قضايا

العبودية أو الرق مصطلح يشير إلى حالة امتلاك إنسانا لإنسانا آخر، حيث كان الأسياد يبتاعون العبيد في أسواق النخاسة، صحيح ان المجتمع الدولي قد اتجه في القرنين الماضيين لإلغاء العبودية بشكلها القديم الذي أخذ العالم القديم يتبرأ منها، ويسن القوانين لمكافحتها، إلا أنها بدأت في الظهور عبر أشكال جديدة، مثل الاتجار بالبشر، والمخدرات، والسلاح، وتبيض الأموال، والاتجار بالأعضاء البشرية، أو غيرها من أنواع التجارة التي تلحق ضررا بالغا بالإنسان، وكرامته وأدميته.

ولكن وفي ظل العولمة، وبفعل التطور العلمي والتقني والطفرة الرقمية (الديجيتال) ظهر نوع جديد من العبودية وهو ما يمكن أن نسميه " العبودية الرقمية"، حيث من الملاحظ أن الكثير من المنتوجات والخدمات أصبحت اليوم متاحة، ويتم استهلاكها عن طريق الإنترنت، من خلال عدد هائل من المعطيات الشخصية والتفاعلات والإلكترونية، وعليه فإننا كموجودات رقمية نعيش في المستودعات الرقمية ن ونعمل على طول منتوجات الاتصال، وهي منتوجات ومستودعات مملوكة من طرف الآخرين، وهذا يعادل إننا كموجودات رقمية يمكن أن نكون مملوكين من طرف الآخرين.

لقد تحرر الإنسان بفضل التكنولوجيا من الجهل والعبودية، لكنها أوقعته في عبودية من نوع آخر “عبودية التقنية ” التي اقتحمت أدق تفاصيل حياتنا مما أثر على سلوكياتنا. فرضت التكنولوجيا واقعا جديدا انعكس على حياتنا وبالتالي على الفن، فهناك من يرى أن القيم الجمالية قد تهاوت أمام الثورة التكنولوجية، بينما ترى فئة أخرى أن التكنولوجيا أوجدت مفاهيم وتقنيات جمالية جديدة، أثّرت بطريقة مباشرة على أداء الفنان الذي تخلى تدريجيًا عن الوسائط التقليدية ليستبدلها بالتجهيزات المتطورة والآلات الروبوتية، لتفسح له المجال للتساؤل عن مستقبل البشرية في ظل الهيمنة الرقمية.

فمنذ النصف الثاني من القرن العشرين، اتسم الإبداع الفني بالتطور المتسارع بفضل التقنيات الرقمية التي قادت الفنان نحو تطوير المفاهيم الجمالية عبر إدراج الفن الرقمي في الممارسة الفنية. مما أدى إلى تقديم تجارب وعروض حيّة غريبة ومدهشة تساءل الوسيط التكنولوجي وتقيّم حدوده. ويعد مارسيلي أرتينيز روكا من أوائل الفنانين الذين أقحموا التكنولوجيا الرقمية في ممارساتهم الفنية. ومارسليي فنان إسباني من مواليد 1959 ذاع صيته في الساحة الفنية من خلال عروضه الحيّة ذات الطابع التفاعلي التي يوظف فيها تجهيزات رقمية مكثفة. يعد عرضه الذي يحمل عنوان Epizoo”” أحد أهم عروضه التي بيّن من خلالها قدرة التقنية على استيلاب حرية الإنسان. يتسم العرض بالطابع الصادم والجريء يكون فيها المتلقي مشاركًا فاعلًا في عملية الإنشاء الفني. تتداخل في هذا العرض العديد من الأجناس الفنية المختلفة من مسرح وفنون تشكيلية وموسيقى. ساعدت التقنيات المتطورة على إلغاء الحدود والفواصل بين مختلف هذه الأنماط الفنية ليتم تقديمها بطريقة متجانسة. يغيب في هذا العرض النص الحواري لتحل مكانه الآلات المتطورة وخاصة الإيماءات والتعابير الجسدية. مما يجعلنا نمعن النظر في جميع هذه التفاصيل من أجل فهم مقاصد الفنان ومعانيه.

لقد بات من الواضح كيف أن شركات عالمية تستخدم بيانات الأفراد الشخصية من أجل أغراض مختلفة، كما حدث في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، ويحدث ذلك في الانتخابات في معظم دول العالم، وهو فقط نموذج من أجل توضيح أن المعطيات الشخصية للأفراد في منصات التواصل الاجتماعي ليست في مأمن، بل هي مُعرضة لأت تُستغل من أجل أهداف تمس بحرية الفرد في اختياراته وتوجهاته من خلال الـ" بيغ داتا " ومعادلة التحكم والعبودية، فأمام هيمنة مخرجات الثورة الرقمية سيصير الإنسان عبدا أمام حفنة من الشركات المتعددة الجنسيات التي تتخصص في تجميع مدونة المعطيات الكبرى، وذلك بقصد التحكم في المجتمعات، وإحداث تجول جذري في أفكارها وأنماط حياتها، وتحويلها بالجملة إلى مجرد كائنات مطواعة تفعل ما تُؤمر به، أو ما تُقاد لذلك.

فالمدونة المسماة big Data أو البيانات الضخمة تقوم بتجميع كل المعطيات التي يقدمها المُبحرون في الهاتف النقال عن أنفسهم لفائدة هذه الشركات، سواء تعلق الأمر بالمعلومات الصحية، أو الأذواق والاختيارات، بل حتى الرغبات والميول الأكثر حميمية.

بعد ذلك يتم معالجتها وإيداعها في حواسيب لها قدرة فائقة على التخزين والإحصاء، حيث ستتمكن هذه الحواسيب، وفي وقت وجيز بمسح كامل وشامل حول الكائن البشري، فيصبح الأفراد مراقبون بطريقة ذكية، ولكنها غير محسوسة.

ظواهر رقمية جديدة تتشكل وتتغير في سرعة فائقة مع الحياة الرقمية، من ثم بدت مهمة للتحليل السوسيولوجي وفروعه، وحقوله المعرفية التي استقرت نسبياً عبر الزمن كما يقول الأستاذ نبيل عبد الفتاح مع تحول المجتمعات الغربية، وغيرها، في ظل بعض التحولات في المفاهيم والنظريات ومفاهيم التحليل السوسيولوجي، بل والاستقرار النسبي لآلة الاصطلاحات السائدة في هذه الحقول. الظواهر والمشكلات الاجتماعية في المجتمعات، وواقعها وتفاعلاتها الفعلية، استقرت نسبياً مع تراكم الدراسات الحقلية- الإمبريقية، وتنظيراتها في العلم الاجتماعي.

والظواهر الرقمية الجديدة، والمشكلات التى تتشكل حولها لا تقتصر على البحث عن سوسيولوجيا ولغة رقمية جديدة، وربما كما يقول الأستاذ نبيل عبد الفتاح مغايرة عن التنظيرات والبحوث السوسيولوجية والأنثربولوجية الميدانية، وإنما ثمة اهتمامات أيضاً لبحث ما تطرحه هذه الظواهر والمشكلات الرقمية من جوانب سوسيو-نفسية، لتحليل هذه الجوانب، ومنها الإدمان الرقمي، والسلوك العدوانى الرقمي، واللغة العنيفة المتفجرة بالعدوانية، والتحريض على العنف الرمزي والمادي، وخاصة من خلال الوصم السلبى للآخرين، أو اتهامهم بالكفر أو الخروج عن الملة كجزء من استعارات اللغة الدينية واللاهوتية من المتون التاريخية والتأويلية للغة واللاهوت التاريخي إلى الواقع الافتراضى، أو إشاعة مفردات ثقافية حول كراهية الآخر الديني، أو المذهبى من داخل الدين أو المذهب أو من خارجه! أو الكراهية العرقية والشوفينية والتعصب القومي!

ثمة أيضا الأبعاد النفسية لظواهر التحرش الجنسى الرقمي، أو بث فيديوهات، وجيزة، وصور شبقية، أو جنسية عارية، أو خطابات جنسية رقمية مثيرة، بعضها كما يقول الأستاذ نبيل عبد الفتاح للترويج ذو الطابع السلعى من أجل المتابعات التى تجلبُ بعضُ المال من الشركات الرقمية الكبرى، وبعضه الآخر محاولات لإثارة اهتمام الآخرين حول الشخصية العارضة، الساعية لتأكيد ذاتها الرقمية من خلال  الاستعراض الجسدى، وإثارته الحواسية، أو الجمالية، من خلال الصورة أو الفيديو الطلقة المصحوب أحياناً بالأقوال الإثارية. بعض الصور والفيديوهات الحاملة للأجساد والإثارات الحواسية، قد يستخدمها بعضهم/هن  في التشهير، والابتزاز، والضغوط إزاء بعضهن/بعضهم،وهي ظواهر خطرة تتعدى الفعل إلى دائرة التجريم في عديد من بلدان العالم.

إن هذا الزحف نحو العبودية الرقمية؛ في موازاة سقوط مجانيّة الإنترنت، ستكون له تداعيات طويلة المدى على صحة الأفراد العقليّة، وضغوط إضافيّة على ميزانياتهم، ولا بدّ من أنه سيخلق نوعاً من تفاوت طبقي في القدرة على الوصول للمعلومات بين الشعوب وداخل المجتمعات السكانيّة أيضاً، مما قد يعوق تشكيل ثقافات منسجمة على المستوى الوطني، لمصلحة ثقافات بديلة افتراضيّة عابرة للحدود تجمع بين فئات الميسورين دون غيرهم.

وهذا الفصل الرقمي سيدفع بالمتضررين إلى محاولة عبور الأسوار عبر المواقع والبرامج المقرصنة التي تحمل في طياتها غالباً مخاطرات التعرض إلى الفيروسات والبرمجيّات الضارة، وربما تتسبب لهم في خسائر مادية تضاعف من الفجوة الرقميّة، وتكرّس تهميش الذين يقفون على الجانب الخاسر من الصحراء السيبرانيّة الممتدة. وتهدد تكنولوجيات الذكاء الاصطناعيّ اليوم، مع تسارع اندماجها في مختلف جوانب الحياة، بتوسيع تلك الفجوات الرقميّة بشكل أكبر، وربما خلق أشكال أكثر جبروتاً مما عرفناه حتى وقتنا الرّاهن من عبوديّة رقميّة.

كذلك  لا شكّ أنّ التّقدم الهائل الذي يعرفه العالم في المجال الرّقميّ واستخداماته المتعدّدة، قد سهّل الحياة أمام الأشخاص الرّاغبين في البحث عن المعلومة، والاتّصال، والتّجارة، وتبادل الخبرات، وتسهيل العمليّات المصرفيّة، فضلاً عن استخدامه في الدّراسة والبحث والاتّصال بين مختلف مراكز الدّراسات والأبحاث والمراكز الطّبية والصّناعية وغيرها، ولا شكّ أيضاً أنّ هذا المجال الرّقميّ، مثل أيّ مجال آخر، له جوانب إيجابيّة وأخرى سلبيّة، أشدّها سلبيّة وأكثرها تأثيراً على صحّة الإنسان الجسديّة والنّفسيّة هو ما يمكن أن يُصطلح عليه «بالإدمان الإلكترونيّ»، وهو إدمان يحوّل حياة المرء إلى نوع من «الأسْرِ» السيِّئ والشّديد؛ حيث يكون فيها المدمن مقيّداً ومُستعبَداً لرغباته وحاجاته الإدمانيّة، فتضطرب حياته وتتمحور حول تلك الرّغبات الجامحة والقويّة للإدمان، وحين يتطوّر الإدمان يتقلّص التّناغم في الحياة بشكل تدريجيّ، وهذا إذا ما افترضنا – طبعاً - أنّ حياة المدمن كانت في الأصل سليمة ومتناغمة، هذا وقد بيّنت الحوادث أنّ ثمّة عدداً من المدمنين كانت حياتهم مفعمة بالعمل والإنتاج والتفاؤل والتّناغم العام، حتّى دخل الإدمان إليها، وبدأ الخلل يزداد يوماً بعد يوم.

***

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

أستاذ ورئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة أسيوط

................

المراجع:

1-  قناة اليوم: العبودية الرقمية، يوتيوب.

2- نبيل عبد الفتاح: الحرية الرقمية والعبودية الطوعية: أثر الثورة الرقمية في تشكل الظواهر السوسيو –نفسية على الشبكات الاجتماعية، مركز الدراسات الاستراتيجية بالأهرام.

3-أنظر مقال عبودية لا مفر منها قراءة في عرض مارسلي روكا، منشور يوم السبت 2022/10/01

4- أنظر مقال العبوديّة الرقميّة.. وهزيمة الثقافة، منشور يوم 25-07-2023 01:30 PM.

5- د. سعيد عبيدي: الإدمان الالكتروني أو العبودية الرقمية، مقال.

كرَّس الدكتور محمد الرميحي مقالته المنشورة في صحيفة الشرق الأوسطش، يوم السبت الماضي، للتعليق على جدل عنيف، نتج عن موقفه من دعوة بعض البرلمانيين لإلغاء الفصول المختلطة في التعليم الجامعي. اتَّسم هذا الجدل بعنفٍ لفظي واضح من جانب الذين يدَّعون الدفاع عن الفضيلة. عنف لا يقف عند تسفيه الرأي المخالف؛ بل يتعداه إلى شتم صاحب الرأي، واتهامه بالخيانة والجهل والمروق من الدين، وما أشبه.

وقد سبق للرميحي وغيره من أهل الرأي أن تعرضوا لاتهامات من هذا القبيل. لكن المقال آثار نقطة جوهرية، تستحق مزيداً من المعالجة، وهي إشارته إلى أن هذا الجدل وأمثاله يعبر عن «أزمة هوية»، تتجلَّى كلما برزت على سطح الحياة اليومية تحديات الانتقال من عصر التقاليد إلى عصر الحداثة.

وفقاً لتعريف إريك إريكسون، عالم النفس الأميركي، فإن أزمة الهوية تعبير عن إخفاق الشباب في الموازنة بين تطلعاتهم الشخصية ومتطلبات الحياة الاجتماعية؛ خصوصاً في المجتمعات التي تمر بتحولات متسارعة، ثقافية واقتصادية، تؤدي بالضرورة لتغيير مواقع الأشخاص ودوائر علاقاتهم، والأعراف التي تنظم هذه العلاقات.

وقد لاحظت أن أهم تحولات الهوية الفردية في مجتمعنا، نتج عن انفتاحه على مصادر تأثير ثقافي وأنماط حياة جديدة، تعارض ما ورثناه عن الأسلاف. وأميل للاعتقاد بأن بداية التحول العميق ترجع للعقدين الأخيرين من القرن العشرين، وساهمت فيها بشكل متوائم برامج تحديث الاقتصاد وتغيير سياسات التعليم، إضافة للتوسع في إلحاق الطلاب بالجامعات الأجنبية. أما ذروة التحول فقد حدثت –وفق تقديري– في السنوات الخمس الماضية، نتيجة لوصول الإنترنت السريع إلى كل قرية وبلدة في أنحاء المملكة.

وفَّر الإنترنت فرصة للشباب للانفتاح المباشر على عوالم جديدة. ولم يعد للعائلة والمدرسة والنظام الاجتماعي بمجمله، إلا القليل من التأثير على ذهنية الفرد، أما المساهم الأعظم فقد بات هو الفرد نفسه الذي يختار بوعي ومن دون وعي، من موائد لا أول لها ولا آخر، موائد بعيدة تماماً عن التجربة التاريخية لمجتمعنا.

كل من هذه التغيرات يواجه الذهنية التقليدية بتحدٍّ جديد، يدعمه نمط حياتي أكثر تقدماً وأكثر يسراً وجاذبية، الأمر الذي يضع الفرد على المحك: إما التخلي عن عالمه القديم، وإما الحرمان من ثمرات الحياة الجديدة.

وفقاً لرؤية إريكسون، فإن التحول المشار إليه، يؤدي لعسر في التفاهم بين جيل الشباب وآبائهم؛ ليس لأنهما يرفضان التفاهم؛ بل لأن اختلاف المشارب الثقافية يجعل كلاً من الآباء والأبناء ينطلق من خلفية مختلفة؛ بل عالم مفهومي ومعنوي مباين للآخر. إن حاجة الأب والابن للحفاظ على العلاقة القائمة، تؤدي بالضرورة إلى قدر من التكلف والعناء الذي ينعكس على شكل أزمة نفسية، هي ما نسميها أزمة الهوية.

رؤية إريكسون تنطبق على الشباب؛ لكني وجدت أزمة الهوية عند شريحة واسعة من الآباء أيضاً. وهي تتجلى في صورة رفض داخلي للقديم مع قبوله في الظاهر، أو رفض داخلي للحديث مع رغبة قوية في التمتع بخيراته. ينتج هذا التنافر ازدواجية في القيم، تمثل مظهراً آخر لأزمة الهوية.

أظن أن مرجع التأزم عند كلا الطرفين: الشباب والآباء، هو بطء التفاعل بين تراثنا الثقافي، الديني وغير الديني، وبين متغيرات العصر الثقافية؛ لا سيما منظومات القيم الجديدة، وما يترتب عليها من علائق بين الناس، وتموضعات اجتماعية مختلفة عما ساد في الماضي.

أعتقد أن شريحة واسعة من أبناء مجتمعنا، من الآباء خصوصاً، يعانون من عسر شديد في التوفيق بين قناعاتهم القديمة وحياتهم الجديدة. ولو نظرنا للسبب العميق وراء كل هذا، لرأيناه في حقيقة أن تراثنا الثقافي يريد للفرد أن يكون تابعاً مطيعاً، لا مشاركاً أو صانعاً للقيم التي تقود حياته. وهكذا يتوجب عليه البقاء منفعلاً ومتأثراً، إن أراد التمتع بفضائل النظام القديم.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

يقول أرسطو "أن ما دفع الناس في الأصل وما يدفعهم اليوم إلى البحوث الفلسفية الأولى هي الدهشة"

وحدها الدهشة تنزع عن الأشياء أُلفتها لنجد أنفسنا أمام حيرة السؤال.

الدهشة بالمعنى الفكري هي حالة التنبه الذهني اليقظ التي يتكثف فيها التأمل وتتسم بالانتباه الذكي.. هي حالة تنكسر فيها الرتابة، وتنقشع من خلالها الغفلة ليتجلى التبصر.

مفردة فلسفة مصدرها إغريقية وتعني ’’حب الحكمة‘‘. هي واحدة من أهم مجالات الفكر الإنساني في تطلعه للوصول إلى معنى الحياة.

في سعينا إلى معرفة الحكمة من وجود الحياة، الحكمة من الموت .. نحن نقوم بفعل فلسفي. ومن المفيد في هذا السياق الإطلاع على الفلسفة الرواقية.

ظهرت الرواقية لأول مرة في اليونان منذ حوالي 300 سنة  قبل الميلاد، عندما فقد تاجر يدعى "زينو" جميع ممتلكاته في سفينة غرقتْ. لمواجهة هذه الكارثة التي حلت به بدأ في ممارسة الفلسفة في "ستوا بويكيل"، أحد أروقة "أغورا "الأثينية، الذي تستمدّ منه الرواقية اسمها.

اهتم الرواقيون كثيرا بالتمييز بين ما نستطيع وما لا نستطيع السيطرة عليه، بأنه لا مفر من تنسيق أفكارنا وسلوكياتنا مع مسار الطبيعة الحتمي. كان الرواقيون يصنفون من ينجح في القيام بهذا الفعل بأنه إنسان فاضل. وبهذا الشكل، كانوا يصنفون الحزن على موتٍ الأحبة بأنه خطأ جسيم.

ربما يعد هذا القول للوهلة الأولى مبالغا فيه بل وشديد القسوة لأنه ليس هناك من شخص طبيعي لا يحزن على فقدان أحبته.

بالتمعن في الفلسفة الرواقية نتبين أن مشاعر الرواقيين تجاه من يحبونهم أكثر ثراءً من مشاعرنا نحن غير الرواقيين، لأنهم يُذكِّرون أنفسهم في كل لحظة بمدى قيمة اللحظة التي تجمعهم بمن يحبون. عندما يختبرون موت شخص عزيز، يشعرون ببداية حزن، لكنهم يسيطرون على حزنهم ويحولونه نحو كل ذكرى طيبة كانت قد جمعتهم بمن فارقهم وهو ما يمكنهم من تخطي الألم جراء خطب لا يملكون شيئا حياله.

إن العمل على تطوير قدرتنا على التكيف مع آثار الفقد على نفسيتنا يمكننا من أن  نحب إنسانًا ما، بكل صدق، وهو لا يزال على قيد الحياة. لكن موته لا يمنعنا من الحياة.

 ما يساعدنا على ألا نغرق في الحزن على من فقدنا هو المهارة في الانتقال من حالة الشجن إلى حالة الرضا والتسليم.

في رسالة العلامة العربي المسلم يعقوب ابن إسحاق الكندي*"في دفع الأحزان" يُعرِّف الحزن بأنه" ألم نفساني، ناتج عن فقد أشياء محبوبة، أو عن عدم تحقق رغبات مقصودة، وعلى هذا، فإن سبب الحزن هو إما فقد محبوب، أو عدم تحقق مطلوب."

ويضيف الكندي أنه علينا ألا نملك شيئا حتى لا نفقده، فيكون فقدانه سبباً للحزن، ولأن الحرص لا تدوم معه ملكية، فيجب علينا أن لا نملك شيئا.

ما يصفه الكندي هو حالة من الحرية تحلق فيها النفس عاليا دون قيود لتبلغ مرتبة السمو عن عالم المحسوسات إلى عالم أرفع، هو عالم الروحانيات.

نخلص من خلال هذا أن الحياة فرصة تجمعنا بمن نحب وجب علينا أن نستغلها في عيش لحظات السعادة معهم، في تقاسم مشاعر الود والرحمة والإيثار.

إن الفقد حتمي وهو خارج عن سيطرتنا.  الفقد ومن بعده الشعور بالحزن على شخص رحل، قد يحمل في طياته وجود ذكرى عذبة ذات قيمة. قد يكون الاحتفاء بالذكرى المبهجة هو العزاء.

ما يجعل لكل شخص، لكل ذكرى قيمة حقيقية، هو ادراكنا لعدم خلودها، لفنائها. حين ندرك هذه الحقيقة تصبح للمشاعر قيمة أرفع. هكذا يصبح الحزن متأصلا في الحب بسبب إداركنا العميق انه سيزول يوما.

***

درصاف بندحر – تونس

..................

الهوامش:

* أبو يوسُف يعقوب بن إِسْحَاق الْكِندي (185 هـ/805 - 256 هـ/873) علّامة عربي مسلم برع في الفلك والفلسفة والكيمياء والفيزياء والطب والرياضيات والموسيقى وعلم النفس والمنطق الذي كان يعرف بعلم الكلام.

يعرف عند الغرب باسم (باللاتينية: Alkindus)، ويعد الكندي أول الفلاسفة المشّائِين المسلمين (مؤسس المدرسة المشائية هو الفيلسوف اليوناني أرسطو الذي سماه تلاميذه المشّاء لأنه كان يعلمهم وهو يمشي)

 كما اشتهر الكندي بجهوده في تعريف العرب والمسلمين بالفلسفة اليونانية القديمة والهلنستية.

قال الشاعر محمود درويش ما معناه أن فكرة التشبث بالحياة هي العذاب الحقيقي للذات؛ ذلك أن هذه الذات الساعية إلى الاستمرار في الحياة رغم الرتابة والملل اللذين يكتنفانها، ويدفعان المرء إلى مقصلة التعب التي تمزق الجسد والروح، تتجرع علقم الوجود، وتدفع ثمنه الرغبة في العيش أضعافا مضاعفة.

تمسي وأنت منهك الجسد ومتعب الروح، وتعزف عن تناول عشاءك، وتؤثر النوم على الأكل والسهر، ولكنك ما إن تسند رأسك على الوسادة حتى تقفز بنات الدهر إلى ذهنك، وتأخذ في رقصة مضطربة الإيقاع؛ إذ تتسم هذه الخطوب بالانتظام تارة لدرجة أنها تذوب في روحك كما يذوب الملح في الجرح، وتارة أخرى تضطرب في ذهنك فترهقك وتخطف النوم من عينيك، ثم ترميك نهبا للسهاد والأرق، فتجدك تتقلب على فراشك يمنة ويسرة، وبعد محاولات متكررة باءت بالفشل ارتأينا أن تتصفح كتابا كنت قد بدأت قراءته مساء، ولكنك لا تستطيع للقراءة سبيلا؛ ذلك أن الكلمات سرعان ما يدخل بعضها في بعض، حتى لتبدو لك السطور تتراقص على وقع روحك الممزقة المتعبة، فتفرك عينيك وتحاول جاهدا أن تفتحهما، لكنك لا تنجح في شيء من ذلك.

ترمي الكتاب جانبا، ثم تحمل هاتفك وتلج مواقع التواصل الاجتماعي بحثا عن صديق مزقه التعب والأرق هو الآخر، بيد أنك لا تجد من يشاركك همومك وما يسلب النوم من عينيك، فترمي الهاتف هو الآخر جانبا. وفجأة، يترامى إلى سمعك صوت بعيد لكنه استطاع أن يلفت انتباهك، فتقوم من فراشك متثاقل الخطى، تترنح كما يترنح الغصن المنفرد أمام هبات الرياح العاتية، وتقصد النافذة المطلة على الشارع، فتلفاه مضيئا بمصابيحه الباهتة، ويتراءى لك موحشا مقفرا ساكنا إلا من الصوت التي يخترق سمعك بين الفينة والأخرى.

يطول انتظارك ولكن صاحب الصوت لم يظهر، فتشعر برغبة شديدة في جرعة ماء تبلل ريقك، ولكنك لا تستطيع بلوغ ضالتك، وتأخذ في البحث عن أسباب عجزك وخورك؛ لأنك تخشى أن تطول حركتك في المكان الموحش، فتضن على ذاتك العطشى بجرعة ماء كما ضننت عليها بالعشاء، ثم تعود إلى فراشك متعطشا إلى غمضة نوم سريعة، أو رقدة طويلة تحول بينك وبين عالمك المدلهم، عالمك المضطرب بالأفكار التي تخز نفسك من حين لآخر، بالأحلام العابرة التي تضيق لها نفسك، بالآلام المبرحة التي تمزق جسدك، بالهموم الثقال التي تجثم على قلبك. لكن، هل بلغت غايتك وقصدك؟ هل زارك النوم المتمنع؟

طال سهادك وأرقك، وبلغ منك التعب مبلغا بعيدا لم يعد معه النوم ممكنا، فآثرت أن تجلس القرفصاء وحيدا عليلا، وتحمل الكتاب مجددا تلتمس فيه أنسا ومواساة؛ أليس الكتاب هو الرفيق الوحيد الذي لا يخون عهدا، ولا يخذل صاحبه ساعة الحاجة إليه؟ فما بال كتابك النقدي هذا لا يرد عنك وحشة، ولا يذود عنك تعبا ولا أرقا؟ هل حزن الكتاب لحزنك، ومل وتعب لمللك وتعبك، أم أن عينيك المسبلتين لم تطيقا مسايرة رقصات سطوره السريعة المضطربة؟

تبحث عن الجواب طويلا، ولما لم تظفر بما يشفي غليلك، قررت أن تؤقلم عينيك المسبلتين مع إيقاع السطور المتراقصة، فأخذت في القراءة الراقصة مدة، ثم بدا لك أن السطور ثابتة في مكانها على الورق، وأن الكلمات المضطربة لم تعد صاخبة ومتحركة، وإنما ألفيت أن مصدر الاضطراب والرقص هو روحك الممزقة المتعبة، فحاولت تضميد جروحها ورتق مزقها بالأناة والصبر على القراءة.

تتقدم في تصفح الكتاب، فتبدو لك الكلمات الغامضة واضحة مشعة في نفسك، وتحس آلام الشاعر وأحلامه في قصائده، وتلفي الناقد المؤول ذا كفاءة تأويلية كبيرة، وأنه استطاع أن يؤنسك في وحشتك بأن قدم لك السراج المنير الذي أضاء ما عتم عليك في كلمات الشاعر، فتشفق على هذا الشاعر الذي تعب من الحياة كما تعبت، واختار الرحيل عنها كما اخترتَ، إلا أنه استطاع اختراق حجب هذه الحياة، واكتشاف جدها وهزلها، وجدواها وعبثها، بيد أنك لم تستطع لما بلغه سبيلا، فتبحث سبب عجزك عن فهم الحياة وطبيعتها في نفسك، وبعد لأي، تجد الجواب هو عجزك عن البوح بما يعتمل في أعماقك، والتعبير عما يجول في ذهنك من أفكار، وما يتجلى في قلبك من أنوار ورؤى، فتقرر، وأنت خائر القوى، أن تبوح بما يضطرب في عقلك وقلبك، وألا تضن بذلك إلا على الذين ليسوا أهلا لمعرفته؛ لأن في نفسك سرا عظيما، ولكي تتحمل الحياة عليك أن تخترق حجبها في نفسك، وأن تكشف عن سرها الكبير في شطحات ذاتك كيما تنعم بفرح كينونتك ووجودك.

***

محمد الورداشي

يتم التعامل مع الرجال والنساء على قدم المساواة عند وصولهم إلى الدانمارك وتقديم طلب اللجوء، أو القدوم كأفراد من الأسرة عبر نظام جمع الشمل. إن مراكز اللجوء مختلطة وتخضع جميعها لنفس العملية لتقييم احتياجات الحماية أو الإلحاق. نظام التعليم الدنماركي وعروض العمل التي تقدمها البلديات تخضع هي الأخرى لنفس مبدأ المساواة بين للرجال والنساء دون أي تمييز.

تبنت الدنمرك سياسة المساواة بين الجنسين منذ عقود، وتعتبر أن المعاملة الخاصة والتقسيم إلى جنسين أمر سلبي وقديم الطراز. لكن عدم التفرقة في المعاملة لا يؤدي إلى المساواة. إذا كنت تريد معاملة جميع الأشخاص بنفس الطريقة، فهذا يتطلب أن يكون لديهم نفس نقطة البداية. وإلا فإنه يمكن أن يؤدي في الواقع إلى التمييز. من الأمثلة الجيدة على ذلك الصورة المستخدمة غالباً للمعلم الذي يقول: "لضمان الاختيار العادل، سيتم تكليفكم جميعًا بنفس مهمة الاختبار: يجب عليك تسلق الشجرة" لكن الطلاب هم بمثابة حيوانات مختلفة، مثل القرد والذئب والقنفذ والسنجاب - بالنسبة للبعض ستكون المهمة سهلة، وبالنسبة للآخرين ستكون المهمة مستحيلة.

يمكن تعريف التفرقة بأنه تمييز غير معقول يؤدي إلى حصول الشخص على معاملة أو حماية أسوأ من غيره. ليس من غير القانوني معاملة الناس بشكل مختلف. بل على العكس من ذلك، غالبا ما يكون من الضروري ضمان معاملة الجميع على قدم المساواة. هذا ما يكتبه معهد حقوق الإنسان الدنمركي على موقعه الإلكتروني.

تقرير حقوقي جديد

قامت مِؤخراً منظمة مساعدة اللاجئين في الدنمرك بنشر تقرير بعنوان "إنهم لا يعرفون مقدار الضغط الذي نعانيه"، والذي يسلط الضوء على كيفية تعرض آلاف النساء للتمييز من جانب المجتمع الدنماركي - ليس عن وعي، ولكن لأن الناس يتجاهلون كيف تختلف ظروف النساء الأجنبيات مقارنة بأزواجهم وإخوانهم، وبالمقارنة بالنساء الدنماركيات. وفي العديد من النقاط، تكون فرصة النساء أقل بكثير للوفاء بالمطالب التي يتم تقديمها، على الرغم من أن النساء القويات غالباً ما يخضن معارك الحياة دون كلل.

على سبيل المثال لم يُسمح لـ "آشا" بالذهاب إلى المدرسة في موطنها الصومال. ولذلك فقد تم تسجيلها في مركز اللغة الدنماركية، اجتازت المستوى الأول، ولم تتمكن من اجتياز المستوى الثاني، وهو شرط للحصول على الإقامة الدائمة. بينما تخطي المستوى الثالث يعتبر شرطاً رئيسياً للحصول على الجنسية الدنماركية. وهي مطالب قد يكون لإخوتها بعض الفرصة للوفاء بها. إنه التمييز الهيكلي. من ناحية أخرى، كأم عازبة وبعد قضاء السنوات الست الأولى في مركز اللجوء، قامت بتربية ستة أطفال، وقد حصلوا جميعاً على التعليم العالي أو المهني فيما بعد.

تضمن التقرير وصف مشاكل المرأة الأجنبية في الدنمرك من خلال تسع عشرة قصة لنساء لاجئات، والكثير من الاقتباسات. على سبيل المثال قصة "سميرة" وهي لبنانية تعيش الآن في مركز مغادرة لأنها تركت زوجاً يسيء معاملتها.

تقول "أتيت إلى الدنمارك منذ أربع سنوات بسبب الزواج. لكنه ضربني وتركته بعد أربعة أشهر. لا أستطيع العودة إلى لبنان حيث تعيش عائلتي. يريدون قتلي لأنني مطلقة. والآن أعيش في أحد المراكز المخصصة لمغادرة طالبي اللجوء المرفوضين منذ عام، ولا أستطيع الحصول على المال أو المساعدة من أي شخص. إنه أمر صعب للغاية."

يتناول التقرير النساء والفتيات اللاتي، لأسباب مختلفة، لا يستطعن العودة في وطنهن، ويقيمن الآن في الدنمرك، بإذن أو بدون إذن أي من تحمل منهن تصريح بالإقامة قانوني، أو من لا تمتلك أوراق. لم يتضمن التقرير النساء اللاتي قدمن إلى الدنمرك كعاملات مهاجرات أو بسبب الزواج من رجل دنماركي. بل التقرير يستهدف الفتيات والنساء الأجنبيات اللاتي وصلن الدنمرك وحدهن، أو بسبب زواجهن من رجال أجانب.

البعض ترك وطنه بمفرده، والبعض الآخر مع أفراد الأسرة. وقد وصل البعض بعد رحلة محفوفة بالمخاطر بمساعدة مهربي البشر لتقديم طلب اللجوء، بينما كان آخرون ينتظرون الحصول على إذن للم شملهم مع الزوج أو الأب الذي سافر قبل ذلك وحصل على اللجوء. ولا يزال البعض الآخر يتم استدراجهم إلى هنا بوعود كاذبة، لكن ينتهي بهم الأمر إلى زيجات سيئة.

هؤلاء النساء ضمن الفئات التالية:

طالبات اللجوء.

اللاجئات المعترف بهن.

النازحات من أوكرانيا.

الموجودات بنظام جمع شمل أسرة اللاجئ.

نساء غير موثقات ـ على سبيل المثال بعد رفض اللجوء.

وتندرج العديد من هؤلاء النساء أيضاً ضمن فئة "غير غربية"، لكن هذا تعريف دنماركي يتضمن دلالات عرقية، تصفه كل من الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي بأنه موصم وغير مناسب، وبالتالي لم يتم استخدامه في التقرير. غالبية النساء في الفئات المذكورة أعلاه يأتون من دول في الشرق الأوسط وأفريقيا، ولكن أيضاً من دول مثل أوكرانيا، والبوسنة، وسريلانكا، وتايلاند.

النساء، اللاتي يتحدثن إلى حد كبير عن أنفسهن في التقرير، غالباً ما يعانين من نقاط ضعف متعددة الجوانب في المجتمع الدنماركي، مما يتركهن في أسفل التسلسل الهرمي. على سبيل المثال "بينتا" من غامبيا. فهي ليست مجرد امرأة، ولكنها أيضاً مثلية، وأمية، وسوداء، ومسلمة، وفقيرة، وطالبة لجوء مرفوضة.

تقول "إستيلا " من أوغندا، التي أمضت خمس سنوات في مركز ترحيل مع طفلها الصغير "لا أحد يفهم ما نشعر به. إنهم لا يعرفون مدى الضغط الذي نعاني منه. إذا لم يسبق لك أن واجهت الإجبار على القيام بأشياء ضد إرادتك، لذلك تشعر حقاً بالضعف، فلا يمكنك إصدار الأحكام."

هؤلاء النساء لا يشكلن مجموعة متجانسة، فهن غير متشابهات، ويختلفن عن بعضهن البعض عرقياً وثقافياً. لذلك من المهم إدراك الخطر الكبير المتمثل في التعميم والوقوع في الصور النمطية أثناء النظر في قضاياهن. ومن المؤسف أن النظام الدنماركي يجد صعوبة في التعامل مع هذه الاختلافات. هؤلاء النسوة رغن أنهن ضحايا وضعيفات وتعرضن للعنف، ومعتمدات على الآخرين، ، إلا أنهن نساء قويات ويتحملن مسؤوليات كبيرة، ويعملن بعناد وعزيمة لتحقيق استقلالهن، رغم الاحتمالات المتدينة ارتباطاً بأوضاعهن العامة.

تشريعات قاصرة

اتم اتخاذ العديد من التدابير القانونية ـ على مدار تعاقب الحكومات ـ فيما يتعلق بنساء الأقليات العرقية في الدانمرك من أجل إدخالهن إلى سوق العمل والحد من عزلتهن في المنزل. اليوم، هناك تركيز كبير على مواجهة الثقافات والأنماط القمعية الآتية من البلدان الأصلية، أي الزواج القسري والمرتب، والرقابة الاجتماعية بشكل عام. ومن المؤسف أن الإجراءات المضادة المُتخذة كانت مقتصرة في كثير من الأحيان على العقوبات الصارمة للآباء والإخوان، الأمر الذي يهدد بفرض المزيد من المشاكل على النساء أنفسهن اللواتي يزعمن أن تلك الإجراءات تساعدهن.

وفي عام 2015، تم إلغاء تصريح إقامة "جميلة" رغم أنها أوضحت أن الطلاق كان بسبب العنف من قبل الزوج، وأنها عاشت في ملجأ لمدة ثلاثة أشهر. وشرحت أنها قبل ذلك أقامت مع الرجل خوفا من فقدان تصريح إقامتها. أكد الزملاء في المركز الذي تعمل فيه جميلة أنها أخبرتهم عن تعرضها للعنف سابقاً. لكن لم يكن هناك توثيق للعلامات المرئية بعد العنف، ولا تقرير طبي. ولم تعتقد السلطات أن العنف كان بالضرورة سبب الانفصال. علاوة على ذلك، تم التأكيد على أن جميلة احتفظت بارتباط قوي ببلدها الأصلي، وأن حقيقة أنها بدأت التدريب المساعد في النظام التعليمي لم يكن كافياً لاعتباره اندماجاً ناجحاً.

لقد تجاهل السياسيون والنظام العام، الدور الذي يلعبه النظام الهيكلي الدنماركي نفسه في الحفاظ على جزء من النساء في حالة اضطهاد واعتماد على أزواجهن.

لتوضيح هذا الادعاء، يجب النظر إلى ما تحمله النساء المعنيات معهن في أمتعتهن عند وصولهن إلى الدنمارك - وهذا ينطبق على تربيتهن والتجارب التي مررن بها أثناء الرحلة. تضطهد أفغانستان، والصومال، وإيران، النساء والفتيات بشكل مباشر في التشريعات، في حين أن دول مثل العراق، وسوريا، وإريتريا، وميانمار، تمنح النساء حقوقاً رسمية في التشريعات والقوانين، ولكنها في الواقع لا تمنحهن بأي حال من الأحوال فرصاً متساوية مع الرجال.

مستضعفات في الدنمرك

بشكل عام، تتمتع النساء في الفئات المذكورة بمتطلبات أقل لتحقيق أداء جيد في المجتمع الدانمركي بسبب الظروف التي نشأن فيها. يبدأ الأمر في مراكز اللجوء، وفي عملية اللجوء، وفي تقييمات اللجوء، حيث تكون النساء وحدهن بدون رجال. تشكل النساء في مراكز اللجوء أقلية ويشعرن بعدم الأمان بين العديد من الرجال غير المتزوجين. فالنساء أقل استعداداً لإجراء المقابلات الطويلة، كما أن دوافع لجوء النساء تؤدي إلى وضع قانوني أضعف بكثير من وضع الرجال، وهو ما يمكن أن يكون من الأسهل المشاركة فيه مرة أخرى. العديد من النساء يحصلن على اللجوء بسبب حالة أزواجهن، وبالتالي يرتبطن به.

تقول امرأة أفريقية عازبة "أحضرت طفلي معي في كل المقابلات. كان عمره عامين. جلس في حجري ثم أعطوه جهاز iPad وسماعات حتى يتمكن من مشاهدة الرسوم المتحركة. لكنه لم يتمكن من النظر إليها لساعات عديدة، وكان يبكي ويركض. كان من المستحيل بالنسبة لي أن أركز".

ومع ذلك، فإن ما يقرب من 80٪ من النساء يصلن بغرض لم شمل الأسرة، وبالتالي ليس لديهن تصريح إقامة خاص بهن على الإطلاق، لكنهن يعتمدن بشكل كامل على أزواجهن - ويخاطرن بفقدانه إذا انتهت المعاشرة.

إن خلفية المرأة تجعل من الصعب عليها أن ترقى إلى مستوى متطلبات المجتمع الدانمركي. لقد التحقن بمدارس أقل وحصلن على تعليم أقل من إخوانهن وأزواجهن. وهذا يعني أن عدد النساء أكبر من عدد الرجال المسجلين في أدنى مستوى من التعليم الدانمركي، والذي لا يتيح امتحان النجاح فيه الحصول على مزيد من التعليم أو الإقامة الدائمة أو المواطنة.

وقد تعرضت الأغلبية من النساء الأجنبيات للعنف من أقرب الأشخاص إليهم في مرحلة ما، ولم يُسمح للكثيرين باتخاذ قرارات مستقلة بشأن حياتهم الخاصة. هناك العديد من الأمهات العازبات في المجموعة، وحتى في العائلات التي لديها أب، تتحمل الأم دائماً المسؤولية الأساسية عن الأطفال، مما يربطهم بمراكز اللجوء والمنزل.

كما أن لديهم أيضاً خبرة عمل أقل أهمية ودخلاً مستقلاً أقل في وطنهم، مما يضعهم في وضع غير مؤات فيما يتعلق بدخول سوق العمل الدنماركي. يعاني العاملون الاجتماعيون في مراكز العمل من التحيزات التي تقول إن المرأة لا ترغب في العمل، وتقدم لهم أنواعاً أقل وأدنى من الوظائف من الرجال. ولم يكن للنسخ والتجارب والمشاريع المتغيرة من مساعدات بدء المشاريع للاجئين أي تأثير على جذب المزيد من النساء إلى العمل، وكان لها تأثير محدود فقط على الرجال. وقد أثرت المزايا المخفضة على الأمهات العازبات بشكل خاص، وفقا لمعهد حقوق الإنسان الدنمركي.

جاءت الإيرانية "شرارة" إلى الدنمارك مع ابنتها البالغة من العمر 16 عاماً، لكنها اضطرت إلى قضاء عشر سنوات في مراكز اللجوء قبل أن تتمكن أخيراً من إعادة فتح قضيتها والحصول على اللجوء.  تقول "لم تكن إيران هي التي منعت ابنتي من أن تصبح امرأة مستقلة. بل نظام اللجوء الدنماركي هو الذي منعها من القيام بذلك".

إصرار على التعلم

تجد النساء صعوبة في دخول سوق العمل، وعندما ينجحن، يحصلن على راتب أقل، ومعاش تقاعدي أقل، خاصة بسبب إجازة الأمومة - تماماً مثل النساء الدنماركيات، بالمناسبة. ومع ذلك، غالباً ما ينتهي بهم الأمر في أسفل التسلسل الهرمي، وتكون حالتهم الصحية أسوأ بكثير مما كانوا عليه

فيما يتعلق بالنساء المقيمات في الدنمرك، فإنه بحلول الوقت الذي يصلن فيه إلى سن التقاعد، تعيش 20-25% من النساء من الشرق الأوسط وتركيا تحت خط الفقر الذي تم إلغاؤه الآن، والذي ينطبق فقط على 10-15% من أزواجهن، و1% فقط من الرجال والنساء من أصل دنماركي عرقي.

في مجال التعليم، ترى شيئاً مثيراً للدهشة. عدد أقل من النساء حصلن على تعليم من وطنهن الأصلي، لكن عدد النساء اللاتي يتعلمن في الدنمارك ضعف عدد الرجال. ويلاحظ نفس الاتجاه بين الشباب والأحفاد، حيث لا تتفوق الفتيات على إخوتهن فحسب، بل تتفوق أيضاً على الفتيات الدانمركيات عرقياً. ولذلك فإن لدى النساء رغبة كبيرة في تحسين مهاراتهن ودعم أنفسهن. ولذلك، فمن الأفضل كثيراً لكل من السويد والنرويج أن تعمل على جلب النساء من الشرق الأوسط وتركيا وشمال أفريقيا على سبيل المثال - وهذا يتطلب استراتيجية طويلة الأجل تعتمد على تحسين المهارات بدلاً من الحل الدنماركي السريع المتمثل في الوظائف التي لا تتطلب المهارة في أقرب وقت ممكن.

على الرغم من أنها تتراجع في التصنيف العالمي على المؤشرات القابلة للقياس، فإن الدنمارك لديها صورة ذاتية مفادها أنها حققت المساواة الكاملة تقريباً بين الجنسين. الدنمرك حالياً في المركز التاسع والعشرين، في حين أن جميع دول الشمال المجاورة مستقرة في المراكز الخمسة الأولى. وحتى النساء الدانمركيات من أصل عرقي لم يحققن المساواة حتى الآن، على الرغم من تكافؤ الفرص في الالتحاق بالمدرسة، وحرية اختيار العمل، والزواج، وما إلى ذلك.

عندما تكون ظروف المجموعة المذكورة من النساء الأجنبيات في الدانمرك أسوأ من ذلك، ويظلن معتمدات على أزواجهن، فإن ذلك لا يشكل تعبيرا عن الرغبة في وضعهن في مكانة غير مناسبة من جانب المجتمع الدانمركي. وهو نتيجة لعدم الاهتمام بالجوانب المتعلقة بالجنسين وعدم الاهتمام بتنظيم العروض والطلبات بطريقة تتاح لهؤلاء النساء فرصة حقيقية للاستفادة منها والارتقاء بها.

توصيات الخبراء

ويحتوي التقرير على عدد من التوصيات لإجراء تحسينات، سواء في إجراءات اللجوء أو في مرحلة الاندماج أو الهدف النهائي المتمثل في أن تصبح مواطناً دنماركياً:

ـ هناك حاجة إلى المزيد من طرق الوصول الآمنة إلى الدنمارك.

ـ هناك حاجة لمراعاة سلامة النساء والفتيات في مراكز اللجوء بشكل أفضل.

ـ هناك حاجة إلى المساواة بشكل أفضل بين دوافع لجوء النساء والرجال.

ـ هناك حاجة إلى مزيد من الفحص والدعم والعلاج لضحايا العنف، ويجب أن تكون بعض أشكال العنف الجنسي مساوية للتعذيب.

ـ هناك حاجة إلى ضمان عدم بقاء أي امرأة مع رجل ضد إرادتها من أجل الاحتفاظ بتصريح إقامتها.

ـ هناك حاجة إلى تكييف التعليم الدانمركي بشكل أفضل مع النساء ورفع مستوى مؤهلاتهن لدخول سوق العمل.

ـ هناك حاجة إلى زيادة التركيز على صحة المرأة.

ـ هناك حاجة لتكييف متطلبات الإقامة الدائمة والمواطنة وفقًا لنقطة البداية والفرص المتاحة للفرد.

ـ يحتاج الوافدون الجدد من كلا الجنسين إلى تعليم الحقوق والمساواة.

ـ هناك حاجة إلى تعاون منظم مع المنظمات الإسلامية لتقديم الدعم للنساء والفتيات المسلمات اللاتي يعانين من مشاكل.

إن المساواة في المعاملة في الدنمرك تنطوي على تمييز لمجموعة معينة من النساء. إن التجاهل للجوانب الجنسانية يجعل النساء معتمدات ومستضعفات في نظام اللجوء وعملية الاندماج. لقد حان الوقت لكي تغير الدانمرك سياستها عندما يتعلق الأمر بالنساء اللاتي لجأن إلى هذا البلد والذين لم يحظوا بحياة مميزة مثل الدنمركيين. ليس رجالهم وحدهم هم المشكلة لهن. لا يرغبن في العودة إلى المنزل بمفردهن والعيش على أموال الرجل، لكنهن لا يستمتعن أيضاً بطلب سبع وثلاثين ساعة من التدريب غير مدفوع الأجر في أحد المستودعات، أو التهديد بفقدان تصريح إقامتهن إذا طلقن من أزواجهن. تطلب النساء المعلومات والعروض ذات الصلة والدعم لجعل الحياة اليومية ناجحة، لذلك يشعرن بالسعادة لبذل جهد كبير ويقبلن بفرح وفخر الفرص التي لم تتح لهن في بلادهن الأصلية.

***

د. حسن العاصي

باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمرك

القيمة التشخيصية بين الفن التقليدي والفن الحديث

فرناند ليجيه Fernand Le’ger (1881 – 1955) رسام ونحات وسينمائي فرنسي وهو احد اهم مؤسسي المدرسة التكعيبية، رغم ان اسلوبه تميز بالتركيز على الخط المنحني والسطوح المحدبة والمقعرة اكثر مما هو على الخط المستقيم والزوايا الحادة والسطوح المستوية. ولذلك فقد تميزت بعض اعماله بمجسماتها الاسطوانية والانبوبية، مما دعى بعض النقاد الى تسمية اسلوبه المتفرد بـ Tubism بدلاً من Cubism.

في هذا النص حاولت ان استقي اهم الافكار التي طرحها هذا الرسام الهام حول معنى وضرورة الفن الحديث في بواكير ظهوره كاتجاه ومنهج فنيي، وباعتبار ان ما سطره هذا الفنان اصبح من اصول النصوص التنظيرية في الفن. جاء ذلك في مقالته الموسومة "القيمة التشكيلية في الفن التشكيلي" المنشورة في مجلة Montjoie عام 1913. وقد اعيد نشر المقالة في كتاب "الفن والنظرية 1900-2000" الذي حرره چارلس هاريسن وپول وود، كأ وسع انثولوجيا تخص افكاراهم المهتمين بالفن وتطوره من نقاد ورسامين وصحفيين خلال قرن من الزمن.

من البدء، يركز ليجيه على ما أسماه بواقعية التصور والادراك Realism of conception ويميزها عن الواقعية المألوفة لدينا والتي يسميها الواقعية المرئية Visual realism التي نراها ونلمسها في محيطنا والتي جسدتها اعمال مئات الرسامين التقليديين عبر السنين. فهو يعتقد ان الفن الحديث، وبالذات المدرسة التكعيبية فيه تحملنا على تصور ما هو واقعي رغم ان ما نراه على سطح الكانفس لا يحاكي بالضبط ما هو خارجه من اشياء. وانها تجسد ذلك الادراك بواقعية الاشياء من خلال علاقات التناغم والتضاد والتناقض فيما بين العناصر الصورية عبر انشاء اللوحة، ومن خلال تكسير المنظور وتجزئة المشهد الذي يعبر عن طبيعة وحال الحياة المعاصرة.

ويؤكد ليجيه ان قرونا من الفن التقليدي عوّدت المتلقي ان يقيّم العمل الفني بقدر ما يستطيع ذلك العمل من محاكاة ما هو موجود حولنا باكثر مايمكن من الدقة في التشخيص، واقرب ما تجسده اللوحة من الصفات الفيزياوية للاشياء حسب ما تراها العين خارج اللوحة. الا ان الامر اختلف في الفن الحديث. فلم يعد ذلك النقل الحرفي للواقعية المرئية هو المعيار الفني لقيمة العمل، ذلك ان قيمة العمل التشكيلي الآن لا تشترط المحاكاة أو بالاحرى لم تعد دقة التشخيص هي المعيار الامثل لفنية العمل. ويشدد على ان هذا التطور في التقييم ينبغي ان يكون بمثابة العقيدة الثابتة في الفن التشكيلي المعاصر، بل من بديهيات فهمه وتذوقه.

ويعتقد ليجيه بأن الواقعية المرئية تتجسد عند الفنانين التقليديين عن طريق تحقيق الترتيب المتزامن Simultaneous ordering للعناصر التشكيلية الاولى، الخط والفورم واللون، هذا التزامن الذي يضمن سلامة التشخيص التشكيلي وبدونه لا يمكن لأي عمل ان يدعي كلاسيكيته الخالصة. حيث ان اي اخلال في هذا التزامن او اي نقص في واحد من تلك العناصر سيفسد حال العنصرين الآخرين ويخل بالصفة التشخيصية التي تؤمن المحاكاة الدقيقة للواقع المرئي. كان ذلك شرطا اساسيا لتحقيق القيمة المطلقة Absolute value للعمل الفني في زمن ماقبل الانطباعية، ولم يحيد عنه اي فنان مبدع يسعى لبلوغ تلك القيمة الفنية المطلقة لعمله. ولكن جاء الانطباعيون وقلبوا الطاولة فرفضوا شرط القيمة المطلقة وابدلوها بالقيمة النسبية Relative value، فكان ذلك بمثابة انطلاق الشرارة الاولى للفن الحديث. يمضي ليجيه الى الجزم بأن الانطباعيين هم المؤسسين الأوائل لما تطور بعدئذ فاعطانا الفن الحديث باشكاله المختلفة. ذلك انهم رفضوا الانصياع لمحاكاة الواقع الفوتوغرافية وعمدوا الى الغاء شرط وحدة وتناغم العناصر التشكيلية الثلاثة فأعلنوا، ضمناً، ان نهجهم يركز على عنصر اللون فقط ويشتغل على ديناميته الفيزياوية. وبذلك لم يعد الانشغال بالعنصرين الآخرين، الخط والفورم مهما بقدر أهمية اللون لديهم. كما لم تعد وحدة العناصر التي لا تنفصم ضرورية لتحقيق القيمة الفنية. ولا ضير ان يؤول هذا الى الاخلال بالتشخيصية الدقيقة والابتعاد عن الواقعية المرئية.

هذا يقودنا ايضا الى ان موضوع العمل الفني لم يعد مهما ايضا، حتى في ثيمات الحياة الساكنة (الجامدة) Still life. فمثلا مشهد تفاحة خضراء موضوعة على قطعة قماش حمراء كان يشير في ما قبل الانطباعية الى العلاقة بين شيئين وعلاقتهما بما يحيط بهما من مشهد ومن نواحي عديدة كالمنظور ومساقط الضوء والوضعية والخلفية والانشاء. أما لدى الانطباعيين فلا يتعدى ذلك سوى الاهتمام بعلاقة تونات لوني التفاحة والقماش وتونات ما يحيط بهما وبموجب ما تقتضيه كمية الضوء في المشهد. 

ويعزو ليجيه ذلك التحول التاريخي في فهم الفن الى الانطباعيين الاوائل وبالذات سيزان Cezanne ومانيه  Manet اللذين يعدّهما بمثابة الرجال الذين اشعلوا فتيل الانتفاضة وقادوا الثورة في المسار الصحيح الذي يحمل روح العصر. ويؤكد انها ثورة وردة فعل تاريخية وليست امتداد او تطور لما كان قبلهما. ويستشهد بفكرة ان أي تحول تاريخي لاي حركة عظيمة يتطلب ثورة تقلب الامور على عقب بدلا من الاقتناع بسلسة اصلاحات يفترض فيها ان تهندس التغيير التدريجي "Revolution vs. evolution ". وفي هذا الصدد، لا يرى ليجيه ان الجمهور يعي هذه الثورة، بل يلاحظ ان اغلب الجمهور الفني يعتقد ان ما يشهدونه من فنون حديثة ماهو الا موجة ثقافية عابرة ستتكسر وتنحسر، وانها مسألة زمن ينتظرونها كما ينتظرون عبور موضة غريبة. وهذا بالطبع ما لا يليق بهذه الثورة التي تقدم فنا امتلك كل مقومات بقاءه وازدهاره، بل انه سيصبح الفن المهيمن لزمن قادم طويل. وما علينا الا ان نصيغ له مفهوما كاملا وشاملا يثبّت خطاه ويعزز مسيرته كما فعل من سبقونا في عهودهم المنصرمة.

وهنا يعترف ليجيه بانه ليس من السهل ان يتخطى الفن ما اعتاد الناس على رؤيته وفهمه كفن. وان ترسيخ هذا التحول كفن جديد لا يقتصر بالتأكيد على شجاعة او حماقة فنان معين منفرد يأخذ على عاتقه تحجيم دور التشخيصية وتقليل قيمتها لدى الجمهور بتحطيم المنظور والغاء الموضوع وفصل الروابط العاطفية للمشهد والاتيان بعناصر جديدة غير وثيقة الصلة بما هو مألوف! ان الامر، فيما اذا اردنا التعمق في حقيقته، عبارة عن انعكاس حتمي لتغير الواقع والحاجة الى التجاوب والانسجام مع معطياته وتغيراته. بل يمضي للقول انها مسألة ألفة روحية ومصاهرة وثيقة مع روح العصر الجديد بكل ما يتميز من سرعة وتجزئة وتشظي وانحسار عاطفي ووجداني.  يضرب ليجيه مثالا فيقول ان الطراز المعماري الذي كان شائعا وشعبيا في القرن الخامس عشر كان الطراز القوطي Gothic ولكن كل شئ قد تبدل في نهاية العصور الوسطى عندما اخترع گوتنبرگ آلة الطباعة التي آذنت ببدء عصر صناعي وتكنولوجي جديد انعكس على التصميم المعماري وبقية الفنون.

وهكذا فان احداثا كبرى كاختراع التصوير الملون والافلام المتحركة وتزايد شعبية مختلفة ونمو ذائقة جديدة للمسرح والسينما ساعد على بدء عصر جديد يتطلب وسائل تعبيرية مناسبة ومختلفة عما سبق. ووسائل التعبير الجديدة قد لا تستخدم العناصر القديمة كالموضوع والحبكة العاطفية وغيرها مما كان عمادا لوسائل التعبير السابقة. فلو تأملنا التصوير الفوتوغرافي مقارناً برسم البورتريه، على سبيل المثال: فالتصوير يتطلب جلسة واحدة قياسًا بعدة جلسات امام رسام البورتريه، اضافة الى ان الكامرة قادرة على ان تعطي شبها مضبوطا دقيقا وتفاصيل كاملة وبكلفة أقل. وهذا ما حتم على حرفة رسم البورتريه ان تذوي وتتضاءل في عصر اكتمل فيه بديلها الافضل.

ويختتم بالقول ان لكل فن زمنه، وعلى اي فن ان يتحرك ضمن فضاءه الخاص ويعمل بموجب وسائله التعبيرية التي تتيحها معطيات الواقع الحضارية والتكنولوجية. على ان المفهوم الحديث للفن ينبغي ان يؤكد على حقيقة انه لا يعني التجريد العشوائي العابر انما التعبير الكامل عن الاجيال الحاضرة والزمن الذي تعيشه.

***

ا. د. مصدق الحبيب

قد يكون عنوان المقال: «الورديّ.. مِن الإماميَّة إلى الزّيديّة» مثاراً للتساؤل، وخصوصاً عالم الاجتماع العِراقيّ عليّ الورديّ لم يكن له شأن بانتماء مذهبي أو عقيدة دينيّة، صحيح أنّه مِن أُسرة شيعيّة إماميَّة، ومِن سكنة الكاظميّة الشّيعيّة، إلا أنّه كان ناقداً رافضاً للجدل المذهبيّ العقيم، في كتبه.

فكان مِن الغرابة أنْ يكتب مقالاً عنوانه «لماذا صرتُ زيديَّاً، عندما لعنني النَّاس وشتموني»، نشره في مجلة «الأسبوع» (العدد 11/1957)، ومِن مقدمة المنشور نجده جاء تعليقاً على «الأسبوع» نفسها، عندما أجرت معه مقابلة عنوانها: «حوار على الدَّراجة مع علي الوردي»، وفيها سأله المحاور خليل الشّيخ عليّ: «إذا كان لا يزال كأحد أفراد الزّيديَّة»(مجلتا الأسبوع وقرندل: 10/ 1957).

قال الوردي في مقاله: «سألتني مجلة الأسبوع في العدد الماضي عن عقيدتي الدينية، حينها بأني زيديّ العقيدة، وأني من أتباع الإمام زيد بن عليّ، وقد أغضب هذا الجواب جماعة» (مجلة الأسبوع). على اعتبار أنّ هذا الإعلان كان تمرداً على مذهب الأسرة. ثم وضح ذلك قائلاً: إن اعتقاده بالزّيدية بشروطه هو، لا بشروط المذهب وتطوراته، «ولستُ أدعي بأن مذهب زيد خالٍ مِن العيوب، إذ إنَّ مِن المستحيل على أي إنسان أنْ يأتي بالكمال في شيء».

بطبيعة الحال، الزيدية لا يعتبرون زيداً معصوماً، لكن سيكون الغضب أشد لو قالها الورديّ في مذهب أبويه، حيث عصمة الأئمة. كان الوردي، حتى عام (1957) يقول: «الحقيقة التي لا أتردد عن إعلاني لها، هي أنني مازلتُ أعتبر عقيدة زيد بن عليّ، هي العقيدة الوسطى في الإسلام» (الأسبوع وقرندل).

لم نقرأ له بعدها عن انتماء لهذا المذهب أو ذاك، ففي الوضع العراقي لا يليق بالمثقف، مِن مستوى الوردي، حشر نفسه في مذهب دون آخر، وخصوصاً في الخلافات الكبرى، التي تُهدد الوطن ككل. فمِن رأيي في حدة الخلاف، الفاشي بين النّاس، أن يكون المثقف في الجدل سُنياً بين الشّيعة، وشيعياً بين السُّنة، كي يخفف مِن وطأة الاحتقان الطائفي.

إنَّ ظاهرة إعلان الورديّ اعتناق الزّيديّة، وهي ليست شائعة بالعراق، تُبنى عليه أفكار مهمة، ومنها أن الزيدية- مثلما كشف الورديّ عنها- تتحلى بوسطيّة، خصوصاً في الوضع العراقي، فزيد بن عليّ (قُتل: 122هـ) يعترف بخلافة الشّيخين، كواقع حال لا يمكن تجاوزه، ويعتبرهما مِن قادة الإسلام الأوائل، وثانياً، وهذا لم يذكره الورديّ، ربّما كان تجنباً للإثارة أو لم يطلع عليه، وهو أن الزّيديّة حلت مسألة خلاف الإمامة حلاً واقعياً، فالماضي لا يعود، والضَّغائن ستستمر تدمر الأتباع جيلاً بعد آخر، لذا أجاب زيد، عندما سئل عن الوصية لجده علي بن أبي طالب (اغتيل: 40هـ): أنّها إمامة العِلم والفقه، وليست السّيف والسِّياسة، فعندما أتاه المنصب السّياسي تولاه وأصبح خليفةً (انظر مصدرين زيديين مهمين: الحميريّ، الحور العين. ابن المرتضى، المُنية والأمل في شرح الملل والنِّحل). عندما أعلن الورديّ تحوله، قصد الامتعاض مِن الواقع المذهبيّ، فاندفع إلى الوسطية، وقد حسب التصريح بما اعتقد لا يغضب أحداً، فزيد ابن الإمام الرابع عند الشيعة، وفقهه منفتح على المذاهب كافة، وخصوصاً المذهب الحنفيّ(أبو زُهرة، الإمام زيد).

ظلّ الوَّرديّ (وهذا الموقف 1957) مع آراء الإمام زيد، وليس مع المذهب في تحولاته، والقول له: «كما حادت جميع الملل والنِّحل عن مبادئ مؤسسيها الأولين» (مجلتا الأسبوع وقرندل). غير أنَّ الورديّ لم يعش زمن ظهور الحركات التي ظهرت باسم زيد، وما جرى في العشرين سنةً الماضيّة، مِن كراهيات ومقاتل بعقر دار الزّيَّدية باليمن، وما حصل ببلاده. أقول: ومع غرابة الأمر، لمَن عرف وقرأ الورّديّ، كانت تجربةٌ لعالم اجتماع، دخوله المختبر بنفسه.

***

د. رشيد الخيون - كاتب عراقي

تمهيد

يتم الاحتفال باليوم العالمي للترجمة وذلك للدور الكبير الذي تضطلع به في مستوى نقل المعارف والمعلومات والخبرات من مجتمع الى اخر وللوظيفة الاتصالية التفاعلية التي تقوم بها في مجال التعارف والتثاقف والتخاصب بين اللغات والهويات والخصوصيات والابواب التي تفتحها للتلاقي بين الأفراد والمجموعات والشعوب. ولكن هذه العملية اللغوية تصطدم بالعديد من الصعوبات والعراقيل وتعاني من التشكيك في المصداقية والأمانة والموثوقية في عملية النقل للمعلومات والأفكار والمعاني والقيم من لغة الى أخرى.

الترجمة

"1. النسبية والعقلانية الكونية:

عندما يواجه المترجم نصًا، عليه أن يأخذ في الاعتبار أن منتج ترجمته موجه إلى أشخاص يأتون من خلفية مختلفة عن خلفية الجمهور المستهدف الأصلي. عندما نتحدث عن خلفية مختلفة، فإننا نشير إلى أشخاص لهم تاريخ مختلف، ويشاركون في ممارسات اجتماعية مختلفة ويتحدثون لغة مختلفة. يبدو أن الإنسان لا يستطيع أن يخترع أي شيء لا يستطيع تصوره. في الفلسفة، نواجه منظورين يمكن من خلالهما النظر في الترجمة. الأول هو النسبية. النسبية هي منظور فلسفي يعتبر أن ممارستنا المعرفية للفهم تمت تصفيتها من خلال طريقة تفكير مفاهيمية محددة ثقافيًا. ولذلك، فإن العوامل البيولوجية أو الجينية المشتركة، مثل العرق، ليست ذات أهمية في تكوين مخططات ومفاهيم المعرفة مقارنة بتلك العوامل التي توفر البيئة المحيطة التي تطور فيها الفرد. باختصار، يمكن القول إن الإنسان يولد بدون هذه المخططات المعرفية، وإن الثقافة هي التي تخلقها وتصوغ تطوره. يمكننا أيضًا أن نفكر في الترجمة من منظور ثانٍ مخالف، وهو منظور العقلانية العالمية. تقترح العقلانية العالمية الحتمية البيولوجية والنفسية. تدافع هذه النظرية عن النزعة القومية، التي تجانس جميع الممارسات والمفاهيم البشرية، في حين أن التنوع سطحي نسبيًا وذو أهمية ثانوية. في علم اللغة، أحد دعاة العقلانية العالمية هو تشومسكي، الذي اقترح في الخمسينيات نظرية تدافع عن الطابع الفطري لملكة اللغة. وفقا لتشومسكي، فإن أكثر من 4000 لغة موجودة تقدم تركيبا مماثلا بشكل مدهش، على الرغم من اختلافاتها الصوتية والصورية. تسمح هذه الحقيقة بترجمة اللغات من لغة إلى أخرى. إن اختيار أحد هذه المنظورات يعني وجود تصور مختلف تمامًا لوظيفة المترجم. من منظور العقلانية العالمية، يجب على المترجم أن يتتبع الواقع المكشوف في نص ما إلى نص آخر، ويقتصر على مجرد نقل واحد. يتشارك قارئ الترجمة في خصائص بيولوجية ونفسية مشتركة مع قارئ النص الأصلي. لذلك، من منظور العقلانية العالمية، لا ينبغي أن يجد المترجم صعوبة في تفسير النص الهدف، حتى لو كان النص الهدف يحتوي على إشارات إلى بيئة متميزة ثقافيًا. في الواقع، فإن الاختلافات في السياق ستكون محدودة بالتركيبة البيولوجية والنفسية لقارئ النص المصدر وقارئ النص الهدف. في هذه الحالة، سيتم تقليص عملية الترجمة بشكل أساسي إلى عملية لغوية. يختلف تمرين الترجمة من منظور النسبية عن نفس التمرين من منظور العقلانية العالمية في نقطتين. أولاً، على الرغم من أن المرء يقبل أن القراء المحتملين لهذين المنتجين يشتركون في خصائص بيولوجية ونفسية مشتركة، إلا أن الحتمية التي تمارسها هذه الخصائص على المستوى المعرفي هي موضع شك. لذلك، يتم التركيز على ما هو مشترك بين القراء، وليس على الاختلافات، واستراتيجيات التفسير المتميزة التي تنشأ كعواقب للسياق الثقافي المختلف. بهذا المعنى، يقوم المترجم بالتزام أكبر مع قارئ النص الهدف؛ وهذا يعني قول نفس الشيء مع رموز مختلفة، مع الحفاظ على التأثير الأسلوبي للأصل. لن تكون الترجمة مجرد مسألة لغويات. ينبغي للمرء أن يبدأ ليس فقط في ترجمة الكلمات، بل أيضًا المفاهيم وحتى السياقات.

2. مشكلة التكافؤ

أثارت الترجمات التي تستخدم المنظور النسبي جدلاً ساخنًا في العشرين عامًا الماضية. والسؤال الذي يطرحه أولئك الذين لا يؤيدون هذا النوع من الترجمة هو "هل نستمر بنفس النص؟" هذا السؤال، إذا ما أخذناه إلى أقصى الحدود، من شأنه أن يقودنا إلى الأسئلة الميتافيزيقية والما وراء النظرية للترجمة، لأنه قد يتطلب إعادة تعريف عملية الترجمة بأكملها. المشكلة التي نواجهها هي مشكلة التكافؤ في الترجمة. يجب أن يكون النص الهدف والنص المصدر متساويين في الكلمات، وفي الرسالة، وبقدر الإمكان، في الهياكل النحوية. سيكون الوضع المثالي هو نقطة وسيطة حيث يُلزم المترجم نفسه بدقة عالية على المستوى اللغوي طالما أنها لا تتعارض مع فهم النص الهدف. وهذا من شأنه أن يتفق مع نظرية بيرنارديز (1995) حول التنظيم الذاتي للاتصالات. ووفقا لهذه النظرية، فإن مرسل الرسالة، المترجم في هذه الحالة، سوف يضبط المعلومات وفقا لضرورات المتلقي والعوامل السياقية الأخرى في عملية التنظيم الذاتي التي لها ميل نحو حالة من الإنتروبيا أو الانتروبيا. حالة التوازن. يمكن فهم التوازن هنا على أنه النتيجة المثالية حيث تتمتع الرسالة بأقصى قدر من الفهم مع الحد الأدنى من التغيير في العناصر والهياكل اللغوية.

3. المدارس الألسنية المختلفة وأثرها في الترجمة:

ولا ينبغي لنا أن نبقى مدركين لحقيقة أن انتشار المدارس اللغوية المختلفة، ومن فترات زمنية مختلفة، كان له دور في اختلاف وجهات النظر حول الترجمة. لذلك، في إطار البنيوية، يميل المرء إلى رؤية اللغة كمجموعة من العلاقات، من الأنظمة الفرعية المترابطة. ووفقا لهذه المدرسة الفكرية، يتم تعريف كل عنصر وفقا للدور الذي يلعبه في هذه المجموعة من العلاقات. نظرًا للأهمية التي أظهرها هذا النموذج اللغوي منذ ثلاثينيات القرن العشرين وحتى وقت طويل من القرن، فلا عجب أن تركز الترجمة أكثر على البنية اللغوية وكيف يمكن الحفاظ على العلاقات البنيوية للنص المصدر في النص الهدف. أحد المدافعين عن التكامل الهيكلي كان كارتفورد (1965)، الذي ميز بين الترجمة المرتبطة بالرتبة والترجمة غير المحدودة. الترجمة المرتبطة بالرتبة هي طريقة للترجمة تحافظ على التكافؤ على مستوى الكلمة، أو حتى الصرف. وفقًا لكارتفورد، فإن الترجمة المرتبطة بالرتبة هي الطريقة الوحيدة الممكنة للاستخدام بين اللغات التي لها هياكل متشابهة على المستوى المورفولوجي والنحوي. وبقدر ما يتعلق الأمر بالترجمة غير المحدودة، يمكن العثور على التكافؤ في مستويات أكثر تعقيدا مثل الجمل. ومع ذلك، في السبعينيات، مع ظهور تيارات فكرية جديدة، مثل اللغويات المعرفية، ظلت النماذج مثل البنيوية في وضع هامشي، باستثناء الدراسات الكلاسيكية واللاتينية واليونانية. تم إدخال عوامل جديدة في دراسة اللغويات. ومن بينها الأنشطة المعرفية المختلفة مثل الإدراك والرؤية والتصور؛ بالإضافة إلى ذلك، اكتسبت جوانب مثل الحركة والتفاعل بين الجسم والفضاء الاهتمام. كما أن ظهور علم الأعصاب في السبعينيات وإنجازاته الأولى ساهم في ازدهار هذه المدرسة اللغوية الجديدة. يولي اللغوي المعرفي أهمية كبيرة لتكوين مخططات مفاهيمية خاصة بالمحيط الثقافي لمتحدثي اللغة. هذه الخصوصية هي التي تنتج فئات مفاهيمية مختلفة في أنظمة المعرفة المتنوعة مثل اللغة.

4. المساواة والاختلاف بين الثقافات: منظور أنثروبولوجي:

عندما نتحدث عن الخصوصية، فإننا نتطرق إلى السؤال الأنثروبولوجي حول إلى أي درجة توجد أرضية مشتركة بين الثقافات المختلفة أو بين المتحدثين بلغات مختلفة. من الواضح أننا لا نستطيع أن نفترض أن أي نظام قابل للترجمة إلى نظام آخر. لا يمكن تفسير نظامين مختلفين تمامًا ولا يوجد بينهما أي شيء مشترك بشكل كامل، أحدهما من حيث الآخر. من وجهة نظر الدراسات الأنثروبولوجية، لا يمكن لأفراد عالم معين أن يفهموا عالمًا آخر إذا كان مختلفًا تمامًا عن عالمهم. وقد أشارت هيلاري بوتنام (1981) إلى ذلك عندما تحدثت عن مبدأ المحبة. وفقا لمبدأ الإحسان، يشترك البشر في عدد كبير من المفاهيم، والفرق بينها هو الإدراك. ولذلك، فإن فكرة المفهوم سيكون لها طابع عام والطريقة التي يتم إدراكها بها سوف تتوافق مع التصورات المحددة المتميزة التي تحدث في كل ثقافة، أو في كل فرد، لمفهوم معين. وبطبيعة الحال، فإن التصورات المختلفة التي يمكن أن تكون لديك حول مفهوم معين، لا تظهر ببساطة بين الأفراد الذين تفصلهم ثقافة ما. يمكننا أيضًا التحدث عن المفاهيم التي توجد بها تصورات مختلفة في أوقات مختلفة. وهذا من شأنه أن يقودنا إلى الحديث عن نوع من الترجمة ليست بين اللغات أو بين الثقافات، بل بين الزمان. على سبيل المثال، تصور الحب ليس هو نفسه بالنسبة لأوروبي حضري من القرن الحادي والعشرين كما هو الحال بالنسبة لشخص من بلاط القرون الوسطى من أي مدينة أوروبية. ومع ذلك، في الوقت الحاضر يمكننا شرح الأفكار والمعتقدات والطقوس وما إلى ذلك، التي دعمت أشكال الحب لدى السكان في البلاط الأوروبي في العصور الوسطى، وهو ما يتضمن نوعًا من الترجمة على المستوى السيميائي وقد يرتبط بمسائل مثل التناص. على أية حال، إذا كان لا يزال بإمكاننا تفسير ممارسات أو سلوكيات معينة على أنها مرتبطة بالحب على الرغم من القرون التي مرت بين نموذجي مثالنا، فذلك لأنه على الرغم من وجود مفاهيم مختلفة للحب، لا يزال لدينا مفهوم واحد فريد. ومن الواضح أن هذا المثال سيقودنا إلى إعادة تعريف مفهوم الثقافة، والنظر فيما إذا كانت نفس الثقافة في مرحلتين مختلفتين من تطورها تشكل ثقافتين مختلفتين. ولذلك، إذا شرح أحد عصرنا، في أوروبا، ما يعنيه الحب لشخص من بلاط أوروبا في العصور الوسطى، فإنه يقوم بنوع من الترجمة. وبنفس الطريقة، لا يستخدم عالم الأنثروبولوجيا فقط موقعًا خارجيًا يساهم من خلاله بمعرفة علمية تسمح للمترجم بإعادة النظر في الإجراءات المعتمدة للقيام بعمله. عالم الأنثروبولوجيا هو أيضا المترجم. يدرس عالم الأنثروبولوجيا الممارسات الثقافية والتواصلية واللغوية لشعب ما حتى يتمكن لاحقًا من وصفها لأفراد غريبين تمامًا عن هؤلاء الأشخاص. ولتحقيق هذا الغرض، يجب عليه أن يصف الممارسات المختلفة وتحت أي سياق تحدث هذه الممارسات، بطريقة يمكن أن يفهمها المتلقي المستقبلي. سيصبح هذا الوصف أساسًا للمخططات المفاهيمية الخاصة به والتي يفسر من خلالها هذه الممارسات. وهذا يدفعنا مرة أخرى إلى الإصرار بالتشابه التي تحدث بين الشعوب البعيدة جغرافيا وثقافيا. إذا لم يكن الأمر كذلك، فلن نتمكن من فهم التنظيم الاجتماعي أو الطقوس أو الممارسات العامة للثقافات المختلفة عن ثقافتنا، ووفقًا لفولي ، "لا يمكن لعلم الإنسان أن يوجد كنظام". كما تظهر هذه التشابهات في مظاهر الإبداع والحرية العالية كما في المظاهر الفنية. لذلك، في الأفلام أو الأدب، عندما يحاول المرء سرد أحداث وقعت في عوالم خيالية أو غير حقيقية، بما في ذلك الكواكب الأخرى، يتم إعطاء الشخصيات خصائص أو سلوكيات تشبه الإنسان. يبدو أن الإنسان لا يستطيع أن يخترع أي شيء لا يستطيع تصوره. وينطبق هذا على الترجمة من النص المصدر إلى النص الهدف لأنه، وفقا للمنظور الذي نشير إليه، فإن إمكانية الترجمة هي عرض للتشابه الموجود بين عالمين. إن مهمة المترجم هي العثور على أوجه التشابه هذه واستخدامها وفقًا لذلك لصالح قرائه.

الخاتمة

تعتبر الترجمة من أقدم الممارسات الإنسانية بشقيها المكتوب والشفهي. مما لا شك فيه أن الترجمة ضرورية لجعل التواصل بين الأشخاص من مختلف الثقافات ممكنًا. وبقدر ما إذا كان ينبغي أن يتمحور النقاش حول الجوانب الشكلية للنص أو محتواه، فيجب أن يأخذ النقاش في الاعتبار الطابع الوظيفي البحت للترجمة. لا تحدث جميع الترجمات في نفس السياق ولا يكون لها نفس الهدف. تتطلب هذه الحقيقة تنوعًا كبيرًا من محترفي الترجمة لدرجة أنها تتطلب في كثير من الأحيان تخصص المترجم. ومن جانبها، يمكن للعلوم الاجتماعية المختلفة، من الناحية النظرية، دراسة العوامل التي تشارك في عملية الترجمة. تسمح هذه المساهمات من مجالات مختلفة للمترجم بالتفكير في مهمة الترجمة من وجهات نظر مختلفة غير مستكشفة."

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

..............................

* بواسطة كارمن جوارددون أنيلو،2003

المصادر والمراجع:

Bernárdez, Enrique (1995) Théorie et épistémologie du texte, Madrid : Cátedra.

Cartford, John C. (1965) Une théorie linguistique de la traduction : un essai sur la linguistique appliquée, Londres : Oxford University Press.

Chomsky, Noam (1968) Langage et esprit. Édition augmentée. New York : Harcourt, Brace, Jovanavich.

Foley, William A. (1997) Linguistique anthropologique, Malden, MA : Blackwell.

Jakobson, Roman (1959) « Sur les aspects linguistiques de la traduction », dans R. A. Brower (éd.) On Translation, Cabridge, MA : Harvard University Press, pp. 232-9.

Putnam, Hilary (1975) Esprit, langage et réalité, Cambridge : Cambridge University Press.

قد لا أبالغ لو قلت إن هذه الأيام هي أفضل ما مرّت به الثقافة السعودية منذ زمن طويل. أحتمل أن بعض الناس من الجيل السابق لي سيبتسم قائلاً: إن النصف الأول من ثمانينات القرن الماضي هي الحقبة الذهبية للثقافة، فهي التي شهدت أبرز المعارك الثقافية، وأرست حجر الزاوية الأبرز في تاريخنا الثقافي، بين التقاليد والحداثة. إنها الفترة التي انكسر فيها طوق التقاليد، ليس في المدن الكبرى والمجتمعات المعروفة بالانفتاح، بل في المجتمع السعودي كله، أقصاه وأدناه.

حسناً. أعرف أن هذا صحيح. لكن دعنا نستعرض باختصار معنى الثقافة، كي يتضح لماذا أرجّح المرحلة الحالية على غيرها.

ينصرف لفظ الثقافة إلى ثلاثة معانٍ كبرى، هي:

1- المعارف المكتوبة والمسموعة التي وُضعت على نحو منظم، واختُزنت في وسائل حفظ معيارية، كالكتب والأشرطة والخوادم الرقمية. وتشمل العلوم بمختلف حقولها، والبرامج والمعادلات الرياضية، والآداب بأنواعها والفنون المرئية كالأفلام واللوحات والخرائط وأمثالها.

2- ما تخزنه الذاكرة الفردية والاجتماعية من قيم وأعراف وقواعد عمل، هي - في الغالب - نتاج للمعارف الموروثة والتجربة التاريخية للمجتمع. وهي تتفاعل كثيراً أو قليلاً، مع النوع الأول فتعطيه وتأخذ منه. تتشكل هذه الذاكرة على صورة انطباعات وقيم وقناعات مستقرة، وتسهم بقدر كبير في تشكيل موقف الفرد والجماعة من البشر والأشياء ضمن نطاقهم الحيوي. هذه الذاكرة، التي نسميها أيضاً «الذهنية» أو «الخلفية الذهنية» أو «العقل الجمعي» مسؤولة عن معظم السلوك العفوي للإنسان، وهي أيضاً مسؤولة عن الأعم الأغلب من مواقف المجتمع تجاه ما يجري من حوله.

3- الطريقة التي يعبّر بها الناس عن ذواتهم وعن آرائهم ومواقفهم وتجليات حياتهم، في الفرح والحزن، وفي العلاقة مع الغير ومع البيئة الطبيعية في نطاقهم الحيوي. ويدخل ضمنها اللغة (واللهجات) والفولكلور والأزياء وطرق الاحتفال والعزاء، كما تدخل فيها نظم البناء والعلاج ومفاهيم الجمال والتجميل، وكل عرف أو تقليد يمثل مظهراً من مظاهر الحياة التي يختص بها المجتمع ويتمايز بكيفيتها عن غيره.

المعاني السابقة تكشف عن أن الثقافة ليست مجرد أفكار يتداولها الناس، وليست مجرد تعبيرات عن قضايا حياتية بعينها، بل هي الوسيط الذي يربط الإنسان بكل شيء آخر. إنها أقرب إلى ما يعرف في عالم الإلكترونيات بالبرامج التي تربط جهازاً بجهاز آخر، فتمكن الجميع من التفاعل والعمل بشكل متوائم. الثقافة إذن هي السوفتوير software أو الوسيط الذي يمتد من عقل الإنسان إلى كل شيء آخر، فيجعلها قابلة للتفاعل.

لأن الحياة متنوعة، فان كل مجتمع يتفاعل مع بيئته الطبيعية ومحيطه الإنساني على نحو معين، فيؤلف تجربة حياتية مختلفة كثيراً أو قليلاً عن تجارب المجتمعات الأخرى. إن مجموع التجارب المختلفة ينتج تاريخاً مختلفاً. ومن هنا يأتي التنوع الاجتماعي في التعبير عن الذات، أي محتويات المعنى الثاني.

في الأزمنة الماضية، كان الاحتفاء بالثقافة يعني بصورة محددة جانبين، هما الأدب ولا سيما الشعر، والمعارف الدينية. وهما جزء من محتويات النوع الأول. وكان النوع الثالث، ولا سيما الفولكلور والفنون يقام في نطاقات ضيقة جداً. بل أستطيع الادعاء أن بعض الأطراف كان مهتماً بحجب التنوع الذي تتميز به المملكة، وإظهار وجهها الثقافي أحادي اللون، لا يعبر عن أي بيئة من البيئات الاجتماعية الكثيرة فيها.

في هذه الأيام تعود الثقافة إلى دورها الطبيعي كتعبير عن حركة الحياة ذاتها، بما فيها من تنوعات وتموجات وألوان. نشهد الفولكلور المحلي يعود للواجهة بعد غياب طويل، كما نشهد عودة المسرح والسينما والموسيقى والتشكيل. الأزياء والطبخ وأنظمة البناء التقليدية، تستعيد مكانتها كتعبير عن ثقافة المجتمع.

ثمة عنصر في غاية الأهمية، أشعر بأنه ما زال بعيداً عن الاهتمام وهو البحث العلمي والنشر العلمي. لا تنمو الثقافة ولا يتقدم المجتمع دون حياة علمية نشطة. الحياة العلمية تعني إنتاج العلم وترجمة العلوم ونشرها وجعلها متاحة لعامة الناس صغاراً وكباراً.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 المف_قيه [1]

تستوقف الباحث والقارئ للفكر الإسلامي، ظاهرة غريبة، قديمة وحديثة، تتمثل في حضور مفكرين أو لنقل مثقفين، تميزوا باستيعاب وهضم فكر زمانهم ومعارف عصرهم الفلسفية والمنطقية والعلمية، غير أنهم، بدل الاستثمار فيما استوعبوا وهضموا، عملوا على تحويل رصيدهم الفكري والمعرفي إلى أداة خدمة؛ أداة لخدمة ما لم يوضع له الفكر والفلسفة والعلم في الأصل، وهو الإنتاج والإبداع، وما يحققه من رقي بالحياة، والارتقاء الروحي بالإنسان.

ولا يعني تحويل الفكر والمعرفة إلى أداة سوى إخصاؤهما وحرمانهما من أن يتطورا، وان يتم انتاجهما وابداعهما في الثقافة التي يوظفان في ميدانها بتلك الصفة. يتفق المثقفون-الظاهرة في حقل اشتغالهم، ووظفوا في سبيله الفكر والمعرفة إلى مجرد أدوات خدمة، هو السلفية التراثية التي تم تديينها في ظروف الصراع على السلطة والنفوذ بين مكونات المجتمع العربي الإسلامي القديم.

وقفنا في حدود ما أتيح لنا قراءته في مجال الفكر الإسلامي القديم والحديث، على ثلاثة شخصيات من منتجي الخطاب في الثقافة العربية الإسلامية؛ وهم كل من الغزالي، وأبي اسحق الشاطبي من القدماء، وطه عبد الرحمن من المعاصرين. وإذا كان المنجز الخطابي للغزالي قد حظي بالدراسة النقدية؛ فتأكد دوره في إعاقة الفلسفة، وهي لم يشتد عودها بعد في الثقافة، من النمو وتأخذ سيرها الطبيعي، بوصفها حقا مشروعا لهذه الثقافة، فإن كلا من الشاطبي وطه عبد الرحمن لا زال مشروعهما الخطابي لم ينالا ما يستحقان من النقد والتقويم.

وبخصوص عمل الشاطبي آمل أن يكون العمل الذي أنجزته حوله خطوة في هذا الطريق [2] وبقي المشروع الخطابي لطه عبد الرحمن مغمورا إلى اليوم لم يحظ بما يستوجبه من المراجعة والتقويم، ربما للمكانة التي يحضر بها طه في الساحة الفكرية والأكاديمية المغربية خاصة، والعربية الإسلامية عامة. ونظرا للحجم الذي بدأ يأخذه ويحتله في هذه الساحة؛ وهو حجم آخذ في النمو والاتساع إلى درجة قد يصبح حالة "فكرية" وثقافية يتم معها تحويل "فكره" إلى مشاريع عمل، وبرامج للتكوين في المؤسسات التعليمية والأكاديمية؛ وهو ما [3] توحي به مؤشرات من داخل الجامعة المغربية.

وأتمنى أن يحالفنا التوفيق، أنا وبعض الزملاء، في أن نخطو خطوة في هذا الطريق أيضا؛ بإنجاز قراءة، في حدود المتاح، خاصة أن ما كتبه الرجل ليس بالقليل؛ فقد جند نفسه وقلمه لمنع الفكر الإنساني الحديث بجميع أصنافه الفلسفية والمنطقية والسياسية من ان يثمر في بيئتنا وحياتنا، كما أثمر في بيئة نشأته، وفي بيئات ثقافية غيرها؛ بدعوى أن الثقافة العربية الإسلامية غنية بذاتها قيميا وفكريا ومعرفيا؛ بل يدعي الأستاذ طه ان هذه الثقافة تتفوق في هذه المجالات عما تقترحه الحداثة على الإنسانية. يقول عن واقع الحداثة: "فبعد أن ضل هذا الواقع طريقه إلى اسعاد الإنسان الذي كان مقصد روح الحداثة، فإن التطبيق الحداثي الإسلامي، بفضل رصيد الإسلام الغني من القيم، يمتلك من الاستعدادات الروحية ما يمكن أن يزود به الآخرين لتحقيق حداثتهم". (روح الحداثة: 41-42)

ولأننا في طور التسويد للمنجز القرائي المشار إليه، أردنا إطلاع القارئ على بعض ملامحه فكان هذا المقال. ونرى في هذا السياق ان المدخل المناسب، لما يسمح به المقام، هو السؤال عما إذا كان طه عبد الرحمن يمارس الفكر ويمتهن فعل التفلسف فيما كتب ويكتب؟ وهو العنوان الذي يحضر به في أذهان البعض؛ إن لم يكن لدى الكثيرين. ويساهم عمله الأكاديمي والجامعي في تثبيته.

يتأكد في الجواب، ما سبقت الإشارة إليه في البداية، وهو اتسام الأستاذ طه، مثل الغزالي والشاطبين بالتمكن من معارف زمانه وعصره، لكن بدل الاستثمار فيها في اتجاه تنميتها في ثقافته وبيئته، وهي في أمس الحاجة إليها، وظف الرجل تلك المعارف في اتجاه الدفاع عن التراث ومهاجمة المخالف الداخلي والخارجي.

يلتبس عمل طه وهويته الفكرية، بسبب الوجهين الذين يحضر بهما في الساحة الفكرية والثقافية؛ فهو يحضر فيها بوجه أستاذ الفلسفة والمنطق وفلسفة اللغة من جهة، ويحضر أيضا من الناحية الثانية بوجهين؛ وجه المريد التابع لشيخ الزاوية الذي اخترع له اسم "المخلق"، يستمد منه المدد والتخلق. ووجه المنظر الذي يعمل على إضفاء الطابع "الفكري" على التصوف الطرقي. ولكي يزول الالتباس بالنسبة لمن يبهرهم وجه الحضور الأول؛ أي طه عبد الرحمن مدرس الفلسفة والمنطق، لابد من فهم العلاقة بين الوجهين في شخص طه وفكره؛ فالأول هو مجرد أداة لخدمة الثاني. ويتم ذلك بوجهين؛ وجه رمزي يتصل بالسلطة المعرفية المؤسسة على المهنة الأكاديمية، ووجه يتعلق بإنشاء خطاب خصص بعضه، او في جزء منه للكلام في الفلسفة والمنطق والحجاج واللغة. (فقه الفلسفة، أصول الحوار وتجديد علم الكلام)

ويبدو أن تمكن الأستاذ طه من مهنته الأكاديمية، واتقانه لمهارة الإنشاء واقتداره اللغوي، والقدرة على تشقيق الكلام، وبراعته في اختراع المفاهيم والمصطلحات، يمنع المتلقي لخطابه من الربط بين ذانك الوجهين وإدراك العلاقة بينهما. ويزيد وضع عمل الرجل في الثقافة التباسا، ما يصرح به في مختلف كتبه حول طبيعة مشروعه "الفكري"؛ إذ يصرح في بعضها بأنه يكتب في مجال "العمل الديني" (مقدمة العمل الديني وتجديد العقل)، ويؤكد في كتب أخرى أنه يكتب في مجال إقدار العربي المسلم على التفلسف (فقه الفلسفة والحق العربي في الاختلاف الفلسفي، والحق الإسلامي في الاختلاف الفكري).

ويقول في مواضع أخرى من كتبه بانه يبدع فلسفة بديلة؛ يسميها بأسماء عديدة منها: الفلسفة الحية، وفلسفة الشهادة، وفلسفة التزكية (...) (روح الدين). غير أن ما يحكم عمله كله أمران؛ أولهما ادعاء التفوق القيمي والمعرفي واللغوي للخصوصية التراثية عامة، وفي صيغتها الصوفية الطرقية خاصة. ويشكل هذا الادعاء المنطلق أو لنقل الخلفية الموجهة لجميع أعماله خاصة في شقيها النقدي الاعتراضي، وشقها الذي ينسج فيه ما يعتبره "بدائل".

وثانيهما العمل على إخضاع المنجز الفكري والثقافي للحداثة لايديولوجيا الخصوصية. وكما اقتضى منه الأمر الأول إضفاء طابع العظمة والاجلال التفوق و (...) على التراث، فقد اقتضى منه فعل الاخضاع، الذي يسميه بأسماء متعددة منها: التقريب، والتأصيل، والتاثيل، النقد والاعتراض والهدم. ونظرا لصعوبة، إن لم يكن من المستحيل اثبات جميع الدعاوى التي يدعيها للتراث، والمواقف التي يتخذها ضد المخالف، فقد أكثر من النقد والاعتراض، فاحتلا حيزا كبيرا من خطابه؛ حيز يشعر من خلاله القارئ بان طه عبد الرحمن غير مطمئن فيما يكتب، وغير مرتاح عما يدافع عنه، وإلا لما طغى على أسلوبه وخطابه لغة الدفع والاعتراض والردود، إلى درجة تشكل منها معجم قائم بذاته يمكن تسميته ب:"معجم الدفاع والاعتراض".

يغيب طه الواقع التاريخي للتراث، وواقع الحياة الإسلامية اليوم التي هي نتيجة لذلك التراث، وصرح في هذا السياق بأنه يشتغل، ليس على الواقع؛ وإنما بما ينبغي أن يكون. يقول: "واضح أننا لا نقصد هنا بـ : (مجال التداول الإسلامي) المجتمعات الإسلامية في وضعها المتردي الراهن، وإنما المجتمعات الإسلامية كما يجب أن تكون لو أنها تمسكت بالمبادئ الإسلامية؛ ولا ينفع المعترض أن يقول إننا نهمل الواقع ونشتغل بغيره". (روح الحداثة: 18) ومكنه هذا الهروب من الواقع من صياغة دعاويه من خلال حبكة خطابية، ونسق كلامي يتسم بالاتساق والانسجام الصوري، بعيدا عن أي اختبار، ولهذا تغيب عن خطابه الأمثلة والشواهد غالبا.

يعتمد طه عبد الرحمن أسلوب الأخذ بالضد، الذي يؤطره منطق رد الفعل، فيما يدعي انه البديل او البدائل التي يقول بها، وهي البدائل التي تتنوع أسماؤها بتنوع السياقات التي ترد فيها، مثل التكامل في مقابل التجزيء، والوصل في مقابل الفصل، والائتمانية في مقابل الدهرانية، والعقل المؤيد في مقابل العقل المجرد والجواب الإسلامي في مقابل الحداثة، والتطبيق الإسلامي في مقابل واقع الحداثة (...). ومنطق رد الفعل لا يتمتع بالأصالة الفكرية، بحيث يفقد مبررات الوجود والكون بغياب الفعل الذي ينجزه الآخر أو المخالف.

تمتد جذور هذا الأسلوب في التراث الذي يدافع عنه طه، مما يبيح تأويل عمله بانه امتداد له، فهو العمل الذي اشتغل به أهل الحديث، يقول المحدث ابن عيينة: "يا أصحاب الحديث، تعلموا فقه الحديث لا يقهركم أصحاب الرأي، ما قال أبو حنيفة شيئا إل ونحن نروي فيه حديثا أو حديثين" (معرفة علوم الحديث للحاكم:66). كما أن "فكر" الفرقة الكلامية التي ينتمي طه إلى مذهبها الكلامي؛ وهي الفرقة الأشعرية، مبناه ومعناه كله هو عبارة عن ردود فعل على فكر المعتزلة شكلا ومضمونا. فكل ما قام به الأشعري هو قلب المعاني والمفاهيم التي حدد بها المعتزلة أصولهم مذهبهم الخمسة، والأخذ بضدها؛ بل إن "السنة" التي شكلت الإطار الأيديولوجي الجامع، لم تنشأ إلا كرد فعل على قراءة للتجربة النبوية الإسلامية، وللقرآن تحديدا، من طرف أهل الرأي والعقل [4]

يخوض الرجل ما يشبه "الحرب" ضد الكل، لذا كثر خصومه و"أعداؤه" من داخل الثقافة العربية الإسلامية وخارجها؛ وهكذا توزع خصومه من الداخل بين من يسميهم المتفلسفة والعلمانيين والحداثيين؛ أبرزهم محمد عابد الجابري، ونصر حامد أبو زيد، ومحمد اركون (تجديد المنهج في قراءة التراث، وسؤال الأخلاق)، وبين الإسلاميين الذين يسميهم في كتاب: "روح الدين" بـ : "الديانيين"؛ فهو ينتقدهم ويدخلهم في جبهة "الخصوم" من زاوية عدم اعترافهم بالطقوس الصوفية التي يرى أنها السبيل الوحيد للتخلق، رغم ما سبق أن صرح به في كتاب: "العمل الديني وتجديد العقل"، من انه يعمل على خدمة مشروعهم الأيديولوجي، بتقديم السند الفكري له. أما خصمه الخارجي فهو الحداثة ومنجزاتها الروحية والعلمية والتقنية، وتحديدا نمط الحياة التي اقترحته وتقترحه على البشرية.

يقف القارئ لكتب الأستاذ طه ومتنه على بعدين لشخصيته؛ فهو شخص يتمتع بمؤهلات وكفاءات المفكر الذي بإمكانه الابداع والإنتاج في مجال الفكر الفلسفي (فقه الفلسفة: المفهوم والتأثيل)، فهو واسع الاطلاع على الفلسفة وتاريخها القديم والحديث، وهو ما يصدق على معرفته بالتراث، وهو متمكن من لغات الإنتاج الفلسفي القديمة (اليونانية واللاتينية)، والحديثة (الألمانية والإنجليزية والفرنسية)، إضافة على تمكنه من الة المنطق وفلسفة اللغة.

لكن بدل ان يستثمر في مجال هذه المعارف، فيفكر فيها وبها، حولها إلى مجرد آليات وظيفية لخدمة التراث والدفاع عنه، واداة لتأبيد الفقر المعرفي والفكري الذي عانت وتعاني منه الحياة الإسلامية. رغم أنه يتوهم ويوهم القارئ معه أنه بخلاف ذلك يعمل على تمكين المسلم من آليات الاقتدار الفكري، وتقنيات انتاج حداثة على الصيغة الإسلامية. يتجلى الوهم، رغم جاذبية الشعار، في السؤال عن نمط الحياة الذي يقترحه الرجل بديلا عن نمط حياة الحداثة، التي يصر على أنها غربية؛ وهو البديل لم يستطع ان يخترع له اسما واصطلاحا، وهو البارع في صناعة الاصطلاح، مختلفا يعبر عن "الخصوصية" التي هي شغله الشاغل، عن اسم "الحداثة" فسماها "حداثة إسلامية" بإضافة صفة "إسلامية"، وهو اعتراف ضمني بقوة وغنى الطرح الحداثي وقيمه ومنجزاته القيمية والفكرية والحياتية.

يخلط طه عبد الرحمن بين الايمان والدين؛ إذ يجعلهما شيئا واحدا في سياق تعقيبه على الفلاسفة الذين أسسوا الايمان بالله على العقل، فتولد عنه "ايمان العقل" (ديكارت) أو "الدين في حدود مجرد العقل" (كانط)، وفي سياق عمل هؤلاء الفلاسفة على عقلنة بعض القيم اليهودية والمسيحية. فأول الرجل عملهم هذا تأويلا بنى عليه دعوى كبيرة مفادها أن الفلاسفة إنما أخذوا القيم والخلاق من الدين متنكرين. وخلط أيضا بين الأخلاق والتصوف الطرقي، فجعلهما شيئا واحدا، فادعى أن هذا الأخير هو المعول عليه في تجاوز ما يسميه "آفات" الحداثة في مجالات الميتافيزيقا والسياسة والعلم والتقنية (سؤال الأخلاق).

لم يراع الرجل الظروف التاريخية التي فرضت العلمانية بمظاهرها الثلاثة (فصل الدين عن السياسة، وفصل الدين عن العلم، وفصل الدين عن الأخلاق)، رغم الإشارة إليها، لكنه لم يؤسس على ما تقتضيه أثناء التقييم والنقد؛ إذ استطاع مؤسسو الحداثة الكبار أن يميزوا في الدين بين ما سموه ب: "الدين الطبيعي" و "دين العقل"، وبين دين المؤسسة او دين اللاهوت. فأسس البعض منهم الأخلاق على المسلمة الأولى لدين العقل، وهي فكرة الايمان بالله (كانط).

ولم يراع أيضا؛ او لنقل تجاهل كليا، في موضوع الدين، مقررات ونتائج علوم إنسانية، أصبحت حاسمة اليوم، في هذا المجال، يتقدمها علم الآثار وعلم الأديان، إضافة إلى علوم الأنتروبولوجيا والحضارة والتاريخ، فاعتمد على ما قدمته السردية التوحيدية حول الدين ونشأته وبداياته، وحول تاريخ الإنسان وبدايته على الرض.

يؤسس طه عبد الرحمن الكثير من تصوراته ومواقفه، وكذا خلاصاته ونتائجه؛ بل أيضا انتقاداته واعتراضاته على المرجعية التراثية بوصفها مسلمة خارج النقاش، رغم أنه ميز بين ما يسميه "الصورة الفطرية للدين" و "الصورة الوقتية له" (بؤس الدهرانية)، لكنه لم يأخذ بمقتضى هذا التمييز في التحليل وصياغة النتائج وبناء المواقف. والتأسيس على ذلك، وهي مسلمة بالنسبة إليه، يخرج فكره ويفقده السمة الأساسية التي يتقوم بها الفكر الفلسفي وفعل التفلسف، وهي "الكونية"، فمخاطبه فئة محددة من الناس؛ وهم من يسلمون مثله بالمرجعية التراثية بحسب التصور الذي يصنعونه حولها.

لقد أخلف الرجل الموعد معنا، عندما حول المنجز الإنساني الحديث إلى مجرد أداة لخدمة أيديولوجية "مجال التداول"، التي يتعين اخضاع كل شيء لها ولمحدداتها: العقيدة، والمعرفة، واللغة. وهي مجرد صيغة طهوية لأيديولوجية تراثية بأضلاعها الثلاثة: الفقه، والأشعرية، والتصوف الطرقي.

***

حسن العلوي، كاتب مغربي

.....................

[1] الأستاذ طه عبد الرحمن في رأيي في منزلة بين المفكر والفقيه، وفي الاخير لا هو هذا ولا ذاك

[2] -عنوان العمل: تديين البداوة وتأبيد الجهل، مقاربة نقدية للمقاصد الشاطبية.

[3] -حضرت نشاطا حول الدرس الافتتاحي الذي نظمته احدى الكليات، استدعي له طه عبد الرحمن، وصرح مسير النشاط، وهو من تلامذة الرجل، تولى العمادة فيها مرتين، بأنه في عهده فتحت أبواب الكلية لطه عبد الرحمن وفكره بعد أن كانت موصدة في وجهه.

[4] -انظر فصل: وقفة مع الملحق الأول من الأدلة، في كتابنا: تديين البداوة وتأبيد الجهل، فقد وثقنا في لظروف وملابسات نشأة السنة.

عفيفي يدحض مقولات الاستشراق

بالعودة إلى موضوع جذور التصوف الإسلامي ونشأته الأولى، يمكن أن نجد دحضا قويا لمقولة وفادة وأجنبية التصوف الإسلامي التصوف الإسلامي وتفنيدها التطبيقي في ما كتبه أبو العلا عفيفي في كتابة "التصوف الثورة الروحية في الإسلام" قبل أكثر من نصف قرن، لنقرأ ما كتب وعذرا سلفا لطول المقتبس لضرورته القصوى: "الصورة الثانية هي الصورة الفارسية التي يدَّعي أصحابها أن التصوف الإسلامي نتاج فارسي في نشأته وتطوُّره، ولكنها أيضاً دعوى لا تقوم على أساس من التاريخ. نعم كان عدد كبير من أوائل الصوفية من أصل فارسي، ولكن أغلب متأخِّريهم كانوا من أصل عربي؛ كابن عربي وابن الفارض، وأكثر الذين تأثَّرُوا بابن عربي - العربي القح - كانوا من الفرس كالعراقي وأوحد الدين الكرماني وعبد الرحمن جامي وغيرهم".

ويُرجع عفيفي أصل هذه الفكرة عن هندية أو فارسية جذور التصوف إلى ما يسميه "التعصُّب لفكرة الآرية ضد السامية، وادِّعاء من جهة المتعصِّبين بأن العقلية السامية ليست أهلاً للفلسفة ولا للتصوُّف ولا للعلوم والفنون".

ثم يفترض عفيفي التسليم جدلا وافتراضا بصحة فكرة أن "التصوُّف كان رد فعل للعقل الآري ضد دينٍ سامٍ "الإسلام" فُرض على فارس فرضاً، وأن كبار المفكِّرين الفارسيين لم يَعتنقُوا الإسلام إلا صورةً، وكان غرضهم الأول تشويه الإسلام وقلب أوضاعه لأغراضٍ قومية وسياسية" أفلا تطعن هذه الفكرة بأفضلية العنصر الآري نفسه، وتوجه ضربة إلى كبار علماء الفرس وفلاسفتهم ومتصوفتِهم المسلمين من حيث إنها تُنكِر عليهم كل صدق وإخلاص في مجهودهم العَقلي والرُّوحي الإسلامي"؟

وعلى سبيل النفي، يتساءل عفيفي أيضا، إنْ كان هناك من يشكُّ في إخلاص سيبويه للنحو العربي، وصاحب الأغاني "الأصفهاني" للأدب والقصص التاريخي العربي، والفخر الرازي للتفسير، وابن سينا للفلسفة، وشقيق البلخي وأحمد بن خضروَيه ويحيى بن معاذ وأبي حفص النيسابوري، وأبي عثمان الحيري وأبي حامد الغزالي ومئات غيرهم في التصوُّف؟!

ويختم عفيفي مستنتجا من قراءة معطيات الواقع التاريخي الموثق في سجلات التأريخ وحولياته إنَّ هؤلاء الذين ذكرهم بالأسماء كانوا جميعاً "من أصل فارسي ومع ذلك لم نَجِد فيهم نزعةً نحو الانتصار للغتِهم الفارسية على حساب اللغة العربية، ولا انتصاراً لعقائدَ فارسية قديمة على حساب العقائد الإسلامية، بل بذلوا جهداً صادقاً في فهم الإسلام ونشْر عقائده (تفاخر الشيخ يوسف القرضاوي حين كانت علاقاته جيدة بالحكم في إيران بأنَّ أصحاب كتب الصحاح الستة الجامعة للأحاديث النبوية والمعتمدة من قبل المسلمين السنة بمختلف مذاهبهم كلهم من الفرس وهم البخاري والترمذي والنسائي ومسلم وأبو داود وابن ماجه وهم مبجلون وموقرون لدى المسلمين السنة حتى يومنا هذا، ومعلومة القرضاوي صحيحة تماما!)، إنَّ العكس هو الصحيح، وهو أن لغة الغازين وأدبَهم ودينهم لم تتأثَّر بلغة المغزوين وأدبهم وأصول عقائدهم، بل فرضت اللغة العربية كما فرض الدين العربي نفسيهما على أهل فارس وغيرها من البلاد الإسلامية غير العربية بحيث لم نَجِد بعد جيل أو جيلَين من بين العلماء من يكتب بالفارسية في فارس ولا باليونانية في سوريا ولا بالقبطية في مصر، وفيما يتَّصل بالتصوف بوجهٍ خاص، لم تكن العربية لغة التأليف وحسب، بل كانت لغة الوعظ والتعليم". المصدر: التصوف الثورة الروحية في الإسلام ابو العلا عفيفي. ويمكن أن نذكر بعض الاستثناءات التي تؤكد القاعدة المضمرة في ماكتبه عفيفي فإذا كانت الحالة العامة تؤكد إخلاص الفلاسفة والمتصوفة المسلمين الفرس لأنفسهم ولإيمانهم الديني أو الفلسفي فهي لا تنفي وجود حالات استثنائية من الفرس القوميين الكارهين للعرب وللإسلام والمفاخرين بديانتهم المجوسية ولكنها تظل حالات نادرة واستثنائية وعلنية تؤكد تلك القاعدة ولا تنفيها. ومن تلك الاستثناءات حالة الشاعر بشار بن برد والذي لم يُقتل بأمر الخليفة المهدي العباسي لأنه جاهر بمجوسيته وقد فعل ذلك شعرا بل لأنه هجا الخليفة العباسي المهدي وشتمه في عِرضه أي إنه يحسب على ملاك المعارضة السياسية لا الإيمان الديني المخالف وقد قال بشار بحق المهدي العباسي:

ضاعتْ خلافتُكم يا قومُ فالتمسوا........... خليفةَ اللهِ بين الناي والعودِ

وقال فيه أيضا:

خَليفَةٌ يَزني بَعَمّاتِهِ ........ يَلعَبُ بِالدَبّوقِ وَالصولَجان

أَبدَلَنا اللَهُ بِهِ غَيرَهُ ..... وَدَسَّ مُوسى في حِرِ الخَيزُران

والخيزران هي زوجة الخليفة المهدي، وهي جارية يمنية أعتقها ثم تزوجها وأنجب منها الرشيد وموسى الهادي.

والحالات المماثلة لحالة بشار بن برد نادرة ولا يخلو منها أي مجتمع بشري وهذا ليس تبريرا لقتل هذا الشاعر المسن بل هو إدراج للحالة في سياقها التأريخي الحقيقي لتفهم فيه وبموجبه.

بين أخلاقيات التصوف وأخلاقيات السلفية

 ينقل الباحث المحمد عن الجابري قوله حول نشأة التصوف "ذلك أن من شأن ظهور البذور الأولى للتصوف، ولا سيما الحركة الزهدية الممهدة له، كان في مدينتي الكوفة والبصرة. وجل سكان هاتين المدينتين من الفرس، الذين يعيشون وضعية نفسية وسياسية تحمل الحقد الدفين للعرب". وهذا الكلام ليس صحيحا كمعطيات تأريخية فالبصرة والكوفة حين مُصِّرتا من قبل العرب كانتا عبارة عن معسكرين حربيين للجيوش العربية أكثر منهما مدينتين عاديتين، أي انهما كانتا قاعدتين لتجمع المقاتلين العرب وأسرهم وحتى قبائلهم، وقد قسمت كل مدينة إلى أرباع، أي أحياء كل ربع خصص لسكن قبيلة معينة، ولم يسكن الفرس فيهما على الأقل في مرحلة التأسيس والإنشاء وطوال قرن أو يزيد، بل إنَّ القبائل العربية هي التي اتجهت شرقاً واستوطنت إيران حتى فاق العديد السكاني العربي في بعض الأقاليم كخراسان النصف وأصبح الفرس أقلية في تلك الأقاليم.  وإذا كان الجابري يرى في أن الكوفة كانت معادية للدولة الأموية ومنها جاءت الضربة التي قضت عليها وأن الفرس هم سكان أو غالبية سكان هذه المدينة وهذا أمر غير صحيح أو في الأقل مبالغ فيه كثيرا، فهو ينسى أن الحركة التي قضت على الدولة الأموية هي الحركة العباسية وقيادتها من بني العباس وهم عرب قرشيون، وكان لهم مساعدون ومعاونون من العرب والفرس وغيرهم من الشعوب التي ذاقت الأمرين من ظلم الدولة الأموية وخاضوا عدة حروب وثورات قبل أن يجدوا في الحركة العباسية ضالتهم. فحتى حتى العرب لم يسلموا من اضطهاد بني أمية فمأساة ضرب الكعبة بالمنجنيق، وإباحتها للمهاجمين لثلاثة أيام، وأول معارض قتله الأمويون صبرا " أعدم وهو أعزل وتلك نقيصة يشمئز منها العرب" هو العربي حجر بن عدي الكندي، ومقتل الحسين بن علي سِبط النبي ومعه صحبه في موقعة الطف بكربلاء وسبي نسائهم وتسييرها إلى الشام، ولقد كان ضحاياها هذه الكوارث وغيرها من العرب قبل غيرهم، ولكن الجابري يقفز على هذه الوقائع والحقائق التاريخية ولا يرى سوى الجواسيس الفرس يندسون في كل شيء من التصوف إلى الفلسفة إلى الحركات المسلحة دون النظر والبحث في السياق التاريخي الفعلي للأحداث ومضمونه الاجتماعي!

يقارن الباحث بين ما يطرحه الجابري حول أخلاق التصوف وما يطرحه العلوي ويتوصلان إلى أن الطرحين متعاكسان، ففي حين يقدم الجابري رأيا سلبيا من التصوف فهو يقول "وقد ظهرت أخلاق الطاعة الكسروية في المنظومة الصوفية في علاقة الشيخ بالمريد القائمة على طاعة المريد المطلقة لشيخه". ويضيف الباحث "ويذهب الجابري أبعد من ذلك في تأكيد قيم الخنوع التي تظهر في علاقة الشيخ والمريد، وذلك من خلال إظهار العلاقة بينهما بوصفها علاقة بين سيد وعبد، وتتجلى مثلاً من خلال قضاء المريد وقت فراغه في خدمة الشيخ من طبخ وغسيل وغيرها من الأعمال المنزلية. ويُخضع الجابري سيرة أقطاب التصوف لـ "تحليل نفسي"، ويخلص منه إلى القول بأن زهد أقطاب المتصوفة هو عبارة عن جريّ وراء الزعامة. ففشلهم في تحقيق الزعامة الدنيوية جعلهم يطلبون الآخروية عن طريق توسط التصوف والزهد". أعتقد أن هذا كلام الجابري هنا يمت بصلة وثيقة إلى البحث والتفتيش في النوايا والخواطر وأشبه بقراءة "الحظ" في فنجان القهوة منها إلى علم النفس التحليلي أو السلوكي فكيف يتمكن الباحث من معرفة حقيقة ما يفكر فيه الصوفي وما يعتمل في نفسه بهذه الدرجة من الوضوح والتقريرية الباتة.

العلوي ينتقد مفاهيم رينان

على المقلب الآخر يقدم العلوي صورة أكثر انسجاما للعلاقة المريدية، أي التلمذة بين المريد وشيخه وتقتصر هذه العلاقة للتلمذة على فترة المريدية ثم تنحل وتنتهي ويستقل المريد عن شيخه لنقرأ ما نقله الباحث عن العلوي بهذا الصدد: "في المقابل، يرى العلوي أن دخول المرء في سلك التصوف يتطلب بالضرورة أن يكون له شيخ يتتلمذ على يديه، ولكن الاستقلالية من لوازم الصوفية تمنع المريد من تقديس شيوخه، يكتب العلوي في هذا الصدد "الاستقلال في شخصية الصوفي أن لا يقدس شيوخه.  ولا يعني ذلك أن لا يوقرهم ويبجلهم التزاما بحقوق الأستاذ على التلميذ بل أن لا يعتقد فيهم العصمة".

وهنا، في هذا السياق، ينتقد العلوي المستشرق الفرنسي رينان الذي عدّ قول المتصوفة، بأن من لا شيخ له فشيخه الشيطان دلالة تقييد، يكتب: "وقد وقع الفرنسي رينان في الجهل المركب لما اتخذ من هذه القاعدة دليلاً على أن العقل السامي مقيد، إذ لم يطلع على التوجيه المكمل بالانفصال عن الشيخ بعد إتمام التعلم". ويرى العلوي - بخلاف تصور الجابري – أن التصوف القطباني الإسلامي هو ثورة على الاستبداد بالقول والفعل منذ بدايته مع إبراهيم بن أدهم كقوله الذي رواه ابن كثير في البداية والنهاية: "كل سلطان لا يكون عادلاً فهو واللص بمنزلة واحدة"، فالهمّ المركزي عند أقطاب التصوف، في رأي العلوي، هو توفير الراحة للخلق وهذا الراحة لا تتحقق إلا بالوقوف في وجه الاستبداد". والخلاصة فالعلوي لا يرى أن هناك خنوعاً في علاقة الشيخ بالمريد في التصوف الحقيقي، ولا تتطلب الخدمة المتبادلة بين الشيخ والمريد هذا الجهد المضني، فهم لا يلبسون إلا للستر والدفء، ولا يتخيرون الأثاث لبيوتهم أما طعامهم فمقنن بحدود الكفاية اللازمة للبقاء".

التوبة والخلاص الهرمسي

قضية أخرى مهمة وددت التوقف عندها في قراءة الزميل الباحث، وهي قضية التوبة الصوفية وكيف فسرها الجابري على أساس أن التوبة بالمفهوم الصوفي لا علاقة لها بالتوبة بالمفهوم الإسلامي، بل تنضوي ضمن مفهوم "الخلاص الهرمسي عبر الفناء". يكتب الباحث "تتجلى رغبة الجابري في إسقاط صفة الأصالة الإسلامية عن التصوف في إظهاره مفاهيم التصوف كلها بأنها بعيدة عن الإسلام، وهو الأمر الذي لاحظناه في تناوله مجال التوبة عندهم، الذي هو ليس برجوع عن الذنب فحسب، وإنما رجوع إلى الله أيضاً، في حين أن الجابري يعتقد أن مفهوم التوبة في الإسلام يقتصر على توبة عن ذنب سبق اقترافه، ويخالف هذا الفهم الجابري بوضوح أهم ما جاء في نصوص الفقهاء بمختلف توجهاتهم المذهبية. إذ إن التوبة عندهم هي ليست متعلقة بتوبة من ذنب سبق اقترافه فحسب بل التوبة واجبة على من ترك ما هو مأمور به بالشرع، يكتب ابن تيمية في هذا الصدد "التوبة المشروعة هي الرجوع إلى الله، وإلى فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه. وليست التوبة من فعل السيئات فقط كما يظن كثير من الجهال، لا يتصورون التوبة إلا عما يفعله العبد من القبائح كالفواحش والمظالم، بل التوبة من ترك الحسنات المأمور بها أهم من التوبة من فعل السيئات المنهى عنها، يغيّب الجابري هذا الفهم المتطابق بخصوص مفهوم التوبة بين ابن تيمية والمتصوفة لسبب بسيط مفاده إبعاد التصوف وأخلاقه عن الإسلام بشكل كلي، وبهذا نكون مع التحليل الجابري أمام نقد إيديولوجي تضليلي ولسنا أمام نقد موضوعي". بمعنى، إن الجابري في غمرة حماسته وهجائه للتصوف والصوفية يشتط كثيرا ويفارق حتى الفهم السلفي للتوبة وهو الفهم الصوفي نفسه رغم ما بين السلفية التيمية والتصوف من عداء يبلغ أحيانا درجة تكفير الأولى للثانية.

خلاصات البحث

خلاصة البحث تأتينا على شكل مقارنة مكثفة بين رؤية الباحثَين الجابري والعلوي لموضوع الأخلاق الصوفية أو موقع الأخلاق في منظومة المفاهيم الصوفية القطبانية فيكتب: "إننا كنّا أمام قراءتين مختلفتين من الناحية المنهجية والأيديولوجية. فقراءة الجابري كانت مطابقة للقراءة السلفية، وخاصة المعاصرة منها، يكتب مثلا مقدم كتاب ابن تيمية "الصوفية والفقراء"، ومن الصوفية كما نعلم ويعلم شيخ الإسلام خرجت الزندقة، والهرطقة، والسفسطة، والمروق والفسوق". لنقارن القول الأخير مع النتيجة التي وصل إليها الجابري، يكتب جميع "المقدمات" في الكلام الصوفي تنتهي في النهاية إلى عكسها. وحقاً إنَّ "أخلاق الفناء" – المقصود لدى الصوفية ع.ل-  تنتهي إلى "فناء الأخلاق". ثمة تشابه ولقاء، لا فرق سوى أن الأول استخدم ألفاظاً مستخرجة من القاموس الديني التكفيري، أما الثاني "الجابري" استخدم ألفاظاً مستخرجة من قاموس الفكر المعاصر. في المقابل، جاءت قراءة العلوي امتداداً للقراءة الماركسية العربية التي يلخصها المفكر مهدي عامل بقوله "هل من مبالغة في قولنا - شطحاً؟- إن هذا الفكر الماركسي هو وريث كل فكر بقوله ثوري في التاريخ، وهو، لهذا، وريث فكر الإشراق والتصوف الذي هو، بحق، فكر الإسلام، أعني فكر الحق في الإسلام؟ والحق للحق وريث وإن اختلفا ". لذلك كان غرض العلوي من قراءة أخلاقيات التصوف هو دمج هذه الأخلاقيات في مشروعه القائم على ترسيخ قيم مثقفية مناضلة ومقاومة للواقع العربي الرث والمتخلع بفعل تبعية البنية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية العربية للمراكز الرأسمالية الإمبريالية "..." وتساعد قيم التصوف القطباني التي استخرجتها قراءة العلوي في عملية خلق مجتمع عادل لا يكون متجذرا على العنف الإقصائي. كما تساعد أيضاً في العمل على تشكيل خطاب مفتوح ورحيم، بعيد عن أي نسق من التصنيفات القانونية والأخلاقية المتعالية والإلزامية التي تسعى إلى خلق فروق واضحة بين من يجب أن يُدرج في دائرة الأخلاق والقانون ومن لا ينبغي بالتالي أن يُدرج في داخلها. وأخيراً، تساعد قراءة العلوي لأخلاقيات التصوف في مواجهة التيارات العلمانية العربية الزائفة التي لا ترى من العلمانية سوى فصل للدين عن الدولة دون أن تلحظ أن العلمانية لا تكتمل دون فصل واضح بين الدين والأخلاق، لا سيما أن قراءة العلوي بيّنت أن أخلاق حركة التصوف القطباني الإسلامي كانت تجسيداً فعلياً للفصل بين الدين والأخلاق الأمر الذي يمكن التأسيس عليه في تشكيل ممارسة إتيقية تسهم في مواجهة خطاب الدمج بين الأخلاق والدين عند البرجوازيات العربية المسيطرة والتيارات الدينية النصية في أشكالها المتنوعة". وأعتقد المقصود هنا بالفصل بين الدين والأخلاق لا يبتعد عن معنى الفصل بين مضمارين مستقلين؛ مضمار الدين كشريعة ونصوص غيبية وطقوس دينية مختلفة باختلاف وتعدد الأديان، ومضمار الأخلاق كسلوكية وفعالية إنسانية فردية الأساس جماعية التمظهر الاجتماعي، قد تستلهم هذا الدين أو غيره وقد لا تستلهم أي دين ولكنها تنتمي للإنسان الفرد الممارس لأخلاقه الشخصية.

إن الجابري الذي يسفِّه أخلاقيات التصوف ويهجوها من مواقع سلفية ماضيوية يسكت تماما عن الآفات الأخلاقية لدى السلفيين والنصوصيين المحافظين من قبيل التسري وتعددية الزوجات وزواج القاصرات بهدف الاستمتاع والتلذذ الجنسي حتى خارج الشرط التشريعي الإسلامي الذي يبيح التعددية "الزواج الضرائري" بشرط العدل، وامتلاك العبيد والجواري والجشع إلى المال والمجوهرات والممتلكات الأخرى والجاه والسلطان والشهرة، ولكن الجابري، في المقابل، لا يقيم أدنى اعتبار للتجربة السلوكية الصوفية الزهدية المتسامية والتي سجلتها نصوص التراث العربي الإسلامي حتى تلك التي وردت في كتابات خصومهم وأعدائهم ومكفريهم، وهذا ما كرره الباحث بكلمات قليلة قالوا فيها: "أن الجابري لا يعير أي اهتمام بمسألة الرفض العملي عند أقطاب التصوف للتسري وامتلاك العبيد والجواري وتعدد الزوجات، ولا ينظر إليها كمعطى أخلاقي فريد في فضاء تشريعات دينية تبيحها، في المقابل ينظر العلوي إلى ذلك كجانب أخلاقي مضيء بالمقارنة مع الفقه السني والشيعي الذي يبيح التسري وتعدد الزوجات وامتلاك العبيد وزواج الطفلة الصغيرة".

وأخيرا، يمكننا الاتفاق مع ما عبر عنه الصديق الباحث في أن القيم والأخلاقيات الإيجابية التي تحلى بها أقطاب التصوف الإسلامي وعموم حركة التصوف القبطاني لا تشكل أصلاً أو جزءا دخيلا وغريباً عن الإسلام وإنما هي جزء أصيل منه نجد جذوره في النصوص القرآنية وخصوصا "المكية" قبل الهجرة، جزء يتماهى في سلوك وفكر بعض الصحابة والتابعين الذين يعدّون آباء للتصوف الإسلامي، مثل أبي ذر الغفاري وسلمان الفارسي وعامر العنبري وأن الجوهر الاجتماعي الكفاحي لظاهرة وحركة التصوف القطباني يكمن في انحيازها إلى الخلق الفقير وهم الغالبية المجتمعية في كل زمان ومكان وعمل المتصوفة القطبانية على رفع الظلم والحيف والشرور الطبقية عنه ومقارعة الظالمين الكانزين للذهب والفضة وثروات الشعوب.

***

علاء اللامي- كاتب عراقي

عدنان عويدمبادئ التصوف العرفانيّة: العرفان في اللغة مشتقّ من "عَرَفَ"، ويُعْنى به المعرفة. يقول ابن منظور: "عرف: العرفان: العلم... عَرَفَه، يَعْرِفُهُ، عِرْفَة وعِرْفاناً وَمَعْرِفَةً واعترفه... ورجل عروفٌ: وعَروفة: عارف يعرف الأمور، ولا ينكر أحداً رآه مرة... والعريف والعارف بمعنى مثل عليم وعالم... والجمع عرفاء...".

والعرفان في الاصطلاح هي المعرفة الحاصلة عن طريق المشاهدة القلبيّة، وليس عن طريق العقل أو التجربة الحسّية... وهذا اللون من المعرفة يحصل من خلال العمل المؤمن إيماناً كاملاً بأحكام الدين. وهو بالتالي، الثمرة الناضجة والنهائيّة للدين الحقيقي. وعلى هذا الأساس قدَّم أصحاب الاختصاص تعاريف متعدّدة للعرفان، من أبرزها ما جاء على لسان القيصري: "هو العلم بالله سبحانه، من حيث أسماؤه وصفاته ومظاهره، وأحوال المبدأ والمعاد والعلم بحقائق العالم وبكيفيّة رجوعها إلى حقيقة واحدة، هي الذات الأَحَدِيّة، ومعرفة طريق السلوك والمجاهدة، لتخليص النفس من مضايق القيود الجزئيّة وبالتالي اتّصالها بمبدئها أو خالقها، واتّصافها بنعت الإطلاق والكلّيّة". (16).

وعند الصوفيين، تتمثل الحقيقة اليقينيّة العرفانيّة بتزاوج مبدأيّ الفناء والبقاء الذين يتكاملان للوصول إلى اليقين.

والفناء عند الصوفيين هو مصطلح يدل على مستويات إدراكيّة يصل إليها المريد. وهي نوع من أنواع اندثار أو غياب النفس مع الحفاظ على الجسد الماديّ حياً. أو هي حالة كاملة الاتحاد مع الوجود الماديّ والروحانيّ. وهناك ثلاثة مستويات من الفناء التي يجب تحقيقها وهي:

"الفناء بالشيخ" أي التكامل مع الوجوديّة الفيزيائيّة الماديّة،

"الفناء بالرسول" أي التكامل مع العالم الروحانيّ،

ثم "الفناء بالله" أي التكامل مع الوجود المجرد.

ولكي يصل الصوفيّ إلى هذه المستويات، عليه تطهير ذاته النفسيّة من كل الدوافع الشريرة، والتغلب على كل الغرائز الجسديّة الوضيعة. بمعى أخر، الامتناع عن القيام بكل الخطايا (مثل الجشع، والشهوة، والمتعة، والغرور، والأنانيّة... والامتناع عن كل أنواع الحب ما عدا حب الذات الإلهيّة المطلقة. ويؤدي هذا الامتناع إلى تدمير الذات النفسيّة، مما يقرب المريد إلى الله لدرجة الفناء فيه. (17).

الفناء والبقاء:

إذا كان الفناء في الصوفيّة هو سقوط الأفعال المذمومة عند المتصوف، وتحقيق النقاء الجسديّ والروحيّ معاً، فإن البقاء في المنزلة التالية، هو درجة إدراكيّة عليا، يصل اليها المريد عند نهاية تجربته الصوفيّة، حيث يفنى كذات إنسانيّة بشكل تام بالذات الإلهيّة مما يعطيه الكمال في الوجود والعرفانيّة واليقين. ويعتبر الصوفيون أن كل المخلوقات ستصل إلى هذه الدرجة سواء بحياتهم أم بمماتهم. ويعتبرون أن كل الحكماء والأنبياء سيصلون لهذه الدرجة، وأنهم حاولوا تعليمها للبشر. فهذه الفكرة أساسيّة في كل الطروحات الدينيّة، فكل دين أو طريقة تطلق مصطلحا مختلفا لمعنى البقاء نفسه. فعلى سبيل المثال، تسمى في الإسلام "النجاة"، وفي المسيحيّة تسمى "الخلاص"، وفي البوذيّة تسمى "نيرفانا" وفي الهندوسيّة تسمى "موكتهي".(18).

هذا وهناك الكثير من المفاهيم الصوفيّة مثل:

اليقين:

وهو أعلى مقامات أو مستويات العرفانيّة الصوفيّة، وهو نهاية مطاف المريد الصوفيّ، التي وصل إليها كل الأولياء والقديسين.

الحقيقة:

وهي المعرفة الكاملة التي يصل إليها المريد عند مستوى اليقين.

المعرفة:

وهي عند الصوفيّة تعني إدراك الموجود بحقيقته بشكل غرائزيّ، وذلك عن طريق المرور بخبرات شخصيّة خارجة عن المألوف (الشطح) بدلا من تعلمها عن طريق الأخرين أو إدراكها بالتفكر.

الإحسان:

وهو الكمال وَالْتَمَيّزُ، ويعتبر من أهم أهداف الصوفيّة.

الْذِكْرُ:

وهو شعيرة فكريّة يقوم بها المريد للتقرب من الله. وبالعادة تكون بترديد لفظة معينة (مثل كلمة الله أو عبارة سبحان الله) أو القيام بحركة معينة مهمتها توجيه العقل كلياً للتفكر بالله. (19).

الكرامة الصوفيّة والأسطورة والحلم:

إن من يبحت في الأبعاد الفكريّة والنفسيّة والأخلاقيّة والاجتماعيّة وأخيراً الكاريزميّة للكرامة، سيجد فيها:

أولاً الوعي: حيث يسود الفكر والوضوح، وثانياً اللاوعي: حيث يسيطر المضمر والمقنّع والرمزيّ. أو بتعبير آخر يسود عالمان : عالم الوقائع الخارجيّة التي تجري فعلا وتحصل أمام العين، وعالم التجارب الداخليّة الذاتيّة للفرد المتصوف، التي يفصح عنها بواسطة الرموز. إلا أن المحتوى الخارجيّ، الواعي، أو الواقعي يظل متوازياً مع المحتوى المضمر للكرامة. فالكرامة التي يحققها الصوفيّ وتتجلى في الظاهر، هي نتاج أو تجلي لتجارب " روحيّة " أو أليات (ميكانيزم) نفسيّة. اشتغل عليها الصوفيّ كما بينا في عرضنا السابق. فالصوفيّ الذي يخرج إلى المجتمع ويحل مشكلة أخلاقيّة أو اجتماعيّة للناس أو للمريدين، هو صوفيّ يستمع كما يعتقد هو إلى صوت الضمير ممثلاً هنا بـ ( نداء ملاك، أو نداء الله،)، يأمره لفعل هذا الأمر المعجزة أو ذاك. فالمهم هنا هو أن القطاع اللاواعي الداخليّ عند المتصوف، بحكم موازاته للعالم الواعي، أي كون القطاع الخارجي الفعليّ، بحكم موازاته للعالم الذاتيّ والروحيّ للمتصوف فقد وجدا تعبيرا عنهما بحوادث قابلة لأن تحصل في العيانيّ أو أمام العيان. (20).

وفي الكرامة اتجاهان: الأول يرفض المجتمع والجسد باحتقار، والثانٍي يشكل المرحلة التي يعود فيها هذا الجسد (المطهر) إلى المجتمع مرة ثانية، ولكن بشكل أقوى، ليبني المجتمع الأكمل، والجسد الأكثر انقيادا للقيم النبيلة.

وفي الكرامة اشتياقان أو توقان: توق إلى المطلق واللامحدود والخلود. وتوق إلى نسيان قهر الواقع للإنسان، أو الهروب من الانجراحات ، الخاصة أو الفرديّة ،

وفي الكرامة منهجان: عمليّ يمارس الرياضيات الروحيّة لتخليص الجسد من الرذيلة، وفكريّ يتأمل المطلق والقيم النبيلة. اتجاه يروض البدن، وآخر يصقل النفس من الداخل، أو يعمل على النفسيّ أو الروحيّ. وهنا يندمج المنهجان في مبدأ حياتيّ هو سلوك، وطريقة عيش، وأسلوب تطهر، ودرب للخلاص، وحل مشكلة الإنسان أمام القدر والموت.

وفيها أيضا لغتان: لغة الكلام والمنطق والاقناع والصراحة، وأخرى أقدر على الإثارة، والتوجيه، والتوصيل والأداء، وأقرب إلى الإيحاء والإشارة.

وفيها أيضاً قطاعان: سويّ ومرضيّ ، حاضر وسحيق في قدمه ، متحضر وهمجيّ أو ابتدائيّ.

وفيها نوعان من القلق: قلق تجاه المصير، حيث تحل المشكلة هنا بإخراج الذات المقهورة من خلال إدخال الفردّي في الرمزيّ، والأنا في المطلق. وقلق إزاء المجتمع والسلطة وشتى رموز القمع التي تعمل على محو الذات.(21).

 

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سوريّة

عبد الجبار الرفاعيمثلما تُعلِنُ العنصريةُ عن حضورها عبر النسب والقبيلة والقومية والمعتقد والجغرافيا والثقافة وغير ذلك، يُعلِنُ الاستهلاكُ المبتذل عن عنصريته عبر الغرابة والشذوذ فيما يستعمله ويتناوله الإنسان. الذي يتناولُ اللحمَ المطلي بالذهب يُعلِنُ أنه الاستثناء في استعلائه على الناس في الأرض، لا يستحقُ هذه المكانةَ غيرُه هو وحده المؤهل للتويج بها. أثار قرفي واشمئزازي خبرٌ نشرته قناةُ العربية يوم 12 ديسمبر 2021 على صفحتها في الانستغرام يتحدث عن: (فندق في فيتنام يقدّم لزواره فرصة شراء قطعة لحم "توماهوك" مغطاة بالذهب، مقابل 1319 دولارًا للقطعة). لفرط دهشتي بعثتُ الخبر إلى ولدي محمد باقر المقيم في استراليا، فبادر هو وأرسل رابطًا لصفحة أحد الطباخين المشهورين على الانستغرام في أحد الدول، يعلن هذا الطباخُ عن أسعار وجباته من اللحوم فيكتب: أن مطعمه يبيع قطعة اللحم المطلية بالذهب، بوزن 680 غراما، بسعر يصل إلى 2000 دولار أمريكي". مقابل ذلك قرأت خبرًا موجعًا على صفحة‏ منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة في اليوم ذاته يقول إن: "عددَ الجياع في المنطقة العربية وصل إلى 69 مليون شخص عام 2020، نتيجة للأزمات الممتدة حيث زاد الجوعُ بنسبة 91.1٪ عمّا كان عليه عام 2000".

‏   تذوقُ الإنسانِ للطعام يختلفُ عن تذوق الحيوان للطعام. تذوقُ الإنسانِ حالة تلذّذ أعمق من أن تنحصر بالحواس، إنها أبعدُ مدىً مما هو مادي لأنها تعبّر عن المشاعر والأحاسيس الإنسانية والرؤية الجمالية للعالَم أيضًا. الاستعلاءُ والتباهي والغطرسة والتبختر في الاستهلاك ضربٌ من خيانة الضمير والمرض الذوقي والأخلاقي الذي يهدرُ إنسانيةَ الإنسان، ويبذّرُ حقوقَ الفقراء والجياع في الأرض، بافتعال احتياجات مفارقة لاحتياجات الإنسان الأساسية والثانوية، ويبدّدُ الثرواتِ والمواردَ الطبيعية المشتركة لتأمين احتياجات كلِّ البشر بسفاهة وحمق.

بطرُ الذائقة في الاستهلاك وانحباسُها فيما هو مادي حالةُ تشوّه مرضية سامّة، تفتكُ بأخلاقية الإنسان، وتميتُ غيرتَه وشفقتَه ورحمتَه بأخيه الإنسان. يُنحَر الإنسانُ داخلَ الإنسانِ حين يُختَزل ويُنظر إليه وإلى كلِّ شيء يتصل بوجوده وعقله وروحه ومشاعره كشيءٍ من الأشياء. هذه واحدةٌ من خطايا رأسمالية السوق المتوحشة، وتعاملها مع كلِّ شيء حتى الإنسان كبضاعةٍ تجارية ومنتَجٍ استهلاكي يباع ويشترى.3140 fish

احتياجاتُ الإنسان: للمعنى، للإيمان، للمحبة، للجمال، لسكينة الروح، لطمأنينة القلب، لتقدير الذات، للاعتراف، للعطاء، للتضامن الإنساني، لا ترويها الأشياءُ المادية مهما غرق الإنسانُ في استهلاكها، ومهما كانت قيمتُها السوقية. مَنْ يعجز عن تأمين الاحتياجات الروحية والأخلاقية والإنسانية يعيش خواءً روحيًا وقلقًا وجوديًا يسلبُ سكينتَه الباطنية، ويحجب عنه معاني السعادة.

كثيرٌ من الناس في المجتمعات الغارقة في الاستهلاك، سواء كانت غربيةً أو شرقية، يكابدون الاضطراباتِ النفسية والقلقَ وفقدانَ السكينة والأرقَ والمللَ والضجرَ والاكتئاب. يعيشُ أكثرُ هؤلاء الناس بلا شعورٍ بالأمن والسلام في داخلهم، وإن كان معظمُهم يحاول التنكّرَ لتعاسته ويتظاهر بالسعادة. التظاهرُ بالسعادة تشجّع عليه كتاباتٌ ساذجة تتكتّم على بواعث مواجع الإنسان العميقة، وتلهيه عن البحث عن اكتشاف عللها الكامنة في داخله والسعي لإشباع احتياجاته الطبيعية، كما إن إعلانَ السعادة صار وسيلةً مخادِعة تتيح للإنسان الحضورَ الاجتماعي والتأثيرَ في الناس الذي ينشده.

في المجتمع الاستهلاكي يصير كلُّ شيء سلعةً، حتى الإنسان يُنظر إليه كأنه سلعة، ويجري تقديرُ قيمة كلّ شيء بمعيار الربح والخسارة بالمعنى الاقتصادي، وتقدّر قيمتُه بمقدارِ ما يسهم فيه من إنتاجٍ مادي، وبنوعِ ما يتسوقه ويستهلكه. تحديدُ قيمة الإنسان بنوعِ ما يتسوقه ويستهلكه أحدث تحولاتٍ في منظومة القيم، وخلق مفاهيمَ زائفة للسعادة والرضا وتقدير الذات والاعتراف، ولكلِّ ما يصنع للإنسان حضورًا ومكانة وتأثيرًا في المجتمع.

3141 fishفي المجتمع الاستهلاكي تزدهر حالةُ التباهي، ويتسيّد التبجّحُ والزهو بما يقتنيه الإنسانُ من أشياء مادية، ينظر الناسُ في هذا المجتمع للتسوق والاستهلاك بوصفه وسيلةً للتفوق على الآخرين، يجري استثمارُها في تنمية الرصيد الاجتماعي للفرد، خاصةً وسط الطبقة المُترَفة الغارقة في الأضواء، المتهافتة على إظهار استعلائها على غيرها بشتى الأساليب المبتذلة.    تُسرِف هذه الطبقةُ في شراء السيارات الفخمة، وماركات الملابس باهظة الثمن، والألماس والمجوهرات النادرة، والساعات الفاحشة السعر، وغيرها من المقتنيات التي تقاس قيمتُها بارتفاع ثمنها، وليس بإشباعها المباشر لحاجة حقيقية، بل تستعمل لغرض الظفر بإلفات نظر الغير وطلب المزيد من الإعجاب والاهتمام، لذلك كلّما غلا ثمنُها تضاعف شغفُ المترفين وتهافتهم عليها، بغضّ النظر عن قيمتها الاستعمالية، وما يمكن أن تؤديه من إشباع حاجة أساسية أو ثانوية.

تمادى نمطُ الاستهلاك التفاخري فشغف هؤلاء بأرقام السيارات، وأرقام الهواتف، وأشياء أخرى غريبة، صارت سلعًا تُعرَض في مزادات خاصة. وأضحت وسائلُ التواصل أداةً لتعويض الافتقار للمشاعر الإنسانية الصادقة، وابتُذلت العواطف وتنمّطت وتجمدت، حتى ابتلي الناسُ بالإدمان على الحضور الدائم في وسائل التواصل، واشتدّ التلهفُ والتسابقُ على الفوز بعدد أكبر من المتابعين والمعجبين، كتعويضٍ عن فقدان المشاعر الصادقة الدافئة الحميمة.

في المجتمع الاستهلاكي تُفتعَل احتياجاتٌ هامشيةٌ وحتى عبثية، ويختلّ سُلّمُ الاحتياجات، فيمسي ما هو ضروريٌّ هامشيًا وما هو هامشيٌّ ضروريًا. تُنسى الاحتياجاتُ العميقة، وتحتجب حاجةُ الإنسان للمعنى وللقيم السامية، ويتدجّن الإنسانُ ويُدمِن على النمط الاستهلاكي المادي المُنطفِئة فيه جذوةُ الحياة الأصيلة، فيموت الإنسانُ داخلَ الإنسان. هذا ما يقوله فلاسفةٌ وعلماءُ نفس واجتماع وقفوا على معاناة الإنسان في هذا العصر، وأدركوا مكابدات اغترابه الوجودي، وكيف صار كأنه آلةٌ ميكانيكية.

في هذا المجتمع يكبتُ الإنسانُ احتياجاتِه العميقة، ويفتعل احتياجات يتطلبها حضورُه في المجتمع الذي ينتمي إليه. يتحول الإنسانُ إلى ممثلٍ يستعير شخصيةً غريبة عن طبيعته، وبالتدريج يطمس احتياجاتِه الإنسانية، ويدمن على التلبّس بهذه الشخصية المستعارَة. في المجتمع الغارق في التباهي المتغطرس بالاستهلاك يصبحُ الإنسانُ السوي غريبًا بل كأنه شاذٌ. يصفُ إريك فروم هذا المجتمعَ بقوله: "الناس الأسوياء يبدون مرضى، ومن هم عكسهم يبدون أسوياء، وهذه ليست طرفة. إن الإنسانَ المريض يشعر أن هناك أشياء فيه لم يتم كبتها، فتدخل صراعًا مع ما هو سائد من أنماط ثقافية، لذلك يشعر بالألم. الشعورُ بالألم إشارةٌ الى أن هناك خطأ ما. هو محظوظ لأنه تألم، ذلك يؤشر إلى أن هناك خطأ في مساره. عندما لا يتألم الإنسانُ يعني أنه تأقلم، لدرجة أنه تخلّى عن كلِّ معنى يمتلكه، أصبح منسلخا أشبهَ بالآلات والروبوتات، ولم يعد يشعر بأيِّ صراع. وهذا يعني أن حُبَّه ومشاعرَه مكبوتةٌ إلى حدٍّ كبير، أو ضامرةٌ بنحوٍ يكشف عن صورةٍ لانفصام الشخصية المعتدل المزمن. إن ما يهدف إليه مجتمعُنا هو زيادةُ الإنتاج بغيةَ تأمين متطلبات زيادة الاستهلاك، أي الاقتصاد وتنميته والتكنولوجيا، هذا هو الهدفُ الذي نعيش من أجله، ولا يعيش الإنسانُ من أجل الإنسان. ما ينفع الناسَ لا يحظى باهتمامٍ كبير، ولا حتى ما يؤذي الناس يحظى باهتمام".

التعاطي مع الإنسان كشيء في المجتمع الاستهلاكي جعل البعضَ يوصي بإحراق جثته بعد الموت. رفاتُ الميت صار ضحيةَ المجتمع الاستهلاكي، بوصف الميّت شيئًا لا قيمةَ له في نظر بعضهم، لذلك ينبغي أن تتخلصَ الأرضُ ومَنْ عليها من رفاته، أو يبادر ذووه أحيانًا فيحرقونه، بغيةَ تحويل رماده إلى ألماس أو جواهر نادرة، كي يكتسب هذا الرمادُ قيمةَ الألماس والجواهر المادية. بعد أن خسر الإنسانُ حياتَه صار لا قيمةَ له كما تفرض ذلك معاييرُ السوق. الإنسانُ بوصفه منتَجًا استهلاكيًا لا قيمةَ له خارج جسده المادي، لذلك تعيره الجواهرُ قيمتَها السوقية بعد أن خسر قيمتَه كسلعة بعد موته. لا أعني بذلك أديانًا تمارس حرقَ جثة الميت بوصفه طقسًا دينيًا، وتعتقد بأن حرقَ الميت يعمل على تسامي روحه وخلاصها من وحشة عالم المادة وأدرانها، كي تعود الروحُ إلى أصلها متحرّرةً من ظلمات المادة. النار في اعتقاد هذه الديانات مطهرة كما يطهر الماء في ديانات أخرى.

في ثقافة الاستهلاك كلُّ شيء سلعة، كلُّ شيء معروضٌ للبيع والشراء والتسوق والاستهلاك والربح التجاري والعرض والطلب. الإنسانُ بعد موته يستعمل كسلعة، مادام كلُّ شيء في الحياة سلعةً استهلاكية، لذلك يمكن للورثة التصرّفُ برفاته كيفما يشاؤون، ومعاملتُه كشيء مادي، واستخدامُه على الضدّ من تميّز وفرادة الكينونة الوجودية له، المتعالية على كلِّ مخلوق في الأرض.

مكانةُ الإنسانِ لا يُحدِّدُها نوعُ ما يتسوقه من أشياء مادية ولا نمط ما يستهلكه. الإنسانُ هذا الكائنُ اللغز المدهش المستودَع لأسرار الخلق، هو الوحيد الذي تجلّت فيه أجملُ صورةٍ لله في العالَم. الإنسانُ جوهرُ الخلق، وأجلى مظهر ارتسمت فيه أكملُ صورةٍ لله، لا يمكن أن يضاهيه الألماسُ أو يساويه أيُّ شيء من الجواهر في العالَم، مهما كانت قيمتُها المادية. الإنسانُ محترمٌ مكرّمٌ في حياته محترمٌ مكرّمٌ بعد موته أيضًا، الموتُ ليس فناءً، الموتُ في مفهوم الدين طورٌ جديد لوجود الإنسان، لذلك ينبغي تكريمُ الإنسان بعد موته كما ينبغي تكريمُه في حياته.

عندما ينحطّ الإنسانُ يرى ذاتَه شيئًا ماديًا، وهو لا يدري أنه مهما كانت القيمةُ المادية لهذا الشيء فإنها لا يمكن أن تضاهي المكانةَ الوجودية ‏للإنسان فضلًا عن أن تماثلها. لن يدركَ الحقيقةَ الوجودية للإنسان إلا ذوو البصائر، ولن يتذوقَ صورةَ هذه الحقيقة بوصفها تجليًا للوجود الإلهي إلا مَنْ يعيش تجربةً روحية تشرق بنور إلهي. من هنا لابد من "إعادة تعريف الإنسان" وذلك هو موضوع مقالتنا القادمة.

 

د. عبد الجبار الرفاعي

 

 

امان السيد أرى أن حلاقة رأس شيرين التي غزت الميديا، ووسائل التواصل الاجتماعي قد طغت على العمق الإنساني، مرتكزها الأساسي، في أخذ بالشكل، وحجب للمضمون، كعادة تجار هذا الزمان في التسويق للمظهر لتنهبه العيون، فتجانبه القلوب.

   هناك عبارات تسفرعن كثير من الأسرار، بعضها سقط من شيرين نفسها، وأخرى من نضال الأحمدية، التي يُستشف الإنسان فيها، قبل الصحافي الذي يسابق الخبر في النشر، وتدويل الفضائح، أما ما ذكره والد زوج شيرين عن ابنه من تقاعسه واستغلاله لها، وصمت شيرين مقابلهما، فهو الذي قصم ظهر البعير حقا!.

 المرأة في شيرين التي أراها ضحية من الأضاحي في هذا الموضع لأسباب عديدة، دفعتني للبوح مطولا حول الظلم الذي يلحق بامرأة ذات كيان مستقل الحضور، فكيف حين يُضاف إليه نقاء سريرة، وتعقّل بتمريرها للأمور الكبيرة التي تأتي من زوج يستغلها تحت مظلة واسعة، فلا هي تود أن تنشر غسيل معاناتها على الملأ، ولا هي تسعى إلى الطلاق، وتحت ستار من الأوهام تصبّر نفسها مرددة: لأعطه فرصة، قد يتغير، ويدرك قيمتي..

 وتمر الأيام والسنون ليتعمق الخراب في نفسها بعد أن أهملت معالجة السبب الرئيس الذي أوصلها إلى ما هي فيه!

 كتبت بذرة هذا المقال في الفيس بوك، كما أفعل أحيانا، فوصلتني تعليقات متعددة، منها ما يخطّئ شيرين في صبرها، وقلة خبرتها، وعدم تعلمها من التجارب في زيجاتها السابقة، ومنها من اعتبر أن فضاء أهل الفن ليس جديرا بأن يؤخذ مقياسا لنجاح الزواج أو فشله، ومنها ما صادق على ما كتبته واجدا  العذر لها، إلى ما إلى ذلك، لكني هنا لست بصدد شيرين الفنانة، أنا بشأن امرأة خاصة، وغير خاصة في رضوخها للتعنيف، ولما هو خارج قناعاتها رغم أنه يفترض بما وصلته من الشأن والاستقلال أن تشطب على الفور زواجا مسيئا، ولكن ما يحصل هو العكس..

 يبدو أن الإناث لا يكتفين بارتشاف بياض الحليب من أثداء أمهاتهن فقط، بل يتعداه إلى رضوخ الجدات والتقاليد بحجة صون الأسرة وحمايتها من التفكك، والخوف من الفضيحة، ويغيب عنهن أن السوس يعمل النخر في عظامهن، وعظام أفراد العائلة كلها في جحيم يستشري!  

   ظاهرة لا يسلم منها المجتمع بتنوع مداراته، فكم من غائص سيخرج بسلال من القهر المكبوت، والدموع اللذّاعة التي تردمها النساء باختلافهن يحيلني إلى الحديث عن جانب عرفته، وعايشت انتشاره بقوة في أوساط أرباب من المثقفين ضمن معايير تختل، تغدو شيرين لها المحرض!

 ما الذي يحول امرأة ذات استقلال ورسوخ إلى قطّ خاضع يسكت لزوج يؤذي، ويستغل على كافة الصعد، وما الذي يلجئ رجلا ذا ألق ثقافي واجتماعي إلى الكذب، والزّيف ليتقرّب من امرأة، ثم حين تقترن به، تكتشف مثلا أن البيت الذي وعدها به قد أسكن فيه أخرى تحت حجة وغيرها، وأن أحلاما زينها بالمسؤولية تجاهها، ليست إلا قناعا يسقط في أول يوم يجمعهما، لتراه الكاذب، والكسول، والمتكاسل عن طلب الرزق، بل، وبكل وقاحة يطلب أن تستأجر بيتا ليسكنا فيه، وتدفع أجرته، وتتكفّل به وبنفسها، ويستغل آخر غياب امرأته عن الوعي بتأثير مرض ألمّ بها من شدة الجهد الذي تبذله في العمل لتنفق على البيت في تغيير للقبلة المتعارف عليها، فيسرق مالها، وما يُقدّم إليها من هدايا مادية لتعينها على استكمال علاجها، بل وإنه يرسله إلى زوجته الأولى التي ادعى طلاقها حين تقدم للزواج من الثانية، ويتباهى آخر بكل وقاحة أمام حشود معجبيه في أوساط الثقافة، والفنانين بالمرأة الحساسة التي ابتليت به، والتي تصمت كرها اتقاء أن يلوكها الناس، وتتقّنع بابتسامة دائمة كي لا يشعر أحد بما تكبت من الألم.

مثقفو هذا الزمان، وأستحضر أحدهم وقد اقتحم علي شباك المسنجر طالبا صداقة صفحتي، قبلته لأن صفحته أظهرت اهتمامه بالشأن الثقافي، لا بل هو المثبت نفسه شاعرا بين لفيفهم، ليصلني بعدها منه قذف، وشتائم، لماذا؟ لأنني لم أهتم لرابط أرسله، يبدو أنه عندما لم يلحظ تعليقا مني استبد به الغضب، وعدّها إهانة كبيرة، فكيف تهمله امرأة تكتب، وهو المتفوق في عرفه نوعا وقوامة دينية ومجتمعية؟!

  الرجل مريض بالإيغو المترفعة حدّ الهشاشة، فلم يجرؤ علنا على بث سمه، بل نفثه من شباك المسنجر معتقدا أنه ثأر لمكانته الأدبية التي يتوهمها، فقوبل مني ببساطة بعدم التعليق أيضا!

 يتهيأ لي أن عواءه المغتاظ خلف إسمنت مسنجري قد نهش جدرانه!

  أتخيل ذاك النموذج مع امرأته، وأستذكر الفراغ الذي تعكسه عيناه، وأتعداه إلى آخر سليل الشرذمة التي تعيش ازدواجية الذكورة وألق المناصب، وجوهٌ مجتمعية ذئبيةُ الأوكار والأحابيل، ضحاياهم نسوة مثل شيرين التي تمتلئ حياة ونشاطا، وعطاء وشفافية، وكاتبة كالتي أنصتّ إليها أمس مطولا بكل أحاسيسي، واصطحبتني ليلتها في منامي، وأستحضر أخرى لملمت معها جراح سنوات ثلاث كشفت لي فيها من تلّون ذلك الرجل الذي تزوجت به إلى أن أطلق الله يد رحمته بالخلاص.

 الحديث لا بدّ أن يمتدّ هنا، وبطلاقة عند "البيجاما" التي ارتداها الأخير ليلة زفافه، وقد انفض منها اللون، أكمامها المدلوقة خارج راحتيه بمقاس فاقه طولا، وحجما، والتي لم يستح أمام عروسه من الاعتراف أنها هدية قديمة من صديق اعتاد أن يرفده بالهدايا والمال بين الحين والآخر، أما بقع الصدأ التي كست أطرافها، فيمكن للقارئ تصورها بلا حرج، البيجاما الأسطورة التي رافت حقيبة سفره، واصلت صداقته سنوات أخرى متباخلا عن استبدالها، إلى أن صوّبت فيها الزوجة نيران عداوتها.. لا تظن أن المسكينة لم تشتر له الجديد، بل اشترت، لكنه لشدة بخله كان يتمسك بذات الأكمام المدلوقة!

 أواه على ذلك المثقف وقد قعد بها وسط الدار، يعلن لعروسه إفلاسه في مساء الليلة الأولى التي جمعتهما، ويطالبها بعد أن زجّها في قفص الزوجية أن تتقبل كذباته، وأن تتكفل بمصاريفهما ونفقات البيت، ثم يخرج إلى الملأ متفاخرا بما أنعم الله عليه، زوجة ذات منصب، وحضور مجتمعي، تظهر الاستكانة والخضوع، فقط كي لا ترفع رايتها حمراء أمام خلق الله، فتلوكها الألسن، والأقاويل!

يبدو أن أصناف أولئك المثقفين يثأرون من المرأة التي لا ترضخ لهم برميها بالجهل، كما قال " ألبرتو مورافيا".. أي تجهيل أكثر تدميرا من استغلالها، وقمعها؟!

 ترى لو أن تلك الزوجة، وأمثالها أدركن السر في قول الحقوقي والناشط الأسترالي مؤسس موقع ويكيليكس جوليان أسانج "في كل مرة نرى الظلم ولا نحرك ساكنا، فنحن نربي أنفسنا على الرضوخ".. هل كانت ستتغير بهن الحال؟!.

 

أمان السيد

 

 

ابراهيم مشارةموقع قنطرة من أجل حوار حضاري

ليس التقارب والرغبة في الفهم من قبل الألمان للعالمين العربي والإسلامي وليدي اليوم ووليدي مستجدات الحياة الاقتصادية بزخمها بل إن ذلك عريق يعود إلى زمن ما قبل غوته صاحب" الديوان الشرقي للمؤلف الغربي" والذي أطلق فيه مقولته الكبيرة المفارقة للأطروحة الاستشراقية العدائية: (إذا كان الإسلام يعني القنوت فعلى الإسلام نحيا ونموت).

 فالمثقفون الألمان الذين عنوا بمقاربة الثقافة العربية والإسلامية بغية فهمهما انصرفوا أولا إلى القرآن باعتباره دستور الثقافة العربية والإسلامية فأول ترجمة للقرآن إلى اللغة الألمانية تمت عام 1616 عن الإنجليزية، فالقرآن كما أسلفنا هو دستور هذه الثقافة من طنجة إلى جاكرتا ،غير أن الألمان لم يحبذوا الترجمة عن طريق لغة وسيطة أي عبر الإنجليزية أو الفرنسية بل النقل عن لغة القرآن الأولى العربية ، واحتفت هذه الأوساط بصدور أول ترجمة لمعاني القرآن إلى الألمانية عن العربية مباشرة بواسطة ديفيد فريدريش ميجيرلين ولو أنها ترجمة ناقصة ويعتورها سوء الفهم والمقصد كما يوحي العنوان المختار لها  "التوراة التركية أو القرآن"  مع صورة للنبي كتب تحتها  "محمد النبي المدعي" هكذا عنون ميجيرلين ترجمته وهي ترجمة رديئة وصفها غوته بالإنتاج البائس وقد كان غوته نفسه يعتمد في دراسة  القرآن على ترجمة تيودور آرنولد عن الإنجليزية، لكن أحسن ترجمة إلى الألمانية والتي توصف بالشعرية والجيدة هي ترجمة فريدريش روكرت عام 1843 فقد كانت شعرية حقا واقتربت كثيرا من روح القرآن.

غوته الذي اكتشف الثقافة الإسلامية عبر شعر محمد حافظ الشيرازي الذي نقل إلى الألمانية عن الفارسية ديوانه الشعري المستشرق النمساوي هامر برجشتال عام 1814وقد كان الديوان الشرقي للمؤلف الغربي الذي تعد نسخته الأولى جزء من التراث الوثائقي  العالمي لليونسكو محاولة جريئة في طرح الأحكام المسبقة والرغبة الشديدة في الفهم والاعتراف بالآخر وثقافته وفهمها.بل أعلن غوته صراحة: (لا توجد لغة تتجسد فيها الكلمة والروح والكتابة بهذا الشكل الأزلي مثلما هي الحال في اللغة العربية) وكأن الديوان برمته هو رد على فولتير في مسرحيته محمد التي وسمه فيها بالمحتال دون ضمير.

سبق  الحضور الألماني في الشرق والرغبة في الاكتشاف والفهم – وإن كان لبعضهم الحكم المسبق والنظرة العجائبية والولع بالعالم الأسطوري  تحت شمس الشرق الحارة ونسائه المثيرات للرغبة ، الحريم- وقد كانت الرحلة سيبل تعزيز هذه النظرة مثلما هي الحال مع برنهارد فون برايدن الذي زار فلسطين في رحلة الحج إذ انطلق يوم  يوم 25 نيسان عام 1483وهي تدخل ضمن السياحة الدينية وهي تهدف إلى دعم المسيحية على حساب الإسلام فقد كان الرجل قسيسا مع تقديم صورة سيئة برصد اختلالات الواقع وإحالتها على النصوص المؤسسة للثقافة الإسلامية.

وكانت رحلة الحج المتتكرة والمشهورة لهاينريش فون مالتزان( 1826/1847) والتي بدأها بزيارة المغرب والجزائر والحجاز برغبة الاطلاع والاكتشاف تحدوه روح المغامرة مع الولاء للمسيحية والتعصب لها وهي كسابقتها محكومة بالفكر المسبق والرأي المشحون ضد ما هو مختلف بل وتقزيمه  وربطه بالمتخلف والعجائبي والسحري وكتب تقريرا عن رحلة الحج هذه في 750 صفحة وقد كان مالتزان ضمن 12 رجلا أوروبيا الذين رأوا الكعبة إلى  ذلك التاريخ 1860 ونصوصه يطبعها طابع السخرية وسطحية الفهم لكن أهميتها تكمن في أن معرفة الآخر لم تعد سبيله الأولى القراءة بل الرحلة إليه وهذا في حد ذاته إنجاز هام.

وجاءت زيارة الإمبراطور فيلهلم الثاني أوغليوم الثاني كما تسميه المصادر العربية (1859/1941) عام 1898 بدعوة من السلطان عبد الحميد الثاني إلى إسطنبول وبعض ولايات السلطنة كالشام وفلسطين ولبنان  لتوكيد الرغبة في التقارب والفهم العميق والاحترام المتبادل  وقال الإمبراطور عقب عودته :(إن استقبالي في دمشق كان باهرا ومدهشا وتمنيت لو أخذ عن دمشق كيف تستقبل الملوك)  وقد زار قبر الناصر صلاح الدين الأيوبي وأدى عند الضريح آيات التجلة والاحترام بل نزع غطاء الرأس وانحنى إجلالا ووضع إكليلا من البرونز صنع في برلين وللأسف سرق لورنس العرب هذا الإكليل بدعوى أنه غنيمة حرب بل أثر عنه أنه قال: (لو لم يكن لي دين عند وصولي إلى القدس لكنت قد اعتنقت الإسلام حتما) وامتدحه أمير الشعراء شوقي في شهامته وحسه النبيل ومنزعه الحضاري الإنساني:

فهل من مبلغ غليوم عنـــي

مقالا مرضيا ذاك المقامــا

رعاك الله من ملك همــــام

تعهد في الثرى ملكا هماما

وقفت به تذكره ملوكـــــــا

تعود أن يلاقوه قيامـــــــــا

حوار وتقارب ثقافي وعلمي مع العالمين العربي والإسلامي تعمق وترسخ وغدا أكاديميا في طلائع الاستعراب وما قدمه مستعربون ألمان أمثال فلايشر وبروكلمان وشاخت وهونكه وصولا إلى آنا ماريا شمل وتوماس باور وأنجليكا نويفرت والحق أن هذه الدراسات الاستعرابية الألمانية قد أفادت الثقافة العربية الإسلامية بإخراج كنوزها الرابضة في المتاحف العالمية  وفي تحقيق النصوص وصيانتها وقد اتسم منهجهم بالضبط والصرامة والدقة العلمية وإن كان لبعضهم من التحيز والاستعلاء والتعصب ما لا يخفى على الحصيف  من القراء بتعمق وبروح نقدية صارمة.

هكذا يواصل موقع قنطرة رسالة المثقفين الألمان من لدن القرن السابع عشر إلى اليوم في        الحوار والتفاهم والرغبة في الفهم العميق وطرح الأحكام المسبقة واحترام الآخر وثقافته وقد تأسست هذه البوابة بناء على مبادرة من وزارة الخارجية الألمانية من أجل فهم الآخر المختلف وبغرض الحوار البناء الذي يكرس ثقافة السلم والتبادل المعرفي والخبرة العلمية مع العالم العربي والإسلامي ومعرفة ثقافته معرفة صحيحة في تطورها وراهنيتها وامتدادها التاريخي ونبذ كافة الأحكام المسبقة وأشكال الإدانات ونرجسية الذات الغربية المتسلطة وتعاليها ومركزيتها في سبيل الفهم والتواصل ولا أدل على ذلك من العنوان "قنطرة" الذي يحيل على  معنى التواصل ومد الجسور بين التاريخين والفكرين والوجدانين العربي الإسلامي والألماني  من أجل العبور بسلاسة إلى قرن جديد قائم على الاعتراف المتبادل والتعددية والانفتاح على ثقافة الآخر بروح كونية إنسانية لا تقصي الآخر ولا تلغيه إيمانا بمبدأ التعددية والتناغم الحضاري وأن الآخر هو تكملة للأنا وتعزز هذا المنحى بعد هجمات 11 سبتمبر ويتم تشغيل الموقع من قبل الوكالة الفيدرالية الألمانية للتربية المدنية والإذاعة الألمانية دويتشه فيله  والمعهد الألماني للعلاقات الثقافية الخارجية  وشعار الموقع: مكافحة الجهل والتحامل من خلال المعرفة.

تأسس موقع قنطر عام 2003 عقب هجمات 11 سبتمبر وما خلفته تلك الهجمات من عدائية وتحامل من قبل الغرب على الثقافة العربية الإسلامية وكونها داعمة الإرهاب والأصولية وعدوا لدودا لقيم المواطنة والديمقراطية وحقوق الإنسان والمرأة والفنون والحداثة ونأى الموقع عن هذه النظرة المتحاملة والمغرضة والمسبقة سالكا مسلك الاعتراف والموضوعية والاحترام والتقصي والفهم والتحليل محررا بلغات ثلاث الألمانية والعربية والإنجليزية  وهو يعرف نفسه بأنه (يعرض وجهات نظر متنوعة نقدية في الشرق والغرب وكل الثقافات والسلوكيات والسياسات التي ترفض الآخر وتنكر الحقوق الأساسية للإنسان وتناقض قيم الديمقراطية).

والحق أنه بعد هجمات 11 سبتمبر 2001 اتجه العالم الغربي بما فيه أمريكا - ضحية تلك الهجمات- إلى رغبة قوية في التعرف على العالم العربي والإسلامي  فهناك من المقولات الاستشراقية ما يزعم أن الإرهاب من صميم الثقافة الإسلامية وهي مقولات روج لها بعض المستشرقين  منذ القرن الثامن عشر قرن بداية الثورة الصناعية ونمو البورجوازية وبداية عهد الاستعمار  ووجد أولئك المستشرقون مجالا للطعن في القرآن  والزعم أن الإسلام إنما انتشر بالسيف  كما أنه يهين المرأة ويرفض الآخر المختلف بل ويلغيه (كافر) ولا يمكن ابدأ التقارب بين الشرق والغرب فهما كما قال كبلنج: (الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا أبدا).

من منظور معرفة الآخر والتعمق في ثقافته ومحاولة التحلي بروح الموضوعية والتقصي وعمق التحليل والاعتراف بحق الآخر المختلف في الوجود وكذا بثقافته التي كانت الرائد ة في  العصر الوسيط وقنطرة إلى الثقافة الإغريقية  ذاتها اقترب موقع قنطرة بلغاته الثلاث  من العالمين العربي والإسلامي نابذا كل مشاعر الكراهية والتعالي  معليا من شأن الحوار  داعيا إلى التناغم الحضاري وإلى ثقافة السلام ولا يعني هذا أبدا وجود ثقافة يمينية في ألمانيا ذاتها - شأن اليمين في كامل أوروبا-  يتسم بالرفض والعنف أحيانا وإبداء  مشاعر النبذ والكراهية  ولكنها ثقافة تبقى مدانة من قبل الألمان أنفسهم أو على الأقل عند قطاع عريض من مثقفيهم وساستهم ومن عامة الناس فالتعايش السلمي والاحتكام إلى قيم المواطنة والديمقراطية  وحقوق الإنسان والحريات الأساسية للإنسان هي السقف الذي يظلل سماء الوطن وموقع قنطرة يكتب به أكثر من 500 من الكتاب  من المختصين والمستعربين والأكاديميين  وعلماء المستقبليات من الشرق والغرب  بإشراف من أستاذ اللاهوت كارل يوسف كوشل، وعالمة الإسلام حليمة كروزن، وباحثة  الصراع هاينر بيليفيلد وعالم الفيزياء إرنست أولريش فون فايتسكر وحوالي 100 من نخبة الكتاب العرب والمسلمين   كما يقدم الموقع نفسه  إلى المهتم ، وهكذا يتلاقى التحليل والرصد والتقصي من قبل الغرب والشرق معا من أجل الوصول إلى الحقيقة وتكريس التلاقي على قيم العلم .وقد كتب بالموقع أو تم تعريب ونشر مقالات  كبار الكتاب والمفكرين والمستعربين الألمان أمثال يورغن هابرماس غونتر غراس ، آنا ماري شيمل، هارتموت فندريش، مراد هوفمان، شتيفان فايدنر ،أنجليكا نويفرت ،توماس باور وغيرهم وحوارات ودراسات ومقالات من الشرق نفسه بأقلام إلياس خوري، برهان غليون، جورج طرابيشي، سلامة كيلة، صادق جلال العظم، نصر حامد ، علي حرب، محمد شحرور، وحورات حضارية وثقافية عن الثقافة الإسلامية، الحداثة الشعرية، حوار الحضارات ، الحقوق الإنسانية، أزمة المواطنة في الشرق ، التجارب الديمقراطية ، قضايا المرآة والمعاصرة الخ مع أدونيس، إدوارد سعيد، محمد بنيس، ناصيف نصار، محمد أركون، نوال السعداوي، أمين معلوف  وغيرهم.

وهكذا قدم الموقع للمثقفين في العالمين العربي والإسلامي  ملفات على جانب من الأهمية عن الثقافة العربية والإسلامية وحوارات مع مستعربين وعلماء مستقبليات ورحالة مازالوا يواصلون عطاءهم الحضاري والعلمي في حقل الدراسات العربية والإسلامية مثل زابينه شميتكه الباحثة في الدراسات الإسلامية مكتشفة العديد من المخطوطات العتيقة في القاهرة وإسطنبول وبرلين والتي تؤكد دائما على الأثر الإيجابي للتفكير المشترك بين الفلاسفة المسلمين والمسيحيين واليهود حيث كانت اللغة العربية قاسمهم المشترك وقد اهتدت إلى كثير من المخطوطات الضائعة وبعضها يكاد يتلف من أثر القرون والعوامل الجوية أو الإهمال الإنساني وهو  يحتاج إلى إصلاح وهو ما تفعله في ألمانيا مع خليتها البحثية فالعقل الإسلامي عقل يحث على السلام مع نبذ فكرة أن ليس هناك عقلانية في الإسلام  والإسلام دين متخلف وتقليدي بل إن العالم الإسلامي كافح من أجل التعددية وما هيمنة التيارات المتعصبة سوى طارئ له أسبابه السياسية والتاريخية والاجتماعية دون أن ننسى الصدمة الحضارية في التقاء الشرق بالغرب عبر الحروب الصليبية أولا ونشوء الإمبريالية والاستعمار وما خلف ذلك من ردة فعل عند الشرق بالانكفاء على الذات .وفي اليمن لوحده 50ألف مخطوطة جلبها الشيعة معهم إلى هناك بعد تراجع الاعتزال وهي تسلط الضوء على نشأة الفكر الفلسفي والصراعات الفكرية والمذهبية والسياسية في العالمين العربي والإسلامي.

كما عرف القارئ العربي عبر موقع قنطرة المترجمة الألمانية دوريس كيلياس التي نقلت إلى الألمانية حوالي 40 رواية من روايات الأديب العالمي نجيب محفوظ  وقد رحلت عن دنيانا في 2008 وترجمت كذلك روايات محمد شكري وجمال الغيطاني وميرال طحاوي ، وتعرف الألمان والعرب على السوية بدور النشر التي تهتم بحقل الترجمة إلى الألمانية عن العربية  كدار نشر أونيون في زوريخ التي دأبت كل عام منذ1986 على ترجمة ونشر رواية لنجيب محفوظ  وهي للناشر لوسيان لايتس.

كما يقدم الموقع للعالمين العربي والإسلامي و للمتتبع في العالم برمته عبر اللغات الثلاث وفي محاور تطرح إشكالات المثاقفة والحوار بين الأديان والثقافات وأحوال المجتمع العربي          المعاصر سياسيا وثقافيا واجتماعيا وعبر معرض الصور والملفات الكثيرة الموثقة بالمقالات المتخصصة لكتاب ألمان وعرب وغربيين مما يعطي المتتبع صورة بانورامية للعالم العربي والإسلامي في القرن الجديد بروح أقرب إلى الموضوعية وكشف الحقيقة كما يقدم صورة الجالية المسلمة في ألمانيا اليوم ومشاكلها في الاندماج والعمل واللغة وأزمة الهوية فلم تعد الجالية المسلمة اليوم في ألمانيا هي الجالية التركية فقط بل تشكلت من أفواج طالبي اللجوء من سوريا والعراق وأفغانستان والجمهوريات الإسلامية والمغرب العربي وتسعى السياسة الألمانية إلى احتواء هذه الجاليات عبر تأهيلها مهنيا مع الاعتراف بخصوصيتها الدينية في إطار احترام الدستور الألماني وحقوق الإنسان والحريات وفي نفس الوقت شجب كل التصرفات اليمينية المعادية التي تستهدف هؤلاء المهاجرين وثقافتهم كتجربة اليوم المفتوح على المساجد ، وتجربة رفع الآذان يوم الجمعة منذ سنتين في مدينة كولونيا فمازالت الصعاب قائمة رغم محاولات التقارب والفهم كما يقول الإمام بنيامبن إدريس الذي امتدحته المستشارة ميركل: (فالمجتمع الألماني ليس مستعدا أن يعيش في بلد يمكن فيه سماع أجراس الكنائس في الأماكن العامة كرمز ديني ولكن لا يفهم فيه أيضا صوت الآذان على أنه يشكل تهديدا للقيم المشتركة بها كإثراء وأن يكون قدوة للدول الإسلامية بالظهور في الأماكن العامة.) ومثل هذه الإشكالات يطرحها الموقع بجسارة بقصد الحوار والتفاهم وإيجاد مساحة للعيش المشترك في جو السلام المنشود.

والمتتبع لما يطرحه الموقع من قضايا الساعة في العالم العربي خاصة سياسيا واجتماعيا    وثقافيا لا يلمس روح الإدانة والأحكام المسبقة أو روح التحريض والإثارة بقدر ما يلمس روح التقصي ومقاربة الحقيقة مع احترام سيادة هذه الدول على أراضيها كقضايا الحريات والديمقراطية والتعددية السياسية والانتخابات والحراك الشعبي في البلدان العربية وما اصطلح على تسميته بالربيع العربي ومشاكل الأصوليات والانغلاق الديني وقضايا يشكل طرحها جسارة كبيرة مثل: المثلية الجنسية والعلاقات بين الجنسين خارج الزواج والاغتصاب وزواج المسيار،  الطفولة المشردة ، العمالة، الكحول، المخدرات، الحريات الدينية ، البغاء، سجناء الرأي، التعذيب  وهي قضايا تحرم الأنظمة العربية طرحها وتتابع أصحابها فالعادة أن السياسات العربية تنأى عن مناقشة  مثل هذه المواضيع كونها شاذة وخارجة عن منظومتنا الأخلاقية والدينية ومن آثار التغريب والتخريب وهو عذر أقبح من ذنب فالشمس لا تغطى بالغربال كما يقول المثل العامي فلا يمكن حجب آثار هذه المشاكل في الحياة الاجتماعية خاصة وهي ظاهرة للجميع مراقبين داخليين أو خارجيين ، هذا الطرح الذي يجنح إليه الموقع في مقاربة تستخدم العلوم كالإحصاء وعلم النفس والأنثربولوجيا والاقتصاد والتاريخ  والدراسة الميدانية لمشاكل العالم العربي والإسلامي في صراعه من أجل الحداثة والمواكبة وجملة المشاكل المعترضة تاريخيا وثقافيا وسياسيا وصدمة المواجهة مع الغرب وما ترتب عنها من هزات آثارها مؤثرة إلى اليوم بعيدا عن الطرح المثالي والرومانسي الذي لا يقدم ولا يؤخر عبر ما يكتبه المختصون من الألمان والعرب ويسمح لكل ذي رأي عرض وجهة نظره في إطار احترام حق الرأي المختلف يعيدا عن الإدانة والتحقير والتعالي ومس الكرامة. خاصة فيما يتعلق بالحريات وحقوق الإنسان حيث عرض الموقع تجاوزات هذه الأنظمة مما حدا بمصر مثلا إلى حجب الموقع في 2017.

تجربة رائدة في الحوار والتواصل البناء برغبة الاكتشاف ومقاربة الحقيقة يقوم بها موقع قنطرة بين ألمانيا والعالمين العربي والإسلامي  وهو نموذج للغرب نفسه في السلوك الديمقراطي والروح الموضوعية - ما أمكن- وثقافة الحوار والعيش المشترك والرغبة في الفهم وطرح الكليشيهات الجاهزة والأحكام القبلية الجائرة التي صنعتها قرون من الأحقاد والحروب والاستعمار والأطماع والنرجسية والتعالي والمركزية التي ترى غيرها هامشا وذيلا وتابعا في أحسن الأحوال ولا يعيب ألمانيا أنها تسعى إلى المكاسب الاقتصادية فهذا حقها في عالم يبحث عن التوسع والشراكة الاقتصادية فالوجه التجاري للعولمة لا يخفى على أحد ولكن من أجل عولمة أكثر إنسانية لا تلغي الآخر وثقافته ولا تتنكر للحقوق والحريات الإنسانية ليس في الغرب لوحده ولكن في العالم أجمع وهذا ما يسعى إليه المتنورون من مثقفي ألمانيا استكمالات لمساعي غوته في التقريب بين الشرق والغرب ورسالة غليوم الثاني وجهود الراحل مراد هوفمان.

  

إبراهيم مشارة

 

فارس حامد عبدالكريملا شك ان التعليم ومدى جودة بنيته التحتية قد أخرج دولاً من تحت ركام الجهل والتخلف والبدائية والحروب ...  لتغدوا عملاقاً اقتصاديا ينافس اقتصاديا أقوى الدول في العالم المعاصر ، بينما  كان انحدار مستواه قد اخرج دول من نطاق المنافسة بعد ان شهد بداية قوية وصعود ملحوظ في نظام تربوي ناشئ كما في العراق بعد ان انحدرت به الثوريات المزيفة والتثقيف الحزبي المتحيز الملئ بالغباء شخوصاً ومضموناً الى الحضيض الكلي!!

التجربة الكورية للتعليم؛

هل كانت كوريا الجنوبية افقر دولة في العالم سنة 1960. !!!!!

حسب تقرير التنمية البشرية الذي يصدر عن هيئة الامم المتحدة سنوياً، ان الهيئة أوصت بدراسة وتحليل اقتصايات الدول من حيث الاقتصاد والبنية التحتية ومستوى الفقر ومعدل دخل الفرد السنوي ...

 وجاء تصنيف كوريا الجنوبية لسنة 1960 ضمن الجدول الذي يضم الدول الأفقر على مستوى العالم: (السودان، غانا، موزمبيق، كوريا الجنوبية) ومعدل دخل الفرد كان فيها لا يتجاوز 79 دولاراً في السنة !!ّ

 هل هذه مزحة؟

لا انا جاد جداً في جدي ومزاحي دائماً.

ولكن السؤال كيف تحولت كوريا من افقر دولة في العالم سنة 1960 الى عملاق اسيوي اعتباراً من ثمانينات القرن الماضي اي خلال عشرين سنة فقط لتصنف ضمن:

(مجموعة العشرين لأكبر اقتصادات العالم).

لقد طبقوا نظام التعليم الياباني الدي اخرجها من ركام القنبلة الذرية الى عملاق ينافس بقوة ويوجه اقتصادياً اقوى الضربات لاقتصاديات من قصفه بالذرية ... نظام تعليم متشدد يأخذ فيه كل صاحب حق حقه اما غير المتمكن فيخرج من نطاقه في وقت مبكر الى اعمال ومهن تتلائم مع قدراته بدون (يله خطية نجحوه) دمرتنا هذه ال (خطية) دماراً اجتماعياً شاملاً مادامت تأتي في غير مناسبتها وفي غير مكانها. 

وإذا قلنا إن النظام التعليمي في كوريا الجنوبية هو الأفضل ويصنف بأنه الأول على مستوى العالم إلا هذا لا يمنع أنه الأشد قسوة على الطلاب، فاليوم الدراسي الكوري يستغرق نحو 12 ساعة.

فيبدأ اليوم تقريبًا في الثامنة صباحًا، وتظل المدارس مفتوحة حتى الساعة الثانية عشرة صباحًا. وحتى الساعة الحادية عشرة مساءً ستجد الشوارع مكتظة بالطلاب والآباء.

ينقسم اليوم المدرسي في كوريا إلى: يوم دراسي رئيسي، وصفوف تقوية، اليوم الدراسي الرئيسي يقسم إلى 7 دروس وساعة للغداء، مدة الدرس 50 دقيقة، مع وجود 10 دقائق راحة بين الدروس، بعد مرور 4 دروس يحصل الطلاب على راحة لمدة ساعة للغداء، تُقدم فيها المدرسة وجبات صحية وشهية للطلاب، ثم بعد ذلك يعودون لاستئناف يومهم الدراسي أو ما تبقى منه أي 3 دروس وينتهي في الخامسة.

التجربة العراقية للتعليم

لانريد العودة الى زمن الملك البابلي العظيم حمورابي حيث أسست أول مدرسة نظامية لتعليم الطلاب في التاريخ.

ولكن في بدايات تشكيل الدولة العراق في مطلع القرن العشرين أُسس نظام تعليمي يقوم على بنى تحتية ذات جودة عالية، ابنية مدرسية غطت اجزاء واسعة من مدن وأرياف العراق، وتم إعداد معلمين ومدرسين  على قدر عال من التأهيل العلمي والتربوي فضلاً عن الثقافة الشخصية المعتبرة، يقودها نظام اداري هرمي حديث ووزارة للمعارف، فضلاً عن نظام مراقبة وتفتيش فعال يراقب تطبيق معايير الجودة والأسس الحديثة للتربية، وكانت هناك دوماً رغبة وطنية صادقة  لجميع أعضاء الهيئات التعليمية لتطوير التعليم وزيادة جودة الطلاب..

نحن الآن في مشكلة عويصة اومجموعة مشاكل عويصة في مجالات متنوعة من أوجه الحياة المعاصرة كانت حلولها قد وضعت قبل قرن من الزمان ولكنها ضاعت او تم تَضيعها عن عمد وعن إهمال .... نعود ونقول ان  الفاسدين قد أضاعوا علينا اكثر من 18 سنة من فرص التعليم والتطور (والله حرامات) ..

 

 

فارس حامد عبد الكريم

 

عبد الخالق الفلاحكانت الرسالة التي حملها الرسول محمد ( ص) رسالة حق وعقل ومنطق، حملها حكيم تميزبها فلهذا كُتب لها النجاح في العالمين لأنها اعتمد الركائز الاساسية التي كانت أساسا لتثبيتها ثم لانتشارها لتكون في النهاية (رحمة للعالم أجمعين)، ولاشك ان ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ۚ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ 157الاعراف ، لانهم وجدوا فيه كل صفات الحكيم وحمله البارئ القادرعز وجل الامانة والله هو (من أحاط بكل شيء علماً وأحصى كل شيء عدداً، وخلق كل شيء فقدره تقديراً ودبر شؤون ملكه تدبيراً لا يعتريه خلل ولا تفاوت وحكم بين عباده بالعدل المطلق وهو يقول الحق ويهدي إلى سواء السبيل بالحكمة الباهرة والحجة الظاهرة والسلطان القاهر، ويقضي قضاء لا يقبل الرد ولا التعقيب. وهو الذي يعلم من شاء من عباده الحكمة وحسن المنطق، واحكام التدبير والتقدير وتحري الصواب في الأقوال والأفعال) ومن الناس من هو الذي يضع الأمور في موضعها أو الذي يصيب في أقواله وأفعاله بقدر طاقته البشرية، أو هو الذي ينطق بالحكمة، والحكمة: هي القول السديد والعمل الرشيد والتدبير الأمثل. وهي أيضاً: حبس النفس عن الزيغ والانحراف عن الحق والميل مع الهوى الجامح والتيار المنحرف. والحكمة أيضاً هي معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم.

لقد كانت كلمات الله سبحانه وتعالى الي نبيه في أول ما أنزل عليه قرآنا فصيحا ببلاغته ومنطقة بدأ من: (اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم) العلق الآيات من 1 الى 5، وكانت لحكمة الرسول الكريم وحواره العقلي في عشيرته الأقربين أي: أنذرهم وإن لم يسمعوا قولك أو لم يقبلوا نصحك لكونهم أزهد الناس، فإن ذلك ليس عذراً مسقطا للتبليغ عنك"، الاية"، وَأَنذِرۡ عَشِيرَتَكَ ٱلۡأَقۡرَبِينَ" 214 الشعراء ، ثم الناس أجمعين .

ان العقل ليس كائناً أو موجوداً مادياً، إنما هو فعلٌ وعملٌ فكري ونفسي وروحي غير مادّي، ترتبط به الأعمال الفكرية غير المادية، التي تظهر في الأوامر والنواهي، والخيارات والمفاضلات، وأعمال الإرادة واتخاذ القرارات، والإبداعات الفنية والأدبية... وإن كانت هذه الأعمال الفكرية تُترجم إلى أفعال مادية وتتجسّد فيها تستمد وجوده من نبع المنطق الصافي ليكون حجة لمن يحتج به.

لقد تعلمنا من أن الدماغ والأجهزة العصبية التابعة له، هو مركز الإدراك، والفهم، والتجريد، والتحليل، والتركيب والاستنتاج والاستنباط؛ يعني باختصار و بين العقل والقلب جامع مشترك في اللغة، هو اللبّ، الذي يعني العقل كما يعني القلب، من هنا تأتي الإشارة إلى القلوب بمعنى العقول في القرآن الكريم، رمزاً واصطلاحاً، كونها تعني الألباب. بالألباب تعني القلوب، وهي تعني العقول في الوقت عينه، حيث وُصف الإنسان العاقل والذكيّ الفطن اللبيب.

أن الدماغ هو مركز الذي يسير العقل والتعقّل، بدليل وجود مراكز دماغية متعدّدة، وكل مركز منها مسؤول عن نوع من أنواع السلوك والتصرفات، إذ يوجد مراكز للحركة الإرادية وغير الإرادية، ومراكز استقبال المعلومات الواردة من الحواس، ومراكز للإحساس بالجوع والعطش وتنظيم عمل الغدد، كذلك مراكز للمشاعر والعواطف والانفعالات، والقدرات المتنوعة، "اللغوية والحسابية والرياضية " وغيرها من أعمال الإدراك والتحليل والتفكّر والتذكّر. وهذه المراكز تغطّي وتدير جميع أنواع السلوك والتصرّفات، والحالات الإنسانية المختلفة، النفسية والعقلية والفكرية والاجتماعية. والمعلوم ان لا يكون الإنسان حكيمًا إذا لم يعرف الحدود الفاصلة بين ما يعلمه، وبين ما يجهله و المعرفة ضرورية جدًا لتجلي الحكمة في حياة الإنسان و من خلال المعرفة نستطيع التوقف عن الكلام والجدال والإعلان باننا لا تعرف أكثر مما تقول، أو الإعلان بأن الكلام لم يعد مفيدًا؛ لأنه صار عبارة عن مراء، يُظهر أمراض النفوس أكثر مما يُظهر.

يقول بعض العلماء ان "الوعي هو ادراك عقلي حدسي كونه غير موضوع يدركه العقل، ولا يستمد الوعي قدرته الادراكية من غير تعالقه بالذهن والذاكرة والمخيلة والجهاز العصبي الناقل لتفكير ومخارج العقل، وأخيرا يأتي تعبير الفكر واللغة في خلاصة تعبير العقل عن الاشياء وكل حلقة خارج هذه المنظومة العقلية لا معنى لها بغير دلالة العقل لها أدراكا حسيا في انتظامها الإدراكي وليس إدراكا حسّيا منفصلا كونها حلقات معرفية استدلالية مجردة مهمتها نقل تعبيرات وافصاحات العقل ولا تشكل موضوعات إدراكية متعينة مادية للعقل.. عليه يكون كل موجود معرفي مدرك وغير معرفي لا مدرك هو حالة قلقة في فرضية امتلاكه معرفة قبلية مدخّرة مستقلة عن بعدية الإدراك العقلي لها.. وقبلية المعرفة المستقلة ذاتيا يجعل العقل منها معرفة بعدية لذا لا تمر الانطباعات العقلية بالذهن الا من خلال المرور عبر حاجز الادراك العقلي الذي يكون مصفاة لما يمكن إدراكه من عدمه بما يستقبله من أحاسيس داخلية وإحساسات خارجية".

 

عبد الخالق الفلاح

 

 

عصمت نصارإنّ المتابع لكتاباتنا عن المشروع الفلسفي في مصر، وخطابات الاتجاهات المختلفة عن مشروع النهضة العربية، في إمكانه مراجعة جهود "إسماعيل مظهر" ودعوته لنشر المعارف الفلسفية وإدراجها ضمن المناهج التعليمية؛ سوف يتبيّن له أن معظم آرائه تنضوي تحت راية المجددين الليبراليين العلمانيين، وأن وجهته تجمع بين الفكر الحداثي الذي يُعلي من قدر الفلسفة والعلم ويؤيد في الوقت نفسه نقد الفكر الموروث لتخليصه من البدع والخرافات والتعصب. أي أن "مظهر" يشكل حجر الزاوية في بناء مشروع النهضة.

وقد أسهبنا في تبيان موقفه من الفلسفة من قبل. والطريف أن "محمد فريد وجدي" هو أيضاً وقف نفس الموقف وشغل عين الموضع. فبات مجدداً بين المحافظين حيث جمع في آرائه بين الحفاظ على التراث وتقويمه وتجديده والدفاع عن العقيدة ضد المجترئين والمتشيعين للغرب. في حين نجده مناصراً للعلم والفلسفة، ومناهضاً لكل أشكال الجمود والتخلف والاجتراء والإلحاد، وكأن لسان حال الرجلين ينطق بأن فلسفتنا دين بلا كهانة أو تعصب، وعلم بلا اجتراء أو جحود؛ الأمر الذي يثبت أن مشروع النهضة العربية قد تأسس وتطور في كنف الاتجاه المحافظ المستنير.

وقد أنضوت كل الأقلام الساعية لإعادة تشكيل العقل العربي مع تباينها تحت عبائته. ويبرر كذلك حرص وجدي على مشاركة أساتذة كلية الآداب بالجامعة المصرية وقادة الرأي من أعلام الاتجاه المحافظ المستنير في احتفالهم بإدراج الفلسفة في البرنامج الدراسي للتعليم الثانوي.

ولعله أراد من ذلك التأكيد على أن المؤسسة الأزهرية التي يرفع رايتها والاتجاه المحافظ المعتدل لا يعارض في إحياء التفلسف في برامجنا الثقافية والتعليميّة، وتوضيح أن الدين الإسلامي كان دائماً وأبداً مناهضاً لكل أشكال الجنوح والطعن في الدين، والتشكيك في قداسة الوحي وليس للفلسفة أو التفكير العقلي؛ بل مشجعاً لفتح باب الاجتهاد في الرأي للوقوف على المقصد الشرعي من ثوابت العقيدة، ومحافظاً على الجهاد بالحجة والعلم والبرهان في مناظرة ومجادلة ومصاولة أعداء الدين؛ الأمر الذي لا يتحقق بمنآي عن تعلم النهوج الفلسفية ومباحثها المنطقية.

وقد بيّن ذلك في مقاله المعنون (نظرة في الفلسفة) على صفحات السياسة الأسبوعية التي مازلنا نعيد قراءة ما بها من مقالات ورسائل موجهة للرأي العام. فقد أراد "محمد فريد وجدي" التأكيد على منهجه الإصلاحي القائم على التوفيق بين المنقول والمعقول؛ مُبيناً أن من يتوهم وجود خصومه بين الإيمان بوجود الباري وشرعته وما جاء به أنبياءه، والفلسفة أو تعارض مع المنهج العقلي في التأمل والتفكير الناقد الباحث عن الحقيقة؛ لا ينبغي عليه ادعاء انتسابه للفلسفة التي تعبر عن الحكمة المجردة عن أي تعصب أو هوى يلقي بها إلى جحود ما لا تسعى إليه أو ترمي إلى تحقيقه. كما أنه من أشنع الاتهامات التي وجهت للفلسفة وهي تهمة المروق والكفر التي لا دليل على ثبوتها؛ فلا نجد في تاريخ الفلسفة من ينكر وجود الله إلا حفنة لم تُحسن قراءة الحقائق الكونية بداية من وجود العالم ومروراً بحدوث موجوداته والروح وأسرارها ونهاية بالقدر والإرادة الإلهية التي لا مَردَّ لها واللطف الرباني الذي لا يجحده إلى من حالت قلوبهم وبصائرهم عن إدراك نعمة وجود الباري.

ولعل ما صرح به "وجدي" يُعرب عن سعادته بإدراج الفلسفة ضمن المعارف والمواد الدراسية التي يجب على شبيبة المجتمع العربي الإسلامي التزود بها حتى لا يُفتنوا بتقاليد ومعتقدات أبعد ما تكون عن حقيقة الدين والعقل معاً.

فالفلسفة هي الآلية التي تمكن الأذهان من الفصل بين الأضداد، والتمييز بين المتناقضات مع ملاحظة البون بين المتشابهات، وفضح الأكاذيب والدّس والمغالطات التي تحول بين منهجية التفكير والوصول إلى الحقائق، لذا نجد "وجدي" يُبادر بمخاطبة الرأي العام باعتباره أحد قادة الرأي وأكثر من اضطلعوا عن الزود في الإسلام ضد هجمات الماديين وجحود المجترئين، مُعلناً أن الفلسفة ليست خطراً على الإسلام؛ بل كانت قديماً وسوف تظل حصناً لحماية الدين والزود عنه ضد منكري الإيمان. ويقول عن ضرورة وجود الفلسفة (إنه يسهل عليك أن تنتزع من إنسان اعترافات صريحة بأنه خلو من كل علم، ومجرد من كل صناعة، ولكنك لا تستطيع أن تنتزع منه اعترافاً واحداً بأنه محروم من كل نظر في الأمور). وتدبر لما يصادفه من قضايا ومشكلات (أنه في إمكاننا تخيل أقوام لا يعرفون شيء عن العلوم والفنون ولكن لا يمكننا تخيل وجود مجموعة من الناس لا تسمع فيهم ترويجاً للفلسفة حتى من متسولة الأزقة)، ويعني ذلك أن لكل صاحب عقل معتقد مكتسب فبعضه صواب وصالح والبعض الأخر خطأ وفاسد، ومن ثمّ يحتاج ذلك العقل المقلد إلى غُربال لانتخاب ما يصلح له ويفيده. وكيف لا (والفلسفة هي محبة العقل، والجهاد لإدراك الحقائق، وتنوّر أسرار الخليقة، وتعرّف مصائر الشئون، والعمل على مقتضى الحكمة، فقد امتازت من بين جميع مظاهر الروح بأنها الشغل الشاغل لجميع الخلق، والمثل الأعلى لمحاولات الإدراك الإنساني؛ فما من نفس بشرية تخلو من الهيام بها، والجنوح إليها، على درجات شتى وأقدار متفاوتة).

ونجد مفكرنا يُوَحّد بين الدين والفلسفة، وكأنه يسير على نفس الضرب الذي سلكه "ابن رشد" في مقولته الشهيرة عن وصف الفلسفة بأنها من الشريعة مثل الأخت الرضيعة «ما قيل من مخالفة الحكمة أو الفلسفة للشرع دعوى باطلة… فالحكمة هي صاحبة الشريعة وأختها الرضيعة». وذلك في كتابه (فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال).

ويريد "وجدي" في هذا السياق توجيه أنظار شبيبة المثقفين إلى أننا يجب النظر إلى الوحي الإلهي باعتباره الحكمة العاقلة التي أنتجها علم الله وأرسلها إلى أنبياءه لتبليغ البشر بدستوره الذي يقيهم كل الشرور ويحميهم من شتى الآلام، ويهديهم في الوقت نفسه لكل اللذائذ التي تسعدهم في الدنيا والآخرة؛ فالفارق الوحيد بين الحكمة الفلسفية البشرية والفلسفة الربانيّة هي محدودية الأولى وقصر مدركاتها عن أن تصل إلى الحقيقة الشاملة التي خصها الله بعلمه وتدبيره.

ولمّا كان الوحي قبساً من ذلك العلم، فيجب أن تحاكيه الفلسفة بعد استيعابه وفهم حقيقته، وتسترشد به لتُعصم من الذلل والتطرف والانحراف ثم السقوط  ويقول مفكرنا في ذلك (هل الدين إلا فلسفة للحياة والوجود وما يتعلق بهما؛ وفيما يؤول إليه الإنسان بعد أن يخلع هذا الجسد الفاني؛ ويلتحق بعالم وراء هذا العالم؟ وإذا كان الدين فلسفة والآخذون بها يبيعون أرواحهم في سبيلها رخيصة؛ حتى أنهم ليضحون بأفلاذ أكبادهم وبأنفسهم...؛ فهل تصادف مظهراً من مظاهر العقل يقدسه الإنسان هذا التقديس؛ ويفديه بماله وولده ونفسه، غير الفلسفة متى اعُتبرت ذات مصدر إلهي).

ولا يريد مفكرنا ممّا سبق سوى حث شبيبة المثقفين بخاصة والمعنيين بدراسة الشريعة على وجه الخصوص على إعمال العقل في الحكمة الإلهية؛ فالتفكير عنده فريضة إسلامية واجبة على كل عاقل للوصول إلى المقصد الشرعي لما عساه يقدس ويعتنق ويضحي من أجله؛ الأمر الذي يجعل من دراسة الفلسفة ومناهجها أفضل تدريب للوصول إلى الحقيقة شأن كل الفلاسفة الذين أنفقوا عمرهم بحثاً عن لحظة الوصال وبوابة الأنس والاتصال.

وينتقل وجدي إلى الحديث عن مكانة الفيلسوف في الثقافات الراقية والمجتمعات المتحضرة وقدر الإكبار والاحترام الذي يحظى به جزاءً مستحقاً لسعة علمه، ورجاحة عقله، وصواب آرائه، ونفع مشورته.

وما أحوج مجتمعاتنا إلى الفلاسفة ليعلمونا فن المفاضلة بين السُبل للوصول إلى الغايات التي أرشدونا إليها بعد إقناعنا بصلاحها. ويقول عن تلك المجتمعات (ولا غرو فليس في عرفهم بعد النبوة درجة فوق الفلسفة حتى أنهم متى أرادوا أن يصفوا إنساناً بأنه بلغ أكبر قسط من الثقافة والمعرفة قالوا أنه فيلسوف وكفى. هذا الشعور العام من الناس خاصّتهم وعامتهم عن الفلسفة؛ يعرب عن مكانتها الممتازة في النفوس، وعن قيمتها الحقيقية من بناء الثقافة العامة؛ ولست أجد برهاناً فوق هذا البرهان على أنها عنصر رئيسي من عناصر التربية الاجتماعية). (أن دراسة الفلسفة ليست بحلية عقلية، أو أدبية؛ ولكنها حاجة من حاجات الثقافة العملية لا تتم سلسلتها إلا بها). ويضيف "وجدي" أن للفلسفة لذائذ ذوقية وعقلية لا تتحقق من خلال العلاقات المادية التي تشغل العلماء الطبيعيين، فالإنسان ليس بدن فحسب؛ بل روح أيضاً تهوى الجمال والجلال والكمال، وترنو إلى العشق والحب والألفة، وتتذوق الفنون وتتأمل المجردات والمعاني والدلالات؛ التي يعبر بها الإنسان عن مشاعره ومكنوناته التي تخرج عن نطاق مدركات العلم ومعامله وفحوصاته المادية. أضف إلى ذلك أن تلك العلوم لا تتطور وأن الإبداع والاختراع لا يتحقق إلا بممارسة التأمل الفلسفي والرياضات الحدسية العقلية، أمّا القيم والأخلاق والإيمان بالمعتقد فهو لا يُثبت كذلك إلا بقناعات وأدلة يصطنعها العقل؛ فيبني منها حصناً تقيه من الشرور والشهوات المنحطة والجرائم والعنف).

ثم إن الفلسفة في ذاتها ليست دراسة تجريدية محضة، فإن من أهم أركانها، وأخص خصائصها دراسة النفس والأخلاق والمنطق والدستور العلمي، وهذه المواضيع ذات خطر عظيم لا تستقيم ثقافة علمية إلا بها. ويختتم مفكرنا حديثه بالتأكيد على أن الفلسفة من أعرق المعارف الإنسانية وأكثرها أصالة، وأنه من الجهل الاعتقاد بأن مباحثها من اختراع أمة بعينها؛ بل يمكننا التسليم بأن مصطلح (الفلسفة) قد لفظته لغة وثقافة عرقية ما. أمّا حب الحكمة والبحث عن الحقيقة وتأملات الروح وهمسات الإلهام وقد وجدت جميعها مع وجود الإنسان وتطوره تبعاً للبيئة التي يعيش فيها.

ويمكننا أن نتسأل هل هناك مجالاً للتشكيك في أصالة الاتجاه المحافظ المستنير وبراعة رواده في توظيف الفلسفة لتربية الرأي العام وحمل راية الحرية والوعي والتنوير والإصلاح؟

(وللحديث بقيّة عن قراءات في مجلة السياسة الأسبوعيّة)

 

بقلم: د. عصمت نصّار

 

 

عبد الجبار العبيديأكبر جريمة تاريخية ارتكبت من قبل فقهاء الاسلام: هي تحالف مؤسسة الدين مع السلطة الحاكمة.. لتدمير اسلامية المعرفة.. في المجتمع الاسلامي .. ولا زالت..

يقول القرآن الكريم: (أفنجعلُ المسلمينَ كالمجرمينَ، مالكم كيف تحكمون، القلم 35-36) . يقول الناشر لهذا الكتاب القَيم مع التصرف:

هناك دين واحد عندالله هو الاسلام، بدأ بنوح (ع)، وتنامى متطوراً متراكماً على يد النذر والنبوات والرسالات، الى أن خُتم َ متكاملاً بمحمد"ص". رسول المسلمين: يقول الحق: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا المائدة 3، ".. أي صدقا في الاخبار المنزلة، وعدلاً في الأوامر والنواهي"فلسفة العدل المطلق " .فالأسلام هو دين الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وهو منظومة القيم والمثل العليا، وهو العروة الوثقى، وهو الصراط المستقيم.. كما جاء في الوصايا العشر، الأنعام151-153 فأين الفقهاء والحكام من هذه الاوامر والنواهي اليوم.. بعد ان عتموا عليها.. وهم يحكمون بأسم الدين؟

جاء هذا الدينٍُ للناس جميعا وليس لمؤسسة الدين المُنحرفة عن الصراط المستقيم التي استغلت السلطة الحاكمة لمصالحها دون الناس منذ البداية، وما درت انها دفنت نفسها بسياسة التضليل فأنفصلت عن الجماهير .. فكأن التفاضل عندها معدوم.. أي لا طاعة لمنظومة القيم .. وهكذا فالحاكم العربي المسلم هم أول من خرق المبادىء المعلنة لهذا الدين في السلطة حين ضرب الشورى في حكم الدولة من أجل السلطة والمال تؤيده مؤسسة الدين .. وهو يتصارع على الحكم.. " كما بين المهاجرين والأنصار وأختراع نظرية منا أمير ومنكم أمير.. ولازالت السلطة المنحرفة الى اليوم هي العقيدة عند المسلمين .. وخاصة من اصحاب سلطة الدين ..

وحين حاصرهم الخطأ ألتجئوا الى الفتوحات لأمتصاص غضب المسلم الجديد، فاغتصبوا الشعوب نهباً وقتلاً وأعتداءً على الحرمات خروجا عن قيَم ومبادىء الدين.. وعلى نظرية "لكم دينكم ولي دين".. ومنه استقوا اليوم محاربة المعارضين .. وفي ظل وحدة الدين أنقسموا تحت راية المذهبية المفرقة لعقيدة الدين وهي بدعة لا أصل لها في أحكام النص المقدس لتحصين حكمهم تجاه المعارضين .. فجاءت الحكومات تحكم باسم المذهبية الباطلة، لا قيم النص الديني الحقيقية فضاع مفهوم الدولة والحقوق وأصول الدين .. فاسلامنا اليوم هو اسلام الفقهاء المخترع منهم .. لا اسلام القرآن الكريم.. أليس من حقنا ان نعترض..؟

مخالفات لا حد لها ولاحصر في التطبيق.. فهل من خالف المبادىء والقانون والعدالة يحق له التفرد بحكم الناس والأدعاء بتطبيق القانون.. كما نراهم اليوم؟.اذن النظام الاسلامي السياسي محرف منذ البداية والى اليوم، لذا عمدوا على تركيز الخطأ في الرؤوس فأصبح نزعهُ منها صعب او قل مستحيل.. فماذا لو كنا بلادين ..؟ أما كان الأفضل لنا ان نتعايش مع فقهاء لا يعترفون بأنسانية الانسان في الدين.؟ حين لم يستطيعوا ان يلملموا الجراح والألتحام مع التراث الأصيل للدين دون تحريف.. لان الدين يشكل ضميرا مراقبا للقوانين التي يستخدمها الناس.. لكنهم لايعتقدون .

يقول مؤلف كتاب الاسلام والايمان: الاسلام فطرة .. والأيمان تكليف، الأسلام يتقدم على الأيمان، أذ لا أيمان بدون أسلام يسبقه ويأتي قبله..المسلمون هم معظم أهل الأرض، أما المؤمنون فهم أتباع محمد(ص).فأبراهيم (ع) أبو المسلمين، ومحمد (ص) ابو المؤمنين.. يقول الحق: " ان المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات.. أعد الله لهم مغفرةً وأجراً عظيماً، الأحزاب 35 . اذن لا فرق بين الأثنين معاً.. كما تعتقد خطئاً مؤسسة الدين اليوم في الأزهر والنجف وقُم والزيتونة .. التي فرقت بين الناس خلافا لما اراده الله لهم بقصد أنانية السلطة لا الدين.. التي اوصلت المبادىء الى حد الابتذال في العالم.. والمرجعيات الدينية اليوم ومن يتبعها نموذجا..

ولكن لا ندري أي ايمان يطبقون جماعة المؤمنين اليوم.. أنظروا اليهم كيف يتصرفون مع النص والعقيدة؟ بغباء واصرار عنيد وغبي.. لذا لم يعالجوا الاشكاليات بتجفيف المصائب السياسية من جذورها بل من ثمارها المرة..حتى وصلنا الى فكر مثقل بالانحرافات والخُرافات، ونفوس محبطة بالاغلال، ومجتمعات تنوء بالفردية المقيتة، وتفرقة مرفوضة في غياب القانون.. فأي اسلام هذه الذي يريدوننا ان نؤمن به..؟أسلام محمد أم اسلام الفقهاء..؟

من هذه الأسس ينطلق المؤلف في هذا الكتاب، لفهم الفرق بين تعاليم الاسلام وتكاليف الأيمان بدلالة الفرق بين النص القرآني المقدس، والفريضة، والموعظة، وما ترتب عليه من قوانين الأرث وأنصبته.. وأحكام الزواج والطلاق، والحقوق، وظلم المرأة في التطبيق.. مجتمع ادخلوه في نفق التخلف لن يخرج منه بسهولة بعد ان حولوا الخطأ الى عقيدة .. لذا هان عليهم قتل المطالبن بالحقوق دون ضمير كما في ثوار تشرين، فكيف نتقدم..؟ ففاقد الشيء لن يعطيه.

ومن القواعد النصية، نلمس دلالة الفرق بين العباد والعبيد، حتى ينتهي المؤلف الى أن التنزيل الحكيم لم يعترف بالرق ولم يُجزه، ولم يلغيهِ، وأن كان قد ذكره ذاماً لظروفه المعقدة يومذاك . وأن ملك اليمين لا يعني الرق البتة، وأنما يعني أسرى الحروب المقهورة، لكن الدولة عجزت عن وضع قانون انساني يحميهم لولوغ القائمين عليه بالجنس وأستغلاله لصالحهم في اسواق العبيد.. والخمر لم يحرمه القرآن لكنه قال: مضاره اكبر من نفعها فحذر منه، البقرة" 219" فلم يعالجوا النص المكين معالجة فكرية .. فبقيت المشكلة سلبية دون ايجاب ولا زالوا يستغلونه اصحاب متعة الجنس المبتذل في الدين... الرافعين ليافطات الدعارة الدينية في متعة النساء التي انتهى زمانها اليوم دون خجل من اخلاق دين.. فأين العدل الانساني في عقيدة الدين.. كما يدعون ..؟

يقول المؤلف: ان العلاقة بين الله والناس علاقة عبادية وليست علاقة عبودية أستبدادية، لم يفهمها الفقهاء ولم يضعوا لها قواعد سلوكية ثابتة، فظلت عائمة الى اليوم تحقيقا لمصالحهم الخاصة .. لا بل تستطيع ان تقول ان غالبية المؤمنين اليوم هم جهلة دين ومن الخارجين عليه .. ويعتقد الكاتب ان العبادات تتحلى في كل حقول الحياة وليس بعضها، لكنها لم تدرك ولم يؤسس لها قانون ملزم للمسلمين والمؤمنين معاً .. أي كنظرية أستقامة وحقوق لا مكان لها في التطبيق.. ناسين أو متناسين أن قوة العقيدة تتمثل في مدى الألتزام بمبادئها وتطبيقها فهي أمر.. لا أختيار.. ولكن أين هم من هذا الأمران كانوا مؤمنين؟ بعد ان تجاوزوا على حقوق .. الانسان والدين .اذن لا حق لهم ان يطالبوا الأخرين بتطبيق عقيدة .. الدين .. فالدين مبادىء واخلاق وليس رغبات الحاكمين.. وهم الذين يحمون أوكار الدعارة .. ويعاقبون الأخرين على أغنية تفرح الجماهير..

من هذا المنطلق نقول ان تعريف الكفر والشرك والأجرام والألحاد بحاجة الى دراسة وتعريف من جديد بعد أن فقد الفقهاء السيطرة على تعريف محتواها ومقاصدها قصداً لا جهلاً بها لمصلحة السلطة ..لا الدين.. كما فقدوا التفسير فجاء منقصة للنص لا تضمين .

ويختم المؤلف رأيه في الاسلام والسياسة، فيبين ان الاسلام، من حيث هو توحيد ومثل عليا انسانية، غير قابل للتسييس، وأن محاولة تسييس الاسلام، ومحاولة البعض الأخر أسلمة السياسة، أضاعت السياسة والأسلام معاً.. لذا لم يتقدم قادة الاسلام قيد أنملة لصالح الحقوق في التغيير .. ولم يستيطعوا توظيف النص في التطور المجتمعي والتغيير.. ولن يستطيعوا.. ماداموا هم من الناكرين لمعنى النص في التطبيق. حتى اصبح عالمنا اليوم يقف في مؤخرة المتخلفين..

ونحن نقول: ان مراكز الدراسات الاسلامية والسياسية والجامعات الاسلامية في الوطن العربي والاسلامي الحالية التي ينخرها الفساد بحاجة ماسة جداً الى اعادة النظر في المناهج الدراسية للخلل الكبير الذي رافقها منذ النشأة الأولى للدولة الاسلامية نتيجة خطأ تفسير النص الديني من قبل مفسري الفِرق الاسلامية المختلفة والمتخالفة في الاعتقاد والتطبيق .. فهي بحاجة الى تصحيح بعد ان اضاعوا النص والدين معاً .. لذا قامت قائمتهم عندما أعلنت المعتزلة ضرورة مراجعة النص وفق التأويل لا التفسيروبأعتبار النص مخلوق لا قديم . لذا هم بحاجة الى اعادة نظر في العديد من المنطلقات الفكرية السائدة اليوم والتي أخذت شكل تيارات ثقافية حديثة كل منها يدافع عن نفسه ليبرهن انه الافضل ومنها:

التيار الذي يدعم سيطرة الثقافة الغربية و يعتقد انها الثقافة النهائية التي يتمحور حولها سير التاريخ.والتيار السلفي الاسلامي المنغلق على نفسه الذي يتناقض معها في الاعتقاد والتطبيق .. والذي اخذ من المرجعيات الدينية وسيلة للتزييف.. بعد ان جعلوا الحروب وتصفية المعارضين حلاً لمشكلة الفشل .. وما دروا انهم وقعوا في الفشل والتدمير.. بعد فقدانهم نظريات العدل في التطبيق .

لعل اقسى ضربة حلت بالنظام السياسي الاسلامي هي نقل الرئاسة من قضية فروع الى قضية عقيدة .. فاصبح الملك العضوض هو البديل..

 فالسلفية الاسلامية والسلفية الاصولية .. الحكم الأموي والعباسي فيها هو الاساس .. اليوم"داعش والقاعدة وحزب الله والولي الفقيه هم من يمثلون الفكر الجديد .لكن الذي يهمنا هو تيار السلف الأسلامي في الوطن العربي الذي ظل متقوقعاً متشبثاً بالتراث فهواشبه بالميت دون حراك.. كما في نظريات الوهم عند فرقة معينة المتمثلة بالتقاليد البالية للمعتقدات الأجتماعية كالبكاء على الأضرحة واللطم والزنجيل والتعري امام المواطنين .. ونظرية المهدي المنتظر مستحيلة التحقيق حتى حولوا هذا الاعتقاد الوهمي الى ما يشبه عبدة اصنام قريش -ياليتهم مثلهم في الاعتقاد والتطبيق -.. والغريب ان هؤلاء لوكانوا يؤمنون بالمهدي حقا وحقيقة لطبقوا مبادئه وهم اليوم يحكمون.. كذابون منافقون.. ظالمون.. خارجون عن عقيدة التطبيق.. لم يشهد الوطن العراقي مثلهم ظلما وانحرافا على مدى تاريخه عبر السنين .. لابل هم أسوء من هولاكو المغوليين..؟ وهكذا هي حياة الظالمين.

اما مشاريع الحداثة التي طرحت في الوطن العربي متمثلة بجمال الدين الافغاني ومحمد عبده ورشيد رضا كانت بداية لانطلاقة جديدة لكنها مع الاسف انطلقت من مسلمات وردت في التراث الديني فوقفت عاجزة عن التحرك الحضاري المطلوب.. فسقطت وتلاشت ولم يبقَ منها الا الكلمات ..

لقد التقى اصحاب التيار السلفي وتيارالحداثة في أستبعاد الاخلاق والقانون من مشاريع التجديد والتحديث لديهم، حين أستبعدوا الاحسان والعمل الصالح من أركان الاسلام واركان الأيمان التي تم تأسيسها على أيديهم.. حتى حولوها الى شهادة وصوم وصلاة ونسوا الحقوق .. وهي مسلمات مدركة لا تحتاج الى قوانين .. والا كيف اصبحوا أصحاب العقيدة الدينية خائني وطن. وسراق مال، ومزوري شهادات علمية، ومغتصبي سلطة، وناكري عدالة .. وهم راضون ..؟ وكلها وردت بآيات حدية في الوصايا العشر للتوراة والأنجيل والقرآن.. لا يجوزأختراقها بالمطلق..

هنا لم تتحقق اهداف الاسلام المطروحة . بعد ان فسروا النص الديني والسيرة النبوية المتعددة التوجهات "بخمس سير في الاسلام للرسول لدينا " أبن أسحاق، وأبن هشام، وابن سعد، وموسى بن عقبة، وعبدالله الانصاري لاندري ايهما نعتمد؟ طبقوها على هواهم، واعتقدوا بأنهم يملكون الحقيقة المطلقة فهما ًوتطبيقاً.ولكنهم مادروا أنهم أختزلوا التاريخ والجغرافيا وسكان العالم الأسلامي ومشاكله في أرائهم وحولوها الى عقيدة دون تعليل.. والحقيقة التاريخية تقول: "الحجة بالدليل" هذه الاختزالات عكسها الامام الشافعي (ت 204 للهجرة) في كتابه (الرسالة) الذي حدد فيه اصول الفقه الاسلامي وأعتبرها القانون الذي يجب ان لا يُخرق، وما زالت هي المعتمدة الى اليوم.والتي ارتبطت بتقديس النص التراثي الذي اصبح منهجا في مدارسنا بَلدَ فكر الأجيال العربية جيلا بعد جيل.. وحوله الى عبدة أصنام..

ثم جاء استبعاد العمل الصالح وعدم تحديد من هم مستحقي الخمس والزكاة فكونوا لهم موردا ماليا في سرقة موارد العتبات المقدسة و بيت مال المسلمين .. وجزءوا الاوقاف الى وقف سني وأخر شيعي وثالث للديانات الاخرى .. فسرقوا كل اموال الميتين ومزقوا وحدة المسلمين .. حين وضعوا القانون الاخلاقي في المرتبة الثانية من سلم الاولويات، وهنا تكمن المآساة.وها ترى مدارسنا اليوم بعد ان سيطر عليها الفكر الديني المتعصب معزولة عن الانفتاح الفكري تماما ولا يرجى منها التحديث.. فمالم تتغير المناهج المدرسية لصالح التطور ويقرها الدستور المؤيد من الشعب لن يكون لنا من أمل في التطور والتغيير.. ولكن كيف تتغيرالأمور والسلطة بيد المتخلفين المنغلقين من اصحاب المصالح الخاصة والسلاح القاتل المنفلت الذين يملكون سلطة السياسة والتصفيات دون رقيب او حسيب.. لا العامة ولا اخلاقية الدين..؟

نرجو ممن يطلع على الكتاب، عليه ان يقرأ بعمق مشكلة المعرفة والاخلاق والحرية والحداثة، حتى نكون على الاقل، مالكين للوعي المعرفي والاجتماعي والسياسي وعيًا افضل من السابقين، وعسى ان نكون قد أدركنا جزءً من مشكلة حركة التغيير..

نعم نحن نمر اليوم في أزمة العقل العلمي .. اخلاقياً وتشريعياً منذ ان حسمت المعركة بين المعتزلة والفقهاء لصالح الفقهاء في بداية القرن الثالث الهجري على يد المتوكل العباسي (ت232 للهجرة) حتى ضاع الفرق بين النبوة والرسالة، وبين الكتاب والقرآن.. ولا زال النقاش دائراً اليوم بين القرآن والمصحف .. هذا يقول مصحف عثمان، وذاك يقول مصحف فاطمة الزهراء .. والأذان .. فهذا يقول "علي ولي الله، والاخر يقول الصلاة خير من النوم" ولا ندري من اباح لهم التفريق ..؟ فبقيت عقيدة القرآن مجرد شعارات ترفع من قبل مؤسسة الدين للاتباع وتحكمهم في مجتمع نشروا فيه عقيدة التخريف لا الدين الصحيح.. والحل هو ألغاء هذا التوجه .. في الخطأ الكبير.. لمنع قوة المتغلبين.. والغاء القيادة الفردية لأحلال أهل الأهلية والكفاءة في حكم الدولة دون المغتصبين..

وأخيرا نقول " التشريع الاسلامي قائم على البينات المادية، وأجماع الأكثرية، وان حرية التعبير عن الرأي، وحرية الأختيار.. هما اساس الحياة الانسانية في التطبيق.. فأين نحن منهما اليوم.. بعد ان اصبح العقل والمنطق عملة صعبة بيد الجهلة.. والمغتصبين؟

 

عرض بتصرف: د.عبد الجبار العبيدي

.............................

أنظر: كتاب: الاسلام والأيمان، تأليف الاستاذ الدكتور محمد شحرور.

 

 

في المثقف اليوم