر الحاسمة. ومن خلال استخدام تقنيات مثل التوازي أو التكرار، يستطيع المفاوضون التأكيد على حججهم وإحداث تأثير دائم. تجذب هذه السمات النحوية انتباه الطرف الآخر وتعزز أهمية مواقف المفاوض، مما يزيد من احتمالات النجاح.

 تسمح الميزات النحوية للمفاوضين بنقل المعلومات بشكل فعال. غالبا ما تتضمن المفاوضات تبادل الحقائق والأرقام والمقترحات، وباستخدام تراكيب الجمل والأنماط النحوية المناسبة، يضمن المفاوضون النقل الدقيق لهذه المعلومات. على سبيل المثال، يمكن أن يساعد استخدام بناء جملة واضح وموجز في تلخيص البيانات المعقدة أو تقديم المقترحات بدقة. وهذا يسهل التفاهم ويمكّن كلا الطرفين من اتخاذ قرارات مستنيرة، مما يؤدي إلى مفاوضات أكثر فعالية.

 يتم استخدام السمات النحوية في المفاوضات لإثارة الاستجابات العاطفية والتأثير على الحكم. إن الطريقة التي يتم بها تقديم المعلومات من خلال تركيب الجمل واختيار الكلمات يمكن أن تؤثر على الحالة العاطفية للطرف المفاوض الآخر. باستخدام بعض السمات النحوية مثل الأسئلة البلاغية، أو العبارات التعجبية، أو اللغة العاطفية، يمكن للمفاوضين إثارة مشاعر أو ردود أفعال معينة من نظرائهم. يمكن أن تؤثر هذه الاستجابات العاطفية على عملية صنع القرار وترجيح كفة المفاوضات لصالح المفاوض الذي يستخدم هذه التقنيات اللغوية.

وتساهم الميزات النحوية في إقناع الحجج في المفاوضات. ومن خلال استخدام تقنيات مثل استخدام علاقات السبب والنتيجة، أو الجمل الشرطية، أو الأدوات البلاغية المقنعة مثل التكرار أو الاستعارة، يمكن للمفاوضين أن يجعلوا حججهم أكثر إقناعا وإقناعا. تساعد هذه الميزات في بناء الحجج بطريقة منطقية ومتماسكة، مما يجذب العقل ويزيد من احتمال قبول الطرف الآخر للمقترحات المطروحة.

 إن استخدام السمات النحوية يسمح للمفاوضين بتكييف أسلوب تواصلهم مع السياقات الثقافية المختلفة. غالبا ما تتضمن المفاوضات أطرافا من خلفيات متنوعة، كما أن فهم ودمج السمات النحوية الخاصة بالثقافات المختلفة يمكن أن يسهل التواصل الفعال.

استراتيجيات التخاطب اللغوية في اتفاقيات كامب ديفيد (نموذجا)

شكلت اتفاقيات كامب ديفيد، الموقعة بين مصر وإسرائيل عام ١٩٧٨ نقطة تحول مهمة في العلاقة بين عدوين. وكانت هذه الاتفاقيات نتيجة لمفاوضات مكثفة بين الرئيس المصري أنور السادات ورئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن، بتيسير من الولايات المتحدة بقيادة الرئيس جيمي كارتر. لعبت

استراتيجيات التخاطب اللغوية والصياغة القانونية(السمات النحوية والدلالية) المستخدمة في اتفاقيات كامب ديفيد دورا حاسما في وضوح الاتفاقيات وخصوصيتها. ويعود الفضل في دقة التعابير وخصوصيتها ووضوحها لعلماء اللغة لدى الأطراف المعنية. وهو مالم يتوفر في أي اتفاقيات أخرى مماثلة وقعتها إسرائيل مع دول أخرى.

فأولا وقبل كل شيء، كان استخدام الجمل التصريحية في اتفاقيات كامب ديفيد سببا في ضمان اتباع نهج مباشر ومباشر في نقل شروط وأحكام الاتفاقيات. سمح هذا النمط من بناء الجملة بالوضوح وأزال أي غموض قد ينشأ عن استخدام أنواع الجمل الأخرى.

بالإضافة إلى ذلك، فإن الاستخدام المكثف للجمل المعقدة في الاتفاقيات مكن من إدراج فقرات وبنود فرعية متعددة، مما يسمح باستكشاف شامل لكل قضية يتم تناولها. سمحت هذه الميزة النحوية بإجراء فحص شامل للتعقيدات التي تنطوي عليها مفاوضات السلام وتأكدت من أخذ الجوانب المختلفة في الاعتبار.

علاوة على ذلك، استخدمت الاتفاقيات استخدام هياكل متوازية في جميع أنحاء الوثائق. وقد عززت هذه الميزة النحوية وضوح الاتفاقيات من خلال عرض الأفكار والمفاهيم بشكل متماسك ومتوازن. كما أنه سهّل الفهم وخلق إحساسا بالتماثل والتناظر بين الفرقاء، مما عزز المساواة الملموسة من الناحية القانونية بين مصر وإسرائيل.

كما استخدمت الاتفاقيات أيضا استخداما استراتيجيا للجمل المشروطة لتحديد عواقب والتزامات كلا الطرفين. ومن خلال ذكر الشروط والنتائج المتوقعة، أتاحت هذه الميزة النحوية فهما واضحا للتداعيات المحتملة إذا فشل أي طرف في الوفاء بالتزاماته.

كما استخدمت اتفاقيات كامب ديفيد صيغة المبني للمجهول للتأكيد على تصرفات ومسؤوليات كل من مصر وإسرائيل. وباستخدام صيغة المبني للمجهول، تم تحويل التركيز من الفرد (الأفراد) الذي يقوم بالعمل إلى الفعل نفسه، مما يؤكد الطبيعة الجماعية للاتفاقات وتعزيز الشعور بالمسؤولية المشتركة.

الميزة النحوية الأخرى المستخدمة كانت الاستخدام المكثف لأدوات العطف التنسيقية لربط الأفكار والمفاهيم ذات الصلة. وقد كفل هذا التدفق المنطقي للمعلومات وخلق سردا متماسكا، مما يسهل على كلا الطرفين فهم الترابط بين مختلف البنود والأحكام.

و استخدمت الاتفاقيات  الجمل الآمرة لنقل التعليمات والمطالب. وقد مكنت هذه الميزة النحوية المفاوضين من التعبير بوضوح عن توقعاتهم ومتطلباتهم، دون ترك مجال لسوء التفسير أو الغموض.

كما استخدمت الاتفاقيات خاصية التكرار النحوية للتأكيد على النقاط الحاسمة والتأكيد على أهميتها. ومن خلال إعادة صياغة الأفكار والأحكام الرئيسية في جميع أنحاء الوثيقة، عززت الاتفاقيات أهميتها وسعت إلى ضمان عدم إغفال أي جانب أو إساءة فهمه.

وأخيرا، استخدمت اتفاقيات كامب ديفيد علامات الترقيم بشكل فعال، وخاصة الفواصل المنقوطة والنقطتين، لبناء وتنظيم الجمل المعقدة. وقد مكن ذلك المفاوضين من تقديم أفكار ومفاهيم مفصلة دون التضحية بالتماسك والفهم.

وفي الختام، لعبت استراتيجيات التخاطب اللغوية والصياغة القانونية (السمات النحوية والدلالية) المستخدمة في اتفاقيات كامب ديفيد دورا حيويا في نقل شروط وأحكام الاتفاقيات بين مصر وإسرائيل. إن استخدام الجمل التصريحية، وهياكل الجملة المعقدة، والتوازي، والجمل الشرطية، والمبني للمعلوم والمبني للمجهول، وأدوات العطف المنسقة، والجمل الأمرية، والتكرار، وعلامات الترقيم المناسبة، كلها ساهمت في وضوح الاتفاقيات ودقتها. وقد أدت هذه الاختيارات اللغوية معا إلى تحسين فهم الوثيقة وسهولة قراءتها، مما سهل المفاوضات الناجحة ومهد الطريق لتحسين العلاقات بين مصر وإسرائيل.

***

محمد عبد الكريم يوسف

يبحث كل إنسان منا عن السعادة، فيكد وقد يشقى كثيراً لينال منها بنصيب وافر، وفي سعيه عنها بكل مرحلة من مراحل حياته يظن إن هذه السعادة الذي يرجونها ، ولكن سرعان ما يتبخر هذا المذاق السريع للسعادة ليعاود البحث عنها مجددا في جوانب أخرى من حياته.

وكل ما أدركته حتى الآن إن مبادرتي بلعبة أو حلوى الشكولاتة لطفل تغمره بالسعادة والانتماء إليك ، وتسري ابتسامته كفلق الصبح في عيني وقلبي وروحي، فتنعشني وتمدني بالطمأنينة والغبطة وطاقة روحية تملأ الكون شرقا ومحبة.

يتزايد هذا الشعور عندما أقدم هذه الهدايا البسيطة للطفل اليتيم، واربط بيدي حانية على شعره، واحتضنه فيشعر بالأمان والاهتمام والحنان، فيرمقني بنظرة امتنان وحب تغسل قلبي من أكدار الحياة، فأصفو صفاء البدر ليلة اكتماله.

قد تتداخل المشاعر عند إنجاز كتاب لي، وأفرغ من همه، فأشعر بالراحة النفسية، أو عند نجاحي في مهمة إنسانية معينة أو رسالة أبثها عبر مقالاتي، واجد رجع الصدى الجيد حولها، فأشعر بالغبطة من وصول رسالتي للناس؛ مما يشجعني على استكمال المشوار.

ولكن فرحتي تتعمق أكثر من الإنجاز عندما يسأل عني من انقطع عني لسنوات، وعاد محملا بذكريات الطفولة وأيام البراءة الأولى ، فأشعر كأنني ولدت مجددا وإني ما زلت طفلة تلهو مع صديقاتها أسفل منزلها تسمع زقزقة العصفور، وتتابع سرب الحمام، وهو يطير بجناحيه في منظومة إبداعية رائعة.

الناس عادة في سنوات العمر الأولى تحصر السعادة في أشياء مادية كالتفوق العلمي والتميز المهني، وتحقيق الذات والشهرة والنجاح المتوالي، ورغد العيش وامتلاك المال والبيوت والسيارة، والزواج الناجح والأبناء وغيرها من متطلبات الحياة الضرورية، ولا ننكر إن إشباع هذه الأهداف يحقق قدرا من السعادة المهمة، لكنها كانت سعادة مؤقتة تنتهي لفترتها بزهو اللحظات التي نعيشها من تفوق وحب وزواج وعمل، فصرنا نبحث عن معاني جديدة للسعادة لم نشرب كاساتها بعد.

وهذا يعني إن رؤيتنا للسعادة قد تتبدل من مرحلة عمرية لأخرى، ومن معطى ثقافي واقتصادي لآخر، ومن بيئة لأخرى، لكنها النهاية تعبير عن الفرح والابتهاج، وكل ما يزرع السرور في النفس البشرية، وتتباين تعريفات السعادة من مجتمع لآخر وفقا لطبيعته الفكرية والاجتماعية والدينية، كما تتباين في مفهومها لدى الفلاسفة والأدباء كل حسب تجربته مع السعادة.

ولكن بالعموم، فإننا كثيرا ما نخلط بين السعادة والمتعة، كما لاحظ سالم العنزي في مدونته، فالمتعة قصيرة الأجل وهي شعور يخص الإنسان وحده، وتكون ردة فعل على العوامل الخارجية كما تكون مؤقتة حيث أنها تؤخذ ولا تعطى المتعة شعور يرتبط بالأخذ، وتعتمد كيميائياً على الدوبامين (مادة كيميائية تتفاعل في الدماغ لتؤثر في كثير من الأحاسيس والسلوكي).

قد تتحقق المتعة بشعور البهجة أو الفرح عند القيام بعمل يسبب المتعة. وتختلف مصادر.

المتعة من شخص لآخر، فمنهم من يشعر بالمتعة عند القراءة، ومنهم من يشعر بالمتعة.

عند الاستماع إلى الموسيقى، ومنهم من يشعر بالمتعة عند ممارسة الرياضة، وغيرها.

بينما السعادة الأطول أجلا فهي شعور يتأثر به من حولك، وقد تكون ردة فعل على إنجازات على المستوى الشخصي.

وتتميز بأنها تعطى ولا تؤخذ

السعادة شعور يرتبط بالعطاء، وتعتمد كيميائياً على السيروتونين (إحدى الناقلات العصبية، وتلعب هذه المادة دورا مهما في تنظيم مزاج الإنسان )

وترتبط السعادة برضى الإنسان عن حياته بمختلف جوانبها الشخصية والعاطفية و.

الاجتماعية والمهنية أيضاً، بما ينعكس على الحالة المزاجية للفرد تجعله أكثر استقرارا.

نفسيا.

تختلف نظرة كبار المفكرين والفلاسفة للسعادة وفقا لخبراتهم الحياتية ومعتقداتهم الدينية والفلسفية للحياة. فمارتن لوثر، يرى إن الأشخاص الذين لا يبحثون عن.

السعادة، هم غالباً ما يجدونها، لأن أفضل طريقة لنسيان السعادة، هي في البحث عنها.

عند الآخرين.

بينما ستيف مارابولي، يعتقد إن السعادة هي ليست غياب المشاكل، وإنّما القدرة على.

التعامل مع هذه المشكلات.

ويعتبر كاري جونز، أن سر السعادة يكمن في الحرية، ويكمن سر الحرية في.

الشجاعة.

ويربط البعض بين السعادة والعطاء، وليس الأخذ، مثل غاندي، الذي يرى أن السعادة تتوقف على ما تستطيع إعطاءه ، لا على ما تستطيع الحصول عليه.

وأيضا، إن فرانك، يذهب إلى اعتبار الأشخاص السعداء، هم الذين يجعلون من حولهم يشعرون بالسعادة والسرور.

هذا التعدد لمفاهيم السعادة لدى المفكرين والمصلحين والفلاسفة إنما تعكس حقيقة اختلاف السعادة من شخص لآخر حسب تركيبته الجينية والميول الوراثية وخبراته.

الحياتية وتربيته ومعتقداته، وطرق التكيف مع الشدائد والمحن.

فقد يجد البعض السعادة في الأشياء البسيطة، بينما يحتاج البعض الآخر إلى تجارب أكثر.

تعقيدًا ليشعروا بالسعادة.

وقد تختلف نظرتنا إلى السعادة بحسب العمر والجنس والاختلافات المعرفية ومستوى القدرات والمهارات العقلية ومع هذا قد يكون متوسطو الذكاء ومحدودي المعارف أكثر سعادة من المفكرين والفلاسفة، لأنهم يتعاملون مع الحياة ببساطة ومع مشكلاتها بتلقائية كأنها سحابة صيف، وتمر بسلام مما يشعرهم بالطمأنينة.

ذُو العَقْلِ يَشْقَى فِيْ النَّعيم بِعَقْلِهِ وأخي الجَهَالَةِ فِيْ الشَّقَاوةِ يَنْعَمُ.

تتباين النظرة إلى السعادة بين شعوب الشرق وشعوب الغرب، فبينما يعتبر الغرب عناصر الثروة أساسا للسعادة، فإن النظرة الشرقية للسعادة تتداخل فيها مقومات أخرى للسعادة كالعلاقات والاجتماعية والأسرية.

والروابط البشرية القوية والعلاقات الشخصية مهمة لتحقيق السعادة في مناطق أخرى من العالم مثل سويسرا وأيسلندا وأستراليا، تمامًا ودول شرق آسيا وأمريكا اللاتينية.

أما في المنظور الصوفي الإسلامي فتحقق السعادة عندما ينجح الإنسان في تحطيم أصنامه الشخصية من غرور وكبر وطمع وجشع وأنانية وتملك، ويتحرر من خوفه ألا من الخالق العظيم، وهنا يحدث له التخلي عن حقارة الدنيا، وحقارة نفسه الأمارة بالسوء، فيدخلا مرحلة التحلي وهي التحلي بالصفات الأخلاقية والروحية ثم مرحلة التجلي حيث يتجلى فيه نور الحق، ويرى الدنيا على حقيقتها لا تساوي جناح بعوضة، فيسلم قيادته لربه، ويشعر بالرضا والطمأنينة والسلام الداخلي مهما كان الوضع الذي يعيشه.

ختاما، فإننا بحاجة إلى تقوية روابطنا الإنسانية والأسرية الدافئة التي كانت وستظل مبعثا على السلام والأمان والسعادة، وأن نتعاون جميعا في خلق حالة جماعية من السعادة، وإن نبث روح الدعابة والفكاهة بيننا لنتجاوز الطاقات السلبية التي قد تصيبنا من جهد العمل والطموح الشاق أو الأمراض والفشل وغيره، ولنتواصل مع أدياننا السماوية والتي كرست لتبادل البشر المحبة فيما بينهم كما يتبادلون المنافع الدنيوية - فلحظة حب صادقة كفيلة بإزالة جبال الأحزان من صدورنا وزرع ياسمين الفرح والسعادة في قلوبنا وقلوب محبينا، فالحب بين البشر كفيل بخلق فردوس السعادة على كوكبنا الأرضي .

متع الله الجميع بنعمة الرضا والعطاء وإدخال السعادة الغامرة على قلب محزون.

وفي وجهة نظري أيضا إن السعادة هي الرضا والقناعة بطريقة لا تعيق الطموح والسعي إنما الرضا مهما كانت نتائج العمل والاجتهاد سواء على الصعيد الشخصي أو المهني أو العام.

والسعادة هي التناغم بين العقل والروح والقلب والجسد، وجعل حالة من التوافق والصداقة بينهم، حتى لا يتنافر كل ما بداخلك، ويدخلك في صراعات تقلق سلامك الداخلي وانسجام أركانك.

كما إن السعادة برأيي هي نابعة من النفس الداخلية فالكثير من الأشخاص يملكون كل مقومات السعادة من نجاح واستقرار مادي وأسرى ولكن لا يشعرون بنعم الله عليهم بسبب الأمراض التي تصيب قلوبهم وأرواحهم فهنا يجب علاج النفس وعقد جلسات صلح بين الروح والجسد الذي يتعامل مع المحيط بحواسه الداخلية والخارجية.

في الفترة التي كنت أعيش بها في بلد أجنبي كانوا دائما يحثونا على تعلم الاعتماد على النفس وتعلم العيش منفردين، حتى لا تكون سعادتنا مرتبطة بأشخاص ومعتمدة عليهم.

ولكن بطبيعة تربيتنا ونشأتنا كشرقيين لا يمكن أبدا فصل أنفسنا عن أهلنا وأسرتنا فنحن كائنات اجتماعية أسرية نفرح باللمة الحلوة، وتجمع الأهل والاصدقاء، ولا نستطيع العيش بمفردنا ونحن أيضا كشعوب تتسم بالعاطفة والإنسانية لا يمكننا أن نشعر بالسعادة إذا أحد أفراد أسرتنا حزين أو مريض، بل نتعاطف ونتأثر بمن حولنا بدليل شعورنا بالحزن على أهلنا في فلسطين واليمن وسوريا والسودان، وقبلها العراق وليبيا ولبنان

نحن شعوب نفقد السعادة إذا رأينا طفلاً يشعر بالبرد أو امرأة مسنة مكسورة القلب على ابنها الشهيد أو رجل جائع أو أسرة بلا مأوى.

نحن شعوب تفقد سعادتها إذا ما رأت تراجعاً في القيم والمبادئ والسلوك والأخلاق والعلم والثقافة.

نحن تعلمنا أن نحمل الهموم، فلم تكن همومنا الشخصية همنا الوحيد إنما نحمل في قلوبنا هموم أمة بأكملها.

نحاول أن نسترق بعض السعادة وبعض الوقت، ونرفه عن أنفسنا ولكن.

أقول كما قال شاعر الأردن مصطفى وهبي التل (عرار

فبلادكم بلدي وبعض مصابكم همّي وبعض همومكم الأمي

فداركم داري وبعض تلادكم هو طارفي ومناكم أحلامي

وكما لكم هدف فان لمثله سعيي وغايتي وصبوتي وهيامي

***

سارة طالب السهيل

تطنب وتسهب أدبيات العلوم السياسية لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، لاسيما المباحث المتعلقة بالعلاقات والقانون الدوليين، في التشديد على مراعاة مسائل (الشرعية) في العلاقات الدولية من حيث وضعها الموضع الذي يتناسب وأهميتها في قضايا حقوق الإنسان وسيادة الدول، التي يترتب على الأطراف المعنية أخذها بنظر الاعتبار كلما دعت الضرورة الى ذلك. ولعل من أبرز المسائل التي تعنى بها هذه (الشرعية) الدولية كونها تمارس (كبحا") سياسيا" و(تأنيبا") أخلاقيا"، حيال أية بادرة تنم عن نزوع الدول الكبرى التقليدية ليس فقط لتوسيع رقعة نفوذها السياسي وتمدد ذراعها العسكري وبسط سلطانها الاقتصادي فحسب، بل وكذلك للهيمنة على مقدرات شعوب العالم الضعيفة والمغلوبة على أمرها خلافا"لمصالحها وضدا"عن إرادتها.

ولما كانت الدول الكبرى التي خرجت من أتون الحرب العالمية الثانية منتصرة هي من وضع أسس وشروط هذه (الشرعية)، فقد استمرت المبادئ والقيم والأعراف المقترنة بها مرهونة بأهداف ومصالح تلك الدول، بصرف النظر عن كونها تتعارض أو تتناقض مع أهداف ومصالح بقية الأعضاء والشركاء المنتمين لذات المنظمة الأممية من عدمه. أي بمعنى ان ما تعتبره الدول المنتصرة المؤسسة (شرعيا") بالنسبة لها، ليس مهما"ولا ملزما"أن يكون شرعيا" بالنسبة لباقي دول المنظمة العديمة القوة والضعيفة والإرادة والعكس بالعكس. وعلى هذا الأساس، فقد حملت هذه (الشرعية) المزعومة – منذ ولادتها خاصية (الازدواجية) في التعاطي مع الأحداث الإقليمية والدولية الساخنة، كلما استدعت الضرورات السياسية والعسكرية الملتهبة في أرجاء العالم اللجوء إليها والاحتكام عندها لتجريم المعتدين وإنصاف المعتدى عليهم.

والحقيقة لو قارنا بين دول العالم المختلفة لجهة الاستعانة بما يسمى ب(الشرعية) الدولية لفض المنازعات التي لا تفتأ تتفاقم في جهات العالم الأربع، سنلاحظ ان خطابات الدول الكبرى – القوية قلما تحتوي على هذه المفردة (المطاطة) والملتسبة إلاّ في حالات نادرة، وتكاد تكون مقتصرة على حالة (واحدة) تتمحور حول تبرير سياساتها العدوانية وتسويغ مطامعها الاستعمارية، التي لا تني تتوسع وتتمدد عموديا"وأفقيا"باتجاه جغرافيات بلدان العالم (الثالث) أو (الرابع)، وخصوصا"تلك التي لا تزال شعوبها ترسف في أغلال التخلف الاجتماعي والتأخر الاقتصادي والتراجع الحضاري. هذا في حين نجد ان خطابات الدول الصغرى – الضعيفة لا تكاد تخلو من تلك (العبارة / الملاذ)، حيث ينظر إليها كطوق نجاة من قبل صناع القرار في هذه الدول المستباحة فضلا"عن شعوبها، وذلك لإدراكها استحالة تغيير موازين القوى لصالحها على صعيد العلاقات الدولية نتيجة لعدة أسباب ؛ منها تبعية إرادتها السياسية، وارتهان قرارها السيادي، وانعدام تأثيرها الاستراتيجي. هذا بالإضافة الى استشراء مظاهر تخلفها في الميادين الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والعلمية. 

وعلى الرغم من كل الدلائل والمؤشرات التي يكفي الاحتكام الى واحد منها فقط لإقناع كل ذي بصيرة، ان ما يسمى ب(الشرعية) الدولية ليست سوى المرادف لمعنى (القوة) و(الاستطاعة) التي بحوزة الدول الكبرى، حيث توفرها على الإمكانيات الفعلية وليس الافتراضية – كما يتجلى ذلك في سياسات العالم الغربي حيال الهمجية الصهيونية في غزة الآن - لفرض الشروط التي تريد وإملاء القرارات التي ترغب. نقول على الرغم من كل ذلك، فان حكومات الدول العنينة والمخصية قلما تفكر في إيجاد صيغة مناسبة أو وسيلة ملائمة، لا تجنبها فقط الوقوع في دائرة الاستهداف المباشر وغير المباشر من لدن ضواري الاستعمار القدامى والجدد وما ينطوي عليه من احتواء واستتباع فحسب، وإنما يضاعف وزنها الاعتباري في مضمار العلاقات الدولية، حيث التزاحم الجيوبولتيكي والتنافس الاقتصادي والصراع السياسي على أشده !. 

***

ثامر عباس – باحث وكاتب عراقي

 

سارت الرُّكبان بما كتبه ابن خلدون (ت: 808هجرية) بخصوص العرب، ونقل عنه آخرون، وكأن الجميع جعلوا مِن الرّوايتين، التي سأل في إحداهما سُليمان بن عبد الملك (ت: 99هجريَّة)، عن فقهاء الأمصار، ولم يظهر منهم غير عربي إلا واحد، فقال: «كادت تخرج نفسي ولا تقول واحدٌ عربيّ» (ابن العديم، بُغية الطَّلب). أمَّا الأخرى: استفسار الأمير العباسيّ عيسى بن موسى (ت: 167هجريّة)، وكان متعصباً للعرب، عن الفقهاء، ولكثرة ما ذُكر بينهم مِن غير العرب، يقول الرّاوي: «رأيتُ فيه الشَّر، فقلت: إبراهيم، والشّعبي. قال: فما كانا؟ قلت: عربيان. قال: الله أكبر! وسكن جأشه» (ابن عبد ربه، العقد الفريد).

علينا الحذر مِن الرّوايات، إذا أخذنا بالاعتبار تصاعد الشّعوبيّة آنذاك، الحركة الثقافية المعروفة، التي جاءت رداً على التّعصب الأمويّ ضد الموالي، والتعصب المذكور يُبرر بكثرة الثَّورات، التي اشترك الموالي فيها، كحركة ابن الأشعث، التي كادت تُطيح بالأمويين (80هجريّة).

يُعد ناجي معروف (1910-1977) مِن كبار المؤرخين العراقيين العرب، طالما عرفنا اسمه على أغلفة كتب التّاريخ في المدارس، كان مؤرخاً فذاً، لا يلوي أعناق الحقائق مسايرةً لاعتقاده. تجرأتُ عليه في كتابي «المباح واللامباح» (فصل تغييب الألسن)، الذي صنعته في نهاية التسعينيات، ناقداً ناقماً، تحت ضغط معاداة «البعث» بالعراق، ولم أكن معتدلاً ولا علميّاً في ما كتبته. لكن بعد زوال المؤثر، رأيت كتابه «عروبة العلماء المنسوبين إلى البلدان الأعجميّة في المشرق الإسلاميّ» (ثلاثة أجزاء)، وقارنته بمقدمة ابن خلدون، وجدتُ عنده الإنصاف للعربيّ وغير العربيّ. فكان ابن خلدون قد صنف النَّاس على الألقاب، ومَن تابعه في ذلك، فمثلاً جعلوا أبا فرج الأصفهاني (ت: 356هجرية) صاحب «الأغاني» غير عربي، والرّجل كان أموياً مروانياً.

كتب معروف راداً على ابن خلدون: «زعم العلامة ابن خلدون أنَّ حَملَة العِلم في الملة الإسلاميَّة، أكثرهم العجم، وعقد في مقدمته الشّهيرة فصلاً خاصاً، شرح فيه تلك النَّظرية، وجاء بعده حاجي خليفة، المتوفى 1067(هجرية)، فنقل نظرية ابن خلدون بحذافيرها، وأودعها كتابه «كشف الظنون»، دون أن ينسبها إلى ابن خلدون... بل عدوا كلَّ مَن انتسب إلى مدينة أعجميّة أعجميَّاً» (عروبة العلماء). أرّخ ناجي معروف لأكثر مِن ثلاثمئة عالمٍ وفقيهٍ عربي، اشتهروا بنسبتهم لمدن أعجميّة، لكنهم كانوا عرباً.

ماذا وراء تغييب عروبة العلماء، بعد صعود غير العرب إلى مراكز السُّلطة، في العهد العباسيّ، أو دوافع منع غير العرب، في الزَّمن الأَموي، مِن إمامة الصّلاة مثلاً أو القضاء، مثلما قرر الحجَّاج بن يوسف الثَّقفي (ت: 95 هجريّة)، غير التّعصب السّياسّي والاجتماعيّ؟! فكلّ تعصب يولد آخر، وإذا لم تؤخذ الإنسانيَّة، أصلاً في المعاملة، «ستبقى طويلاً هذه الأزمات» (الشطر للجواهري). نعم فند معروف ما جاء به ابن خلدون، واعتقده غيره، ببحث مرموق، لكنه جعل الإمام أبا حنيفة النّعمان (ت: 150 هجرية) عربيّاً أيضاً، ربّما رداً لكثرة ما أشيع عن فارسيته، والنُّعمان مع تعظيمه لإمامة قريش (النَّاشئ، الكتاب الأوسط)، لم يكن عربيّاً ولا فارسيّاً، إنما كان عراقيَّاً، مِن نواحي بابل، ويغلب على الظّن مِن العراقيين القدماء كالسريان.

لكننا قد نتلمس لمؤرخنا عذراً، في اعتبار أبي حنيفة عربيَّاً، وهو العذر الذي جعل فيه ابن عساكر (ت: 571هجريَّة)، الإمام الشَّافعيّ (ت: 204هجريّة) دمشقياً، فقال: «اجتاز بدمشق أو بساحلها حين ذهب إلى مصر» (تاريخ مدينة دمشق)، كي يدخله الكِتاب، فأفرد لترجمته مجلداً، والشَّافعيّ لم يصل دمشق ولم يمر بها. كذلك معروف عربيّ المحتد والهوى، ويجلُ أبا حنيفة، فأراد له أن يكون عربيّاً.

أقول: ابن خلدون على ثقله، إلا أنَّ نظريته هذه كانت خفيفة، لم يتحر لها أصول مَن وصفهم بالأعجميّة، على خلاف معروف ظهرَ سمتاً في تأليفه.

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

إن الشعبية الهائلة لكرة القدم فرضت عليها أن تكون أكثر من مجرد رياضة ممتعة، فقد أصبحت مجالاً للاستثمار في العديد من المجالات مثل السياسة والاقتصاد والسياحة وغيرها، ومن أهم ما تُستخدم كرة القدم فيه هو اعتبارها وسيلة قوّة ناعمة لتحقيق مصالح الدولة.

يعتبر المفكر الأمريكي جوزيف ناي أول من نادى بمفهوم القوة الناعمة، ويراها بأنها "القدرة على الحصول على ما تريد عن طريق الجاذبية بدلا من الإرغام أو دفع الأموال. وهي تنشأ من جاذبية ثقافة بلد ما ... فقد يتمكن بلد ما من الحصول على النتائج التي يريدها في السياسة العالمية لأن بلدانا أخرى معجبة به ... فإن أقنعتك بالرغبة في أن تفعل ما أريد فعندئذٍ لن أضطر لاستخدام الجزر والعصا لأجعلك تفعله."، ويرى ناي أن الدول قادرة على تحسين صورة سياستها الداخلية والخارجية من خلال استخدام القوة الناعمة، إذ أنها تؤثر على السلوك الاجتماعي.

إن الرياضة تلعب دورا مهما في تحقيق أهداف القوة الناعمة، إذ أن الألعاب الرياضية هي استراتيجية توظفها الدول في علاقاتها الدولية لبناء الهوية وإثبات التفوُّق، فقد أدركت الحكومات الأهمية السياسية للنجاح الرياضي في تعزيز جاذبيتها في مختلف المجالات مثل تحسين علاماتها التجارية.

إن الدبلوماسية الرياضية الموجهة نحو الجماهير تختلف عن الدبلوماسية الرسمية التي تركز على السياسات الوطنية وتوجَّه عادةً لصانعي القرارات في الدول الأخرى. على سبيل المثال استثمرت ألمانيا خلال فترة تنظيما لكأس العالم عام 2006م لهذا الحدث العالمي من أجل تصحيح صورتها السلبية المرتبطة بالحرب العالمية الثانية، وركزت المملكة المتحدة خلال استضافتها لأولمبياد عام 2012م على جذب الأعمال والتجارة وتنشيط منطقة "إيست إند" في لندن.

بذكر كأس العالم، فإن تنظيمه يترتب عليه التقدير الدولي للدولة المضيفة والاهتمام الإعلامي العالمي بها، حيث تصبح الدولة المضيفة محط أنظار العالم الذين يزورون أو يشاهدون مباريات بلدانهم، إلى جانب زيادة الثقة والشعور القومي لدى مواطني الدولة اتجاه حكومتهم، مما يحسّن الاستقرار السياسي والاجتماعي فيها.

ولا يُمكن القول إن الدوافع الاقتصادية هي وحدها من يجعل الدول تسعى لاحتضان المنافسات الرياضية، بل هناك اعتبارات أخرى. إذ أن هذه المناسبات هي أدوات لإثبات المكانة الإقليمية والدولية بالنسبة للبلد المستضيف، ووسيلة لزيادة ظهوره في المجتمع الدولي وتقديم الدولة نفسها على أنها لاعبٌ دوليٌّ له وزنه ومكانته.

في الجانب المقابل، تسعى الدول لاستخدام الألعاب الرياضية الدولية والمشاركة في المنافسات الخارجية لدعم صحة توجهاتها الأيديولوجية والسياسية وتحويل الانتصار في المجال الرياضي إلى انتصار في المجال السياسي، مما يدعم العقيدة السياسية للحكومة. لذا تصوِّر كثيرٌ من الدول نجاحاتها الرياضية كأنه نجاح لمنهجها الأيديولوجي وانعكاس لقوتها السياسية، حتى أصبح المشاركون في المنافسات الرياضية-في بعض الأحيان- أبطالا قوميين يساهمون في دعم المكانة السياسية للدولة.

فعلى سبيل المثال، وظفت قطر كرة القدم أداةً فعّالة باعتبارها قوة ناعمة، وسعت جاهدة للحصول على تنظيم كأس العالم الأخير الذي شهدناه جميعا، وقد زاد النجاح المبهر لهذا التنظيم من ظهور قطر في الساحة الدولية، بالإضافة لمحاولة قطر تمرير بعض الرسائل الأخرى المتعلقة بواجباتها القومية من خلال كأس العالم، مثل تخصيص مساحة في احتفال المباراة النهائية للشاعر الفلسطيني تميم البرغوثي ليلقي كلمة فيها مذكِّرًا بالقضية الفلسطينية، وكما يشير بونيفاس في مقاله المنشور على الجزيرة (الدبلوماسية الرياضية لدولة قطر والقوة الناعمة) أن صورة قطر قد تغيرت في فرنسا بعد شرائها نادي "باريس سانجرمان" حيث أصبح اسم قطر يتردد كثيرا في الإعلام الفرنسي.

مثال آخر يُمكن طرحه هو البرازيل التي تعتبر احدى الدول التي تستثمر بشكل كبير في كرة القدم من أجل الرقي بمكانتها الدولية وتطوير قوتها الناعمة على المستوى الدولي، فمن خلال تسويق النموذج البرازيلي القائم على التعدد الاثني المندمج، تحاول البرازيل إظهار نفسها بشكل أكبر، إضافة لذلك فإن اللاعبين العالميين البرازيليين يتصرفون في أحيان كثيرة كأنهم سفراء لدولتهم كما حدث مع بيلي وزيكو ورونالدو ورونالدينيو إذ حاولوا إعطاء صورة عن بلادهم تتعلق بصناعة النجوم العالميين.

إضافة لذلك يقوم الإعلام الرياضي بدور بارز في إظهار مكانة الدولة كذلك، فعلى سبيل المثال، أصبحت قناة بي إن سبورت القطرية منبرا إعلاميا رياضيا كبيرا وبارزا له شعبية إقليمية ودولية، فضلا عن صنع بروباجندا مضادة في حال تم توظيف الرياضة من أجل تحقيق مصالح سياسية أو اقتصادية، كما حدث في كأس العالم الأخير عندما حاول المنتخب الألماني تشكيل ضغط من أجل مصالح معينة من خلال إصراره على دعم مجتمع الشواذ عندما وضع اللاعبون أيديهم على أفواههم.

الخلاصة أن كرة القدم تعتبر وسيلة سياسية ناعمة لا يُمكن الاستغناء عنها، لذلك تسعى الحكومات لاستغلالها من أجل دفع مصالحها سواء من خلال إبراز صورتها على الساحة الدولية أو تشكيل ضغط ناعم على الحكومات الأخرى وصناعة بروباجندا سياسية أو بناء وتحسين علاقات مع الدول، لذا فلا معنى لقول القائل أن لا علاقة بين السياسة وكرة القدم، فهذا قول رومانسيٌّ في أحسن الأحوال، والرابح من نظر للواقع وحاول استغلاله.

***

جاسم بني عرابة

 

في ضوء التطورات المتلاحقة التي تشهدها وسائل الاعلام وخاصة في المجال التقني وتعدد الادوات المستخدمة في عالم الصحافة والاعلام، وسيل المعلومات والاخبار التي تشهدها الساحة واهمية ايصال المعلومة بدقة ووضوح الى المتلقي، وفي خضم المعلومات المظللة التي تسوق للقارئ والمستمع والمشاهد وضرورة الحرص على تأمين بيئة نظيفة لإنتقال الخبر والمعلومة أضحت المقابلة الصحفية واحدة من اهم الفنون الصحفية التي تؤمن صلة المتلقي او المواطن بمصدر الخبر او المعلومة واطلاعه المباشر على صحة وحقيقة الحدث بتجرد ونزاهة، وهذه بلا شك من اهم واجبات الصحفي المحايد.

لكن المقابلة الصحفية ذاتها تطورت بشكل كبير وبات اعتماد الصيغ القديمة و البالية والقاء الاسئلة التقليدية، المعروفة سلفا اجابتها والتي لا تسبر غور الحدث، وتحويل موضوع المقابلة الى مجرد تفصيل ممل للخبر، شكلا غادرته الصحافة ونحن على اعتاب الربع الثاني من القرن الحادي والعشرين لهذا فإن الالمام بالمقومات الناجحة للمقابلة الصحفية في محتلف الوسائل المتاحة (الصحف، القنوات التلفازية، الاذاعات، ومنصات السوشيال ميديا وغيرها) يكتسب أهمية بالغة لتقديم المعلومة الخالية من الزيف والتضليل والتشويش على قيم المجتمع وقناعات الناس.

أسس المقابلة الناجحة

من هذا المنطلق فإن على المقابلة الصحفية أن تحقق الامور الاساسية التالية لتكون فعالة وناجحة:

أولا – ابتداء وقبل إجراء المقابلة علينا ان نحدد الهدف منها هل هي مقابلة الوصول الى المعلومات والحقائق العامة لحدث ما من الضيف، أو التحقق من صدقيتها بعد ان تناولتها الاخبار بطرق مختلفة ومتناقضة .

ثانيا - يجب اشعار الضيف قبل البدء بالمقابلة بالحيادية والابتعاد عن اسلوب الاستفزاز والاستجواب وكأن المحاور يضع الضيف في موضع الاتهام المسبق وهناك البعض من الصحفيين او معدي البرامج يتجاوزون على الضيف ياسلوب بعيد عن اللياقة والاحترام، ولا شك ان هذا الاسلوب يفقد المقابلة الحياد ولا يمكن تحقيق الهدف منها.

ثالثا - يجب احترام وقت الضيف والمتلقي من خلال اعداد اسئلة ذات علاقة مباشرة بالموضوع وعدم تشتيت الموضوع من خلال طرح قضايا لا تمس المحور الرئيسي للمقابلة او احراج الضيف باسئلة لا تخص اختصاصه وعلاقته بالحدث الاساسي للمقابلة ويفضل ان تكون الاسئلة قصيرة وهادفة.

رابعا - لكي تكتسب المقابلة اسسها الصحيحة يجب الحرص على الاعداد المسبق لها ومن ثم اختيار الضيف ذو الاختصاص المباشر بالحدث ومن ثم التنفيذ الجيد الذي يعكس موهبة وقدرة المحاور والمامه بحيثيات الموضوع.وهذا يدعو المحاور الى استضافة اشخاص قد لا يكون المسؤول الاول في المؤسسة او الدائرة ذات العلاقة.

خامسا: من الضروري الاهتمام بالمظهر الملائم لكل مقابلة واعطاء الموضوع العناية التامة

سادسا - من اسرار المقابلة الناجحة اكمال الاسس الاتية:

1. توفير خزين جيد من المعلومات حول موضوع المقابلة.

2. المعرفة التامة بالشخصية التي سيتم اجراء المقابلة معها ومدى تخصصها في الموضوع.

3. التأكد إن كانت هناك مقابلات سابقة اجريت حول الموضوع وما المسائل التي تجاهلتها وتخطي هذا النقص في المقابلة الجديدة.

4. ضرورة انتقاء الوقت المناسب لأجراء المقابلة وخاصة فيما يتعلق بأحداث الساعة وعدم مرور وقت طويل عليها بحيث لا تنال الاهتمام والمتابعة من الناس .

5. اشعار المتلقي والضيف معا بالاهتمام والجدية بموضوع المقابلة من خلال الاعداد الجيد لها وامتلاك المحاور لفيض من المعلومات المتعلقة بالموضوع المستهدف بحيث لا يمرر الضيف معلومات مضللة او ناقصة او اخفاء حقائق متصلة بالحدث..

6. الانصات الجيد للضيف واستنتاج اسئلة جديدة من خلال النقاش لالقاء المزيد من الضوء على موضوع المقابلة ومحاولة عدم قطع حديث المحاور قبل انتهائه من الجواب الا اذا خرج عن موضوع المقابلة وحاول توظيف المقابلة لاغراض دعائية او استعراضية

7. لكي يؤكد الصحفي الجيد إلمامه الجيد بالموضوع وجديته ومتابعته فعليه تذكيرالضيف بما قاله سابقا عن الموضوع حتى يستطيع ترتيب سلسلة افكاره.هذا ما قلته في مقابلة سابقة لك فماذا تغير؟”.

نقاط يجب اخذها بنظر الاعتبار

من الضروري ان يأخذ الصحفي بنظر الاعتبار النقاط التالية خلال المباشرة بالمقابلة:

1. عدم تقديم اجوبة ضمنية مع الاسئلة لان ذلك يؤدي الى الغاء اهمية ودور المحاور بل ويشعر الضيف بأن مشاركته صورية وغير ذات جدوى.

2. ضرورة اعتماد لغة مفهومة بعيدة عن المصطلحات المعقدة وغير المعروفة لدى عامة الناس وتوضيح معان ودلالات بعض المصطلحات التي لابد منها لهم لشدهم الى المقابلة .

3. الاهتمام بوحدة الموضوع ومحاولة تكثيف السؤال والجواب بدقة بحيث لا يترك مجالا للاافة او التلاعب عند تجزئة المقابلة ونشر محاور منها في وسائل السوشيال ميديا مثلا.

4. الاهتمام التام بمنطوق الايات القرانية او احاديث الرسول صلى الله عليه وسلم او الاشارة الى التواريخ والاحداث المهمة واسماء الشخصيات وغيرها.

بعد نشر المقابلة

يجب ان لا ينتهي مهمة الصحفي مع انتهاء نشر المقابلة فهناك اسس عليه متابعتها للارتقاء بأدائه الصحفي وسمعته ومكانته لدى متابعيه ومنها

1. اهمية مراجعة نص المقابلة المحاور – الاسئلة – الارقام – المفاهيم والمصطلحات الوثائق والمصادر التي تم الاستناد اليها لضمان عدم تكرار الخطأ إن وجد.

2. متابعة صدى المقابلة وردود الفعل على الاصعدة كافة والاستفادة من الانطباع الايجابي الذي حققته لخلق قرص مقابلات ناجحة اخرى .

***

محمد حسين الداغستاني

كان الإصلاحي ادموند بيرك (1729-1797) يبدو كأنه رجلا متناقضا ومثيرا للقلق. فمن جهة، هو اعتبره البعض "ابو سياسة المحافظة"، ومن جهة اخرى، هو كان اصلاحيا متحمسا. لكن كلا النزعتين – المحافظة والاصلاح – ليستا متناقضتين اذا كانت هناك أشياء في المجتمع يجب الحفاظ عليها وأشياء اخرى بحاجة للتغيير. فمثلا، اذا كانت في المجتمع ديمقراطية فاعلة، فان المواطنين المتحمسين يجب ان يكونوا نشطين في الحفاظ عليها كما في الاصلاح. والاصلاح يجب ان يكون عملية حذرة تحسّن الديمقراطية بدلا من إضعافها. وحتى عند تحديد العيوب، يجب ان نعترف بالصفات الايجابية. ادموند بيرك جسّد هذه المحاولة في التوازن بين الغرائز الاصلاحية والمحافظة.

وُلد بيرك في دبلن من ام كاثوليكية واب محامي في كنيسة أيرلندا. هو اتّبع أنجليكانية أبوه بينما اخته اتبعت كاثوليكية امها. يرى بيرك ان الدين والطبقة الراقية أساسيان للحضارة، لكنه لم يكن طائفيا، ودعم قانون الإنعتاق الكاثوليكي catholic Relief bills للفترة 1778-1791. كان بيرك عضوا في البرلمان البريطاني من عام 1766 الى 1794، وترك بصماته هناك كخطيب ومنظّر سياسي. حاليا يتذكره الناس لعمله (تأملات حول الثورة في فرنسا، 1790)، وهو عمل محافظ كُتب كرد فعل لراديكالية الثورة الفرنسية التي حدثت قبل ذلك بسنة.

كمصلح هو نجح بقيادة التغيير وتقليص السيطرة الملكية على الحكومة، ودعم قضايا خارجية مثل الثورة الامريكية، واستقلال اكبر لآيرلندا، وممارسة أفضل لحكم شركة الهند الشرقية للهند. سنعرض لحجج بيرك في الحذر المحافظ، ونتوصل من هذه الحجج الى مبادئ عامة للاصلاحات اليوم.

طبيعة سياسة المحافظة لدى بيرك

تدور محافظة بيرك حول إعجابه بالنظام السياسي البريطاني. قياسا بالانظمة السياسية الاخرى في زمانه، حازت بريطانيا على مزايا برلمان راسخ ونشط، وحرية أكبر للصحافة، وإنفتاح على الإصلاح. الكثير من تلك القضايا كان يتطلب المحافظة في السياسة البريطانية، لذا كانت سياسة المحافظة منطقية الى حد ما.

ولو نظرنا الى افكار بيرك في العديد من أحاديثة وكتاباته، يمكن لنا ربط اثنين من حججه على اساس من تلك الرؤى. هاتان الحجتان يمكن استخلاصهما من كتبه (تأملات في الثورة في فرنسا، 1790)، وكلامه في لجنة التحقيق في حالة التمثيل النيابي عام 1782، ونداء من اليمين الجديد الى القديم (1791). الحجة الاولى تقترح انه بالنظر للتطور المعقد والبطيء لأي مجتمع مستقر، فمن الصعب جدا التدخل الثوري الناجح في المجتمع عن طريق الثورة. الحجة الثانية تحذّر من المخاطر العالية عندما يتعلق الأمر بالبدء بتغيير اجتماعي كبير. كلا الحجتين توازنان بين عدم اليقين ومخاطر التغيير مقابل ما يراه بيرك "افتراضا ثوريا". لذا فان تركيز بيرك ينصب اولا على مخاطر التدخل في الدستور بدلا من التركيز على الشروط الجيدة للاصلاح.

يمكن تلخيص الحجة الاولى كما يلي: إحداث تغيير اجتماعي ناجح هو امر صعب بسبب:

1- المجتمع معقد ويصعب فهمه

2- المجتمع يتطور ببطء ونتائج التغييرات المؤسسية تبرز فقط بمرور الزمن.

3- التدخل يتطلب "مفكرين عميقين" وليس محامين روتينيين متواضعين.

بكلمة اخرى، التغيير الاجتماعي الجيد يتطلب اناس حكماء بدلا من رعاع بلا حكمة، كاولئك الذين بدأوا الثورة الفرنسية. بيرك يقارن ساخراّ تعقيدية المجتمع بتعقيدية الساعة:

"الانسان الجاهل، الذي هو ليس أحمق بما يكفي للتدخل في الساعة، هو مع ذلك واثق تماما لتفكيكها الى قطع متناثرة ثم وضعها مجتمعة حسب رغبته، ماكنة أخلاقية من شكل آخر من حيث الاهمية والتعقيدية، مركبة من عجلات ونوابض وموازين وقوى مضادة ومتعاونة".

لهذا السبب، ينصح بيرك بالتردد قبل التدخل بمثل هكذا تجمع معقد كالمجتمع. لكن المجتمع ليس فقط معقد جدا، انه يتكون عبر فترة طويلة من الزمن: "انه صُنع بظروف غريبة ومناسبات وأمزجة وميول وعادات اجتماعية مدنية وأخلاقية للناس، الذين يكشفون عن أنفسهم فقط عبر فترة زمنية طويلة". اذا كان تطور النظام السياسي بطيئا، فان محاولات تحسين عمله يجب ان تتم بنفس الطريقة عبر اطار زمني أطول.

الإصلاح التدريجي البطيء هو الوسيلة الملائمة الوحيدة لتطور الدولة، طالما ان نتائج أي تغيير قد لا تكون واضحة في البداية: مايبدو جيدا في البدء يتضح انه سيئ والعكس صحيح. وكنتيجة لصعوبة التغيير الاجتماعي الجيد، نحتاج الى اكثر من "تصرفات بسيطة او توجيهات للسلطة". في الحقيقة، نحن نحتاج الى "مفكرين عميقين" وليس الى نوع من المحامين الضعفاء الذين وُجدوا في برلمان الثورة الفرنسية:

"الدستور البريطاني لم يكن ناجحا بعدد من الرجال المتعجرفين مثل برلمان المحامين الضعفاء في باريس .. انه نتيجة أفكار عدة أذهان في عدة عصور. انه ليس بسيطا، ليس شيئا سطحيا، ولا يُقيّم بفهم سطحي ... الدستور البريطاني قد تتم الاشارة الى مزاياه للعقول الحكيمة والمتأملة، ولكنه ذات مرتبة عالية جدا من التميّز بحيث لا يمكن تكييفه مع تلك العقول العادية. انه يأخذ العديد من الرؤى، يعمل العديد من المركبات، لا يُتوقع فهمه بالتفاهمات الضحلة والسطحية. المفكرون العميقون سيفهمونه في منطقه وروحه" (تأملات في ثورة فرنسا، 1790).

احتمال وجود مفكرين عميقين نشطين للتدخل في المجتمع عرضه بيرك بإحساس سلبي في نقده لمنْ ليست لديهم المواصفات الضرورية، مثل الثوريين الفرنسيين. لكنه يجسد حالة ايجابية حين يؤكد ان المفكرين العميقين يتعلمون من التجربة بدلا من "المبادئ المجردة". في تلك الأثناء، يبدو ان الخوف من الحافز الثوري عبر دول القنال الاوربية، دفع بيرك لدعم الوضع الراهن في بريطانيا بين الارستقراطيين والطبقة الراقية بالاضافة الى الناخبين.

اذا كانت الحجة الاولى لبيرك تتعامل مع صعوبة تأثير التغيير الايجابي، فان حجته الثانية تشير الى المخاطرة:

1- كل المجتمعات لها عيوبها، لكننا يجب علينا ان نحافظ على الشعور بالتناسب حول هذه العيوب.

2- الأنظمة السياسية الاوربية التقليدية لها عدة سمات ايجابية ولذلك

3- "مسؤولية الإقناع" تقع على عاتق الذين يريدون تحمّل الكلفة الحتمية للتغيير المنهجي لتحقيق مكاسب غير مؤكدة.

يرى بيرك ان مهاجمة الثوريين لعيوب الأنظمة القائمة هي كما لو كانت هذه العيوب أساسية او هي الشيء الرئيسي. هو يقول، نحن يجب ان لا نرفض كليا نظاما فقط لأن فيه عيوب ثانوية: "الادّعاء الثاني للمجتمع الثوري هو "الحق في محاسبة حكومته على سوء السلوك" .. لا يمكن لحكومة البقاء للحظة واحدة اذا كانت في مهب أي شيء فضفاض وغير محدد كفكرة "السلوك السيء". (التأملات).

لذا، نحن يجب ان نحافظ على الإحساس بالتناسب حول أخطاء المجتمع. هذا الإحساس يترسخ لو اعترفنا بكل سمات المجتمع كما عرضتها فرنسا القديمة، بما في ذلك ازدهار التصنيع والفنون والمدن المعقدة والبناء المعماري، وأفراد خيّرين او أبطال. يستنتج بيرك : "انا لا أعترف وفق هذه الرؤية باستبداد تركيا ولا أحتقر شخصية الحكومة التي كانت قمعية او فاسدة جدا او متهاونة كما لو كانت غير صالحة تماما لأي إصلاح. انا يجب ان اعتقد ان هكذا حكومة تستحق للإرتقاء بتميّزها، وتصحيح أخطائها، وتحسين قدراتها في الدستور البريطاني".

انطلاقا من دعوته للتوازن حول مزايا وعيوب النظام السياسي، يدّعي بيرك ان العبء يقع على الراديكاليين لإثبات ان تصميمهم لا ينتج أذى اكثر من الخير، نظرا لأن التغيير الراديكالي يتضمن كلفة عالية (مئات الآلاف من الناس في حالة فرنسا): "عبء الإثبات يقع بقوة على اولئك الذين يمزقون نسيج مجتمعهم الى قطع..." وبكلمة اخرى، هناك الكثير من المخاطر لبدء تغيير دراماتيكي عندما لم تتوفر أسباب كافية له.(1)

يريد بيرك تحذير البريطانيين من محاكاة الأفعال السريعة للفرنسيين عبر التأكيد على لايقينية وخطورة الفعل الثوري. عدم اليقين والمخاطرة المتعلقان بالتغيير هما في الحقيقة الرسالة الأساسية لكلا حجتي بيرك. المجتمع معقد جدا والمخاطر عالية جدا للسماح بتدخل سريع ، لذا فان التغيير يجب ان يكون تدريجيا وحذرا وبطيئا بدلا من ان يكون ساحقا وشاملا. مع ذلك، بيرك يعترف بالحاجة للتقدم. احدى ادّعاءاته الواضحة بشأن الاصلاح هي انه حتى الإصلاح يدعم التبرير المحافظ: "الدولة التي لا تملك وسائل إحداث بعض التغيير لا تملك وسائل الحفاظ على ذاتها". غير ان حماسة بيرك لتبريراته الاصلاحية تقترح اكثر من الملائمة المحافظة حين يبدي التزاما بالاصلاح بنفس مقدار المحافظة اثناء عمله المهني . ان تعقيدية بيرك ربما جرى تقييمها كتعقيدية للحياة – تعقيدية تتضمن ان المرء يمكنه الوقوف مع الوضع الراهن وايضا يدعم حركات هامة لإصلاحه. الحافزان غير متناقضين لو كان المرء مثل بيرك، كتدريجي حذر.

استنتاجات للحاضر

ان حجج بيرك هي أكثر ملائمة لعالم اليوم منه الى عالمه. الديموقراطيات الاجتماعية التي نعيش بها الان تقدم الكثير من الخير لشعوبها قياسا بسياسة بريطانيا في القرن الثامن عشر. هناك الكثير لدينا للحفاظ عليه قياسا بزمان بيرك. الملائمة الخاصة لكتابات بيرك اليوم يمكن الحكم عليها عبر النظر في ارشادات اخرى للاصلاح مرتكزة على رؤاه. من بين اولئك الذين أحدثوا تقدما في التفكير المحافظ في هذا المجال هو مايكل اوكشوت Michael Oakeshott (1901-1990)، الذي يقدم في كتابه (العقلانية في السياسة، 1962) ومقالات اخرى، تطورات مقنعة وملائمة لحجج بيرك.

سنعرض الآن بعض النقاط التي تطبق في مهمة تعزيز التغيير السياسي والاجتماعي في العالم الحديث. النقاط الثلاث الاولى تتعلق بمحاولة بيرك، اما النقطتان الرابعة والخامسة فهما من اوكشوت:

1- لا وجود هناك لمجتمع مثالي. الانسانية معيبة خلقيا، وهذه الحقيقة يجب ان تخفف من أهدافنا. نحن يجب ايضا ان نكون واعين بان العديد من الحاجات تلُبى في الديمقراطيات الاجتماعية الحالية، وان سوء السلوك من جانب أي سلطة ليس بذاته سببا لرفض النظام السياسي ككل. هناك دائما مكان للتحسين.

2- المجتمع معقد ولذلك فان نتائج التدخلات ستكون غير مؤكدة. لذا فان التدخلات يجب ان تكون تدريجية لكي يمكن تقليل حجم النتائج غير المتوقعة، وليُسمح بإجراء تصحيحات في السياسة.

3- ان نتائج التدخلات تكشف عن نفسها فقط بمرور الزمن، لذا حتى الاصلاح التدريجي يجب ان يكون في فترات متباعدة، لكي يُسمح بإنكشاف النتائج المقصودة وغير المقصودة . هذا سوف يسمح لنا للتعامل مع النتائج السلبية قبل تحمّل أي اضطراب غير ضروري آخر من خلال إصلاحات اخرى سيئة.

4- "الابتكار يتضمن خسارة معينة وفقط مكاسب محتملة، لذلك، فان عبء الاثبات في بيان ان التغيير المقترح يُتوقع ان يكون نافعا بمجمله، يقع على عاتق المبتكر" (العقلانية في السياسة).

5- المحافظ "يعتقد ان المناسبة هامة، وبثبات الأشياء الاخرى، هو يرى ان افضل مناسبة للابتكار تكون عندما يُحتمل جدا ان يكون التغيير المخطط محدودا بما هو مقصود وأقل احتمالا ان يُفسد بالنتائج غير المرغوبة والتي لايمكن ادارتها" (نفس المصدر). الإعتراف بغياب المجتمع المثالي يجب ان يلوّن تقييمنا لديموقراطيتنا الاجتماعية ومشاكلها بطريقة تقلل طموحات طلبات التغيير. والى جانب الاعتراف بنواقص الانسانية، نحن يجب ايضا ان نكون واعين بالطريقة التي تلبي بها الديمقراطيات الاجتماعية حاجات العديد من الناس، ربما أغلب مواطنيها. المصالح جرى تلبيتها بالتعديلات الملحة، وان معظم الناس وجدوا مكانا لأنفسهم في هيكل بناءهم الاجتماعي.

لذلك يجب على المرء ان لا يضع نفسه ضد الصرح الكلي للمجتمع، لأن هذا يعني انه يضع نفسه مقابل مصالح غالبية الناس – والذي هو خطأ لكل من الحقوق والاستراتيجية.

الحافز الثوري للتغيير الكاسح مخالف لحقيقة ان لا وجود للمثالية، وان الهندسة الاجتماعية هي صعبة، ولعبة غير مؤكدة تنطوي على تكاليف هائلة. لذا يجب تخفيف الاهداف الاصلاحية، وان تكون وسائلنا تدريجية. الحماس القوي للإصلاح التدريجي ربما يكون مناسبا، على الأقل وفق استدلالات بيرك، لكن الاصلاحيين لايحتاجون إعطاء توضيح جيد لما يعنيه التغيير للناس العاديين، ولماذا يستحق المخاطر وتكاليف التحول.

***

حاتم حميد محسن

........................

Edmund Burke and the politics of reform, philosophy Now, Feb/March2024

الهوامش

(1) تجدر الاشارة ان الثورة الفرنسية التي حدثت عام 1789 أطاحت بالملكية وأسست اول جمهورية فرنسية، لكن الثورة في النهاية فشلت بسبب الفراغ الشديد في السلطة الناتج عن الاطاحة بالنظام الملكي والذي سمح للراديكاليين الاستيلاء على الحكم وهو ما خلق حالة من الفوضى في عموم البلاد و اتساع العنف وامتداده لفترات طويلة قاد بالنهاية الى إعادة العائلة الملكية من جديد وان كانت بقدرات محدودة. فشل الثورة كان بسبب عدم القدرة على إزالة الملكية بشكل دائم حتى بعد 20 عاما من الاضطرابات السياسية والعديد من الحروب .

 

لأسبابٍ شخصيّة أو عقائدية مذهبيّة أو لنيل حظوة مِن خليفة أو وزير

إذا علمنا مِن عداوة أو تبادل مثالب، بين الكُتاب والشُّعراء اليوم، فهذا امتياز امتاز به مثقفو العصور كافة. فليس غريباً ما يحصل اليوم، فهي الحرفة الأكثر تحاسداً بين أصحابها، لأسبابٍ شخصيّة، أو عقائدية مذهبيّة، أو حسداً لنيل حظوة مِن خليفة أو وزير. أقلها أن يُسمي أحدهم الآخر «حاطب ليل»، وهو نعت ليس قليلاً اليوم، وكم فيه مِن إلغاء وشطب على موهبة ومقدرة، أي لا يدري ما يكتب أو ما يؤرخ، إذا كان مؤرخاً.

فهذا الأشعريّ عبد القاهر البغدادي (ت 429هـ) قلل من شأن المعتزلي عبد الله البلَّخي (ت 319هـ)، مع أنّ الاثنين كانا كباراً في مجالهما. قائلاً فيه: «حاطب ليل، يدعي كلَّ شيء، وهو خالٍ من كلِّ شيء» (البغداديّ، الملل والنِّحل)، مع أنَّ البلخي أحد علماء ومتكلمي معتزلة بغداد، ومؤرخ مقالات الإسلاميين. هنا آتي بنماذج فقط، أو مثلما يُقال: «غيض مِن فيض» قليل مِن كثير، محاولاً ذِكرها على تسلسل الزمن، الأقدم فالأحدث.

عندما تولى هارون الرّشيد (170 - 193هـ) الخلافة، شكل لجنة لفحص قصائد الشّعراء ونصوص الخُطباء المتقدمين للاحتفال بهذه المناسبة، فكثر المادحون، واختلط الغث بالسَّمين، وأخذ الصّغار أو الهواة ينافسون الكبار، لذا قرر الوزير الفضل بن يحيى البرمكي (ت 193هـ) تكليف الشّاعر والأديب أحمد بن سيار الجُرجانيّ، المعروف بمدحه للقائد العباسيّ يزيد بن مزيد الشّيباني (ت 183هـ) لتمييز قصائد الشُّعراء، مَن يمنح مكافأة ومَن لا يمنح، أو مَن تُقبل قصيدته ومَن لا تُقبل، وكان أبو نواس (ت 195) أحد المتقدمين، لكن خصوم الأخير من الشّعراء، مثل مسلم بن الوليد وأبان اللاحقيّ وأشجع السُّلمي، وآخرين طلبوا مِن المُحكم الجُرجانيّ الحط مِن قصيدة أبي نواس، ورفضها لعدم جودتها. فلما عرض أبو نواس قصيدته على الجُرجانيّ رمى بها، ولم يقبلها، قائلاً: «هذا لا يستحق قائله دِرهمين» (الجهشياريّ، الوزراء والكُتاب)، فلم يقرأ أبو نواس، وهو على عظمة قدره، وعلو كعبه بين شعراء عصره.

فلم يكن أمامه إلا هجاء الجُرجانيّ، قائلاً: «بما أهجوك لا أدري - لساني فيك لا يجري - إذا فكرتُ في قدرِ - ك أشفقتُ على شعري» (الجهشياري...).

كان أبو عبد الله إبراهيم بن محمد الواسطي المعروف بنفطويه (ت 323هـ) عالماً بالحديث والعربية، وأستاذه صاحب الكامل محمد بن يزيد المبرد (ت 286هـ)، وكان صاحب «الاشتقاق» و«الجمهرة» ابن دريد محمّد بن الحسن البصريّ (ت 321هـ) أشهر من نار على عَلم في عِلم اللّغة، لكن بينهما اللُّجاج في شدة الخصومة، من إنكار أحدهم باع الآخر. فأشاع نفطويه أن ابن دريد لا يفقه شيئاً، وهو منتحل كتاب «العين» لأحمد بن خليل الفراهيدي البصري (ت 181هـ)، وجعلها «الجمهرة»، مع أن من يطلع على معجم العين وكتاب الجمهرة لا يجد انتحالاً بينهما. وكي يرسخ ذلك في الأذهان جعل نفطويه التّهمة شعراً، فسارت بها الرّكبان. قال:

«ابن دريد بقره - وفيه لؤم وشره - قد ادعى بجهله - وضع كتاب الجمهره - وهو كتاب العين إلّا - أنه قد غيره». فردّ عليه ابن دريد شعراً أيضاً، وعيّره بسواده، حتّى لُقب لهذا السبب بنفطويه، والنّفط يخرج من الأرض أسود، مع نتانة رائحته. فقال: «أف على النحو وأربابه - قد صار من أربابه نفطويه - أحرقه الله بنصف اسمه - وصير الباقي صراخاً عليه» (الأنباريّ، زهرة الألباب في طبقات الأدباء). فكان بينهما ما هو أشد من فظاعة الحسد، حتّى وصف بـالمماظّة بينهما (الحموي، معجم الأدباء).

كان بين صاحب «الأغاني» أبي فرج الأصفهانيّ (ت 356هـ) والنحوي أبي سعيد السّيرافي (ت 368هـ) عداوة، فقال الأول في الثّاني ناكراً عليه علمه، بل ناكراً على كل سيراف: «لست صَدرا وَلَا قَرَأت على صدرٍ - وَلَا علمك البكي بكافي - لعن الله كل شعر وَنَحْو - وعروض يَجِيء من سيراف» (الثّعالبيّ، يتيمة الدَّهر).

ما أنّ غفل الحنبليّ أبو الفرج بن الجوزيّ (ت 597هـ) بنقل رواية خاطئة، مِن دون تمحيصها، إلا نجد الشّافعي ابن حجر العسقلانيّ (ت 852هـ) قد ترك صاحب الخطأ الأصل، وهو عبد القاهر البغداديّ، وقال عن ابن الجوزيّ: «ودلت هذه القصة على أنَّ ابن الجوزي حاطب ليل، لا ينقد ما يُحدث به» (ابن حجر، لسان الميزان). مع أن ابن الجوزي، في «المنتظم في تاريخ الملوك والأُمم» قد ذَكر مصدره الذي نقل عنه الرّواية، وهو كتاب البغداديّ «الفرق بين الفرقِ».

كذلك كان بين ابن الجوزي وأبي سعد السَّمعانيّ (ت 562هـ)، صاحب كتاب «الأنساب»، عداوة وخلاف عميقان، وكانا متجايلين ومتجاورين ببغداد، فالأول كان حنبليّاً والثّاني شافعيّاً، فلما جاء ابن الجوزي على ترجمة السّمعاني، في منتظمه، أنكر عليه أنه شد الرّحال إلى التّعلم والدَّرس عند علماء ما وراء النّهر (نهر سيحون)، فقال: «كان يأخذ الشَّيخ البغدادي، فيجلس معه فوق نهر عيسى (نهر عباسي ببغداد)، ويقول حدثني فلان من وراء النَّهر، ويجلس معه في رقةِ بغداد، ويقول حدثني فلان بالرِّقة (رقة الشّام)، في أشياء من هذا الفن، لا تخفى على المحدثين، وكان فيه سوء فهم» (ابن الجوزي، المنتظم في تاريخ الملوك والأُمم).

فردّ صاحب الكامل عزّ الدِّين الجزيريّ المعروف بابن الأثير (ت 630هـ) على ابن الجوزي، وقد أدرك الاثنان، السّمعانيّ وابن الجوزيّ، قائلاً: «كان مكثراً من سماع الحديث، سافر في طلبه، وسمع ما لم يسمعه غيره، ورحل إلى ما وراء النهر، وخراسان، ودخل إلى بلد الجبل، وأصفهان، والعراق، والموصل، والجزيرة، والشَّام، وغيرها... وذَكره أبو الفرج بن الجوزيّ وقطعه... أي حاجة به إلى هذا التلبيس البارد؟ وإنما ذنبه عند ابن الجوزي أنه شافعي، وله أسوة بغيره...». (ابن الأثير، الكامل في التَّاريخ).

بعد هذه النّماذج التي قلنا إنها «غيض مِن فيض»، وإلا فكتب التّراث ملأى بمثل هذه المواقف، نأتي بما يراه أبو حيان التَّوحيدي (ت 414هـ) في نقد هذا التحاسد، وبدلاً عنه يُصار إلى تبادل الفائدة والاعتراف بالموهبة، وقد تحدث عما كان يحصل مع النحويّ أبي علي الحسن بن أحمد الفارسي (ت 377هـ)، وكتابه «التّعليقة على كتاب سيبويه»، لأن القوم يفضلون كتاب صاحبهم أبي الحسن علي بن عيسى الرُّماني (ت 384هـ)، وكان الفارسي والرماني ندّين. قال أبو حيان: «يكثرون الطَّلب لكتاب شرح سيبويه، ويجتهدون في تحصيله، فقلت لهم: إنكم لا تزالون تقعون فيه، وتزرون على مؤلّفه، فما لكم وله؟ قالوا: نريد أن نردّ عليه ونعرّفه خطأه فيه. قال أبو حيان: فحصّلوه واستفادوا منه ولم يردّ عليه أحد منهم. أو كما قال أبو حيان، فإني لم أنقل ألفاظ الخبر لعدم الأصل الذي قرأته منه» (الحموي، معجم الأدباء).

كما انتقد التّوحيديّ ما كان يوجهه أبو سعيد السّيرافي، مِن صاحب الأغاني وأبي علي الفارسيّ، والجميع كانوا في عصر واحد، قال: «كان أبو علي وأصحابه كثيري الحسد لأبي سعيد، وكانوا يفضلون عليه الرُّماني، فحكى ابن جني عن أبي علي أن أبا سعيد قرأ على ابن السَّراج 50 ورقة من أول الكتاب ثم انقطع، قال أبو علي: فلقيته بعد ذلك فعاتبته على انقطاعه فقال لي: يجب على الإنسان أنْ يقدم ما هو أهم، وهو علم الوقت من اللُّغة، والشِّعر، والسّماع من الشُّيوخ، فكان يلزم ابن دريد، ومن جرى مجراه من أهل السّماع» (الحموي، معجم الأدباء).

غير أنَّ مَن يقرأ «ذم الوزيرين» أو «مثالب الوزيرين» لأبي حيان التّوحيدي يرى العجب العجاب، فقد أظهر ابن العميد (ت 360هـ)، وابن عباد الصَّاحب (ت 385هـ)، صاحب المحيط في اللغة، والشّاعر، جاهلين لا يملكان مواهبَ ولا آداب، وتداعى ثلبهما إلى ثلب الشّعر والشعراء. وربّما له عذره الشّخصي، فقد كان نساخاً لرسائلهما وكتبهما (مثالب الوزيرين، أخلاق الصاحب بن عباد وابن العميد). وهذا إذا دخلنا فيه لا يسعه المقال.

***

د. رشيد الخيّون

التاريخانية تكتيك فكري في مشروع الدكتور عبد الله العروي

عاش عبد الله العروي تفاعلات علمية وفكرية منذ صباه. استفاد في البداية من والده الذي نعته في أحد خرجاته الإعلامية بنصف المثقف. لقد كان يعيد كل رمضان قراءة المقدمة لابن خلدون، الشيء الذي مكن عبد الله العروي من تكوين فكرة عن القضايا الدينية مبكرا. بهذا الرصيد المعرفي المتواضع، تابع دراسته بعد الحرب العالمية الأولى بمراكش. التحق بالرباط إلى جانب جيل الوطنيين، بحيث كان حدث الاصطدام مع المستعمر مناسبة بداية تأثره بالسياسة (1950). عمق أبحاثه كمؤرخ في تاريخ المغرب (ما قبل الحماية-الاستعمار-وصراعات ما بعد الاستقلال). تابع كيف تشكل التياران التقليدي والحداثي على أسس معرفية سطحية، وكيف تحول هذا التقابل المتنافر إلى عائق تنموي.

بفضل عطاء المفكرين المغاربة الكبار، وعلى رأسهم العروي والجابري، مر المغرب من عدة مراحل تاريخية برزت من خلالها خصوصية مؤشرات تطوره وانفتاحه. ثقافته التقليدية ما قبل القرن العشرين كانت قابلة للاستعمار. عاش بعد ذلك ازدواجية ثقافية أججت الصراع داخل المجتمع. التأم من جديد رواد الفكر التقليدي مستثمرين في التعصب التراثي لتقوية حدة الاصطدام مع المستعمر. هذا الأخير اعتمد بدوره ازدواجية في التربية والتعليم. إلى جانب خلق المدرسة الفرنسية بمراكش والرباط للفرنسيين وبعض المغاربة، أحدثت مدارس مزدوجة خاصة بالمغاربة سميت بأسماء الملوك. حتى التحسينات التي أدخلتها فرنسا على المدارس المغربية العتيقة (القرويين بفاس كنموذج)، بقيت أنفاس التحديث الفكري في برامجها التعليمية والتكوينية ضعيفة.

موازاة مع استمرار سيطرة الثقافة التقليدية مغربيا، عاشت الشعوب الأوروبية مزايا الفكر الثوري (فرنسا، بريطانيا وأمريكا). امتدت الثورات في القرن العشرين إلى كل من روسيا (البولشيفية) والصين (الثورة الثقافية الماوية) مشكلة بذلك قطب الشرق المعاكس إيديولوجيا للغرب.

استحضر العروي ألمانيا بأوضاعها المتردية المتشابهة بالأوضاع العربية. الهيجيليون الشباب أغرقوا الوعي الألماني في الخيالات والأوهام والأفكار المجردة. جعلوا من الفكرة التأملية آلية محركة للتاريخ، فتحول هذا الأخير معهم إلى مسرح للأرواح والأشباح. لقد أبرز العروي بالبراهين الدامغة كيف لعب ماركس وفريديريك الأدوار الريادية لخلق التحول الثقافي في حياة الشعب الألماني. لقد ورد في كتاب "الإيديولوجيا الألمانية" فقرة غاية في الأهمية: "فبينما كانت البرجوازية الفرنسية، بواسطة أضخم ثورة عرفها التاريخ ترتفع إلى السلطة وتغزوا القارة الأوروبية، وبينما كانت البورجوازية الإنجليزية التي سبق أن تحررت سياسيا تُطَور الصناعة وتُخْضع الهند سياسيا وبقية العالم تجاريا، لم يذهب البورجوازيون الألمان في عجزهم إلى أبعد من "الإرادة الطيبة" ... إن إرادة كانط الطيبة هي الانعكاس التام للعجز والجمود والمسكنة لدى البورجوازيين الألمان".

أمام هذه التحولات، انتقد العروي الفكر الغربي الاستشراقي بأبعاده الاستعمارية. لقد تشبع بالفكر الثوري النقدي مبكرا. انتقد في نفس الآن الحضارة التقليدية المغربية التي كانت أساس الاستعمار والفكر الغربي الامبريالي/الاستعماري. ناصر التاريخانية كمنهج تكتيكي واستثمر فيه لنقد أسس الأنظمة الاجتماعية والثقافية التقليدية. التراكمات الغربية في القرنين 18 و19 شكلت بالنسبة له مرجعا زاخرا بمقومات الفكر الثوري النهضوي الديمقراطي. إنه يدعو إلى الارتماء في أحضان الليبرالية من هذا المنظور. النهضة المغربية تتطلب كأولوية استيعاب وقبول وفهم وتطبيق الأسس التي تشكلت عليها الحضارة الغربية بمظهريها الرأسمالي والاشتراكي (الأسس الليبرالية). المجتمع المغربي لا يمكن أن يكون عصريا إلا إذا استوعب وتشبع بأسس المجتمع الغربي عصر الأنوار.

عكس ما روجه الفكر السلفي في شأن التاريخانية معتبرين إياها توجها مناوئا للدين (التعصب المتفاقم للقداسة في كل شيء رهان خاسر)، قدم العروي ما يكفي من التحليلات والبراهين موضحا بجلاء مزايا مفهوم "القطيعة المنهجية مع التراث". لقد أبرزت التفاعلات الفكرية قبيل عصر الأنوار أن الماركسية الموضوعية كانت الأساس الفكري المرجعي الذي كان وراء الوصول إلى تحقيق السرعة القياسية لعبور مراحل النهضة غربيا. لقد نجحت في تغيير الواقع وتحقيق حياة أفضل للإنسان الغربي. ماركس النافع، يقول العروي، هو المخلص والمؤول والمنظر للفكر الأوروبي العام والممثل للحداثة بكل مظاهرها. وعليه، من أجل ربح الوقت، يدعونا العروي إلى اتخاذ ماركس معلما ومرشدا لسبر أغوار المعارف والعلوم والثقافة الحداثية. بالاقتداء به، ليس كزعيم سياسي، يمكن للمغاربة النجاح في انتقاء الأفكار الهادفة وتحقيق الأغراض القومية التحررية.

عبر كل من الزعيمين علال الفاسي وعبد الله كنون عن تخوفهما من هجرة عبد الله العروي إلى فرنسا لاستكمال دراسته. لقد اعتبرا هذا الخيار بمثابة ارتماء بلا عودة في أحضان الحضارة الغربية. عاد العروي إلى بلاده كمفكر لامع مغربيا وعربيا ودوليا ومنظر نجم في مجال النهضة المغربية والعربية. أحداث تاريخ شخصيته، كما رتبها في كتابه "بين الفلسفة والتاريخ"، توجت في ملخصه بقوله هامة للغاية: "التاريخانية عندي علامة على تواضع. بما أنني أوثر العمل على النظر، فإنني أعتقد أنه لن يكون بإمكاني أن أجد جوابا معقولا عن شاغل فلسفي مشروع إلا انطلاقا مما يوحي به البحث التاريخي، وفي إطاره".

ربح الوقت، بالنسبة للعروي، يستوجب اعتماد منهج تاريخي يؤجل مؤقتا الاهتمام بالأوهام والأساطير والنقاشات العقائدية العقيمة والخرافات ... سرعة اتساع الهوة بيننا وبين الحضارة الغربية تستدعي التركيز على الظروف الفكرية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والمالية الواقعية المادية. لقد اعتبر العروي قراءة الوقائع التاريخية الكلية بحقائقها المادية ومعطياتها الثقافية وأوهامها وأساطيرها وخيالاتها وخرافاتها ...، التي دعا إليها أركون، لن تفي بالغرض المطلوب. تحتاج الأمة العربية عامة والمغربية خاصة إلى اعتماد منهج تكتيكي يكتفي بتسجيل الوقائع التاريخية المادية وترتبيها في خط زمني متواصل تقرأ من خلاله البدايات والأصول والتأثيرات والأحداث من كل نوع. العروي يرى أنه غير مجدي تشتيت تفكير الفاعل في النهضة بالدفع به للتركيز أيضا على دلالة القوى التي ضغطن تاريخيا على الحقائق التكتيكية كتخيل الحماسات الجماعية والأحلام الممكنة والتطلعات غير المشبعة والمبادرات المجتمعية والأساطير المحركة ... إلخ.

كتابات العروي تجعل القارئ يستنتج مآزق وأزمات الاستثمار المغلوط في التراث. حالة الفشل التي يتعرض لها الإسلام السياسي لا يولد إلا تمظهرات مكرسة لارتباط الإسلام بالعنف، أي الإسلام السياسي الغاضب. الغضب يتحول إلى تطرف عنيف جراء فشل رواد التقليدانية في قيادة مجتمعاتها إلى الإنتاج المادي. وحتى التجارب التقليدية الأكثر تماسكا لم تستطع تملك الآلة السياسية، أي الدولة، لتحقيق مشروعها، وبالتالي جعل النصوص الدينية حركية في الحياة العامة متوخية تغيير الواقع بشكل متعسف في تجاوز صارخ لتاريخانية تفاعل النص القرآني مع الواقع. على عكس تداعيات الفكر التقليدي في عدد من الدول العربية، قطع المغرب أشواطا هامة في تقوية بنية المدينة المغربية، والاستثمار في الإصلاح الديني، وإنجاز البنيات والتجهيزات المهيكلة للتراب الوطني، وخلق فضاءات التعليم العالي مختصة في الصناعة والبحث العلمي والتكنولوجيات الحديثة والطاقات المتجددة (أقطاب لإثمار التميز العلمي).

***

الحسين بوخرطة

مهندس احصائي-اقتصادي ومهيئ معماري

 

كنتُ قد سألتُ (ذا القُروح) في المساق السابق: كيف امتدَّ الخِطاب العنصري من "التَّناخ/ العهد القديم" ليصبَّ في "العهد الجديد"؟ فأجاب:

- أنت تقرأ، مثلًا، في "إنجيل متَّى"(1):

"ثُمَّ خَرَجَ يَسُوعُ مِنْ هُناكَ وانْصَرَفَ إِلَى نَواحِي صُورَ وصَيْداءَ. وإِذا امْرَأَةٌ كَنْعانِيَّةٌ خارِجَةٌ مِنْ تِلْكَ التُّخُومِ صَرَخَتْ إِلَيْهِ قائِلَةً:"ارْحَمْنِي، يا سَيِّدُ، يا ابْنَ داوُدَ! اِبْنَتِي مَجْنُونَةٌ جِدًّا". فَلَمْ يُجِبْها بِكَلِمَةٍ. فَتَقَدَّمَ تَلاَمِيذُهُ، وطَلَبُوا إِلَيْهِ قائِلِينَ:"اصْرِفْها، لأَنَّها تَصِيحُ وَراءَنا!" فَأَجابَ وقالَ:"لَمْ أُرْسَلْ إِلَّا إِلَى خِرافِ بَيْتِ إِسْرائِيلَ الضَّالَّةِ." فَأَتَتْ وسَجَدَتْ لَهُ قائِلَةً:"يا سَيِّدُ، أَعِنِّي!" فَأَجابَ وقالَ:"لَيْسَ حَسَنًا أَنْ يُؤْخَذَ خُبْزُ البَنِينَ ويُطْرَحَ لِلْكِلاب!" فَقالَتْ:"نَعَمْ، يا سَيِّدُ! والكِلابُ أَيْضًا تَأْكُلُ مِنَ الفُتاتِ الَّذِي يَسْقُطُ مِنْ مائِدَةِ أَرْبابِها!" حِينَئِذٍ أَجابَ يَسُوعُ وقالَ لَها: "يا امْرَأَةُ، عَظِيمٌ إِيمانُكِ! لِيَكُنْ لَكِ كَما تُرِيدِينَ." فَشُفِيَتِ ابْنَتُها مِنْ تِلْكَ السَّاعَةِ."

فكيف يكون (يسوع) كما يصفونه وينظر إلى غير أبناء قومه، من "خِرافِ بَيْتِ إِسْرائِيلَ الضَّالَّةِ"، على أنهم "كلاب"؟! وحتى لو كانوا كلابًا، ألا يستحقُّون الرحمة، من باب الرفق بالحيوان؟! كلَّا، لا يستحقُّون؛ فالإنسان الكنعاني، الفلسطيني، لا ينبغي أن يُلتفَت إليه؛ لأنه من عِرقٍ آخَر، و"لَيْسَ حَسَنًا أَنْ يُؤْخَذَ خُبْزُ البَنِينَ ويُطْرَحَ لِلْكِلاب!" وتصريحات وزير العدوان الإسرائيلي، (يواف غالانت)، إذ وصف الفلسطينيِّين بأنهم "حيوانات بَشريَّة"، هو شاهد حيٌّ على ذلك الموروث المشترك بين أتباع العهدَين! تلك عقيدة راسخة لديهما، وليست وليدة اليوم.

- ماذا عن الطُّوفان؟

- أمَّا قِصَّة الطُّوفان- كما قَصَّها "التناخ" تحديدًا، أو "العهد القديم"، كما يسمِّيه النصارى- فنحن نجد جذورها لدَى السومريِّين والأكديِّين، في (قِصَّة الطُّوفان)، أو "ملحمة كَلْكامش"، على سبيل المثال.

- ما الذي حدث؟

- تدلُّ الحفريَّات الأثريَّة الحديثة على أنه قد حدث في (العراق) وما جاورها فيضانٌ رهيبٌ بالفعل في قديم الزمان. ومن خلال المكتشفات الأثريَّة لمدينة (أور) يتبيَّن أنَّ حضارةً كانت قائمةً هنالك ضربها طُوفانٌ عظيم، ثمَّ نشأت حضارات على آثارها. إلى غير هذا من الشواهد التي اكتُشفت في العصر الحديث، دالَّةً على أصلٍ تاريخيٍّ ما لتلك القِصَّة. أمَّا تلك التفاصيل الواردة في "التناخ"، فواضح أنَّ الخيال الشعبيَّ الأُسطوريَّ قد اشتغل عليها. وقد ظلَّت من مطاعن الملاحدة على المؤمنين، لتنافيها مع العقل والتاريخ. ولقد تسرَّبت بعض تلك التصوُّرات الأُسطوريَّة إلى الثقافة الإسلاميَّة أيضًا. مع أنَّ القِصَّة القرآنيَّة لا تُناقض العقل ولا شواهد التاريخ. فهي لا تعدو الإشارة إلى غَرَق قومٍ، كان فيهم رسولٌ يُدعَى (نوح). ولم تَرِد إشارة مطلقًا في "القرآن" إلى أنَّ الماء قد أغرق الكُرة الأرضيَّة. وأمَّا معنى "الطُّوفان"، ففيضانٌ مائي، كما جاء في الإشارة إلى فيضان (النِّيل) على قوم (فرعون): ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ، والجَرادَ، والقُمَّلَ، والضَّفادِعَ، والدَّمَ، آياتٍ مُفَصَّلَاتٍ، فَاسْتَكْبَرُوا، وكانُوا قَوْمًا مُجْرِمِين.﴾ كما لم يَرِد الزَّعم أنَّ من كان مع نوح في الفُلك هم أصل البشريَّة، التالية على ذلك العهد، فضلًا عن أنَّ من جاء بعد نوح هم من نسل نوحٍ فقط. كلُّ ما هنالك أنه حملَ معه أهل بيته المؤمنين، ومَن آمن معه من قومه، وما آمن معه إلَّا قليل، حتى إنَّ أحد أبنائه لم يؤمن. وبطبيعة الحال كان لا بُدَّ أن يصطحبوا معهم بعض حيواناتهم التي يعتمدون عليها، ولا غنى لهم عنها في حياتهم اليوميَّة، فاصطحب معه زوجين اثنين فقط من كل حيوان. تلك كلُّ الحكاية بعيدًا عن القِصَّة الكونيَّة التوراتيَّة العارمة. وهذا ما ورد عن ذلك، في أوسع تفصيل له، من (سورة هود)(2):

﴿... وأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ: أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلَّا مَن قَدْ آمَنَ؛ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ. واصْنَعِ الفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا ووَحْيِنَا، ولَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا؛ إِنَّهُم مُغْرَقُونَ. ويَصْنَعُ الفُلْكَ، وكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِن قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ، قَالَ: إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا، فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ. فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ، ويَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ. حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا، وفَارَ التَّنُّورُ، قُلْنَا: احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ، وأَهْلَكَ، إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القَوْلُ، ومَنْ آمَنَ، ومَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ. وقَالَ: ارْكَبُوا فِيهَا، بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا ومُرْسَاهَا، إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ. وهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالجِبَالِ، ونَادَى نُوحٌ ابْنَهُ، وكَانَ فِي مَعْزِلٍ: يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا، ولَا تَكُنْ مَعَ الكَافِرِينَ!  قَالَ: سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ المَاءِ، قَالَ: لَا عَاصِمَ اليَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ، إِلَّا مَن رَحِمَ. وحَالَ بَيْنَهُمَا المَوْجُ، فَكَانَ مِنَ المُغْرَقِينَ.  وقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ، ويَا سَمَاءُ أَقْلِعِي، وغِيضَ المَاءُ، وقُضِيَ الأَمْرُ، واسْتَوَتْ عَلَى الجُودِيِّ، وقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. ونَادَى نُوحٌ رَبَّهُ، فَقَالَ: رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي، وإِنَّ وَعْدَكَ الحَقُّ، وأَنتَ أَحْكَمُ الحَاكِمِينَ. قَالَ: يَا نُوحُ، إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ؛ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ؛ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ، إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ! قَالَ: رَبِّ، إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ، وإِلَّا تَغْفِرْ لِي وتَرْحَمْنِي، أَكُن مِنَ الخَاسِرِينَ. قِيلَ: يَا نُوحُ، اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وعَلَى أُمَمٍ مِمَّن مَعَكَ، وأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ. تِلْكَ مِنْ أَنبَاءِ الغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ، مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ ولَا قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا؛ فَاصْبِرْ، إِنَّ العَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ.﴾

- وماذا عن عُمْر (نوح)؟

- جاء في (سُورة العنكبوت: الآية 14) أيضًا ذِكرٌ لعُمْر (نوح): ﴿ولَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ، فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا، فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وهُمْ ظَالِمُونَ.﴾ وكذا جاء في "التناخ": "وعَاشَ نُوحٌ بَعْدَ الطُّوفانِ ثَلاَثَ مِئَةٍ وخَمْسِينَ سَنَةً. فَكانَتْ كُلُّ أَيَّامِ نُوحٍ تِسْعَ مِئَةٍ وخَمْسِينَ سَنَةً، وماتَ."

- غير أنَّ من المسلمين، يا (ذا القُروح)، من فهم أنَّ "الألف سنة إلَّا خمسين عامًا" إنَّما هي القرون من مبعثه إلى وقوع الطُّوفان، وقد عاش أيضًا، كما زعموا، قبل البعث سنين طويلة، وبعد الطُّوفان سنين أطول!

- لا حول ولا قُوَّة إلَّا بالله! العجب أنَّ هؤلاء الرُّواة يتجرؤون بطرح مزاعم في هذا لا أساس لها من تاريخ أو من نصٍّ يُرجَع إليه! وإلَّا فإن السؤال البدهي: من أين كانت تُستقَى المعلومات حول عُمْر نوح، للقول:" بَعث الله نوحًا وهو ابن أربعين سنة، ولبث فيهم ألف سنة إلَّا خمسين عامًا يدعوهم إلى الله، وعاش بعد الطُّوفان ستين سنة حتى كثر الناس وفشوا"؟(3)  أجاء ذلك في قرآن؟ كلَّا! أم جاء في حديث صحيح عن الرسول؟ كلَّا! وإنْ كان قد رُوي حديث ضعَّفه علماء الحديث، يشير إلى أن عُمْر نوح 1450 سنة.(4) ولو صحَّ، لما وقع الخلاف في عُمْر نوحٍ، بين مقدِّم ومؤخِّر.

- أسئلة لم تكن لتدور في الذهن السَّلَفي، لا في هذه المسألة ولا في غيرها، بل هو يروي، ويردِّد، ويورِّث مَن بعده!

- ولم يكن (ابن عبَّاس) وحده من تُنسَب إليه هذه المعلومات، التي لا يُدرَى مصدرها، بل تَرادَف آخرون حول الإدلاء بكلامٍ طويل حول عُمْر نوح. ومنهم (كعب الأحبار)، الذي رُوِي عنه أنه قال: "عاش بعد ذلك [أي بعد أَلْف سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا] سبعين عامًا!"(5) وغريب أن يكون هذا قول كعب، بصفةٍ خاصَّة، فيُظهِر أنه لا يعلم ما ورد في "العهد القديم"، مع أنه "كعب أحبار"! وقيل: بل عاش (1400 سنة)! روايةً عن (وهب بن منبِّه)!(6) والعجب هنا كذلك في رواية كهذه عن واحد من أهل الكتاب، كان يهوديَّ الدِّيانة، فإذا هو لا يتفق في قوله لا مع ما ورد في كتابه القديم، ولا مع ما ورد في كتابه الجديد! وزعمَ آخرون أنه لا صحَّة لما رواه السابقون، بل عاش نوح أكثر مما ذكروا، عاش: (1650 سنة)! وهو ما روي عن (عون بن أبي شدَّاد)، ويبدو أنَّ له من اسمه نصيبًا في هذا الزعم، قال: " إنَّ الله تبارك وتعالى أرسل نوحًا إلى قومه وهو ابن خمسين وثلاث مئة سنة، فدعاهم ألف سنة إلَّا خمسين عامًا ، ثمَّ عاش بعد ذلك خمسين وثلاث مئة سنة"!(7) ثمَّ جاء، في هذا المزاد العلني، من زاد على (عون بن أبي شدَّاد)، فقال: لا، بل عاش: (1700 سنة)! وهي رواية عن (عكرمة)، الذي نُسِب إليه القول: " كان عُمْر نوح عليه السلام قبل أن يُبعث إلى قومه وبعدما بُعث ألفًا وسبعمائة سنة"!(8)

- ماذا أردت أن تقول يا (ذا القُروح)؟ ثمَّ ما لنا اليوم ولعُمر نوح وطوفانه، في زمن (طُوفان الأقصى)؟!

- ما أُحدِّثك عنه هو الطُّوفان الثقافيُّ الأقصى! ومَن لم يراجع أمسه، لم يفهم يومه. وإنَّ في ذلك لآية على مقدار ما في صفحات التراث ممَّا يستدعي المراجعة والنقد؛ أمَّا تقديس النقل والرُّواة، فنتاج العقليَّة الاتِّباعيَّة، ولا يُغني من الحقِّ والدليل شيئًا.

- أجل، ما أكثر ما في سرديَّات تراثنا من هَرْفٍ لا يخفَى على ذي بصر، ومن استخفافٍ بالعقول، بل من فقدانٍ للعقل النقديِّ الفطري، مع عدم تساؤلٍ عن مصادر المعلومات.

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

...........................

(1) الإصحاح الخامس عشر: 21- 28.

(2) الآيات 25- 49.

(3) يُنظَر: ابن كثير، (1999)، تفسير القرآن العظيم، تحقيق: سامي بن محمَّد السلامة، (الرياض: دار طيبة)، 6: 268.

(4) يُنظَر: موقع "الشبكة الإسلاميَّة": https://rb.gy/wb9ot

(5) يُنظَر: ابن أبي حاتم، (1997)، تفسير القرآن العظيم، تحقيق: أسعد محمَّد الطيب، (مكَّة- الرِّياض: مكتبة نزار مصطفى الباز)، 3041.

(6) يُنظَر: القرطبي، (1964)، الجامع لأحكام القرآن، (القاهرة: دار الكتب)، 13: 332.

(7) يُنظَر: ابن أبي حاتم، 3042؛ الطبري، (2001)، جامع البيان، تحقيق: عبدالله بن عبدالمحسن التركي، (القاهرة: دار هجر)، 18: 370.

(8) يُنظَر: السيوطي، (2011)، تفسير الدُّر المنثور في التفسير المأثور، (بيروت: دار الفكر)، 6: 456.

 

القرآن الكريم هو دستور العربية الأول، بها نزل، بألفاظها ومعانيها وتراكيبها اللغوية والبلاغية. من هنا كان للقرآن الكريم الفضل فى نشأة وتطور الدرس اللسانى، فالعرب يمارسون هذه اللغة وتراكيبها قبل الإسلام بقرون، لكن لم تكن هناك أية رؤية لدرس هذه التراكيب، ولم تكن هناك حاجة لدرسها واكتشاف قواعدها اللسانية. حتى نزل القرآن الكريم النص المعجز الذى تحدى العرب أن يأتوا بعشر سور من مثله فعجزوا، ثم أمعن فى التحدى وتحداهم أن يأتوا بسورة واحدة فعجزوا، مع أنه بلغتهم وهم الفصحاء الذين لا يجاريهم أحد فى المراس اللسانى.

وكان المسلمون فى البداية يحفظون ما ينزل من القرآن مدركين إعجازه، لكن لم ينصرف أحد لدرس هذا الإعجاز اللغوى، لم تكن طبيعة الفترة ولا اهتمامهم يدفع لذلك. ولما نزل القرآن الكريم بلسان عربى مبين، كما أنه حوى بعض ألفاظ غير عربية الأصل ثم جرت على الألسن العربية، وفيه من لغات القبائل، فقد استغلق فهم بعض الكلمات أو بعض المعانى على المسلمين، من هنا كانت بداية البحث اللسانى، وكانت هذه أولى درجاته، هى البحث فى معنى هذه اللفظة أو مقصود هذا التركيب.

ومن ذلك حين سُئل سيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه، عن معنى قوله تعالى { وَفَاكِهَةً وَأَبًّا }[ عبس / 31 ]، فسُئل عن معنى { أَبًّا } فلم يعرف فى البداية، ثم شحذ قريحته اللغوية، ثم قال لنفسه : إن هذا لهو الكلف يا عمر. وعند البعض إن هذا لهو الكلأ يا عمر، أى العشب.

ومعنى ذلك أن هناك بعض كلمات ومعان، قد انتقل النبى ﷺ إلى الرفيق الأعلى، والمسلمون لم يكونوا قد عرفوها أو حاولوا استكشاف معناها. نعم، ما كان يُسأل فيه النبى كان يجيب، ولكن كان اهتمامهم الأكبر بفهم ما يتعلق بأركان العقيدة والفقه ومناسك الدين. ومثلما كانوا يسألون عمر، فإنهم كانوا يسألون عبد الله بن عباس وغيرهما ممن وثقوا فى فطنتهم اللغوية.

إذن كان هذا هو المحرك الأول للدرس اللسانى، وهو فهم معانى ومقاصد بعض الكلمات القرآنية، ومن ثم ظهرت بعد ذلك عدة مؤلفات تحمل نفس العنوان " معانى القرآن ". ثم تطور الأمر وكانت المرحلة الثانية من أثر القرآن الكريم فى نشأة الدرس اللسانى، فظهر كتاب " مجاز القرآن " لأبى عبيدة، وكان يصب فيه اهتمامه على الكلمة ومقصودها المجازى، أى معنى الكلمة فى أصل اللغة ثم معناها الذى تحولت إليه. ومن ذلك كلمة الصلاة التى هى فى الأصل بمعنى الدعاء ثم تحولت لمعناها الشرعى الذى نعرفه، والزكاة التى تعنى فى أصل اللغة النماء والزيادة ثم تحولت لمعناها الشرعى الذى نعرفه، وكذلك الصوم الذى معناه فى الأصل الامتناع، والحج الذى معناه فى الأصل الزيارة، ثم أصبح لكل منهما المعنى الشرعى الذى نعرفه.

ومثال ذلك أيضـًا قوله تعالى { أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ }[ النساء / 43 ] فالملامسة فى الأصل هى مجرد حدوث تلامس حتى ولو عن غير قصد، أما فى معناها المجازى فمقصدها الجماع. من هنا كان اختلاف بعض المذاهب الفقهية فمنهم من رأى أن مجرد حدوث ملامسة بين رجل وامرأة حتى ولو عن غير قصد، فإنه إن كان على وضوء لزمه إعادة الوضوء. فى حين فطنت مذاهب أخرى إلى الدرس اللسانى فى الآية الكريمة والمعنى المجازى الذى أتت عليه، فقالوا إن المقصد هنا هو الجماع الذى يوجب الاغتسال.

ولعلنا نلاحظ هنا فى هذا الطور بداية التداخل بين الدرس اللسانى والدرس البلاغى، حتى تطور الأمر وتداخل الدرس الدرس اللسانى مع الدرس النحوى أيضـًا، فظهرت مؤلفات إعراب القرآن، وعرفنا فيما بعد مقولة الإعراب فرع المعنى، وتبينوا إعراب القرآن بناء على معرفة الدرس اللسانى وسياق التركيب اللغوى والتقديم والتأخير والمبتدأ المحذوف وما إلى ذلك.

ثم كان التطور الرائع فى الدرس اللسانى حين نظر العلماء إلى التركيب اللغوى باعتباره وحدة كلية، وكان ذلك على يد عبد القاهر الجرجانى فى " دلائل الإعجاز " و" أسرار البلاغة ". وكان الجرجانى واحدًا من اللسانيين البارزين، إلا أن شهرته باعتباره بلاغيا قد طغت على شهرته باعتباره لغويا، وخير شاهد على ذلك كتاباه " دلائل الإعجاز " و " أسرار البلاغة ".

ثم بدأ الدرس اللسانى يتطور فى رحاب القرآن الكريم، فبدأ العلماء يفطنون إلى : لماذا استعمل القرآن هذه الكلمة ولم يستعمل الكلمة الأخرى المرادفة لها ؟ ومن هنا توصلوا إلى كوامن وأسرار فى الدرس اللسانى وأن لكل كلمة معنى يختلف عن الأخرى التى ترادفها. وأن الكلمة فى موضعها هذا تعنى معنى بينما فى موضع آخر تعنى معنى آخر. ومثال ذلك الفرق بين الوالدين والأبوين، فالوالدين تعنى الأم والأب مع إبراز الاهتمام بالأم أكثر، ولذلك استعمل لفظة الوالدين لأن الأم هى التى تلد. أما الأبوين فهى تعنى الأب والأم مع إبراز الاهتمام بجانب الأب. وفى مواضع أخرى نجد الأبوين تعنى الأب والجد عند بعض اللغويين. وعلى إثر ذلك صاغ العلماء نظريات الترادف والمشترك اللفظى والكلمات الأضداد وغيرها من النظريات اللغوية، واستنادًا إلى ما جاء فى القرآن الكريم من كلمات غير عربية الأصل صاغوا نظرية الاقتراض اللغوى.

ومع بزوغ علم التجويد ومخارج الحروف وطبقات الصوت، ظهرت نظريات الصوتيات ثم تبلور علم الصوتيات الذى نسميه الآن " الفونتكس ". وكذا دراسة البنية الصرفية للكلمة القرآنية، فظهر بعد ذلك ما سميناه فى عصرنا " المورفيم " وهو أصغر وحدة صرفية فى الكلمة وهو الحرف، فكل كلمة تتكون من مجموعة مورفيمات أى مجموعة حروف.

ولا يزال الدرس اللسانى فى تطور ونماء، ولو كشفنا عن كثير من نظريات الدرس اللسانى لوجدنا أنها فى أصلها ناشئة فى رحاب القرآن الكريم، بل إن كثيرًا من نظريات الدرس اللسانى الحديث الوافدة إلينا من الغرب لو تأملناها، لوجدنا بذورها وأصولها عند اللسانيين العرب الأوائل وأنها نشأت فى رحاب القرآن الكريم، ثم أخذها الغرب وأعادوا تصديرها لنا فى زى جديد.

***

د. أيمن عيسى - مصر

أن الاسترقاق ليس حديث العهد أو انه موضوع جديد ظهر مؤخراً، بل هو موضوع قديم جداً ترجع بداياته إلى قرون عديدة وكان يمثل استملاك الانسان لإنسان آخر يعمل على خدمته تحت مسمى ما يعرف بالعبد!، ويتم شراء العبيد من أسواق معينة أو عن طريق سرقتهم أو أسرهم اثناء الحروب، وكما هو معروف كان العبيد هم من يقومون ببناء القصور والمعابد والمدن وتسجل جميعها بأسم الملك أو مالكهم أي سيدهم،  فهم يقومون بالأعمال الشاقة دون أجر  وهكذا الحال مستمر إلى ان ظهر انبياء الله الذين يدعون الناس إلى المساوة وعدم ظلم الانسان لأخيه الانسان . لكن في الحقيقة موضوع المقالة اليوم لا يتحدث عن الرق أو العبيد فيما مضى وانما ما أود التحديث عنه الآن هو عبيد اليوم أو ما يعرف بالعبودية المعاصرة أو الحديثة وسأخصص الموضوع اليوم عن العبودية الاجتماعية و ليس عن عبيد المؤسسات وما يتعلق بالموظفين وعلاقتهم مع مؤسساتهم .

الانسان بالفطرة لا يحب الظلم ويحب أن يكون حراً في كل ما يتعلق بحياتهِ لكنه في الحقيقة هو من يجلب لنفسه أحياناً العبودية فيختار أن يكون عبداً بدلاً من أن يكون حراً، من خلال التعاملات الاجتماعية يصبح مقيداً ببعض المفاهيم الغير صحيحة فلا يستطيع ان يكون صادقاً مع نفسه ومع من يتعامل معهم ولعل صفة الكذب هي من أهم ما يتميز به الانسان الحر عن الانسان العبد فقد يكذب من أجل أبسط الأمور خوفاً من الملامة الاجتماعية أو ملامة الناس له فقد يبرر لنفسه أن الكذب هو وسيلة مشروعة لتلميع صورته أو جعله شخص مثالي في نظر الآخرين !، هذا بالإضافة إلى صفات أخرى كالغش وتبريره بانه ذكاء تجاري وفطنة!، وكذلك التملق والمحاباة ووو .. إلى آخره من الصفات . فيمكن القول ان تلك الصفات السيئة هي من تجعل من الانسان عبداً وفي بتلك الحالة يكون الانسان أسير نفسه وافكاره ولا يستطيع التعبير عن افكاره أو افعاله بصورة حرة دون اللجوء إلى صفات غير اخلاقية فيتقيد في حياته ويكون في موضع حذر من ان يكشف كذبه أو غشه في أي وقت ويبقى في صراع مع نفسه وبذلك يكون بعيداً تماماً عن الحرية التي تجعل منه انسان واثق من نفسه يتصرف بأريحية في حياته، لذلك من الأمور الصائبة هو ان يعيش الانسان ببساطة دون الوقوع بأخطاء تجعل منه عبداً مع ذاته ومع مجتمعه وإذا وقع في الخطأ كان سبيله الاعتراف والاعتذار خيراً له من الكذب . واختتم مقالتي بأن لم يمتلك الشجاعة في قول الحقيقة سيعيش عبداً طوال حياته..

***

سراب سعدي

 

السَّترُ هو لباس المرأةِ المسلمةِ الذي يشن عليه التغريبيونَ حملةً شديدةً خصوصاً هذهِ الايام مع تزايد ارتداء المسلمات للباس الساتر لاجسادهن.

واخترتُ كلمةَ السَّتر بدلاً من كلمة الحجب ؛ لأنَّ لباسَ المرأةِ المسلمةِ لايحجبُها عن ممارسة دورها في الحياة، ولايعزلها عن ممارسةِ أدوارها الاجتماعيَّةِ . والفقهاء استخدموا عبارة " الستر والساتر"في الصلاة .

أمّا الحجاب الذي يعني الحجب والعزل فقد ورد في نساء النبيِّ صلى الله عليه وآلِهِ وسلم لخصوصية نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم. يقول الله تعالى:(وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما ).الاحزاب: الاية:( 53 ) .

والستر ظاهرةٌ فطريَّةٌ موجودةٌ في كل المجتمعات على اختلاف ثقافاتها ودياناتها ورؤاها ، ولكنَّ الاختلافَ ليس في الظاهرة نفسها بل في المساحات التي يجب ان تستر من الجسم وبالخصوص جسم المراة . اختلافُنا مع الاخرين هو اختلافٌ في الكم ، اي في كمية اجزاء الجسم التي ينبغي سترها. والا فالعريُ مرفوضٌ عند كل البشر باستثناء الشاذين منهم. نجد ذلك حتى في الديانات الاخرى كالراهبات في المسيحية وفي اليهودية وغيرها من الديانات سماويةً كانت أم وضعيَّةً.

هذا في جانب الكم ، اذ الاختلاف في كم المساحةِ المستورةِ من الجسمِ .ولكن هناك جانبٌ آخرَ من الستر في التصور الاسلامي هو الستر الباطني ... السَّترُ الذي أشرنا اليه هو " الستر الظاهري" ولكن التصور الاسلاميَّ للستر لايقتصر على الستر الظاهري ، بل يشدد -ايضاً- على الستر الباطنيِّ والذي هو " الحياء" ، يقولُ اللهُ تعالى:

(الآية: ﴿ يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾.الاعراف: الاية:26

ولباس التقوى لباس باطني يستر باطن الانسان ، وهو الحياء ، فالمرأةُ المتسترة ظاهرياً ومتهتكة باطنياً ، المرأة التي نزعت عنها جلباب الحياء لاقيمة لمظهرها الخارجي ، وان كان ذلك مطلوباً دينياً ؛ لان السترَ الظاهريَّ يؤدي وظيفةً اجتماعيةً وهي حماية المجتمع اخلاقياً من سعار الغريزة وانفلات الشهوات.. وهذا الكلام الذي نقوله ليس كلاماً طوباوياً وانما هو كلام يشهد عليه الواقع بالارقام الموثقة والمؤكدة ، فالستر الظاهريُّ يقوم بدور حماية المجتمع من الاهتزاز الاخلاقي والستر الباطني" الحياء" يقوم باكمال المهمةِ التي تتجاوز حدود الستر كواجب ؛ لان الواجب الظاهريَّ قد يتعرض الى الاهتزاز والضغوط ولكن قوّةَ الايمان من الداخل تحميه من الانهيار. الستر الباطني يجعل الشخصيَّةَ متماسكةً وصلبةً في وجه التحديات والظغوط . الستر الظاهري وحده لايكفي للصمود بوجه التحديات فالبعض من النساء خلعن سترهن الظاهريَّ بسبب الضغوط والسخرية لان تماسكهن الداخليَّ ضعيف لايقوى على الصمود بوجه المعركة المستمرة على سترِ المرأةِ المسلمة وعفافه.

***

زعيم الخيرالله

 

في العالم لا يختلف اثنان حول خطورة هجرة العقول والكفاءات المهاجرة، فشأن هذا الموضوع شأن المواضيع الساخنة الاخرى التي تعرقل حل المشاكل والقضاء على الازمات ودفع مسيرة التطور الاقتصادي والاجتماعي الى الامام. وفي صدد تقديم اجوبة شافية للاسباب الداعية لهجرة الادمغة العراقية، وبصورة عامة العربية، ساحاول في هذه المقالة الاجابة عن بعض الاسئلة حول تاريخ ودوافع الهجرة وانواعها وعن اسباب الهجرة وعجز العراق من الاستفادة من كفاءات الخارج.. لماذا يترك الموهوبون بلادهم ويهاجرون؟ ما هي عواقب مثل هذه الهجرات خاصة على قطاع التعليم؟ ما هي السياسات التي يمكن اعتمادها لوقف مثل هذه الهجرات من البلدان النامية إلى البلدان المتقدمة؟

ما هي هجرة العقول؟

هجرة العقول هي ظاهرة تتمثل في انتقال الأفراد ذوي المهارات العالية من بلد إلى آخر، مما يسبب فقداناً للقوى العاملة والإمكانات الاقتصادية للبلدان المصدرة (1). يمكن أن يحدث هذا لعدة أسباب، بما في ذلك:

* الفرص المهنية: قد يبحث الأفراد ذوو المهارات العالية عن فرص عمل أفضل في بلدان أخرى، حيث قد تكون الرواتب أعلى أو الفرص أكثر تنوعا.

* الظروف السياسية والاقتصادية: قد يهاجر الأفراد ذوو المهارات العالية من البلدان التي تعاني من عدم الاستقرار السياسي أو الاقتصادي.

* العوامل الاجتماعية والثقافية: قد يهاجر الأفراد ذوو المهارات العالية من البلدان التي لا تلبي احتياجاتهم الاجتماعية أو الثقافية.

يمكن أن يكون لهجرة العقول تأثير سلبي كبير على البلدان المصدرة، فيمكن أن تؤدي إلى انخفاض الإنتاجية والابتكار، وزيادة البطالة، وانخفاض القدرة التنافسية.

تشير العديد من الدراسات إلى ظاهرة هجرة العقول العربية، لكن معظمها يعتمد على بيانات من دراسات سابقة. من الدراسات المهمة في هذا المجال دراسة الجامعة العربية (2)، التي تشير إلى أن فرنسا تستقبل 40% من العقول المهاجرة، والولايات المتحدة 23%، وكندا 10% ، ويقدر أن هجرة العقول تكلف الدول العربية ما لا يقل عن 200 مليار دولار سنوياً.

الهجرة حلم الباحثين العرب

يشير تقرير لمركز الخليج للدراسات الستراتيجية (3) إلى أن استطلاعا حديثا أجراه المركز شمل 1000 باحث في العالم العربي، وجد أن 91٪ منهم يرغبون في الهجر. ومن بين هؤلاء، ذكر 68٪ أنهم يرغبون في الذهاب إلى أوروبا، و55٪ إلى أمريكا الشمالية. كما يشير التقرير إلى أن الدوافع المالية لا تأتي دائما في المقدمة بالنسبة للباحثين العرب الذين يرغبون في الهجرة. ففي الدول الخليجية، ذكر 62٪ من الباحثين أنهم يريدون السفر إلى الخارج للاستفادة من المزيد من الحرية الأكاديمية، بينما ذكر 26٪ فقط أن دوافعهم تتعلق بدفع أجور أعلى.

تاريخ هجرة العراقيين

يتناول الدكتور عبد الحسين شعبان في مقالته على موقع الجزيرة (4) تاريخ هجرة العراقيين منذ تأسيس المملكة العراقية في ثلاثينيات القرن الماضي، والتي شملت المسيحيين واليهود بشكل خاص. ويذكر أن الوضع السياسي المضطرب بعد انقلاب حزب البعث واندلاع الحرب مع إيران كان سببا آخر للهجرة. ويشير إلى أن الحصار الاقتصادي أجبر مئات الآلاف على مغادرة العراق بسبب فقدان الأمل في التغيير. ويستعرض أثار الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003، والذي أدى إلى هجرة كبيرة بسبب التفجيرات ووجود الميليشيات. ويذكر إن عام 2006 كان أسوأ عام للهجرة، بينما تحسن الوضع قليلا في عام 2007، وعاد بعض العراقيين إلى بلادهم. ويعتقد أن هناك حوالي أربعة ملايين عراقي يتواجدون في الشتات، بالإضافة إلى ستة ملايين نزحوا داخليا بسبب داعش، لكن معظمهم رجعوا إلى مناطقهم. ويلفت الاهتمام إلى استمرار هجرة الأكراد إلى أوروبا، وزيادة عدد الضحايا جراء ذلك. ويبلغنا الكاتب إن العراقيين هاجروا بشكل أكبر وأسرع من غيرهم من العرب، سواء من لبنان أو سوريا، اللذين هاجرا قبلهم بوقت طويل.

في المقال نفسه، يذكر شعبان أن الهجرة العراقية لم تتوقف عن الارتفاع سنة بعد سنة، بسبب الظروف المعيشية الصعبة والأزمات السياسية والفقر والبطالة. فمثلاً، أصبح عدد العراقيين الذين يهاجرون إلى أستراليا أكثر من عدد الهنود وغيرهم، مقارنة بما كانوا عليه في بداية التسعينات.

يصنف شعبان الهجرات التي شهدها العراق في الزمن الحاضر إلى ست فترات رئيسية، أدت إلى خروج ملايين العراقيين من بلادهم. هذه الفترات هي: هجرة نهاية السبعينات بسبب الإضطهاد، هجرة حرب الخليج، هجرة تشريد الأسر العراقية، هجرة احتلال الكويت، هجرة سقوط الديكتاتورية، وهجرة التهجير الداخلي والخارجي للمسيحيين وغيرهم من الأقليات.

نسب المهاجرين إلى الدول الأوروبية ونسبة الكفاءات

وفقا لتقرير من المفوضية الأوروبية (5)، تختلف نسبة المهاجرين والكفاءات بين الدول الأوروبية باختلاف حجمها وسكانها. نلاحظ أن الدول الأوروبية المتقدمة التي تستطيع استيعاب أعداد كبيرة من المهاجرين مقارنة بسكانها تجذب معظم الهجرات. مثلا، في لوكسمبرغ التي يبلغ عدد سكانها حوالي 650 ألف نسمة، يشكل المهاجرون نحو نصف هذا الرقم. أما في المملكة المتحدة التي يبلغ عدد سكانها 67 مليون نسمة، فإن نسبة المهاجرين لا تزيد عن 13.5%، وما يعادل أكثر من 9 ملايين مهاجر. لكن هذه العلاقة بين حجم الدولة ونسبة المهاجرين ليست ثابتة في جميع الدول الأوروبية، فهناك عوامل أخرى تؤثر على توزيع المهاجرين على البلدان الأوروبية، مثل اللغة وفرص العمل والثقافة الاجتماعية وسهولة الوصول وطلب اللجوء. كما أن العلاقات الأوروبية المشتركة تلعب دورا في تحديد عدد اللاجئين في كل دولة.

ووفقا لتقرير "هجرة الأدمغة" الذي أصدرته منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (6)، فإن نسب هجرة الأفراد ذوي المهارات العالية تفوق نسب هجرة الأفراد ذوي المهارات الضعيفة في معظم الدول. يظهر هذا التحيز في المهارات في نسب الهجرة بشكل واضح في الدول ذات الدخل المنخفض. تعاني الدول الصغيرة والفقيرة من أعلى نسب هجرة الأدمغة فتفقد هذه الدول التي تضررت بشدة بهجرة أكثر من 80٪ من "أدمغتها" إلى خارج حدودها مثل هايتي وجامايكا والعديد من الدول الصغيرة التي لا يزيد عدد سكانها عن مليون نسمة. هناك حوالي 20 دولة أخرى تخسر بين ثلث ونصف خريجي جامعاتها. معظم هذه الدول في أفريقيا جنوب الصحراء (مثل ليبيريا وسيراليون والصومال) وآسيا (مثل أفغانستان وكمبوديا). وتعتبر بعض الدول الصغيرة ذات الدخل المرتفع، مثل هونغ كونغ وأيرلندا، استثناءات.

مؤشر هجرة العقول

يقيس مؤشر هجرة العقول (7) الآثار الاقتصادية لانتقال البشر (لأسباب سياسية أو اقتصادية) وكيف يؤثر ذلك على تطور الدولة. كلما كان المؤشر أعلى، كانت الهجرة أكثر. هذا التفسير مبني على نتائج 177 دولة لسنة 2022. المتوسط العالمي للمؤشر هو 5.21. أعلى الدول العربية في مؤشر الهجرة والتي تنتمي إلى أعلى 20 دولة هي فلسطين وسوريا والسودان. بينما تحتل المغرب موقعا متقدما بمؤشر 7.40 والعراق قريب منه بمؤشر 6.40.3340 مؤشر هجرة العقول العراقية

مؤشر هجرة العقول. من 0 (منخفض) الى 10 (مرتفع)

لو نظرنا الى عدد المهاجرين من البلدان العربية ومن بلدان الشرق الاوسط لوجدنا اختلافات كثيرة، ويحدد هذه الهجرة على الاغلب عوامل داخلية وتاريخية. تمثل تركيا والجزائر وايران وتونس والعراق ولبنان ومصر اكثر الدول تصديرا للمهاجرين. واذا نظرنا الى نسبة المهاجرين من اصحاب الشهادات العلمية والكفاءات لوجدنا ان هذه النسبة لا تتناسب مع عدد المهاجرين. يبدو ان بعض الدول تصدر عمالا وبعضها تصدر كفاءات. نسبة المهاجرين العلميين تبدو عالية جدا في دول كلبنان وايران والمغرب وتونس والعراق (6).

اسباب الهجرة: قد تبدو الاسباب واضحة ولا غبار عليها الا ان تسلسها في الاهمية قد تختلف من بلد لاخر. معظم اسباب الهجرة تعود الى تحسين الوضعية الاقتصادية، وتوفر فرص العمل ثم الهجرة لغرض الدراسة ولاكتساب الخبرة والمعرفة، وكنتيجة لتفشي الفساد في البلد وسوء نظام الحكم، والخوف من الاضطهاد السياسي، وعدم توفر الامن، ولاسباب عائلية ودينية.

مخاطر الهجرة: يعتمد خطورة الهجرة على كونها هجرة للعامة او هجرة للعقول والكفاءات. كما ان هناك انواع مختلفة من هجرة العقول بالخصوص تلك العقول التي تكونت في المهجر عن طريق الدراسة وعادت للوطن الا انها هاجرت، وتلك العقول التي تكونت بالمهجر ولم تعد للوطن. هذه عقول درست وتدربت في المهجر الا ان الحياة والعمل قد اغراها فبقت في الخارج. على الجانب الاخر تجد هناك الكثير من العقول التي تكونت في الوطن الا انها اجبرت على الهجرة، وهناك شريحة مهمة من العقول التي نتيجة لشحة الامكانيات وضعف القاعدة العلمية وانعدام الحريات الاكاديمية اجبرت على الخمول والانضواء ولم تقدم شيئا ملحوظا لبلدها.

الهجرة الخارجية هي ما يتكلم عليه الكتّاب والمختصين عندما يريد منها حساب التكلفة للبلد. والحقيقة ان الكلفة لا تكون دقيقة في معظم الاحيان، ولربما في بعض الاحيان تدر على البلد اكثر مما كلفته. الكلفة هي مقدار ما صرفه البلد على تدريس وتدريب الشخص. كل هذا يعتمد على مستوى التدريب وحاجة المجتمع والصناعة لهم. ولكنه في بعض من الاحيان يبقى الارتباط بالوطن الام شديدا مما يفيد الوطن سواء بالاموال المحولة والمستثمرة في داخل البلد، وهذا ما يحدث حاليا عن طريق المهاجرين العرب الى دول الخليج، والمغاربة خاصة في دول المهجر كفرنسا واسبانيا وكندا.

اسباب هجرة العقول العراقية او بقاءها في الخارج

ادناه الاسباب الرئيسية التي ادت في الماضي ولازال بعضها يؤدي الى هجرة العقول العراقية الى الخارج:

- الحروب والارهاب والاضطهاد وانتشار الاعراف العشائرية

- انتشار ظاهرة خطف واغتيال الأكاديميين والاطباء والكفاءات بصورة عامة

- فقر الامكانيات والقدرات والذي يعكس نقص الخدمات الاساسية، انخفاض مستوى المعيشة ونوعية الحياة معا

- ارتباط التوظيف بالارتباط الحزبي او بشراء الوظيفة

- المجتمع العراقي اصبح بيئة طاردة للكفاءات العلمية وليست جاذبة أو ‏‏حاضنة للكفاءات

- ضعف مستوى الانفاق على التطوير والابتكار والبحث العلمي ‏ والتقني

- هيكلية ادارية بيروقراطية فاسدة وضعيفة ومتخلفة

- عدم إشباع روح البحث والتطوير أو المشاركة الفاعلة في الرأي والخبرة أو الحصول على الدعم المادي والمعنوي

- النهج والاراء العدائية ضد كفاءات الخارج.

كيف يمكن وقف هجرة العلماء؟

لابد من سياسة هادفة لجذب العقول كوسيلة لانقاذ العراق من الركود الاقتصادي والتكنولوجي ولحاجة الوطن للاختصاصات العلمية والهندسية والطبية ولقيادة خطط التنمية، ولاجل تأهيل المعرفة والفكر والعلم وتأثيرها في المجتمع العراقي، وجعل التفكير والاختصاص المهني والقدرة العلمية جزءا من نسيج المجتمع. ولاجل تحقيق اهداف هذه السياسة لابد ان تتضمن عوامل جذب ومغريات، ومنها:

- توفير الامان والاستقرار وتقليل الاختناق الطائفي

- وضع الشخص المناسب في المكان المناسب

- تحسين مستويات الدخل والمعيشة

- تعديل قانون الخدمة الجامعية

- زيادة امكانات البحث العلمي وتشجيع الاستثمار والتطوير

- تقليل الاجراءات الروتينية فيما يتعلق بالاوراق الرسمية التي تنهك صاحب الكفاءة العائد

- ابعاد الصراعات السياسية عن الجامعات

- تعديل التشريعات والقوانين والامتيازات الاقتصادية بما فيها مساعدة العائدين ماديا وتسهيل معاملاتهم

- القضاء على الفساد الاداري والمالي ودعم الجهاز الاداري للدولة بالكفاءات

- الحد من ظاهرة العداء لكفاءات الخارج ومحاولة فهمها ووضع افضل السبل لمعالجتها

حان الوقت لفهم وقبول أن هجرة الكفاءات هو جزء من الحياة في القرن الحادي والعشرين طالما هناك فروق في مستويات المعيشة والحريات وفرص العمل بين البلدان. تحتاج بلداننا إلى الاقرار بأنها تتنافس مع أفضل الدول والمؤسسات في العالم من أجل القوى العاملة عالية الجودة.

لم يجلب مطلع القرن الحادي والعشرين تكنولوجيا جديدة مثل الذكاء الصناعي وحواسيب الكونتم والتحرير الجيني فحسب، بل جلب أيضا أنماطا يمكن من خلالها ربط العلماء في جميع أنحاء العالم في أي وقت من الأوقات. في هذا العالم المعولم قد يكون لدى الكفاءات في العالم المتقدم اعمال خاصة بهم في العالم النامي (8). أصبح التواصل السهل والسفر السريع والتعاون الأكبر بين البلدان المتقدمة والنامية أكثر شيوعا بشكل متزايد ونحن بحاجة إلى تطوير طرق يمكن للكفاءات المهاجرة من خلالها المساهمة في بلدانهم الأصلية. ومن هذه الطرق هو الاستثمار في الكفاءات المهاجرة.

يوجد في الدول النامية نموذجين تم تنفيذىما من أجل مواجهة هذه الظاهرة، وهما: النموذج الاول والذي اختارته كل من كوريا الجنوبية وتايوان، وهو مكلف جدا من الناحية المالية، انه يفترض إعادة إنتاج نفس شروط العمل في البلد المتقدم للتمكن من تنظيم عودة حاملي الشهادات. وتهدف هذه الدول إلى استعادة الاستثمار الذي بذل في إعداد هذه الكفاءات، بالاضافة إلى فائض القيمة الناتج عن الخبرة المكتسبة في بلد الاستقبال (8).

اما النموذج الثاني ويعد أكثر براغماتية، حيث يهدف إلى جعل ذوي الكفاءات المهاجرين نافعين لبلدهم الاصلي حيثما يوجدون .هىذه التجربة خاضتها بعض البلدان، من بينها كولومبيا (شبكة كالداس) وجنوب أفريقيا (شبكة جنوب افريقيا للكفاءات المهاجرة في الخارج) وكذاك الهند من خلال العلماء ورجال الاعمال الهنود العاملين في "السيليكون فالي" بالولايات المتحدة الامريكية والذين أسسوا رابطتين من أشهر روابط العلماء في السليكون فالي وهي "رابطة العلماء الهنود العاملين في السيليكون فالي"، و"منظمة رجال الاعمال الهنود العاملين في السيليكون فالي" . هذا النموذج الذي لا يفترض العودة الفعلية ويقتضي الامر تطوير البلد لشبكة من الباحثين المغتربين هدفها من جهة تواصل الكفاءات فيما بينيم ومن جهة أخرى توطيد العلاقات مع بلدهم حتى يستطيعوا الاسهام -حيثما يوجدون -في التنمية الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية لبلدهم الاصلي. وقد طبقنا هذا النموذج بتاسيس شبكة العلماء العراقيين في الخارج (نيسا) والتي تضم النخبة المهاجرة التي تحتل المواقع الاولى للصحوة التكنولوجية والعلمية.

صيغة لاستثمار الطاقات العراقية المتواجدة في الخارج

ان فرص الاستفادة من كفاءات الخارج هائلة ولا تتطلب تخصيص مبالغ مالية كبيرة اذا ما اعتمدنا مبدأ "تحفيز الكفاءات على استثمار طاقاتها داخل العراق" وذلك بالاستناد الى خيار بقاء هذه العقول في الخارج كبديل عن خيار العودة لكون هذا الاسلوب هو الوحيد القادر فعليا على الاستفادة من العقول المهاجرة لانه حل منطقي وعملي وهو حل ملائم لاصحاب الكفاءات المهاجرة التي تريد خدمة وطنها مع بقاءها في الخارج، ويمكن مراجعة كتاب "العقول العراقية المهاجرة بين الاستنزاف والاستثمار" للدكتور نادر عبد الغفور احمد (9) والذي يقدم دراسة تحليلية لهجرة العقول العراقية وكيفية استثمارها لخدمة الوطن بالاستناد الى خيار بقاء العقول في خارج الوطن.

وخلاصة ما يستهدفه خيار الاستثمار في مجال التعليم العالي هو بقاء العقول في الخارج مع اشراكهم في التدريس والاشراف على الدراسات العليا عن طريق الزيارات والتواجد لفترات قصيرة داخل الوطن او "التعليم عن بعد" وطرق ايصال المعرفة الاخرى.

باختصار، يتطلب استثمار الطاقات العراقية المتواجدة في الخارج اتخاذ الاجراءات التالية:

- تشكيل لجنة خاصة (والافضل انشاء دائرة – دائرة استثمار الكفاءات المهاجرة - لها تركيبها الاداري الخاص)

- تشكيل بنك معلومات عراقي يضم معلومات كافية عن العقول المهاجرة وكفاءاتها العلمية والفنية والادارية.

- تشكيل هيئة استشارية ترتبط بدائرة الكفاءات المهاجرة لغرض استطلاع اراء العقول المهاجرة بخصوص استثمار طاقاتهم وابداعاتهم لخدمة الوطن وتوضع خلاله استراتيجية اولية تهدف للاستفادة من العقول المهاجرة.

- تقوم الدائرة بتنظيم العلاقة بين العقول المهاجرة والجامعات العراقية والملحقيات الثقافية في الخارج ووضع الجداول الزمنية للمحاضرات ولتقديم الخبرة.

- دعم الملحقيات الثقافية بجهاز وظيفي متكامل لتكون الرابط بين العقول المهاجرة والوطن ولتنظيم الزيارات ولكي تتمكن من توفير الدعم اللوجستكي لمشروع "التعليم عن بعد" وتنظيم المحاضرات والسمينرات المنقولة عن طريق الانترنت الى الجامعات العراقية.

هذا المشروع مشابه لحد كبير مع مشاريع لدى بعض البلدان، مثل الهند والصين. على سبيل المثال، في حزيران من هذا العام، أطلقت الحكومة الهندية برنامج (فايشفيك بهارتيا فايجيانيك)، الذي يقدم المنح الدراسية للعلماء الهنود في الشتات الذين يتعاونون مع المؤسسات الهندية ويقضون شهرا أو شهرين في الهند كل عام.

تذكر رنا دجاني في مقالة لها في مجلة النيجر (10) درسا من دروس القمة العالمية للمغتربين في دبلن في أبريل 2022، والتي نظمتها المنظمة الدولية للهجرة بخصوص اهمية بناء شبكات تصاعدية للمغتربين يقودها الأعضاء والتي ينبغي لها أن تتواصل مع الحكومة والوكالات العلمية والأكاديميات الوطنية والمجتمع العلمي في بلدها الأصلي. وتعتبر شبكة العلماء العراقيين في الخارج (نيسا) مثالا ناجحا على مثل هذه الشبكات، وهدفها توفير الخبرة والدعم للبلد في مجال العلوم والتكنولوجيا وفروع المعرفة الاخرى باعتبارها جزءا حيويا من التنمية والتطوير في العراق ولتبادل المعرفة والزيارات لتدريب العلماء والفنيين والخبراء والمناقشه في مجال التربية والتعليم والابتكار ونقل التكنولوجيا.

وما نصبو اليه هو ان يتم العمل على تعزيز الجوانب التنظيمية والادارية للزيارات العلمية على مستوى الوزارات والجامعات لتحسين النشاط التدريبي والاستشاري والبحثي وتعزيز فاعليته وبحيث يصبح دعوة العلماء عملا مستمرا لكل وزارة ولكل جامعة. لذلك يتوجب العمل وبسرعة لكي لا يستمر النزف هو ان تقوم الدولة والوزارات المختلفة بوضع الاجراءات الضرورية وخلق الاليات العملية وتخصيص الاموال اللازمة لزيادة ميزانيات البحث والتطوير وبوضع التعليمات التي تؤدي الى تشجيع وتسهيل الدعوات لعلماء وكفاءات الخارج بزيارة الوطن والمشاركة في بناءه. كما يتطلب اخذ الاجراءات التي من شأنها ان تشجع كل كفاءة خارجية بالاتصال بجامعة او بمعهد تدريب او تطوير او بوزارة لاعلامها بوجوده وبرغبته لتقديم خبرته حتى ولو كانت على صورة محاضرة قصيرة او اجتماع قصير.

ان جامعات ومؤسسات البحث والتطوير العالمية تتطلع وتتوق الى زيارات العلماء من خارجها وتخصص التمويل اللازم لاستضافتهم والاستفادة من خبرتهم، كما تقوم الشركات العالمية بالاستفادة من خبرة العلماء عن طريق الاستشارة وتكلفها مثل هذه الفعاليات أموالاً طائلة لان العلماء لا يمنحون جهودهم مجانا للشركات الصناعية مثلما يمنحون هذه الجهود للجامعات الاخرى. فاذا كانت جامعاتنا العراقية ومؤسسات البحث والتطوير في التعليم العالي وفي العلوم والتكنولوجيا وفي الوزارات الاخرى راغبة حقا في الاستفادة من العقول المهاجرة فستجد المئات من العلماء العراقيين مستعدين لتلبية الدعوة وتقديم الخبرة، مستجيبين بذلك إلى الرغبة بتعويض وطنهم الاصلي جزئيا من الضرر الواقع نتيجة هجرة تلك الأدمغة.

***

ا. د. محمد الربيعي:

.........................

المصادر

1- ويكيبيديا، الموسوعة الحرة، "هجرة الأدمغة"

2- الجامعة العربية، "تقرير حول هجرة الأدمغة في الوطن العربي"، 2017.

3- تقرير مركز الخليج للدراسات الاستراتيجية، "هجرة العقول العربية: الأسباب والآثار"، 2018

4- عبد الحسين شعبان، "هجرة العراقيين: أسبابها وآثارها،" موقع الجزيرة نت، 2023.

5- تقرير "هجرة الكفاءات إلى أوروبا" الصادر عن المفوضية الأوروبية، 2023

6- تقرير "هجرة الأدمغة" الصادر عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، 2023

7- تقرير "مؤشر هجرة العقول" الصادر عن مؤسسة بريتش كونسل، لندن، 2022

8- زينب محمد العبد الله، "هجرة الكفاءات العلمية من الدول العربية: الظاهرة، الأسباب، الآثار، وسبل الحد منها." كلية الدراسات الاقتصادية والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، 2008

9- نادر عبد الغفور احمد، "العقول العراقية المهاجرة بين الاستنزاف والاستثمار"، مؤسسة الرافد، 2003

10- رنا ديجاني، "العلماء في المهجر مورد قوي لبلاهم الأصلية" مجلة النيجر، 622، 671، 2023

 

يعدّ العراق بلد الشعر والشعراء، ولا يمكن لبلد هو موطن الشعر والشعراء ما لم يكن اهله مثقفين، وقيل حديثا.. مصر تكتب ولبنان تطبع والعراق يقرأ.

والتساؤل: كيف هو حال المثقف العراقي بعد عشرين سنة عاشها في نظام ديمقراطي تحكمه عملية سياسية تقوم على المحاصصة والطائفية؟!

في مقال سابق اشرنا الى ان النظام الدكتاتوري اعتمد ثقافة الحاكم الواحد والحزب الواحد، وحصل بعد سقوطه أول تحول سيكولوجي بظهور (ثقافة الضحية) التي صنفت العراقيين الى ضحيتين هما الشيعة والكورد، وان على الضحية المظلومة ان تقتص من الجلاد الظالم الذي هم السنّة.

وحصل ما كنا حذرنا منه في حينه يوم قلنا لمن هو في السلطة بان انتصار الضحية على من تعدّه جلادها سيدفعها سيكولوجيا الى التعبير بانفعالية في تضخيم ما أصابها من ظلم، وستشرعن الاقتصاص ممن كان محسوباً على الجلاد. وكالعادة فان سيكولوجيا السلطة في العراق لا تأخذ بما يقوله المفكرون وعلماء النفس والاجتماع.. فكان الذي تعرفونه من الكوارث والفواجع.

بعدها بسنة، اي في(2004) ظهر التحول السيكولوجي الثاني تمثل في (ثقافة الأحتماء).. فبعد أن تعطل القانون وصارت الحياة فوضى والسلطة لمن هو أقوى في الشارع.. اضطر البغداديون بشكل خاص الى أن يغادروا بغداد ليحتموا إما بالعشيرة أو المدينة التي ينتمي لها.. كأن يذهب الراوي الى راوة مثلاً.

ومن يومها تراجعت ثقافة الانتماء للوطن التي توحّد،، وشاع وتعمّق اخطر تحول سيكولوجي هو (ثقافة الولاءات المتعددة) التي فرّقت العراقيين واوصلتهم الى أبشع حال تمثل في احتراب الهويات القاتلة لسنتين كارثية(2006-2008). ومن يومها أيضاً تراجعت ثقافة المواطنة التي سدد لها بريمر ضربة ثقافة التثليث(شيعة، سنّة، كرد)، وثقافة التسامح وثقافة الحوار، لتظهر ثقافات متعددة الأسماء :

ثقافة التحرير، ثقافة الغزو، ثقافة العمالة، ثقافة الارهاب، ثقافة المقاومة، وثقافة كاتم الصوت. وكان أقبحها هي ثقافة الطائفية التي وزعت العراقيين الى جماعات تفرقها ثقافة التعصب وتجمعها ثقافة الكراهية.

ثقافة.. الحول العقلي!

اوصلتنا متابعتنا للعملية السياسية وحال الثقافة في العراق خلال العشرين سنة الماضية الى ابتكارمصطلح جديد في علم النفس هو (الحول العقلي). ويعني أن المصاب به يرى الايجابيات في جماعته ويغمض عينه عن سلبياتها، ويضخّم سلبيات الجماعة الأخرى ويغمض عينه عن ايجابياتها، ويرى ان جماعته، طائفته، قوميته.. على حق والأخرى على باطل، وان هذه الأخرى هي سبب الأزمات مع ان جماعته شريك فيها.

في البدء، كانت ثقافة الحول العقلي مقتصرة على حكام استلموا السلطة بعد 2003، ثم انتشرت عدواها بعد 2008 وبدءا من عام 2008 لتصاب بها كتل سياسية وفصائل مسلحة، كل واحدة ترى ان فكرها.. عقيدتها.. رؤيتها للأمور هي الصح والأخرى زندقة او ضلالة او غباء.. واشتد هذا الحول في 2019 ليوصل الجميع بأن الحكم للسيف لا للعقل.. فحصد السيف رقاب المئات بينهم قادة قوم وشباب فكر وابرياء وصبايا واحداث.. وامهات وحبيبات مفجوعات. ووصل الحال أن اهل العراق ما عادوا (اهل نظر وفطنة ) كما قال الجاحظ، بل انهم اصيبوا بالحول العقلي، والأخطر ان عدوى الحول العقلي اصابت وزارة الثقافة، واصابت مثقفين يعدون انفسهم ( قامات ) وآخرين ينتمون الى منظمات معنية بالثقافة التنويرية ومؤسسات علمية بعضها يترأسها (أحول عقل) خالص!.

بأن (الحول العقلي) انتقل بالعدوى عبر عشرين سنة ليصيب حتى من كان يعد نفسه تقدميا!.

استطلاعات رأي

في 2018 استطلعنا رأي جمهور الفيسبوك عن حال المثقف بعد التغيير، اليكم نماذج من اجاباتهم:

* المثقف العراقي يواجه ثقافة دينية طائفية عشائرية مدججة بالسلاح والمال والنفوذ لكنه رغم ذلك يعمل ويبدع ويقاوم.

* المثقفون لا يملكون قوة المال ولا غاز مسيل للدموع والهجمة الان ضخمة وقوية.

* بدون زعل، لانهم لم يسمعوا كلام غادة السمان، فهاجروا ثم ذبلت ازهارهم هناك ولم يدركوا ان الاشجار لا تهاجر.

* المثقفون.. منهم من وجد ذاته بعيدا وغادر الوطن ولم يتذكره، والموجودون في واد والجماهير في واد اخر، ومنهم من انساق وراء مغريات السلطة للاسف.

* لا يوجد تاثير للمثقف على سواد الناس الذين يمثلون قاعدة الجهل العريضة ويتأثرون بخزعبلات الملّا والمشعوذ، والبعض منهم يعتبر المثقف بانه ينشر الكفر بين الناس.

* لا يوجد مثقفون في العراق بل يوجد متعلمون يجيدون الكتابة واللغوة في المقاهي والمطاعم والفنادق الشعبية.

بعد خمس سنوات وفي (2023)اعدنا نفس الأستطلاع.. اليكم نماذج من اجابات حرصنا ان تحمل افكارا مختلفة:

*حسب رأي غرامشي.. الاكثرية في المجتمع هم مثقفون لكن بثلاثة اصناف: التقليدي المهني مثل الموظف والمعلم، والثاني الذين يعرفون الأخطاء ويقبلون بها طمعا بعطاء من السلطة وهم الأغلبية في العراق من كتاب وفنانيين وآخرين، والثالث هم الذين يشخصّون الاخطاء ويعملون على تصحيحها ويدافعون عن التغيير نحو الأفضل.

* المثقف العراقي الحقيقي غائب او مغيب في وسط هذا التزاحم والفوضى وقلة الوعي وانتشار الخرافة والتدين الزائف والجهل المدقع والتدليس والاميه بكل أنواعها. هناك مثقف اجتماعي يحمل هموم الناس ويسعى إلى تغير الواقع، واخر لا يهمه سوى منجزه الأدبي. أما الانتهازيون والمتكسبون فهم الفئه الأكبر الآن، وهولاء يلعقون ما ترميه لهم السلطه ويعتاشون على فتاتها.

*صنف ابن المؤسسات السياسية، وصنف غارق في العزلة، وصنف مهووس بوجع الوطن.

* الثقافة معرفة كل شيء عن الشيء ومعرفة الشيء عن كل شيء. المثقفون في وقتنا الحاضر قليلون جدا والسبب هو تغلب النزوات والغرائز على العقل بسبب ظروف الحرب وقساوة الحياة وتدمير عقل الانسان. المثقف هو الذي يعمل بكل الاتجاهات ويوازن بين التوافقات لحل لغز الحياة والحديث يطول يا دكتورنا الغالي.

*المثقف العراقي انسان اولا، منهم النرجسي والموضوعي والذاتي والمتواضع والمتكبر الذي لا تغير ثقافته من طبعه. الكم الهائل من ثقافة العصر جعلت من الصعب على المثقف الحفاظ على موقعه، ولا اعتقد ان على المثقف ان يطلب من الآخرين جلد ذواتهم، وهو الأمر الذي يحدث لدينا ولا يحدث في العالم المتقدم الذي يعتبر المشاركة الثقافية فخرا لصاحبها.

* المثقف العراقي اليوم نتاج بيئة مجتمعية وسياسية متدنية، فاعتقد مثل هذه البيئة ستنتج عقلا ثقافيا يحاكيها.. لذلك امثالكم نتاج بيئة مستقرة كان فيها الحراك الثقافي والسياسي يستطيع الحركة. اليوم المثقف متعالي لاينزل للشارع وكأن الثقافة تقول له: تثقف لتعلو على الآخرين. المثقف لا زال بعيدا عن الناس والناس بعيدة عن المثقف، وحين يتحقق الاستقرار السياسي عند ذاك سيصل صوته والناس ستقترب منه، اما في ظل بيئة شائكة معقدة كالتي نشهدها فأن السعي وراء المال هو الهدف. وللاسف الكثير يحمل صفة المثقف لكنه لا يزال يفكر بعيون طائفية وما ان يمس طائفته (يعوج براطمه). خالص احترامي دكتور.

*المثقف الحقيقي ذو الكرامة والاحساس الوطني منزو (بامكاني أن أعطي اسماء ولكن أخشى أن أصحابها لا يوافقون). أما البقية فهم مثقفو الطموح.. أن يكون مستشارا في سوق بيع وشراء المثقف والثقافة والتجارة بها كما التجارة بالدين وهم كثر.

* لا يوجد مثقفون في العراق، لان الثقافة تعني الوعي و الفكر و المحتوى المثمر، من يدعي الثقافة في هذا البلد اما ان يكون جزءا من ماكنة التجهيل او تراه صامتا.

* الثقافة العراقية الرصينة هي التي أرسى ركائزها ذلك الجيل الذهبي في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، ويعود الفضل لمثقفي الحزب الشيوعي الذين اسسوا مدارس في الشعر ظلت منهلا خصبا للباحثين عنها. الثقافة العراقية كانت مزدهرة في الستينيات بشكل رائع جدا في مجالات القصة والشعر والفن التشكيلي والنحت بحيث حتى دور الطباعة العربية أطلقت شعار حينها ان القاهرة تؤلف وبيروت تطبع وبغداد تقرأ.. اين نحن الآن من ذالك العصر الذهبي يادكتور؟!

اشكاليات المثقف العراقي

عاش المثقف العراقي بعد التغيير، وما يزال، ثلاث اشكاليات:

الأولى.. سيكولوجية، يشعر فيها بالتهميش فيعاني بسببها الاغتراب وفقدان المعنى من وجوده في الحياة.

الثانية.. فجوة كبيرة بينه وبين المجتمع، خلاصتها انه يرى المجتمع قد وصل الى حالة (بعد ما تصيرله جاره).

الثالثة الأخطر.. اشكاليته مع السلطة، وهذه تحتاج ان نتوقف عندها لنوجزها بالآتي:

* المثقف ناقد بطبيعته للجوانب السلبية، فيما السلطة بطبيعتها لا تحب من ينقدها. (الحاكم العراقي يحيط نفسه بمستشارين يقولون له ما يحب ان يسمعه).

* الصورة التي يحملها المثقف عن السلطة انها (عدوة) له، والصورة التي تحملها السلطة عن المثقف الملتزم بقول الحقيقة انه (عدو) لها.. وهذه متلازمة يبدو انها ستبقى أبدية.

* السلطة اعتادت ان تقوم بدور المتحدث، وعودت الناس على دور المنصت، فيما المثقف يعدّ نفسه الاكفأ بالتحدث والاصدق.. فتخشاه لأنه اقرب منها نفسيا للناس.

* السلطة تعدّ قناعاتها هي الصحيحة لأنها ناجمة، برأيها، عن (طبخة) ناضجة وعملية، فيما (طبخة) المثقف ناقصة برأيها.. ولهذا فانها لا تستمع لرأيه حتى لو كان يمنح (طبخته) طعما طيبا.. الا اذا كان حلوا في فمها.

* السلطة تميل الى التعميم وتعمل على ان تشيع ثقافة تنتج افرادا بالمواصفات التي تريدها هي، فيما المثقف يميل الى التفريد، ولا يضع للثقافة مواصفات او حدودا.

* السلطة تشعر بالنقص الثقافي امام المثقف، فتتولد لدى كليهما عقدتان سيكولوجيتان متناقضتان: شعور السياسي بالنقص وشعور المثقف بالاستعلاء.

في الجانب المشرق.. هنالك مثقفون تبنوا قضية الجماهير وعملوا على ان يفهموا السلطة ان الأحتجاج السياسي سلوك مشروع وحق ديمقراطي وثقافة جديدة، ويفهموا الجماهير ان التظاهرات.. واجب ديمقراطي أن تكون سلمية. وحصول ظاهرة بدأت تعيد الق وزهو الثقافة العراقية تمثلت بفتح مراكز ومؤسسات ومنظمات ثقافية في العاصمة بغداد ومراكز المحافظات والمدن.. وبعض القرى ايضا!.. ما يعني حصول ادراك جماهيري (شعبي) ان وسيلة التغيير لأن يعيش العراقيون في وطن يمتلك كل مقومات الحياة بكرامة ورفاهية.. هي الثقافة!، شرط أن يفهمها بانها ليست الكتابة والقراءة فقط، بل والفن والموسيقى والانفتاح على ثقافات وفنون الشعوب.. وجميل لو يكمل حبات مسبحتها بتعلم لغة أجنبية!.

***

أ. د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

النقاش حول تفاوت العقول والثقافات بين الأمم والمجتمعات، يفتح الباب على قضايا كثيرة، ربما نود تناسيها. لكنه أيضاً يكشف عن مفاهيم جديرة بالتأمل. خذ مثلاً معنى العقل: هل يساوي الذكاء، أم الثقافة، أم الاتزان، أم القدرة على التفكر، أي الفك والربط؟ هذه - كما نعرف - معانٍ ذكرها باحثون في مختلف الأزمنة. لكن لو سألنا أنفسنا: هل توجد حقاً أمة بكاملها أذكى من الأمم الأخرى، أو أكثر ثقافةً، أو اتزاناً؟

لو سألت شخصاً من الصين مثلاً، فسوف يبادر بالقول إنَّ الصينيين أكثر ذكاءً. وسيدلل على قوله بعشرات الشواهد عن التاريخ الحضاري القديم، والتقدم التقني الراهن، وتفوق التلاميذ الصينيين في الرياضيات... إلخ. ولو سألت عربياً لضرب لك أمثلة أخرى، ولو سألت إسرائيلياً لفعل الشيء نفسه، وهكذا.

تلك شواهد صحيحة بالتأكيد. وكل منها يدل على أن هذه الأمة أو تلك، تتمتع بذكاء أو ثقافة أو اتزان أو قدرة على التفكيك والربط. لكن المقارنة لا تثبت أبداً أنَّ هذه الأمة أذكى من تلك، بمعنى أنَّ صفات الذكاء أعلى من نظيرتها في الأمم الأخرى، وأنها جارية في أنسابهم وجيناتهم. الأميركيون في مقدمة أمم العالم اليوم. لكنَّهم لم يوجدوا قبل عام 1600 حين بدأت أولى الهجرات من أوروبا. الصينيون متقدمون في جوانب كثيرة في الماضي والحاضر، لكن هذا ليس حالهم على الدوام، فقد مرّوا بأزمان مات فيها الآلاف منهم، بسبب المجاعة. والمجاعة لا تأتي إلا من التخلف والبؤس. وكان العرب أقوى الأمم في أزمان سابقة، وليسوا اليوم كذلك. وكان البرتغاليون سادة البحار في يوم من الأيام، بينما لا تكاد تسمع بهم اليوم.

نفترض أن هذا يكفي لنفي الصلة بين العقل والنسب. كما يوضح أن اختلاف العقول هو اختلاف ثقافات، أي تنوع يسير أفقياً نحو اليمين أو نحو الشمال. فلكل أمة ميزات تخالف غيرها في جانب أو أكثر. لكننا لا نستطيع أخذ صفات أمة بعينها معياراً لتحديد قيمة الآخرين على سلم عمودي.

- ما هي أهمية هذا الكلام؟

لقد وجدت الأكثرية الساحقة من الناس، عرباً وغير عرب، يتقبلون الفكرة السابقة، وينفون بشدة أنهم أقل ذكاءً من غيرهم، أو أن أمتهم أقل معرفةً من سائر الأمم. ويصرّون على أن تفوق إحدى الأمم في وقت بعينه، ناتج من ظروف وإمكانات لم تتوفر لغيرها. ولو توفرت لحصل هنا ما حصل هناك بلا فرق.

الأمر المثير للدهشة، أن هؤلاء أنفسهم، أو كثيراً منهم، يتقبلون فكرة أن الله فضّل جنساً على جنس، أو أن قبيلة أرفع نسباً من غيرها. وأقرأ بين حين وآخر تعليقات لأشخاص متعلمين، يتحدّون غيرهم أن يذكروا نسبهم، ونعلم أن المقصود بهذا هو الإشارة إلى أن أصولهم غير عربية أو غير قبلية. ولعل بعضنا يذكر قضايا «عدم التكافؤ في النسب» التي أدت في سنوات ماضية إلى هدم أسر والتفريق بين أزواج، بعدما اكتشف أقارب الزوجة أن قبيلة الزوج أدنى كعباً من قبيلتهم.

على المستوى النظري، نتباهى بأنَّ الإسلام ساوى بين الناس، وعاب التفاخر بالأنساب والانتماءات القومية والعرقية. لكننا في الوقت نفسه نتقبل فكرة أننا كأمة أفضل من سائر الأمم، أو أن جنس الرجال أفضل من جنس النساء، أو أننا نجيز هدم العائلات إذا ظهر أن الزوج ينتمي إلى عرق أو قبيلة أدنى من زوجته. فهل هذه وتلك من نوع السقطات العفوية، أم أننا نفكر بعقلين متوازيين: عقل واعٍ يزن الأمور، وآخر انفعالي يقوم مرة ويتخبط أخرى؟

هذا تأمل في قصة العقول واختلافها، وددت مشاركة القراء الأعزاء فيه، ولعله يثير في أنفسهم حاجة إلى التفكير في بعض الجوانب التي ربما نرتاح لتناسيها.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

نعيش عالمين متناقضين ومختلفين، الأدب بشفافيته وثرائه بالمشاعر الانسانية، والسياسة بجفافها وفقرها للمشاعر الانسانية، وهل الأدب يؤثر في السياسة أم أن السياسة تؤثر في الأدب؟ الأدب له عالم والسياسة لها عالم آخر، ولكن حين ندقق النظر ونمعن التفكير نجد أنهما يتبعان لعالم واحد وهو عالم الانسان، ولكن السياسة تخطئ كثيرا وتفقد انسانيتها،  وبالتالي تفقد ثقة المواطن بها،، والادب يخلق قضايا انسانية عليا، أو أدبا عاطفيا غارقا في المشاعر، الادب يؤثر في السياسة ويجعل القارئ العادي يكتشف نواحي جديدة في حياته ليس لأنه لا يعرفها، ولكن لأنه يتجاهلها فيأتي الأدب ليوقظ فكره ويلفت نظره لما هو منسي أو مدفون في واقعه أو ذاته.

الادب عصب الحياة، فهو ليس مجرد لوحة فنية مكتوبة بل إيقاظا للضمير و نهضة للفكر يؤشر للقارئ الى مكامن الخطأ، يستفز مشاعره، ويشحذ أفكاره، يمده بالقوة الروحية لكي يقول لا، فأغلب الثورات والتغييرات الجذرية في العالم كانت نتيجة أفكار، مجرد أفكار ولكنها غيرت أمم اوبدلت حكاما؛ لهذا لا يجب تسخيف الأدب، ولا يجب أن تتم كتابته بسطحية، لأنه بنية أساسية في تشكيل فكر وسلوك الشعوب، ولابد لكاتب الأدب أن يكون على دراية واسعة بالسياسة، ليس لأجل أن يقوم بعمل الثورات، بل لأجل أن يكون واعياً بدروه،الأدب له أثر في السياسة، فإن الأدب أيضاً كان ولا يزال له عميق الأثر على أصحاب السلطة من ملوك وامراء وحتى الجنرالات، منهم الإمبراطور اليوناني هادريان الملقب بالإمبراطور المثقف، ونابليون الذي جعل الأدب يخدم أهدافه السياسية؛ كما أن الأدب بالنسبة لأصحاب السلطة هو فرصة لتخليد أعمالهم وصفاتهم عبر أعمال ادبية تبقى خالدة حتى بعد رحيلهم، وهو ما يدركه كل رجل سلطة، ويكفي أن نطلع على العدد الضخم للمؤلفات الأدبية التي تناولت حياة رجال السلطة من كل الجنسيات وفي كل العصور، التي لا تزال تلاقي رواجاً كبيراً لندرك أهمية الأدب بالنسبة لأي سياسي، السياسي يمر بحقبة زمنية ويكا د لايذكره احد،، بينما العالم و الفنان و الأديب مخلدون،، لا أحد يتذكر حاكم أثينا الأغريقية القديمة لكن الكل يتذكر الفيلسوف سقراط و أفلاطون وارسطو،و لا أحد يتذكر حاكم غرناطة، لا أحد يتذكر حاكم شمال افريقيا لكن الكل يتذكر الشاعر ابن زيدون وقصيدته (اضحى التنائي بديلا عن تدانينا و ناب عن طيب لقيانا تجافينا) لكن الكل يتذكر ابن خلدون و مقدمته المشهورة . لا أحد يراجع مدونات ساسة العراق او يتذكرها لكن الكل يراجع و يستذكر العلامة علي الوردي و مؤلفاته الرصينة، الكل يذكر نجيب محفوظ وهيكل واحسان عبد القدوس ومي زياد ونزار القباني والعقاد واحمد شوقي والجواهري والسياب والرصافي،، واذكروا لي بعض القادة التاريخيين الذين غيروا حياة الانسانية ؟!

***

نهاد الحديثي

 

من منا لم يكن مشتاقا ومتلهفا لزيارة جدته أو جده،حتى يظفر بتلك اللحظات المميزة وهو يستمتع بتلك الحكايات الرائعة التي كانا يقصانها على مسامعه بين الفينة والأخرى. والغريب في الأمر أنه وبالرغم من محاولة آبائنا المتكررة في محاكاتهم، إلا أن محاولتهم تظل متواضعة بل محتشمة مقارنة بحكايات الأجداد حتى وإن تعلق الأمر بالحكاية ذاتها.وما يجب توضيحه في هذا الصدد أن الأمر ليس من باب الصدفة وإنما يعزى لعدة أسباب،لكن قبل التفصيل فيها حبذا أن نقدم تعريفا بسيطا عن الحكاية من باب المعرفة.

فالحكاية تعد فنا أدبيا يعتمد على الإلقاء الشفهي ؛ وتقوم على تداول قصص خيالية أو حتى أحداثا لوقائع حقيقية، ويكون التشويق والإثارة عنصرين مهمين فيها. كما تتميز الحكاية بطابعها السردي والوصفي، وبأحداثها المتسلسلة والمتناغمة. وتقوم الحكاية على أربعة عناصر أساسية، وجب استحضارها أثناء حياكتها، علاوة على انتقائها بعناية وبشكل يضفي على الحكاية نوعا من التفرد والإثارة، وتشمل هاته العناصر ما يلي: الشخصيات،الزمان، المكان، فالأحداث.

وبالوقوف عند هذا السياق يتضح جليا أن التشويق والإثارة عنصران مهمان في نجاح الحكاية وسرعة تقبلها من الأشخاص سواء كانوا راشدين أو أطفالا، أضف إلى ذلك فطريقة الإلقاء تلعب دورا مهما في التقاط الحكاية وتقبلها، فمثلا تغيير نبرة الصوت عند السؤال والتعجب وتغييره كذلك تزامنا مع تغيير الشخصيات، أو حتى تجسيد حركات تتناسب مع بعض مواقف الحكاية، كلها عوامل من شأنها أن تزيد من جاذبية الحكاية والتعلق بها بل التهافت إلى الاستماع إليها مجددا. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فالحكاية التي تتضمن شخصيات مميزة وخارقة، وأحداث غريبة متشابكة بحبكة متقنة تتخللها أزمنة وأمكنة مختلفة، هي من تنجح في جذب انتباه المتلقي. أما في ما يخص مسألة تمكن أجدادنا من فن الحكاية دون غيرهم من الأجيال الحالية، فيمكن تبرير ذلك بكون الحكاية وغيرها من الفنون التقليدية كالأسطورة والحكايات الشعبية تعتمد بالأساس على الإلقاء الشفهي وفي غياب وسائل التكلنوجيا في السنوات الماضية، فقد كانت الطريقة الشفهية هي الناجعة أنذاك في تناقل الأخبار وتداولها،إلى أن صار الأمر أشبه بحرفة يتقنونها. بيد أنه ومع ظهور وسائل التكنولوجيا كالتلفاز والحاسوب والهاتف أصبحت الحكاية تندثر شيئا فشيئا، ونادرا ما يتم تداولها. باعتبارها لا تتماشى وتطلعات حاضرنا، ولا تواكب ما وصلت إليه البشرية من تطور وتقدم. دون أننسى انشغالات الآباء بضغوط العمل وانعدام الوقت الكافي من أجل سرد الحكايات لأطفالهم. وحفاظا على هذا الموروث الثقافي الفني من الاندثار، فقد تم إدراجها في البرامج التعليمية المدرسية في العديد من الدول، وفي مقدمتهم : المغرب،لما لها من إيجابيات كثيرة يمكن استثمارها في تطوير شخصية الطفل ومعارفه وقيمه، إضافة إلى أن الحكاية تعتبر مجالا خصبا لتنمية خيال الطفل، وفرصة مهمة لتمرير القيم والمبادئ ومنبعا غنيا لاستقاء المفردات والأساليب.

كما تساعد الحكاية على تقوية التركيز والانتباه لدى الطفل، وتجدر الإشارة إلى أن الاستماع إليها بشكل دائم يعمل على تقوية حاسة السمع والتقاط المعلومات بشكل سريع..و تعتبر الحكاية وسيلة ترفيهية وإحدى العوالم الممتعة التي يجد فيها الطفل متنفسه وملاذه، لذ فإدراجها كمكون أساسي ضمن مكونات اللغة العربية المدرسة من شأنه إضفاء المتعة على التعلمات وتجنب الرتابة التي يمكن أ ن تحول دون مواكبة الطفل سير الدروس.

وختاما، فالحكاية وبالرغم من طابعها الشفهي الإلقائي إلا أنها تقتضي الحنكة والبراعة وقوة الإلقاء، والمحاكاة، وتظل أجمل هدية يمكن أن نقدمها لأطفالنا خاصة قبل النوم.

***

الشاعرة والكاتبة إلهام العويفي من المغرب

تأليف: شايلا لاف

ترجمة: د. محمد عبدالحليم غنيم

***

يستمر الباحثون في مناقشة ما إذا كانت بعض الوظائف عديمة الفائدة بطبيعتها، ولكنهم يتفقون جميعًا على أنه من المضر رؤية وظيفتك بهذه الطريقة.

وصف مارك غالبية ما فعله في وظيفته بأنه "صناديق معلمة". كان عمله كمسؤول كبير عن الجودة والأداء في مجلس محلي في المملكة المتحدة ينطوي على "التظاهر بأن الأمور رائعة بالنسبة لكبار المديرين، وعمومًا "إطعام الوحش" بأرقام لا معنى لها تعطي الوهم بالسيطرة،" كما أخبر عالم الأنثروبولوجيا الراحل ديفيد جريبر، كما هو مقتبس في كتاب جريبر وظائف تافهة (2018).

وكان رجل آخر، هانيبال، أكثر حدة. تم تعيينه لدى شركة استشارات رقمية لقسم التسويق في إحدى شركات الأدوية، ووصف عمله بأنه "محض هراء خالص"، والذي "لا يخدم أي غرض".

وقال: "لقد تمكنت مؤخرًا من الحصول على ما يقرب من اثني عشر ألف جنيه إسترليني لكتابة تقرير من صفحتين لأحد عملاء الأدوية لتقديمه خلال اجتماع استراتيجي عالمي". "لم يتم استخدام التقرير في النهاية لأنهم لم يتمكنوا من الوصول إلى هذه النقطة من جدول الأعمال."

كتب جريبر لأول مرة عن "الوظائف التافهة" في مقال نشره عام 2013 وحقق نجاحًا كبيرًا على الفور. وقد قرأه أكثر من مليون شخص، وقام الناشطون بلصق اقتباسات منه على الإعلانات في قطارات أنفاق لندن. في كتابه الأخير عن "نظرية الوظيفة التافهة"، وسع جريبر حجته، فعرّف الوظيفة التافهة بأنها "شكل من أشكال العمل مدفوع الأجر الذي لا فائدة منه على الإطلاق، أو غير ضروري، أو ضار، حتى أنه لا يستطيع حتى الموظف تبرير وجوده". رغم ذلك، كجزء من شروط التوظيف، يشعر الموظف بأنه ملزم بالتظاهر بأن هذا ليس هو الحال "- وهو وصف ينطبق، وفقًا لجريبر، على أكثر من نصف معظم الوظائف.

في حين أنه ليس هناك شك في أن حجج جريبر كان لها صدى ثقافي، عندما بدأ الباحثون الأكاديميون في تحديد الحجم الفعلي للوظائف التافهة، كانت النتائج التي توصلوا إليها تتعارض إلى حد كبير مع ادعاءات جريبر. وتشير البيانات التجريبية إلى أن عدداً قليلاً نسبياً من الناس في واقع الأمر يبدو أنهم يعتبرون وظائفهم عديمة الفائدة ( تافهة ) ــ الأمر الذي يؤدي إلى معارضة إمكانية تطبيق مفهوم جريبر في الحياة الواقعية.

على سبيل المثال، في عام 2015، وجد استطلاع أجرته مؤسسة يوجوف أن 37% من البالغين البريطانيين العاملين يعتقدون أن وظائفهم لا تقدم مساهمة ذات معنى للعالم. وفي عام 2018، وجدت دراسة شملت 47 دولة، أن 8% من العمال ينظرون إلى وظائفهم على أنها عديمة الفائدة اجتماعيا، في حين كان 17% متشككين بشأن فائدة وظائفهم. ثم في عام 2021، وجدت دراسة مبنية على بيانات مسح عالية الجودة جمعتها إحدى وكالات الاتحاد الأوروبي، أن حوالي 5 % فقط من العمال يعتبرون وظائفهم عديمة الفائدة. اقترح مؤلفو تلك الورقة الأخيرة أن الأمر لم يكن أن بعض الوظائف كانت، بطبيعتها، عديمة الفائدة، ولكن الناس في العديد من أنواع الوظائف يمكن أن يشعروا بالغربة ويعانوا من ظروف العمل والعلاقات السيئة.

قادت هذه السلسلة من النتائج معلقًا واحدًا على الأقل إلى اقتراح أن نظرية الوظائف التافهة التي قدمها جريبر كانت مجرد هراء. لكن ربما كان ذلك سابق لأوانه. نُشرت في إحدى مجلات جمعية علم الاجتماع البريطانية (العمل والتوظيف والمجتمع) في يوليو، وقد ظهرت الآن دراسة أخرى تشير إلى أنه على الرغم من أهمية عوامل مثل الاغتراب، إلا أنه يبدو أن هناك بعض المهن التي يقول الناس إنها عديمة الفائدة أكثر من غيرها علاوة على ذلك، فإنها تتوافق مع فئات الوظائف الهراء/ التافهة التي اقترحها جريبر.

سيمون والو، عالم اجتماع ما بعد الدكتوراه في جامعة زيورخ ومؤلف هذا المقال الأخير، قرأ "وظائف تافهة" أثناء كتابته لأطروحة الماجستير. يقول: "في ذلك الوقت، كنت أفكر كثيرًا فيما يجب أن أفعله في حياتي". "لم أكن أعرف حقًا ما أريد أن أفعله، ولكني شعرت أنه يجب أن يكون شيئًا ذا معنى." يقول والو إنه فوجئ عندما قرأ أن الكثير من الناس يشعرون أن لديهم وظيفة عديمة الفائدة اجتماعيا.

اقترح جريبر خمس فئات مختلفة من الوظائف التي تعتبر "تافهة". هناك "مساعدون"، مثل المساعدين الإداريين أو مشغلي المصاعد، الذين يعملون فقط لجعل الآخرين يشعرون بأهميتهم؛ "المتنمرون"، مثل جماعات الضغط أو المسوقين عبر الهاتف، الذين يخدعون الآخرين لصالح رؤسائهم؛ "التناقص التدريجي للقناة"، مثل موظفي خدمة العملاء، الذين يقدمون حلولاً مؤقتة رديئة للمشاكل؛ "المؤشرات الصندوقية"، مثل مارك وهانيبال، الذين يقضون أيامهم في إنتاج وثائق أو استطلاعات عديمة الفائدة؛ وأخيرًا "رؤساء العمال" أو المديرون الذين يطلبون من الناس القيام بأشياء عديمة الفائدة دون أن يفعلوا الكثير بأنفسهم.

قام والو بتحليل بيانات من مسح ظروف العمل الأمريكية لعام 2015 وركز على ثلاث فئات من جريبر قال إنها يمكن ربطها بمهن محددة: وظائف المساعدين، والمتنمرون، ورؤساء العمال. غطى الاستطلاع 21 مهنة في المجموع، أربعة منها كان من الممكن أن يصنفها جريبر على أنها بكالوريوس (الدعم الإداري، والمبيعات، والمهن التجارية والمالية، والمديرين)، وطلب من الأشخاص الإشارة إلى ما إذا كانوا يعتقدون أن وظائفهم قدمت مساهمة كبيرة في  المجتمع أو فى حياتهم. واستنادًا إلى هذه التصنيفات، قدّر والو أن 19% من الأشخاص في الولايات المتحدة يعتقدون أن وظائفهم "هراء/ تافهة "، وبالنسبة للجزء الأكبر، فإن العمل في إحدى مهن جريبر التي تحمل درجة البكالوريوس يزيد بشكل كبير من احتمالية أن ينظر الشخص إلى وظيفته على أنها عديمة الفائدة اجتماعيا، مقارنة بكونك في نوع آخر من الوظائف. المهنة الوحيدة التي صنفها جريبر على أنها بكالوريوس والتي لم تظهر هذا التأثير هي المهن القانونية.

تختلف هذه النتائج قليلاً عن دراسات عامي 2018 و2021، وقد يكون لها علاقة بالطريقة التي يتم بها طرح السؤال حول فائدة الوظيفة، كما يقول روبرت دور، أستاذ الاقتصاد في جامعة إيراسموس روتردام والمؤلف المشارك لورقة 2018. في ورقة والو، سُئل الأشخاص عما إذا كانت وظائفهم مفيدة لمجتمعهم ولحياتهم، في حين تساءلت ورقة 2021 بشكل عام عن الفائدة ولكنها لم تحدد مفيدة لمن؟ وبعبارة أخرى، ربما يكون بحث والو قد وضع معيارًا أعلى لمفهوم لفائدة.

تقول ماجدالينا صوفيا، وهى عالمة اجتماع ما بعد الدكتوراه في معهد مستقبل العمل والمؤلفة المشاركة في بحث عام 2021، إنهم عندما حصلوا على نتائجهم المتمثلة في أن 5 % فقط من الأشخاص يرون أن وظائفهم عديمة الفائدة، وقد أشار ذلك لها إلى أن ثمة شىء هناك يحدث أكثر من مجرد فئة من الوظائف تعد هراء / تافهة.

وهي تعتقد أن الأمر لا يعني أن بعض الوظائف هي تافهة بطبيعتها، ولكن الأمر يتعلق بجودة أكثر عمومية للخبرة أثناء العمل. يتضمن ذلك ما إذا كان لديك إمكانية الوصول إلى "إدارة الجودة"، والاستقلالية، والاختيار والتحكم في إدارة عملك، وما إذا كان لديك إمكانية الوصول إلى علاقات هادفة مع الآخرين. وفي حالة عدم وجود شروط التوظيف الأوسع هذه، فمن المرجح أن يرى الناس وظائفهم على أنها عديمة الفائدة. تقول صوفيا: "أميل إلى أن أكون أكثر ترددًا في قبول الاستنتاج القائل بأنه لا تزال هناك مهن تعد تافهة بطبيعتها".

يوافق والو على أن نظرية جريبر لا تشرح كل شيء عن السبب الذي يجعل الناس يعتقدون أن وظائفهم مجرد هراء. ويقول إن الناس قد يعتقدون أن وظائفهم هراء/ تافهة لأنها كذلك في بعض الأحيان، ولأنهم غير راضين عن ظروف عملهم، وفي بعض الأحيان تتداخل هذه الأشياء. ويضيف والو: "أنا أقبل جميع النتائج التي توصلت إليها الدراسات الأخرى، وأعتقد أنها ذات قيمة كبيرة". "لكن ما يتغير الآن هو أن هناك تفسيرات متعددة لنفس الشيء."

بشكل حاسم، عندما أخذ والو في الاعتبار تأثير عوامل التوظيف الأوسع، مثل الاغتراب، وجد أنه لا تزال هناك بعض المهن، التي تتماشى مع أفكار جريبر، التي يؤيدها الناس باعتبارها عديمة الفائدة أكثر من غيرها. يقول والو إن هذا يشير إلى أن العزلة أو عدم الرضا ليس دائمًا هو ما يدفع الناس إلى الاعتقاد بأن وظائفهم عديمة الفائدة، ولكن في بعض الأحيان يكون هناك شيء متأصل في هذه الوظائف يجعل الناس ينظرون إليها على أنها "هراء". وحتى لو لم تكن الأرقام مرتفعة كما اقترح جريبر في البداية، كما يقول والو، فإن ذلك مازال يعني أن الملايين يعتبرون طبيعة عملهم عديمة الفائدة اجتماعيًا.

اعترف جريبر أنه كان من الصعب على شخص واحد، أو عدة أشخاص، أن يحددوا بشكل عام ما الذي يجعل الوظيفة "مفيدة" أو "ضرورية". وكتب: «لا يمكن أن يكون هناك مقياس موضوعي للقيمة الاجتماعية».

ما يمكنك فعله هو أن تسأل الناس عن رأيهم في وظائفهم. يقول دور: "لا ينبغي لنا أن نقلل من أهمية المعتقدات الشخصية للناس فيما يتعلق بمدى فائدة وظائفهم". لقد توصل عدد من الدراسات أن المعتقدات الذاتية حول فائدة الوظيفة تؤثر على دوافع الناس للعمل وكذلك على رضاهم الوظيفي.

مع استمرار الباحثين في تحسين حجم أو طبيعة الوظائف عديمة الفائدة، هناك حقيقة مهمة واحدة صحيحة: عندما يعتقد الناس أن وظائفهم عديمة الفائدة، فإن ذلك يرتبط بانخفاض في الصحة العقلية. تقول صوفيا: "كان هذا مؤشر ارتباطى قوى للغاية [في بيانات دراستنا]". يبدو أن هذا يتوافق مع حجة جريبر بأن الوظيفة التافهة تفرض "عنفًا نفسيًا عميقًا" على أي شخص في تلك الوظيفة. وكتب: "إن الضررين الأخلاقي والروحي الناجمين عن هذا الوضع عميقان". "إنهما بمثابة ندبة في روحنا الجمعية."

تقول صوفيا: "نظرًا لأهمية الصحة العقلية والرفاهية النفسية، نعتقد أننا بحاجة حقًا إلى إيجاد تفسير لذلك [العلاقة بين الشعور بأن وظيفة المرء عديمة الفائدة وضعف الصحة العقلية]"

وهي تعتقد أن الإجابة أكثر تعقيدا من التخلص من فئات الوظائف التي تعتبر عديمة الفائدة، وبدلا من ذلك، يجب على الباحثين أن يتوصلوا إلى طرق لقياس جودة وظائف الناس بشكل فعال، في حين ينبغي على أصحاب العمل أن يمنحوا الناس دوراً أكبر في تصميم بيئة العمل الخاصة بهم. ومع التقدم في الذكاء الاصطناعي والتهديد بأن الذكاء الاصطناعي سيتولى بعض الوظائف، فإن هذا النوع من الاستقلالية والقياس سيكون أكثر أهمية من أي وقت مضى، كما أخبرتني. "هناك طرق عديدة للعثور على المعنى من خلال العمل. من وجهة نظري، ما إذا كان تقديم مساهمة للمجتمع هي مجرد طريقة واحدة لقياس قيمة العمل"

إذا ما عدت الوظائف عديمة الفائدة اجتماعيًا لأسباب مختلفة، فهذا يعني أن هناك أكثر من طريقة لتحسين الوضع. بالنسبة لبعض الناس، قد يكون الأمر يتعلق بمعالجة الاغتراب أو الاستقلالية.

وكتب والو في ورقته البحثية: "إذا أخذنا في الاعتبار احتمال أن تكون بعض أنواع العمل عديمة الفائدة بطبيعتها للمجتمع، فإن لهذا آثار مختلفة تمامًا". "ولتخفيف هذه المشكلة، يتعين على المرء إجراء تعديلات في النظام الاقتصادي وتقييد أنشطة [التوظيف] التي لا تهدف إلى تحقيق أي هدف للمجتمع أو التى لا تستهدفه على الإطلاق".

ويعتقد جريبر أن الوظائف التافهة تفسر لماذا لم تتحقق توقعات جون ماينارد كينز الاقتصادية. كتب كينز أنه بعد زيادة الكفاءة التكنولوجية، سيعمل الناس تدريجياً بشكل أقل فأقل إلى أن تصبح مشكلتنا الأكبر هي ملء كل وقت الفراغ المتاح لدينا. لم يحدث هذا، ولذلك سيتعين علينا الاستمرار في التعامل مع الهدف من العمل بدلاً من ذلك. تقول صوفيا: "هذا هو موقف المناقشة في الوقت الحالي". "إنه تحدٍ مستمر: معرفة كيف يمكننا، بموضوعية قدر الإمكان، قياس ما إذا كانت الوظيفة مفيدة أم لا."

تشير الجاذبية طويلة الأمد لنظرية الوظيفة التافهة إلى أن هذا يمثل تحديًا حاسمًا للكثيرين، بسبب الأسئلة الكبرى حول معنى الحياة التي تنشأ عنها. وعلى حد تعبير جريبر: "كيف يمكن للمرء أن يبدأ في الحديث عن الكرامة في العمل عندما يشعر المرء سراً أن وظيفته لا ينبغي أن توجد؟"

(انتهى)

***

...........................

المؤلفة: شايلا لافShayla Love  كاتبة في Psyche. وقد ظهرت مقالاتها الصحفية العلمية في مجلات Vice وThe New York Times وWired وغيرها. تعيش في بروكلين، نيويورك.تقدم نفسها على موقعها الرقمى قائلة فى عبارة مكثفة وشاملة فى ذات الوقت: أنا صحفية علمية مقيمة في بروكلين. ينصب تركيزي في المقام الأول على علم النفس، وعلم الأعصاب الإدراكي، والمخدرات، والعلوم الاجتماعية، وتقاطع التاريخ والثقافة والفلسفة مع الأبحاث الحالية. لقد انجذبت إلى الأماكن التي تتداخل فيها التخصصات، وقبل كل شيء، كيف تؤثر على التجربة الإنسانية.

رابط المقال الأصلى على مجلة سايكى / Psyche : https://psyche.co/ideas/why-do-so-many-people-think-they-are-in-a-bullshit-job

مقتطفات من المقال اترك تنسيقها داخل المقال للسيد المحرر إذا ما لزم الأمر:

يطلب رؤساء العمال أو المديرون من الناس القيام بأشياء عديمة الفائدة دون أن يفعلوا الكثير بأنفسهم.

وحتى لو لم تكن الأعداد مرتفعة كما اقترح جريبر في البداية، فهذا يعني أن الملايين يعتبرون عملهم عديم الفائدة.

كتب كينز أنه بعد زيادة الكفاءة التكنولوجية، سيعمل الناس بشكل أقل فأقل. هذا لم يحدث.

 

إن المعري 973- 1057 كان سباقاً بطرح (العدمية) والفلسفة الوجودية بزمن بعيد أي قبل شوبنهاور1788-  1860 بأكثر من 800 سنة وهو فارق زمني ومكاني كبير والغريب أكثر تقاربهما في الوضع العائلي والتناحرات السياسية ورحى الحروب الطاحنة الداخلية والخارجية لذا أصبحا في نظر العالم والطبيعة والأفراد والمجتمع بتبني (الثقافة السوداوية العدمية)، فيكون القاسم المشترك بينهما العدمية التشاؤمية مع التقارب بالوضع الفردي والعائلي والبيئة المحيطة بهما من جهة أخرى.

وسأستوحي بعضاً من أفكار ورؤى الفيلسوفين الكبيرين من خلال ما بين سطورمنجزيهما، كتاب اللزوميات للمعري وكتاب العالم كأرادة وفكرة لشوبنهاور، وفي تحليل تشابهما في العدمية لابد من معرفة الآسباب:

لنبدأ بالمعري:

- فقد بصرهُ بعد أصابته يمرض الجدري وهو طفل بعمر خمسة سنوات وترك المرض اللعين أخاديد ونتوءات وتشوهات خلقيةِ في وجههِ.

-  وفاة أبيه المفاجيء وذاق مرارة اليتم وهو طفل بعمر ستة سنوات.

-  ترك الدراسة في مدارس الشام وبغداد بعد سماع مرض أمهِ وثم خبر موتها.

-  عاش زمن الأرهاصات والتقاطعات الفكرية وتناقضات الصراعات الطبقية وأضطرابات سياسية وحزبية بين الحمدانيين والفاطميين أضافة إلى الحروب الطاحنة الخارجية مع الروم البيزنطيين.

-  أتهم بالزندقة لوجوديته عند التعامل الفكري مع الكون والحياة والموت.

-  وكان المعري نباتياً رأفة بالحيوان.

-  عاش ناقماً ومات ناقما على الحياة بسوداوية وأحباط ويأس ليوصي كتابة هذه العبارة على قبره "هذا ما جناه عليَ أِبي ولم أجني أنا على أحد" (اللزوميات لآبي العلاء المعري).

أما بالنسبة لآرتورشوبنهاور:

هو أحد فلاسفة الالمان المثاليين ذو الأفكار اليمينية المثالية الطوباوية والمتسمة بالعدمية والتشاؤمية التي تعاكس الحداثة المعاصرة في زمنهِ وجغرافيته الأوربية.

- ورث مزاجية وجينات أبيه الذي يعاني من أضطرابات نفسية حادة في الخوف واللقلق والعزلة والأكتئاب وكراهية الحياة حيث وُجد منتحراً بطريقة بشعة برمي نفسهِ من علوٍ شامخ.

-  سلوكية غير مريحة مع أمهِ حيث كانت نابغة في سردية القصة متصفة بالغرور والفوقية حتى على أبنها، فالعلاقة كانت مضطربة بينهُ وبين أمه بقسوتها عليه بالتجافي والمشاكسة، وخصوصاً عند أشتهارهِ في الوسط الثقافي والعلمي القيمي والنبوغ وسعة الآدراك وعند أخبارها الفيلسوف (غوته) بعظمة عقلية أبنها أشتاطت غيضاً عليه.

-  عاش سلسلة الحروب النابليونية والأضطرابات السياسية في عموم أوربا.

-  تعمق لديه شعور بأن الحياة شرَليس بها ألا الآلم والمرض والشيخوخة والموت.

التقارب الفكري بين الفيلسوفين

- طغيان الصفة التشاؤمية السوداوية (العدمية) على عقلية ورؤى كل منهما.

-  الخير والسعادة عندهما أحداث سلبية سرعان ما تغيب لتحل عليها العدمية والسوداوية التشاؤمية وتحيطها الأحزان والآلام والتي أطلقوا عليها الأحداث والآمور الأيجابية.

-  الحياة في نظرهما متعبة ومقرفة لآقترانها مع الشر.

ولهذا يقول المعري:

إلا إنما الدنيا نحوسَ لآهلها

فما في زمانٍ أنت فيه سعود

*

نزولُ كما زال أجدادنا

ويبقى الزمانُ على مانرى

- ويشترك الأثنان في رؤية الفرد بمتلاومة الآلم  الذي لا مفر منه، فتصبح قواعد أفكارهما المنحوسة (منصة) أنتقادية للبشرية جمعاء التي هي: أستدامة متلازمة الألم والتشاؤم والعدمية.

-  والأغرب رغم البعد الشاسع في الزمكنة وكأن الواحد يلقن الآخر بأفكاره السوداوية.

فيقول المعري:

في العُدم كنا وحكم الله أوجدنا

ثم أتفقنا على ثان ٍ من العدمِ

أو:

نمرُسراعاً بين عدمين مالنا

لباثُ كأنا عابرون على جسرٍ

ويجيبهُ شوبنهاور أفتراضياً:

نعم يا صاح إن الحياة تتأرجح كالبندول بين ألألم والسأم وفي الحالين لا خير في هذا العالم سوى حياة بائسة عافرة.

- أتفقا في أعتزال النساء، كان أبو العلاء زاهداً من الدنيا متقشفاً نباتي الطعام رأفة بالحيوان، أعتزل النساء ولم يتزوج لكي يجنب النسل الموروثات الجينية السيئة ومآسي الحياة: حتى أوصى أن يكتب على قبرهِ: هذا ما جناهُ علي أبي وأنا لم أجني على أحد، أما شوبنهاور فهو يكره النساء، يعتبرالمرأة منبع الشرور وهي توأم الحياة المقرفة لذا عاش عقدة النساء في حياته فلم يتزوج.

-  التقارب العقلي والوجداني بين المعري وشوبنهاور في المعتقدات الدينية والكون والموت هاجم أبو العلاء المعري عقائد الدين لذا أتهم بالزندقة، أما شوبنهاور يقول: إن الوجود هو (المادة) الملموسة فقط أما ما يطرح في غيبياتها فلا قيمة لها وهويميل – كذلك -  إلى التعمق في دراسة الديانة الهندية وسيرة بوذا التي تقوم على أساس إن الحياة قائمة على أنواع من الشرور الطبيعية والخلقية، أما الوجود عبارة عن المادة المطلقة، فليس في الوجود سوى المادة.

-  ويتفق الأثنان على إن الموت نهاية لألام وعذابات الحياة، وجدتُ في فلسفة الفيلسوف الأ لماني: للحفاظ على الحياة في (النوع)  وديمومة استمرارية الحياة ببؤسها وشقائها يستلزم آرتون شوبنهاورأمرين هما: (العقل والغريزة الجنسية) بل يذهب أكثر في الغلو والسوداوية يدعو الأنسان إلى نبذ الحياة الشريرة ولو كان بالأنتحار!؟ وبالمناسبة أنتحر والدهُ بطريقة بشعة برمي نفسه من علوٍ شاهق لكونه كان مصاباً بأمراض نفسية حادة كالكآبة والعزلة والخوف والقلق.

***

عبد الجبار نوري - كاتب وباحث عراقي مغترب

...........................

مصادر وهوامش

-  كتاب اللزوميات لأبي العلاء المعري ترجمة سامي الدروبي

-  كتاب العالم أرادة وفكرلآرتورشوبنهاور

كُتب في بغداد الحبيبة\ كانون ثاني\ 2024

 

المدخل لهذا المقال مشهدان حصلا في غضون أسبوع واحد:

* الأول صدور امر مهم من وزير التعليم العالي بمنح التدريسي مبلغ 3 مليون دينار في حال نشر بحث في مجلة ضمن أعلى التصنيفات العالمية فقط (المبلغ يكاد يزيد أحيانا او يقل عن قيمة النشر في كثير منها رغم ان بعضها تنشر مجانا). تلك التفاتة كبيرة رغم ان البحث الرصين يتطلب ضعف هذا المبلغ او اكثر، عن قيمة الأجهزة والمواد المختبرية التي يتحملها الباحث.

* الثاني صدور أمر من رئيس الوزراء بمنح كل لاعب في منتخب "الطوبة" مبلغ 10 الاف دولار (يزيد عن 15 مليون دينار) بسبب فوز في مباراة واحدة. ذلك بلحاظ انها مهنتهم التي يحصلون منها على ملايين وسفرات وعزايم في ملاه وحفلات وووو.... وقبل ذلك صدور امر من نفس الجهة بمنح الفنانين مليارات الدنانير لصندوق التقاعد وغيره.

المشهد الثاني أجده ترسيخا وتماهيا وتأصيلا "قد يكون دون قصد" للفخ الذي زرعته وسائل الاعلام الممنهجة في اذهان شعب تنخر بنيته الاجتماعية سوس الامية والتجهيل بقصد توجيه الأنظار عن كل ما هو مفيد ونافع لبناء الحياة والبنى التحتية من علوم وتكنولوجيا باتجاه العشوائية والاثارة الشعبوية، باتجاهٍ يكون الصراخ والتنابز بالالقاب والصدامات البذيئة والعنفية أساسه استغلالا للنزوع الموجود أصلا في النفس البشرية في الرغبة بالتفوق والإحساس بالافضلية مهما كان مجال التنافس.

أمثلة للمسيرة الممنهجة لتأصيل مثل ذلك الفخ يمكن ان يلاحظها فاقد البصر في التهافت العجيب لكل العناوين القيادية على نشر التهاني والتبريكات على شاشات التلفاز والمواقع الإخبارية مع أي فوز للمنتخب او لنادٍ ولو كان على فريق "طيور الغبشة" بقصد التقرب من المزاج الشعبي. تهانٍ وتبريكات للاعبين لا يكاد احدهم يملك الشهادة الابتدائية بينما أؤكد ان أيا من أولئك المهنئين لا يعرف اسم اثنين او ثلاثة من علماء العراق/أساتذة/مهندسين/أطباء ولا منجزاتهم او افكارهم. أحضان الحكومات والقيادات المتنفذة "وهي كثيرة" مفتوحة على مصراعيها لحمل اللاعبين والفنانين لاقصى الأرض فيما عبارة "على ان لا تتحمل ال...اية نفقات" عن مشاركة الباحث العراقي في أي محفل علمي تتصدر الكتب الرسمية.

كي لا أكون قاسيا بحق القيادات فان الجهل بأسماء وإمكانات وإنجازات العلماء العراقيين بات حالة عامة حيث يحفظ العراقي أسماء راقصات وفاشنستات " وهي وصف منمق لصاحبات مهنة قديمة جدا" تصرّح احداهن انها تسوق الرجال ب50 الف دينار، ومهرجين كحسحس وكنكن وووو بينما لا يكاد الطالب الجامعي يعرف اسم استاذه الذي يدّرسه في الجامعة وان عرف الاسم الأول لا يعرف سواه. لماذا وما السبب؟

 تراكمات انهيار المنظومة التعليمية الأساس وانهيار سوق العمل الذي رمى الشباب منذ 2003 والذين باتوا في سن البلوغ اليوم، لغياهب البطالة، مع هجمة إعلامية منظمة تنظيما وتمويلا عاليين بحيث باتت قادرة على تحريك الملايين في مناسبات كثيرة ليست تشرين آخرها، يرافق كل ذلك أداء أسوأ من السيء للمنظومة الحكومية (ان صحّت تسميتها أصلا) ، كل ذلك وأكثر جعل المجتمع والشباب منه خاصة هاضما كبيرا لاي فخ وأخطرها عنوان هذه المقالة وباتت تلك اللعبة التي يفترض بها أن تطور الناحية التنافسية الفكرية والجسدية، الى وسيلة تباعد وتباغض لا تقتصر على أبناء البلد عموما فقط "كما يحصل بين المحافظات" او بين القوميات بل بين أبناء المدينة الواحدة وحتى الطائفة الواحدة. العنف والتخريب باتا سمة ثابتة سواء عند الفوز او الخسارة، ودونكم البرامج التلفزيونية السمجة التي ليس فيها من الادب والذوق قطرة بل يملؤها السباب والتخوين وأنواع البذاءات.

عن أي وحدة وطنية او لم شمل يمكن ان نتحدث مع شعب يلهث خلف صراخات وطبول تصم الاذان عن أي صوت لحكمة او منطق، شعب تشجع حكوماته وقياداته على إقامة مهرجانات العري والسفه لزبائن و"منتسبي/منتسبات" الملاهي تحت عناوين متنوعة يتم خلالها تتويج "صدورهن" بأوسمة ويعزف لاجلهن السلام الجمهوري والنشيد الوطني بينما لا تجد في أي مؤتمر علمي سوى الباحثين الذين ينتظرون دورهم في القاء البحث لكراسٍ فارغة!!!!!

***

أ.د. سلام جمعه المالكي

   زعم (زكريا القزويني، -682هـ= 1283م) في كتابه "آثار البلاد وأخبار العباد"(1)، خلال حديثه عن بلاد (إفرنجة)، التي قاعدتها (باريس)، (=فرنسا)، أنها:

"بلدةٌ عظيمةٌ، ومملكةٌ عريضة، في بلاد النصارى... ولهم مَلك ذو بأس، وعدد كثير، وقُوَّة مُلك، له مدينتان أو ثلاث على ساحل البحر من هذا الجانب في وسط بلاد الإسلام، وهو يحميها من ذلك الجانب، كلما بعث المسلمون إليها من يفتحها، يبعث هو من ذلك الجانب من يحميها.  وعساكره ذوو بأس شديد؛ لا يَرون الفرار أصلًا عند اللقاء، ويَرون الموت دون ذلك.  لا ترى أقذر منهم، وهم أهل غدرٍ ودناءة أخلاق، لا يتنظَّفون ولا يغتسلون في العام إلَّا مرَّة أو مرَّتين بالماء البارد! ولا يغسلون ثيابهم منذ لبسوها إلى أن تتقطع!  ويحلقون لحاهم، وإنَّما تنبت بعد الحلق خشنةً مستكرهة.  سُئل واحدٌ عن حلق اللِّحى؟ فقال: الشَّعر فَضْلة، أنتم تزيلونها عن سوءاتكم، فكيف نتركها نحن على وجوهنا؟!"

وأقول "زعم"؛ لأنَّ لهذا القزويني خزعبلات لا تخفى، في كتابه هذا وفي غيره، يصعب تصديقها.  بل له تخليطات جغرافيَّة، حتى في كلامه حول مواضع معروفة في الجزيرة العَرَبيَّة، عرفها وعرَّف بها معاصروه وسابقوه.  وليس هذا بمقام مناقشة هذا الآن.  أمَّا ما ذكرَه عن الثقافة الأوربيَّة خلال القرون الوسطى، فله شواهد متواترة من طُرقٍ متعدِّدة، لعلَّ أشهرها ما وصفه (أحمد ابن فضلان)، في رسالته المعروفة، التي صوَّر فيها مجتمعات (أوربا الشرقيَّة)، خلال العصر العباسي الثاني، إبَّان عهد (المقتدر، -320هـ= 932م).  والشاهد من هذا أنَّ الحضارة دوَّارة، والحضارة الماديَّة ليست بمقياس التحضُّر الأمثل، مهما بلغ البهرج والعنفوان.  وآيات ذلك المعاصرة ليست في حاجة إلى استشهاد أو تفسير.  فإذا كان (نزار قباني) قد ناح على بني جلدته:

خلاصةُ القضيةْ

توجز في عبارةْ:

لقد لبسنا قِشرة الحضارةْ

والرُّوح جاهليَّةْ!

فما أروع جاهليَّتنا العَرَبيَّة الأُولى، قياسًا إلى بعض الجاهليَّات المعاصرة، وريثة الجاهليَّات الأوربيَّة المعولمة!  وما فضائح الملياردير الأميركي اليهودي- واليهوديَّة نفسها منه براء- (جِفري سيمور جي إبستين Epstein Jeffrey، - 2019)- صاحب (جزيرة القدِّيس يعقوب)، والمدفون في (مقبرة نجمة داود)، بعد أن هلك منتحرًا- ولا فظائع زمرته من شياطين الإنس، منَّا ببعيد!  ويا للنفاق، فأنتَ تلحظ هنا الرموز الدِّينية المحيطة بهذا الشيطان الرجيم، حيًّا وميتًا: "القدِّيس.. يعقوب.. نجمة داوود"!  ويالها من قداسة، ونجوميَّة، وداووديَّة!  وهل تألُّب شياطينهم، من أحفاد أسلاف البدائيَّة الغربيَّة، على مستضعفي (غَزَّة) من النساء والولدان بغريبٍ على جذورهم التاريخيَّة؟! إنَّ الحيَّة لا تَلِد إلَّا الحيَّة، وما أشبه الليلة بالبارحة!  على أنَّ التوحش البَشري يزداد ضراوةً وقُبحًا حين يتلبَّس لبوس الدِّين.

هكذا صفعَ وجودَنا (ذو القُروح)، ونحن ما نكاد نستفيق من صفعاته السالفة.  فقلت، وقد أوشك أن يخرج عن طوره، لعلِّي أستعيده إلى بعض حواره التاريخي السابق:

- ألا تلحظ في صراع الأديان المعاصرة، وهو صراعٌ مسيَّس، ذلك الجهاد في سبيل الذَّبِّ عن القول بتحريف "الكتاب المقدَّس"، سهوًا أو قصدًا؟!

- بلى ألحظ.  وذاك لتنقية صفحات التاريخ ممَّا تستعيد كتابته صفحات المعاصِر. ويحدث ذلك كذلك لأسباب من الاختلافات الأيديولوجيَّة، وهو ما دفع الكنيسة إلى أن تتنصَّل من بعض الكِتاب، فتجعله بين قوسَين، تنبيهًا إلى عدم وجوده في الأصول القديمة، وذلك كقِصَّة (مريم المجدليَّة).(2) 

- ألهذا فقط وقع التحريف؟

- له ولغيره من المآرب والأهواء التاريخية، عبر رحلات تلك الأسفار من النُّسخ المخطوطة، المفقودة أصولها، التي كتبها المعاصرون لـ(موسى وعيسى، عليهما السلام). 

- كيف؟

- كيف هذه حكاية تطول!  ذلك أنَّ ما بقي لا يعدو نُسَخًا منقولة عن نسخٍ ضائعة، مختلفة الروايات، وأَقْدَم مخطوطٍ غير أصليٍّ لـ(العهد الجديد) لا يرقى إلى أقدم من القرن الثاني الميلادي.  ثمَّ زاد الطين بِلَّةً ما حدث من تحريفاتٍ، أو من أخطاء إضافيَّة قسريَّة، جرَّاء رحلاتٍ أخرى بين أيدي مترجمي تلك النُّسخ غير الأصليَّة نفسها، من لغات قديمة- كالعبرانيَّة والآراميَّة، فيما يتعلق بـ(العهد القديم)، واليونانيَّة، فيما يتعلق بـ(العهد الجديد)- إلى لغات أحدث، أو إلى لغات أخرى.

- وهل من جديدٍ تحت الشمس؟

- الجديد أنَّ الكتاب الأوَّل قد حوى تراثًا من الأساطير، مقتبسًا عن شعوب شتَّى، ولاسيما الأساطير السومريَّة، والأكديَّة، والبابليَّة، التي يبدو أنَّ القوم استقوا شِقْصًا منها إبَّان السَّبي البابلي. 

- شِقْصًا؟

- أعني شِقًّا منها. ولنضرب على هذا نموذجًا واحدًا.  وهو (قِصَّة الطوفان).  جاءت تلك القِصَّة المثيرة في (سِفر التكوين)(3)، على النحو الآتي:

"ورَأَى الرَّبُّ أَنَّ شَرَّ الإِنْسانِ قَدْ كَثُرَ في الأَرْضِ... فَحَزِنَ الرَّبُّ أَنَّهُ عَمِلَ الإِنْسانَ في الأَرْضِ، وتَأَسَّفَ في قَلْبِهِ! فَقالَ الرَّبُّ: "أَمْحُو عَنْ وَجْهِ الأَرْضِ الإِنْسانَ الَّذِي خَلَقْتُهُ، الإِنْسانَ مَعَ بَهائِمَ ودَبَّاباتٍ وطُيُورِ السَّماءِ، لأَنِّي حَزِنْتُ أَنِّي عَمِلْتُهُمْ!"... فَقالَ اللهُ لِنُوحٍ:... اِصْنَعْ لِنَفْسِكَ فُلْكًا... فَها أَنا آتٍ بِطُوفانِ الماءِ عَلَى الأَرْضِ لأُهْلِكَ كُلَّ جَسَدٍ فيهِ رُوحُ حَياةٍ مِنْ تَحْتِ السَّماءِ. كُلُّ ما في الأَرْضِ يَمُوتُ. ولكِنْ أُقِيمُ عَهْدِي مَعَكَ، فَتَدْخُلُ الفُلْكَ أَنْتَ وبَنُوكَ وامْرَأَتُكَ ونِساءُ بَنِيكَ مَعَكَ. ومِنْ كُلِّ حَيٍّ مِنْ كُلِّ ذِي جَسَدٍ، اثْنَيْنِ مِنْ كُلٍّ تُدْخِلُ إِلَى الفُلْكِ لاسْتِبْقائِها مَعَكَ. تَكُونُ ذَكَرًا وأُنْثَى... في سَنَةِ سِتِّ مِئَةٍ مِنْ حَياةِ نُوحٍ، في الشَّهْرِ الثَّانِي، في اليَوْمِ السَّابعَ عَشَرَ مِنَ الشَّهْرِ في ذلِكَ اليَوْمِ، انْفَجَرَتْ كُلُّ يَنابِيعِ الغَمْرِ العَظِيمِ، وانْفَتَحَتْ طاقاتُ السَّماءِ. وكانَ المَطَرُ عَلَى الأَرْضِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وأَرْبَعِينَ لَيْلَةً... فَماتَ كُلُّ ذِي جَسَدٍ... كُلُّ ما في أَنْفِهِ نَسَمَةُ رُوحِ حَياةٍ مِنْ كُلِّ ما في اليابِسَةِ ماتَ. فَمَحا اللهُ كُلَّ قائِمٍ كانَ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ... ثُمَّ ذَكَرَ اللهُ نُوحًا وكُلَّ الوُحُوشِ وكُلَّ البَهائِمِ الَّتِي مَعَهُ في الفُلْكِ. وأَجازَ اللهُ رِيحًا عَلَى الأَرْضِ فَهَدَأَتِ المِياهُ. وانْسَدَّتْ يَنابِيعُ الغَمْرِ وطاقاتُ السَّماءِ، فامْتَنَعَ المَطَرُ مِنَ السَّماءِ. ورَجَعَتِ المِياهُ عَنِ الأَرْضِ رُجُوعًا مُتَوالِيًا. وبَعْدَ مِئَةٍ وخَمْسِينَ يَوْمًا نَقَصَتِ المِياهُ، واسْتَقَرَّ الفُلْكُ في الشَّهْرِ السَّابعِ، في اليَوْمِ السَّابعَ عَشَرَ مِنَ الشَّهْرِ، عَلَى جِبالِ أَراراطَ. وكانَتِ المِياهُ تَنْقُصُ نَقْصًا مُتَوالِيًا... وفي العاشِرِ في أَوَّلِ الشَّهْرِ، ظَهَرَتْ رُؤُوسُ الجِبالِ. وحَدَثَ مِنْ بَعْدِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا أَنَّ نُوحًا فَتَحَ طاقَةَ الفُلْكِ الَّتِي كانَ قَدْ عَمِلَها وأَرْسَلَ الغُرابَ، فَخَرَجَ مُتَرَدِّدًا حَتَّى نَشِفَتِ المِياهُ عَنِ الأَرْضِ. ثُمَّ أَرْسَلَ الحَمامَةَ مِنْ عِنْدِهِ لِيَرَى هَلْ قَلَّتِ المِياهُ عَنْ وَجْهِ الأَرْضِ، فَلَمْ تَجِدِ الحَمامَةُ مَقَرًّا لِرِجْلِها، فَرَجَعَتْ إِلَيْهِ إِلَى الفُلْكِ... فَلَبِثَ أَيْضًا سَبْعَةَ أَيَّامٍ أُخَرَ وعادَ فَأَرْسَلَ الحَمامَةَ مِنَ الفُلْكِ، فَأَتَتْ إِلَيْهِ الحَمامَةُ عِنْدَ المَساءِ، وإِذا وَرَقَةُ زَيْتُونٍ خَضْراءُ في فَمِها. فَعَلِمَ نُوحٌ أَنَّ المِياهَ قَدْ قَلَّتْ عَنِ الأَرْضِ... وكَلَّمَ اللهُ نُوحًا قائِلًا: "اخْرُجْ مِنَ الفُلْكِ... وبَنَى نُوحٌ مَذْبَحًا لِلرَّبِّ... وقالَ الرَّبُّ في قَلْبِهِ: "لاَ أَعُودُ أَلْعَنُ الأَرْضَ أَيْضًا مِنْ أَجْلِ الإِنْسانِ... "وها أَنا مُقِيمٌ مِيثاقِي مَعَكُمْ... هذِهِ عَلاَمَةُ المِيثاقِ الَّذِي أَنا واضِعُهُ بَيْنِي وبَيْنَكُمْ... وضَعْتُ قَوْسِي في السَّحابِ فَتَكُونُ عَلاَمَةَ مِيثاقٍ بَيْنِي وبَيْنَ الأَرْضِ... وكانَ بَنُو نُوحٍ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنَ الفُلْكِ سامًا وحامًا ويافَثَ. وحامٌ هُوَ أَبُو كَنْعانَ. هؤُلاَءِ الثَّلاَثَةُ هُمْ بَنُو نُوحٍ. ومِنْ هؤُلاَءِ تَشَعَّبَتْ كُلُّ الأَرْضِ. وابْتَدَأَ نُوحٌ يَكُونُ فَلَّاحًا وغَرَسَ كَرْمًا. وشَرِبَ مِنَ الخَمْرِ فَسَكِرَ وتَعَرَّى داخِلَ خِبائِهِ. فَأَبْصَرَ حامٌ أَبُو كَنْعانَ عَوْرَةَ أَبِيهِ، وأَخْبَرَ أَخَوَيْهِ خارِجًا. فَأَخَذَ سامٌ ويافَثُ الرِّداءَ ووَضَعاهُ عَلَى أَكْتافِهِما ومَشَيا إِلَى الوَراءِ، وسَتَرا عَوْرَةَ أَبِيهِما ووَجْهاهُما إِلَى الوَراءِ. فَلَمْ يُبْصِرا عَوْرَةَ أَبِيهِما. فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ نُوحٌ مِنْ خَمْرِهِ، عَلِمَ ما فَعَلَ بِهِ ابْنُهُ الصَّغِيرُ، فَقالَ: "مَلْعُونٌ كَنْعانُ! عَبْدَ العَبِيدِ يَكُونُ لإِخْوَتِهِ". وقالَ: "مُبارَكٌ الرَّبُّ إِلهُ سامٍ. ولْيَكُنْ كَنْعانُ عَبْدًا لَهُمْ. لِيَفْتَحِ اللهُ لِيافَثَ فَيَسْكُنَ في مَساكِنِ سامٍ، ولْيَكُنْ كَنْعانُ عَبْدًا لَهُمْ". وعاشَ نُوحٌ بَعْدَ الطُّوفانِ ثَلاَثَ مِئَةٍ وخَمْسِينَ سَنَةً. فَكانَتْ كُلُّ أَيَّامِ نُوحٍ تِسْعَ مِئَةٍ وخَمْسِينَ سَنَةً، وماتَ."

   وهذه قصَّة لا تخلو تفاصيلها من الخيالات الأُسطورية والعنصريَّة.  وقد امتدَّ هذا الخطاب العنصري إلى "العهد الجديد".

- من هنا، إذن، تدفَّق علينا منبع (الساميَّة المقدَّسة)، التي تحوَّلت إلى شعارٍ إرهابيٍّ عالمي؟

- نعم، حتى لا تكاد تفتح فمك بانتقاد، حتى يَهِرَّ الغرب في وجهك: "أنت ضد الساميَّة!"، وإنْ كنتَ أنت السامِّي والمقول فيه خزري!

- وكذا منبع العنصريَّة القديمة ضدَّ (الكنعانيِّين/ الفلسطينيِّين).  لكن كيف امتدَّ ذلك الخطاب ليصبَّ في "العهد الجديد"؟

- إجابة كيف هذه في المساق التالي، إن شاء الله!

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

...........................

(1)  (د.ت)، آثار البلاد وأخبار العِباد، (بيروت: دار صادر)، 498.  وقارن: 576.

(2)  يُنظَر: تفسير العهد الجديد، (جمعية الكراريس البريطانية، 2004)، 235.

(3)  الإصحاح 6- 9.

 

(كنت ألاحق الأفكار التي تتزاحم في مخيلتي، بدون خطة أو غاية، وكأنَّني طفل يلاحق فراشة نادرة تطير في المراعي، من دون أن ينظر إلى موطئ قدميه)... هاروكي موراكامي

***

في الفناء الكئيب لمستشفى مزدحم، محاط بجدران تعكس آلام سكانه، وقع نظري على منارة مُرهقة، غير مبالية بويلات المرضى والمحتاجين، ولكنها تطل على الامتداد الهادئ للسماء اللازوردية، مترفعة عن الاكتطاظ البشري والأزدحام المروري في الأسفل، وهنا وسط هذا التجاور بين المعاناة والصفاء، عاد ذهني إلى كلمات جان جاك روسو، ولا سيما كتابه "هواجس المتنزه المنفرد بنفسه" كان لهذا الكتاب بتصويره المثير للتشاؤم، صدى عميق في ذهني، حيث سجل روسو أفكاره وهواجسه وخيبة أمله وسط عالم مليء بالنفاق والخداع من خلال رحلته مع ذاته في عدة نزهات أطلق العنان فيها لأفكاره، حاولت لوهلة أن أخضع ذهني لهذا التمرين وأتسلق بأفكاري (مقلدة روسو) بعيداً من خلال شجرة وحيدة لكن أرتطمت بواقع مُقحل، بأعتبار المساحات الخضراء في مجتمعنا مساحات غير مهمة وغير موجودة في مشاريع الحكومة الرشيدة .

وبالعودة الى صاحب العقد الأجتماعي الذي اتسمت حياته بالصراع من أجل الاعتراف، ولم تكن جهوده وروحه الحساسة موضع تقدير من قبل المحيطين به كان يكتب مستلقيًا، محاطًا بالعزلة التي تعكس اضطرابه الداخلي، وكان يبحث عن العزاء في الطبيعة وعالم النبات، وسط التأمل والعزلة، وجد روسو الرفقة في النباتات، ونأى بنفسه عن نشاز النفاق والخيانة الذي أحاط به، ما يميز تأملات روسو هو طبيعتها الحميمة، التي تم كتابتها كتأملات شخصية، وظلت مخفية حتى بعد وفاته، وهي تقدم لمحة واضحة عن روحه، ومن خلال الاعترافات والتأمل، قام روسو بتفكيك الواجهة التي كانت تحميه، وكشف نقاط ضعفه ليراها الجميع، وعلى الرغم من أنه مؤلم، إلا أن صدقه يتردد صداه في قلب الروح الحرة، النزهات التي كان يقوم بها "حالماً" كانت تستثير عنده مشاعر عميقة ملأى بـ "الهواجس"، كان يتلذذ بالنزهات لأنها توافق كسله الجسدي من حيث الابتعاد عن كل عمل مصمّم، وتتناغم مع غزارة مخيلته وتدفق رعشاته.3331 منارة مسجد

ولايفوتنا أن نذكر أن هناك علاقة وطيدة بين المشي والتفكر، وكما يذكر هاروكي موراكماي في كتابه (ما أتحدث عنه حين أتحدث عن الجري) نمشي و نمشي دون وجهة محددة، نجري دائماً إلى الأمام، و كأن المشي عندنا طقسا دينياً يراد له أن يشفي أرواحنا الجريحة.

بالعودة إلى المتنزه نواجه روسو منغمسًا في مساعيه، مما يسمح لروحه بالصعود إلى عالم الأفكار، متحررًا من قيود المجتمع البشري، وسط المساحات الخضراء نجد ملاذًا حيث يمكن للأفكار أن تتجول بحرية، إنه تناقض صارخ مع الواقع الذي نواجهه في العراق، حيث يؤدي تراجع المساحات الخضراء ومحدودية الوصول إلى الحدائق والمناطق العامة إلى تقييد التعبير عن الفكر الفردي .

عندما أتأمل نقد روسو للمجتمع والحضارة، أستحضر واقعاً محفوفاً بالأزمات في مجتمع حيث يتم التنازل عن الحقوق عن طيب خاطر لحكومة مقيدة بعقد لا جدوى منه، وسط الأزمات المتصاعدة، إن كلمات روسو المؤثرة تلخص جوهر الوجود الإنساني، الذي يتجاوز الزمان والمكان، كما يعلن:

" لقد انتهى كل شئ بالنسبة لي في هذه الدنيا ..

و لن يستطيع احد بعد ان يفعل بي خيراً او شراً ..

لم يعد امامي ما آمل فيه او ما أخشاه في هذه الدنيا

وها أنا ذا مستكين في قرار الهاوية بشراً فانياً منكودا ولكن صامد كالإله نفسه"

وكما قال روسو: «يولد الإنسان حرًا، وفي كل مكان يكون مقيدًا بالأغلال» ويتردد صدى هذا الشعور بعمق لدى الفرد العراقي، الذي غالبًا ما يشعر صوته بالاختناق بسبب القيود المجتمعية والاضطرابات السياسية، في بيئة خالية من المساحات المفتوحة، تصبح فرصة التعبير الحقيقي عن الذات نادرة بشكل متزايد.

ومع ذلك، وفي خضم هذه التحديات، لا يزال هناك بصيص من الأمل إن بحث روسو الخالد عن الأصالة هو بمثابة ضوء إرشادي يلهمنا للمثابرة على الرغم من تجارب الحياة، وعلى حد تعبير روسو: "ما هي الحكمة التي تجدها أعظم من اللطف؟" ومن خلال اللطف والتفاهم يمكننا أن ننشئ مجتمعا يمكن أن تزدهر فيه الروح الإنسانية، غير مثقلة بأغلال القمع، وأن نصنع من الخيال فضاءات واسعة نحلق بها بعيداً عن الواقع المقفر....

***

د. فاطمة الثابت – استاذة علم الاجتماع في بابل

........................

* المنارة المطلة على أحد المستشفيات

 

التغيير في ترجمة العنوان أمر وارد، وخصوصاً في بعض الأعمال الأدبية والسينمائية لدواع تجارية أو اجتماعية بشرط أن يُذكر العنوان الأصلي في الصفحة الداخلية للكتاب باللغتين الأصلية والمترجَم إليها. ولكن هذا التغيير يكون غالباً ضمن إطار معنى العنوان الأصلي ولا يخرج من فضائه! لنلقِ نظرة على هذا المثال لنرى إنْ كان من النوع المسموح به أم أنَّ فيه تجاوزاً وخروجاً على المعنى الأصلي وتحميل العنوان الجديد بحمولات أيديولوجية "قومية عروبية على قومية سورية" خاصة بالمترجم؟

* ألَّفَ الباحث الآثاري الفرنسي جان كلود مارغورون في ستينات القرن الماضي كتابه (les mesopotamiens). وتعني هذه الكلمة سكان بلاد ما بين النهرين أو كما دأبتُ على تسميتهم في كتاباتي "الرافدانيون"، وقد وضحتُ مبرراتي في أكثر من نص. وبعد ربع قرن تقريباً على صدور كتاب مارغورون ترجمه سالم سليمان العيسى إلى العربية سنة 1999. ولكن تحت عنوان جديد طويل هو "السكان القدماء لبلاد ما بين النهرين وسوريا الشمالية". ثم، وكأن المترجم لم يكتف بزجِّ اسم سوريا الشمالية في العنوان فزاد وكتب عنواناً ثانياً تحت العنوان الرئيسي في الصفحة الأولى من الكتاب هو "التراث والكنز الثمين الذي أبهر الأجانب - مفخرة سوريا"!

يخبرنا المؤلف الفرنسي منذ البداية بجوهر فكرة كتابه وموضوعه وهو محاولة اقتراح هوية جغراحضارية لسكان هذا الإقليم متعدد القوميات. وهو يعترف منذ مقدمة كتابه بأن الكتاب سيهتم بسكان بلاد الرافدين أو ما بين النهرين دون غيرهم (ذاكراً حدود هذا الإقليم الواقع بين نهري دجلة شرقاً والفرات غرباً، وقلب الأناضول شمالاً والدلتا السومرية شمال الخليج العربي - ويسميه الفارسي - جنوبا/ ص20)، مؤكدا أنَّ هذا الاسم "الميزوبوتاميين" أي الرافدانيين لم يكن موجوداً في تلك العصور القديمة، ولم يكن الناس في هذه المنطقة يسمون أنفسهم به ذاكراً مبرراته لإطلاق هذه التسمية. ثم يسمي بعض شعوب بلاد الرافدين ومنهم السومريون والكاديون - والمقصود الأكاديون - والآشوريون والحوريون والسوريون. ومن غير الدقيق علمياً وكرونولوجياً خصوصاً إيراد ذكر الآشوريين والسوريين معاً، فالثابت تأريخياً أن أسم سوريا وبالتالي "السوريون"، اشتق لاحقاً - في عهد الاحتلال السلوقي (بين 312 ق.م حتى سنة 63 ق.م- من اسم آشور والآشوريين، وبعد سقوط الدولة الآشورية واندماج شعبها بشعوب المنطقة. على هذا، ينبغي الفصل بين التسميتين وعدم الجمع بينهما في حقبة تأريخية واحدة. أما هل وردت العبارة بهذه الصيغة في الكتاب باللغة الفرنسية وفيها كلمة "السوريون"، أم أنها أضيفت سهواً أو قصداً من قبل المترجم العربي، فلا يمكنني الإجابة على هذا السؤال قبل الاطلاع على النسخة الفرنسية منه.

لقد تجاوز المترجم على عنوان المؤلف الأصلي ووضع له اسما يتجاوب مع دوافعه الأيديولوجية، ولم يكتف بذلك، بل كتب مقدمة خاصة به كمترجم راح يلوي أعناق الحقائق والوقائع فيها ليروج فكره القومي العروبي المتداخل مع فكر الهوية السورية فيكتب معرفا الرافدانيين بقوله: "إنهم السكان السومريون - الحوريون - الأكاديون - السوريون الذين تواجدوا في بلاد الدجلة والفرات، إنهم جميعا من الأصل السامي مصدر قوميتنا العربية، وهذه حقيقة تاريخية ثابتة...  ص5"، وكأن الأفكار والمعلومات تتحول إلى حقائق تأريخية ثابتة حين يقرر المترجم أو الكاتب ذلك بجرة قلم! وحتى إذا غضضنا النظر عن هفوة المترجم في استخدام الفعل "تواجدوا" والذي يعني "أظهروا الوجد الصوفي" وليس الوجود الانطولوجي وفعله "وُجِدوا"، لم يكتف العيسى بدوره كمترجم بل تدخل كباحث وجعل الحوريين ساميين، وحذف الآشوريين بعد أن جعلهم سوريين! وقد وضحنا وجه الخلط بين الآشوريين بالسوريين، أما بالنسبة للحورين فهم كما هو معروف بحثياً لا علاقة لهم بالساميين، لا أصلاً أثنولوجياً ولا لغة. فأصلهم العرقي ما يزال غامضا، ولكن لغتهم "الحورية فرع من اللغات الحورو- أورارتية، وهي لا تنتمي إلى اللغات السامية ولا إلى اللغات الهندية الأوروبية، ويرجعها بعض الباحثين الى مجموعة اللغات القفقاسية الجورجية. وتذهب بعض النظريات إلى أن بعض ملوكهم كانوا من أصول هندو آرية، وقد ظهروا في العصر البرونزي وشيَّدوا المملكة الميتانية ثم ذابوا في شعوب المنطقة بعد انهيار مملكتهم.

كانت هذه وقفة سريعة عند مثال من تجاوزات الترجمة إلى العربية وستكون لنا وقفة أطول عند هذا الكتاب في مناسبة أخرى ضمن مشروع دراسة لفحص العلاقات التأريخية والحضارية القديمة بين بلاد الرافدين وما يسمى من قبل البعض سوريا الكبرى "أو الهلال السوري الخصيب" التي يريدون أن تكون بلاد الرافدين كما شخَّصَ حدودها جغرافياً وحضارياً جان كلود مارغورون وغيره جزءا منها!

***

علاء اللامي

يبدو أن هناك شعورًا منتشرًا بشكل مهول يطارد مجتمعاتنا – إنه القلق. لقد أصبح مصطلح "عصر القلق" شعارًا شائعًا، وغالبًا ما يتم الاستشهاد به للتعبير عن جوهر وجودنا المعاصر. ولكن هل نعيش حقا في عصر يهيمن عليه الشعور بالقلق، أم أن هذا التصور هو مظهر من مظاهر التغييرات المجتمعية الأوسع ووجهات النظر المتطورة بشأن واقعنا ومزاجنا اليومي ؟.

لقد شهد القرن العشرين تحولات مجتمعية وتكنولوجية مهولة وغير مسبوقة، تسببت في توليد مخاوف ذات ضغوطات مختلفة . لقد زرعت الحروب العالمية والكساد الاقتصادي والحرب الباردة مخاوف جماعية من الإبادة. وأدى التقدم التكنولوجي المتسارع، وخاصة العصر النووي، إلى ظهور التهديدات الوجودية في المقدمة. في الوقت نفسه، قدمت الثورة الرقمية في أواخر القرن العشرين وظهور الإنترنت حزمة جديدة من الشكوك والمخاوف المتعلقة بالخصوصية، والاستهلاك المفرط للمعلومات، وتآكل الملامح الشخصية:

أحد العوامل المهمة التي يُشار إليها غالبًا على أنها تساهم في إدراك سن القلق هو التقدم السريع للتكنولوجيا وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي حيث يُعتقد أن الوابل المستمر من المعلومات، والضغط للحفاظ على شخصية متوازنة في عوالم الإنترنت، والخوف من تفويت الأشياء  الخاصة هي عوامل محفزة لزيادة مستويات ضغط القلق.

إحدى الآليات الأساسية التي تؤثر من خلالها العوامل الاقتصادية على الصحة العقلية هو الشعور السائد بعدم الاستقرار الذي يصاحب عدم اليقين الدخل الآمن . وسواء كان ذلك بسبب الانكماش الاقتصادي العالمي أو الصراعات المالية الشخصية، فإن عدم اليقين بشأن المستقبل المالي يمكن أن يكون بمثابة أرض خصبة لهذا القلق المرعب .

إن الخوف من فقدان الوظيفة، وعدم استقرار السكن، وعدم القدرة على تلبية الاحتياجات الأساسية يمكن أن يساهم في انتشار الشعور بالعجز والضعف.

ونحن نبحر في تعقيدات ومطبات العصر الحديث، من الضروري إجراء افتحاص نقدي لمفهوم عصر القلق. ومن خلال تشريح الأبعاد التاريخية والتكنولوجية والاقتصادية والثقافية والفردية للقلق، يمكننا الحصول على فهم دقيق للعوامل التي تساهم في إدراكنا الجماعي لمستويات القلق المتزايدة. ومن خلال القيام بذلك، قد نكتشف أن عصر القلق ليس حقيقة متجانسة، بل هو تفاعل معقد بين القوى المختلفة التي تشكل المشهد العقلي لدينا.

***

عبده حقي

 

كان العراقيون يتوقعون فوزا سهلا لفريقهم على فريق فيتنام مقارنة بفوزه على فريق اليابان القوي، ولم يكن بمستواه لسبب سيكولوجي هو ان الفريق العراقي يستسهل اللعب مع الفريق الذي يراه اضعف منه، ولم يلعب بمستواه الا في الدقائق الأخيرة التي انتهت بفوزه.. ولحظتها امتلأت شوارع المدن بالعراقيين، صغيرهم وكبيرهم، نساؤهم ورجالهم وهم يهزجون ويغنون و(يهوسون).. فدفعني فضولي السيكولوجي الى ان اجري استطلاعا عبر وسائل التواصل الأجتماعي كان بالنص:

(كل الشعوب تفرح وتبتهج من يفوز فريقها، لكن العراقيين يتفردون بفرح خاص.. صغار، كبار، بنات، نساء، يصفه سيكولجيون أنه هوس. انت بماذا تصفه؟)

 تحليل الأجابات

 تعدت الأجابات المئات فوجدتها انها تتوزع بين سببين، الأول سيكولوجي خالص يمكن صياغته بالتعبير الشعبي بأن العراقي جوعان للفرح، اليكم نماذج منها:

بسبب الكدر واعتقد رد فعل لفراغ نفسي كبير نحتاج نتحدث عنه طويلا، العراقيزن الشرفاء يعانون من عطش الفرح والحرية والمدنية، (اجابة لأكاديمي: هو تطرف بالفرح الذي افتقدنا مغزاه بفعل تسلسل التدمير المبرمج لوطننا المستهدف من قبل الطغاة المتجبرين، وهو رد فعل سوي وليس هوسا مرضيا.. نفسيا

نعم هذا صحيح، والسبب لأن العراقيين عانوا من الأحزان والنكبات والبعد عما يفرح النفوس، ولذلك يندفعون لتعويض ماينقصهم من سرور.

هي فسحة للتنفيس بين عشرات الاحزان العامة اضافة للخاصة التي تمطر علينا ليل نهار،

فرح لمواطنين ساذجين في بلد محتل سكانه تعاني من مئات الأزمات الاجتماعية والاقتصادية.

كرة القدم هي المتنفس الوحيد للشعب، والوحيد الذي يوحّد الشعب العراقي.

والصنف الثاني ارجع السبب الى طبيعة الشخصية العراقية.. اليكم ايضا نماذج من الأجابات بينهم اكاديميون وأعلاميون:

العراقي مخلص في هواه وسمح ويحب الشيء الذي يجمعه بالفرح مع الآخرين وخاصة ان كان الفرح.. وطن،

العراقي متطرف في مشاعره سواء في الحب او الفرح او الحزن، العراقيون شعب متفائل ويفرح بالمناسبات السعيدة.. رغم كل ما يمر به من مصائب، العراقي يريد أن يكون غالبا دائما، هوس هستيري اقرب من كونه فرح والفرد العراقي يتأثر بسيكولوجية الجماعة، العراقي يعتبر كرة القدم معركة، والعراقيون يحبون المعارك والأنتصار فيها.

تعبير شعبي

 وهناك تفسيرات لطيفة، فاحدهم وصفها بقوله: فيها يتوحّد العراقيون دون ثبوت رؤية الهلال !، وآخر عزاها الى ارث المهاويل.. والمهوال هو (المهوسجي) بالتعبير الشعبي الذي يثير حماس الجمهور بهوسة (اهزوجة) فيهوسون بحماسة، والعراقيون مشهورون بالهوسات الوطنية، لاسيما هوساتهم في ثورة العشرين: (الطوب احسن لو مكواري،  هز لندن ضاري وبجّاها، الشك الما يتخيط شكيناه، رد فالتنه احتاجيناها).. وهذه لها قصة غريبة.. عن فالة عراقية اصابت عسكري بريطاني في العمارة واحتاروا في امر أخراجها من جسده، فنقلوه الى بريطانيا.. وهي موجودة الآن في أحد متاحف لندن!

لقد فاز العراق على اليابان، وفاز على ماليزيا وفيتنام، وقد يفوز في القادم من المباريات.. لكن العراقيين يبقون مفجوعين بوطنهم من لعبة السياسة التي تجري على ساحة الوطن.. بين فرقاء افتقدوا اخلاق اللعبة وقواعدها.. ولعبوا من اجل كل شيء الا الفوز ب(كأس الوطن!).

***

أ.د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

بقلم: أماندا رايت

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

هناك سمة شخصية نحملها طوال حياتنا تفسر لماذا يجد البعض منا أن التغيير يكون أسهل من قبل الآخرين.. هل شعرت يومًا كما لو أن شخصًا مهمًا بالنسبة لك، مثل صديقك المفضل، بدأ يصبح شخصًا مختلفًا تمامًا؟ في الوقت نفسه، ربما لديك مشكلة معاكسة - بغض النظر عما تفعله أو مدى صعوبة محاولتك، لا يبدو أنك تكسر العادات القديمة أبدًا وتجد نفسك تكافح من أجل التغيير نحو الأفضل. كيف يمكن لهذين الواقعين أن يتعايشا - بعض الناس يبدو أنهم يغيرون هويتهم تمامًا، بينما يجد آخرون أنفسهم غير قادرين على إجراء أي تغييرات -؟

عندما تفكر في مدى التغيير الذي يمكن أن يحدث لك أو للآخرين في أعماقك، فإن ما تفكر فيه حقًا هو الشخصية - الأفكار والمشاعر والسلوكيات النموذجية للشخص أثناء حياته اليومية. يبدو أن شخصية صديقك المفضل قد تغيرت بشكل كبير، لكن شخصيتك تبدو ثابتة تمامًا. يعكس هذا التناقض المذهل جدلاً طويل الأمد في علم النفس. لفترة طويلة، رأى علماء النفس أن الشخصية ثابتة طوال حياتنا. وقد تم دحض هذا منذ ذلك الحين – على الرغم من أن الشخصية مستقرة نسبيًا، إلا أنها بعيدة كل البعد عن كونها ثابتة.

عادة، تحدث معظم التغيرات في الشخصية في مرحلة الشباب وكبار السن، ويبدو أن منتصف العمر هو فترة الاستقرار الأكبر. يمكن أن تكون التغيرات في الشخصية ناجمة عن عملية الشيخوخة الطبيعية أو تأثير العوامل الخارجية، مثل أحداث الحياة الكبرى والتفاعلات اليومية مع الآخرين.

في حين أن هناك اتجاهات متوسطة للتغيير في كل من السمات الشخصية الخمس الكبرى ــ مثل الوفاق الذي يتزايد عادة مع التقدم في السن، في حين تتناقص العصبية ــ فإن الناس يختلفون أيضاً كأفراد في الطرق التي يتغيرون بها. على سبيل المثال، في حين أن الاتجاه المتوسط بالنسبة لمعظم الناس هو زيادة الرضا، فقد يظل الآخرون مستقرين إلى حد ما، وقد يظهر آخرون انخفاضًا. هذه الصورة المختلطة للاتجاهات المتوسطة والتباين الفردي تنطبق على جميع السمات الخمس الكبرى (إلى جانب الوفاق والعصابية، التي تشمل الانبساط، والضمير، والانفتاح).

هناك طريقة أخرى للتفكير في هذا الأمر وهي النظر في كيفية ميل الأشخاص إلى التغيير في شخصيتهم بالكامل بمرور الوقت - أي. ملفهم الشخصي كما ينعكس في جميع السمات الخمس الكبرى. إذا كانت هناك فروق فردية في استقرار السمات الفردية، فهل هناك أيضًا فروق فردية في استقرار السمات الشخصية بأكملها؟ في الواقع، في بحثنا الأخير، وجدت أنا وزميلي جوشوا جاكسون أن بعض الأفراد هم ببساطة أكثر استقرارًا في ملفاتهم الشخصية من غيرهم - مما يشير إلى أن نوعية الاستقرار هذه قد تكون في حد ذاتها سمة مزاجية. أي أنه في حين أنك قد تكون ثابتًا نسبيًا في كيفية استجابتك لعناصر الاستبانة التي تقيم جميع السمات الخمس الكبرى (أي ملف تعريف شخصيتك الخمس الكبرى)، وبالتالي إظهار مستويات عالية من استقرار الشخصية، يمكن لصديقك المفضل أن يتغير بشكل متكرر في درجاته، وبالتالي إظهار مستويات عامة من عدم الاستقرار.

لقد توصلنا إلى هذه النتيجة من خلال فحص درجات اختبارات الشخصية المتكررة لأكثر من 20 ألف شخص ورؤية مدى ميل درجات كل فرد إلى الارتباط (أي البقاء ثابتة) مع مرور الوقت. لقد وجدنا أن الأشخاص اختلفوا في مستوياتهم الأولية من استقرار الملف الشخصي: كان لبعضهم ارتباطات منخفضة تصل إلى  30 (مما يشير إلى مستوى منخفض من الاستقرار، مع حدوث تغيير أكبر خلال نقطتين زمنيتين) بينما كان لدى البعض الآخر ارتباطات في الملف الشخصي صل إلى  (مما يشير إلى وجود مستوى عال من الاستقرار، مع حدوث تغييرات أقل بين نقطتين زمنيتين). علاوة على ذلك، مع تقدم دراستنا، استمرت هذه الاختلافات الفردية في استقرار الملف الشخصي. لقد وجدنا أنه على مدى عقد من الزمن، حافظ الناس على اتساق ملفهم الشخصي النموذجي - بشكل عام، أولئك الذين لديهم شخصيات مستقرة يميلون إلى أن يكونوا مستقرين، وأولئك الذين لديهم شخصيات غير مستقرة يميلون إلى أن يكونوا غير مستقرين. يبدو أن جودة الثبات في سمات شخصيتك هي جودة في حد ذاتها! قد يفسر هذا القصة الخيالية لشخصية صديقك المتغيرة على النقيض من جموده الواضح.

لماذا بعض الناس أكثر استقرارا من غيرهم في شخصياتهم؟ أظهرت الأبحاث السابقة ثلاث عمليات تكمن وراء استقرار الشخصية: ثوابت النمو، مثل العوامل الجينية أو البيولوجية و/أو تجارب الحياة المبكرة، والتي يمكن أن تحدد وتحافظ على مستوى استقرار الشخصية؛العوامل البيئية مثل الحياة المهنية والشريك والمسكن على المدى الطويل، والتي يمكن أن تزيد من استقرار شخصية الفرد من خلال جعله أكثر "من هو" وترسيخ صفاته عبر الزمن؛ و اخيرا، العوامل العشوائية أو العشوائية، مثل التغيرات غير المتوقعة في الحياة أو الأشياء التي تتسبب في انحراف شخص ما عن الوضع الراهن النموذجي لحياته، والتي يمكن أن تقلل من مستوى استقراره.

كما هو موضح من خلال بحثنا، عادةً ما يحافظ الأشخاص على مستوياتهم الشخصية النموذجية من الاستقرار عبر الزمن - نعتقد أن هذا يرجع إلى ثوابت النمو، التي لها حضور قوي في حياة معظم الأفراد وتحدد مستوى استقرارهم الشخصي. وفي الحالات النادرة التي تتغير فيها شخصية الفرد، فمن المحتمل أن يعكس ذلك تأثير البيئة (التي تزيد عادة من الاستقرار) أو العوامل العشوائية (التي تقللها). وبالتالي، فإن مدى استقرارك هو نتيجة ثانوية لشخصيتك (صفة تحملها داخل نفسك)، وبيئتك وتجارب الحياة التي تراكمت لديك حتى الآن. من المحتمل أن تتعايش العمليات الثلاث معًا في حياة كل فرد، ولكن مزيجها المؤكد وتأثيرها على الفرد هو الذي يؤدي إلى مستوى فريد من استقرار الشخصية والتغيرات فيها عبر الزمن.

تؤثر جودة استقرار الشخصية على حياتك وطريقة تفكيرك في نفسك. إذا كنت من الأشخاص الذين يميلون إلى الثبات في شخصيتك،قد يشير ذلك إلى أنك أقل قدرة على تغيير شخصيتك. على الرغم من أن هذا لا يمنع إمكانية التغيير، إلا أن شخصيتك قوية ضد التأثيرات الخارجية. من المحتمل أنك مررت بمراحل نضج معينة - مثل التخرج من المدرسة، وبدء مهنة، والعثور على شريك طويل الأمد - وغيرها من تجارب الحياة التي تظهر الأبحاث أنها يمكن أن تغير شخصيتك في كثير من الأحيان، لكنها لم تغيرك. الجانب الإيجابي من هذا هو أن الأشخاص من حولك يتوقعون منك على الأرجح أن تتصرف بطريقة معينة، ويعتمدون على هذا الشعور بالألفة مع هويتك. ومع ذلك، قد يشير ذلك أيضًا إلى أنك ستواجه صعوبة في محاولة تغيير أو إعادة اختراع نفسك لأن النمط النموذجي لأفكارك ومشاعرك وسلوكياتك ثابت ومقاوم للتغيير.

والعكس هو الصحيح إذا كان لديك استقرار شخصي منخفض نسبيًا - فقد يجد أصدقاؤك وعائلتك عدم ثباتك الواضح مربكًا بعض الشيء، وقد يكون لذلك آثار على إحساسك بالاتساق، ولكن من المتفائل أنه يشير أيضًا إلى أنك قادر على التغيير، بما في ذلك التغيير للأفضل.

إن جودة استقرار الشخصية لها أيضًا آثار على كيفية تفكيرك في الأشخاص الذين تعرفهم والتفاعل معهم. لا شك أنه يمكنك وصف جوانب مختلفة من شخصيتهم بشكل جيد - إذا كان أحد الأصدقاء غالبًا ما يكون مبكرًا أو متأخرًا عن شيء ما؛إذا كان لديهم تقلبات مزاجية أو لديهم مزاج أكثر هدوءًا واستقرارًا؛ أو إذا كانوا يفضلون أن يكونوا مركز الاهتمام أو أكثر من مراقب خارجي في المواقف الاجتماعية. يمكن النظر إلى بعض هذه الخصائص على أنها صفاتهم الأساسية أو الأولية: الأشياء التي تحدد من هم. قد تكون هذه القدرة على وصف المقربين منك في الحياة مفيدة في بعض الأحيان. على سبيل المثال، إذا كنت تنظر إلى صديق مقرب على أنه شخص يتأخر بشكل معتاد عن الأشياء، فقد يكون من الأسهل التغاضي عنه لأنه يصبح أمرًا معتادًا وشيئًا متوقعا منه. أحد الآثار المترتبة على بحثنا هو أنه يمكنك اتخاذ وجهة نظر مماثلة حول مدى استقرارهم في شخصيتهم.

إذا وجدت نفسك محبطًا من شخص يبدو أنه إما يغير هويته دائمًا، أو يكتسب عادات جديدة بنفس السرعة التي يفقدها بها، أو لديه سلوك لا يمكن التنبؤ به بحيث لا تعرف أبدًا ما الذي تتوقع منه فعله بعد ذلك، فهذا ربما كان من السهل رؤية هذا التناقض باعتباره عيبًا. على العكس من ذلك، يمكن أن تنشأ مضايقات مماثلة عند التعامل مع شخص يبدو كما هو بشكل محبط تقريبًا. على سبيل المثال، قد لا يكونون على استعداد للانحراف عن الممارسات الراسخة؛ يقولون إنهم سيعملون على السلوكيات أو السمات التي سببت لهم مشاكل في الماضي ولكن دون نجاح؛ أو تجدهم غير مرتاحين عندما يبدأ الآخرون في التغيير، لأن هذه الفكرة تتعارض مع الطريقة التي يعيشون بها حياتهم.

بالنسبة للشخص الأول، قد تكون بعض الكلمات لوصفه "غير موثوقة" أو "غير متسقة"، بينما يمكن وصف الشخص الثاني بأنه "جامد" أو "عنيد". ومع ذلك، بناءً على النتائج التي توصلنا إليها، أقترح أنه بدلاً من نسب هذه الصفات، التي غالبًا ما تكون لها دلالات سلبية، إلى هؤلاء الأشخاص، قد يكون من الأنسب والمفيد للعلاقات أن تنظر إلى استقرار هويتها على أنها سمة فريدة خاصة بها. بدلاً من النظر إلى أنماط سلوكياتهم على أنها فشل في التغيير (أو التوقف عن تغيير هويتهم)، قد يكون من التكيف الاعتراف بها باعتبارها صفة مميزة لهم يمكنك أن تتوقع منهم الاستمرار في إظهارها. وبالتالي، تمامًا مثل صديقك المعتاد على المتأخر الذي لم يعد يزعجك لأنك تعلمت تخصيص 10 دقائق إضافية له في كل مرة تفعلان شيئًا معًا، فإن إدراك هذه الميزة في الشخصية (عدم) الاستقرار في من حولك يمكن أن يكون مفيدًا في تعلم أفضل السبل لإدارة العلاقة.

على الرغم من أن الاستقرار الشديد أو عدم الاستقرار قد لا يبدو الأكثر تكيفًا، إلا أنني يجب أن أضيف الخبر السار وهو أنه، مثل العديد من الخصائص النفسية الأخرى، يتمتع معظم الناس بمستوى متوسط من الاتساق يقع في مكان ما في المنتصف.  إن وجود نظام شخصية مستقر نسبيًا ولكنه لا يزال منفتحًا إلى حد ما على التغيير يعني أنك لن تكون قادرًا على تجربة تغيير في الشخصية بشكل طبيعي فحسب، بل يعني أنك والأشخاص المقربين منك قادرون على الحفاظ على إحساس ثابت بـ "من أنت". بالإضافة إلى ذلك، لديك أيضًا مستوى معين من المرونة للعمل به إذا كانت هناك أي صفات فيك تريد إعادة اختراعها.

بشكل عام، وجدت العديد من الأفكار والبنيات في علم النفس طريقها إلى عامة السكان. تعد سمات الشخصية مثالًا استثنائيًا على ذلك - من منا لا يهتم بمعرفة المزيد عن سبب كونهم على ما هم عليه وأفضل طريقة لتصنيف ووصف هذه الصفات؟ أقترح أن تكون الإضافة المعقولة إلى ذخيرة المعرفة العامة حول الشخصية، بما يتجاوز السمات الرئيسية، هي فكرة اتساق الشخصية. مع الآثار التي تمتد من التطبيقات العملية إلى التعامل مع التفاعلات الاجتماعية اليومية،فإن اتساق الشخصية هو اختلاف فردي يمكن أن يغير إلى الأبد ما نعرفه عن أنفسنا وعن الآخرين.

(انتهى)

***

.....................

الكاتبة: أماندا رايت / Amanda J Wright  طالبة دراسات عليا في العلوم النفسية والدماغية في جامعة واشنطن في سانت لويس. تركز أبحاثها على استخدام البيانات الطولية لدراسة تغير الشخصية وتطورها والتنبؤ بها والفروق الفردية في كل مجال من هذه المجالات.

رابط المقال:

https://psyche.co/ideas/theres-a-reason-some-of-us-find-it-easier-to-change-than-others

يمكن للمهنة والشريك والمسكن على المدى الطويل أن يزيد من استقرار شخصية الشخص من خلال جعل الشخص أكثر "من هو"

يمكن أن يكون التعرف على جودة الشخصية (في) الاستقرار مفيدًا في تعلم أفضل السبل لإدارة العلاقة.

 

نأتي الآن الى القرينة الأولى التي ساقها الباحث فرانسوا دوبلوا لتكون دليل على تناص وأستيحاء القرآن منها كما يدعي . هذه القرينة المدعاة هي كلمة (النسيئ)، وأن هذه الكلمة قد وجدها الباحث على نقش يمني صُنف تحت الرمز (Cih547) . النسيء لغوياً تعني تأخير وتأجيل، يقول ابن منظور في لسان العرب (نسأ الشيء ينسؤه نسأَ وأنسأه: أخره)، والنسيئة هي ممارسة دأب عليها عرب الجاهلية، حيث كانوا ينسأون الشهور، فيحلون شهر من الأشهر الحرم، وعادتاً مايكون محرم، ويحرمون بدلاً عنه شهر آخر، وهو صفر، أي أنهم يقدمون ويؤخرون حسب رغبتهم وما ترتأي مصالحهم، ويُقال أن قبيلة كنانة العدنانية، وهم من أهل الحرم المكي، هي من أسست لهذا التبديل لتسلسل الأشهر الحرم، والتي هي رجب منفرد، و(ذي العقدة، ذي الحجة،محرم) على التوالي، واٍن أول شخص أشار الى هذا الفعل يُدعى حذيفة بن عبد نعيم أو فقيم، وفقيم ترجع الى كنانة، ولما جاء الأسلام ألغى النسيئة، كما جاء في سورة التوبة آية 36 (اٍن عدة الشهور عند الله اٍثنا عشر شهراً في كتاب الله يَوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حُرم )، وجاء أيضاً (اٍنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يُحلونه عاماً ويحرمونه عاماً ليواطؤُوا عددَّة ما حَرم الله). فقد أتفق العرب على تحريم القتال في هذه الأشهر الأربعة، وهي قاعدة أرساها نبي الله أبراهيم، وتوارثت عبر الموروث العربي آنذاك، ولكنهم كسروا هذا التقليد على يد أحد أفرع قبيلة كنانة، وبالتحديد على يد أحد رجالاتها الذي ذكرنا أسمه أعلاه (حذيفة)، ولكن القبائل الأخرى أستهوت ذلك لأنه ينسجم ورغبتها بالحروب وغزوا بعضهم البعض، فهذه القبائل لا يهدأ لهم بال بدون الحروب لأنهم يعتبروها أحد مصادر عيشهم، وتعويد تعودوا عليه، بل ويفتخرون به، حتى قال شاعرهم مفاخراً:

ألسنا الناسئين على معد  

    شهور الحل نجعلها حراما

*

وأي الناس لم يدرك بذكر

  وأي الناس لم يعرف لجاما

فهم يفتخرون بهذا التبديل والأحلال لهذه الشهور المحرم فيها القتال، ويعتبرونه مفخرة، لأنهم كسروا عرفاً لم يجرأ أن يكسروه سابقاً غيرهم، مفضلين الحرب على السلام، والنهب والسلب على التبادل التجاري السلمي . أنها شريعة الغاب، فجاء الأسلام، فحرم النسيئة، وأعادها الى منوالها الأول الذي أسس له النبي أبراهيم الخليل، مادامت شُعيرة تعيد الأمن والأمان والأستقرار للمجتمع الأنساني، والعمل على تثبيت حالة من الهدوء لمجتمع أَلف الحروب . يتبين من خلال هذا السرد التاريخي لظاهرة النسيئة، أنها ذات منشأ مقره وسط الجزيرة العربية، وهم من أصلوا لها على يد أحد أفراد عشيرة كنانه، المدعو حذيفة بن عبد نعيم، وهناك من قال (صفوان بن محرث)، الذي هو أيضاً من كنانة، والذي يتبين لنا إن النسيئة لا علاقة لها باليهود وممارساتهم،لأن اليهود كانوا يُضيفوا شهر واحد كل سنتين أو ثلاث سنوات على أساس الدورة الميتوتية (القرآن ونقوش اليمن ص98) وهذه يقوم بها اليهود لكي تناسب شهور فصول السنة، وهو ما يُسمى اليوم بالسنة الكبيسه، فالعملية هي عملية أضافة، وليس تأجيل وتبديل كما هي النسيئة عند عرب الجاهلية، وحتى لو نأتي الى كلمة نسيء في اللغة العبرية، فهي تعني (أمير) كما يقول الباحث الأسكندنافي (موبيرج) في مقالة له بعنوان (nasi)، وهنا يعني أن هذه الكلمة لا صلة لها مع الصيغة العربية نسيء، التي تعني التأجيل والتأخير، فالفرق واضح وكبير، فهو تماثل باللفظ ومختلف بالمعنى، والمعنى هو الأصل في اللغة، لأن الألفاظ فقط أوعية للمعنى وحاملة لها .

وفي أنتقالة للنقوش اليمنية، نجد أن هناك باحث يُدعى (هاليفي) في سبعينات القرن التاسع عشر يقول أن النقش المعروف بأسم (NASi) هو نقش توبة يقدم فيه أبناء عشيرتين أعتذارهم للإله (حلفان) عن أهمالهم في أداء عمل طقسي يُسمى مطرد، والذي أقترح الباحث بيستون ترجمته بمعنى (صيد طقسي)، وهنا ينبغي التأكيد على كلمة أقتراح من قِبل الباحث بيستون، وهو أقتراح على سبيل الأفتراض، وهو أفتراض قابل للصدق والكذب كما يقول الفيلسوف الأمريكي اٍريك هيرش، كما ذكرنا بالحلقة الأولى حول الحدس في تفسير النصوص، ونحن وأن أخذنا بها، فهي لا تتفق وما جاء من معنى النسيئة التي جاءت بالقرآن الكريم، لا لغةً ولا أصطلاحاً.-

تبين لنا من خلال ترجمة بيستون للنقش (CIH547) بأنه غير أكيد، على أعتبار أنه أقتراح بمعنى (صيد طقسي)، ألا أننا نتساير معه على أقتراحه، ولكن نقول ما علاقة الصيد الطقسي، وماقاموا بتأجيله بسبب أنشغالهم بالحرب، مما أدى الى أنشغالهم بعبادة الرب (حلفان)، وقد أدوه في شهر ذو عثتر بدل ذو موصب والمعنى الذي جاء به القرآن، المختلف معه قصداً، مما يعني حسب الباحث أنهم أجلوا أداء طقوسهم لربهم حلفان شهرين، مما جعله يغضب عليهم، ويمنع عنهم المطر خلال موسم الرياح الربيعية. لقد شعر عرب اليمن بهذا الخطأ الجسيم، وأعتبروها محنة نزلت عليهم بسبب غضب الرب، فَدَونوا هذا النقش الأسترضائي حسب تعبير الباحث . متعهدين بعدم تكرار خطئهم.

أننا لو عملنا مقارنة، مع فرض أن كلمة نسيء تحمل معنى التأجيل والتأخير في القرآن، وفي النقش اليمني، لكن هناك أختلاف كبير في المقاصد، ففي القرآن وصف من كسر مبدأ الشهر الحرم بأنه زيادة بالكفر، أي أيغال بالكفر على كفرهم، وهو أمر متعمد، ناجم عن رغبة مع سبق الأصرار، في حين النسيء (التأجيل) عند عرب اليمن كان أنشغال غير متعمد، وقد ندموا عليه، في حين تأجيل عرب مكة وكسرهم لهذا المبدأ يتفاخرون به، وقد عبر شاعرهم عمير بن القيس عن هذا الأفتخار بشعر ذكرناه أعلاه. كما أن اليمنيون، هم من قرروا عدم تكرار ماحدث، في حين في القرآن أن الأسلام هو من أوقف هذا التجاوز في عملية كسر توال الأشهر الحرم، وأستبدال شهر بدل شهر آخر رغبةً في أستئناف الحرب والغزوات الأعتدائية. هنا نتسائل، بأي تماثل يحتج به هؤلاء المستشرقون والباحثون بين نقوش اليمن، وبين ما جاء في القرأن في موضوع النسيئة. أذن َتوفر لنا أكثر من سبب يدعونا الى أن لاصلة بين النسيئة اليمنية، وما جاء بالقرآن، فهناك بُعد زمني كبير بينهم، حيث يشير الباحث الى أن النقش عُمل فيما بين (200 -100) قبل الميلاد، في حين أن بعثت الرسول محمد 615م، وهو بداية نزول القرآن،حتى وفاته 632م (الأسلام-ويكيبيديا).، أضافة الى الأختلاف في المقاصد، ففي القرآن كان تغيرهم لمبدأ الأشهر الحرم تعمدي، ومتكرر، ولغرض أعتدائي، في حين تأخر أهل اليمن غير تعمدي، وكان لمره واحدة، وقُبل بالأعتذار والأسترضاء، في حين الحالة المكية متكرره، ومتعمده، ومصره على الأستمرار، كما في الحالة اليمنية هناك تكفير عن الذنب، أما في الحالة المكية هناك مظاهر أفتخار وأعتداد، كما نرى بالحالة اليمنية، هم من تراجعوا عن فعلتهم، في حين في الحالة المكية، فرض عليهم القرآن التراجع عن فعلتهم أمتثال لمبدأ أُرسي من زمن أبراهيم، في حين في الحالة اليمنية كان أمتثال لحالة وثنية، لا علاقة لها أطلاقاً بما جاء به القرآن، لأنه ينتمي لحالة سماوية.

الخلاصة أن النقوش اليمنية، الحدسية المعنى والتأويل على قول بيستون لا يمكن أن تفيد بأنها تساهم في فهم سياق ما جاء بالقرآن الكريم من أوامر وتعليمات، لا على المستوى النصي، ولا القصدي...يتبع

***

أياد الزهيري

 

فى إطار المقارنة بين ميدان الدين وميدان الفلسفة يأتي الاستقلال الفكرى العقلى فى الفلسفة لا يجور، ولا ينبغى له أن يجور، على خصوصيّة الدين وطبيعته كونه يسمح بالانتقال بالإنسان من حياة إلى حياة، ويوجّه توجهاته الدنيوية ناحية الآخرة، مستقره الأخير.

والاقتصارُ على مثل هذا الاستقلال وحده عائقٌ للعقل البشرى لفهم ملكات أعلى منه وأمضى، مهما حاول العقليون أن يقيّدوا طاقاته العقليّة بقيود من حديد نحو ما يفهمون منه ونحو ما يدركون.

ما لا أدركه أنا بعقلى المحدود قد تدركه أنت بعقلك المتسع المفتوح الذى يقبل (الإحالة) ويأخذ بمعطياتها كلما توقف وقفات تُشبه العجز فيما هو أمامه مطروحاً من مسائل الغيب أو مسائل المصير.

وليس معنى عجزى عن الإدراك عن مسائل بعينها، أنها غير موجودة بل عجزى هو الذى صوّر لى سلفاً إنها معدومة؛ فلو كنت من القادرين على إدراكها لأصبح وجودها أسبق عندى من تصور العدم. عجز العقل عن الإدراك ليس معناه العدم، ولكن معناه إنّ ما لا أدركه بعقلى المحدود قد يدركه بباصرته غيرى ويقتدر عليه.

هذا هو الإنصاف المطلوب فى كل حال.

إنْ أردت التى لا لوم فيها: فلتبحث معى عن ملكة التعلّق: فيما عَسَاكَ توجهها؟ أفى شغل دائم لا ينقطع بعلم الأسباب، أم فى شغل العلم بالله؟

فلئن كانت الثانية، فقد صارت بعيدة بعيدة بعد أن كانت قريبة. ولئن كانت الحالة الأولى؛ فلقد أورثت صدأً على وجه القلب؛ فكانت مانعاً كثيفاً من تجلى الحق فيه؛ فانقطع.

الغريب فى الأمر، إنّ قبول مجلى تجلى الحق أو عدمه يرجع إلى القلب؛ فلو كان على القلب صدأٌ لم يعد يقبل جهة الحق .. لماذا؟ لأنه ببساطة شديدة كان قبل غيرها فاستغرقته بالكليّة، أى قبل الاشتغال بالأسباب فاستغرقت طاقة النور القلبى لديه بكليّتها؛ فحُجِب.

والاشتغال بالأسباب صدأُ قلبي. بالتعبير القرآنى البديع هو (الكنّ، والقفل، والعمى، والرّان). فإن قلت: فما بالُ العقل؟ ألم يُعْرَف الحق بالعقل؟

أقول لك: مدارك العقل محدودة بحدود ما يدرك من الأمور على جهات أربع: جهة الجوهر، وجهة الطبع، وجهة الحالة، وجهة الهيئة. ولا يدرك العقل شيئاً لا توجد فيه هذه الأشياء.

ولكن هذه الأشياء لا توجد فى الله تعالى، فلا يعلمه العقل أصلاً من حيث هو ناظر وباحث؛ لأن نظر العقل من حيث برهانه الذى يستند إليه هو الحسّ أو الضرورة أو التجربة الحسيّة. وكلمة الضرورة تعنى من حيث ما يُعلم لدى العقل بالضرورة، وهذا لا يكون إلاّ لوقائع عينيّة مشهودة.

يقدح الدليل العقلى فى العلم بالله، ويعجب المرء حين يرى الفلاسفة المسلمين يقدّمون أدلة عقليّة على وجود الله. ألم يقرأوا حديث رسول الله، صلوات الله عليه: إنّ القلوب لتصدأ كما يصدأ الحديد … وفيه: إنّ جلاءها ذكر الله وتلاوة القرآن. ثم هل خلت أنظار الفلاسفة من قلوب تعقل، فى أنفسها، عن الله دليله؟

أيحتاج وجود الله إلى دليل غيره؟

أتحتاج معرفة الله إلى دليل سواه؟ كيف وهو الحق الواضح بذاته، وهو الحجة على كل شيء.

الله هو الذى يبرهن على الوجود ولا يصحّ أن نتخذ من الوجود برهاناً على الله تماماً كما نقول إن النور يبرهن على النهار، ونعكس الآية لو قلنا إن النهار يبرهن على النور.

والله يقول فى حديث قدسى: (أنا من يستدل بي، أنا لا يستدل عليّ).

شَغَلَ الفلاسفة أنفسهم، وشغلونا من بعدهم، بحُجب الأدلة العقلية، ولم يتحققوا قيد أنملة إنّ معرفة الحق مُتجلاّه على الدوام بغير انقطاع لا يُتصوّر فى حقها حجاب عنّا، غير أنّ مجلاها القلب الصافى عن لوثات التكدير، الخالى من ظلمة حُجُب الأسباب. وعلى الله وحده، توفيقه ورعايته، يكون جلاء القلوب حين تصدأ من كزازة الدنيا ومعاطب الأسباب.

***

مجدي ابراهيم

 

مقدمة: يفيض مفهوم الثورة بمعانيه السياسية، ويتدفق برمزيته الأخلاقية في صيغة رفض شامل لكل أشكال الظلم والإذلال والعبودية والقهر التي تقع على المواطنين من أبناء الأمة أو الشعب. فالثورة غالبا ما تكون ثورة المظلوم ضد الظالم، والمغلوب ضد الغالب، والمقهور ضد القاهر، طلبا للعدالة الاجتماعية، وصونا للحقوق الإنسانية، ورفضا لكل أشكال التعنت والتغلّب والقهر. وإذا كان التاريخ الإنساني كما يرى ماركس وأتباعه هو تاريخ الصراع بين الطبقات الغالبة والمغلوبة، أو تاريخ الصراع بين الظالمين والمظلومين كما يرى ماركوز، فإن الثورة بمعانيها المختلفة، ودلالاتها المتنوعة، كانت وما زالت سبيل الشعوب المظلومة إلى الحرية والكرامة نبذا لكل أشكال الظلم ورفضا لكل تجليات العبودية والقهر.

 والثورة، كما يعلمنا التاريخ، كانت دائما وأبدا السبيل الأوحد لخروج المظلومين من دائرة العبودية والقهر إلى فناءات الحرية والعدالة. وما التاريخ الإنساني في أكثر صوره تشويقا وإثارة إلا تاريخ الثورات المترامية بين تضاريس الزمان وأطراف المكان. ونظرا لأهمية الثورة وسحرها المبين في حياة الشعوب يعدّ مفهوم الثورة من أكثر المفاهيم السياسية والاجتماعية استخداما وتواترا وحضورا وأهمية وتشويقا في الفكر السياسي والاجتماعي في تاريخ المجتمعات الإنسانية.

والسؤال الذي يطرح نفسه في هذه المقاربة الثورية هو: هل يتطابق الحراك الاجتماعي الذي شهدناه في بعض البلدان العربية مع مفهوم الثورة بمعناه الإنساني الأخلاقي بوصفه قوة لتحرير الإنسان؟ أم أن هذا الحراك قد جاء ليشكل قوة جديدة في استلاب الإنسان العربي وتدمير مقومات وجوده؟

في هذه المقالة يجري التركيز بصورة واضحة على الحراك الدموي الذي شهدته سوريا خلال السنوات الماضية مع أن كثيرا من المعطيات الواردة في هذا المقال تنطبق على دول عربية أخرى.

ثورة أم تلفيق ثوري؟

إذا كانت كلمة "الثورة" من الكلمات المألوفة في مختلف وسائل الاعلام المعاصرة فإنا كلمة "ثورتنا" بضمير التملك الجمعي هي أكثر الكلمات شيوعا واستخداما وتواترا في وسائل الاتصال الاجتماعي ولا سيما في "الفيس بوك". وأغلب الكتاب (الثوريين طبعا) يستخدمون هذه الكلمة لوصف تأييدهم للحراك السياسي والعسكري الدموي الذي شهدناها في عدد من الدول العربية. وبعد مضي سبع سنوات عجاف دمر فيها الشجر والحجر والإنسان ما زال "مثقفنا" وأشدد على المزدوجتين يتحدث عن ثورته بضمير الملكية الجمعية ويكرس كتاباتها في تأييدها.

وإنني في هذا المقام أعلن بأننا في بداية الحراك الجماهيري المقاوم وقع في أيدينا أن ما نراه يمثل تباشير "ثورة " ضد الظلم والقهر ولم نستطع أن نقاوم هذا الحلم الذي يراودنا بالثورة وبالتغيير الثوري في آن واحد. وها نحن اليوم وبعد مرور سبعة أعوام مريرة فتكت باليابس والأخضر وحولتنا إلى ركام وحطام نكتشف أننا أمام مخادعة ثورية رُسمت ملامحها في كواليس الدول الكبرى الطامعة ورسمت خيوطها في أحضان المنظمات الصهيونية والماسونية المعادية للعرب والعروبة والإسلام، وقد تكشف لنا بعد حين بأن ما نراه لا يعدو أن يكون مؤامرة كبرى رهيبة استهدفت وجودنا وحياتنا في العالم العربي، مؤامرة استهدفت إسقاط ما تبقى من أمل عربي في بناء الحياة والحضارة والإنسان. وبعد مروز سبع سنوات عجاف حان "للمثقف المخدوع " أن يتأمل بروح ثقافية في أبعاد هذه "الثورة" المزعومة " وأن يراجع أبعادها ومآلاتها وأن يدرس في ماهيتها ويتأمل في نتائجها من أجل بناء تصور أكثر موضوعية عن مجريات الأحداث والعوامل المؤثرة فيها.

كتبنا في مآلات هذه الثورة وابتهجنا لها فرحا وعلي أن اعترف بأن كثيرا من المثقفين وكنت واحدا منهم إلى حين قد خدعوا ولم يستطيعوا الإبصار والاستبصار في دائرة النار والدخان الذي انبعث في المعارك الطاحنة بين الأنظمة السياسية وجيوشها وبين جماعات التطرف المسلحة بالنار والحديد. وكان من حقنا أن نخطئ ولكن ليس من حقنا أن نتمادى في الخطأ ونقصي القدرة على الاستبصار تحت وهج الأحلام بمجتمع ديمقراطي تعلو فيه كرامة الإنسان وتسمو حقوقه الإنسانية.

ولكن ألا يجب على المثقف الحقيقي أن يأخذ موقف المراجعة النقدية بصورة مستمرة وأن يتبصر في مآلات الأمور وطبيعة الأحداث وفي نسق المتغيرات الجارية في الساحة السياسية والعسكرية في المستويات الدولية والإقليمية والمحلية. ومن هذا المنطلق يمكن أن نقف موقف نقديا وألا نخجل في الاعتراف بأننا لم نكن قادرين على التبصر السياسي والأيديولوجي في الاستراتيجيات الدولية التي حكمت هذه " الثورة" كما اصطلحنا نحن المتعلمين على تسميتها.

لا أنكر بأن كبار المثقفين الذين كان يعوّل عليهم قد ضلوا الطريق ووقعوا في فخ الأوهام الثورية، ومما لاشك فيه أن ثمة عوامل حكمت هؤلاء المثقفين الحالمين فبعضهم حمل أحلام الدور السياسي الذي يمكن أن يؤدوه في هذه المرحلة وبعضهم الآخر حركتهم المطامع السياسية وآخرين تحركوا ضمن مسارات الإغراءات المالية والسياسية التي قدمت لهم، وبعضهم تحرك ضمن دائرة الانتقام من النظام السياسي الذي مارس دوره في قمعهم. وهناك شريحة منهم تحركت ضمن إطار أيديولوجي طائفي عقيم، وكثرة أخذت بوعي ساذج حول طبيعة الحراك الاجتماعي معتقدين ومؤمنين حتى العظم بأنها ثورة حقيقة ضد الظلم والاضطهاد. وأغلبهم ينظر إلى ما يجري بمنظور ضيق للأحداث لا يتعدى البعد المحلي الضيق والمحدود.

وإنني لا أشك اليوم بأن كثيرا من المثقفين الثوار لم يتأملوا خلال السنوات السبع الماضية في مفهوم الثورة ودلالته المعرفية ولم بتأملوا في الأبعاد الأيديولوجية البعيدة المدى للعملية الثورية في بلداننا. وذلك مع أن كل ما يجري يجري بوضوح في مسارات التدمير الظلامي لمجتمعاتنا ودولنا. ويمكن لأي إنسان تجرد من الأيديولوجيات العمياء والمنغلقة أن يرى بوضوح أن هذه "الثورات" المزعومة لم تكن أكثر من أدوات تدمير لشعوبنا ومقدرات بلداننا وتحويل الحياة إلى جحيم لا يطاق.

وفي كل الأحوال هناك قاعدة برغماتية رسخها جون ديوي ووليم جيمس وهي تشكل المبدأ الأساسي في الفلسفة البراغماتية ويقول هذا المبدأ أن النتائج هي التي تقرر الحقيقة وأن الحقيقة تكمن في نتائجها. وعندما نطبق هذه القاعدة على "ثورتنا " سنجد بأن هذه الثورة قد أسفرت عن مقتل عشرات الألوف من البشر وملايين المشردين ومئات الألوف من الجرحى واللاجئين. وتركت لنا اقتصاديات مدمرة ومدنا من الركام والحطام، وأدت إلى يقظة مخيفة للنزعات الطائفية والمذهبية ... قتل وفتك وتشريد ... انهيار في الثقافة وتدمير لسيكولوجية الإنسان والإنسانية ... تفاقم الظلم والاستبداد .... تقسيم البلاد والعباد. وكل هذه النتائج تدل بكل المقاييس والمعايير على أن المستفيد من هذا الدمار الشامل في البيئة والوطن والإنسان هو إسرائيل والصهيونية العالمية والماسونية والدول الاستعمارية الطامحة في تحويل الوطن العربي إلى حطام ومواد أولية ونفايات رأسمالية.

ومن جهة أخرى عندما نتأمل في مفهوم الثورة -، وجلّنا لم يتأمل – سنجد أن ما يجري في بلداننا لا يمكن أن يوصف بالثورة في ضوء التعريفات العلمية وفي ضوء المفهوم التاريخي للثورة كما عرفناها في كثير من المحطات التاريخية في مختلف أنحاء العالم القديم والحديث. وفي كل الأحوال كان وما زال يتوجب على "المثقف" أن يقرأ ويبحث في معنى الثورة ودلالاتها وأن يخوض في معطياتها، ولاسيما بعد هذا الانشغال الثوري على مدى سبع سنوات ونيّف. على المثقف وهذا واحب ثقافي أن يقرأ في تاريخ الثورات وفي تعريفاتها وفي تكويناتها النظرية وأبعادها الفكرية، وأن يستفيد من هذه المعطيات الفكرية في فهم الثورة الموهومة التي عشناها والتي أدت إلى مقتل أحلامنا وآمالنا وتدمير كل معالم الحياة والوجود في بلادنا حتى أصبحنا اشلاء متناثرة في أطراف الزمان والمكان بدون وزن أو كرامة أو إحساس بالوجود وهذا ينسحب على مناصري الثورة المزعومة والنظام السياسي الجائر. وإذا ما نظرنا بعين الاعتبار إلى مفهوم الثورة عبر التاريخ فإننا سنجد بأن الثورة، أي ثورة قامت في التاريخ، لها أركان ومضامين وتصورات واستراتيجيات ومقومات وأهداف واضحة. لكل ثورة نظرية فكرية ثورة متجانسة ولكل ثورة استراتيجية ثورية واضحة ولكل ثورة منظرون ومفكرون وقادة، ولكل ثورة قيادة واحدة تحكمها ولكل ثورة غايات وأهداف معلنة وواضحة. وهذا يتناقض كليا مع الحراك الدموي الذي شهدناه في بلادنا.

في مفهوم الثورة:

يعود استخدام كلمة ثورة (Revolution) في الثقافة الغربية إلى نيكولاس كوبرنيكوس (Nicolaus Copernicus) (1473-1543) الذي استخدمه في عنوان كتابه المشهور (ثورة الأجرام الفلكية) (De revolutionibus orbium coelestium) . وللثورة تعريف أساسي تقليدي قديم ظهر مع انطلاق الثورة الفرنسية ويأخذ صورة انتفاضة يقوم بها الشعب تحت قيادة من النخب السياسية المثقفة لتغيير نظام الحكم بالقوة. وفي هذا السياق يعرف أيرك هوبزباوم الثورة في ضوء الأوضاع الأوروبية بين زمني الثورة الفرنسية عام 1789 وكومونة باريس 1484 بالقول "إنها تحول كبير في بنية المجتمع. ومن أهم التعريفات التي قدمت للثورة ما ورد في الميثاق المصري عن الثورة: "إن الثورة عمل تقدمي شعبي، أي: حركة الشعب بأسره، يستجمع قواه ليقوم باقتحام جميع العوائق والموانع التي تعترض طريقه لتجاوز التخلف الاقتصادي والاجتماعي وصولاً لتحقيق غايات كبرى تريدها الأجيال القادمة. ولم تكن الثورة نتاج فرد أو فئة واحدة وإلا كانت تصادماً مع الأغلبية. وتتمثل قيمة الثورة الحقيقية بمدى شعبيتها، وبمدى ما تعبر عن الجماهير الواسعة ومدى ما تعبئه من قوى هذه الجماهير لإعادة صنع المستقبل وفرض إرادتها" ويتضمن هذا التعريف طابع الشمولية والعمق للثورة بوصفها شاملة جذرية تتجاوب مع تطلعات الجماهير وطموحاتهم في التغيير والتطور نحو الأفضل.

ويتحدد " مفهوم الثورة يتحدد بمستويات ثلاثة، تبدأ بتحديد الغايات والأهداف كنقطة انطلاق يتفق عليها أرباب الثورة، ثم تتخذ هذه الأهداف مرجعية يحتكم إليها عند الاختلاف، ثم تحديد الوسائل الممكنة لتحقيق الغايات، وتنتهي هذه الخطوات بعملية خلق السبل الكفيلة بحماية مكتسبات الثورة والمحافظة على كيانها وهويتها وغالبا ما يربط المفكرون والفلاسفة الكبار بين الثورة والحرية وهذا هو حال كوندورسيه الذي يقول: "إن كلمة ثورة لا تنطبق إلا على الثورات التي يكون هدفها الحرية". وتلك هي الغاية التي تعلنها حنة أرندت للثورة إذ تقول: إن القضية التي تشكل حقيقة السياسة هي قضية الحرية في مواجهة الاستبداد " وهي تريد بذلك أن تقول بذلك إن الثورة هي الحرية" .

والثورة، على خلاف الانقلاب، هدفها إحداث تغيير جذري في النظم والأوضاع القائمة على نحو شامل جذري شامل عميق ومتكامل في جوهره. ويُفرِّق الباحثون بين الثورة، وبين الانقلاب على أساس أن الثورة تهدف إلى إحداث تغييرات جوهرية في النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي، في حين يهدف الانقلاب إلى إعادة توزيع السلطة السياسية بين هيئات الحكم المختلفة أو الأشخاص القائمين به.

تطرف أم ثورة؟

ونستنتج من هذه التعريفات أن للثورة خصائص أساسية هي أن تكون وطنية جماهيرية وأن تحمل أيديولوجيا تمثل طموحات الشعب وأن تكون لها قيادة ونظرية ثورية ونخب مثقفة تقودها وأن تكون ثورة من أجل الحرية والكرامة. والسؤال هل يأخذ الحراك الدموي الذي نشهده صورة مفهوم الثورة؟ وإلى أي حدّ يمثلها؟ والسؤال هنا أين هي "ثورتنا" هذه من مفهوم الثورة وأركانها؟ أين هي نظريتها؟ من قادمتها؟ ما هي فلسفتها؟ ما هي استراتيجيتها؟ من هم منظروها؟ وما هي الغايات الاستراتيجية التي تقود إليها؟

مع الأسف الشديد أن أيا من هذه الأركان المشار إليها ليست متوفرة ولا في واحدة منها في هذا الحراك الذي شهدناه في "ثورتنا" العامرة: ليس هناك أي نظرية، وليس هناك أي استراتيجية أو فلسفة أو قادة أو منظرون. وأخطر ما تواجهه هذه الثورة أنها خارجية بالمال والسلاح والسياسية والدعم الأيديولوجي الخارجي. وسأقولها وأتوكل على الله: كل من تلقى درهما من دول خارجية هو خائن؟ كل مثقف سكن في الفنادق على حساب دول أجنبية هو خائن لوطنه؟ كل من حمل السلاح بدعم خارجي خائن لوطنه؟ كل مؤسسة أو هيئة سياسية مدعومة من مؤسسات خارجية هي مؤسسات وأفراد خونة لوطنهم؟ كل من رفع راية دولة خارجية خائن لوطنه؟ لأن الدول الخارجية لا تقدم لأحد عونا بالمجان بل تستهدف أوطاننا وبلداننا وشعوبنا.

فالثورة في واقعنا الثوري المأساوي تتمثل في جماعات عسكرية طائفية مدعومة وممولة من الخارج متطرفة دموية جدا متطاحنة فيما بينها مضادة للحياة والإنسان تحمل أيديولوجيات الإبادة والتطهير ... جماعات متطرفة دموية متفرقة بتمويل خارجي تمولها دول خارجية عرفت بأيديولوجيات متطرفة وبأنظمة غير ديمقراطية. هذا هو أول ركن من أركان ثورتنا.

ومنظرو ثورتنا مع الأسف هم رجال متطرفون يقدمون لنها تصورات متقدمة في فن الإبادة والقتل والدم والتطهير. رجال يتقاضون أجورا مالية خيالية في عملية بث الحقد والكراهية والتحريض على القتل والدم والتطهير الجماعي ضد الإنسان والإنسانية.

ممولو ثورتنا دول مريبة ترسل الأموال والسلاح بالأطنان وهي دول لم تعرف الديمقراطية أبدا في مناهج حياتها ووجودها. وبعضها دول يحمل مطامع كبيرة في أرضنا وفي خيرات بلادنا .وهي أطماع تاريخية لا يجهلها أبسط المواطنين في بلادنا. ولا ريب في أن إسرائيل تقود وتوجه هذا الحراك لتدمير وطننا والقضاء على كل مقومات وجودنا.

قادة الثورة يتلقون أوامرهم وأموالهم من دول خارجية ويعيشون في أحضان أكثر الأنظمة السياسية استبدادا ودموية.

والحراك الثوري كان حراكا دمويا وظف الدبابات والمدرعات والصواريخ وأحدث الأسلحة في عالم التقدم التكنولوجي. فمن أين للثوار هذه الأسلحة؟ كيف صنعوها؟ ومن الذي زودهم بها؟ لم يحدث في التاريخ الإنساني أن قامت ثورة على الدبابات والطائرات المستوردة.

الثورة المزعومة انطلقت في المدن المكتظة بالسكان وفي الأحياء المأهولة بالأطفال والبشر وقد أدت إلى تدميرها وإفناء ساكنيها؟ أية ثورة هذه وعهدنا بالثورات تنطلق في الأرياف والأماكن البعيدة عن السكان حرصا على حياة البشر وأمنهم.

ثوارنا قدموا من مختلف البلدان طامحون إلى الثراء والسلطة والنساء وقد جندتهم الأيادي المضرجة بالجريمة بالدماء، وأغلبهم من شذاذ الآفاق الذين تدفقوا من كل مكان للسبي والنهب والسلب، وعهدنا أن الثوار يكونون من أبناء البلد الثائر حصرا ! فأي ثورة هذه وأي ثوار؟!.

 كل الثورات الخلاقة التي عرفها التاريخ ثورات انطلقت لتحقيق العدالة والكرامة والمحبة وتوفير الأمن للسكان المواطنين الأبرياء. أما ثورتنا فكانت دما ونارا وجحيما على مناصريها وعلى أعدائها في الآن الواحد .

كل الثورات جاءت بأيديولوجيات إنسانية شاملة أما ثورتنا فقد جاءت بكل أشكال الكراهية الطائفية والحقد الطائفي والقتل على الهوية ذبحا وشنقا وحرقا وإعداما بالرصاص.

لا يمكن لأي حراك أن يكون ثورة وطنية ويكون الولاء فيه للأجنبي وتتم فيه الأحداث وفق أجندات خارجية كما هو حال حراكنا أو ثورتنا.

"مثقفو" الثورة وأشدد دائما على المزدوجتين ما زالوا يسكنون في الفنادق الشامخة ويتقاضون رواتبهم من دول أجنبية معادية لكل أشكال الحياة الديمقراطية ويتشدقون باسم الثورة وأفكار الثورة. فأي نوع من الثورة تلك هي هذه الثورة؟

وباختصار لا يمكن للثورة أن تكون ثورة تقوم على تدفق الأموال الخارجية والأجندات الخارجية فكل ما هو خارجي يعني خيانة للوطن والإنسان.

خاتمة: ثورة مضادة للإنسان !

الثورة كما علمنا التاريخ تكون حراكا جماهيريا يسعى إلى تحرير الإنسان وعلمنا التاريخ أن الشعارات التي رقعتها الثورات العالمية كانت تتمثل في قيم العدالة والحرية والكرامة والأنسنة. كانت شعاراتها حماية الإنسان من الظلم والقهر والمعاناة. وعلى خلاق ذلك إذا كانت الثورة تحمل في جعبتها كل مظاهر التدمير والإفناء فإنه حري بنا أن نطلق عليها – إذا كنا مصرين على استخدام مفهوم الثورة – ثورة ضد الإنسان ضد الحرية والكرامة. إن ما شهدناها في حراكنا هو كابوس ثوري تم تنظيمه وترتيبه من دول خارجية تهدف إلى تدمير الحياة والإنسان في مجتمعاتنا. لقد حملت ثورتنا هذه أطنانا من الشعارات والأيديولوجيات التي تدعو إلى القتل والتطهير العرقي والسلب والنهب إنها ثورة سفك الدماء وقتل المواطنين الأبرياء. ثورة قادتها ارتموا في أحضان الأجنبي وارتهنوا حتى الثمالة بأيديولوجياته العدوانية، ومجدوا قيم الخيانة ولا استثني إلا قلة من الصادقين المؤمنين بقيم الثورة. وباختصار تتسم قيادة "ثورتنا" هذه بطابع العمالة مع الأجنبي، تحمل أيديولوجيا مضادة للإنسان: طائفية مذهبية عرقية، باختصار إنها ثورة دموية مضادة للإنسان لا تحمل في ذاتها أي قيمة إنسانية أو أخلاقية.

هذه الثورة مع الأسف أدت إلى التدمير وترسيخ الطائفية والعنصرية وأيديولوجيا الدم واستباحت الأعراض والكرامات والإنسان. إنها بالنتيجة صورة ضد الإنسان والكرامة والإنسانية ضد العدل والحق والمساواة والكرامة الإنسانية.

وقد آن الأوان لنعيد النظر في مفهومنا للثورة في ضوء العقلانية الإنسانية وأن ننظر إليها في بعدها الإنساني. وعلى المثقفين الحقيقيين أن يعيدوا النظر في مفهومهم للثورة وأن يبدؤوا مسارهم الجديد في نضال ثقافي سلمي مستمر وطويل ضد أنظمة التسلط والاستبداد في أي مكان وزمان.

***

بقلم: علي أسعد وطفة

كلية التربية - جامعة الكويت

تصف الممثلة الكوميدية البريطانية البارزة ايدي ايزارت Eddie Izzard موقفين متضادين من التكنلوجيا: الخوف من التكنلوجيا، والمتعة فيها . اولئك الذين يخشون التكنلوجيا مترددون ومتخبطون وقلقون من ان التكنلوجيا ستؤدي الى نهاية العالم. اما اولئك المتفائلون الفرحون بالتكنلوجيا توضح الكوميدية هذه البهجة بالتالي:

"عندما أحصل على ماكنة جديدة، انا أظن ان هذه الماكنة سوف توفر لي حياتي، سوف لن أعمل مرة اخرى" .. وأول شيء تعمله انت لو حصلت على تكنلوجيا المرح هو انك تحصل على طريقة الاستعمال ثم تلقي بها من الشباك". احدى التحديات الأخلاقية الحالية الكبيرة ستكون ايجاد شيء ما بين هذين النوعين من  التكنلوجيا. نحتاج ان نجد شيئا من "الحكمة التكنلوجية". ذلك يتطلب ان ندعوا عدد كبير من الناس ليعملوا مجتمعين كي يرسموا بالضبط ما ستكون عليه هذه الحكمة التكنلوجية . لحسن الحظ  ان الكثير من مختلف الأكاديميين والمنظمات كانوا يعملون من أجل الوصول الى صيغ لتلك الحكمة .

موضوعات الجدل

تتركز معظم الحجج حول التكنلوجيا حول ثلاث أفكار رئيسية:

1- غلبة التكنلوجيا:

التكنلوجيا اما انها سوف تنقذ العالم بالانتصار على تحدياتنا الكبرى او انها سوف تتغلب علينا. مثال على هذا هو النقاش حول أنظمة اسلحة الروبوتات الفتاكة .

2- تأثيرات التكنلوجيا:

التكنلوجيا  اما ستحررنا للتركيز على ما يهم او انها تصرف انتباهنا عما يهمنا. الأمثلة السلبية تظهر في كل حلقة من السلسلة التلفزيونية (المرآة السوداء). اما الصيغ الأكثر تفاؤلا يمكن العثور عليها في النقاشات حول "التأثير الأخلاقي الموجّه" ethical nudging(1).

3- توسيع نطاق الأعمال:

في التكنلوجيا نحن اما سنكون قادرين على عمل أشياء عظيمة بسرعة، وبكفاءة وبنطاق واسع او سنكون قادرين على القيام  بأشياء مرعبة ومدمرة . معايير النقاش طُرحت ولا أحد يبدو يتزحزح عن موقفه و آرائه. لكن هذا الطريق المسدود ذاته يولّد تحديات أخلاقية. الفرص عظيمة جدا لتجاهل التكنلوجيا، لكن المخاطر عالية جدا للسماح لها لتستمر بلا قيود.

أهمية فهم التكنلوجيا

في مسرحية ايزارد كوميدي، يقود الجهل والحماقة اولئك الذين يخافون من التكنلوجيا. من الملفت انه يؤثر بنفس الطريقة على فريق التكنلوجيا الممتعة. لا أحد من الفريقين فهم التكنلوجيا. هنا يجب ان تبدأ الحكمة التكنلوجية: فهم ماهية التكنلوجيا وكيف تعمل. فلاسفة التكنلوجيا مثل مارتن هايدجر و جاك ايلول والبرت بورجمان جادلوا بان التكنلوجيا تعكس طريقة متميزة في النظر الى العالم الذي حولنا. انها تميل لإختزال العالم لسلسلة من المشاكل التكنلوجية للحل ومجموعة متنوعة من الأشياء لغرض استعمالها وقياسها وخزنها والتحكم بها.

وفق هذا الفهم، تكون التكنلوجيا ليست قيمة محايدة. انها تشجعنا للبحث عن السيطرة وتقييم كفاءة وفاعلية الإعتبارات الاخرى، واختزال كل شيء الى وحدة قياس. هناك أمثلة لامتناهية لإثبات هذه المسألة. التكنلوجيا اون لاين تتحدى قيم الصحافة التقليدية في تفضيل السرعة والوصول. تطبيقات اللقاءات والمواعيد تحوّل شركائنا الرومانسيين الى سلعة وتحاول تحرير المواعيد من مخاطر الرفض او النجاح اللامرغوب. الإباحيات التي يتم انشاؤها بالكومبيوتر تسمح لجعل المشاهير المفضلين لديك يفعلون ما تريد. العملية لا تحتاج الى الموافقة، ولا تحتاج ايضا لتُعرف. اذا كانت هذه القيم  وراء التكنلوجيا، ومهما كانت مريحة وممتعة فهل سنكون سعداء بها ؟ اذا لم نكن كذلك، ماذا يجب ان نفعل تجاهها؟

التركيز على الوسائل

رغم ان الخوف من التكنلوجيا والمرح بها يشكلان قطبين تكنلوجيين متضادين، لكنهما يشتركان بخيط أخلاقي مشترك وهو التركيز على المخرجات. كل جانب يقر بان التكنلوجيا الأخلاقية تقود الى تغيير ايجابي في العالم (او على الاقل،لا تخلق مزيدا من المشاكل). هما لايتفقان حول ما اذا كانت التكنلوجيا هي في النهاية قوة للخير ام الشر. لكن التركيز على المخرجات يحجب عنا بُعدا آخر للاخلاق التكنلوجية وهو الوسائل التي تُنجز بواسطتها تلك المخرجات. العديد من الناس يفكرون في العمليات التكنلوجية وتأثيراتها الاخلاقية، لكنهم عادة يركزون عليها لأنها أدّت الى مخرجات سيئة. النقاش يصبح ساحة حرب اخرى يجري فيها الحديث حول المخرجات.

فمثلا، نقاش حول خوارزمية كومباس التي كانت موضوعا لتحقيقات فريق بروبوليكا الشهيرة (وهي غرفة اخبار غير ربحية في امريكا تمارس صحافة استقصائية لأجل المصلحة العامة) ركز على حقيقة انها مالت لإنتاج نتائج متحيزة عنصريا، حيث يتنبأ نظام الخوارزمية ان السود يشكلون خطرا من حيث العودة الى الجريمة. المهم ايضا، ان نفهم كيف تعمل كومباس، حتى لو لم تكن المخرجات واضحة الإشكالية. لنتصور اننا عرفنا ان خوارزمية مثل كومباس كانت فعالة بنسبة 100% في التنبؤ باحتمالية عودة الجاني الى إرتكاب الجريمة، وان السبب في كونها دقيقة جدا هو لأن بياناتها كانت شاملة، حيث تضمنت كل جزء من الإتصالات الخاصة للجاني في العشر سنوات الأخيرة. بما في ذلك كل رسالة نصية،رسائل الفيسبوك،ايميلات، اتصال هاتفي،عرض صفحة ويب .هذه البيانات مكّنت من التنبؤ الدقيق بإعادة ارتكاب الجريمة.

لايزال هناك سبب لمعارضة هذه التكنلوجيا، وهو انها حققت نتائج جيدة ولكن بطريقة تجاهلت مبادئ الناس المشتركة حول الخصوصية والحرية المدنية. وهنا تصبح الفلسفة المتحفزة  فقط بالمخرجات مشكلة حقيقية.

الانسان اولاً

يُحتمل ان تكون التكنلوجيا  جزءا من الحل في معظم التحديات الاخلاقية التي تواجه العالم. أحدى وظائف التكنلوجيا هي توسيع وتضخيم النشاط الانساني. هذا يعني ان الانسان يحتاج ليرتّب بيته الخاص قبل ان تصبح التكنلوجيا مفيدة له. نحتاج لجعل العمليات التكنلوجية ملائمة. كذلك نحتاج لتغيير معيارنا لما يُعتبر تكنلوجيا "ممتازة" بعيدا عن منطق السرعة والفاعلية والسيطرة. اذا لم نقم بذلك، فان التكنلوجيا يّحتمل ان تصبح التحدي الاخلاقي الكبير لنا. ومن المثير للقلق جدا، اننا حينذاك، نكون قد تنازلنا عن الكثير من السلطة للآلات لكي نكون قادرين على فعل أي شيء حيال ذلك.

*** 

حاتم حميد محسن 

................................

The conversation,March18,2018،

الجزء الرابع من مقال حول التحديات الاخلاقية الحالية التي تواجه العالم، شارك فيه عدد من الفلاسفة والمختصين استجابة لدعوة المجلة لهم لتشخيص ومعالجة تلك التحديات، الأجزاء الاولى من المقال نُشرت في صحيفة المثقف بدءاً من 25 نوفمبر 2023.

الهوامش

(1) يشير هذا المفهوم حسب (Thaler and Sunstein,2008) الى أي مظهر يغير سلوك الناس بطريقة يمكن التنبؤ بها بدون منع أي خيار، وبتعبير آخر هو التغيير المتعمد بالطرق التي تبرز وتتأطر بها الخيارات في محاولة للتنبؤ بتوجّه اولئك الافراد في اتجاه معين. مثال على ذلك الصور المخيفة التي توضع على علب السكائر لتقليل استهلاك الدخان من خلال استجابات عاطفية. كذلك علامات الطرق يمكنها ان تقلل من حوادث المرور في أشكال متعددة.

(مهما كانت مآسي الحرب فظيعة، فعلى الأقل يمكن تعويضها. فهناك شرف الحرب وهناك عظمة الحرب)... تشارلز بيجي

مشهد غير مألوف في الشارع الفني الأمريكي، وهذه المرة تتوجه كاميرات العالم نحو نجوم لا يشق لها غبار في إمبراطورية هوليود، حيث خرج العشرات منهم ليملؤوا شارع ماين الشهير في ولاية أوتا الأمريكية، في تظاهرة احتجاجية شديدة الوطيس، تدعم حقوق الشعب الفلسطيني وحقه في العيش الكريم.

المناسبة شرط، ومهرجان "صندانس" السينمائي كان محفزا للدخول في هذا التحدي الفريد من نوعه، فقد هتف النجوم بأعلى حناجرهم "أوقفوا الإبادة الجماعية" و"أنهوا الاحتلال" و"آلاف أو ملايين.. سنكون فلسطينيين" و"يجب محاكمة الرئيس جو بايدن بتهمة القاتل".

وتوسعت الرغبات لمسار المحتجين، وهم يحملون شعارا نوعيا غير مسبوق: "فلتعش غزة، من النهر إلى البحر، فلسطين ستتحرر! تعبنا من تمويل إسرائيل! عار على إسرائيل!"، على أن الكتابات المباشرة صارت ثقلا على المجاز، صوتا صارخا يثأر للضمير الإنساني ويستصرخ لحمأة الوجدان والشعور بالذل والخذلان ؟.

وعندما تسرح بالأفق القريب من تلكم العبارات النارية والمثيرة، تنتبه إلى أنها تعني الشيء الكثير، وتلخص الحجم الواسع من الضياع والتيه والجنون، كما هو الشأن بالنسبة لعبارات "الجزار بايدن" و"التخلص من الصهيونية" و"الانتفاضة في كل مكان".

وإذا كان الإعلام الغربي لحد كتابة هذه الأحزان، غير قادر على نقل هموم الشارع الأمريكي وحاجياته في التعبير عن مكنوناته ولواعجه النفسية والروحية تجاه ما يحدث من مجازر ومقاتل وتهجير وتخريب ممنهج في قطاع غزة، فإن صرح التلبيس والاستغفال قد سقط مقذوفا في مزابل التاريخ، وهو يرى بأم عينيه عشرات ومئات الأصوات الفنية المرموقة في المجتمع الأمريكي، كيف تنزاح الغمة وتتكسر تخاريف الكذب وتزييف الحقائق، عندما تختزل البلاغة الثاوية في منظومة الهتاف وتصوير فظائع القتل والتدمير بالقول الصامد "المقاومة مبررة عندما يتم احتلال الناس".

ومن أجلى تمثلات هذه القضية، أن ينحاز كبار الفنانين الأمريكيين للحقيقة، رغم الضغوطات التي يواجهونها في قطاع تسيطر على ماكينته فلول الصهيونية وحشراتها المتنطعة. فقد شارك في التظاهرة إياها، النجمة ميليسا باريرا، التي تم عرض فيلمها الجديد" Your يور مونستر"، والذي يدور حول ممثلة تنهار مسيرتها بعد إصابتها بالسرطان وتقع في حب وحش تجده في بيتها ويعلمها الجرأة وتوجيه غضبها لهؤلاء الذين جرحوها.

وكانت مجموعة من مشاهير السينما والمؤثرين، قد عبروا سابقا عن دعمهم لفلسطين، حيث دعوا إلى “وقف الإبادة الجماعية” و"إنقاذ فلسطين"، ك"باريس هيلتون، وإدريس ألبا وجون كوزاك وفيولا دايفيز وسوزان سراندون ولانا هيدي ومايكل بي جوردان وآني ماري ولينا هيدي، ومينا مسعود ورامي يوسف ولويس هاميلتون وكيندال جينر وجاك فالاهي".

ويقول المنظمون للتظاهرة المذكورة، في بيان دولي تم تعميمه على وسائل الإعلام، أنه "بينما تسقط القنابل، يستطيع الناس الاستمرار في مشاهدة الأفلام على شاشاتهم بينما يتجاهلون الإبادة الجماعية في غزة".

المشكل أن قابلية التجاوز والتعايش مع وضعية أهالي قطاع غزة، أضحت نسقا نفسيا سريع الانفساخ والتحول نحو النسيان والتجاهل والاختفاء أحيانا، بعد أن أبرحت العتمة آمال الصحوة والارتجاع، إلى تقبل منظومة القوة وتحييد قيم القانون الدولي وتغليله.

فالوعي هنا، أزاح الستار عن عوار الديمقراطية وحقوق الإنسان والحق في العيش والمشاركة. وأفصح بالبيان والبرهان، عن تأويل ذات العالم وصياغتها إلى ضيعة يحكمها دركي مخبول، يحيط به قتلة مأفونون ونخاسون يستحوذون على مقدرات الشعوب، ينهبون ويفتكون ويقامرون بمستقبل البشرية ؟.

***

د. مصطَفَى غَلْمَان

بالرغم من تعدد المفاهيم أوالتعريفات التي تناولت ظاهرة الديمقراطيّة من قبل المفكرين الذين تعاملوا مع هذه الظاهرة عبر التاريخ، حيث جاء هذا التعدد وفقا لمواقفهم الطبقيّة والسياسيّة والأيديولوجيّة التي ينتمون إليها، ثم وفقا للمرحلة التاريخيّة التي أنتجت هذه الصيغة الديمقراطيّة أو تلك. لذلك جاء تعريفها أو مفهومها عند بعضهم، بأنها الحياة اليوميّة المباشرة، التي أفضل ما فيها هو ممارسة وتعبير الفرد عن رأيه وقناعاته بعيداً عن أي خوف من سلطة أو قانون، طالما أن الذي يريد قوله أو ممارسته يصب في مصلحة الوطن والمواطن. أو جاء هذا التعريف أو المفهوم عند بعضهم الآخر أيضاً، بأنها ظاهرة اجتماعيّة وسياسيّة وثقافيّة، لها قوتها الماديّة في جوهرها، مثلما لها أشكالها وحركتها وتعدد محطاتها المتوافقة مع تعدد أشكال التكوين الاجتماعي وعلاقاته التي أنتجها، وطبيعة الحكم أو الموقف السياسي القائم في هذه التكوينات أيضاً.. يظل عدوها الجهل، وحليفها الدائم العلم والعلمانيّة.. وصندوق أسرارها وقوتها الجماهير المقهورة والمضطهدة والمستلبة بكل فئاتها وشرائحها.

أما نحن فنستطيع أن ندلوا بدلونا لنقول بأنها: منهج أو طريقة في التفكير، وأسلوب في الممارسة السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة.. ترمي أهدافها إلى تحقيق الاستقرار الاجتماعي، وتأمين العدالة داخل مكونات المجتمع بكل مستوياتها وفقا لطبيعة المرحلة التاريخيّة المعيشة.. أما حواملها الاجتماعيّة فتتبدل تاريخيّا وفقا لطبيعة الصيغة الديمقراطيّة المطروحة وأهدافها، وهذا في الحقيقة ما يؤكد عندنا أيضا، أن الديمقراطيّة وفقا لهذا التعريف أو المفهوم تخضع للتطور والتبدل في جوهرها مع تطور وتبدل عوامل نشوئها عبر التاريخ، كما يؤكد نسبيتها وينفي اطلاقيتها، في الوقت الذي يؤكد عندنا عناصر استبدادها مثلما يؤكد عناصر قوتها وعدالتها وإنسانيتها.

إذن إن الديمقراطيّة وفقا لهذه المعطيات، ليست مقتصرة في ممارستها وأهدافها على تحقيق البعد السياسي للمجتمع كما يعتقد بعضهم، بل إن ممارسة الديمقراطيّة وأهدافها تصبان في مجمل النشاط الإنساني اليومي لحياة الفرد والمجتمع، بغية تحقيق العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص واحترام المختلف. كما أنها ليست صيغة واحدة مطلقة، تُفرخ مجردة، صالحة لكل زمان ومكان، بل هي صيغ مشخصة ببعدها الاجتماعي التاريخي، وبحواملها الاجتماعيّة التي تعمل على إنتاجها وتطبيقها وفقا لمصالحها ومصالح القوى الاجتماعيّة التي تعبر عنها.

إذا كانت هذه هي الديمقراطيّة في مفهومها ومعطياتها، فما هي أبرز مقوماتها، وبالتالي معوقاتها أيضا؟ .

مقومات الديمقراطية:

أولا : الوعي الديمقراطي: لا يمكن أن تكون هناك ممارسة ديمقراطيّة سليمة، إذا لم يكن هناك وعي ديمقراطي لدى حملة المشروع الديمقراطي عبر التاريخ، بحيث يستطيع حملة هذا المشروع أن يدركوا آليّة عمل الديمقراطيّة وإنتاجها، وكذلك عوامل نشوئها، وما هي المساحة الاجتماعيّة والأخلاقيّة التي تستطيع هذه الصيغة أو تلك من صيغ الديمقراطيّة أن تمارس نشاطها فيها. فامتلاك هذه المعرفة يشكل القدرة على التحكم وضبط آليّة ممارسة الديمقراطيّة وتحقيق الأهداف المرجوة منها، وبالتالي فأي جهل في هذه الآليّة المركبة والمتداخلة في مكوناتها، سيؤدي بالضرورة إلى وضع الديموقرطيّة في دائرة مبدأ "سرير بروكست"، حيث سيعمل حملتها هنا، إما على مطمطة، أو قصقصت الواقع كي ينسجم مع رغباتهم وشعاراتهم الديمقراطيّة، وليس وفقا لمراعاة خصوصيات الواقع المعيش .

ثانيا: المسؤوليّة: تشكل المسؤوليّة عند ممارسي الديمقراطيّة، الشرط الأساس لنجاح الديمقراطيّة، فلا ممارسة حقيقية للديمقراطيّة دون مسؤوليّة.. إن كانت مسؤوليّة الفرد تجاه نفسه، أو مسؤوليته تجاه الآخرين. فالمسؤوليّة تشكل في الواقع الشرط الأخلاقي/ ألقيمي لحاملها الاجتماعي، الأمر الذي يفرض عليه – أي على الحامل الاجتماعي – أن يخضعَ لعقلانيّة وعي وممارسة الديمقراطيّة بما يخدم المجتمع ومصالحه، وفقا لطبيعة المرحلة التاريخيّة المعيشة.

ثالثا: توافر الحامل الاجتماعي للمشروع الديمقراطي: نستطيع القول في هذا الاتجاه : بأنه، لا ديمقراطيّة بدون ديمقراطيين. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه علينا هنا، هو، ما هي طبيعة هذا الحامل الاجتماعي للمشروع الديمقراطي؟ .

نؤكد في هذا السياق بأن لكل صيغة من صيغ الديمقراطيّة حواملها الاجتماعيّة المسؤولة عن تطبيقاتها، ومعرفة آليّة عملها، وظروف إنتاجها، وهذا يعني أن الصيغة الديمقراطيّة وحواملها كلاهما يرتبطان بجملة الشروط الموضوعيّة والذاتيّة التاريخيّة للوجود الاجتماعي في مرحلة تاريخيّة محددة، فعلى سبيل المثال لاالحصر، إن الصيغة الديمقراطيّة وحواملها من الطبقة الارستقراطيّة عند اليونان مثلاً، التي كانت تعبر عن عدالة اجتماعيّة تقر بالعبوديّة والتفاوت الطبقي، هي غيرها في المرحلة التاريخيّة للنظام الاقطاعي والرأسمالي، أو في دول العالم الثالث التي يغيب فيها الوضوح الطبقي ولم تزل تتحكم في بنيتها الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافية- أي وجودها الاجتماعي- المرجعيات التقليديّة، من عشيرة وقبيلة وطائفة.. الخ. لذلك نستطيع القول في هذا الاتجاه: إن طبيعة الحامل الاجتماعي ومدى وعيه الديمقراطي ودرجة مسؤوليته تجاه المهام الديمقراطيّة التي يمارسها داخل مجتمعه في مرحلة تاريخيّة محددة، هي التي تلعب الدور الكبير في تحديد طبيعة النشاط الديمقراطي، ومستوى درجة نجاحه في تطبيق العدالة والمساواة التي يتضمنها هذا النشاط، ثم مستوى مطابقته للظروف الموضوعيّة والذاتيّة للمجتمع في المرحلة التاريخية ذاتها.

معوقات الديمقراطية :

إذا كانت هذه هي مقومات التطبيق الديمقراطي، فإن معوقاته تكمن حقيقة في غياب هذه المقومات. فغياب الوعي الديمقراطي، والشعور بمسؤوليتها الأخلاقيّة، وبأهميّة حواملها الاجتماعيّة، سيؤدي بالضرورة إلى فوضى الديمقراطيّة، بحيث تتحول الديمقراطيّة هنا إما إلى وسيلة لتحقيق المصالح الأنانيّة الضيقة لمن يحمل المشروع الديمقراطي تحت مظلة هذه الفوضى، أو إلى سلعة يحاول بعضهم استيرادها من مجتمعات أكثر تطوراً من المجتمع الذي يعيش فيه بعضهم من حواملها الاجتماعّية. مع يقيننا بأن النيات القائمة وراء استيراد شعاراتها هي نيات حسنة، يرغب مستوردوها تطوير المجتمع وتنميته، بيد أن النتائج في التطبيق الديمقراطي ستساعد هنا بناءً على هذه الشعارات الديمقراطيّة المستوردة في تعميق أزمة المجتمع بدلا من انفراجها، بل ستُدخل المجتمع في صراعات داخليّة وحروب أهليّة وخاصة في بعدها السياسي بغية الوصول إلى السلطة، وغالبا ما تحرك هذه الصراعات دوافع مصلحيّه ضيقة (عشيرة قبيلة طائفة حزب)، بالرغم من السعة الاجتماعيّة والوطنيّة لهذه الشعارات الديمقراطيّة المستوردة، والمطروحة للممارسة هنا من قبل هذه القوى المتصارعة، وهنك أمثلة كثيرة على مأزق و(فوضى الديمقراطيّة) في دول العالم الثالث بشكل خاص، التي سببتها تلك الشعارات الديمقراطيّة الفضفاضة المستوردة من مجتمعات أكثر تطورا، تؤكد صحة ما جئنا عليه.

أما إذا أخذنا الجانب السياسي للديمقراطيّة في هذه المجتمعات أيضا، فنستطيع القول في هذا الاتجاه : إن الديمقراطيّة هنا تشكل عنصر إصلاح أساسي في المجتمع، وخاصة إصلاح السلطة، أي هي تعمل على تداول السلطة والتشاركيّة، وهذا في الواقع ما لا تسمح به السلطات الحاكمة الشموليّة في دول العالم الثالث ومنها وطننا العربي على سبيل المثال، وهذه إشكالية قائمة بذاتها.

ختاما نقول: تظل الديمقراطيّة في سياقها العام مشروعاً إنسانيّاً بالنسبة للمجتمعات البشريّة عموما ومنها مجتمعنا العربي على وجه الخصوص، يهدف إلى سعادة الإنسان وتقدمه ورقيّه، بالرغم من كل معوقاته، والتي يأتي في مقدمتها غياب الحامل الاجتماعي الوعي والمسؤول معاً عن فكر وممارسة الديمقراطيّة، هذا الغياب الذي يعكس في المحصلة غياب جملة من الظروف الموضوعيّة والذاتيّة لمقومات التطبيق الديمقراطي السليم في الوجود الاجتماعي لمجتمعاتنا .. مجتمعات العالم الثالث المتخلف عموما.

***

د. عدنان عويّد - كاتب وباحث من سوريّة

في المثقف اليوم