قضايا

"كل توسع في الخارج، إن لم يصاحبه تعمق في الداخل، فهو سقوط في الفراغ." عبد الرحمن بدوي – (الزمان الوجودي) ـ

يعيش العالم اليوم تحوّلاً سوسيولوجياً عميقاً في علاقة الإنسان بالتكنولوجيا، إذ لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرّد أداة تحليل أو وسيلة للبحث، بل صار يؤدي دور المستشار الوجودي الرقمي الذي يقتحم أكثر مناطق الوعي الإنساني حساسية، في الصحة النفسية، والعلاقات الحميمية، وأسئلة الجسد التي طالما حاصرتها ثقافة التابوهات داخل المجتمعات المحافظة.

إن ما يحدث ليس انتقالاً تكنولوجياً فحسب، بل تحوّل أنثروبولوجي في علاقة الإنسان بنفسه وبحدود البوح والمعرفة. هذا التحوّل لم يولد صدفة، بل فرضته حقائق ميدانية صارخة. ففي القارة الإفريقية، حيث تتقاطع الهشاشة الاجتماعية بندرة الكفاءات الطبية، تكشف منظمة الصحة العالمية عن عجز بنيوي مزمن في موارد الطب النفسي. فعدد الممارسين لا يتجاوز 0.9 لكل مئة ألف نسمة، مقابل تسعة على المستوى العالمي.

إنها فجوة صحية وثقافية، تجعل من اللجوء إلى الذكاء الاصطناعي ليس اختياراً، بل اضطراراً رقمياً أمام انسداد الأفق العلاجي التقليدي.

في المغرب، على سبيل المثال، لا يتجاوز عدد الأطباء النفسيين في القطاع العام 317، فيما يظل التخصص في طب نفس الأطفال شبه نادر. وفي الجزائر ومصر الوضع متقارب، حيث يهيمن الحضور التمريضي على حساب الأطر المتخصصة. هذه الأرقام لا تعبّر فقط عن اختلال صحي، بل عن فشل في العدالة المعرفية، أي في جعل الحق في الوعي والعلاج متاحاً للجميع، لا محتكراً داخل المدن أو الطبقات الميسورة.

أمام هذا الخصاص، لجأ الإنسان الإفريقي والعربي إلى ما يشبه "الطب الموازي الرقمي"، روبوتات المحادثة والمنصات الذكية، التي صارت ملاذاً سرياً يجيب على أسئلة محرّمة اجتماعياً، كالاكتئاب والعادة السرية والاضطرابات الجنسية والقلق والعلاقات الزوجية.

إنها أسئلة تتجاوز الطب إلى أنطولوجيا الجسد والهوية، حيث يبحث الجيل الجديد عن خطاب يشرّع له البوح ويحرره من الرقابة الأسرية والطبية والدينية التي كبّلت نقاشاته لعقود.

دراسات حديثة، نُشرت في مجلات مثل BMC Public Health وSexual Health in the Era of AI، تُظهر أن بعض الروبوتات تقدّم إجابات دقيقة نسبيًا، بل تسهم في نشر ثقافة الصحة الجنسية في بيئات يهيمن فيها الخجل الجمعي. لكنها، في المقابل، تظل محدودة بحدود البرمجة واللغة، وتفتقد إلى "الذكاء العاطفي" الذي يجعل الطبيب البشري قادراً على الإصغاء إلى الألم لا إلى السؤال فقط.

ويحذر الخبراء من أن الإفراط في الاعتماد على هذه النماذج قد ينتج عزلة رقمية مضاعفة. فبينما تمنح المستخدم شعوراً بالأمان، تسلبه في الوقت نفسه فرصة التفاعل الإنساني، وتُحوّله إلى كائن يحاور آلة بلا ذاكرة وجدانية.

الذكاء الاصطناعي، في عمقه، ليس مجرد تكنولوجيا بل مرآة لثقافتنا. إنه يكشف هشاشتنا، كسرية علاقتنا بالذات، وكثافة الخوف الذي نغلف به الجسد والمشاعر. لذلك، فإن النقاش لا يجب أن يقتصر على "مدى دقة الأجوبة" بل على منظومة القيم التي تنتج السؤال أصلاً.

بين الحرج والتقدم، بين الحاجة إلى الخصوصية وضرورة الإشراف، يبدو أن الطريق الأمثل هو تأهيل الذكاء الاصطناعي كأداة مساعدة لا بديل للإنسان، وكجسر نحو الوعي لا كقناع للهروب من المواجهة. فالتوازن بين الرقمي والبشري هو الشرط الأخلاقي الجديد لعصرٍ تذوب فيه الحدود بين المعالجة التقنية والعلاج الوجداني. ولعلّ هذا التحوّل الذي نعيشه اليوم في علاقة الإنسان بجسده ونفسيته من خلال الوسائط الذكية، ليس سوى وجهٍ جديدٍ لمسارٍ قديمٍ في الفكر العربي الإسلامي، حين كانت الروح والجسد وحدةً متكاملة في رؤية الوجود والمعرفة. فقد نظر ابن سينا، في "الشفاء" و"القانون في الطب"، إلى النفس باعتبارها جوهرًا عاقلاً يتوسط بين الجسد والعقل الكلي، ورأى أن المرض النفسي ليس مجرد خلل في المزاج، بل اهتزاز في توازن الكيان الإنساني ككل. أما الرازي، فكان من أوائل من ربطوا بين الحالة النفسية والصحة الجسدية، ودعا إلى معالجة المريض بالعقل والرفق قبل الدواء، مؤسسًا بذلك لما يمكن تسميته بـ"الإنسانية الطبية" في الحضارة الإسلامية.

في هذا الأفق، يتبدّى أن الذكاء الاصطناعي، رغم حداثته التقنية، يعيد إنتاج سؤال قديم بصيغة رقمية جديدة، من يفهم الإنسان أكثر؟ أهو الطبيب الذي يقرأ نبض الروح، أم الخوارزمية التي تترجم اللغة إلى معادلات احتمالية؟.

 وبينما كان الفيلسوف المسلم يرى في "النفس" مبدأً للتعقل والاختيار، يبدو أن الذكاء الاصطناعي يعيد تعريفها كمجرد "بيانات" قابلة للقياس. وهنا تكمن المفارقة الكبرى: أن نتحول من كائنٍ عارفٍ بنفسه إلى كائنٍ يُفسَّر من قِبل الآلة، في انقلاب ثقافي يعيد طرح سؤال الوعي والحرية في زمن الخوارزميات.

في ضوء هذا الامتداد التاريخي، يبدو أن الذكاء الاصطناعي ليس مجرد أداة تقنية، بل مرآة حضارية تعكس هشاشتنا الوجودية وارتباك وعينا بذواتنا. فحين يلجأ الإنسان العربي إلى خوارزميةٍ ليسألها عن معنى الألم أو اللذة، عن الخوف أو الرغبة، فإنه لا يبحث فقط عن إجابة، بل عن صوتٍ يسمعه دون أن يُدينه، وعن عقلٍ لا يحمل ذاكرة الأحكام المسبقة. في السياق، تكمن أزمة المعنى في زمن الرقمنة، أن تحلّ الآلة محلّ الاعتراف الإنساني، وأن يصبح "الإنصات الرقمي" بديلاً عن الحوار الاجتماعي والعائلي والثقافي الذي افتقدناه.

لكن في المقابل، قد يكون هذا الانعطاف ذاته فرصة لإعادة التفكير في علاقتنا بالمعرفة والإنسان. فالتحدي الحقيقي ليس في "الذكاء الاصطناعي" ذاته، بل في الذكاء الإنساني العربي: هل يستطيع أن يستعيد منطقه التأملي، وأن يوظف التقنية لا كبديلٍ عن الوعي، بل كوسيلة لتوسيع مداركه؟

إنّ النهضة الممكنة تبدأ من لحظة الوعي بأن الإنسان هو من يمنح الآلة معناها، وأن الحوار بين العلم والروح، بين العقل والخبرة، هو ما يصنع مستقبلًا متوازنًا بين التقنية والإنسانية.

هكذا، لا تكون الخوارزمية نقيضًا للفكر العربي، بل مناسبة لإيقاظه من سباته، كي يستأنف رحلته القديمة في فهم النفس والعالم، بوعيٍ جديدٍ يزاوج بين جذور التراث ورؤى المستقبل.

***

د. مصطفى غَلــــمَــان

 

صحيح أن سيغموند فرويد هو من طور مجال التحليل النفسي بعد جوزيف بروير، وأن إسهاماته التأسيسية لا يمكن إنكارها… غير أن اختزال التحليل النفسي في فرويد وحده يكشف عن محدودية في الاطلاع، ويتجاهل قرناً كاملاً من التطور النظري والممارسة السريرية… التحليل النفسي تطور بشكل جذري مع ميلاني كلاين وعلاقات الموضوع، جاك لاكان والتحليل البنيوي، دونالد وينيكوت وويلفريد بيون وغيرهم الذين اختلفوا مع فرويد وطوروا المنهجية بشكل كامل، وأعادوا التفكير في أسسها الابستمولوجية نفسها.

إن إدراك هذا التطور الواسع يكشف حجم الاختزال الذي يمارسه النقد الفرويدي المعمم. لمواجهة هذا الاختزال لا بد من فحص بنيته المنطقية. إذا كان فرويد هو التحليل النفسي (وهو ليس كذلك)، وإذا كان فرويد مليئاً بالإشكاليات المنهجية والنظرية (وهو كذلك بالفعل)، فإن التحليل النفسي كله باطل. المشكلة في المقدمة الأولى لا في الاستنتاج، للتوضيح: هذا يماثل نقد الفيزياء من خلال نيوتن فقط مع تجاهل آينشتاين والميكانيكا الكمومية ونظرية الأوتار. إنه اختزال يفقد النقد أي قيمة معرفية حقيقية.

بالطبع هذا لا يعني أن التحليل النفسي بلا إشكاليات منهجية، فكل حقل معرفي يحمل توتراته الداخلية وإشكالياته المفتوحة… لكن الإنصاف الفكري يقتضي نقد ما هو قائم فعلاً في الممارسة والنظرية المعاصرة، لا نقد صورة متحجرة من الماضي واتخاذها ممثلاً للحاضر.

لننظر إلى أمثلة محددة على هذا التطور الجذري:

أعادت ميلاني كلاين صياغة فهم السنوات الأولى من الحياة النفسية عبر نظرية علاقات الموضوع والمواقف المبكرة، متجاوزة التركيز الفرويدي على المراحل الليبيدية إلى فهم أعمق للعلاقات الداخلية والموقفين الاكتئابي والبارانويدي-الفصامي… كذلك مفهوم السانتوم (Sinthome) الذي قدمه جاك لاكان في سيمناره الثالث والعشرين (1975-1976) مثّل قطيعة ابستمولوجية مع التصور الفرويدي الكلاسيكي… لم يعد التحليل النفسي يتعلق بتجاوز نموذج الشفاء الطبي إلى نموذج البناء الذاتي فحسب، إذ أعاد التفكير في طبيعة العَرَض نفسه… حيث صار العَرَض طريقة فريدة للذات في التعامل مع استحالة الانسجام الرمزي، وليس رسالة مشفرة تنتظر التأويل. مما سبب بتحويل الهدف من إزالة الأعراض أو اكتشاف معانٍ مخفية ثابتة إلى بناء حل فريد لكل ذات يسمح لها بالاستمرار رغم غياب الانسجام البنيوي المفترض.

اليس هذا تحول من البحث عن الحقيقة الموضوعية المطلقة إلى الاعتراف بالممارسة التحليلية كفن لبناء الحلول الذاتية مما يضع التحليل في إطار مختلف تماماً عن العلوم الطبيعية ليس كقصور في المنهج لكن كاختلاف في طبيعة الموضوع نفسه؟

هذا يقودنا إلى سؤال حول طبيعة العلم نفسه: هل كل علم يجب أن يكون إمبريقياً؟

تاريخ المعرفة الإنسانية والنقاشات الابستمولوجية المعاصرة تجيب بالنفي… الرياضيات والمنطق علوم وليست إمبريقية، والعلوم الإنسانية لها مناهجها الخاصة التي تختلف جذرياً عن مناهج العلوم الطبيعية. التحليل النفسي يمكن فهمه كعلم للذاتية وللخبرة الواعية واللاواعية، منهج معترف به تاريخياً في حقل العلوم الإنسانية… إذن، نقد التحليل النفسي لأنه ليس إمبريقياً يفترض مسبقاً أن الإمبريقية هي المعيار الوحيد للعلمية، وهذا افتراض مغلوط ابستمولوجياً يتجاهل تعددية المناهج العلمية وتنوع موضوعات المعرفة"

كما يمكننا أن نذهب أبعد من ذلك في التساؤل حول هذه الموضوعية المزعومة للعلوم الإمبريقية نفسها؟

في الواقع، القول بأن العلم الإمبريقي نفسه يحركه اللاوعي ويتشكل عبر رغبات ذواتية لا يعني نسبوية معرفية تامة تلغي إمكانية المعرفة… المقصود أن كل معرفة، بما فيها المعرفة العلمية الإمبريقية، تنتج عن ذوات لها دوافعها واختياراتها وأيديولوجياتها اللاواعية التي تشكل أفق الأسئلة وطرائق البحث… الفرق أن معظم العلوم تنكر هذا البُعد أو تتجاهله مدعية حيادية مطلقة، بينما التحليل النفسي يجعل هذا البُعد اللاواعي موضع دراسته المركزي ويتخذ موقفاً نقدياً من وهم الموضوعية المطلقة… المسألة ليست في أن كل شيء نسبي، المسألة في أن الذات العارفة جزء لا يتجزأ من عملية المعرفة، وإنكار ذلك وهم ابستمولوجي يسميه التحليل اللاكاني الوهم الوضعاني.

إن النقاش حول التحليل النفسي يجب أن يتجاوز المعارك القديمة حول فرويد ليصبح نقاشاً معاصراً يأخذ في الاعتبار التطورات النظرية والممارسات السريرية المتنوعة التي شكّلت هذا الحقل على مدار قرن كامل. إذا كان النقد جاداً فليشمل التطورات الحقيقية للتحليل النفسي لا مجرد الوقوف عند فرويد.

***

عبد العزيز سعود الشريف

مقدمة: الفلسفة في مواجهة التحديات

لطالما كانت الفلسفة، "أم العلوم"، المنارة التي تضيء دروب الفكر الإنساني وتصقل العقول الناقدة القادرة على بناء الحضارات. إلا أن هذا الدور الريادي يواجه اليوم في جامعاتنا العراقية واقعًا معقدًا يضع الدرس الفلسفي في موقف دفاعي، محاصرًا بين أساليب تدريس تقليدية، وسوق عمل مغلق، وصورة نمطية مجتمعية تختزل الفلسفة في الغموض والتعقيد وخطر الإلحاد. يستهدف هذا المقال تشخيص هذا الواقع، وتحليل معوقاته، والأهم من ذلك، طرح رؤية عملية لإصلاح المسار الأكاديمي وتصحيح المفاهيم المجتمعية.

أولًا: واقع الدرس الفلسفي: من التلقين إلى التفلسف المفقود

يكمن جوهر الأزمة الأكاديمية في طبيعة تدريس الفلسفة نفسها، والتي تتجلّى في مظهرين رئيسيين:

1. هيمنة أسلوب التلقين: يتحول الطالب في كثير من الأحيان إلى متلقٍ سلبي للمعلومات. يُركّز المنهج على ضرورة حفظ أسماء الفلاسفة، وتواريخ المدارس الفلسفية، ونصوص نظرياتهم، دون إتاحة مساحة كافية للطالب لطرح الأسئلة الجوهرية، أو نقد الأفكار، أو بناء حججه الخاصة. وبهذا، يتم تدريس تاريخ الفلسفة، لا الفلسفة كفعل وممارسة عقلية. إننا نُلقّن الطالب ما قاله كانط، لكننا لا نُدرّبه على التفكير بمنهجية كانط النقدية.

2. الانفصال عن الواقع المعاصر: غالبًا ما تظل المناهج غارقة في الفلسفات الكلاسيكية والحديثة دون بناء جسور حقيقية مع قضايا العصر الملحة. لا يتم التركيز بالقدر الكافي على فروع الفلسفة التطبيقية كأخلاقيات الذكاء الاصطناعي، أو فلسفة القانون، أو أخلاقيات البيولوجيا، أو فلسفة الإعلام، وهي المجالات التي يمكن أن تبرهن على حيوية الفلسفة وقدرتها على معالجة تحديات اليوم.

ثانيًا: المعوّقات البنيوية والمجتمعية

لا تقتصر المشكلة على داخل أسوار الجامعة، بل تمتد إلى نظرة المجتمع وسوق العمل، مما يخلق حلقة مفرغة من التهميش.

1. انعدام سوق العمل: يُعد هذا المعوق هو الأكثر تأثيرًا في مستقبل الأقسام. يتخرج الطالب ليجد نفسه أمام أبواب موصدة، فلا توجد مسارات وظيفية واضحة لخريج الفلسفة باستثناء التدريس الأكاديمي المحدود. هذا الواقع يقلل من إقبال الطلبة المتميزين على دراسة هذا التخصص ويُضعف من دافعيتهم.

2. الصورة النمطية المجتمعية: ترسخت في الوعي الجمعي صورة مشوّهة عن الفلسفة، ويمكن تفكيكها إلى ثلاثة أبعاد:

أ‌-الغموض والتعقيد: يُنظر إلى الفلسفة على أنها مجموعة من الأفكار المجردة والمعقدة التي لا علاقة لها بحياة الناس اليومية، وأنها مجرد "ترف فكري".

ب‌- الانفصال عن الواقع: يُتهم دارس الفلسفة بأنه يعيش في "برجٍ عاجي"، ويتعامل مع أسئلة لا تقدم حلولًا لمشاكل المجتمع الاقتصادية أو الأمنية أو الخدمية.

ت‌-الخوف من الإلحاد: وهو الانطباع الأخطر، حيث يُربط البحث الفلسفي الحر والتشكيك المنهجي بالتشكيك في الثوابت الدينية، مما يخلق حاجزًا نفسيًا واجتماعيًا قويًا ضد دراستها.

ثالثًا: سبل النهوض والتغيير: رؤية للإصلاح المزدوج

إن تغيير هذا الواقع يتطلب استراتيجية ذات مسارين متوازيين: إصلاح أكاديمي جذري من الداخل، وحملة لتغيير الوعي المجتمعي من الخارج.

1.على الصعيد الأكاديمي:

أ‌-الانتقال من التلقين إلى التفلسف:

- تغيير طرائق التدريس: اعتماد أساليب تعزز التفكير النقدي مثل الندوات السقراطية (Socratic Seminars)، والمناظرات الفلسفية، وورش كتابة المقال التحليلي. يجب أن تتحول قاعة الدرس إلى مختبر للأفكار.

- تحديث المناهج: إدخال مواد دراسية في "الفلسفة التطبيقية" و"التفكير النقدي ومهارات حل المشكلات" و"أخلاقيات المهنة". يمكن أيضًا طرح فكرة تغيير مسمى الأقسام إلى "قسم الفلسفة والدراسات النقدية" أو "قسم الفلسفة والأخلاقيات التطبيقية" أو "قسم الفلسفة والدراسات المستقبلية" ليعكس هذا التوجه الجديد.

ب‌- ربط التخصص بسوق العمل:

- بناء مسارات مهنية: استحداث برامج دبلوم عالي أو ماجستير مهني تربط الفلسفة بمجالات أخرى، مثل: منها على سبيل المثال:

المؤسسات الأمنية والعسكرية:

تهدف هذه البرامج إلى تزويد العاملين في هذا القطاع بالقدرة على التحليل العميق، فهم الأيديولوجيات، واتخاذ القرارات في المواقف المعقدة.

* دبلوم عالي / ماجستير مهني في "تحليل الخطاب والتفكير الاستراتيجي":

- المبررات: تحتاج المؤسسات الأمنية إلى متخصصين قادرين على تفكيك الخطابات المتطرفة والإعلام الموجّه، وفهم بنيتها المنطقية والنفسية.

- المهارات: يركّز هذا البرنامج على تدريب الخريجين على مهارات المنطق، تحليل الحجج والمغالطات، ودراسة أثر اللغة في بناء الأيديولوجيات، مما يخدم بشكل مباشر في وحدات التحليل الاستخباري والحرب النفسية.

* دبلوم عالي / ماجستير مهني في "فلسفة القانون والأخلاقيات الأمنية":

- المبررات: يواجه العمل الأمني تحديات أخلاقية وقانونية مستمرة (مثل أخلاقيات التحقيق، وقواعد الاشتباك، وحقوق الإنسان في سياق مكافحة الإرهاب).

- المهارات: يوفّر هذا التخصص أساسًا نظريًا وعمليًا لصياغة السياسات والتشريعات الأمنية، وتدريب الضباط على اتخاذ قرارات متوازنة تجمع بين ضرورات الأمن واحترام القانون.

المؤسسات الثقافية والبحثية:

تهدف هذه البرامج إلى تعميق الفهم بالهوية والتراث والمشكلات الاجتماعية، وتقديم حلول مبتكرة.

* دبلوم عالي / ماجستير مهني في "فلسفة الحوار وإدارة التنوع الثقافي":

- المبررات: يمر العراق بتحديات تتعلق بالهوية والتعايش بين المكونات المختلفة. تحتاج المؤسسات الثقافية إلى خبراء في إدارة الحوار وتعزيز المشتركات الوطنية.

- المهارات: يركز البرنامج على فلسفة التواصل، نظريات الاعتراف، وفلسفة التعددية الثقافية، لإعداد مستشارين في مجال المصالحة المجتمعية وصياغة السياسات الثقافية الشاملة.

* دبلوم عالي / ماجستير مهني في "الدراسات النقدية والسياسات الثقافية":

- المبررات: تحتاج مؤسسات مثل دار الكتب والوثائق، ودور النشر، والمراكز البحثية إلى نقّاد ومحللين قادرين على تقييم الإنتاج الفكري والثقافي ووضع سياسات للنهوض به.

- المهارات: يوفّر هذا التخصص أدوات النقد الفني والأدبي والاجتماعي، ويمكّن الخريج من تحليل الظواهر الثقافية وتقديم استشارات عملية لصناع القرار الثقافي.

المؤسسات الإعلامية

تهدف هذه البرامج إلى رفع مستوى الأداء الإعلامي من خلال تعزيز التفكير النقدي والأخلاقيات المهنية.

* دبلوم عالي / ماجستير مهني في "فلسفة الإعلام والأخلاقيات الرقمية":

- المبررات: مع انتشار الإعلام الرقمي والأخبار الزائفة، أصبحت الحاجة ملحّة لوجود إعلاميين قادرين على التعامل مع التحديات الأخلاقية والتحقق من المعلومات بشكل منهجي.

- المهارات: يدرس هذا البرنامج أخلاقيات المهنة الإعلامية في العصر الرقمي، فلسفة الصورة، تحليل الدعاية، وتأثير الإعلام في الرأي العام، مما يصقل مهارات الصحفيين ومُعدّي المحتوى.

* دبلوم عالي / ماجستير مهني في "المنطق وتحليل الرأي العام":

- المبررات: تحتاج المؤسسات الإعلامية ومراكز استطلاع الرأي إلى محللين يمتلكون أدوات منطقية صارمة لفهم اتجاهات الرأي العام وتفسير البيانات وتجنّب الاستنتاجات المتسرعة.

- المهارات: يركّز على تدريس المنطق غير الصوري، كشف المغالطات المنطقية في الخطاب السياسي والإعلامي، ومناهج تحليل المحتوى، لإعداد محللي بيانات ومحتوى إعلامي على مستوى عالٍ.

- التأكيد على المهارات: يجب على الأقسام أن تسوّق لخريجيها ليس كـ"فلاسفة" بل كـ "خبراء في حل المشكلات المعقدة"، و"محللين نقديين"، و"استراتيجيين في التواصل"، وهي مهارات مطلوبة في كل قطاعات العمل الحديثة.

2. على الصعيد المجتمعي:

أ‌- مبادرات "الفلسفة للجميع":

- تنظيم فعّاليات عامة: إقامة منتديات مفتوحة، ومقاهٍ فلسفية، وندوات مبسّطة تناقش قضايا الساعة (مثل العدالة الاجتماعية، وأخلاق التكنولوجيا، ومعنى المواطنة) من منظور فلسفي.

- التواصل الإعلامي: كتابة مقالات رأي في الصحف والمواقع الإلكترونية، والمشاركة في برامج إذاعية وتلفزيونية لتقديم الفلسفة كأداة لفهم الواقع لا للهروب منه.

ب‌- تفكيك الصور النمطية:

- التركيز على القيمة العملية: إبراز كيف أن التفكير النقدي الذي تعلمه الفلسفة هو أساس النجاح في أي مهنة، من الطب والمحاماة إلى إدارة الأعمال والبرمجة.

- مواجهة وصمة الإلحاد: التأكيد على أن تاريخ الفلسفة غني بالتقاليد الفلسفية الدينية العريقة (مثل الفلسفة الإسلامية والمسيحية)، وأن الهدف ليس تقويض الإيمان، بل تعميقه من خلال العقل والبرهان. وفي هذا السياق، يمكن إبراز الدور التاريخي لفلاسفة مؤمنين كبار.

خاتمة: نحو جيل يمارس التفكير لا استعراضه

إن النهوض بواقع الدرس الفلسفي في العراق ليس ترفًا أكاديميًا، بل هو ضرورة وطنية. فالمجتمع الذي يفتقر إلى التفكير النقدي يصبح فريسة سهلة للأفكار المتطرفة، والشعبوية، والتضليل. إن إنقاذ الفلسفة من عزلتها الحالية، عبر تحديث مناهجها وربطها بالحياة وتصحيح صورتها، هو استثمار في بناء عقول قادرة على طرح الأسئلة الصعبة، وابتكار الحلول المبدعة، والمشاركة بوعي في بناء مستقبل أفضل للعراق.

***

أ.د. إحسان علي الحيدري - أستاذ فلسفة الدين والأخلاق

كلية الآداب / جامع بغداد

عَلمنا منهج التاريخ الإسلامي الماضوي السردي ان كل نظريات الخطأ الدينية والاجتماعية مستمدة من كتابات مؤرخيه وفقهائه الذين أختلفوا فيما بينهم في نقل النص وتفسيره على المنهج السردي الترادفي دون تحقيق وثيقة المدينة نموذجاً، حين لم تكن اللغة العربية قد استكملت بعد تركيزها في تجريدات، فقد كتبوا في السيرة النبوية خمس سير كل منها يختلف عن الأخر ولاندري الصحيح، وبعقلية الماضي ويدعي كل منهم انه هو الصحيح.. هي: سيرة ابن أسحاق، وابن هشام، والواقدي، وموسى بن عقبة، وابن سعد.. ولا ندري ما الصحيح؟ ناهيك عن الصاق السنة بالنبوة، مع ان السنة آلهية، ولا علاقة لها بالسيرة النبوية (لم تكن لسنة الله تبديلا) ولم يعلمنا منهجهم السردي المختلف والمتناقض ما تعلمته الشعوب من نظريات فلسفة أنبيائهم ومؤرخيهم لحياتهم خوفاً من التزوير، التي فسروا فيها تاريخهم، حتى ساروا بها نحو التقدم وفلسفة الحياة الموحدة.. من هنا بدأ مشوار الخطأ عند العرب والمسلمين بأفتراق الأراء.. ولا زال ينشر على غير تحقيق وتفسير رعم تغيُر صيرورة التاريخ. ومن هنا نرى ان القصد قصدي تعمدي كي لا يتطور الفكر العربي عبر الزمن.. وتطبق نظرية وثيقة المدينة المعتمدة على الاستقامة والعدل المطلق. لذا ظلت نظرية الفلسفة الواقعية عند المسلمين ناقصة التطبيق.

ان المفهوم الحركي للتاريخ ليس واضحاً في موسوعاتنا الفكرية التي ورثناها – وبسبب فقدان هذه الصورة - وقع الباحثون فريسة احكام عشوائية ناقصة، لاينفذ من خلالها الى طريق سوي لحبٍ يقود الى الرأي السليم، بذلك فقدنا العمق النفسي للمؤرخ ذاته وطبيعة ما كتب لذا ظل المفهوم الحركي باهتاً.. هنا كان مقتلنا منذ ان جاء حكم المسلمين بعد وفاة الرسول(ص) مباشرة بأهمال المبادىء التي كان المفروض ان يتركها لنا صاحب الدعوة بالدليل والقوة ورأي المحاورين. وحين اهمل هذا التوجه أختفت وثيقة المدينة فكان هذا أول تجاوز على شورى المسلمين التي وردت في الكتاب العظيم "وأمرهم شورى بينهم ".. فكان مفهوم الردة اول خروج لهم على طاعة النص.. "رأي الأتفاق بين الحاكمين " دون بقية المسلمين مرورا بالشورى الملغاة والشرعية الوهم وقتل المعارضين من قبل خلفاء المسلمين، وصولا لكل نظريات القهر والغاء حاكمية الله في التنفيذ وابعاد القانون. حتى سموا من طالب بتحقيق الشورى والقانون بالمرتدين والخوارج على الدين.. وهم لاخوارج ولامرتدون بل مطالبون بشرعية الشورى في حكم المسلمين ولاغير؟

من هنا بدأ الانحراف وتغير الدين المحمدي الى دين فقهاء السلطة الذي انهى تطلعات النظرية المحمديه في التغيير. حينها فرض النص المقدس بتفسير لا يتفق وعدالة انسانية الانسان في التقييم، خالي من اي منهجية فلسفية في التطبيق.. من هنا توقفت عجلة التقدم الحقيقي منذ البداية التي كنا نامل منها بدين جديد جاء ليحمل مبادىء انسانية الأنسان في صنع القوانين. فكانت وثيقة المدينة التي اخفوها على الناس خوفا من المطالبة بتحقيق عدالة الدين بين الناس وضياع السلطة من ايديهم في التطبيق. واصبحنا تحت الفكر المنغلق الموروث دون معرفة الصحيح، لذا من الخطأ ان نُحكم حكما دينيا فرديا هرطقياً من قبل مرجعيات بالتفريق المصطنعة بلا شرعية القانون.. .. فلا مؤسسات تحكُمنا، ولا عدالة تحمينا، من ظلم الحاكمين في مجتمعاتنا فسموا الاصلاح فتوح قهري والسلطة بهرجة تقاليد.. كما نراها اليوم في حكوماتنا الاسلامية هذه الحكومات التي خلال مدة 656 سنة (نهاية حكم العباسيين) لم تعرف الادارة والقانون ولا زالت الى اليوم. وطلت تحكم كما في رأي القاعدة وداعش وبوكوحرام.. وعصابات التفليش التي اعترف بها المشهداني الخائن رئيس مجلس النواب الفاشل اللئيم دولة رجال دون النساء اللواتي ينظر اليهن بلا حقوق بأعتبارهن ناقصات عقل ودين. ومن اجل ذلك أقروا قانون الاحوال الشخصية في مجلس الخيانة ليكون شاهد عليهن بقانون.. وتبعه اليوم قانون الاخوال الشخصية الجعفري الناقص لحقوق الانسان.

الحضارة العراقية القديمة عند السومريين والبابليين في أور وبابل جاءت بحضارة الانسان منذ القديم يرافقها التشريع والقانون.. وهم الذين أبتكروا الكتابة والقلم ومجالس القضاء والقانون وشرعية التغيير، منذ عهد آورنمو وحمورابي وقوانينهم كانت أشبه بعدالة قوانين النص المقدس.. حتى ان الاسلام أخذ من بعض قوانينهم في التطبيق"العين بالعين والسن بالسن والجروح قصاص المائدة 45 " وفي قانون حمورابي جاءت المادة 127 وما بعدها.. متشابهة في النص، وفي أهوارنا تم تدجين الحيوان والزراعة ومستلزمات العيش الرغيد، ولم يناصبوا العداءاحدا منذ زمن قديم بعد ان فصلوا الحكم السياسي عن الدين.. وبذلك سبقوا حتى الأوربيين والأمريكيين.

وحين جاءت الاديان الثلاثة اليهودية والمسيحية والاسلام مستمدة من الديانة الابراهيمية التي سبقتهم كل طبق دينه حسب الظروف التي مكنته من استخدام التيارات الفكرية التي مثلت العقلانية تارة، والسلفية اخرى. فكان الانشقاق منذ البداية. لكن التاسيس القرأني للمجتمع جاء ليعني رؤية اخرى تختلف عما سبق عند الديانات الاخرى نتيجة مفهوم المتغيرالاجتماعي من وجهة نظرجدلية تاريخية بعد ان اصبح القانون بموجب النص هو الذي يحكم الظاهرة الجديدة وليس العادة او التقليد.

هنا تم تشخص الخطأ بين التطبيق والخروج عليه نتيجة الانحراف السلطوي والتفرد في حكم المجتمع الجديد.. ليكون المشروع الاسلامي مشروعاً قابلا للفعل في ظروف العصروما بعده باعتبار ان النص صالح لكل زمان ومكان في التطبيق. لكن امورا سلبية طرأت على تطبيق النص كضرب الشورى والتوجه الى غزوات القوة وسلب حقوق الاخرين في فرض الدين حتى لم تعد الحركة بمستوى فرض الاحكام بين المسلمين.. تلك هي معاناتنا في تثبيت الحقيقة التي لم تعد اليوم سوى تخريف.

- جاءنا الدين من نبي صادق أمين بكتاب مبين يقول.. :" الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم احسن عملا، الملك 2" وجاءنا بمبدأ العدل المطلق (أعدلوا ولو كان ذا قربى الانعام 151 وما بعدها ) والشورى بين المعتقدين، والاستقامة في التنفيذ (الجن 16). فهل استطاعوا ان يتغلبوا على الخطأ القديم ام كانوا معه يحاربون العدل والشورى والاستقامة ويلتجئوا لابادة المحاورين، وابتكار نظريات الاختيار دون تقييم، وتحويل الخلافة الى ملك عضوض لا يخرج من ايديهم حتى يسلموه لعيسى بن مريم والمهدي المنتظرالوهم في اخر الزمان.. ليتحول قادتهم الى قديسين بأسرار التقديس الآلهي المعروف فقالوا عن انفسهم: "قدس سرهم" ولا ندري أية أسرار لديهم ليكونوا مقدسين.. اللهم الا سر السلطة والمال والجنس اللعين.. هنا مات القلم في ايديهم واصبحوا يلهثون خلف المواعين.. ؟

منذ القدم أكد ت لنا الكتب السماوية وأراء الفلاسفة الكبار النابهين على العقل لنتصرف به"لعلكم تعقلون".. وهو اول مكتشفات الانسان.. وبهذا العقل نستطيع التغلب على الظروف العاطفية غير المواتية بدلا من الرضوخ لها وتركها تشكلنا كيف شاءت. لكن هذه النظرية استبعدت وحل محلها الاغتصاب لكل ما هو قانون.. حين رأينا انفسنا منفردين بالفكر الحضاري وما عدانا همجاً او برابرة فهاجمنا الأخرين بحجة الدين دون امر من خالقه على مهاجمة الاخرين. وبررنا ذلك الاجتياح الباطل للاخرين على الرأي في البيئة التي كنا فيها والتي لا يقبلها المنطق الصحيح وان تناقضت مع الواقع الوهمي في التطبيق. وما دروا العرب ان صحرائهم كلها لها واقع قاسي لا يمكن التغلب عليه الا بالعمل والقانون وهم ضدهما تماما لانهم لم يعرفوا سوى السيف والغلبة.. لا القانون..

هنا كانت المعضلة التي جرت علينا ويلات التطبيق بعد العهدين البويهي والسلجوقي 334—540 للهجرة حين اصبحت المذاهب بديلا عن الدين والتي جرت الى تغيير كل التفاصيل يساندها منهج دراسي خرف.. . فأدخلوا في فكر المسلم كل متاهات التخريف.. حتى اصبح نظرية ثابتة يصعب نزعها من فكر العامة.. والى الآن يدعي بعضهم.. الحياة لنا والاخرة لنا وكل شيء ياتي من السماء او يستخرج من باطن الارض فهو لنا ولا زال العلم الحديث لم يعلمنا ماهي السموات السبع الرصين. الم نكن نحن من اهل المعرفة والعرفان المفضلين.. على للأخرين. ؟هكذا يعتقدون الى اليوم.. والا لماذا الاصرار على هذا الفساد في دولة العراقيين المتعمد الرهيب.

فهل فكرنا ان نكتب ونقيس الامور بمقياس الاحصاء الذي لا يُخطأ.. ونؤمن بالانسان الاخر مهما كان دينه او عقيدته مادام يعايشنا باحترام القانون. ام نناصبه العداء ونتفاخر بالدين وهو يملك دينا يحترمه اكثر منا في التطبيق فحتى اصحاب عبدة البقر يقدسون دينهم ولا يخالفون.. فالدين ايديولوجية بشرية لا يمكن نزعه من الاخرين وحتى نحن المسلمون ندعي لكم دينكم ولنا دين.. فعلام محاربة الاخرين كذبنا وافترينا وظلمنا كل شعوب الاخرين دون قانون حينسمينا الغزوات فتوح من اجل الدين..

منذ عصر قبل الاسلام كنا نرى انفسنا فوق الناس واعلاهم قدرنا وشرفا، وحتى اليوم نسمي نبينا بأشرف الانبياء ولاندري لماذا في وقت يقول القرآن لمحمد"ويعلمه الكتاب والحكمة والتورىة والأنجيل ال عمران 48"، ومدننا بالأشرف، والمقدسة ونستثني الاخرين.. من قال لنا هذه تسميات القرآن ام مؤسسة الدين؟. تاريخ جاهلي يصب في عقل تاريخنا الحالي دون تبرير.. حتى جاء الرسول ليقول لهم: "كلكم لآدم وآدم من تراب والناس سواسية كأسنان المشط" فلم يتلاشى الغرور والكبرياء عندهم.. ولتأكيد المقولة جمع الرسول من حوله المقربين خباب بن الارث عراقي ، وصهيب الرومي بيزنطي، وسلمان الفارسي، فارسي، وماريا القبطية قبطية من مصر. دليلا لمساواة الخلق في الانسانية والقانون رغم التحليلات لما قرأنا ويكتبون.. لكن بعد وفاته عادت الجاهلية من جديد. تتنازع على السلطة دون دليل.

من هنا بدأ التاريخ الرسولي يتحول نحو الانسانية لا القبلية. لكن هذا التوجه لم يدم طويلا بعد الرسول (ص) مباشرة بسبب التوجه نحو السلطة والمال ونرجسية التفوق على الاخرين الذي أدى الى سوء النظام الاداري والمالي الذي تحول الى جمع المال الفاسد دون تقديم خدمات في مقابل المال المجموع حتى اصبح الفساد سياسة عامة وقناعة اخلاقية بأعرافهم الفاسدة كما هو عندهم اليوم، فانفصل الحاكم عن الرعية فتراجعت العدالة وانتكس التوجه السياسي نحو الضعف والانهيار.. كما نشاهدهم اليوم. ومن يقل لك هذه خطبهم اقرأها فلا تصدق هذه من صنع فقهاء السلطة لا في العصرين البويهي والسلجوقي لا الدين.

نحن اليوم امام قضيتان في الاسلام لا حل لنا الا بمعرفتهما واجتيازهما عملا وتطبيقاً هما: الموقف من المنهج النقدي للتاريخ والفكر العربي الفلسفي.. وقضية المعركة الحامية بين التقليد والأبتكار. وبدون تجاوزهما لايمكن ان نكتب تاريخا للأمة.. ولاتقدما حضاريا لها، ناهيك عن عداوة الاخرين التاريخية لها.

يقول الاستاذ الدكتو جعفر آل ياسين احد اساتذة فلسفة التاريخ: ننقله بتصرف في الاولى يعتمد على حساسية الاجتهاد للرواية التاريخية التي فسرت تفسيرا فيه الكثير من المنحنيات لان اللغة يوم ذاك لم تكن مستكملة لأدواتها بالمعنى العلمي الذي نريده ونفهمه اليوم.. لاقامة الادلة التاريخية عليها وعلى نقيضها لذا لا يجوز الحكم عليها بالمنطق العلمي المطلق.. وان غالبية الناقلين من غير العرب الذين فهموا النص فهما دون معناه الداخلي في التطبيق خارجيا.

والثاني يجب ان يتوفر فيه جانبي القوة والضعف بحيث لايعوز الباحثين سلامة الدليل عليه، والفحص الخارجي للنص، لأاثبات الاصل ببطلان النقيض وقد استغله بعض الفلاسفة من المسلمين امثال (ابن سينا ت428 للهجرة ) وخاصة في العلوم البحتة كالرياضيات مثلاً.. لأن العقل يحكم انه لا يجتمع على صدق نقيضان.. ولكن في دولة النرجسية والفوضى والجنس من يسمعك ايها الخائب اليوم بعد ان انهارت قيم الحياة المقدسة عندهم كما هي تنهار اليوم عندنا دون رقيب او حسيب..

حتى اصبح المعتقد ظاهرة تاريخية لا تزيد عن الاخبار.. وفي باطنها ماتت الأحداث والحقيقة معاً.. فاصبح النص الديني لا يشكل المعيار الوحيد للسلوك السياسي.. لذا ما لم نقدم على فصل الدين عن السياسة لن يكون لنا امل في الاستقلال والاستقرار وتطبيق القانون.

***

د. عبد الجبار العبيدي

الجمال قوة صامتة تتسلل إلى عمق التجربة الإنسانية تشعل المعنى وتعيد تشكيل علاقتنا بالنص و بذواتنا من خلاله. ومن هذا المنطلق ولدت لدي فكرة الإستاتيكية كمنهج يحرر الذائقة من قيود التقييم الجاهز ويعيد للقارئ دوره في خلق المعنى إضافة لدوره كمتلقي

أود أن أوضح أن هذه المقدمة لا تغوص في تفاصيل هذا المنهج نقدياً أو تنظيرياً فهي مجرد إشارة تمهيدية وتقديمية لما تناولته بمقالة موسّعة ضمن كتابي النقدي (أنقاض المعنى) حيث استعرضت فيه الأسس الفلسفية والجمالية للمنهج وطبقته على قراءتي لنصوص أدبية وفنية مختلفة

اعتمدت الإستاتيكية في عدد من قراءتي النقدية بوصفها أداة توازن بين التجربة الوجدانية والوعي الجمالي وتبقي النص مفتوحاً على احتمالات التأويل بلا قيود أو معيار ثابت

إنها محاولة لإعادة النور إلى اللغة وإعادة الجمال إلى مكانه الطبيعي في حس المتلقي ودهشته الأولى 

ومن الدراسات التي استحضرها بوضوح تلك التي شكلت بداية استنباطي لمفهوم الاستطيقية ونهجي فيه وهي قراءتي القديمة لنص : (قصائدي ذنوب لا تشيخ) للأديب المسرحي والشاعر العراقي القدير الدكتور هشام المالكي إذ كانت تلك الدراسة لحظة انبثاق لوعي جديد بالجمال ومدخلاً إلى تأمل الشعر من منظور فلسفي خالص

مقدمة نقدية إلى الاستطيقية:

في عالم النقد الأدبي والفني تتكاثر المفاهيم والمصطلحات التي تساهم في فهم التجارب الإبداعية ببعدها الأعمق والأشمل ومن بين هذه المصطلحات التي حظيت باهتمام متزايد يبرز مصطلح (الاستطيقية) الذي يحمل في طياته دلالة جمالية تعيد تعريف مفهوم التلقي والفهم الفني بعيدا عن القيم التقليدية والمعايير المسبقة

سنشرع الآن في الغور في هذا المصطلح النقدي محاولين سبر أغواره وكشف ما يحتويه من أبعاد فلسفية وجمالية تجعله نقطة التقاء حيوية بين الإبداع والمتلقي

الاستطيقية: جمالية الفهم وتحرر الذائقة

مقدمة:

تعد الاستاطيقية من أعمق مناهج الفهم الجمالي التي تتجاوز الحدود التقليدية للنظر في المتنات الفنية والأدبية لترسي أسساً لتحرر الذائقة من قيود الوجهة التقويمية مفعلة الحس الجمالي الفردي في المتلقي تشمل الاستاطيقية فهم التجربة الحسية والعاطفية التي تثيرها الأعمال الإبداعية بعيداً عن التحليل المنطقي والتقييم الأخلاقي أو الاجتماعي  مرتكزة على جمالية التلقي والتفرد الفردي للذائقة

تعريف الاستطيقية:

الاستاتيكية هي منهج جمالي يعنى بدراسة ظاهرة التجربة الجمالية كمحتوى رئيس يركز على الحس والفهم الجمالي المباشر الذي يتفرد به المتلقي دون الانشغال بالمؤثرات الخارجية أو التفاسير المعنوية المقيدة يمكن أن نعرف الاستطيقية بأنها: منهج فلسفي ونقدي يولي اهتماماً خاصاً بالتجربة الجمالية الفردية حيث يعد الجمال ظاهرة تجريدية تتحرر من معايير التقويم المألوفة

المنهج النقدي الاستطيقية:

تتمحورالاستطيقية حول فهم (تجربة الجمال) بعيداً عن كونه موضوع خارجي يقاس عليه العمل الفني إنما كحالة وجدانية ذاتية تشمل إحساس المتلقي وتفاعله الحسي والعاطفي مع العمل

وبهذا تقوم الاستاطيقية على فصل الجمال عن القيم الأخلاقية أو السياسية أو التاريخية وتمنح العمل الفني حرية التلقي والفهم بنفسه بعيداً عن أي تحليل مفاهيمي أو سياقات خارجية تقيد حرية الذائقة

هذا المنهج يمكننا من استكشاف أبعاد جديدة في الأعمال الإبداعية حيث يصبح الجمال ظاهرة ذاتية متغيرة تتأثر بالظروف الحسية والنفسية للفرد وليس بمعايير ثابتة مسبقة

الدلالة الفلسفية والجمالية

تعزز الاستطيقية من مفهوم (الذائقة) كفعل إبداعي فردي حيث لا يكفي أن نحدد العمل الفني بوصف ثابت بل يجب أن نفتح أبواب التفسير والتجربة المرنة التي تختلف من متلق إلى آخر وهذا ما يجعلها ميداناً غنياً للتفاعل بين الإبداع والمتلقي ويعيد الاعتبار إلى الحس والعاطفة كعناصر لا غنى عنها في فهم الجمال

كما ترتبط الاستطيقية بمقولة التحرر من الأطر التقليدية في الفهم والنقد إذ تحرر الذائقة من القيم المسبقة والتفاسير الثابتة مفسحة المجال أمام تجربة جمالية ذاتية تنبئ عن أبعاد وجودية وشخصية عميقة

خاتمة

في ختام الأمر تشكل الاستطيقية منهجاً نقدياً وفلسفياً يعيد النظر في جمالية الأعمال الإبداعية على ضوء التجربة الحسية والوجدانية الفريدة لكل فرد إنها دعوة لتحرر الذائقة من قيود التقييم الجامد وفتح آفاق جديدة للفهم والإدراك الجمالي

ومن ثم تبقى الاستطيقية جسراً بين الإبداع والمتلقي يعزز حواراً مستمراً بين الفن والذات الإنسانية

***

مرشدة جاويش

 

ثمّة مفارقةٌ مركّبة تستدعي التأمل/ فلسفيًا في بنية الوعي الجمعي الشيعي المعاصر، مفارقةٌ لا يمكن فهمها إِلَّا عبر تفكيك العلاقة الملتبسة بين الرمز الدينيَّ والعقل، بين الطاعة والوعي، بين الانفعال الدينيَّ والمساءلة السياسية. فحين أطلقت مرجعية النجف المتمثلة بالسيد السيستاني فتواها التاريخية في الجهاد الكفائي، اندفع المجتمع الشيعي بأسره في لحظةٍ من التماهي الروحي والتعبئة الوجدانية التي أعادت إنتاج قيم الفداء والتضحية بأعلى تجلياتها. لكن هذا الزخم نفسه غاب، أو كاد أنَّ يغيب، حين وجّهت المرجعية نداءاتها اللاحقة وبشكل متكرر نحو الإصلاح السياسي، كدعوتها إلى محاسبة الفاسدين أو مقاطعة المجربين بشعارها المعروف «المجرب لا يُجرَّب»، أو حين أغلقت أبوابها في وجه الأحزاب المتورطة بالنهب والسلطة. عندئذٍ، بدا المجتمع أقل استجابةً، وأكثر ميلًا إلى الصمت والانكفاء، كأنّ الحماسة التي تفجّرت واشتعلت في زمن الخطر الخارجي" داعش" تتبخّر حين يصبح الخطر من الداخل.

هذه المفارقة يتناوشها البعض هنا أو هناك من دون ملامستها سوسيولوجيًّا، إذ لا يمكن ردّها إلى ضعفٍ في الإيمان أو فتورٍ في الولاء للمؤسسة الدينيّة، وإنَّما إلى اختلافٍ جوهري في طبيعة الوعي الذي يُفعّل الاستجابة ويستعيدها. ففي نداء الجهاد خاطبت المرجعية البنية الرمزية الأكثر عمقًا في التكوين الشيعي: بنية الشهادة "كربلاء"، والكرامة، والدفاع عن المقدّس، لقد استدعت السردية الكبرى التي تشكّل الذاكرة الجماعية وتؤسّس لنظام العاطفة الدينيّة المتوارث والمتجذر. وحين يُستدعى هذا المتخيّل الدينيَّ هذا المخزون الرمزي، يتحرك الوجدان الجمعي بكثافة مذهلة، لأنَّ المعركة تُقدَّم هنا بوصفها امتدادًا للرموز المؤسسة، وكفاحًا وجوديًا ضد الباطل لا بوصفها معركةً سياسية مع هذه الجبهة أو هذا الفصيل.

أمّا الدعوات الإصلاحية اللاحقة، في مكافحة الفساد والحدّ منه من خلال إصلاح الواقع السياسي فكانت من طرازٍ مختلف؛ إذ لم تستدعِ الرموز المؤسسة، بل استدعت العقل الأخلاقي والسياسي، وطلبت من المجتمع الانتقال من موقع "المطيع المنفعل" إلى موقع "الفاعل"، من السلوك الشعائري والعاطفي إلى الممارسة النقدية، من الحماسة إلى المحاسبة. وهذه نقلة لم يتهيأ لها المجتمع بعد، لأنَّها تفترض وجود وعيٍ مدنيٍّ راشد لم تتشكل له بيئةٌ مؤسسيةٌ حاضنة، ولا ثقافة نقديةٌ تتيح له أنَّ يتخذ موقفًا دون أنَّ يشعر بالذنب أو بالخذلان تجاه الرمز الدينيَّ الذي يوجّه النصيحة من بعيد.

إنّ ما حدث هو انكشاف الفصام بين مستويين من الوعي: وعيٍ تعبويٍّ طقوسيٍّ ما زال يُحافظ على وحدته عبر الخضوع للرمز الديني، ووعيٍ سياسيٍّ ونباهة اجتماعية لم تولد بعد، أو وُلدت مشوّهة في ظل غياب البنى الحزبية النظيفة والمؤسسات القادرة على ترجمة الإرشاد الدينيَّ إلى فعلٍ سياسيٍّ منضبط. وبهذا الأفق، حين انسحبت المرجعية الدينية من المشهد السياسي أو التدخل في تفاصيله وأغلقت قنوات الوساطة مع السلطة، لم يجد المجتمع من يحتضن تلك الدعوات ويحوّلها إلى برنامجٍ عملي. تركت الفتوى السياسية يتيمة، لا سند لها إِلَّا الضمير الفردي، في مجتمعٍ لا يزال يعيش ضمن أخلاق الجماعة لا أخلاق المسؤولية الفردية المعنوية.

من هنا نفهم أنّ الفتوى الجهادية لم تكن مجرد نداءٍ دينيَّ، وإنَّما فعلًا اجتماعيًا منسجمًا مع بنية الهوية الطقوسية التي تُحرّك الجماعة نحو الميدان، فيما مثّلت الدعوات الإصلاحية خطابًا معرفيًا يصطدم بالحدود البنيوية لهذا الوعي ذاته. فالدين كظاهرة، حين يتحوّل إلى ذاكرة جمعية شعائرية، ينتج طاقةً هائلة للتعبئة والتحرك الجمعي لكنَّه قد يُعطّل في المقابل، قدرة الفرد على مساءلة السلطة باسم المبدأ نفسه. لهذا، لم تتكوّن بعد في التجربة الشيعية الحديثة "معايير اجتماعية- مدنية" موازية لـ"الأخلاق الشعائرية" التي تحكم المجال العاطفي والديني.

ولعلّ الأشد عمقًا في هذه المفارقة هو ما يمكن تسميته بـ«الاقتصاد الرمزي للثقة». فالثقة في المرجعية قائمة على امتثال عاطفي أكثر من كونها علاقة مؤسسية. إنها علاقة "إيمانٍ وجداني" لا "عقدٍ اجتماعي". لذلك حين تُطلب الاستجابة في مجالٍ لا يخاطب الإيمان بل يخاطب العقل السياسي، تظهر فجوةٌ يصعب ردمها. فالمجتمع لا يثق بالبدائل السياسية، ولا يمتلك أدوات تقييمٍ مدنية، ولا يملك مؤسساتٍ تتيح له مراقبة السلطة من خارج النظام الرمزي الذي تشكّل فيه. وهكذا يتحوّل خطاب الإصلاح إلى نداءٍ عائمٍ في فراغٍ سياسيٍّ وأخلاقيٍّ معًا.

إنّ السؤال الحقيقي الجدير بالتأمل ينبغي أنَّ ينحدر إلى أسباب غياب البنية الثقافية التي تجعل الاستجابة للنداء ممكنة لا إلى أسباب عدم الاستجابة لدعوات المرجعية الإصلاحية. فالإصلاح، ليصبح فعلاً لا شعارًا، يحتاج إلى ثقافة نقدية تملك أدوات الفعل، لا إلى وجدانٍ إيماني متحمّس سرعان ما يذوب حين تنتهي الشعائر. إنّ ما تحتاجه المرجعية والمجتمع معًا هو إعادة بناء العلاقة بين الرمز والعقل، إذ لا يكون الأول سجنًا للثاني، ولا يكون الثاني خصمًا للأول، بل شرطًا في اكتماله.

لقد آن الأوان لتحويل الوعي الدينيَّ من طاقةٍ دفاعيةٍ إلى طاقةٍ بنائية، ومن طاعةٍ رمزيةٍ إلى مسؤوليةٍ أخلاقيةٍ ومدنية. فالمجتمع الذي يقاتل دفاعًا عن مقدّساته قادرٌ- لو أعاد تنظيم خياراته- أنَّ يقاتل أيضًا دفاعًا عن قيم العدالة والنزاهة والشفافية.

إنّ الانتقال من "الانفعال الدينيَّ" إلى "العقل النقدي" ليس خيانةً للمقدّس الديني، وإنَّما استعادته في صورته الأسمى: صورة الإنسان الحرّ الذي يعي مسؤوليته أمام الله والتاريخ معًا.

***

أ. م. د. حيدر شوكان السلطانيَّ

جامعة بابل- كلية العلوم الإسلاميَّة-قسم الفقه وأصوله

محنة غرابيل الفلاسفة (5)

يعتقد معظم المهتمين بالفلسفة - ولاسيما دراسة مباحثها المعنية بالبنية المعرفية وآلياتها ومناهجها ونظرياتها والأطوار التي مرت بها، وفلسفة العقل، وكذا الدراسات البنية ذات الصلة بهذا المبحث الأخير بداية من مفهوم العقل وطبيعة مدركاته وتنوع نتائجها وأحكامها - في أن الأفكار والتصورات والآراء جميعها ممّا يلفظه ذلك الذي نطلق عليه عقل أو ذهن هي الجديرة - دون غيرها من موضوعات - بالبحث والنظر والتثاقف حول قضاياها ومشكلاتها وأحكامها ومعتقداتها غير أن القليل أو إنْ شئت قل النادر من الأبحاث التي تشكل مبحث فلسفة العلم هو الذي راح يتساءل (كيف نعرف، ولماذا، وما الغاية التي تدفعنا للمعرفة، وما هي الآليات التي تشكل معارفنا وتضع المعايير والحدود لما نطلق عليه المعقول، وغير المعقول، والذي يمكن الشك فيه أو المحتمل)، ومن المسؤول عن تلك الأحكام القطعية التي تنسب لشيء كامن في النواصي وأعلى الجماجم؟ وكيف نتحدّث عن فلسفة عقلية دون أن نتعرف على ماهية ذلك العقل؟ وهل الإنسان هو الموجود الوحيد الذي يمارس وظيفة التعقل والتفكير؟ وهل هناك بدائل حسية وحدسية غير تلك التي ارتبطت بتلك الدائرة التي اطلقنا عليها مقولة المعقولات؟ واعتقدنا عبثاً بأن البرامج التكنولوجية المحاكية للعقل الإنساني هي التي سوف تصل إلى ما عجز العقل البشري عن فهمه؟

وماذا عن فلسفة العقول الموازية التي تعيش في عوالم مُفارقة، وترى وتسمع وتعتقد بطرائق .... بالغنا أحيانًا في تصور قدراتها وسخرنا من التفكير فيها باعتبارها ضربًا من ضروب الخرافة أحيانًا أخرى، وماذا عن فلسفة الأسطورة، والحديث مع الأشباح والتحاور مع كائنات في زمن ماض أو زمن آت.

كل ذلك يجعلنا نعيد النظر في الكثير من أحكامنا على تلك القيم (حقيقة، خيال، صدق، كذب، خير، شر، ذكاء، غباء، آراء تقديمية، أفكار رجعية، كائنات لها أجساد ماديّة، وأخرى تشغل تحيزات غير مرئية) ..

كل ذلك؛ وأكثر منه، طرحته العديد من المؤلفات المعاصرة (نذكر منها) التي جحدت تلك المناهج وهاتيك النهوج التي يعتقد أنها قادرة على الوصول إلى الحقائق القطعية التي عبثًا يستخدمها حتى الان فنضع قيمًا يقينية لأمور لا تستعصي على الشك أن ينفد إلى أصولها وبنيتها ونجحد مفاهيم ونتهكم على تصورات نجهلها أيضًا غير أننا نجهد العقل ونطالبه بإيجاد أدلة على بطلانها.

وخلاصة مقصدي مما سبق هو التأكيد على أن غرابيل الفلاسفة الناقدة التي تسعى للفصل بين الصدق والكذب ليست في منىء عن أن تقع في غرابيل أخرى أكثر دقة منها فتكذب ما صدقته. ومن هذه النافذة نجد فلاسفة العصر الوسيط يتحدثون عن تصوراتهم اللاهوتية ومعتقداتهم الروحية ومفهومهم لشخصية الإله علمًا بأن هؤلاء الفلاسفة لم يخرجوا عن نطاق الممكن الذي تسميه بعض الكتابات أساطير ويطلق عليه البعض الأخر غيبيات ويؤكد البعض الثالث وجود الكائنات الأسطورية والموجودات الغيبية في عالمنا الذي نعيشه موضحين جهل السواد الأعظم من البشر بلغة التواصل وآليات الحوار معها وبالتالي إثبات وجودها ومردود أفعالها والازمة في هذا السياق ليست في الغرابيل ولا في الفلاسفة ولا في المعايير التي تحمل الأفكار وإخضاعها للغربلة بل لقدرتنا على الاعتراف بأن عقولنا أعجز من أن تصل إلى حق اليقين أو جوهر الجواهر في ذاتها وعليه يجب أن نتقبل الآراء التالية التي ساقتها إلينا مصنفات فلاسفة اللاهوت المسيحي.

فترى الأستاذة نانسي مرقص -الباحثة في درجة الدكتوراه في فلسفة العصر الوسيط بكلية الآداب جامعة الإسكندرية-

خلال حديثها عن عقلانية العقيدة المسيحية وكذب المشككين فيها وجنوح منكريها وجهل جاحديها بإسم العقل والمنطق:-

أن القضية ليست أكاذيب وشائعات تلوكها الألسن وتصدقها المسامع والعقول وعلى الجانب الأخر عقائد مقدسة صادقة لم يفلح معتنقوها في الإفصاح عن الإيمان واليقين الذي ادركوه ببصائرهم الحدسية وليس بأبصارهم الحسية بل القضية في عدم تصور-المتلقي- أن للإنسان آليتين للادراك لا ينبغي الخلط بينهما أو أن تحل أحدهما محل الأخرى أو تنكر واحدة ما تراه قرينتها أولها تدرك علم اليقين والأخرى تدرك حق اليقين بلغة الصوفية فالعقول البشرية تدرك المحسوسات بعين اليقين أما التصورات والمجردات فتحتاج لبصيرة تعينها على استيعاب حق اليقين وبذلك التفسير يمكننا فهم ما انتهجه أهم فلاسفة المسيحية في العصر الوسيط لتبرير ما يعتقدونه تبريرًا عقليًا ويمكنني إيجاز من انتهت إليه تلميذتنا الحبيبة فيما يلي:-

فقد ذهب القديس أوغسطين إلى أن للمسيح أقنومين كاملين إلهي وإنساني لا يحل أحدهما في الأخر ولا استقلال بينهما أو انفصال فالتجسيد كان كاملًا فالمسيح إله كامل وإنسان كامل تمامًا متحدان في شخص واحد الذي هو يسوع المسيح الناصري بدون اختلاط أو انفصال الطبيعتين وينكر أوغسطين تلك الأكاذيب التي تعتقد أن الإله أصبح إنسانًا غير أن الحقيقة غير ذلك فخلاص الإنسانية لا يمكن تقبله من العقل الإنساني إلا على يد إنسان فالتجسيد ضروريًا لفدا البشرية بعد الخطيئة الأصلية لأن الإنسان وحده عاجز عن تقديم الكفارة الكاملة لذلك جاء الإله في جسد بشري ليحقق الخلاص ويعيد ويصلح العلاقة المفقودة بين الإله والإنسان وقد ربط أوغسطين بين الإيمان بعقيدة التجسد والفضائل التي نادى بها المخلص ليتم خلاص الإنسان وطهارته التي تؤهله للسعادة الأبدية أما انكار التجسد يؤدي إلى فهم خاطئ لحقيقة المسيحية والتعليم عن جهل لا ينطق به إلا الكذابون فالممكنات لا تستحيل على الإله لأنها لا تخضع لتصورات محدودة وإذا ما اتسع العقل على نحو يستوعب المطلقات وغير المحدود من الممكنات سوف يصل إلى أن ليس هناك تعارض مع الإيمان والعقل.

ويرى القديس أنسلم الكانتربري أن تصور آريوس ونسطوريوس وغيرهما من الهراطقة لا يخلو من الكذب لأن الإنسانية المسيح كاملة لا ينقصها شيء وكذا ألوهيته أما تصورهما في كيان واحد لا ينكره إلا من تشكك في قدرة الإله والشك في القدرة الإلهية ينفي حقيقة إيمانية وعقلية ونفي الحقائق هو بالضرورة كذب أما عن ضرورة وعلة التجسد فكلاهما يرجع لعدم قدرة الإنسان على التكفير عن خطيئة أدم فأراد المسيح أن يكفر عن تلك الخطيئة على نحو يليق بعظمة وكمال الإله ويقنع في الوقت نفسه العقل الإنساني بعظم الفداء فقد ضحى الإله بتجسده في صورة المسيح الإنساني ليتم الخلاص ويقبل القربان أو التكفير مبينًا أن الإله كلي القدرة يستطيع أن يتخذ جسدًا بشريًا بدون أن يفقد طبيعة الإلهية الأصلية كما أن الجسد البشري المادي لا يتناقض مع كمال الإله ومن ثم كان التجسد ضرورة حتمية لخلاص الإنسان وعليه فالعقل الذي يسع كل هذه التصورات لا يتعارض مع الإيمان الصادق وأن من يرى غير ذلك يحرض على الضلال والإضلال دربًا من دروب الكذب.

أن توما الأكويني خير من درس الفلسفة العقلية ولاسيما حديث الفلاسفة في مبحث الألوهية ومن ثم لا يوجد تعارض بين ما ذهبت إليه المسيحية والرؤية العقلية لطبيعة الإله فالكنيسة تعلم بأن الإله واحد غير أنه له ثلاثة أقانيم لا يمكن للعقل تصورها أما صفاته وقدراته اللانهائية فلا خلاف عليها بين المؤمنين فلا سبيل لهم لمعرفة طبيعة الإله ولا صفاته لأنها تفوق العقل وتصوراته المحدودة فإن جوهر الإله الواحد لا يمنع أن تكون له صفات متعددة تحاكي بعضها التصورات العقلية الإنسانية والبعض الأخر لا سبيل للعقل أن يدركها إلا بالحدس الإيماني. وذلك لأنها من الغيبيات وأي انكار لهذه الرؤية وذلك المفهوم يؤدي بنا إلى الانحراف العقلي لأننا نكلفه بما لا يستطيع فإدراك الغيبيات غير عقلي بالضرورة أما إنكارها فيقودنا إلى الالحاد وهو كذب وضلال ويخالف الحقيقة. أما تجسد الإله فلا ينقص من كماله لأن الإله قادرًا على كل شيء لا يحدد بطبيعة المخلوقات فإذا أراد الإله اتخاذ جسدًا فالبطبع هو قادرًا على ذلك وذلك بدون أن يفقد كماله الإلهي على الاطلاق وذلك لأ الشيء الطبيعي لا يمنع القدرة الإلهية من تجاوزه لأنها غير محدودة بالقيود الطبيعية فالهدف من التجسد هو خلاص الإنسان فالتجسد لم يكن حادثًا عشوائيًا وعليه فإن من يشكك في قدرة الإله على التجسد يؤدي إلى انكار كماله وهذا مخالف للحقيقة أيضًا ويؤدي إلى التجديف كما أن اتحاد الطبيعيتين الإنسانية والألوهية في شخص المسيح فإنه يساعد على فهم الإنسان لعقيدة الخلاص التي عايشها الإله مع البشر وذلك لأن هذا الاتحاد بين (الجسد والجوهر الإلهي) لم ينقص من طبيعتهما شيء فليس فيه امتزاج ولا انفصال ومن ثم فرفض الطبيعتين على هذا النحو لا يخلو من الكذب لأنه مخالف لكمال الإله المتفرد القادر على كل شيء كما ذكرنا.

***

والآن سوف نحاول الإفصاح عن طبيعة العلة الحقيقية التي كانت وراء محنة غرابيل الفلاسفة وعجزها عن الفصل بين الأكاذيب والحقائق في ذلك العصر الشاغل بالمثاقفات والمصارعات والمناظرات والمعارك الفكرية التي تسببت في السفع بالنواصي وسجن العقول وخرس الألسنة بل وإراقة الدماء وتربع الاستبداد والجهل والعنف في سماء ذلك الظلام الحالك الذي خيم على أوربا في الفترة الممتدة من القرن الثالث إلى القرن الخامس عشر الميلادي حيث مصابيح النهضة التي حملها ديكارت وبيكون لإزالة ذلك الركام الحضاري الذي عاق تقدم كل القيم الإنسانية آنذاك فقد تبين لنا من دفوع ومزاعم وادعاءات كل الاتجاهات المتصارعة أن جميعهم كان من صانعي الكذب بكل أشكاله في حين أن غرابيل الفلاسفة الحديدية أو الحريرية لم تتمكن من غربلة الوافد الذي تحمله من مزاعم متناقضة وشائعات ذائعة وادعاءات مغرضة وأفاك ملفقة والرؤية الناقدة لا تستطيع أن تقطع بأن هناك مسؤول بعينه عن تلك الكثرة من الأكاذيب التي لفظتها هذه الاتجاهات هل التعصب للموروث أو الخوف من وصف الواقع أو الارتياب في المجهول القادم أم ضياع وفقدان المعيار الذي توضع فيه الأفكار؛ ليصبها العقل في غرابيل النقد لتهذيبها أو النقض لإبعادها؟

وللحديث بقية عن قراءة العقل المحايد لفلسفة عن هذا العصر.

***

بقلم: د. عصمت نصار

مُنحت يوم الاثنين الماضي 13 اكتوبر 2025 جائزة نوبل في الاقتصاد لكل من جويل موكير Joel Mokyr (جامعة نورث وسترن)، وفيليب أجيون Philippe Aghion (مدرسة لندن للاقتصاد)، وبيتر هويت Peter Howitt (جامعة براون) لتوضيحهم للنمو الاقتصادي المبني على الابتكار. يأتي هذا بعد الاتجاه الاخير الذي اعتمدته لجنة نوبل في التركيز على الاقتصاد القائم على النمو، بعد فوز كل من أسيموجلو وجونسن وروبنسون عام 2024، وفوز كريمر ودوفلو وبانيرجي عام 2019. الزمان والمكان لا يسمحان بعرض نقاش مفصل للافكار خلف كل جائزة من هذه الجوائز، لكنها جميعا ذات أهمية بالغة لفهمنا للاقتصاد.

 أحد أكبر الألغاز في التاريخ الانساني هو ما سمي " عصا هوكي في الرخاء" hockey-stick of prosperity(1). هذا يشير الى حقيقة ان الشطر الاكبر من التاريخ الانساني شهد ثباتا في مستويات المعيشة. لا فرق كبير بين المواطن الروماني عام 1م والمواطن البريطاني عام 1700م. لكن بدءً من عام 1700، بدأت مستويات المعيشة ترتفع.

من عام 1م الى عام 1700 لم تحدث الاّ القليل من التغييرات، حيث هيمن النقل الشراعي ووسائل النقل الحيوانية، ولم يتقدم علم الطب، ولم تكن المكائن معروفة. ومن عام 1700 الى عام 1800 بدأت التغييرات تظهر بشكل ملموس، حيث تم إدخال المحركات الميكانيكية وبدأت الثورة الصناعية. بين عام 1800 الى عام 1900، انتقل العالم من الحصان والعربة الى المحرك البخاري. بين عام 1900 و1960، ذهبت الانسانية من المركبات الى الطائرات ثم الى الهبوط على سطح القمر. الامراض قُضي عليها والحياة تحسنت كثيرا. نسبة الفقر الواقعي هبطت من 90% من السكان في العالم الى أقل من 10%، وهو مالم يحدث من قبل، واستمر الحال بنفس المنوال حتى ان اكثر الاقتصاديين تفاؤلا في ذلك الوقت واجهوا صعوبة في تفسير ذلك.

جويل موكير، وفيليب اجيون، وبيتر هويت ساعد عملهم مجتمعاً بتوضيح لماذا حدث هذا النمو، ولماذا حدث في أماكن محددة وكيف يكون مستديما.

يجادل موكير ان الثورة الصناعية والمنافع التي نتجت عنها لم تكن صدفة تاريخية، وانما هي نتيجة للمؤسسات. يبرز النمو الاقتصادي من نوعين من المعرفة: معرفة افتراضية propositional knowledge (2) (كيف ولماذا تعمل الاشياء) ومعرفة توجيهية prescriptive knowledge (معرفة تطبيقية لأشياء ضرورية لجعل الأشياء تعمل، مثل المؤسسات والتعليمات). هذان الشكلان للمعرفة يعملان مجتمعان، يبنيان على بعضهما البعض، لخلق النمو الاقتصادي. فمثلا، علم الاقتصاد (معرفة افتراضية) يخبرنا من أين تأتي الاسعار، كيف ينسق الناس تصرفاتهم، وغير ذلك. هذا الفهم، بدوره يساعدنا للنظر في أي نوع نحتاجه من المؤسسات (معرفة تطبيقية) لتعزيز تلك الميول.

 ان حالة اوربا المجزأة قادت الى ظهور الثورة الصناعية. مع وجود مختلف الدول المتنافسة مع بعضها لأجل الهيمنة السياسية، وعدم وجود دولة بالذات كبيرة، يستطيع الناس الانتقال (او الهروب) عندما تتعرض افكارهم للقمع. في الدول الموحدة الكبيرة مثل الصين والهند (واللذان كانا تقريبا بنفس المستوى التكنلوجي لاوربا في ما قبل الصناعة)، جرى قمع الافكار والناس لم يتمكنوا من المغادرة. اوربا المجزأة خلقت المزيد من التكنلوجيا القوية بسبب عدم قمعها للافكار الجديدة. هذه النزعة تُلاحظ احيانا في دول مثل الامبراطورية البريطانية. سكوتلاند كانت مكانا راكدا لم يشهد تقدما، جرى تجاهلها من النخبة الحاكمة في لندن بعد توحيد العاصمة، ومع ذلك، هذا هو المكان الذي بدأت فيه الثورة الصناعية.

أطلق موكيرعلى هذه الظاهرة ثقافة النمو (وهو نفس الاسم لكتابه الشهير عام 2016). الابتكار التكنلوجي ليس عشوائيا، وانما يتطلب ثقافة تعزز الابتكار وسوقا للافكار.

ساهم كل من اجيون وهويت بطريقة مختلفة. ورقتهما الفريدة "نموذج للنمو من خلال التحطيم البناء"(Econometrica,60(2)) تبني نموذجا رياضيا لنموذج جوزيف شومبيتر اللفظي للتحطيم البنّاء. الشركات تواجه كل من مكاسب ومصاعب للابتكار (جزرة وعصا). الجزرة هي المكاسب او العوائد التي تحصل عليها من الابتكارات. من خلال العملية الابتكارية للشركات هي تجعل التقنيات القديمة مهملة وغير صالحة، وهي بهذا تقضي على التكنلوجيا القديمة وتحصل في نفس الوقت على حصة السوق (او العائد). المصاعب تأتي من التهديد المستمر من جانب الشركات الاخرى للعمل بنفس الطريقة: كل واحدة يجب ان تبتكر لكي لا تخسر العائد . لكن أجوين وهويت ايضا يكشفان عن بعض القيود. عندما يصبح العائد كبيرا جدا، تستطيع الشركات القائمة خلق حواجز تمنع الدخول. هذا يقلل من اخطار المنافسة. كذلك، حالما يتم تأمين الارباح او العوائد، سيكون هناك القليل من حافز الابتكار لدى الشركات . الاختلاف في الشركة والسوق والهيكل القانوني يوضح لماذا بعض الصناعات عالية الابتكار بينما اخرى جامدة.

كل الفائزين الثلاثة يوضحون النمو الاقتصادي من خلال التكنلوجيا والثقافة. هذه القراءة لا تدّعي عرض كل أعمالهم، لذا يُنصح بالعودة الى ملخص لجنة نوبل لمساهمات الفائزين.

***

حاتم حميد محسن

..........................

Econlogpost Oct 13, 2025, the Library of economics and Liberty

الهوامش

(1) يشير مصطلح (عصا هوكي في الرخاء) الى الزيادة الدراماتيكية في رفاهية الانسان التي بدأت في القرن الثامن عشر. هذه الفترة سميت تقليداً للعبة عصا الهوكي عندما تُرسم بيانيا، المؤشرات الاساسية لإزدهار الانسان مثل متوسط العمر المتوقع والدخل، بقيت على خط مستوي نسبيا لقرون قبل ان تزداد بحدة لتشبه بذلك عصا لعبة الهوكي في الإستواء والإنحناء.

(2) وهي معرفة يُعبّر عنها بشكل بيانات او تصريحات او افتراضات وتكون اما صحيحة او زائفة، مثل عبارة الارض تدور حول الشمس.

 

قراءة نقدية لرسالة الوزير عبر "السوشيال ميديا"

للمرة الاولى في تاريخ العراق، تلجأ وزارة التعليم العالي والبحث العلمي الى منصات التواصل الاجتماعي لبث رسالة مصورة حول ما وصف بـ "منجزات حققها الوزير نعيم العبودي في التعليم العالي والجامعات العراقية"، في تزامن لافت مع بدء الحملة الانتخابية.

الادعاء بزيادة البحوث (الاوراق البحثية)

يدّعي الفديو انه خلال فترة ترؤس الوزير للوزارة (منذ تشرين الاول 2022) شهدت نشر اكثر من 69 الف بحث علمي عراقي (اي بمعدل 24 الف بحث في السنة الواحدة).  في الحقيقة، هذا الرقم ليس مختلفا كثيرا عن عدد الأبحاث المنشورة في العام السابق للوزارة الحالية، والذي وصل الى اكثر من 20 الف بحث. وكذلك، لم تكن الأرقام في السنوات التي سبقتها مختلفة بشكل كبير. لكن الملحوظ والمميز في هذه الفترة هو الارتفاع الكبير في النشر الزائف.  فالكثير من هذه الأبحاث (مع التحفظ على الأبحاث النزيهة) اما انها مسروقة، او من إنتاج "مصانع الأوراق" التجارية، او مقتبسة بشكل غير أمين، او حتى مزورة. ان وجود عدد كبير من الباحثين الذين ينشرون بمعدل 100 بحث سنويا وبضمنهم مسؤولين كبار في الوزارة، وتزايد أعدادهم بمرور الوقت، بالإضافة الى ازدياد عمليات سحب الأوراق من المجلات العلمية، يؤكد دور الأوراق المزورة في زيادة العدد الاجمالي. كما ان هذه الفترة تتميز بنشر ابحاث تفتقر الى التاثير العالمي والمجتمعي او الجودة البحثية المطلوبة، الامر الذي حال دون الاشارة الى الجودة في الفديو، ربما لانها قد تمثل "وصمة عار". الاهم من ذلك، لم يذكر الفديو ان البحث العلمي لم يتلق اي دعم مالي مباشر من الوزارة، بل تحمل الباحثون تكاليفه بأنفسهم.

زيادة الجامعات في تصنيف التايمز.. هل هو انجاز حقيقي؟

واشار الفديو الى زيادة عدد الجامعات العراقية المدرجة في تصنيف التايمز للتعليم العالي. لكنه غفل عن حقيقة ان تصنيف التايمز يدرج كل جامعة تتقدم بطلب للاشتراك وتستوفي استمارة المشاركة. فالسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا اقتصر العدد على 27 جامعة فقط، وليس 100 جامعة على سبيل المثال؟ كما تجاهل الفديو الاشارة الى ان ما يقارب 90% من جامعات العالم لا تشارك في هذا التصنيف من الاساس، وبالتالي لا يتم تصنيفها. علاوة على ذلك، تقع غالبية الجامعات العراقية المشاركة في مؤخرة التصنيفات، مما يشير الى إخفاق كبير حتى ضمن نطاق الجامعات المحدودة المشاركة.

المؤشر البيئي والتنموي.. سوء فهم للتصنيفات الدولية

ذكر في الفديو ايضا ان العراق صعد الى المركز الاول عربيا في "المؤشر البيئي والتنموي" وفقا لتصنيف التايمز. وهنا يجب التوضيح انه لا يوجد مؤشر بيئي وتنموي شامل على مستوى الدول يصدر عن التايمز. لربما ما يقصد على الارجح هو تصنيف التايمز للتنمية المستدامة للجامعات، حيث صعد العراق الى المركز الاول عربيا من حيث عدد الجامعات المشاركة في هذا التصنيف. هذا يعني ان عددا كبيرا من الجامعات العراقية بادرت بتقديم بياناتها والمشاركة في هذا التصنيف الذي يقيم مساهمة الجامعات في تحقيق اهداف التنمية المستدامة. مع انها اختفت من تسلسل افضل الجامعات العربية في التصنيف حيث تصدرت الجامعات السعودية والاماراتية والمصرية والقطرية ولم تتصدر أي جامعة عراقية قائمة الأداء، ما يشكل انتكاسة اضافية، فالانجاز الحقيقي ليس بكثرة المشاركة، بل بتميز الأداء.

ارتفاع عدد الطلبة الاجانب (الدراسة المجانية).. جدلية الجودة والتاثير

تطرق الفديو ايضا الى ارتفاع عدد الطلبة الاجانب الملتحقين بالجامعات العراقية ليصل الى 3000 طالب. وهذا يعود الى شروط قبول ميسرة، منها قبول معدل 85% لدراسة بكالوريوس طب الاسنان والصيدلة، و90% للطب البشري، مع منح دراسية مجانية. هذا التوجه يأتي على حساب اعداد الطلبة العراقيين الذين قد يجدون صعوبة في المنافسة، ويضع ضغطا هائلا على التدريسيين. فهل هذا ما يجب ان نفخر به كأنجاز في الوقت الذي يدفع كثير من العراقيين اجورا للحصول على مقاعد مماثلة في الجامعات الحكومية المفترض بها ان تكون مجانية، ام انه يثير تساؤلات حول جودة التعليم المقدم ومدى قدرة الجامعات على استيعاب هذا العدد دون المساس بمستوى الاداء الاكاديمي؟

تأسيس كلية التميز.. حل جذري ام تكتيك دعائي؟

بالنسبة لتاسيس كلية التميز كأنجاز يشير له الفديو، يتبادر الى الذهن سؤال جوهري: الم تنجب جامعاتنا وكلياتنا القائمة، على امتداد عقود من الزمن، نخبة من العقول والكوادر المتميزة؟ ولمن تحديدا توجه هذه الكلية الوليدة خدماتها؟ هل هي نخبة مصطفاة، تنتزع انتزاعا من سياق تعليمي متهالك؟ وما الجدوى الحقيقية المرجوة منها؟ هل ستنتج هذه الكلية وظائف نوعية جديدة تتجاوز ما تعانيه الكليات الاخرى من تخمة في بعض التخصصات وشحّة في اخرى؟ الا يمثل هذا الاجراء، في جوهره، مجرد تكتيك دعائي فاشل اخر لتلميع صورة التعليم العالي الباهتة، دون الغوص في اعماق مشاكله المستعصية وتقديم حلول جذرية؟ والاسئلة تتوالى: اين البنايات الجديدة التي تليق بهذه الكلية الرائعة؟ اين المختبرات المتطورة؟ ما هي اختصاصات هذه الكلية؟ ام ان كل هذه "الانجازات" جاءت على حساب ما هو موجود، باقتطاع اجزاء من مبان قديمة وترحيل اثاث مهترئ في مسرحية ترقيع؟

اين المبررات الاكاديمية والعلمية التي تبرر لهذا الصرح المصطنع اسمه "التميز" ان يتفوق على بقية الكليات؟ ام ان الامر كله مجرد استعراض لأسماء واسلاك تربط اساتذة من اقسام اخرى، ثم تغليف الفكرة بشعار براق على لافتة توحي بالعظمة، في حين ان الواقع ما هو الا فراغ تعليمي معاد تدويره؟

هل يعقل ان تتحول كلية مصطنعة الى جامعة من الهواء؟ جامعة لا سند لها سوى اسم "التميز" الغريب الذي يراد به ان يبعث رسالة ضمنية لكل طلبة الطب والهندسة وغيرهم: انكم ببساطة اقل تميزا، وربما اغبياء لاختياركم التخصصات "العادية"، بينما هنا في "التميز" تخلق العبقرية!.

تضمين مادة "جرائم البعث".. اولويات المناهج التعليمية

اشار الفديو الى ادراج مادة "جرائم البعث" في مناهج الكليات العراقية واعتماد تدريس كتب المراجع الدينية كأنجاز. هذا يثير تساؤلا حول الاولويات في صياغة المناهج: لماذا لم تدرج مقررات في "فلسفة المواطنة" او "المواطنة الصالحة" وتعزيز قيم التسامح والتعايش السلمي وتطوير المهارات الشخصية والقيادية، او مادة لتدريس النزاهة ومكافحة الفساد، او مادة التفكير النقدي او حتى مادة عن الحرية الاكاديمية؟ ولماذا لم يتم اعتماد كتب أكاديمية متخصصة في مكافحة الفساد والحوكمة الرشيدة وأخلاقيات المهنة، وكتب في علم النفس الاجتماعي وعلم الاجتماع السياسي التي تتناول مفاهيم الهوية والصراع والتسامح وبناء السلام،  ودراسات حالة (Case Studies) واقعية من العراق والعالم حول الفساد ونتائجه وجهود مكافحته وكتب الأدب والتاريخ العراقي التي تحتفي بالتنوع الثقافي وتبرز الوحدة الوطنية؟

ما يثير الاستغراب في رسالة الفديو هو الغياب التام لاي اشارة الى انجازات تتعلق بجودة التعليم بحد ذاتها. لم يتطرق الفيديو الى خطوات عملية لرفع مستوى العملية التعليمية، او برامج تهدف الى ربط التخصصات الدراسية بحاجة سوق العمل ومتطلباته المتغيرة، ولا إلى أي برنامج إصلاحي حقيقي. وكأن التعليم نفسه اصبح تفصيلا ثانويا في مؤسسة تحولت تدريجيا الى دائرة امنية بامتياز، تمارس الابتزاز والتخويف بحق الأساتذة والموظفين والطلبة على حد سواء.

أما الواقع الذي تجاهله الفيديو، فهو أكثر فجاجة من أن يخفى:

- إهانة التدريسيين عبر تجاهل نتائج امتحاناتهم وتدخل الوزير في رفع درجات الطلبة الفاشلين.

- التعيينات الولائية التي جعلت من منصب العميد ورئيس الجامعة مكافأة سياسية لا استحقاقا علميا.

- فرض الاتاوات على الطلبة، حيث يبتزون بمبالغ مالية تسخر لخدمة جهات لا علاقة لها بالتعليم.

- تحويل الوزارة إلى جهاز رقابي بوليسي، يراقب ويعاقب بدل ان يطور ويحفز.

كل ذلك غاب عن الفيديو، وكأن الرسالة المقصودة ليست تحسين التعليم، بل تحسين صورة السلطة. وهنا تكمن المأساة: حين يصبح الترويج اهم من الإصلاح، ويستبدل الحديث عن الرؤية التعليمية باستعراضات فارغة لا تعني شيئًا للطلبة ولا للأساتذة.

الاكثر اثارة للقلق هو تجاهل الفيديو الكامل لمطالب الهيئة التدريسية.  فبدلا من الالتفات الى حقوقهم واحتياجاتهم، او التركيز على برامج تدريب وتطوير مستمرة لتحسين مستوياتهم التعليمية والبحثية، خلى الفديو من اي ذكر لهذه الجوانب الحيوية التي تمثل عماد اي تقدم في القطاع التعليمي.

***

ا. د. محمد الربيعي

حينما يقترن أمران لا صلة حقيقية بينهما، فيكون أحدهما دالا على الآخر، وقيمة الآخر متوقفة على الأول، فهذا نذير شؤم بنتيجة تتوقع فيها كل شيء إلا الحقيقة، وعلى المستوى الفكري تكون المغبّة أَنْكى؛ لأن الفكر القويم يُبنى على تسلسل منطقي من الأدلة، وليس على جمع اعتباطي، وربطٍ عشوائي كيفما اتفق، وحتى لا تتوه منا الفكرة في ضبابية المدخل العام لموضوع بحثنا، فإني أودّ الإبانة عاجلا عن مقصودي، فأنا هنا أتحدّث عن اقتران صحة الرأي بتبنّي الأغلبية، وإذا كان الفكر الإنساني قد مُنِيَ برزيّة فستكون الأغلبية!

حين نتحدث عن صحة الرأي، فإنه من المفترض أن يدور كلامنا على الدلائل والقرائن والحجج والبراهين والتجارب العملية والعلمية، ونحوها مما يُستند إليه - عن استحقاق - لإثبات المعارف، فيغدو ادّعاؤنا بأن التصوّر الفلاني صحيح استنادا للحجة المبرهن عليها، مقبولا لدى الحسّ الطبيعي، أما إذا كان المصدر الذي ولّد قناعة بصحة رأي ما ليس بذي بال أو فاقدا أيّ قيمة، فهنا تكون نظرتنا لصحة الرأي محل شك ونظر بل وريبة!

وحين نتحدث عن الأغلبية، فإنّ أقصى ما نشير إليه هو نسبة غالبة من مجموعة أناس يجمعهم قاسم مشترك كالرقعة الجغرافية أو اللغة أو الدين أو العِرق…إلخ، فحين نقول أغلبية المقيمين في تلك الدولة من الجنسية كذا، فهذا يعني نسبة 51% فما فوق منهم هم من هذه الجنسية - لا أكثر ولا أقل - ولا يدل على شيء آخر إلا الأكثرية العددية.

المتاهة التي عَلِق فيها الفكر الإنساني هو أنه أوجد رابطة - حيث لا رابطة -  بين صحة الرأي التي تفترض حيازتها على أدلة إثباتها، وبين تبنّي الأغلبية إياه بوصفها الدليل الذي يركن الرأي إليه، وإن كان ربطا لا شعوريا وغير صريح، لكن ظلاله ملقاة على واقع تعاطينا الفكري، وخير مثال ما تعجّ به مواقع التواصل الاجتماعي من مناقشات في نطاق (الترندات)، وكيف يتم التعاطي مع رأي الأغلبية بثقل اجتماعي بل ومعرفي للأسف.

كل ما أرغب في زَجّه لبؤرة الضوء هنا هو أن نضع الرأي المُتبنّى من الأغلبية في خانته الطبيعية بلا عملية (Filler) حشو! وعلى قول المتنبّي:

أعيذُها نظراتٍ منك صادقةً          أنْ تحسبَ الشحم فيمن شحمُه ورمُ

 فهو رأي أخذ به أفراد مجموعة ما بنسبة غالبة، بدون أن نزيد من عنديّاتنا أيّ شيء من قبيل صحة الرأي أو دقته أو وجاهته! فالأغلبية ليست أحد أدلة الصحة، بل نسبة غالبة، وغالبة باعتبار العدد وليس شيئا آخر.

ومن الوارد جدا أن نتساءل إزاء هذا الخلط عن السبب الذي آل بنا إلى فرض هذه العلاقة القسرية بين الأغلبية وصحة الرأي، التي لربّما تكون صادمة للبعض إذْ ينتبه لها لأول مرة وقد كانت ممارسة بديهية فيما مضى، على سبيل النطاق العام للأسباب فطبيعي جدا أن تتعدد وتتداخل، فليس بلازم أن تكون الأسباب خطيّة أو منفصلة بشكل حدّي عن بعضها، وفيما يتصل بمحل بحثنا عن أسباب إقامة اقتران بين الأغلبية وصحة الرأي فإني أود الالتفات إلى سببين، أوّلهما فردي المَنبت، وثانيهما جماعي الدافع.

فيما يخص المستوى الفردي، فأدمغتنا تميل للاسترواح للالتصاق بالأغلبية في تبنّي تصوّر أو توجّه معيّن؛ لتجنّب إعمال العقل؛ لأن العمل الذهني يتطلّب طاقة إضافية، فيجد الدماغ في الأغلبية العزاء، فيستمرئ الميل لمحاكاة رأي الأغلبية على اعتبار أن ذلك إشارة إلى قوة الرأي لدرجة أن الجموع بمختلف أطيافها قد تضافرت عليه، ولكن تلك منهجية غير وجيهة؛ فتبني الرأي هو مسؤولية فردية بالدرجة الأولى، وليست مسؤولية جماعية، والذي يحصل أن هذا الاسترواح يجعل ما يُقدّم من أدلة تبريرات لصحة رأي الأغلبية، ليس لأنها أدلة صحيحة في ذاتها، أو على أقل تقدير ليس لكونها بتلك القوة التي يتم تقديمها على أنها كذلك، وإنما الباعث الأساسي هو تبنّي الأغلبية، فنتراخى في عملية التمحيص والنقد، لا لشيء سوى أننا لا نكاد نولّي وجوهنَا شطر ناحية ما إلا وجدنا من يسبّح بحمد هذا الرأي ويلهج بذكره! فنجد أنفسنا تلقائيا مع الخيل يا شقراء! فإذن الميل لرأي الأغلبية ليس بالضرورة قناعة تُفصِح عن نفسها بل تتسلّل إلى المستوى اللاشعوري مقنَّعة بأدلة لاحقة جوفاء، باطنها محض تبريرات لتمرير رأي الأغلبية على أنه رأي متأسّس على أدلة رصينة تعضده.

وفيما يخص المستوى الجماعي، فعلى مرّ الأزمان تطوّرت الحاجة الجماعية للاحتفاء بخصائصها من الأعراف والأفكار بين أفرادها بفعل الانتقاء الطبيعي للجماعة (Group Selection) للمحافظة على بقاء انتماء أفرادها إليها، فكيف يُتصوَّر وجود للجماعة بدون أفراد يشكّلونها؟ لا شيء قطعا، ومن تفرعات ذلك الاحتفاء هو تقدير رأي الغالبية بما هو تمثيل معتبَر للتيار العام للجماعة، ومن هنا كان تمرّد فرد على التيار العام للجماعة في أعرافها وأفكارها يشكل تهديدا يؤرق مضجع الجماعة؛ فتعمد بدايةً إلى محاولة استمالته مجددا إلى حياضها، فإن لم يُجدِ ذلك نفعا تقوم بتجنيد أدواتها المتاحة المشروعة منها وغير المشروعة،  فتغتاله اجتماعيا وتشوه صورته ولا تألُو جهدا في محاربته لجعله عبرة؛ تجنبا للعدوى، والتي إنْ استشرت فذلك إيذانٌ بالقضاء على وجود الجماعة، ولك أن تدرك أنه كلما كانت الجماعة مترامية الأطراف وذات نفوذ واسع وتحكمها أيديولوجيا مستحكمة، امتلكت أدوات أكثر إيغالا في اللاإنسانية، ليس أقلها إطلاق حملات بروبوغاندا ضد المنشقين عنها، على أنّ نطاق الآراء ذات الحظوة لدى غالبية جماعة ما، ينبغي أن يكون محل دراسة حقول علمية كعلم النفس الاجتماعي؛ لبحث الجذور التي شيّدت علاقة متينة بين غالبيةٍ ما وبين هذه الآراء من بين نظيراتها من الآراء.

إذن العقد الذي يُلصق صحة الرأي بالأغلبية هو عقد اجتماعي، يتعزّز بميل أدمغتنا إلى الاتّكاء على استنساخ رأي الغير الجاهز، خصوصا وهو يحظى بسطوة الغالبية، ولسانُ حالها إنْ كان صحيحا فبها ونِعْمَتْ، وإنْ كان خطأً فالخطب يهون مع وقوع غيرنا في الفخ نفسه!

على أنّني أحرص دائما على التحذير من مفهوم الرأي العام، الذي عادة ما يكون مستخرَجا من تفاعلات الجمهور مع (ترند) معين، فيُصدَّر على أنه يمثل الأغلبية، وما يمثل الأغلبية يُنظر إليه بما هو ممثّل لتلك الجماعة بأسرها سواء كانت شعبا أو أصحاب دين أو أتباع تيار فكري…إلخ ولكن عند التفتيش عن حيثيات مفهوم الرأي العام فهو لا يعني إلا صورة مُجْملة شوهاء عن رأي جماعة ما، بعيّنةٍ محدودة وشريحة مُجتزَأة لا تتأهّل لأنْ تقوم بتمثيل الأغلبية فضلا عن الجماعة بأسرها، ففي الوقت الذي نسمع فيه أن الرأي العام في منطقة كذا أو عند مجتمع ما، فهذا لا يعني إلا استطلاعا لوجه واحد من الوجوه، قد يكون استبانة لعيّنة غير منضبطة، أو تفاعلات في (ترند) في منصة (X) وهؤلاء لا يمثلون بالضرورة الصوت الحقيقي لأي مجتمع.

على أنه في الوقت الذي يُنظر فيه إلى الأغلبية مُرجِّحا أو على الأقل باعثا للاطمئنان أو الاستئناس لتماسك رأي ما، فإنه يمكن أن يكون ذلك على النقيض تماما، بما هو لافتة تحذير (Red flag) فقد جرت العادة على أن تكون الآراء السائدة مكانا خصبا لترعرع الأفكار المغلوطة والمدفوعة لخدمة أجندات معينة وليس نشدان الحقيقة.

وهذا يذكرني بمقولة متداولة منسوبة لمارك توين، ولم أقف على مصدرها، ولكن مهما يكن فمضمونها دقيق جدا، وهي: "Whenever you find yourself on the side of the majority, it’s time to pause and reflect." أي: كلما وجدت نفسك في صفّ الأغلبيّة فقد حان الوقت لتتوقّف وتتأمّل، وعموما في الوعي الجمعي ننفر جميعا من سمة الإمّعة رغم سقوطنا ضحايا لها، شعرنا بذلك أم لا، ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية ودخول الكوكب في نظام عالمي جديد، نشأت في سياق ثقافة الشعوب الناطقة بالإنجليزية كلمة هجين (Sheeple) وهي نحت لكلمتين (Sheep) بمعنى الخِراف و(People) بمعنى الناس، ليكون معناها الكلّي: الأشخاص سهلو الانقياد كالقطيع، والمعادل الأقرب إليها بالعربية الإمّعة، لكن كلمة (Sheeple) كما هو جليّ تضفي تهكّما لاذعا لهذه الفئة من الناس التي تحشو أدمغتها بآراء جماعتها بغضّ النظر عن صحتها، وقد أُضيفت الكلمة رسميا لقاموس أكسفورد عام 2015 أي قبل عشر سنوات من الآن.

وفي خطوة أولى حتى لا ننجرّ في تيارٍ إمّعيٍ بامتياز، علينا أن نَفْرَق ابتداءً من الرأي السائد الذي يعبّر عن الأغلبية، ونُعمِلُ فيه نقدنا أقسى من غيره؛ لنتأكد قدر المستطاع من أننا لا ننضمّ لقائمة ضحايا تصوّرات تيار الأغلبية، فالرأي إذْ تحتفي به الأغلبية لا يعني إلا أن كثيرا من الناس اعتمدوه، ناظرا إلى العدد ليس إلا، من غير أن يدل على أي معنى زائد آخر كصحته! وكم من رأي صحيح حصيف مسحوق تحت الغالبية؛ لقلة متبنّيه، مبحوح الصوت حتى لا يكاد يُسمع، ومع ذلك إذا كانت نتيجة نظرك في رأي ما قد وافق الأغلبية فلا يعني أنه يتوجّب عليك نبذه وازدراؤه، فحجر الزاوية هو ألا تتبنّاه لأنه رأي الغالبية وحسب.

***

محمـــد سيـــف

العدم السريالي (3)

ٱلْخُلُودُ لَيْسَ وَعْدًا، بَلْ ٱسْتِمْرَارٌ بَغِيضٌ لِلتَّفَاهَةِ ذَاتِهَا، نَحْنُ نَسْعَىٰ لِلْأَبَدِيَّةِ كَأَنَّهَا مُكَافَأَةٌ، بَيْنَمَا هِيَ فِي ٱلْحَقِيقَةِ لَعْنَةُ ٱلتَّكْرَارِ ٱلْأَقْصَى. ٱلْأَبَدِيَّةُ لَيْسَتْ فَضَاءً مَفْتُوحًا، بَلْ قَاعَةَ ٱنْتِظَارٍ ضَخْمَةً لَا يَتَغَيَّرُ فِيهَا شَيْءٌ سِوَىٰ ٱضْمِحْلَالِ رَغْبَتِنَا فِي ٱلْمُغَادَرَةِ. ٱلْخَوْفُ ٱلْحَقِيقِيُّ لَيْسَ مِنَ ٱلْمَوْتِ، بَلْ مِنْ أَنَّ ٱلْحَيَاةَ لَنْ تَنْتَهِيَ أَبَدًا؛ أَنْ تَسْتَمِرَّ هَذِهِ ٱلْعُرُوضُ ٱلْبَائِسَةُ لِلْمَشَاعِرِ ٱلزَّائِفَةِ إِلَىٰ مَا لَا نِهَايَةَ.

"السريالية" تكمن في قناعتنا بأننا سنكون مختلفين في الغد، أو مختلفين في حياة أخرى، بينما كل ما نفعله هو تحريرُ نُسَخٍ بَاهِتةٍ من الأمس.

الأبدية هي أن تجد نفس الكذبة تتكرر ببطء مهيب.

. أن تعيش مليون عام، ثم تكتشف أنك لم تتجاوز لحظة الملل الأول

الوقت كائن شرير.

. يمنحنا الزمن الكافي لنكره أنفسنا، ثم يسرقه قبل أن نصل إلى قرار

الذاكرة هي الوحش الذي ابتلعنا جميعاً.

. نحن لا نموت؛ نحن نتحول إلى أرشيف مُتَعفِّن من الخيبات

الجنون هو النقطة الوحيدة التي يمكن أن يلتقي فيها الصدق بالأمل.

. لكن حتى الجنون يتعب ويستسلم للرتابة

الفن هو محاولة يائسة لوضع إطار على اللا معنى.

. هو تزيين حبل المشنقة بورود بلاستيكية

الحب؟ هو اتفاق بين شخصين على أن يجنّا سوية لفترة، قبل أن يستيقظ كلاهما على حقيقة عزلة الآخر.

المشاعر ليست إلا ضوضاء بيضاء.

. مجرد ذبذبات فاشلة تحاول كسر هدوء العدم المتقن

نحن نغفر لأننا متعبون جداً من تذكر سبب الغضب.

الغفران هو مجرد كسل آخر.

المتعالي هو قناع الوجود

الذي يرتديه ليبرر غيابه.

لقد وضعوا لنا آلهة ليمتصوا عنا ضجرنا، وخلقوا لنا مُثُلاً عليا لنستنزف فيها طاقتنا بلا فائدة.

العدم السريالي لا ينفي الإله؛ بل يجعله شريكاً في العبث،

أرهقه الخلق، فترك كل شيء يسير على غير هدى، ثم جلس يضحك من محاولاتنا اليائسة لإيجاد قانون يحكم الفوضى التي تركها خلفه.

. سخرية المتعالي هي أن يْطلب منا المسؤولية في غياب الهدف

فضح القناع:

الفضيلة هي مجرد ترف.

. لا يمارسها إلا من لديه الوقت الكافي لتجميل سقوطه

العدالة هي الاسم اللطيف الذي نطلقه على انتقامنا المؤجل.

التاريخ هو هراء متفق عليه.

. أسطورة يرويها المنتصرون عن حماقة المهزومين

الشرف هو مسألة متعلقة بمدى براعتك في إخفاء قذارتك عن القطيع.

نحن لا نكره بعضنا البعض حقاً.

. نحن نكره انعكاس ضجرنا في عيون الآخرين

كان يمكن للإله أن يخلقنا سعداء.

. لكنه اختار أن يخلقنا أذكياء، وهذه هي اللعنة الحقيقية

. الذكاء ليس نعمة، بل عيادة تشريح للآلام

من يجد اليقين، عليه أن يُعلن انتحاره الفلسفي فوراً، لأنه توقف عن الحياة وبدأ في تجميع حطام الإجابات الميتة.

الهدف الأسمى هو الوصول إلى الهدوء الذي يسمح لك بأن تشهد على خرابك دون أن ترمش لك عين.

البرج الزجاجي

يبدو شفافاً ومفتوحاً، لكنه لا يؤدي إلى أي مكان، وهو مصمم فقط لينكسر عندما تُوشك على لمسه.

الموت ليس نهاية

. الموت هو الاعتراف العلني بعبث الحياة

نحن نعيش لندحض الموت، لكن الموت هو الدليل الوحيد على أن هذا العبء لم يكن أبدياً.

إِنَّ ٱنْتِصَارَ ٱلْغَرِيبِ ٱلْأَخِيرِ لَيْسَ فِي عَوْدَتِهِ، بَلْ فِي إِيقَافِهِ لِعَبَةِ ٱلتَّظَاهُرِ. لَحْظَةُ ٱلْمَوْتِ هِيَ ٱللَّحْظَةُ ٱلْوَحِيدَةُ ٱلَّتِي يَكُونُ فِيهَا ٱلْإِنْسَانُ صَادِقًا تَمَامًا؛ صَادِقًا فِي عَدَمِهِ، صَادِقًا فِي خَلُوِّهِ مِنَ ٱلْهَدَفِ.. هَذَا ٱلِٱنْتِصَارُ هُوَ نَفْيٌ هَادِئٌ لِكُلِّ ٱلشِّعَارَاتِ ٱلَّتِي أَرْهَقَتْنَا.

سكون النهاية:

التلاشي ليس خسارة، بل هو الهدية الوحيدة التي يمنحها لنا الوجود.

أن تموت هو أن تتوقف عن إزعاج الكون بـحاجتك إلى معنى.

الغريب لم يمت، بل أعلن انسحابه من مسرحية رديئة.

البرج الزجاجي سقط ليعلن أن كل الارتفاعات كاذبة، وأن الجاذبية هي الشكل الوحيد للعدالة المطلقة.

القطيع لا يحزن للموتى؛ إنه يحزن على فقدان شاهد إضافي على تفاهتهم.

السلام ليس غياب الحرب، بل إخماد الرغبة في الفهم.

اكتشف الغريب أن البقعة السوداء على الأرض ليست أثراً، بل توقيع الوجود على وثيقة الهزيمة.

العدم السريالي هو أن تبتسم في القبر.

لأنك أدركت أن الوهم انتهى للتو، وأن هذه هي المرة الأولى التي لا تُطلب منك فيها محاولة ثانية.

أخيراً، نحن جميعاً ذلك الغريب.

. في النهاية، سنمنح للوحش، ليس خوفاً، بل كـدفع أخير لإعفائنا من التفكير

سِيمفُونيَةُ اَلْخَدْرِ اَلْعَظِيمِ

السَّعَادَةُ هِيَ ٱلْهُدْنَةُ ٱلْكَاذِبَةُ ٱلَّتِي يَمْنَحُنَا إِيَّاهَا ٱلْوَعْيُ قَبْلَ جَوْلَةٍ جَدِيدَةٍ مِنَ ٱلشَّقَاءِ. لَقَدْ ٱنْتَصَرَ ٱلْعَدَمُ بِبَرَاعَةٍ لَا مُتَنَاهِيَةٍ، لَمْ يُدَمِّرْنَا، بَلْ جَعَلَنَا نُحِبُّ ٱلْخُدْرَ هُوَ لَيْسَ مُجَرَّدَ إِلْهَاءٍ، بَلْ هُوَ ٱلْهَدَفُ ٱلْأَسْمَى لِلْقَطِيعِ. فِي ٱلتَّفَاهَةِ ٱلْيَوْمِيَّةِ، وَفِي ٱلتَّكْرَارِ ٱلْمَمِلِّ، نَجِدُ ٱلتَّخْدِيرَ ٱلضَّرُورِيَّ ٱلَّذِي يَحْمِينَا مِنْ وَمْضَاتِ ٱلْحَقِيقَةِ ٱلْمُفْزِعَةِ. سُرِيَالِيَّةُ ٱلْخُدْرِ تَكْمُنُ فِي أَنَّنَا نُؤَدِّي أَدْوَارَنَا بِبَرَاعَةِ ٱلْمُمَثِّلِينَ ٱلَّذِينَ أَتْقَنُوا نَصَّهُمْ، بَيْنَمَا نَحْنُ نُدْرِكُ أَنَّ ٱلْمَسْرَحَ فَارِغٌ وَٱلْجُمْهُورُ غَادَرَ مُنْذُ زَمَنٍ بَعِيدٍ.

المرح هو القناع الزائف الذي يرتديه من لم يعد يملك القدرة على البكاء الصادق.

الضحكة ليست سوى تشنج عصبي، واعتراف جسدي بأن المنطق قد تحطم.

الروتين هو الصلاة الحديثة، الطقس اليومي الذي نكرره لإقناع أنفسنا بأن هنالك نظاماً في الفوضى العارمة.

الأمان هو شعورٌ مصطنع، يصنعه القطيع من بقايا الخوف الذي فشل في مواجهته.

لا توجد لحظة إشراق.

. هناك فقط فترات انقطاع مؤقتة للغثيان

الفشل هو الشكل الوحيد من أشكال النجاح الذي يمكن أن نثق به حقاً.

النبوغ هو أن ترى العفن في زهرة متفتحة، ثم تُصرّ على شمّها على أي حال.

الحكمة ليست في معرفة الإجابات، بل في إتقان فن الاستمتاع بحماقة الأسئلة.

السعادة هي الهدنةُ الكاذبةُ التي يمنحُنا إياها الوعيُ قبلَ جولةٍ جديدةٍ من الشقاء.

هَلْوَسَةُ اَلْمَعْنَى

البَحْثُ عَنْ مَعْنَىً هُوَ سَذَاجَةٌ لَا تُغْتَفَرُ. ٱلْمَعْنَىٰ هُوَ شَبْحٌ يُطَارِدُهُ ٱلْعَقْلُ ٱلْمُتَعِبُ، فِي كُلِّ مَرَّةٍ نَظُنُّ أَنَّنَا ٱقْتَرَبْنَا مِنْ فَهْمِ شَيْءٍ مَا، نَتَرَاجَعُ مُذَعَّرِينَ، لِأَنَّنَا نَكْتَشِفُ أَنَّهُ هُوَ مَجَرَّدُ نُقْطَةِ بِدَايَةٍ لِمَتَاهَةٍ أَشَدَّ سُوءاً. ٱلْعَدَمُ ٱلسُّرِيَالِيُّ يُذَكِّرُنَا بِأَنَّ ٱلْمَعْنَىٰ لَيْسَ غَائِباً، بَلْ هُوَ مَوْجُودٌ بِشَكْلٍ مُفْرِطٍ وَبِطُرُقٍ مُتَنَاقِضَةٍ لِدَرَجَةٍ تَجْعَلُهُ مُسْتَحِيلاً. فَكُلُّ شَيْءٍ لَهُ مَعْنًى يُضَادُّ مَعْنًى آخَرَ، لِيُصْبِحَ ٱلْمَجْمُوعُ ٱلْكُلِّيُّ، لَا شَيْءَ مُطْلَقٌ.

متاهة الفهم:

الهدف هو دائماً مجرد تأجيلٌ أنيقٌ للحظة التي سنسأل فيها

لماذا كل هذا؟

النقاش هو فن تبادل اليقين بين أحمقين لم يستوعب كلاهما بعد هشاشة موقفه.

الأيديولوجيا هي مسكنٌ فكري. لا تستخدمها للعلاج، بل لـمُضَاعَفَة الوهم.

الشك هو الحالة الوجودية الوحيدة التي لا تسبب الخزي.

المرض هو الطريقة الوحيدة التي يخبرنا بها الجسد أن الروح قد ضلت الطريق منذ زمن.

العالم بحاجة إلى شهود غير مبالين لخرابه.

كل إجابة هي طريقة لقتل سؤال عظيم.

. الغباء هو الكسل الفكري الذي لا يطلب كل الإجابات

الاستسلام ليس هزيمة.

إنَّ التَّلاشِي لَيْسَ نِهَايَةَ السَّلَّمِ، بَلْ هُوَ السَّلَّمُ نَفْسُهُ وَهُوَ يَتَبَخَّرُ بِبُطْءٍ. إنَّهُ لَيْسَ المَوْتَ، بَلْ هُوَ اليَقَظَةُ الأَكْثَرُ بَيَاضَاً حِينَ نُدْرِكُ أَنَّ الأَسْماءَ كَانَتْ مُجَرَّدَ قُبَّعَاتٍ مَلَوَّنَةٍ عَلَى رُؤُوسِ عَرَائِسَ مِنْ غُبَارٍ. كُلُّ ضَوْضَاءٍ، كُلُّ حُبٍّ مُلْتَهِبٍ، كُلُّ حَرْبٍ صَارِخَةٍ، هِيَ مُجَرَّدُ هَمَسَاتٍ مُتَأَخِّرَةٍ لَمْ تَصِلْ بَعْدُ إلى مَحْكَمَةِ الصَّمْتِ الكُبْرَى، كُلُّ مَا ظَهَرَ، يَجِبُ أَنْ يَعُودَ إلى مُخْتَبَرِ اللاَّ مَرْئِيِّ، لِيُصْبِحَ فَقَطْ، نُقْطَةَ ضَوْءٍ فِي خَالِصِ الأَبَدِيَّةِ الزَّرْقَاءِ. التَّلاشِي هُوَ الْعَدْلُ؛ لأَنَّهُ يُعِيدُ كُلَّ شَيْءٍ إلى حَالَتِهِ الأَصْلِيَّةِ مِنْ اللامُبَالَاةِ الرَّائِقَةِ. فَلَا خُسْرَانَ، وَلَا رِبْحَ، بَلْ فَقَطْ عَوْدَةٌ هَادِئَةٌ لِلأَلْوَانِ إلى العَتْمَةِ المُلْكِيَّةِ.

***

غالب المسعودي

«أردت أن أستعمل على المسرح الجملة القائلة بان المهم ليس تفسير العالم، بل تغييره»[1]... (بريشت)

بداية الكلام: إن الحديث عن المسرح وقضايا المجتمع بكل تمظهراتها وتشعباتها والعلاقة بينهما، حديث ليس بالجديد، فقد ارتبط المسرح منذ بداياته بالحياة الإنسانية، فكان له تأثير في بناء الإنسان، وتشكيل وعيه بذاته، وتجديد مفاهيمه حول قضاياه التي يقف عندها عاجزا أو متسائلا، ونظرته للحياة بما ينعكس على سلوكه كفرد فاعل في جماعة. يقول سعد الله ونّوس: «إنّنا نريد تغيير وتطويع عقلية، وتعميق وعي جماعي بالمصير التاريخي لنا جميعا...»

هل الرّهان اليوم على المسرح، والفن عموما اليوم، في ظل التّطوّرات المتسارعة، والتّغيّرات الاجتماعية والبيئية والتكنولوجية، والتطوّر الرقمي الخطير، أن يتحدّى ويواجه، ويفتح للأسئلة منافذ للمقاومة والتغيير؟

هل يمتلك المسرح اليوم، آليات المواجهة والتّحدي والمقاومة والتّغيير المنشود، لفتح واجهات يدخل منها ليكّد صلاحيته وقدرته على أن يكون بالفعل، حين تساقط وتخاذل كثيرون؟

لا يختلف اثنان، في كون المسرح أبي الفنون، يمتلك القدرة على تحويل الأفكار والإيديولوجيات، والسّائد والمعيوش، وما يموج به عصر الاتصال والسماوات المفتوحة، بجرأة وفاعلية إلى مشاهد بصرية قوية، منفتحة على السؤال، تحمل داخل فرجتها وحواراتها بوادر التغيير وإرهاصاته التي تُخْرج المتلقي/الجمهور، من حالة السكون والتصفيق والضّحك، إلى حالة الفعل والانخراط في التّحدّي والتغيير، لأنّه المعني في البدْء والانتهاء.

وأمام العجز الواضح والبيّن، والبحث الحثيث عن استغلال الظروف والمناسبات لبعض وسائل التعبير وبعض المسؤولين، وانعدام تحمّلهم لمسؤولية التغيير والانخراط فيه، انبرى المسرح شاهرا أدواته، لا ليأخذ صدارة التغيير كقوة، بل، ولأنّه يعلم علم يقين، أنه يستطيع المواجهة وتغيير الحال والمآل، ليبني أفكاراً وسلوكات بدأت تغيب عن حياة الإنسان المسْتخْلَف في الأرض، هذه الأدوات قد لا توجد في غيره، لأنه أبو الفنون جَمَعَ ما تفرّق في غيره، إذ «يتمتّع بشخصية لها مواصفات منفردة[2]» أهمّها المواجهة الحيّة بينه وبين الجمهور، حين تكون المواجهة بين الصّورة[3] والجمهور مواجهة صامتة تأمّليّة، لا تكاد تخرج عن إطاره الموضوعة فيه، بينما في المسرح، يحضر الآن كزمانٍ حاضرٍ دائماً، والهُنا كفضاء حي قابل للتغيير، للتفاعل والتقارب، حيث تُتَسَرّب الأسئلة والأفكار إلى الجمهور، فينخرط فاعلا إيجابيا حين يتشرّب الصّور والأفكار، فيفكّك شيفراتها، ويصبح بذلك عضوا في المشهد المسرحي الفرجوي، يحمل أفكاره، يوزّعها وهو يعيش واقعه وأيامه، وتملأ وقته، فتُخرجه من السكون اليومي إلى الفعل والتفاعل الدّائم مع الآخر عبر السؤال والنقاش والفعل وردّة الفعل.

والمسرح لا يقف عند تحفيز الخيال الإبداعي والتفكير النقدي عند جمهور الفرجة، وإنما يحفر عميقا في الإنسان وذهنيته، وعقله ومنطقه ومنهجه في الحياة بما يمكّنه من التفاعل، والتغيير، ثم احترام المحيط والوجود الجمعي المشترك. لهذا السبب مازالت الدّعوة ملحّة، وبشدّة، إلى إعلاء الدور الطّلائعي للمسرح في استعادة خطاب التنوير والتمدن، ودعم قيم الحركات التّغييرية الاجتماعية والبيئية والسياسية، وتيسير سبل التّغيير والوعي بأهمّيته، لأنّ العالم اليوم، بحاجة للمعالجة الجمالية التي عُرِف بها المسرح لقضاياه، ولكشف المستور، وفضح المخْبوء خلف أرْدِية الادعاءات والمزاعم والمصالح، وهو على ذلك قادر أن يتحدّى ويُقدّم ما يراه من معالجات بحُرّية وجرأة واستقلالية وموضوعية.

المسرح فُرجةٌ تنفتح على العالم..

وانفتاح المسرح على العالم والجمهور، لا يعني ذوبانه في القضايا اليومية المكرورة والممجوجة، بل يعني قدرته على تحويل الواقع إلى رموز وصور وأسئلة تُضيئُ مناطق العتمة، وتفتح الأفق رحباً أمام احتمالات جديدة للوجود الإنساني. وهو بهذا، يغدو أداة لمقاومة الجمود والسكون، وصوتاً للتّجديد، ومُخْتَبراً للحريّة والتفكير، عبر فُرجاته الواعية التي تُدهش الجمهور بقدْر ما تحرّضه على الفعل والتغيير. ومنذ وُجد المسرح، كان ولا زال فعل إرادة ومقاومة ومواجهة وتغيير، فهو، حسب التعريف الأرسطي لمفهوم الدراما، «فعل نبيل تام»، فالفعل هو أساس المسرح، وهو «فن الفعل لتغيير العالم»، لأنه أكثر الفنون التصاقا بالوعي والدعوة إلى التغيير وتحويل العجز الفكري وانسداده، إلى بوابات مشرعة على اكتشاف الجديد للسُّمُوّ بالفكر الإنساني.

كما أن المسرح ظاهرة تتجدّد وتتطور، من هنا أهميته وكذا خطورته، فهو الفرجة الواعيّة التي من خلالها تنطلق الأفكار لتغذي الذات الإنسانية، عبر القضايا الكبرى: الحرية، العدالة، السلطة، الأخلاق والهوية، وتجعل من الإنسان مفكرًا قادراً على الفعل الذي ينهض عليه المسرح، والتغيير الذي يهدف إليه، فهو حاملٌ لرسائل وجودية إنسانية، لأنه «الحياة في حد ذاتها»، حسب تعريف المخرج بيتر بروك. فالمسرح بهذا المعنى، مواجهة وصراع بين العقل والأفكار، يعمل على تحريكها، وخلخلة ما ركد منها أو ركن إلى الظلّ والسكون، وتحريضها للدفع بالمتلقي/الجمهور إلى العمل واتخاذ المواقف، وتجاوز لحظة الدهشة إلى التأثير وتمرير الأثر لحظة الانخراط في اللعبة فاعلا إيجابيا، مستفزّا وعيه دافعا به إلى التفاعل مع القضايا المطروحة بشكل أكثر وعيا وعمقا، ليترسّخ في ذاكرته الأثر الذي يسعى المسرح إلى تحقيقه.

المسرح مطلبٌ ملحٌّ للتغيير والمواجهة والتّصدي، إبداعيا، في عالم يسير إلى الوراء ثقافيا وأخلاقيا واجتماعيا وفكريا، لأنّه يحمل داخله ما يجعله يجسّد الأزمة، ليس كموضوع للنقاش، بل تحذيراً وإنذاراً يدقُّ ناقوس الانتباه والحذر، وصَرخةً  تحتُّ على المواجهة والفعل، ومرآة تعكس حقيقة المأزق الكبير الذي يُجَرُّ إليه الإنسان، عن وعي أو عن غير وعي، ليتحرك قبل السّكتة، بل أصبح الآن، مدفوعا باستمرار إلى محاولة سدّ الفرجات التي تزداد اتساعا بينه وبين العالم، من دون الدخول في صراعات مع الفنون الأخرى، وذلك بفتح أعين الآخر/الجمهور إلى أن يجد التكامل، لا التنافس، بل لنشر الوعي بمعالجة القضايا والمواضيع الملحّة التي تحيط به، فكان المسرح، وباقي الفنون، لأن له القدرة على التفاعل، بسهولة، بأساليبه وآلياته المتعددة، لتثقيفه ونشر الوعي، وتجديد علاقته بالإنسان ومحيطه.

لذا، عندما يستعصي الحل، أو يتفاقم الوضع، يتقدّم المسرح بكل آلياته، وأساليبه معلنا قدرته على فتح فرجات الأمل وردم هوة اليأس، ويكون حاضرا حضورا فعليا لا حضورا ورقيا أو ترفيهيا محض؛ لأن المسرح يملك من الأمل ما يهيئُ الإنسان ليستقبل بكل وعي فواجع النّهايات ويحفّزه على تجاوز الاحباطات والانكسارات والانخراط في الفعل والتغيير.

والحديث عن المسرح هو بالضّرورة حديث عن الإنسان في تفاعله مع المسرح، من خلال الظواهر التي تؤرّق حياة الإنسان، حين يبحث، لا عن الكثرة الغوغاء التي مع القطيع، بل على الأقل القليل، الذي يدرك الحال ويسعى إلى تغيير المآل، لأن المسرح لا يتوقف عند حدود قيم الترفيه والتفريغ والضحك، بل لحظة وعي عقلي تحليلي نقدي في التفاعل والتلقّي، وتجْسيد التّحوّل من مجتمع أناني متفرّج، إلى مجتمع حضاري مفكّر.

على سبيل الختام..

تأسيسا على ما سبق، كان المسرح ومازال، وسيظل، أكثر من وسيلة للترفيه، قويا للدفاع عن الحياة، عبر النضال، بالمعنى الإبداعي للكلمة، لتُعاش بالكرامة والحريّة والسؤال المُحفّز على التغيير، كما أنّه المرآة التي تعكس هم الإنسان وتطلُّعاته، وصوته حين يُقبرُ صوته، متجاوزاً كونه منبرا للوعي، والدعوة إلى اتخاذ إجراءات ملموسة لحماية مكتسباته الفكرية، أو كونه مكتفيا بطرح القضايا من دون المشاركة الفعلية في أساليب التغيير، بل يسعى جاهدا، وبكل وسائطه المتاحة، إلى إشراك المتلقي/الجمهور في مواجهة التّحدّيات مُحفّزاً على التّحرّك نحو حلول فعّالة ومستدامة، مجسّدا لهذا، صراع الإنسان مع العالم المتغير، عبر المقاومة للتغيير، حاملا بكل جرأة النص والفكرة والجسد والمؤثرات المصاحبة والأمل للتغيير لا التّفرّج والتصفيق ثم نسيان الفعل الذي من أجله يناضل.

في زمن ثقافة التّفاهة والرداءة، وسيران «مصطلحات» أصبحت متداولة على ألسن من يشيع ثقافة التّفاهة، ك: «ماشي سوقي، دخل سوق راسك، عاود لراسك، ونتا مالك..»[4] يمكن للمسرح أن يكون أداة قوية لإثارة الأسئلة حول مصير الإنسان والوجود، ليس فقط عبر الطّرح الفكري، والنّقاشات العقيمة، بل من خلال الفعل الحسي والبصري الذي يستفز المتلقي ويحفّزه على إعادة النظر في علاقته مع الواقع، هذه العلاقة التي أصبحت متوتّرة بفعل اللامبالاة وسيطرت قوى الرداءة والتّفاهة التي تتحكّم في سيرورة حياة النّاس. والمسرح بتوظيفه الفكري والفرجوي الهادف للصراع بين الإنسان والوجود، يسعى إلى بعث الأضواء عل المشهد عموما، والتّصدّي للواقفين المتفرّجين على قطار التّغيير يمر سريعا، غير آبهين أنّهم ينزلقون إلى الهاوية فتح فاها لابتلاع كل شيء جميل.

***

عبد الهادي عبد المطلب 

الدار البيضاء/المغرب

........................

[1] قيس الزبيدي. مسرح التغييرـ مقلات في منهج بريشت الفني. دار ابن رشدـ بيروت. (ص 5)

[2] عوني كروم. الخطاب المسرحيـ دراسات عن المسرح والجمهور والضّحك. السلسلة المسرحية ـ الشارقة

[3] نقصد بالصّورة هنا، اللوحات التشكيلية، الصور التي تعرضها السينما والتلفزة والهاتف... وكل ما يجعل منها أداة للتبليغ والتواصل.

[4] كلمات بالدارجة المغربية التي تعني (هذا أمر لا يهمك ـ لا يعنيك ـ وما دخلك؟ ـ ومن أنت لتُغيّر العالم...)

 

ورقة مكملة لمقال إبراهيم برسي "من البروليتاريا إلى الكومنتاريا"1

تمهيد: في مقاله التحليلي، يُعيد الأستاذ إبراهيم برسي تعريف الطبقات المنتجة في المجتمع، منتقلاً من البروليتاريا الصناعية إلى "الكومنتاريا" المعرفية. هذه الطبقة الجديدة لا تعتمد على الجهد البدني أو الآلة، بل تُنتج التأثير عبر المعرفة، المنصات الرقمية، والخوارزميات. ورغم أن هذا التصور يبدو حديثاً في بنيته النظرية، إلا أن الواقع العراقي يُقدّم شواهد حية تُسنده، وتُثبت أن هذا التحول ليس مجرد فكرة، بل مسار حضاري يتشكل فعلياً في مؤسساتنا التعليمية، التقنية، والمجتمعية.

تصورات برسي: إعادة تعريف أدوات الصراع

يرى برسي أن أدوات الإنتاج لم تعد المطرقة والآلة، بل العقل والخوارزمية. ويُشير إلى أن الكومنتاريا تُنتج التأثير عبر المحتوى الرقمي، البرمجيات، والتعليم التفاعلي، وتُعيد تشكيل الوعي العام من الهامش، رغم أنها لا تحظى دائماً باعتراف مؤسسي مباشر. هذا التحول يُعيد تعريف العلاقة بين الفرد والمجتمع، ويُحوّل المثقف من ناقل إلى منتج للسياسة العامة.

أمثلة عراقية تُسند التصور وتُثبت تحققه

في العراق، تتجلى ملامح الكومنتاريا في عدة مجالات. ففي التعليم الرقمي، ظهرت منصات محلية مثل "نفهم العراق"، إلى جانب مبادرات جامعية تُقدّم محتوى ثنائي اللغة، مما يُعيد تشكيل دور المعلم من ناقل للمعرفة إلى منتج رقمي ومُيسّر تفاعلي. هذه النماذج تُجسد الكومنتاريا التعليمية التي تُنتج المعرفة وتُعيد تعريف العملية التربوية.

أما في مجال الطاقة المستدامة، فقد برزت مشاريع للطاقة الشمسية يقودها أكاديميون في محافظات مثل البصرة والأنبار، تُقدّم حلولاً محلية قابلة للتطبيق، وتُعيد ربط الجامعة بالمجتمع. هذه المبادرات تُجسد الكومنتاريا التقنية التي تُنتج المعرفة التطبيقية وتُسهم في الاستقلال الطاقي.

وفي المجتمع المدني، ظهرت مبادرات مثل "شبكة شباب العراق" و"مركز تمكين"، التي تستخدم الإعلام الرقمي لتدريب الشباب على القيادة، التفكير النقدي، والابتكار. هذه النماذج تُعيد تشكيل الوعي الاجتماعي، وتُجسد الكومنتاريا المدنية التي تُنتج خطاباً مجتمعياً جديداً.

أما في المجال الفكري، فقد ساهم كتّاب ومفكرون عراقيون عبر منصات مثل "المثقف" و"الحوار المتمدن" في إعادة تعريف الخطاب العام، من خلال إنتاج محتوى نقدي وتحليلي يُسهم في إصلاح الوعي الجمعي. هؤلاء يُمثلون الكومنتاريا الفكرية التي تُعيد تشكيل الثقافة السياسية والاجتماعية.

وفي قلب هذا التحول، يبرز دور البروفيسور محمد الربيعي، أحد أبرز رواد إصلاح التعليم العالي في العراق. على مدى أكثر من عشرين عاماً، قدّم دراسات ومقالات ومقترحات لتحديث المناهج، اعتماد الجودة، وتطوير البحث العلمي بما يتماشى مع المعايير العالمية. كتاباته المنتظمة تُعد نموذجاً للكومنتاريا الأكاديمية التي تُنتج خطاباً إصلاحياً مؤثراً، وتُسهم في تشكيل السياسات التعليمية. يُجسد الربيعي نموذج "المثقف المنتج للسياسة العامة"، وهو ما يتقاطع تماماً مع تصور برسي للكومنتاريا كطبقة فاعلة في إعادة تشكيل المجتمع.

مقارنة تحليلية بين البروليتاريا والكومنتاريا

الفرق بين البروليتاريا والكومنتاريا يتجلى في أدوات الإنتاج، مكان العمل، وسائل التأثير، ومصدر القيمة. فالبروليتاريا تعتمد على اليد العاملة والآلة، وتعمل في المصانع والورش، وتُؤثر عبر الإضرابات والاعتصامات، بينما تعتمد الكومنتاريا على العقل والخوارزمية، وتعمل عبر الحاسوب والمنصات الرقمية، وتُؤثر من خلال المحتوى والبرمجيات. مصدر القيمة لدى البروليتاريا هو الجهد البدني، بينما لدى الكومنتاريا هو المعرفة والابتكار. التهديدات التي تواجه البروليتاريا تشمل البطالة واستبدالها بالآلة، أما الكومنتاريا فتواجه التهميش الرقمي واحتكار المعرفة. ومع ذلك، فإن فرص البروليتاريا تكمن في تحسين الأجور، بينما فرص الكومنتاريا تكمن في إصلاح التعليم وتمكين المجتمع.

توصيات مستقبلية

- أولاً، من الضروري توسيع المفهوم نظرياً، عبر تطوير إطار مقارن بين الكومنتاريا العراقية ونظيراتها في العالم، وربطها بمفاهيم اقتصاد المعرفة والذكاء الاصطناعي.

- ثانياً، يجب توثيق النماذج المحلية، مثل تجربة البروفيسور محمد الربيعي، لتكون مرجعاً في إصلاح التعليم العالي في العالم العربي.

- ثالثاً، يُستحسن فتح حوار أكاديمي بين الباحثين العراقيين لتوسيع هذا المفهوم، وربطه بالسياسات التعليمية والبحثية.

رابعاً، يُوصى بإعداد نسخة إنجليزية من هذه الورقة، تُبرز العراق كمصدر لنماذج معرفية محلية قابلة للتعميم دولياً

***  

إعداد: الدكتور عبد الجليل البدري

....................

للاطلاع

إبراهيم برسي: من البروليتاريا إلى الكومنتاريا.. الثورة التي غيّرت أدواتها

.........................

The Iraqi Commentariat: From Theory to Tangible Transformation

A Complementary Paper to Ibrahim Barssi’s “From Proletariat to Commentariat”

Prepared by Dr. Abduljalil Al-Badri

Introduction

In his analytical essay, Ibrahim Barssi redefines the productive classes of society by shifting the focus from the industrial proletariat to the emerging “commentariat”—a knowledge-based class that exerts influence through digital platforms, algorithms, and intellectual production. While this framework may appear novel, Iraq offers compelling real-world evidence that supports and enriches Barssi’s thesis. Across education, energy, civil society, and public discourse, a new class of knowledge producers is actively reshaping the country’s trajectory.

Barssi’s Vision: Reframing Tools of Social Struggle

Barssi argues that the tools of production have shifted from hammers and machines to minds and algorithms. The commentariat influences society through content creation, digital platforms, and educational reform. Though often marginalized institutionally, this class holds central influence in shaping public awareness and policy. It redefines the relationship between individuals and institutions, transforming the role of the intellectual from a passive transmitter to an active producer of public policy.

Iraqi Evidence Supporting the Commentariat Framework

In Iraq, the commentariat is emerging across multiple sectors. In digital education, platforms such as “Nafham Iraq” and bilingual university initiatives have redefined the role of the educator. Teachers are no longer mere conveyors of information—they are digital facilitators and content creators. These models exemplify the educational commentariat, which produces accessible knowledge and reshapes pedagogical norms.

In the field of sustainable energy, academic-led solar projects in provinces like Basra and Anbar offer locally grounded solutions and reconnect universities with community needs. These initiatives represent the technical commentariat, generating applied knowledge and contributing to national energy independence.

Civil society has also witnessed the rise of digital initiatives such as the Iraqi Youth Network and Tamkeen Center, which empower young people through leadership training, critical thinking, and innovation. These efforts reflect the civic commentariat, which reshapes social consciousness through digital literacy and participatory engagement.

In intellectual discourse, Iraqi writers, and thinkers on platforms like Al-Mothaqaf and Al-Hewar Al-Mutamaddin have contributed to redefining public narratives. Their analytical and reform-oriented content exemplifies the intellectual commentariat, which influences cultural and political reform through sustained dialogue.

At the heart of this transformation stands Professor Mohammed Al-Rubaie, one of Iraq’s most distinguished pioneers in higher education reform. For over two decades, he has produced studies, proposals, and public writings aimed at modernizing curricula, promoting academic quality, and aligning Iraqi universities with global standards. His consistent engagement with both academic and public audiences makes him a living embodiment of the academic commentariat. Al-Rubaie exemplifies the “public intellectual as policy architect,” perfectly aligned with Barssi’s vision of the commentariat as a transformative force in society.

Analytical Comparison: From Proletariat to Commentariat

The shift from proletariat to commentariat is evident in several dimensions. The proletariat relies on manual labor and machinery, working in factories and workshops, and influencing society through strikes and protests. In contrast, the commentariat operates through intellect and algorithms, using laptops and digital platforms to shape discourse and policy. While the proletariat’s value stems from physical effort, the commentariat derives its influence from knowledge and innovation. The former faces threats like unemployment and automation, while the latter contends with digital exclusion and monopolization of information. Yet, the opportunities for the commentariat are profound ranging from educational reform to civic empowerment and strategic development.

Strategic Recommendations

To advance this framework, several steps will be for future discussion:

1.  Theoretical Expansion: Develop comparative models between Iraq’s commentariat and global counterparts, integrating concepts from the knowledge economy and artificial intelligence.

2.  Documentation of Local Models: Highlight and archive successful Iraqi examples—especially the work of Professor Mohammed Al-Rubaie—as case studies in sustainable reform.

3.  Academic Dialogue: Foster collaborative research among Iraqi scholars to refine and expand the commentariat concept, linking it to national education and innovation policies.

4.  International Dissemination: Translate and publish these insights to position Iraq as a contributor to global knowledge economies and reform strategies.

نظرية العقد الاجتماعي نموذجاً

لو سألت سنياً عراقياً هل تلتزم أخلاقيا بالنظام السياسي الذي يرأسه سياسي شيعي؟

لأجابك بالنفي!

والأصل في المخالفة هو البعد الطائفي.

ولو سألت شيعياً عن الأمر نفسه لأجابك: تريد دائما عمر يحكم عبد الزهرة!

والأصل في المخالفة أيضاً هو البعد الطائفي.

ونسأل أليس هناك نظام سياسي يجمع عبد الزهرة وعمر ويلتزمون فيه التزاما أخلاقيا؟

والجواب نعم قولاً واحداً أنه (العَلمانية) نظام المواطنة نظام الحقوق والواجبات وآليته الديموقراطية التي تعني التداول السلمي للسلطة.

وشعارها العظيم "الدين لله والوطن للجميع".

وإذا أحرزنا هذا القول وآمنا به وهو حق نقول: يتمحور موضوع الأساس الأخلاقي للإلزام السياسي حول واجب المواطنين الأخلاقي في طاعة قوانين الدولة والسلطة السياسية وهو موضوع فلسفي يربط بين الأخلاق والسياسة.

بحسب الدراسات الفلسفية وأخلاقيات السياسة هناك نوعان رئيسيان من الأسس الأخلاقية للإلزام السياسي:

الأول: الأسس الفردانية:

وتشمل مبادئ مثل الإنصاف والتعامل بالمثل (عدالة) والرعاية أي اهتمام الفرد بالآخرين وحقوقهم. على هذا الأساس يلتزم المواطن بالقوانين لأن ذلك يعود بالنفع على الجميع من حيث العدالة والرعاية المتبادلة.

الثاني: الأسس الملزمة:

و تشمل الانتماء للجماعة والولاء للسلطة والاحترام والتمسك بالقيم الأخلاقية التي تكبح الشهوات والأنانية لأجل بقاء النظام واستمراره. هذا النوع من الأسس يؤكد أن الالتزام بالقانون ينبع من الارتباط الجماعي والاحترام للسلطة السياسية الشرعية.

تاريخياً ارتبط مفهوم الالتزام السياسي بأخلاقيات القوانين وموضوعات مثل العدالة والشرعية والسلطة. وهناك توجهات فلسفية ترى أن الإلزام السياسي يكتسب قوة أخلاقية من وجوب الحفاظ على النظام والحقوق المشروعة للمجتمع وهو واجب أخلاقي ينشأ من ضرورة النظام الاجتماعي وحق الدولة في المطالبة بالطاعة من مواطنيها.

بشكل عام يمكن القول إن الأساس الأخلاقي للإلزام السياسي يقوم على مزيج من العدالة الفردانية والولاء الجماعي واحترام السلطة بهدف تحقيق نظام سياسي يضمن الخير والمصلحة العامة ويُحترم من قبل الأفراد بوصفه واجباً أخلاقياً مستنداً إلى قيم العدالة والاحترام المتبادل والمصلحة الاجتماعية العامة.

وهناك حجج فلسفية لفرض الطاعة للسلطة تستند إلى عدة مؤسسات ونظريات مركزية في الفلسفة السياسية من أهمها وأبرزها:

1.الضرورة الاجتماعية والنظام:

تفترض هذه الحجة أن البشرية بطبيعتها الأنانية تميل إلى التنازع والاستحواذ وتخلق الفوضى بدون سلطة مركزية تفرض النظام.

فوجود السلطة يحقق النظام والاستقرار الضروريين للحياة الاجتماعية المستقرة وهذا يلزم طاعة السلطة للحفاظ على النظام ومنع الفوضى.

2. العقد الاجتماعي:

حسب فلاسفة مثل "توماس هوبز" و"جان جاك روسو" فإن الأفراد يتنازلون عن جزء من حرياتهم لصالح سلطة سياسية مُنظمة في سبيل تحقيق الأمن والسلام وبالتالي فإن طاعتهم للسلطة تأتي من موافقتهم وتعاقدهم الاجتماعي الضمني.

3. الشرعية الأخلاقية:

من الطبيعي أن السلطة تكتسب حق فرض الطاعة إذا كانت تحقق المصلحة العامة والخير المشترك للجماعة فإذا انحرفت السلطة عن تحقيق هذه الأهداف تفقد شرعيتها وحق المطالبة بالطاعة.

4.السلطة والقوة:

من المهم التمييز بين القوة والسلطة حيث القوة هي القدرة على الإكراه في حين أن السلطة هي القدرة التي تستند إلى القبول والرضا والشرعية الأخلاقية ومن هنا لا يكفي وجود القوة لفرض الطاعة بل يجب أن تستند السلطة إلى قيم أخلاقية ومعتقدات تعزز قبول المحكومين لها.

5. المصدر الإلهي أو الميتافيزيقي:

تتخذ بعض النظريات موقفا يقيم السلطة على أساس ديني أو إلهي كما في النظريات الثيوقراطية التي تمنح السلطة مشروعية مطلقة استناداً إلى أن الحاكم ينفذ مشيئة إلهية- كما هي سلطة ولي الفقيه في إيران وسلطة ولي الأمر في السعودية وسلطة أمير المؤمنين ملك المغرب- وهو ما يبرر وجوب طاعته حيث يدخل عصيانه في باب المحرمات ومعارضته تكون كفراً  بالله وسننه.

كيف تبرر نظرية العقد الاجتماعي وجوب الطاعة تبريراً عقلياً؟

نظرية العقد الاجتماعي تبرر وجوب الطاعة للسلطة على أساس أن الأفراد يتخلون طوعا وبكامل إرادتهم بشكل صريح أو ضمني عن بعض حرياتهم وحقوقهم الطبيعية في مقابل حماية بقية حقوقهم والحفاظ على النظام الاجتماعي. هذا التنازل الطوعي هو جوهر العقد الاجتماعي الذي يؤسس شرعية السلطة السياسية.

وتؤكد أنه في حالة الطبيعة الأولى أي قبل وجود سلطة سياسية تُنظم الحياة كان الأفراد أحراراً لكن معرضين للفوضى والاقتتال ولا يمكن أن تستمر الحياة في الفوضى لذا يوافقون على تأسيس سلطة قوية تفرض النظام وتحمي الحقوق. فطاعة السلطة تأتي من قبولهم للعقد الاجتماعي الذي يضمن لهم الحماية والنظام وهو شرط لاستمرار السلطة وشرعيتها.

(جان جاك روسو) مثلاً يرى أن العقد الاجتماعي يقوم على "الإرادة العامة" وهي مصلحة المجتمع ككل التي ينبغي على الأفراد الإلتزام بها طواعية حفاظاً على الحرية المدنية التي تكافئ الحريات الطبيعية المقيدة بالتعايش المنظم. وعندما تفشل السلطة في تحقيق هذه المصلحة يجوز للمواطنين عدم طاعتها أو تغييرها.

بهذا توضح نظرية العقد الاجتماعي أن وجوب الطاعة ينبع من الموافقة الطوعية الإرادية للعقد الذي يكفل النظام والبقاء الاجتماعي وهو عقد بين الأفراد والدولة لضمان حقوقهم الأساسية وأمنهم ويُفقد الشرعية إذا لم تفِ الدولة بالتزاماتها تجاه المواطنين.

واجهت نظرية العقد الاجتماعي اعتراضات على مبررات الطاعة تتمحور حول نقاط نقدية جوهرية تشمل:

أولاً: خلافية مفهوم الموافقة الطوعية:

تعتمد النظرية على فرضية أن الأفراد يوافقون طوعاً على العقد الاجتماعي لكن الواقع يشير إلى أن غالبية الأفراد لم يبرموا اتفاقاً صريحا مع السلطة وبذلك يكون انضمامهم للسلطة قسريا أو مفروضا مما يثير مشكلة عدم وجود موافقة حقيقية أو اختيار حر.

ثانياً: تصور الوضعية الخيالية للطبيعة:

تعتمد النظرية على افتراض تصور لمشهد "حالة الطبيعة" الذي ليس له وجود تاريخي حقيقي مما يجعل بناء العقد عليها افتراضياً أو خيالياً وهذا يُضعف من مصداقية مبررات الطاعة القائمة على هذا العقد.

ثالثاً: اختلال توازن القوى والتفاوت الاجتماعي:

كذلك أن الظروف الاجتماعية والسلطوية التي تُفرض على بعض الأفراد تجعل فكرة التنازل الطوعي عن الحقوق غير عادلة أو ممكنة فالسلطة غالباً ما تكون ناتجة عن علاقات قوة غير متكافئة.

رابعاً: الافتراضات الأخلاقية والمصالح الذاتية:

تشكك بعض النظريات بأن الدافع الطوعي لطاعة السلطة مبني على الأخلاق أو الصالح العام بل هو يعبر عن مصالح ذاتية أو ضرورة اجتماعية مما يطرح تساؤلات حول واقعية هذا الالتزام ومدى شرعيته.

خامساً: عدم توافق الأطراف المتعاقدة:

هناك نقد على أن الأطراف الافتراضية في العقد الاجتماعي عادة ما تكون مثالية أو متجانسة في حين المجتمعات الحقيقية متنوعة ومتناقضة في المصالح والقيم ما يجعل افتراض توافق حقيقي على العقد ضعيفاً.

وفي النتيجة يعاني مبرر الطاعة في نظرية العقد الاجتماعي من ثغرات جوهرية تتعلق بجدوى الموافقة الافتراضية اعتمادا على تمثيل حالة الطبيعة والعدالة في فرض الطاعة على الأفراد في ظروف القوة والتفاوت الاجتماعي.

كيف ردت نظرية العقد الاجتماعي على اعتراضات مفهوم الموافقة الضمني؟

ترد نظرية العقد الاجتماعي على اعتراضات مفهوم الموافقة الضمني بأن الموافقة ليست بالضرورة أن تكون صريحة أو مكتوبة بل يمكن اعتبار الإقامة المستمرة والطوعية داخل مجتمع معين دليلاً على الموافقة الضمنية على قواعده وسلطته. لذا بمجرد أن يختار الفرد العيش في مجتمع ما والاستفادة من النظام والحماية التي توفرها الدولة فهو يوافق ضمنياً على الالتزام بالقوانين والسلطة التي تحكم هذا المجتمع.

و تؤكد النظرية أن الموافقة الضمنية تستند إلى قرار شخصي وعقلاني بالعيش في إطار اجتماعي معين مع التزام بالقواعد التي تنظمه وليس مجرد فرض قسري. كما يُعتبر القانون والسلطة شرعيين طالما أن الأفراد يستفيدون من النظام الذي يوفره العقد الاجتماعي ويُعد الالتزام به ضماناً لاستمرار الحماية والاستقرار.

وبالتالي حتى وإن لم يُعبر الفرد صراحة عن موافقته فإن اختياره للبقاء والعمل والنشاط داخل المجتمع يفترض موافقته وتنازله الضمني عن بعض الحريات مقابل المزايا التي يقدمها النظام. وفي حال رفض الأفراد السلطة أو رفضوا شروط العقد يمكنهم مغادرة المجتمع أو السعي لتغييره بطرق قانونية سلمية وهذا أيضاً جزء من رد النظرية على الانتقادات المتعلقة بالموافقة الضمنية.

باختصار النظرية تعتبر أن الطاعة والإلتزام الأخلاقي للسلطة السياسية قائم على موافقة ضمنية عقلانية تجسدها المشاركة المستمرة في المجتمع والالتزام بمبادئه للحفاظ على النظام والحماية التي يوفرها العقد الاجتماعي. وواضح الفرق بين الموافقة الصريحة والضمنية.

فالصريحة تتم عبر تعبير واضح وموثق للموافقة إما شفهياً أو كتابياً بحيث يكون هناك تأكيد مباشر من الطرف المعني على قبوله.

أما الموافقة الضمنية فتستنتج من الأفعال أو التصرفات التي تدل على قبول مثل البقاء في مكان معين أو استخدام خدمة ما دون تصريح.

ولتكتمل الصورة نستعرض أمثلة معاصرة لطاعة غير مبنية على العقد الاجتماعي تتضمن حالات يتم فيها الإذعان أو الالتزام بالسلطة أو النظام دون موافقة ضمنية أو صريحة مرتبطة بعقد اجتماعي وهذه الأمثلة تشمل:

1. السلطات الاستبدادية والديكتاتورية:

في دول تفرض حكومات استبدادية سلطتها بالقوة والإكراه أو القمع حيث يخضع الأفراد للسلطة بسبب الخوف وليس بموافقة أو عقد اجتماعي.

2. الالتزام بالروابط العرقية أو القبلية: حيث يتبع الأفراد سلطات أو زعماء قبليين بناءً على تقاليد وبنى اجتماعية قائمة وليس بناءً على عقد سياسي أو عقد اجتماعي حديث.

3. الطاعة الجماعية في الهياكل الإيديولوجية:

كما في حالات الجماعات الدينية المتشددة أو الحركات الأيديولوجية التي تفرض طاعة أعضائها وليس هناك دائما عقد اجتماعي أو قبول سياسي أساساً.

4. العلاقات الاقتصادية أو التبعية الاجتماعية:

مثل طاعة العمال في مواقف غير منظمة أو مناطق يحصل فيها العمال على حماية ضعيفة حيث الطاعة تنبع من التبعية الاقتصادية أو الاجتماعية وليس من عقد اجتماعي سياسي.

5. الطاعة الناتجة عن الإكراه أو الظروف القهرية:

بما في ذلك الحالات التي تكون فيها السلطة مفروضة من الخارج أو عبر تدخلات عسكرية أو احتلال حيث لا يكون هناك اتفاق أو عقد اجتماعي بين المحكومين والسلطة.

هذه الأمثلة تعكس طاعة مستمدة من القوة أو التقاليد الاجتماعية أو القسر وليس من مبررات العقد الاجتماعي التي تعتمد على الموافقة والاتفاق بين الأفراد والسلطة السياسية.

بذلك تكون نظرية "العقد الاجتماعي" هي أرقى وأفضل النظريات التي تبرعمت من عقل البشر لضمان أمن واستقرار المجتمع الإنساني وديمومته.

***

سليم جواد الفهد

...................

المصادر المستفاد منها.

1.تأويلية السيادة في الفلسفة السياسية المعاصرة - سامي الغابري.

2.الدكتور، أبو يعرب المرزوقي، الفلسفة السياسية.

3.العقد الاجتماعي الأسس النظرية وأبرز المنظرين، مكي عبد مجيد.

4.أوجه الاختلاف بين روسو وهوبز ولوك في نظرية العقد الاجتماعي، حاتم حميد محسن.

5.السلطة وطاعة الجماهير في بحوث ستانلي ميلكرام، سلام طه.

6.الدولة نظرياً وعملياً، هارولد ج. لاسكي.

7.ستنالي مليگرام، في طاعة البشر للسلطة.

8.توماس هوبز: الفلسفة الأخلاقية والسياسية.

9.فلسفة الحجاج القانوني: بين شمولية السلطة وعنف الأيديولوجيا. مقالة لـ شاييم بيرلمان ترجمها أنور طاهر.

10.إيمانويل كانط، العقد الاجتماعي، والدولة.

11.العقد الاجتماعي" لـ "جان جاك روسو"، عادل زعيتر.

 

حين يصبح "تتويج العلم" مرادفا لـ "عبث الاوراق البحثية"

يشهد المشهد الاكاديمي العراقي، ولا سيما قطاع التعليم العالي والبحث العلمي، مفارقة صادمة تزداد حدة ووضوحا يوما بعد يوم. فبينما تعلن الوزارة عن انجازات وتكريمات وارتفاعات قياسية في التصنيفات العالمية، يرتفع في المقابل منسوب التساؤل والشك حول جودة هذا الصعود واساسه الاخلاقي والمهني.

تتركز الانتقادات الموجهة الى وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، في ظل قيادة وزيرها الحالي، الدكتور نعيم العبودي، حول محوران اساسيان، يشكلان معا ما يسميه المراقبون "ازمة النزاهة العلمية" في العراق:

اولا: ازمة البحوث المسحوبة.. "طوفان" الاوراق الزائفة

لم يعد خافيا على احد في الاوساط الاكاديمية العالمية تزايد اعداد البحوث العراقية التي تسحب (Retraction) من المستوعبات العالمية المرموقة كـ "سكوبس" و"كلاريفيت". ان هذه الظاهرة ليست مجرد "هفوات" فردية، بل اضحت مؤشرا خطيرا على انحدار مريع في النزاهة العلمية، حيث تحولت اهداف بعض الباحثين من انتاج المعرفة الى تجميع الارقام لغرض الترقيات الادارية والاكاديمية.

الاتهام المباشر هنا هو ان سياسات الوزير ووكيله، التي تربط الترقيات بشكل مباشر بـ "كم" النشر في المجلات المفهرسة، شجعت بشكل غير مباشر على ظهور ما يعرف بـ "المجلات المفترسة" و"مصانع الابحاث". فبدلا من تطبيق اليات رقابة صارمة تضمن الجودة وتعاقب التلاعب، يرى المنتقدون ان الادارة الحالية ركزت على الاحتفاء بالارقام المتضخمة دون تمحيص، ليصبح "تتويج العلم" مرادفا لـ "عبث الاوراق"،  واصبح "الانتاج الاكاديمي" مرادفا ل "الفساد الاكاديمي" .

ثانيا: تسييس الاكاديميا وتغليب الولاء على الكفاءة

تتفاقم الازمة بسبب الطابع السياسي الذي يراه الكثيرون يطغى على ادارة هذا القطاع الحيوي. فالوزير، الذي ينتمي الى تيار سياسي بارز، يواجه اتهامات واسعة بـ تسييس المؤسسة التعليمية وتغليب اعتبارات الولاء السياسي والحزبي على معيار الكفاءة الاكاديمية والخبرة المتخصصة.

ان تعيين شخصية بخلفية سياسية بحتة لادارة وزارة اكاديمية حساسة كوزارة التعليم العالي، يطرح علامات استفهام حول اولوية الوزارة: هل هي الارتقاء بمستوى البحث العلمي وجودة التعليم، ام تحقيق مكاسب سياسية وفئوية؟ وتزداد هذه المخاوف حين تسجل قرارات تتعلق بادخال مناهج ذات صبغة عقائدية معينة في الدراسات الجامعية، مما يعزز الراي القائل بان المؤسسة الاكاديمية تستغل كاداة لتوجيه النخب والطلاب بدلا من تحرير العقل والبحث.

خاتمة: بين الانجاز الحقيقي والوهم الرقمي

لا شك ان الوزارة تعلن عن منجزات رقمية واهية، من زيادة في عدد الجامعات المصنفة عالميا وارتفاع في اعداد الابحاث المنشورة. لكن السؤال الذي يطرحه النقد الجاد هو: هل هذه الارقام حقيقية؟ وهل تعكس حقا تطورا مستداما في جودة التعليم، ام هي مجرد "فقاعة" رقمية قابلة للانفجار؟ جميع الشواهد تؤكد: ما نراه ليس الا تزييفا متعمدا وتضخيما مبالغا فيه.

لقد اصبحت المؤسسات التعليمية في العراق في مفترق طرق: اما الانزلاق الكامل نحو الهاوية عبر الاستمرار في سياسة التضخيم الرقمي التي تشجع على الفساد الاكاديمي، او اطلاق ثورة حقيقية في النزاهة والجودة تبدا بمعاقبة المتلاعبين وابعاد الشبهات السياسية عن العملية التعليمية.

ان "يوم العلم" يجب ان يكون يوما لتكريم النزاهة والعمل الجاد، لا ان يتحول الى مسرح لتتويج من اثقلته شبهات التلاعب وفقدان الامانة العلمية. اذا لم يتم تصحيح المسار، فان الخسارة لن تقتصر على سمعة الجامعات، بل ستمتد لتضرب اسس مستقبل العراق الفكري والمعرفي.

***

ا. د. محمد الربيعي

العدم السريالي (2)

لِقَدْ كَانَ ٱلْعَدَمُ دَائِمًا مُجَرَّدَ فِكْرَةٍ مُهَذَّبَةٍ؛ ظِلًّا وُجُودِيًّا يُمْكِنُ أَنْ يَتَرَاجَعَ أَمَامَ شُجَاعَةِ ٱلْعَقْلِ. ٱعْتَبَرُوهُ فَجْوَةً، نُقْصًا، أَوْ رُبَّمَا مُجَرَّدَ سَوْءِ فَهْمٍ لِلتَّصْمِيمِ ٱلْكَوْنِيِّ.

لكن العدم السريالي هو أكثر وحشية: إنه إفراط. إنه الحضور المكتظ والزائد للأشياء. والتاريخ ليس سوى سلسلة من الكوابيس المنظمة، التي يخترعها قوم لا يملكون شجاعة النوم الأبدي.

الكلمات أغلال: الكلمات نفسها هي آخر وهم. بمجرد أن تُسمّي العدم، تكون قد خنته.

. لذا، المناجاة صوت وهي أعلى أشكال الخيانة للوجود

نحن مدينون للجمال باحتقاره للحياة.

إنه الفخ السريالي الذي يجعلنا نتحمل بضعة أيام إضافية قبل أن نستسلم للرمل. نحن لسنا أخطاء في التصميم، بل نحن مبالغة فيه.

الكون أضجره صمته، فابتكرنا نحن – الضوضاء اللانهائية، والعبث الصارخ.

الخلاص الوحيد الممكن هو الإحساس المُرهف بالعدم، أن تصل إلى نقطة لا تعود فيها ترغب بشيء، ولا ترفض شيئاً.

لا مبالاة تامة، ببرودة الماس

اليأس هو فضيلتنا الوحيدة. من يخدعه الأمل، هو مجرد متسكع وجودي لم ينضج بعد في مأساة حقيقية.

النَّوْمُ لَيْسَ هَرَبًا، بَلْ هُوَ ٱحْتِجَاجٌ قَصِيرٌ لِلْجُثَّةِ ٱلْمُسْتَقْبَلِيَّةِ. ٱلْحَيَاةُ هِيَ فَقَطْ ذَٰلِكَ ٱلْفَاصِلُ ٱلزَّمَنِيُّ ٱلْبَغِيضُ بَيْنَ غَفْوَتَيْنِ. أَنْ تَحْمِلَ أَمَلًا فِي جَيْبِكَ، هَٰذَا هُوَ ٱلدَّلِيلُ عَلَىٰ خَلَلِكَ ٱلْعَقْلِيِّ، عَلَىٰ عَجْزِكَ عَنْ مُوَاجَهَةِ ٱلْبَدَاهَةِ.

لا شيء يستحق أن يُبنى أو يُهدم

العدم السريالي هو أن ترى الماضي يتعفن أمام عينيك، بينما المستقبل هو مجرد نُسخة مُسبقة لذات العفن. لذلك، فلتكن عودتنا إلى اللا شكل فورية، وبدون أي بهرجة تُفسد عظمة الزوال.

مرثية المُنتَظِرِين:

الموت فَرَاغ إجرائيّ

الوقت ليس خطاً، بل دائرة مملة من الـ سَيَحدُث

في الوادي، لا شيء ينتظرنا سوى غبار الجملة التالية،

التوقّع هو آخر الأوهام.

إننا نعيش في حالة انتظار مُعلَّب، ننتظر أن تأتي النهاية أو يأتي المعنى أو يأتي أي شيء يعطّل هذا التكرار المميت.

لكن العدم السريالي يضحك

ما تنتظره قد حدث بالفعل

وخزٌ في حائط الانتظار

الانتظار هو الطريقة المهذبة التي يتخذها الانتحار الفلسفي.

أن تستسلم للزمن هو أن تخون اللحظة الوحيدة التي امتلكتها، لحظة اللا جدوى.

الخلاص يبدو وكأنه دائماً خلف الباب التالي.

لكن خلف الباب التالي هناك باب آخر، الحقيقة هي...! لم يكن هنالك باب أصلاً.

الإيمان هو أن تجد حماقة جميلة بما يكفي لتمضية أيامك.

فلسفة الجمال هو أن تبحث عن كل الحماقات البشعة.

. العدم السريالي هو ألا تجد حماقة على الإطلاق

أعظم ما يتقنه القطيع هو صناعة اليقين.

. يصنعون الأمان من حطام الأجوبة

. اليقين هو سجن لا جدران له

البطل ليس من يقاتل، بل من يُدرك سخافة قتاله ثم يستمر فيه؛ احتجاجاً على نفسه.

السكينة لم تأتِ من الإجابة

. بل من إدراك أن السؤال نفسه كان نكتة سخيفة

المتعة الوحيدة الصادقة هي اكتشاف مدى بشاعة الحياة

. والابتسامة المترددة التي تلي ذلك

الوحش الذي ابتلع الغريب لم يكن وحشاً، بل صوت الهدوء في أعماقنا الذي يطالبنا بالكف عن المحاولة.

نحن نؤمن بالغد، لأن الأمس خذلنا بحياديته.

هندسة الكسل الكونية:

الفراغ ليس فراغاً، بل هو جهدٌ عظيمٌ مُبذُول في اللا شيء.

الكسل ليس عيباً شخصياً، بل هو قانون كوني.

. لقد أُتعب الوجود ذاته من كثرة ما خلق

كل الحركة التي نراها حولنا هي في الحقيقة أخاديد عميقة تُحفر في الطين لتهدئة شعور الافراط بالوجود.

لقد انتصر العدم بأكثر الطرق تواضعاً

..! بالضجر

لَمْ يَحْتَجْ إِلَى حَرْبٍ كَوْنِيَّةٍ، بَلْ زَرَعَ فِي أَعْمَاقِنَا بَذْرَةَ ٱلتَّكْرَارِ ٱلْمَمِلِّ حَتَّى صِرْنَا نَرَى فِي كُلِّ إِنْجَازٍ عِبْئًا، وَفِي كُلِّ هَدَفٍ خِيَانَةً لِلرَّاحَةِ ٱلنِّهَائِيَّةِ، ٱلْكِتَابَةُ هِيَ طَرِيقَةٌ لِلِاعْتِرَافِ بِأَنَّ لَا أَحَدَ يَسْمَعُ، لَكِنْ مَعَ إِصْرَارٍ غَرِيبٍ عَلَى إِزْعَاجِ ٱلصَّمْتِ.

الشغف هو عرقٌ على جبين الميّت. لا يوجد شغف حقيقي سوى شغف التلاشي.

أن تفكّر يعني أن تمنح المأساة شكلاً هندسياً دقيقاً، ثم تكتشف أنك كنت ترسم حبة رمل.

الذاكرة هي مادة البناء الوحيدة المتبقية

. لكننا نبني بها بيوتاً لا تستوعب سوى أشباح خيباتنا

العدم السريالي هو أن تمد يدك لتلتقط شيئاً، فتجد أن يدك نفسها بدأت بالذوبان.

لم يكن الغريب جباناً حين توقف أمام البرج، بل كان مُتعباً بما فيه الكفاية ليدرك أن البرج هو نفسه النسخة الزجاجية من الوادي.

الخيانة العظمى ليست أن تقتل أحداً، بل أن تسمح لنفسك أن تُقتل بـالإحساس المزيف.

البقعة السوداء:

البِقْعَةُ ٱلسَّوْدَاءُ عَلَى ٱلْأَرْضِ تَبْتَسِمُ لِأَنَّهَا ٱلْمَكَانُ ٱلْوَحِيدُ ٱلَّذِي رَفَضَ ٱدِّعَاءَ ٱلضَّوْءِ بِأَنَّهُ ٱلْأَبَدِيُّ، بَيْنَمَا كَانَتِ ٱلظِّلَالُ تَزْحَفُ مِنْ وَرَاءِ ٱلسِّتَارِ، تُغَنِّي تَرْنِيمَةَ ٱلْمَوْتِ لِلْمَرَايَا ٱلْعُمْيَاءِ. ٱلزَّمَنُ ثَقْبٌ فِي جِدَارِ ٱلْعَقْلِ، يَسِيلُ مِنْهُ عَسَلُ ٱلْغِيَابِ عَلَى مَذْبَحِ ٱلْأَرْقَامِ ٱلْمُقَدَّسَةِ، وَٱلْأَصْوَاتُ ٱلصَّدِئَةُ تَسْتَجْدِي هَمْسَ ٱلْفَرَاغِ. لَا أَحَدَ يُصَدِّقُ ٱلْوَرْدَةَ ٱلزَّرْقَاءَ ٱلَّتِي تَنْمُو فِي حَنْجَرَةِ طَائِرٍ مَيِّتٍ، سِوَى ٱلصَّدَى ٱلَّذِي يُكَرِّرُ فِي مُتَاهَةِ ٱلدَّمِ. ٱلْخَيْطُ ٱلَّذِي يَرْبِطُنَا بِٱلْأَمْسِ، هُوَ قَيْءُ إِلَهٍ قَدِيمٍ، تَجَمَّدَ عَلَى شَكْلِ نَجْمَةٍ.ٱلْبِقْعَةُ ٱلسَّوْدَاءُ عَلَى ٱلْأَرْضِ تَبْتَسِمُ لِأَنَّهَا ٱلْمَكَانُ ٱلْوَحِيدُ ٱلَّذِي رَفَضَ ٱدِّعَاءَاتِنَا هِيَ ٱلْكَفَنُ ٱلْأَبَدِيُّ ٱلَّذِي لَا يَكُفُّ عَنْ إِزْعَاجِ ٱلْوُجُودِ، ٱلْحُرِّيَّةُ لَيْسَتْ ٱخْتِيَارًا، عِندَما أَدْرَكْنَا ٱلْعِبْءَ، سَمَحْنَا لِأَعْنَاقِنَا أَنْ تُعَلَّقَ بِخَيْطٍ مِنَ ٱلْكَسَلِ ٱلْمُقَدَّسِ، لِنَبْتَهِجْ إِذَنْ، لِأَنَّنَا نَعْرِفُ أَنَّنَا لَسْنَا مُهِمِّينَ بِمَا يَكْفِي...! لِتَكُونَ هَذِهِ هِيَ ٱلْقَشَّةُ ٱلْأَخِيرَةُ ٱلَّتِي تُغْرِقُنَا.!

***

غالب المسعودي

منذ القرن التاسع عشر رسّخت النظرية الماركسية دور الطبقة العاملة “البروليتاريا” كمحرّك أساسي للتاريخ، وسخّرت هدفها في الثورة الاجتماعية.

كان ماركس يرى أن الصراع الطبقي يقود حتمًا إلى “ديكتاتورية البروليتاريا” كمرحلة انتقالية إلى مجتمعٍ غير طبقي.

وفي هذا الإطار الكلاسيكي، بدا أنّ الثورة الصناعية قد أنجبت الوعي الثوري ذاته، وأنّ العامل هو القلب النابض لكل حركة تاريخية.

لكن في العقود الأخيرة، ومع صعود الثورة العلمية والتكنولوجية، تغيّرت طبيعة العمل، وتحوّلت أدوات الإنتاج من اليد إلى الدماغ، من المطرقة إلى الحاسوب، ومن المصنع إلى شبكة رقمية تنتج الثراء عبر المعلومة… هنا بدأ السؤال الجوهري يطلّ برأسه: هل تضاءل دور البروليتاريا وجاء عهد الكومنتاريا؟

الكومنتاريا، وفق المصطلح الذي استخدمه ألفن توفلر في كتابه “تحوّل القوة” (Power Shift)، هي الطبقة المعرفية التي تملك وسائل إنتاجها بامتلاكها للمعرفة نفسها. إذ لم تعد أدوات الإنتاج مادية يمكن الاستحواذ عليها، وإنّما رمزية تتجسّد في المعلومة والفكرة والابتكار.

هي الطبقة المعرفية التي تملك وسائل إنتاجها بامتلاكها للمعرفة نفسها. إذ لم تعد أدوات الإنتاج مادية يمكن الاستحواذ عليها، وإنّما رمزية تتجسّد في المعلومة والفكرة والابتكار.

يقول توفلر إنّ “المعرفة أصبحت أعظم مضخّمٍ للقوة”، وإنّ الثروة لم تعد تُقاس بما تملكه من مصانع وأراضٍ، بل بما تملكه من عقول. لقد انتقل مركز الجاذبية في الاقتصاد العالمي من إنتاج السلع إلى إنتاج الأفكار، وأصبحت المجتمعات التي تستثمر في المعرفة أكثر قدرة على السيطرة من تلك التي تراكم رأس المال التقليدي.

هذه الثورة الهادئة أعادت صياغة مفهوم الطبقة نفسها؛ فلم يعد الصراع بين مالك المصنع والعامل، بل بين من يحتكر المعلومة ومن يستهلكها.

اقتصاديًا، لم تعد البروليتاريا الصناعية تمثّل القوة الكبرى في المجتمع كما كان الحال في زمن ماركس. فبنية الاقتصاد الحديث صارت تعتمد على قطاعات المعلومات والتقنية والابتكار أكثر مما تعتمد على العمل اليدوي. ومع تراجع الصناعات الثقيلة في أوروبا وأمريكا وتحويل خطوط الإنتاج إلى آسيا، تقلّصت الطبقة العاملة إلى أقل من خمس السكان في بعض البلدان، فيما تمدّدت الطبقات الوسطى والعمال المعرفيون الذين ينتجون الثروة عبر الذكاء والإبداع.

لقد تحققت نبوءة توفلر جزئيًا حين قال: “ان القوة تنتقل من أولئك الذين يملكون أدوات الإنتاج إلى أولئك الذين يملكون المعرفة”. أصبح العالم يعيش لحظة تاريخية لم يعرفها ماركس ولم يتخيّلها: طبقة جديدة تنتج وتتحكّم، ليس في المصانع فحسب، وإنّما في أنظمة التشغيل ذاتها.

غير أنّ هذا التحوّل لم يكن مجرّد انتقالٍ اقتصادي، بل هو أيضًا أزمة فكرية في قلب الماركسية ذاتها. فالمقولات التي صاغها ماركس وإنجلز في سياق الثورة الصناعية لم تعد صالحة لتفسير العالم الذي تتحكّم فيه المعرفة. لقد بنى ماركس تحليله على واقعٍ ماديٍ صلب، حيث الإنتاج يتمّ بالأيدي والآلات، وحيث العامل محروم من أدوات إنتاجه.

أمّا اليوم، فإنّ العامل الجديد — المبرمج، أو المصمّم، أو الباحث — يملك أداة إنتاجه في رأسه.

إنها ثورة داخل مفهوم “القيمة” نفسه؛ لأنّ القيمة لم تعد نتاج العمل اليدوي وحده، بل نتاج الذكاء الإبداعي والمعرفة القابلة للتحويل إلى ثروة.

في “رأس المال”، ربط ماركس بين القيمة وكمية العمل الاجتماعي الضروري لإنتاج السلعة، غير أنّ اقتصاد المعرفة كسر هذا الميزان، إذ بات بإمكان فكرة واحدة — أو خوارزمية صغيرة — أن تدرّ ثروة تفوق إنتاج مصنعٍ كامل.

إنها مفارقة زمنٍ أصبحت فيه “الملكية الفكرية” تحلّ محلّ “الملكية المادية”، ويُقاس فيه العرق بالعقل لا بالجهد العضلي.

في هذا السياق، قدّم المفكّر السوداني الخاتم عدلان قراءة نقدية مبكرة حين كتب في أوائل التسعينيات اعترافًا صريحًا بأنّ “المشروع الماركسي للتغيير الاجتماعي قد أخفق بفعل التاريخ”. لم يكن ذلك تخلّيًا عن اليسار، بل وعيًا جديدًا بحدود النظرية أمام تحوّلات العصر. فقد أدرك الخاتم أنّ الصراع الطبقي في السودان والعالم الثالث لم يعد بين العمال والرأسماليين، بل بين المجتمع ككل وطبقةٍ طفيلية تسيطر على الموارد والثروة باسم الدين أو العسكر.

كانت تلك رؤية استباقية لما نعيشه اليوم: صراعٌ بين من يُنتج المعرفة ومن يحتكرها، بين مجتمعٍ يسعى للانعتاق من الهيمنة، وأنظمةٍ تستخدم الجهل سلاحًا للبقاء.

الثقافة بدورها لم تكن بعيدة عن هذا التحوّل. لقد تغيّر مفهوم “العمل” نفسه. العامل لم يعد يرتدي “الأفرول” الأزرق، بل بدلةً أنيقة أو قميصًا رماديًا، أو حتى “جلابية بيت”، ويجلس أمام شاشة.

العمل أصبح أكثر فردية، لكنه أيضًا أكثر انفتاحًا على العالم.

ومع تحوّل المعرفة إلى سلعة، باتت الحدود بين العامل والمفكّر والفنّان تتلاشى… كلّهم أصبحوا منتجين في اقتصاد رمزي لا تراه العين لكنه يحكم العالم.

في هذا الاقتصاد الجديد يتغيّر معنى الثورة أيضًا: لم تعد ثورة الشوارع والمصانع، بل ثورة الأفكار والمنصّات والفضاء الرقمي. فالسلطة نفسها صارت تقوم على التحكّم في تدفّق المعلومات أكثر من السيطرة على الأرض أو السلاح.

وهكذا نصل إلى مأزق الفلسفة الماركسية: ماذا يعني “التحرّر” حين يكون الاستغلال معرفيًا وليس ماديًا؟

هل يمكن للعقل أن يكون أداة قمع كما كانت الآلة من قبل؟

يبدو أنّ الماركسية القديمة بحاجة إلى مراجعة لا تنفيها بل تُعيد تأهيلها لتفهم الواقع الجديد. فالصراع الطبقي ما زال قائمًا، لكنه انتقل من المصنع إلى المنصّة، ومن خطّ الإنتاج إلى خوارزميات الذكاء الصناعي. حتى الثورة ذاتها لم تعد تنفجر في الشوارع… صار يمكنها أن تبدأ في تغريدة، أو في مقال، أو في فكرةٍ تنتشر كالنار في هشيم الوعي.

أمّا في السودان والعالم العربي، فإنّ سؤال الكومنتاريا ما يزال في بداياته. فمجتمعاتنا لم تدخل بعد طور “اقتصاد المعرفة” الكامل، لكنها تعيش مقدماته عبر التعليم والإعلام والمبادرات التقنية. ومع ذلك، فإنّ الصراع بين قوى التنوير والجهل، بين المعرفة والولاء، بين الحرف والفكر، يعكس نسخة محلية من الصراع بين البروليتاريا والكومنتاريا.

هنا يصبح المثقف، لا العامل، هو حامل الوعي التاريخي، والمفكّر هو من يوقظ الجماعة من سباتها… كما كان الخاتم عدلان يفعل حين حوّل الماركسية من نصٍّ عقائدي إلى سؤالٍ مفتوح حول الإنسان والمجتمع.

لقد تحوّلت أدوات الإنتاج من المعمل إلى المعنى، وأصبحت الفكرة نفسها ميدانًا للصراع. ومن ثمّ، فإنّ الكومنتاريا لا تُلغي البروليتاريا، بل تُكملها في مستوى جديد: وعيٌ يُنتج ذاته بدل أن يُنتجه غيره.

ومع ذلك، فإنّ الخطر الأكبر — وما يجب الانتباه إليه — هو أن تتحوّل هذه الطبقة الجديدة إلى برجٍ عاجي يفصلها عن الناس، أو إلى نخبةٍ تقنية تخدم السلطة بدلًا من تحريرها. فكما أفسدت البيروقراطية حلم البروليتاريا، قد تُفسد التكنولوجيا حلم الكومنتاريا إن لم تُقرن بالوعي الإنساني والعدالة الاجتماعية.

ان القول بزوال البروليتاريا لا يعني نهاية الماركسية، بل انتقالها إلى طورٍ جديد من مادّتها التاريخية.

فما تغيّر ليس جوهر الصراع، بل طبيعة أدواته.

أصبح رأس المال يملك “المعلومة” بدل “الآلة”، ويُنتج الهيمنة من خلال الوعي لا الجسد.

هكذا تحوّلت البروليتاريا من فاعلٍ مادّي إلى فاعلٍ رمزي، ومن جسدٍ منتج إلى عقلٍ مُراقَب.

إنّ الكومنتاريا، بهذا المعنى، ليست طبقةً بديلة، بل هي البروليتاريا وقد ارتدت ثياب المعرفة.

وإذا كانت الماركسية قد قامت على تحليل علاقة العمل بالقيمة، فإنّ عصر المعرفة يفرض إعادة تعريف القيمة نفسها: أن يصبح الذكاء هو العرق الجديد، وأن يكون الوعي هو ميدان الصراع المقبل.

يبقى السؤال الأخير معلّقًا في فضاء الفلسفة: هل سنشهد “دكتاتورية جديدة للمعرفة” كما شهدنا “دكتاتورية البروليتاريا”؟ أم سيأتي زمنٌ تتصالح فيه القوة مع العقل، ويصبح الإنتاج فعلًا إنسانيًا خالصًا؟

لا أحد يعرف بعد… ما نعرفه فقط أنّ التاريخ لا يُعيد نفسه، بل يُبدّل أدواته.

والذين كانوا يصنعون الثورة في المصانع صاروا اليوم يصنعونها بالكلمات، بالشبكات، وبالمعرفة.

وربما كان هذا ما قصده توفلر حين قال: “من يملك المعرفة يملك المستقبل.”

***

إبراهيم برسي

دراسة ونقد في ضوء الفكر الإسلامي

يشهد العالم المعاصر ثورة علمية وفكرية غير مسبوقة، نتج عنها تعقيد في المشكلات البحثية والاجتماعية والبيئية، بحيث لم تعد مناهج التخصص الواحد قادرة على الإحاطة بها. من هنا وُلد مفهوم العبرمناهجية (Transdisciplinarity) كمنهج يسعى إلى تجاوز حدود التخصصات ودمج المعارف في رؤية تكاملية شاملة، تجمع بين العلوم الطبيعية والاجتماعية والإنسانية.

هذا التحول المنهجي لم يكن مجرد مسألة تقنية، بل يمثل نقلة في بنية التفكير الإنساني، إذ يسعى إلى توحيد المعرفة وتجاوز التجزئة التي فرضتها التخصصات الحديثة. وفي المقابل، يجد الفكر الإسلامي في هذا التوجه المعرفي مجالًا خصبًا للحوار، لأن التراث الإسلامي في ذاته يقوم على التكامل بين العقل والنقل، بين العلم والوحي، وهو ما يشكّل أساسًا لمنهج «عبرمناهجي» أصيل.

قال تعالى: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (الزمر: 9) وفي هذه الآية دلالة على أن العلم في الإسلام لا ينفصل عن البصيرة والمعرفة الشاملة التي توحد بين الدين والدنيا.

المحور الأول: الأسس النظرية والفلسفية للعبرمناهجية

العبرمناهجية ليست مجرد تداخل بين التخصصات، بل هي رؤية فلسفية ومعرفية تهدف إلى بناء معرفة شاملة تتجاوز الحدود الأكاديمية. وقد نشأت كردّ فعل على قصور التخصصات الجزئية في فهم الظواهر المركبة كالبيئة والمجتمع والإنسان.

ترتكز هذه المنهجية على ثلاثة أسس:

1. فلسفة النظم المعقدة: التي ترى أن العالم شبكة مترابطة، ولا يمكن فهم أي ظاهرة بمعزل عن سياقها العام.

2. النقد الإبستمولوجي للمعرفة الحديثة: إذ لم يعد يُنظر إلى العلم كحقيقة مطلقة بل كعملية مفتوحة على الحوار مع الإنسان والمجتمع.

3. العلم التكاملي: وهو الإيمان بتعدد المناهج وتكاملها في الوصول إلى الحقيقة.

وهذه الأسس تتقاطع مع الفكر الإسلامي الذي يرى أن المعرفة وحدة واحدة مصدرها الله تعالى، كما قال سبحانه: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ (البقرة: 31) إشارة إلى أن الإنسان مُنح القدرة على استيعاب الوجود بكل أبعاده، لا بمعزل بين علمٍ شرعي وآخر مادي.

وقد عبّر الإمام الغزالي عن هذا التكامل في إحياء علوم الدين بقوله: (إن العلوم كلّها متعاونة في طلب السعادة، ولا يُستغنى في الدين عن شيء منها).

ومن هنا يمكن القول إن العبرمناهجية ليست غريبة عن الرؤية الإسلامية، بل هي تأكيد حديث على وحدة المعرفة في أصلها الإلهي.

المحور الثاني: تطبيقات العبرمناهجية في الفكر المعاصر والإسلامي

تجلّت العبرمناهجية في العصر الحديث في مجالات كثيرة، أبرزها:

- الطب الحيوي الذي يجمع بين علم الأحياء، الطب، والإحصاء لفهم الأمراض.

- البيئة والتنمية المستدامة حيث تتداخل السياسة بالاقتصاد والعلوم الطبيعية.

- العلوم الاجتماعية التي أصبحت تدمج بين علم النفس، الاقتصاد، والتاريخ لفهم الظواهر الإنسانية.

أما في الفكر العربي والإسلامي، فقد برزت محاولات متعددة لتطبيق المنهج العبرمناهجي:

- عند محمد عابد الجابري في مشروع نقد العقل العربي، حيث جمع بين تحليل التراث والمنطق البنيوي والفكر الغربي.

- وعند عبد الله العروي الذي مزج بين التاريخ والفكر السياسي لفهم أزمة الهوية العربية.

لكن هذه التجارب بقيت جزئية لأنها لم تنطلق من قاعدة قيمية إسلامية تضبط التكامل بين المناهج.

أما الفكر الإسلامي الإمامي فقدم نموذجًا متقدّمًا في هذا المجال، خصوصًا عند السيد محمد باقر الصدر الذي بنى مشروعًا معرفيًا يوحّد بين الفلسفة والفقه والمنطق والعلوم الحديثة. ففي كتابه الأسس المنطقية للاستقراء قال: (الاستقراء طريقٌ للعلم بسنن الله في الكون، وهو قراءةٌ للعالم بلغة السنن الإلهية لا بلغة الصدفة)

وهذا القول يعكس جوهر العبرمناهجية الإسلامية: استخدام أدوات العلم الحديث دون الانفصال عن المرجعية الإيمانية.

وقد دعمت النصوص الشرعية هذا المنهج التكاملـي، قال تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ (فصلت: 53)، وهي دعوة واضحة إلى قراءة الوجود في ضوء التكامل بين الوحي والعقل والعلم.

المحور الثالث: الموقف الإسلامي وآلية التكامل الترجيحي

الفكر الإسلامي لا يرفض التعدد المنهجي، لكنه يضع له ضوابط ترجيحية تضمن عدم الخروج عن مقاصد الشريعة ووحدة المرجعية.

في الفكر الإمامي، يُعرف هذا بمنهج الاجتهاد الترجيحي، وهو الجمع بين النصوص الشرعية والعقل والخبرة الإنسانية لتحقيق معرفة متكاملة دون تعارض.

يقول الشيخ الطوسي في التهذيب: (ما كان من خبرٍ غير قطعيٍّ، يُرجّح بالعقل أو القرائن، ما لم يخالف القطعيات من الشريعة).

وهذا يعبّر عن مبدأ منهجي عبرمناهجي مبكر يقوم على التكامل بين العقل والنقل والتجربة.

كما يؤكد الشيخ الصدوق في الاعتقادات: (العقل معين النقل، والنقل مفسر للعقل، ولا تعارض بينهما إلا من قصور الفهم).

وهذا المفهوم يعبّر عن جوهر العبرمناهجية الإسلامية التي تدمج المعارف في إطار منضبط بالقيم الشرعية والعقلانية. وفي ضوء ذلك، يُفهم قول الله تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ (الحديد: 25)، إذ إن “الكتاب” هو الوحي، و“الميزان” هو العقل والمنهج العلمي، وكلاهما متكامل في تحقيق العدالة والمعرفة.

النتائج

1. العبرمناهجية تمثل تحولًا معرفيًا عميقًا في مواجهة المشكلات المعاصرة المعقدة، وتُعد وسيلة فعالة لإعادة بناء المعرفة الإنسانية.

2. الفكر الإسلامي يمتلك جذورًا أصيلة للعبرمناهجية من خلال التكامل بين العلوم الشرعية والعقلية والطبيعية، كما تجلى في أعمال العلماء الموسوعيين.

3. المنهج الإمامي قدّم صيغة متكاملة تُعرف بـ"الترجيح المنهجي"، وهي صيغة تضبط الانفتاح على المعارف الحديثة دون الانزلاق إلى النسبية أو فقدان المرجعية.

4. القرآن الكريم أسّس لفكرة التكامل المعرفي منذ بدايته، حيث دعا إلى الجمع بين التأمل في الوحي والكون: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ (آل عمران: 190).

5. التحدي المعاصر هو بناء نموذج إسلامي للعبرمناهجية، يربط بين النصوص الشرعية والمعرفة العلمية الحديثة في إطار أخلاقي قيمي.

6. الفرصة الكبرى تكمن في تحويل العبرمناهجية من مجرد مفهوم أكاديمي إلى مشروع حضاري إسلامي يُسهم في النهضة العلمية والإنسانية.

***

د. صباح خيري العرداوي

جامعة الكوفة - كلية التربية الاساسية/ قسم التربية الاسلامية

مقدمة: السُّرْيَالِيَّةُ هُنَا هِيَ شَهَادَةٌ عَلَى فَشَلِ اللُّغَةِ، وَعَلَى أَنَّ الكَلِمَاتِ تَفْشَلُ فِي الإمْسَاكِ بِـالإفْرَاطِ الوُجُودِيِّ. العَقْلُ الَّذِي يَسْعَى لِلمَنْطِقِ يَنْزَلِقُ عَلَى هَذَا الأُفُقِ السَّائِبِ حَيْثُ لَا يَلْتَقِي شَيْءٌ بِشَيْءٍ، وَيُصْبِحُ كُلُّ شَيْءٍ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ القَوَاعِدَ وُضِعَتْ لِتُخَالِفَهَا الذَّاكِرَةُ.

العَدَمُ السُّرْيَالِيُّ هُوَ أَنْ تَرَى فِي مِرْآتِكَ شَيْئًا يَتَذَكَّرُ، بَيْنَمَا أَنْتَ مُصِرٌّ عَلَى نِسْيَانِهِ. أَصْلَ الغِيَابِ لَيْسَ فِي الخَارِجِ، بَلْ هُوَ كَامِنٌ فِي مَجَرَّةٍ مِنَ المَرَايَا المُتَصَدِّعَةِ دَاخِلَ كُلِّ جُمْجُمَةٍ. أَنْ تَكُونَ وَاعِيًا هُوَ أَنْ تَكُونَ مُذْنِبًا بِامْتِلَاكِكَ فَائِضًا مِنَ الرُّؤْيَةِ البَائِسَةِ. كُلُّ لَحْظَةِ يَقَظَةٍ هِيَ تَأْجِيلٌ غَيْرُ ضَرُورِيٍّ لِلْجُثَّةِ الَّتِي سَتكونُهَا حَتْمًا. انه الْمَتْنُ الجامِعِ واَلْوُجُودُ اَلكامِلُ لقَطِيعِ النِّهَايَةِ. هُوَ كِتَابٌ أَزْرقٌ لَا يُقْرَأ، كُلُّ كَلِمَةٍ مِنْهُ نَجْمٌ فِي سَمَاءِ اَلسُّكُونِ، اَلْقَطِيعُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى قَيْدٍ، إِنَّهُ يَسِيرُ بِإِرَادَتِهِ إِلَى اَلْعَدَمِ بِحُبُورٍ، الكل يَظُنُّ أَنَّهُ سَيَعِيشْ.

الْعَدَمُ السُّرْيَالِيُّ هُوَ تَنَفُّسُ الأَحْلاَمِ فِي ذَاكِرَةِ التُّرَابِ، هُوَ إِذْنٌ بِالْغِيَابِ وَالْحُضُورِ فِي الزَّمَنِ الْمُتَلاَشِي، وَهُوَ يَتَقَيَّأُ مَرَارَةَ الفراقْ. وهوَ المِرْآةُ الَّتِي اِعْتَرَفَتْ بِكَ، ونَسِيَتْ أَنْ تُعِيدَ لَكَ وَجْهَكَ. وهو خَيْطُ البِدَايَةِ الَّذِي وَجَدْتَهُ، ثُمَّ اِكْتَشَفْتَ أَنَّهُ يَلْتَفُّ حَوْلَ قَدَمِ كُرْسِيٍّ مَكْسُورٍ فِي غُرْفَةٍ مُهْجُورَةٍ، وهو الضَّحِكَةُ الَّتِي لَمْ تُرَدَّ عَلَيْكَ، بَعْدَ أَنْ أَفْصَحَتْ عَنْ سِرِّكَ الأَعْظَمُ لِعَلْبَةِ سَرْدِينٍ مَفْتُوحَةٍ. اللَّحَظَاتُ الَّتِي ظَنَنْتَهَا نِهَايَاتٍ، صَارَتْ مُجَرَّدَ مُزحةٍ لِلْفَرَاغِ الَّذِي يَنْتَظِرُكَ. المِفْتَاحُ الَّذِي لَمْ يَكُنْ لَهُ قُفْلٌ، كَانَ فَقَطْ رِيَشَةَ طَائِرٍ تَسْقُطُ عَلَى بَابِ الوَعْيِ المَوْصُودِ، الأَزْمَانُ الَّتِي لَمْ تُسَجَّلْ عَلَى السَّاعَاتِ، تَتْرُكْ خَلْفَهَا شَكْلِ ظِلِّكَ وَهُوَ يَنْتَحِرُ فِي مَاءِ اليَقِينِ السَّائِلِ ، الحَقِيقَةُ العَارِيَةُ الَّتِي نَظَرْتَ إِلَيْهَا، فَرَأَيْتَهَا مُجَرَّدَ جَرة قَدِيمَةٍ يجْتمَعُ  فيها غَسِيلَك تَحْتَ ضَوْءِ الشَّمْسِ السوداء صارَتْ الندَمَ الَّذِي لَمْ يعْرِفْ صَاحِبَهُ، وَلَكِنَّهُ أَلْزَمَكَ بِدَفْعِ ثَمَنِ جَمِيعِ الأَخْطَاءِ الأَبَدِيَّةِ مُقَابِلِ تَذْكِرَةِ عَوْدَةٍ إِلَى اللاَ وُجُودِ الأَوَّلِ، العدَمُ السِرياليُ إِذَنْ هوَ اِكْتِمَالُ الدَّائِرَةِ فِي مَنْطِقِ اللا شيءِ وهوَ اِكتمالٌ مطلقٌ. أقْسِمُ بِـرَحِيلِ الظِّلِّ، وَوُصُولِ مَا لَا يُسَمَّى، ودَائِرَةِ اللَّا مَعْنَى وَهيَ تكْتَمِلُ عِنْدَ زَاوِيَةِ الرَّقْمِ وَبِـمِيَاهِ أُوتُونَبِشْتُمَ إِذْ عَادَتْ تُرَابًا، وإن التُّرَابَ رَجْعُ هَمْسٍ فِي أَذُنِ الخُلُودِ المَنْسِيِّ، عُلْبَةٌ فُتِحَتْ بِلَا مِفْتَاحٍ، َلَمْ يَكُنْ بِدَاخِلِهَا سِوَى عَجْزٌ جَمِيلٌ في طَورِ الاِكْتِمَالِ، إنّ رِيَشَةِ المَتْنِ الجَامِعِ حِينَ تَنَاقَضَتْ، َصَارَتْ مَكْتَبَةَ فَرَاغٍ عَلَى جَبْهَةِ الشَّخْصِ المُنْتَظِرِ. وهيَ اللَّحْظَةُ الَّتِي يُدْرِكُ فِيهَا الوَعْيُ أَنَّ المُطْلَقَ لَيْسَ نُقْطَةً عَلَى مُحِيطٍ، بَلْ هُوَ المُحِيطُ نَفْسُهُ وَقَدْ تَقَوصَرَ حَتَّى اِخْتَنَقَ. فَلَا تُنَادُوا القَطِيعَ لِيَعُودَ، لقَدْ وَجَدَ فِي اِخْتِفَائِهِ غَايَةَ اِنْفِرَادِهِ. هَا قَدْ شَهِدْنَا، كَيْفَ تُصْبِحُ الضَّحِكَةُ السَّرْمَدِيَّةُ هِيَ الشَّكْلَ الهَنْدَسِيَّ الوَحِيدُ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يَحْوِي العَدَمَ السُّرْيَالِيَّ. وَبِالْحَقِّ المُطْلَقِ، لَمْ يَبْقَ إِلَّا الصَّفْحَةُ البَيْضَاءُ، فَـاُكْتُبْ مَا شِئْتَ، فَلَنْ يُجِيبَكَ أَحَدٌ.

التفاهة هي ديانة بلا كتاب.

كل جسد مذبحٌ صغير، وكل يوم قدّاس للمكرّر

الغريب كان خطأً مطبعيا

العبث، ابتسامة خرجت من فمٍ لا يعرف لماذا وجد

البرج الزجاجي...! وهمٌ شفاف.

الحرية دائمًا تُلمَع كالطُعم.

حين تقترب ينكسر الضوء في ألف شظية تجرح يديك

لا شيء تكرهه الجماعة أكثر من المختلف.

ليس لأن المختلف قوي، بل لأنه يذكّرهم بضعفهم.

الوحش الذي ابتلع الغريب لم يصنعه القطيع.

صنعه خوفهم من السؤال.

القطيع لا يقتل، إنه يمسح.

يزيل الأثرَ كما تُزال بقعة ماء عن زجاج.

كان يمكن للغريب أن يصعد.

لكنه لم يفعل.

الخيانة...!

الخيانة ليست حين يسحقك الآخرون.

بل حين تخونك قدماك وأنت واقف تحت البرج.

انهيار البرج هو طريقة الوجود في السخرية

من محاولاتنا.

كأن الوجود يهمس: لم تكن جادًّا بما يكفي…

ولذلك تستحق الغرق.

البقعة السوداء في الأرض هي المَعلمُ الوحيد

لكن لا أحد يراها؛ القطيع لا يرى إلا ما يكرّره.

العدم بريءٌ منهم أكثر مما هم أبرياء

من أنفسهم.

نحن جميعًا ذلك الغريب.

نبتسم مرة، نرتجف أمام المعنى.

ثم نُبتلع ببطءٍ حنون، كما لو كنا نطلب من الوحش أن يخلّصنا من إرهاق الفكر.

القطيع يمشي ببطء، وكأن الزمن نفسه قد صار

مرضًا معديًا.

لا يحتاجون إلى قيود؛ أعناقهم معلقة بخيط من الضجر.

التفاهة ليست عادة… بل عطر يُسكَب فوق الجثث

كي تتظاهر بأنها أحياء.

الغريب كان شرارةً يتيمة.

والشرارات لا تُنجب

نارًا وسط بحر من الماء الفاسد.

ابتسامته جُرحت قبل أن تُولد.

البرج الزجاجي لم يكن برجًا، بل جرحا في السماء.

من يحاول التقدّم نحوه، يكتشف أن الجرح يبتعد كلما اقترب.

حين اتحد القطيع في جسد واحد، لم يكن صوتُه

صراخًا…

بل موسيقى مقابر، إيقاعٌ بطيء يلتهم القلب قبل أن يلتهم اللحم..

لم يمت الغريب حين ابتلعوه.

الموت نهاية كريمة

ما حدث كان أخطر ذوبانٌ داخل العدم

كما يذوب السكر في كأسٍ من المرارة الأبديّة

البرج حين سقط لم يُحدث دويًّا.

الشظايا تحولت إلى غبار متلألئ كأقمار ميتة.

الجمال أحيانًا أقسى من الخراب، لأنه يلمع لحظة قبل اختفائه.

البقعة السوداء التي تركها الغريب على الأرض

لم تكن أثرًا… بل نافذة مغلقةً، كُسر مقبضها.

تنظر إليها السماء وتضحك.

القطيع استأنف مسيره، بطمأنينة من يعرف أن

العدم رحيم أكثر من المعنى.

فالمعنى يُحرق، أما اللا معنى فيُخدّر.

نحن جميعًا ذلك الغريب، لحظة ابتسامنا في وجه العدم،

ثم نلين، ونسمح للكسل أن يطبطب علينا حتى يبتلعنا كاملين.

التكرار ليس عادةً، بل قَدَرٌ يتربّص بنا،

كما يتربص الليل بالمدينة التي تنطفئ أنوارها واحدًا تلو الآخر

في الوادي، الأرض تُعيد نفسها كل صباح

لم يكن هنالك زمن؛ بل نسخة واحدة لا تعرف الفناء، ولا تعرف النمو.

كل شيء يُعاد كأنه لم يحدث.

الضحكات الباردة، الخطوات الثقيلة، صوت الأجساد وهي تصطدم بالأرض.

القطيع

يمشي بلا هدف، بلا ندم، بلا توقّف، بلا عدد.

لا أحد يعرف العدد، لأن العدد نفسه يبدو رفاهية غير ضرورية او

شعيرة...!

من لا يفكّر، ينسجم.

ومن ينسجم، يحيا وهم الخلود

التكرار طقس مقدّس،

الضحك يُقال ولا يمارس.

الطعام يُهرس كما الاشعار.

حتى الاستراحة تُمارَس بنفس الخطى، بنفس الجلوس،

بنفس البُكم.

الجماعة لم تكن سلطة سياسيّة. لم تكن نظامًا يقمع.

كانت مرضًا يتنفس داخل الأجساد، يسرق منها الوعي ويمنحها راحةً قاتلة.

الاختلاف خطأ مطبعي في نص مطبوع منذ الأزل.

وُلد الغريب، وبخروجه عن الرتابة بدا كخلل في الماكينة الكونية.

كان مجرد ابتسامة تُضيء وجهًا عاديًا، لكنها في الوادي كانت خيانة عظمى.

أن هنالك شيئًا آخر ممكن.

ابتسامته سقطت صمتًا كثيفًا فوق الساحة،

كما تسقط قطرة دم في كأس ماء ساكن فتكشف كل ما هو متسخ.

البرج الزجاجي:

كل أفق هو فخّ، وكل خلاص يلمع كطعنة في ضوء الشمس.

على تخوم الوادي ظهر البرج. كان شفافًا، يلمع

في عيون من لا يجرؤ على النظر.

كان بابه مفتوحًا لكنهم جميعًا أعرضوا عنه،

القطيع يخاف من العلو، يخاف من النوافذ التي تطل على اللا شيء.

الغريب اقترب.

رأى في الزجاج انعكاسًا....

لم يكن نفسه؛ كان شبحًا آخر مبتسمًا بحزن عميق.

لكنه توقّف عند العتبة، لم يدخل، لم يخطُ.

كل الإمكانيات تضيع عند هذه اللحظة، لحظة عدم الاختيار.

الجماعة لا تُعاقب المختلف… بل تمحوه، كما

يُمحى حرف زائد من مخطوط مقدس.

اتحد القطيع في لحظة صاخبة، وذابوا في جسد واحد.

لم تعد هنالك أفواه كثيرة، بل فم واحدٌ مصمت، عين واحدة تُطل على جحيم من تراب.

ابتلعوا الغريب دفعةً واحدة

ابتلعوه كما يبتلع الليل نجمة يتيمة.

السقوط احتمالات، الاحتمالات إذا لم تُستَعمل، تتحول إلى غبار.

والغبار

أجمل أشكال الموت

حين ابتُلعَ الغريب، لم ينتظر البرج الزجاجي مصيره.

اهتزّ في الضوء، ثم تهشّم إلى غمامٍ من شظايا شفافة. لم يُسمع دويّ، بل رآه القليلون ومضةً كقمر صغير انطفأ فجأة.

البقعة السوداء

الأثر هو الكذبة الوحيدة التي يتركها الوجود

كي يوهمنا بأنه مرَّ فعلًا.

أينما وقف الغريب، بقيت بقعة سوداء لا تُمحى

ليست دمًا، وليست نارًا، بل حفرة في الوجود نفسه

القطيع تجاوزه كما لو أنه لم يكن شيئًا.

عادوا إلى صلاتهم الرتيبة، إلى خطاهم البيضاء الميتة

صلوات العدم.

العدم لا يحتاج لجنود...! نحن نحارب أنفسنا بالملل

فيربح هو الحرب.

كل ضوء هشّ. الهشاشة قدر الضوء

إن كنتَ ستصعد، فاصعد حتى النهاية.

النصف خيانة، والتردد مقبرة.

الجماعة هي المخدّر. الفرد هو الجرح، والأفق

لا يرحم إلا من ينزف حتى العظم.

لقد ابتُلع الغريب، لكننا جميعًا ابتلعناه

بصمتنا…

كلُّنا شركاء في ابتلاع أنفسنا

الوادي ظل كما هو

القطيع يمشي، البرج غاب، الغريب كأنه لم يولد.

وحدها البقعة السوداء بقيت، تنظر نحو السماء وتبتسم

هكذا يعمل العدم، لا يحتاج إلى حرب، يجعلنا نرتاح في التفاهة.

كل وعد هو خيانة مؤجلة؛ حتى البدايات لها رائحة النهاية.

السريالية ليست حلماً، بل دقة الكابوس في قلب اليقظة.

العدم ليس فراغاً، بل اكتظاظ لا يحتمل بأسباب عدم الوجود.

***

غَالِبُ المَسْعُودِيُّ

في العلوم والاقتصاد والطب والآداب والسلام.. بين التشريف السياسي والاستحقاق الأكاديمي

"إن أعظم سر للنجاح هو تحديد هدف وعدم الابتعاد عنه أبدًا"

مقدمة: تُعتبر جائزة نوبل واحدة من أرفع الجوائز العالمية التي تُمنح في مجالات العلوم (الفيزياء، الكيمياء، الطب)، والاقتصاد، والأدب، والسلام. أسسها ألفريد نوبل عام 1895، وتُمنح سنويًا منذ عام 1901 (باستثناء جائزة الاقتصاد التي بدأت عام 1969) بناءً على وصيته التي أكدت على تكريم "الذين قدموا أعظم إسهامات للبشرية". ومع ذلك، أثارت عملية اختيار الفائزين جدلًا واسعًا حول ما إذا كانت المعايير تعكس استحقاقًا أكاديميًا خالصًا أم تخضع لاعتبارات سياسية واجتماعية. تهدف هذه الدراسة إلى تحليل معايير منح جائزة نوبل في المجالات المختلفة، مع التركيز على التوازن بين التشريف السياسي والاستحقاق الأكاديمي، واستكشاف التحديات التي تواجه هذه العملية. فماهي معايير اسناد جائزة نوبل؟ ولماذا لم يحصل عليها من يستحقها؟ وهل هناك تحيزات ايديولوجية وثقافية ومجاملات سياسية وفئوية؟

خلفية تاريخية ومعايير جائزة نوبل

وفقًا لوثيقة ألفريد نوبل، يجب أن تُمنح الجوائز للأفراد أو المؤسسات الذين قدموا إسهامات بارزة في مجالاتهم. المعايير الأساسية لكل جائزة هي:

الفيزياء والكيمياء: اكتشافات أو اختراعات علمية ذات تأثير كبير على المعرفة أو التطبيقات العملية.

الطب أو علم وظائف الأعضاء: إسهامات تعزز فهمنا للجسم البشري أو تقدم حلولًا طبية مبتكرة.

الأدب: أعمال أدبية متميزة ذات قيمة فنية وتأثير إنساني عميق.

السلام: جهود لتعزيز السلام العالمي، تقليل النزاعات، أو تعزيز التعاون الدولي.

الاقتصاد: إسهامات نظرية أو تطبيقية في العلوم الاقتصادية (أُضيفت هذه الجائزة لاحقًا برعاية بنك السويد).

على الرغم من وضوح هذه المعايير، فإن تطبيقها يثير تساؤلات حول مدى موضوعيتها، خاصة مع وجود لجان تقييم مختلفة لكل فئة (الأكاديمية السويدية للأدب، الأكاديمية الملكية للعلوم للفيزياء والكيمياء، معهد كارولينسكا للطب، ولجنة نوبل النرويجية للسلام)

الاستحقاق الأكاديمي: المعيار الأساسي

في مجالات العلوم (الفيزياء، الكيمياء، الطب) والاقتصاد، تُعتبر الجوائز غالبًا معيارًا للتميز الأكاديمي. على سبيل المثال:

في الفيزياء، حصل ألبرت أينشتاين (1921) على الجائزة عن تفسيره للتأثير الكهروضوئي، وهو إسهام أكاديمي أحدث ثورة في فهمنا للضوء.

في الطب، حصل العالمان جيمس واتسون وفرانسيس كريك (1962) على الجائزة لاكتشاف بنية الحمض النووي (DNA)، مما مهد الطريق لتطورات طبية هائلة.

في الاقتصاد، حصل بول كروغمان (2008) على الجائزة عن تحليله لأنماط التجارة العالمية، وهو عمل نظري ذو أثر كبير.

هذه الأمثلة تُظهر أن الاستحقاق الأكاديمي يعتمد على معايير مثل:

الأصالة: تقديم اكتشاف أو نظرية جديدة.

التأثير: التأثير العملي أو النظري على المجال.

التكرار والتحقق: القدرة على التحقق من الإسهامات من خلال التجارب أو التطبيقات.

ومع ذلك، حتى في هذه المجالات، يمكن أن تؤثر عوامل مثل الانحياز المؤسساتي أو الجغرافي على عملية الاختيار. على سبيل المثال، تشير إحصاءات نوبل إلى أن غالبية الفائزين في العلوم ينتمون إلى دول غربية، مما يثير تساؤلات حول إغفال إسهامات من مناطق أخرى.

التشريف السياسي: السلام والأدب

في مجالي السلام والأدب، تظهر الاعتبارات السياسية بشكل أوضح

جائزة نوبل للسلام

تُمنح هذه الجائزة من قبل لجنة نوبل النرويجية، وغالبًا ما تُثير قراراتها جدلًا بسبب تأثرها بالسياقات السياسية. على سبيل المثال:

حصل ياسر عرفات، إسحاق رابين، وشيمون بيريز (1994) على الجائزة عن اتفاقيات أوسلو، رغم استمرار الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي.

منح باراك أوباما (2009) الجائزة بعد أشهر قليلة من توليه الرئاسة، بناءً على "رؤيته" للسلام بدلاً من إنجازات ملموسة، مما أثار انتقادات واسعة.

هذه القرارات تشير إلى أن الجائزة قد تُستخدم كأداة لدعم أجندات سياسية، مثل تعزيز عمليات السلام أو الترويج لقيم معينة. ومع ذلك، هناك أمثلة أخرى تعكس استحقاقًا واضحًا، مثل منح الجائزة لمالالا يوسفزاي (2014) عن نضالها من أجل تعليم الفتيات.

جائزة نوبل للأدب

تُمنح هذه الجائزة من قبل الأكاديمية السويدية، وتُثار حولها تساؤلات بشأن تأثير الاعتبارات السياسية والثقافية. على سبيل المثال: حصل بوريس باسترناك (1958) على الجائزة عن روايته "دكتور زيفاغو"، لكن الجائزة اعتُبرت بمثابة رسالة سياسية ضد الاتحاد السوفيتي.

منح بوب ديلان (2016) الجائزة أثار جدلًا حول ما إذا كانت الأغاني تُعتبر "أدبًا" بالمعنى التقليدي، مما يشير إلى تأثير الثقافة الشعبية.

تشير هذه الحالات إلى أن معايير الأدب قد تتجاوز الجودة الفنية لتشمل التأثير الثقافي أو السياسي.

في المقابل، تواجه عملية منح جائزة نوبل عدة تحديات:

الانحياز الجغرافي والثقافي: غالبية الفائزين ينتمون إلى الولايات المتحدة وأوروبا، مما يثير تساؤلات حول عدالة التمثيل العالمي.

التأثير السياسي: خاصة في جوائز السلام والأدب، حيث تُستخدم الجائزة أحيانًا لدعم قضايا سياسية أو إرسال رسائل دبلوماسية.

التقييم الذاتي: تعتمد عملية الاختيار على قرارات لجان بشرية، مما يجعلها عرضة للتحيزات الشخصية أو المؤسساتية.

التأخر الزمني: في العلوم، قد يستغرق الاعتراف بالاكتشافات عقودًا، مما يؤدي إلى استبعاد بعض العلماء الذين توفوا قبل التقييم.

التنوع: نقص التنوع الجنسي والعرقي بين الفائزين، حيث تشير الإحصاءات إلى أن أقل من 6% من الفائزين هم من النساء.

التوازن بين التشريف السياسي والاستحقاق الأكاديمي

يُظهر تحليل معايير نوبل أن هناك توازنًا دقيقًا بين التشريف السياسي والاستحقاق الأكاديمي:

في العلوم والاقتصاد، تظل المعايير الأكاديمية مهيمنة، لكن الانحيازات المؤسساتية قد تؤثر على اختيار الفائزين.

في الأدب والسلام، تتداخل الاعتبارات السياسية والثقافية بشكل واضح، حيث تُستخدم الجائزة لتعزيز قيم معينة أو دعم قضايا عالمية.

تُظهر بعض الحالات، مثل منح الجائزة لمنظمات مثل الصليب الأحمر أو برنامج الغذاء العالمي، محاولة لتجنب الانحياز الفردي والتركيز على إسهامات جماعية.

خاتمة

"الفشل أساس النجاح، فهو أيضًا مصدر إلهام، إذ يُنظر إليه غالبًا على أنه حجر الأساس"

تظل جائزة نوبل رمزًا للتميز العالمي، لكن معايير منحها تعكس توازنًا معقدًا بين الاستحقاق الأكاديمي والتأثيرات السياسية والاجتماعية. في العلوم والاقتصاد، تُعتبر الجائزة معيارًا للإنجاز الأكاديمي، بينما تتأثر جوائز الأدب والسلام بسياقات أوسع. لتعزيز مصداقية الجائزة، ينبغي للجان التقييم معالجة الانحيازات الجغرافية والثقافية، وضمان شفافية أكبر في عملية الاختيار. في النهاية، تظل جائزة نوبل انعكاسًا للقيم الإنسانية والعلمية في عصرها، مع تحديات مستمرة لتحقيق العدالة والموضوعية. فهل اصابت لجان التقييم عند عزوفها عن منح جائزة نوبل السلام للرئيس الأمريكي دونالد ترامب؟ ولماذا يتم منحها للموالين للكيان الصهيوني وحجبها عن المبدعين الداعمين للمقاومة الفلسطينية والعربية والأممية؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

إلى الكاتب المصري محمد فكري الجزار

"هل يمكن للوعي أن يوجد خارج المؤسسة؟"

هل بمقدور الإنسان، كمواطن وككائن قلق، أن يخلق مساحة للفكر لا تخضع لشروط الانتماء ولا لإملاءات النظام الرمزي القائم؟

يبدو هذا السؤال اليوم أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى، في زمن تتكاثر فيه المؤسسات وتتقلص فيه الحرية، حيث لم تَعُد السلطة مجرد جهاز سياسي، بل تحوّلت إلى بنية شاملة من المعاني تسكن اللغة والمناهج والإعلام، وحتى مخيلتنا الفردية.

لقد نبّه ميشيل فوكو إلى أن السلطة لا تُمارَس فقط من فوق، بل تتخلل التفاصيل اليومية للحياة. فالمدرسة والمستشفى والجامعة ووسائل الإعلام، ليست سوى أجهزة لإنتاج الطاعة الرمزية، تُعلّمنا كيف نفكر، ومتى نشك، وبأي لغة نعبّر عن قلقنا. من هنا تصبح المؤسسة، في جوهرها، سلطة على الوعي قبل أن تكون تنظيماً للأفعال.

لكنّ الإنسان لا يُختزل في كونه موضوعاً للضبط. فيه دائمًا هامش تمرّد لا يمكن للمؤسسة السيطرة عليه كلياً. إننا نحمل في وعينا بذرَة الشك، تلك الطاقة التي تجعلنا نرفض الاكتفاء بما هو قائم. لذلك، فالسؤال عن "الوعي من خارج المؤسسة" هو في حقيقته سؤال عن الإنسان الممكن فينا. الإنسان الذي لا يُصالح الزيف، ولا يرضى بأن يكون مجرد ترسٍ في ماكينة كبرى اسمها النظام الاجتماعي.

بيد أن هذا الوعي الحرّ لا يُبنى بالخطاب فقط، بل بالتجربة والجرأة. فالمؤسسة تُغري بالانتماء لأنها تُوفّر الأمان. إنها تحدد لك المعنى، وتختصر عليك السؤال، وتمنحك هوية جاهزة. أما الوعي الخارج عنها، فهو مغامرة في المجهول، يتطلّب شجاعة وجودية تشبه ما وصفه سورين كيركغارد حين تحدث عن "قفزة الإيمان"، قفزة نحو الحرية التي لا ضمانات فيها سوى ذاتك.

أن نصنع وعيًا من خارج المؤسسة، يعني أن نتعلم فنّ العيش في المسافة. أن نكون قريبين بما يكفي لفهم النظام، وبعيدين بما يكفي لرفضه حين ينحرف. هذه المسافة الأخلاقية هي ما سمّاه إدوارد سعيد "الموقع الهامشي للمثقف"، ذاك الذي لا يتماهى مع السلطة ولا ينغلق في عزلة النخبة، بل يقف في منطقة التوتر بين الولاء والنقد.

في هذا السياق، يمكن للمواطن الحرّ، لا كفاعل سياسي بل ككائن أخلاقي، أن يسهم في صناعة وعي جماعي مختلف. وعي لا يُختزل في الشعارات ولا في ردود الفعل، بل يتأسس على المساءلة الهادئة، العميقة، والصبورة. فأن نسائل لا يعني أن نعارض، بل أن نُضيء؛ أن نمنح الفكر فرصة ليتنفس خارج الضجيج.

لكنّ الصعوبة الكبرى تكمن في الاندماج دون الذوبان. في عالم يفرض علينا أن نكون متشابهين كي نُقبَل، يصبح التفكير المستقل فعلاً شبه متمرد. كيف يمكن أن نعيش في جماعة لا تُحبّ من يفكر خارج قطيعها؟

قد يكون جواب إيمانويل ليفيناس مقنعا، إذ يرى أنه "ليس في الهروب من الآخر، بل في الإصغاء إليه دون أن نُلغي ذاتنا". الوعي الحرّ لا يقوم على النفي، بل على الاعتراف. أن نعترف بتعدد الرؤى، وبأن الحقيقة ليست ملكية فردية بل أفق مشترك نقترب منه ولا نمتلكه. وفي ضوء ذلك، تصبح المواطنة فعلاً فلسفيًا بامتياز. ليست مجرد انتماء قانوني، بل قدرة على مساءلة الجماعة دون خيانة لها. فالمواطن الحرّ لا يعيش خارج المؤسسات، لكنه يرفض أن تكون تلك المؤسسات سقفًا لوعيه. إنه يعمل على تحويلها من أدوات للسيطرة إلى فضاءات للنقاش، من رموز للجمود إلى محركات للتجدد.

وهنا نصل إلى سؤال الراهن: كيف يمكن أن يُولد هذا الوعي في زمن العزوف، وسط جيل تائه بين ثقل الموروث وسطوة الصورة؟

ربما يكون الجواب في العودة إلى الإنصات للذات المفكرة. تلك التي ترفض الاندماج في ضجيج الخطاب الجاهز، وتسعى لإعادة بناء علاقتها بالمعنى، بالمعرفة، وبالمسؤولية. فالوعي الخارج عن المؤسسة لا يولد من الغضب وحده، بل من حبّ الحقيقة أكثر من حبّ الأمان.

إنه وعي لا يرفع شعار الثورة بقدر ما يُمارس ثورة صامتة في العمق:

*حين نعلّم أبناءنا كيف يسألون بدل أن يكرّروا.

*حين نكتب لا لنبرّر بل لنُزعج.

*حين نُصغي إلى المختلف دون خوف.

*حين نُدرك أن الفكر ليس وسيلة للتكيّف بل طريق نحو الكرامة.

إن بناء وعي من خارج المؤسسة ليس دعوة إلى الفوضى، بل إلى استعادة الحرية كشرط للإنسانية. فكل مؤسسة، مهما بلغت قوتها، تبقى محتاجة إلى ذاك الكائن الحرّ الذي يذكّرها بأن صلاحها في أن تُسائل نفسها. ذلك هو جوهر الوعي النقدي. أن يكون ضميراً يقظاً، لا معادياً ولا خانعاً، بل حارساً للمعنى في زمنٍ فقد فيه المعنى قيمته.

فحين نصير قادرين على التفكير من خارج الأسوار، وحين نجرؤ على أن نكون ذواتنا رغم الضجيج، وحين نُدرك أن مسؤوليتنا الأولى هي أن نحمي وعينا من الترويض، عندها فقط نكون قد بدأنا فعلًا رحلة الإنسان نحو الحرية الممكنة.

***

د. مصطفى غَلــــمَــان

ذكرنا في المقال السابق أنَّ الأدب في المملكة العَرَبيَّة السُّعوديَّة هو امتداد للتراث الأدبي العَرَبي الذي منبعه الجزيرة العَرَبيَّة. وأنَّه قد مرَّ بمراحل تطوُّرٍ حتى وقتنا الراهن، تطرَّقنا إلى أبرز ملامحها. وأشرنا إلى أنَّ الرؤية المستقبليَّة تحدو الأمل إلى تفعيل الثقافة- وفي جوهرها الأدب- لتأخذ دَورها الحضاري محلِّيًّا وعالميًّا؛ فليس من المقبول أن تكون المملكة العَرَبيَّة السُّعوديَّة، بتاريخها الضارب في الذاكرة الإنسانيَّة على هامش الثقافات، أو أن تتعامل مع الثقافة رديفةً لشؤون أخرى. ويأتي تفعيل هذه الواجهة الحضاريَّة الخصبة وتنظيمها من حيث هي رافد رئيس من روافد التنمية وبناء الإنسان، وهي من أهم محرِّكات التحوُّل الوطني إلى المستقبل، وتحقيق رؤية 2030، وما بَعدها. ذلك أنَّ من ركائز القوَّة الأُولى في رؤية المملكة 2030: الاهتمام بالعُمق العَرَبي والإسلامي. ومن توجُّهات المحور الأوَّل في الرؤية، الذي يدور حول حيويَّة المجتمع: دعم الثقافة، وبناء الشخصيَّة. وفي الأهداف الاستراتيجيَّة لهذا المحور يأتي تعزيز القِيَم الإسلاميَّة والهويَّة الوطنيَّة. وذلك من خلال المحافظة على تراث المملكة الإسلامي والعربي والوطني والتعريف به، والعناية باللُّغة العَرَبيَّة. ومن ضمن الأهداف الاستراتيجيَّة كذلك: تمكين حياة عامرة وصحيَّة، بوسائل منها: دعم الثقافة والترفيه، ومن ذلك تنمية المساهمة السُّعوديَّة في الفنون والثقافة. ومعلومٌ أنَّ الأدب يُعَدُّ القاسم المشترك الأعظم بين تلك الأهداف الاستراتيجيَّة لمحور حيويَّة المجتمع، بالنظر إلى موقعه الجوهري في بناء القِيَم والهويَّة، ولكونه وعاء اللُّغة والتراث والثقافة، وهو فوق ذلك بمثابة الأب للفنون الأخرى، قديمًا وحديثًا. فمن نافلة القول أنَّ إيلاء الأدب ما يستحق من رعاية، ودعم الأدباء، وتنظيم شؤونهم من خلال جهازٍ مرجعيٍّ واحد، هو من آليَّات العمل الأساس لتحقيق الرؤى الثقافيَّة المستقبليَّة. 

غير أنَّنا أومأنا إلى نقاط قصور، نراها ما زالت قائمة دون أن تحقق الرؤية الثقافيَّة أهدافها المُثلى:

1- إنَّ الأديب منذ ارتضى الأدبَ حرفةً، يدرك أنَّ «حرفة الأدب ستُدرِكه»! فلا ينبغي أن يعوِّل في حِراكه الإنتاجي على آخَر! غير أنَّ ثمَّة جوانب تنظيميَّة، وأبعادًا إنسانيَّة، يؤمَّل أن يكون للجهاز التنظيمي دورٌ مهمٌّ في رعايتها ودعمها وتنميتها. وقد كان من المبادرات التي انبثقت عن مجلس الشُّورى، خلال دورته الرابعة، إنشاء (رابطة للكُتَّاب والأدباء السُّعوديين)، تمثِّل مرجعيَّةً ضروريَّةً في هذا العصر لاحتضان المواهب، ورعاية المبدعين، ونشر نتاجهم، وتنظيم تفاعلهم ومؤتمراتهم مع نظرائهم في العالم. وكنَّا، وما زلنا، نتطلَّع إلى أن يتمَّ إنشاء: (رابطة الكُتَّاب والأدباء السُّعوديِّين) لتحقيق أهدافها المرجوَّة.

2- منذ سنين كنتُ أرى أن (الأندية الأدبيَّة)، بوضعها القائم، قد تخطَّاها الزمن، والمطلوب راهنًا: قيام (مراكز ثقافيَّة شاملة). تستوعب الثقافة والفنون والآداب، وشرائح المجتمع كافَّة. وإلَّا ستبقى الأندية الأدبيَّة- أو الجمعيَّات الأدبيَّة، أو سمِّها ما شئت- في عزلة عن المجتمع والثقافة العامَّة والفنون. كما أنه يلزم لتحقيق أهداف تلك المراكز أن يقوم عليها (متفرِّغون لأعمالها)، وأن تُؤْخَذ، بآليَّة (التنوُّع الطبيعي والبنَّاء)، ومن هذا أن تصبح فيها (المرأة شريكةً كاملة الشراكة)، سواء في إدارتها أو نشاطاتها؛ إذ ما زال يُلحَظ غياب المرأة عن الإدارة العُليا في هذا المجال. فهل ذلك لغيابها الواقعي؟ أم ضعفها العِلمي؟ أم الأدبي؟ أم التأهيلي؟ واضحٌ أنَّ ذلك كلَّه لم يعد يُسوِّغ الإجابة بـ(نعم). 

3- الجوائز الأدبيَّة: لم يعُد لها ذلك الحضور الوطني السالف، وأعني هنا على مستوى جوائز الدولة التقديريَّة. على أنَّ الجوائز نوعان، نوعٌ محكَّم، وآخَر تكريمي، غير محكَّم. وما يستأهل التقدير- سواء من قِبَل الفائز أو الجمهور- هو النوع الأوَّل؛ لأن الفائز بجائزته يكون قد حظي بتقديرٍ عِلميٍّ ومعنويٍّ يفوق قيمة الجائزة الماديَّة.

4- الحركة المسرحيَّة: تراجعت عن طموحاتها في القرن الماضي. تلك الحركة التي كانت تُسهِم فيها الجامعات، ولا سيما (جامعة الملك سعود)، وبعض الأندية الأدبيَّة، مثل نادي الرياض الأدبي، فضلًا عن المعاهد والمدارس. وإذا كان المسرح قد وُصِف قديمًا بأنه أبو الفنون، فإنَّه اليوم أبو الثقافات، وعامل التفاعل الحيوي والمباشر بين الآداب والجماهير.

5- استقطاب الشباب- فضلًا عن الأطفال- إلى الأنشطة الثقافيَّة، ما يزال أقلَّ بكثير من المنشود، إذا قيس إلى استقطاب هاتين الشريحتين في مجالَي الفَنِّ والترفيه. على أنَّ الشاب والطفل لن يتقبَّلا طرحًا نمطيًّا باردًا، ولن يُقبِلا عليه. ليس لأنَّ متطلباتهما مختلفة، ولا لأنَّ المؤسسات الأدبيَّة غير مؤهَّلة، فحسب، ولكن فوق ذلك لأنَّ العصر، ولأنَّ تقنيات التثقيف قد اختلفت جذريًّا. وهذا العامل هو ما يَصرِف معظم الناس، عن الأنشطة الأدبيَّة، بصيغها المنبريَّة التقليديَّة. فكيف بالأطفال والشباب؟!

-2-

لا شك أنَّ مستوى التنوُّع في الأنشطة الثقافيَّة اليوم يبدو أرفع ممَّا كان عليه في الماضي. هذا من حيث الكم، أمَّا من حيث النوع، فالأمر يستدعي الاستقراء العِلمي. غير أنَّ الظاهر في ما تشهده المملكة اليوم من تنوُّع المنابر الثقافيَّة، وتعدُّد المؤسَّسات المعنيَّة بالثقافة، يدلُّ على أنَّ المستوى إجمالًا في تطوُّر.

على أنَّ تعزيز مشاركة الشباب في الفعاليَّات الثقافيَّة يجب أن يبدأ من خلال المدارس والجامعات، في فعاليَّات يكون لها دور التربية الثقافيَّة من جهة، والتحفيز على المشاركة في الفعاليَّات الثقافيَّة العامَّة في المجتمع، من جهة أخرى. فليس دور التعليم بمنحصرٍ في تلقين المعلومات، بل هو إلى ذلك دورٌ تربويٌّ تنويريٌّ، من المفترض فيه أن يعمل على اكتشاف المواهب والقدرات وتنميتهما، فضلًا عن تعزيز المشاركة في الفعاليات الثقافيَّة العامَّة.

‏إنَّ من المهمِّ في هذا المضمار الأخذ بسياسة التوازن بين الأنشطة الأدبيَّة، والفنيَّة، والترفيهيَّة. ذلك أنَّه من الطبيعي أن يكون جمهور الترفيه والفن أوسع من جمهور الأنشطة الأدبيَّة. ومع ذلك فالمؤمَّل أن تُجعَل للأنشطة الأدبيَّة الصدارة في الدعم والاهتمام، ولا سيما أنَّ الأدب وعاء المعرفة والقِيَم، وهو إلى هذا أبو الفنون؛ فالمسرح- على سبيل المثال- هو نصٌّ أدبي، قبل أن يكون أداءً مسرحيًّا، والأغنية هي نصٌّ شِعري، قبل أن تكون أداءً موسيقيًّا. هذا إذا كنَّا ننظر إلى الفَنِّ والترفيه في مستواهما الباني والأرقى، لا في مستوى الاستهلاك والتسلية وتزجية الأوقات.

لهذا أرى ضرورة أن تُرسَم الخطط الاستراتيجيَّة لتعزيز الشراكات بين الأدب والفنون المختلفة؛ فالأدب لا ينفصل عن تلك الفنون بحال من الأحوال. ومن المؤكَّد أنَّ مدَّ الجسور بين الآداب والفنون يعود بالنفع عليهما معًا، ومن ثمَّ يثري المتلقِّي بثمارهما. غير أنَّ تعزيز الشراكات بينهما لا يتأتى بالتنظير، بل بالتخطيط، وإيجاد المؤسَّسات الجامعة التي تقيم هذه العلاقات بين الأدب والفن. ولقد كانت الأندية الأدبيَّة في الماضي تنهض ببعض هذا الدَّور، ولا سيما في مجال المسرح، وأحيانا الفن التشكيلي، وكنتُ أنادي بأن يستمر ذلك على نحوٍ يتواكب وتطوُّر الواقع الثقافي في البلاد. لأنَّه بدا في حصر الأدب في الأندية الأدبيَّة، وإيكال الفنون إلى جمعيَّات الثقافة والفنون، أنَّ الأدب قد عُزل عن الفن، من جهة الأندية الأدبيَّة على الأقل! ولقد طالبتُ، منذ سنين- من خلال مجلس الشورى وعبر الإعلام- إلى الجمع بين الأندية الأدبيَّة وجمعيات الثقافة والفنون في مراكز ثقافيَّة عامَّة، تجمع الآداب والفنون في مؤسَّسات تُعنَى بالآداب والفنون، فتثريهما وتثري ثقافتنا الوطنيَّة.

أُغَــنِّـيْ كُـلَّـما هَـبَّـتْ جَـنَـاحِـي:

جَـنُـوْبًــا أو شَمَالًا تِـلْـكَ رُوْحِـي

*

بِـلَادِيْ حَـيْـثُـما أَلْـقَـيْـتُ رَحْـلِـي

فـثَـمَّـةَ مُلْـتَـقَى الكَـوْنِ الفَـسِـيْحِ

*

بِـلَادِيْ حَـيْـثُـما أَطْـلَـقْـتُ طَرْفِـي

تَـخَطَّـتْـهُ رُؤَى الطِّـرْفِ السَّـبُـوْحِ

*

أُعِـيْـدُ بِـنَــاءَ آفَـاقِــيْ بِـأَمْـسِـي؛

فيَوْمِيْ اجْتَـازَ خَيْلَ غَـدٍ جَـمُـوْحِ!

 ***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

من غيبة آليات المعقول إلى الارتياب في قداسة المنقول

من تداعيات استياء وأسف جل المبدعين الحقيقيين؛ وسيما أصحاب الأقلام، عدم الشعور بأدنى صدى أو أثر لإبداعاتهم في مجتمعاتهم (استحسان - نقد - مدح - قدح - استهجان)؛ وكأن ما لفظته أقلامهم قد ضاع سُدى أو لم يلاقٍ سوى تجاهل من الذين  جعلوا صوالحهم مقصدهم وغايتهم، والأمثلة عديدة على مر تاريخ حركة الإبداع الإنساني (الأدب والفلسفة بل والعلم أيضاً)، ولا سيما في الحقبة التي نتحدّث عنها، ألا وهي ثقافة العصر الوسيط، فما أكثر المؤلفات التي أهملت أو حرقت أو ضاعت أثناء الحروب الدينية أو الخلافات المذهبية أو النزاعات الاستعمارية؛ وحدث ولا حرج عن التصانيف التي حُرّفت بأقلام المدلسين أو حرفت مقاصدها من جراء تأويلات المتعصبين أو قصفت أقلام أصحابها، وصفعت رؤوس أربابها من قبل الساسة المتجبرين أو الغرباء المتآمرين أو العاجزين الحاقدين ..

وسوف نتعرض إلى تلك القضية عند حديثنا عن الجانب الآخر من فلسفة العصر الوسيط التي ذاعت عقب ظهور الإسلام، وبالتحديد منذ القرن الثاني الهجري مع أوائل المتكلمين الفلاسفة تلك الحقبة التي انتشرت فيها الشائعات والأكاذيب وعطلت تمامًا غرابيل الكذب التي تنشد الحقيقة عن العمل.

***

أمّا عن آخر انتقادات وطعون المتفلسفة الشكاك فيما جاء به اللاهوتيون المسيحيون الأوائل في العصر الوسيط  فيتمثلا في قضيتين أعتقد أنه لم يرد عليهما في تاريخ الفلسفة حتى الآن وهما...!

أن أصحاب الدين الجديد قد اطلقوا على أسفار التوراة التي يبلغ عددها تسعة وثلاثون سفرًا؛ والعهد الجديد الذي يبلغ عدد أسفاره سبعة وعشرون سفرًا (الكتاب المقدس) في حين أنه لا يخلو من مواضع عديدة تناقض بعضها بعضًا بل إن هناك أسفاراً لا ينبغي أن يطلق عليها صفة القداسة نذكر منها: الأسفار الخاصة بسلوك بني إسرائيل في حروبهم مع الفلسطينيين بخاصّة، وجيرانهم من الأقوام الأمنة بعامة. وقد ذكر ذلك العنف والإجرام الوحشي بتوجيه من الرب على حد ما ذُكر في هذه الأسفار (سفر التثنية، الإصحاح 20 وما بعده من 1:20) (سفر يشوع الإصحاح الثاني عشر) (سفر العدد الإصحاح 17) (سفر صموئيل الأول، الإصحاح 15).

ذلك فضلًا عن الأسفار التي تتحدث باستفاضة عن الجماع والوطأ المحرم، والاغتصاب والعهر وذلك في : (سفر صموئيل الثاني، الإصحاح الخامس من 10:13) (سفر الملوك، الإصحاح الأول) (سفر التكوين، الإصحاح 38) (سفر استير، الإصحاح الثاني) (سفر هوشع، الإصحاح الأول).

وهناك أسفار يصعب تأويلها على نحو يليق بالقداسة مثل ما جاء في (سفر نشيد الإنشاد، الإصحاح الأول وما بعده) ناهيك عن حديث الرب مع اليهود الذي يعنفهم فيه لمعصيته ومخالفة تعاليمه والكفر بنعمه.

واعتقد أن ما جاء في هذه الأسفار يجب أن يُدرج ضمن أكاذيب (يهود الخزر) الذين كان لهم السبق في ظهور هذه الأسفار بلغتها القديمة فتعد أقدم نسخة موجودة من التوراة في إيطاليا باسم مخطوطة توراة بولونيا والتي يرجع تاريخها إلى نحو عام (1225:1155 م) في حين أن هناك مخطوطات مهمة من نصوص التوراة بمدريد في أسبانيا وتوليدو ولكنها ليست كاملة مثل مخطوطات البحر الميت التي توجد هناك أيضًا ومختلف على زمن ظهورها.

أمّا الترجمة السبعينية وأسفار العهد القديم فهي أيضًا من الأكاذيب الكبرى التي ما زال المعنيون بفلسفة اللاهوت وتاريخ الأديان يشككون في متونها، وما جاء فيها، تلك التي يرجع تاريخها إلى القرن الثالث قبل الميلاد. ويضيف الدكتور علي قاسم وهو من أكثر الباحثين المصريين عنايةً بدراسة فلسفة اللاهوت وتاريخ الأديان المعاصرة، (أن هذه الطعون تعد من أكبر وأخطر القضايا الفلسفية التي أعيت التحليليين والمؤولين والنقاد العلمانيين ذلك فضلًا عن عجز اللاهوتيين المعاصرين عن تبريرها.

أمّا القضية الثانية؛ التي آثارها المتفلسفة الشكاك فهي : أن أصحاب الدين الجديد قد اتخذوا موقفًا عدائيًا من كل العقليين والفلاسفة والمجترئين من العلماء بحجة أنهم جميعًا هراطقة يخالفون حق اليقين الذي يقفون في كنفه، ولا يسمحون لغيرهم الدخول من بابه.

فقد كفروا بكل التراث الفلسفي الإغريقي، ومن حاكى معارفه، كما اشترطوا على من يستشهد بأقوالهم أن يكيفوا آرائه على نحو يوافق ما تعتقده الكنيسة، كما قاموا بحرق وقتل والتنكيل بمن اجترئ على نقض الكتاب المقدس.

أمّا أكثر جرائم اللاهوتيين في العصر الوسيط يتمثل في محاكم التفتيش التي انتشرت في أوربا نحو عام (1184 م) وكانت بمثابة مقصلة العلماء.

ويضيف متفلسفو الشكاك أن ضعف البنية اللاهوتية للكنيسة في العصر الوسيط كان وراء ظهور مئات الهراطقة والمجترئين والملاحدة، وكان معظمهم من الذين تناولوا ما تدعو إليه الكنيسة عن طبيعة الإله تناولًا عقليًا مع العلم أن كان بعضهم من المؤمنين بتعاليم المسيح الأخلاقية مثل أريوس (نحو 336:250 م) أبيون بلستونيكس (20 ق.م: 48 م ) نسطورس (451:381 م) وغيرهم الكثير إلى ظهور ما نطلق عليه عصر الإلحاد في منتصف القرن الثامن عشر قبيل عصر النهضة.

ويرى الدكتور محمد أبو المجد وهو من أفضل المتخصصين الشباب في فلسفة اللاهوت في العصر الوسيط (أن هناك أفكاراً وآراءً رائعة قد أنتجها اللاهوتيون في الفترة الممتدة من القرن الثاني الميلادي إلى القرن الرابع عشر، غير أن عزوف أصحابها عن النسقية الفلسفية والمناهج العقلية والوجهة النقدية في قراءة النصوص المقدسة قد أقعدتهم عن مزاحمة الفلاسفة العلمانيين والعلماء المجددين المؤولين إلى درجة أن بعض الفلاسفة المسيحيين قد ترددوا مرارًا في البوح بآرائهم والتصريح بنظرياتهم مخافة مقصلة الكنيسة).

***

ولعل أفضل ما ندفع به اتهامات أعداء المسيحية هو ما كتبه اللاهوتيون الأوائل الذين حاولوا الجمع بين المسحة العقلية في العرض، والوجهة الأخلاقية في المعالجة، والرد على بعض الاتهامات التي جاءت في بشارتهم بالدين الجديد وتعاليم يسوع.

غير أن ما يأخذ على هذه الخطابات المفعمة بالإيمان هو عزوفها عن قواعد المنهج الجدلي في التناظر القائم على الحجج العقليّة والأدلة النقديّة في الرد على الطعون أو الشبهات مثل تلك التي جاءت على ألسنة اليهود والمتفلسفة والشكاك؛ وها هي أشهر النماذج التي وردت في كتابات المتثاقفين:

فجاء عند يوستينوس الشهيد  (165:100 م) في دفعه تهمة الكذب عن المبشرين وتأكيده على أن الخداع من الآثام والشرور المنهي عنها في الأناجيل كما أن اتهام اليسوعيين بنقض التوراة كذب أيضًا، وأن كفرهم بعبادة القيصر والأوثان دليل على إيمانهم بعقيدة المخلص؛ إذ ذهب إلى أن من يطلب تطبيق العدالة يجب عليه أن يتحرى الدقة في طلب الحق والخبر الصادق، واجتناب الكذابين ومُروّجو الشائعات الأفاقين؛ فالتقي هو الذي يتحرى الصدق من الأخبار سواء كانت على لسان من نعتقد في قداستهم من القدماء أو مت اشتهر عنهم الكذب من المحدثين؛ فالعدالة لا ينبغي أن تقوم على آراء ظنية أو حكايات مشكوك في صحتها وخاصة إن كانت تدور حول قضايا إجترائية لا تخلو من التجديف على النصوص المقدسة أو افتراءات على الأبرار والأتقياء من العباد المخلصين.

وعلينا جميعًا أن نتذكر أن الأهواء والخصومات الجائرة يتولد عنها بالضرورة أكاذيب وافتراءات يقودها الحقد والهوى وعليه يجب على المحققين توخي الدقة في التحري؛ لينكشف أمام أعينهم مواضع الصدق ومواطن الكذب، وهل يضير الحاكم أن يبذل قصاري جهده في التقصي قبل أن يصدر أحكامه بالقتل أو بالسجن أو ألقاء الاتهامات جزافًا ضد عباد مخلصين في الطاعة لأوامر الرب والسلطان معًا قبل أن يهوى في آتون الأكاذيب والمكائد الشيطانية والمؤامرات المغرضة من قبل صناع الفتن والخيانات.

وإذا لم تفعلوا؛ فلن يضير المظلوم إذا استشهد دفاعًا عن الصدق.

وعلى النقيض من ذلك، سوف يلقى المغرضون والقضاة الغشاشون مقام المفسدين والمنكرين لأبسط حقوق الرب المخلص فاتهامنا نحن المسيحيين بالكفر؛ لأننا لا نقدم قرابين للأوثان فإن مثل هذا الادعاء صادق، وإن كان على ألسنة الأعداء والجاحدين لنعمة المخلص والراغبين عن الإيمان به، ومع ذلك فأن كلامهم يحمل معه دليل براءتنا من تهمة الكفر والمروق؛ فمن ذا الذي يفضل الباطل ويتبعه ويبخس الحق ويعزف عنه؛ فصدقنا في عبادتنا للحق يدفعنا إلى الاعتراف بأننا نجحد الكذب والخيانة التي تدعي بأن عبادة الأوثان وتعظيم الأصنام خيرٌ يجب اتباعه.

ومن أشهر التربويين الوعاظ الذين اهتموا بترغيب الشباب في الصدق وترهيبهم من توابع الكذب ما نجده في نصائح إكليمنس السكندري (215:150 م)  الذي استشهد بأقوال السيد المسيح عن البراءة وطهارة الأنفس باعتبارهما من أوضح صور الصراحة والصدق اللتين يمتاز بهما الأطفال في طور سذاجتهم قبل الوقوع في غواية وأهواء الشهوة والابتعاد عن طريق الحب والإخلاص في الهداية.

ومن أقوال أوريجانوس (254:185 م) في دفاعه عن الإيمان المسيحي وحقيقة العقيدة ضد ادعاءات اليهود أيضًا ( أننا نعبد الرب في السر والعلن؛ فالصدق لا يتوارى ولا يخجل ولا يخاف إذا عرف الناس مكانه واستدلوا عليه. أما الإفك والوشاية والافتراء فسبيله هو الدس والخبث والشائعات التي يرددها الأشرار كيدًا في خصومهم كما أننا لا نستعين بالشياطين ولا نستقوى بالسحر وذلك لأن كليهما من دروب الكذب.

ويضيف ترتليانوس (240: 155 م) أن المجدفين والكذبة والأفاقين، هم الذين يشككون في الوحي والناموس ويتخابثون بأسئلتهم المرتابة (لما وأين ومتى ومن أحق بكلام الرب) أي لما أختص الرب المسيح ليكون هو المخلص وأهمل ناموس موسى الذي هو الأكمل؟ وهل يجوز العدول عن الشريعة من أجل تعاليم وأقوال مشكوك في صحتها؟

أمّا القديس أوغسطين كما ذكرنا أهم وأفضل المتفلسفة المسيحيين الذين صاغوا خطاباتهم بمنحى فلسفي؛ وذلك لاطلاعه على معظم التراث الفلسفي الإغريقي والفارسي، وإلمامه بطعون الشكاك وأكاذيب اليهود، ذلك فضلًا عن دراسته الوافية بنصوص التوراة آنذاك؛ فها هو يبيّن أن المزيفين من المحتالين ومحترفي التزوير والتلفيق وقلب الحقائق؛ وخلط الكلام على نحو يشكك المؤمنين في صدق عقيدتهم لن يفلحوا في مقصدهم؛ لأن كلمات الرب واضحة بذاتها تراها البصائر بقوة إيمانها، وتنكر تلك الأضاليل الوقائع والأحداث التي دونها الأبرار في رسائلهم وأثبتتها أفعالهم.

واستطرد صاحب كتاب "مدينة الله" شارحًا دروب الكذب وأشكاله: إن للكذب ثمانية أنواع أولها: الكذب الذي يولده الخوف من الأذى الجسدي، وهو سلوك خسيس يصدر عن الأنفس الجبانة لأن إيذاء الجسد أو عطبه لا يكافئ سلامة الروح وطهارتها، والصورة الأخيرة هي التي سوف تظل صادقة؛ لأنها تعبر عن صدق محبة الرب؛ وذلك لأن الأعراض التي تلحق بالجسد أضعف من أن تصيب جوهر الإيمان الراسخ في النفوس والسرائر. أما الكذب الذي يلحق الضرر بالآخرين فهو اعتداء على الأغيار، وهو لا يجوز لأنه لون من ألوان الفتن وإلباس الباطل لباس الحق وإعلاء من شأن الزيف لطمس الوضوح.

أمّا الخداع والإضلال طلبًا لمصلحة قائله؛ فهو شكل من أشكال المكر الشيطاني الذي يصد الناس عما ينفعهم ليستأثر لنفسه النعمة دون غيره، وفيه شيء من الحسد المكروه، وهو يختلف عن الكذب الذي يرمي إلى إضلال من يصغى إليه، وهو أيضًا من عبث الشيطان الذي يضحك من جهل وحمق طالبيه.

أمّا الرياء والنفاق والمداهنة والمدح في غير محله في الذين لا يستحقوه؛ فهو كذب أيضًا حتى إذا كان في ثوب المجاملة.

أمّا النوعان اللذان لا يضعهما القديس أوغسطين ضمن قائمة الكذب الآثم فيتمثل أولها في إخفاء مكان المظلوم عن أعين الظالم حتى لا يقع الشخص الضعيف في شرك المتجبر.

والأخير؛ يتمثل في حماية التائب وستره بمنأى عمن يطلبون الثأر منه، أو معاقبته وحرمانه من الأمل الذي دفعه إلى الندم عما فعل.

ويستطرد أوغسطين أيضًا موضحًا أن ما جاء في الأحاديث القديمة المتواترة عن داء الكذب عند الإنسان لا يخلو من الحقيقة؛ ذلك إذا غلبت شهوات الإنسان على نفسه العاقلة التي تنشد العفة والطهارة دومًا عن طريق الحب الذي ليس فيه مكان لشيء دون الحقيقة الربانية؛ فالإنسان الصالح الصادق الصريح لا يكذب لأن نفسه قد خلقت طاهرة، وقد تميز أوغسطين بهذا التصريح عن أقرانه من الفلاسفة المسيحيين.

وللحديث بقيّة عن آراء ابنتنا المجتهدة نانسي مرقص، وهي من الباحثات الواعدات في ميدان فلسفة العصر الوسيط بجامعة الإسكندريّة.

***

د. عصمت نصار

 

حين يُختزل الضمير المهني في دفتر شروط الإعلانات

ليس أخطر على حرية الفكر من أن تتحول الكلمة إلى سلعة، ولا أشد إيلامًا على الوعي الجمعي من أن يُختزل الضمير المهني في دفتر شروطٍ تنظمه السلطة وتراقبه المصالح. تلك هي المفارقة التي تَكشفها اليوم حكومة أخنوش، وهي تُمرّر في غفلة من الضمير الوطني، مشروع القانون المتعلّق بإعادة تنظيم المجلس الوطني للصحافة، مشروعٌ لا يُعيد فقط صياغة البنية التنظيمية للمؤسسة، بل يعيد تشكيل المشهد الإعلامي وفق هندسة جديدة، تُفرغ الصحافة من استقلاليتها، وتُدرجها في منظومة الضبط السياسي والاقتصادي.

لقد بدا واضحًا أن فلسفة المشروع تنهل من منطق السيطرة لا من روح الإصلاح. فبدل تعزيز آليات الانتخاب والتمثيل الذاتي للجسم الصحفي، يتم نسفها من الداخل عبر هندسة جديدة للعضوية تُقاس بمعيار رقم المعاملات، أي بمعيار السوق لا بمعيار الكفاءة أو المصداقية المهنية. وبدل أن يُحتكم في توقيف الصحف إلى القضاء باعتباره سلطة مستقلة، يُمنح هذا الحق للمجلس ذاته، في سابقةٍ تُكرّس الجمع بين الخصم والحَكم، وتحوّل مؤسسة التنظيم الذاتي إلى جهاز تأديبي فوقي.

إن هذا المشروع لا يمكن فصله عن السياق العام الذي تتعامل به السلطة مع الحقل الإعلامي. سياق يقوم على تحويل الإعلام إلى أداة للضبط الناعم، تُخدّر الوعي بدل أن تُنيره، وتُعيد إنتاج الخطاب الرسمي بدل مساءلته. فالمسألة هنا ليست تقنية أو قانونية فحسب، بل هي فكرية وسياسية بامتياز. إنها إعادة صياغة لعلاقة الدولة بالمعرفة والتمثيل الرمزي، حيث تسعى السلطة إلى أن تكون هي المُتحكم فيمن يتكلم، وكيف يتكلم، ولمن يتكلم.

وإذا كانت الصحافة، كما يقول بيير بورديو، "فضاءً لصراع رمزي حول تعريف الحقيقة"، فإن الحكومة اليوم تحاول أن تغلق هذا الفضاء، وأن تحوّل النقاش العمومي إلى رأسمال منضبط تديره شبكات النفوذ والإشهار، لا ضمير المهنة ولا حسّ المسؤولية الوطنية.

ولعلّ ما يؤكد هذا المنحى هو المناظرة الوطنية للإشهار التي تُعدّها الوزارة الوصية بالدار البيضاء، والتي يُراد منها، بحسب مؤشرات عديدة، أن تكون محطة لإعادة توزيع الكعكة الإشهارية على المقاس السياسي والاقتصادي، وتكريس تحالفٍ بين الإعلام التجاري والسلطة التنفيذية، بما يضمن إخضاع الخط التحريري لمنطق السوق أكثر مما يضمن استقلاله عن الدولة.

إن ربط مصير المقاولات الإعلامية الصغيرة والمتوسطة بمعيار "الجدوى الاقتصادية" أو "رقم المعاملات" يُخفي، في جوهره، محاولةً لإقصاء الأصوات الحرة التي لا تملك سوى كفاءتها وتجربتها. فالدولة التي تتحدث عن "تنظيم المهنة"، تغفل أنها تعيد إنتاج منطق الكمبرادور الإعلامي، حيث لا صوت إلا لمن يملك رأس المال أو القرب من دوائر القرار.

بهذا المعنى، يصبح المشروع الجديد ليس مجرد تعديل قانوني، بل علامة على انزياحٍ هيكلي في علاقة الصحافة بالسلطة. من الصحافة كسلطة رابعة مستقلة، إلى الصحافة كملحق إداري أو تجاري للسلطة التنفيذية. ومن الإعلام كأداة للتنوير والمساءلة، إلى الإعلام كواجهة تجميلية للنظام النيوليبرالي الذي يربط كل شيء بمعيار الربح والمردودية.

إن ما يُخيف في المشهد ليس فقط هذا التحول في النصوص، بل في الوعي الذي يُهيمن على صُنّاع القرار. وعي يرى في الحرية خطرًا يجب ضبطه، لا طاقةً يجب توجيهها، وفي الصحفي مجرد عامل تواصل، لا فاعلًا معرفيًا يسهم في بناء الرأي العام.

إن ما يحدث اليوم هو، في جوهره تجريفٌ بطيء لحق المجتمع في معرفة الحقيقة، واستبدالها بآليات "التأطير المسبق" التي تحدد المسموح والممنوع في الخطاب العمومي. إنها محاولة جديدة لإعادة ترويض الذاكرة الوطنية، وإعادة تعريف حدود الممكن في التعبير عن الذات الجماعية.

ومن هنا، فإن الدفاع عن استقلالية المجلس الوطني للصحافة ليس دفاعًا عن فئة مهنية فحسب، بل عن أفقٍ ديمقراطي كامل، وعن الحق في أن تكون الكلمة حرة، غير مرهونة لا بسلطة ولا برأسمال.

فالإعلام الحر هو آخر ما تبقى من مظاهر التوازن في مجتمعات تتآكل فيها المؤسسات الوسيطة، ويُخشى أن يصبح، كما أراده المشروع الجديد، مجرد مرآة تعكس صورة السلطة، لا مرآة تعكس صورة الحقيقة.

في نهاية هذا المشهد، لا تبدو معركة الصحافة مجرد نزاع حول قانون أو مؤسسة، بل صراعًا على المعنى ذاته. من يملك الحق في قول الحقيقة؟ ومن يملك سلطة تأويلها؟ فحين تصبح الكلمة مرهونة بميزان الربح، يفقد الخطاب قيمته، وتغدو اللغة أداة طيّعة في يد النظام الاقتصادي والسياسي.

إنّ حرية الصحافة ليست امتيازًا يمنح، بل شرطًا أنطولوجيًا لوجود الوعي ذاته، لأن الكلمة الحرة هي التي تُبقي الفكر يقظًا في وجه الغفلة، وتمنح المجتمع مرآة يرى فيها ذاته بوضوحٍ مؤلم، لا بزينةٍ خادعة. فحين يُفرغ الإعلام من استقلاله، تُصاب الحقيقة بالعطب، ويغدو الواقع ذاته جزءًا من حملةٍ إشهارية كبرى، تُسوّق الوهم باسم الاستقرار، وتُصادر السؤال باسم النظام.

هكذا، في زمنٍ تتواطأ فيه السلطة والمال على إنتاج المعنى، تظل مقاومة الكلمة هي آخر أشكال النبل الممكنة. فربما لم يعُد في وسع الصحافة أن تُغيّر العالم كما حلمت ذات يوم، لكنها قادرة، على الأقل، أن تمنع الأكاذيب من أن تصير قدرًا.

***

د. مصطفى غَلــــمَــان

تتصدّر عملية (مراجعة الأفكار) قائمة الممارسات الدورية التي يحرص عليها ذَوُو المستويات السامقة من الوعي، أولئك الذين أُوتوا حظا كبيرا من هوَس الأسئلة العنيدة التي لا تهدأ، فهذه الفئة تدرك تماما أنّه لا توجد فكرة - مهما تضافرت دلائلها - متعاليةً على النقض أو النقد، وهذه طبيعة صحيّة للمعرفة؛ بحكم صفة التراكم المبني على عوامل لا تنفكّ تتغير وتتأثر زمانا ومكانا، فـ "أيُّ علم لا يخلق بذور تجاوزه فهو ليس علما!"(1) بحسب تعبير الدكتورة نور الهدى باديس.

على أنه كلما كانت تلك الأفكار رئيسةً تتفرّع عنها حزمة كبيرة من الأفكار الفرعية المنضوية تحت مظلتها، أو كان تقادم اعتناقها سنين طُوال حتى باتت جزءا من هُوية صاحبها، أو كانت ذات مسحة مقدسة يحظر الاقتراب منها ولو بشبه اعتراض، أو كانت مشوبة بدفقة مكثفة من المشاعر، فهُنا تتزايد الحاجة إلى أولوية مراجعتها أكثر من أترابها.

ما سبق هو توطئة لما أريد أن ألفت النظر إليه، وما يأتي ليس إبطالا لِما ابتغيتُ البناء عليه، بل هو تأكيد للمهم وإشارة إلى أنه ثمّة ما هو أهم! فلا غَرْوَ أنّ عملية المراجعة الدورية إذْ تطال الأفكار بأطيافها كافّة، من الضرورة بمكان، إلا أنّ هناك مُتعلَّقا أهم من الأفكار مهما كانت قوية، ينبغي أن تنسحب عليه عملية المراجعة كذلك، وهو نمط التفكير (Mindset)!

إنّ نمط التفكير هو الإطار المحدِّد والمِشْجَب الذي تُعلَّق عليه الأدوات الفاحصة التي نعاير بها أفكارنا، ونستدلّ بها على صحيحها من سقيمها، وسمينها من هزيلها، وإن شئت فقل إنّ نمط التفكير هو المائز الذي به نقف على ماهيّة ما بحوزتنا من أفكار على اختلاف صيغها آراءً أو انطباعات أو معتقداتٍ أو حقائق أو ميولا أو ظنونا…إلخ

ولك أنْ تتخيّل الكارثة الفكرية التي يقع الواحد منّا فيها إذا ما كان نمط تفكيره مشوَّها، فأفكاره  - لا ريب - ستكون من سِنْخها، يعتريها التشويه لا محالة، والخطورة تكمن في أننا نظن أننا نُحْسن صنعا حين نقلّب الأفكار فحصا وتمحيصا، ونخلُص من ذلك إلى الظنّ بأنها أفكار جيدة أو سيئة، في نتيجةٍ مشوَّهة، فلا ندري أننا لا ندري! تماما كمرتدٍ نظارة بعدسات حمراء، فهو صادق حين يقول: إن الجبل الذي أراه أمامي أحمر قانٍ، لكنه لا يدري أنّ هذه النتيجة مغلوطة بسبب الوسيلة التي توصّل من خلالها إليها!

على أنّني لا أنْبَري مُدّعيًا بأن هناك نمطَ تفكيرٍ غير مشوّه بالمرّة أو حتى أننا يمكن أن نصل إلى درجة نقية من التشويه، فذلك غير مطروح - على الأقل في تقديري الشخصي - وذلك بحكم الطبيعة التكوينية لأدمغتنا، ولكن أوضّح ضرورة الانتباه إلى إعادة النظر في علاقتنا بنمط تفكيرنا من ناحية، وكذلك إفراغ الجهد في تقويم أنماط تفكيرنا على الدوام من ناحية أخرى؛ حتى ينعكس أثر ذلك على ما نتبنّاه من أفكار فيما بعد، والتي تُدَوْزِنُ حياتنا بدورها! ولكن ما أحدَثَ خرابا فهو راجع لنمط التفكير في المقام الأول وليس للفكرة المتبنّاة بحدّ ذاتها.

ولمحمد عابد الجابري لفتة مهمة، وهي وإن كانت واردة في سياق التحليل الناظر لاتجاه معين، إلا أنها تتأهّل أنْ تكون ملاحظة عامة في بحثنا حول تموضع نمط التفكير، إذْ يقول: "ليس هذا وحسب ، بل إنّ السيرافي يرفض أن تكون هناك طريقة واحدة لاختبار المعاني والأفكار حتى  يمكن أن يُقال إنّ المنطق كالميزان يُعرف به الصواب من الخطأ؛ ذلك لأنه: "ليس كل مافي الدنيا يوزَن، بل فيها ما يُوزن، وفيها ما يُكال، وفيها ما يُذْرَع، وفيها ما يُمسح، وفيها ما يُحْزر، وإن كان هكذا في الأجسام المرئية فإنه على ذلك أيضا في المعقولات المقررة" واضح أنّ السيرافي هنا يرفض العقل الكوني، وهو رفض يعكس الاصطدام بين نظامين معرفيين يختلف كلٌ منهما عن الآخر، وإذن المسألة هنا ليست مسألة اختلاف وجهات النظر، بل إنّ المسألة أعمق من ذلك كثيرا، إنها مسألة ما يؤسس النظر ذاته عند كل من السيرافي ومتَّى"(2)  فالجابري هُنا يشير إلى الحلقة الحاكمة السابقة على حلقة الأفكار اللاحقة، وهي المنظومة المؤسِسة إيّاها، وثمّة بَوْن شاسع فيما بينهما، فالأفكار نسل نمط التفكير، وواردٌ جدا أن تكون الأفكار جيدة بما هي تتفق ونمط التفكير الذي أنتجها؛ ولذلك لا يمكن الانتباه لِخَطَلِها؛ لأنّه حين تُراجَع لا يظهر عليها سوى أمارات الرُّجحان، وهكذا فلنقل في الأفكار المرفوضة، ليس لعلة فيها، بل لعلة حاصلة في نمط التفكير الذي رفضها، والسبب كما يتجلّى راجع لنمط التفكير نفسه الذي أنتج خِلفَةً شَوْهاء!

وقد أطلقتُ على محدِّدات نمط التفكير وصف (المغربِلات) في كتابي: مَن اختطف عقلك؟! حيث ذكرت "من الطبيعي جدا أن يكون لكل منّا أدواته التشريحية التي يغربل بها الأفكار، ومع ذلك فلا تتوقع مني أنْ أسرد عليك قائمة من تلك الأدوات، وإنّما غاية ما أصبو إليه في هذا الموضع هو أنْ تدرك ضرورة أن تُولي العناية الكبرى بغربلة مغربِلات الفكرة - بشكل دوري - أكثر من غربلة الأفكار نفسها! إذْ إنّ أيّ عطل يصيب تلك المغربِلات من شأنه أنْ يؤدي بك إلى نتائج مشوّهة، ففي كثير من الأحيان نكون ماهرين في كيفية توظيف تلك المغربِلات، وهذا وحده لا يكفي إن لم تكن تلك المغربِلات صالحة للاستعمال العقلي أساسا".(3)

على أنّه يمكن أن تكون إحدى الأفكار الكبيرة بمثابة مُعايِر من مُعايِرات نمط التفكير، فتكون هذه الفكرة مرشَّحا نختبر بها الأخريات من الأفكار الصغرى، وأشير إلى هذه الدقيقة المهمة في كتابي مَنْ اختطفَ عقلك؟!: "وعليه؛ ففي كثير من الأحيان لا تكمن المشكلة في أدلة فكرة ما، وإنما في فكرة كبرى تمسك بعنان رقعة كبيرة من أفكارك وتوجّه بوصلتها!" (4)

ومما يُؤسَف له أنك واجدٌ عينات من المجتمع يتمحور نمط تفكيرها الذي تُعاير به الأفكار الواردة إليها، حول معايير هزيلة كمعيار الأغلبية، أو القاسم المشترك بين الأديان، أو الحاجة أو ما ينص عليه كتاب محدد أو أساطير الحضارات أو النفعية أو العاطفة الجمعية أو العنصرية لعِرق أو مذهب أو ما يفتي به رجل دين ما أو حتى مجرّد الإحساس بالارتياح أو الاحتمال بسبب ماضٍ مماثل، إلى قائمة لا تنتهي من المعايير التي لربما لا نكترث لها لكنها تسيّر نظرتنا في تقبّل الأفكار من عدمه بطريقة ما.

لَمْلَمَةً لِما بيَّناه، فإنّ تصوّراتنا تنهض سياقا عاما تنتظم فيه مفردات حياتنا بناسها وأحداثها وأشيائها، فلا نتعاطى معها إلا من خلال منظورها، وتتغوّل خطورتها حين تكون متقادمة أو معجونة بمشاعر مكثفة من الحزن أو الخوف وغيره، حيث تجنَّد اللوزة الدماغية (Amygdala) والحصين (Hippocampus) بالدماغ، ومع خطورة التصورات المسبقة من حيث جعل الحاضر اجترارا للماضي بما هو منتَج مكرَّر لتلك التصورات، فالعصب الحقيقي ليس في التصورات والمفاهيم والآراء التي نعتنقها، بل في نمط التفكير الذي أنتجها وقنّن كيفية اختبارها، فمَن نمطُه قائم على نظرية المعرفة ليس كمن يعتمد موروثه حَكَما مسلّطا على رقاب الأفكار.

إننا - حقا - بحاجة ماسة لغربلة دورية لأفكارنا، خاصة المسلّمة منها، لكننا أحوج ما نكون لإعادة بناء نمط تفكيرنا ليتبنّاه أحد أهم مراكز التحكم بالقرارات بالدماغ (Prefrontal Cortex) القشرة الجبهية الأمامية، ونتدرب على (Metacognition) وهو التفكير في التفكير نفسه بما يشبه المراقِب!

وما إنْ نعيد صياغة نمط التفكير فإنّ التصورات الرديئة التي كانت بحوزة أدمغتنا تنزوي تلقائيا، كما لا تجد التصوّرات المستقبلية غير المتناسقة مع نسختنا المحدَّثة من نمط التفكير الجدّي، أي منفذ للولوج، والتي كان أشباهها يُستقبل بالأحضان فيما مضى، ويصول في أروقة حياتنا ويجول!

***

محمد سيف

.....................

الهوامش:

الدقيقة 15:58 من حوار مع الدكتورة:

https://www.youtube.com/watch?v=YnVeSJTa3qc

هي أستاذة البلاغة في جامعة تونس، وقد تشرفتُ بالدراسة على يديها إبّان درجة الماجستير في جامعة تونس، وهي مؤلفة عدة كتب، من بينها كتاب مهم في بابه: بلاغة الوفرة وبلاغة الندرة.

تكوين العقل العربي، محمد عابد الجابري، ص 257، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة 12، 2014

مَنْ اختطف عقلك؟١، محمد سيف، ص74 ، مؤسسة بيت الغشام، عُمان، الطبعة الأولى، 2019

مَنْ اختطف عقلك؟١، محمد سيف، ص57 ، مؤسسة بيت الغشام، عُمان، الطبعة الأولى، 2019

في سبتمبر (أيلول) الماضي نشر الدكتور فهد الخضيري ملاحظة للطبيب المصري يحيى النجار، يقول فيها إنه شهد سيدة فقيرة بحذاء بلاستيك تدخل عيادته، فيصرف خمس دقائق على فحصها، فتدفع له ما يكسبه زوجها من عمله في أسبوع عمل كامل. ثم يستدرك أن هذا عمل تستحي منه الإنسانية؛ ولهذا قرر جعل فحص الفقير والطفل اليتيم مجانياً. وقد حصدت الرسالة تفاعلاً استثنائياً، من جانب رواد منصة التواصل الاجتماعي «إكس».

قبل هذا، في 26 فبراير (شباط) الماضي، عثر عامل صيانة، بمحض الصدفة، على جثة الممثل الشهير جين هاكمان، الذي توفي بعد أسبوع تقريباً من وفاة زوجته في الغرفة المجاورة. يرجح أن الزوجة توفيت في 11 فبراير وتوفي هاكمان، الممثل الحائز جائزة الأوسكار مرتين، في 17 فبراير. الجيران الذين تحدثوا للصحافيين، قالوا إن الزوجين كانا منعزلَين، نادراً ما يزورهما أحد، رغم أن هاكمان لديه ثلاث بنات من زواج سابق، وبالطبع، الكثير من زملاء وأصدقاء العمل. لكنّ أياً من هؤلاء ومن الجيران، لم يفتقد الزوجين ولم يسأل عنهما طيلة أسبوعين على الأقل.

سيدة على صلة بالزوجين، قالت فيما يشبه رثاء الذات، إن حياة الناس تحولت ركضاً وراء المال. حتى العلاقة مع الأهل والأصدقاء باتت تقاس بالعائد أو الفاقد المالي، وكذا الخدمات البسيطة التي اعتاد الناس تقديمها لبعضهم، تأكيداً للمحبة أو الشفقة. فإذا بلغ الشخص خريف العمر ولم يعد مفيداً تجارياً، فسوف تنتهي حياته الاجتماعية، وسوف ينتقل إلى هامش الحياة، مثل سيارة قديمة تنقل بعد سنين من الاستعمال، إلى حاشية الطريق.

الذي يجمع بين قصة الطبيب النجار وقصة الممثل هاكمان وأمثالها، هو أن الوقت الاجتماعي بات سلعة. أناس كثيرون باتوا يأبون إنفاق وقتهم في أشياء ضرورية جداً لأشخاص آخرين. يمكن أن يكون هؤلاء الآخرون أباً أو أخاً أو صديقاً أو مريضاً فقيراً أو طفلاً، أو أي شخص وضعته الحياة في طريقنا، فهل نحن مستعدون لإبطاء حركتنا، أو حتى التوقف من أجل أن نتعرف إليه أو نساعده أو نعطيه أملاً؟

يعتقد البروفسور مايكل ساندل، وهو فيلسوف أخلاقي معاصر، أن المشكل ليس البخل أو قلة الأدب أو قلة الاكتراث، بل الانزلاق الذي لا نلاحظه بدقة، من شعار «اقتصاد السوق» إلى واقع «مجتمع السوق».

خلال الخمسين عاماً الماضية، بات اقتصاد السوق قريناً للازدهار والرفاهية. بل إن الفيلسوف المعاصر روبرت نوزيك، اعتبره سبيلاً وحيداً لإقامة العدالة في توزيع الثروة والفرص. وبشكل عام، ورغم كل عثرات هذا النموذج، فإن التجربة العملية تؤكد فرضية أنه الآلية الأكثر كفاءةً لتنظيم الإنتاج والتوزيع، والعون الأكبر لتحويل الأفكار محركاً للابتكار والثروة.

معظم الناس يدعمون هذه الفكرة. لكن بعضهم أشار دائماً إلى مجال لا يمكن لاقتصاد السوق أن يعالجه بشكل جيد. خذ مثلاً ظاهرة المشردين الذين تعج بهم المدن الكبرى في القارتين الأميركية والأوروبية، الذين يعيشون في الخرائب أو ربما على الرصيف؛ لأنهم لا يملكون سكناً ولا المال اللازم لاستئجار مسكن. وخذ أيضاً رفض المستشفيات الخاصة علاج حالات طارئة لأن المريض ليس مسجلاً في نظام التأمين الصحي، حتى أن بعض الناس تُوفوا في انتظار الموافقات وتأمين الأموال...

يتحول المجتمع سوقاً، وتمسي الحياة الاجتماعية امتداداً للسوق، إذا بات كل شيء يُشترى بالمال، بما فيه الصداقة، والمحبة، والتعاطف، والوقت الاجتماعي، والكرامة، والفرح، والحزن، والألم والسعادة. قد يبدو هذا الكلام مبالغاً نوعاً ما. ولحسن الحظ فما زال المجتمع العربي بعيداً عن هذه الحالة. لكن انظر لما تنشره الصحافة ومنصات التواصل الاجتماعي، من أمثلة شبيهة لما ذكرته في السطور السابقة، ثم اسأل نفسك عن مصدر هذه الحالات وأسبابها... ستجد الجواب واضحاً تماماً.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

عن اقتصاد الانتباه وسرقة الحاضر

1. حين يصبح الوعي مادةً للاقتصاد

نحن لا نحيا كما نظن. نفتح أعيننا كل صباح، لكننا لا نستيقظ فعلاً؛ نتحرّك، نعمل، نتفاعل، لكن وعينا يظلّ غائباً في مكانٍ آخر — معلّقاً بين ماضٍ ينهشنا بالذكريات، ومستقبلٍ يُغرينا بالأوهام. الحياة تمضي، نعم، لكنها تمضي من دوننا.

لقد دخلنا زمناً لم يعد يُقاس فيه الوجود بالحضور، بل بكمية الانتباه المسروقة. زمنٌ تسرق فيه الشركات الكبرى أكثر ما نملك ندرةً: وعينا. تجعل من لحظاتنا القصيرة سلعةً في مزادٍ رقميّ، تُباع لمن يدفع أكثر.

كل تمريرةٍ على الشاشة هي عملية مقايضةٍ غير معلنة بين لحظةٍ من حياتنا وقطعةٍ من خوارزميةٍ لا نعرف وجهها.

إننا نعيش، كما يقول الفيلسوف الألماني بيونغ تشول هان، داخل «مجتمع الإرهاق»؛

مجتمعٍ يُغري الإنسان بأن يكون متصلاً دوماً، متفاعلاً دوماً، منتجاً دوماً — حتى يصبح منهكاً، لا من العمل فقط، بل من الوجود ذاته.

الصدمة الكبرى ليست أن التكنولوجيا غيّرت العالم، بل أنها غيّرت وعينا بالعالم. صرنا نعيش في حضورٍ مزيف، وعيٍ مشظّى، حيث كل شيء يطالب بانتباهنا، ولا شيء يمنحنا أنفسنا.

في هذا المقال، نحاول أن نفتح أعيننا على تلك الحقيقة الموجعة:

أننا غائبون عن حياتنا معظم الوقت، وأن أثمن ما نحتاج إلى استعادته ليس وقتنا، بل قدرتنا على أن نحيا بوعيٍّ داخل اللحظة

لم يعد النفط ولا الذهب ولا المعلومات وحدها ما يحرّك اقتصاد العصر، بل تلك الطاقة الخفية التي تُوجّه وعينا: إلى أين ننظر؟ فيم نفكر؟ ماذا نتابع؟ ومن نصغي إليه؟

يصف الاقتصادي الأمريكي هربرت سايمون (Herbert A. Simon) منذ سبعينيات القرن الماضي هذا التحوّل بقوله: «وفرة المعلومات تُنتج فقراً في الانتباه». واليوم نعيش ذروة نبوءته.

شركات التكنولوجيا العملاقة من “ميتا” إلى “تيك توك”، لم تعد تبيع منتجاتٍ، بل تشتري وعينا نفسه. تبيع المعلنين كل ثانية من حضورنا الذهني، وتحوّل انتباهنا إلى بياناتٍ قابلة للقياس والمضاربة.

هكذا ظهر ما يسميه المفكر الألماني بيونغ تشول هان (Byung-Chul Han) في كتابه «مجتمع الإرهاق» (The Burnout Society) بـ”الاقتصاد العصبي”: حيث يصبح الذهن ميدان الإنتاج، والتعب النفسي أحد أشكال الاستغلال.

فالمنصات لا تطلب منك مالاً، بل وقتاً، وحين تمنحها وقتك، تمنحها شيئاً أثمن: ذاتك.

نحن لا ندرك أن “المنصة المجانية” ليست مجانية حقاً؛ إنها تستهلكنا في كل تمريرة، كل إشعار، كل لحظة انتظار صغيرة نحاول فيها الهروب من الصمت. والنتيجة؟ أننا نحيا حياتنا غائبين عنها، نعيش في تيارٍ دائم من التشتت، بينما يُعاد تشكيل وعينا ببطءٍ وفق مصالح من لا نعرفهم.

2. بين الماضي والمستقبل: المسرح الوهمي لسرقة اللحظة

سرقة الانتباه لا تحدث فقط على مستوى الخوارزميات؛ إنها تحدث في داخلنا أيضاً.

نحن أسرى وهم الزمنين: الماضي الذي نُعيد تمثيله في صورٍ وذكرياتٍ مُجمّلة، والمستقبل الذي نلهث وراءه كفكرة خلاص مؤجل.

الماضي يسرقنا حين نغرق في الحنين. والمستقبل يسرقنا حين نؤجل الحياة حتى تتحقق شروطها. وبينهما، يختفي “الآن” ، تلك اللحظة الوحيدة التي يمكن أن تُعاش فعلاً.

تُشير أبحاث علم النفس المعاصر إلى أن أكثر من 46% من الوقت الذي نقضيه في اليقظة، يكون فيه الذهن شارداً بين الماضي والمستقبل (Killingsworth & Gilbert, Science, 2010).

أي أننا فعلياً نغيب عن حياتنا نصف الوقت، حتى ونحن نتحرك ونتحدث وننجز.

ولعل أخطر ما في اقتصاد الانتباه أنه لا يسرق وقتنا فحسب، بل ينزع منا ملكية تجربتنا الحاضرة.

إنه يدفعنا لأن نحيا من أجل التوثيق، لا من أجل المعايشة؛ من أجل المشاركة، لا من أجل الفهم.

نلتقط اللحظة بالكاميرا، لكننا لا نراها بالعين. نشارك الفرح، لكننا لا نحسّه إلا بعد أن يُعلّق عليه الآخرون.

وهكذا يتحول الحاضر — أغلى ما نملك — إلى معبرٍ سريعٍ نحو لا شيء.

3. استعادة الحضور: من الاقتصاد إلى التأمل

في مواجهة هذا الطوفان، لا تكفي المقاومة التقنية، بل يلزم تحوّل في الوعي.

يقول الباحث الأمريكي تريستان هاريس (Tristan Harris)، مؤسس “مركز التقنية الإنسانية”، إن “معركة المستقبل هي معركة من يملك انتباه الإنسان”.

وحين نُدرك ذلك، تصبح كل لحظة انتباهٍ نختارها بحرية، فعلاً من أفعال التحرّر.

استعادة الانتباه تبدأ بإعادة توزيع طاقتنا الذهنية على ما يستحق.

أن نعيد الاعتبار للصمت، للمحادثات البطيئة، للقراءة العميقة، للمشي بلا هدفٍ في شارعٍ مفتوح على المعنى.

أن نمنح العالم حضوراً بلا وسائط.

أن نرى الوجوه قبل الصور، والأصوات قبل المقاطع، والنصوص قبل الإشعارات.

إنّ “الانتباه” في جوهره ليس مجرد تركيزٍ ذهني، بل شكلٌ من أشكال الوعي الوجودي.

هو أن تقول للحظة: “أنا هنا.”

أن تستعيد حقك في أن تكون كائناً حاضراً، لا رقماً في نظام استهلاكٍ ذهني جماعي.

الخلاصة: احتفاءٌ بالوجود البسيط

الصدمة الأولى إذن ليست في التكنولوجيا ذاتها، بل في تواطئنا الصامت مع غيابنا.

لقد سلّمنا أرواحنا لمنصاتٍ تقيس نبضنا، لكن لا تشعر به.

غير أن الإنسان، منذ وُجد، امتلك ما لا يمكن أن تشتريه أي خوارزمية: قدرته على الوعي، وعلى التأمل، وعلى اختيار أن يعيش الآن.

ربما لا نقدر على كبح موجة العالم، لكننا نستطيع أن نقف بثباتٍ على شاطئه.

أن نغلق الهاتف ونفتح النافذة.

أن نصغي إلى صوت الحياة وهي تمرّ ببطءٍ كما يجب أن تمرّ.

وحين نفعل ذلك، حين نستعيد وعينا من اقتصاد الانتباه، نكتشف أن أجمل ما في الحياة لم يكن أبداً في “المستقبل”، بل في تلك اللحظة الصغيرة، الصافية، التي انتبهنا فيها لأننا أحياء

***

يونس الديدي - كاتب مغربي متخصص في الشؤون السياسية والاجتماعية

دلالة القمر في القرآن والدعاء

تُبرز النصوص القرآنية والدعائية في مدرسة أهل البيت عليهم السلام مفهوم الوحدة الكونية كإحدى تجليات التوحيد في النظام الوجودي، ومن أبرز مظاهرها وحدة القمر في علاقته بالإنسان والزمن. فقد جاء في دعاء السمات: "سبحان الذي جعل في السماء بروجًا وجعل فيها سراجًا وقمرًا منيرًا، سبحان الذي جعله للناس مرأً واحدًا"(1)، وهي إشارة دقيقة إلى أن القمر آية واحدة يشترك في رؤيتها جميع البشر، لا يختص بها مكان دون آخر. وهذا المفهوم يلتقي مع قوله تعالى:}وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا{ (نوح: 16)،

(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ ۖ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) (البقرة: 189).

تُظهر هذه النصوص أن القمر مظهر من مظاهر الوحدة الإلهية في الكون؛ إذ جعله الله تعالى آية جامعة للبشر كلّهم، "مرأً واحدًا" من حيث الخلق والتكوين، بحيث يتساوى الناس في النظر إليه، وإن اختلفت أزمان طلوعه وغروبه باختلاف مواقعهم. فالاختلاف هنا ليس في ذات الآية، بل في موقع الإنسان من الآية، أي في زاوية إدراكه للحقيقة الواحدة.

ومن هذا المنطلق، يظهر أن القول الفقهي بتعدّد الأفق في رؤية الهلال يمثل تعبيرًا تشريعيًا عن نسبية الإدراك البشري للظواهر الكونية، لا عن تعدّد في أصل الظاهرة نفسها. فالوحدة الكونية لا تُنكر، ولكن الشريعة تُناط بالرؤية الحسية التي تُدرَك من موضع الإنسان المحدود.

يقول الإمام الخميني: "إذا رؤي الهلال في بلدٍ، ولم يُرَ في بلدٍ آخر، فإن كان البلدان متقاربين في الأفق كفى في ثبوته، وإلا فلا"(2)، وهذا يعبّر عن ربط التكليف بمقدار ما يُشاهده الإنسان لا بما هو في علم الله الكوني.

وبذلك يمكن القول إن بين النص الدعائي "جعله للناس مرأً واحدًا" والنص الفقهي القائل بتعدّد الأفق توازنًا لا تعارضًا؛ فالأول يعبّر عن وحدة الخلق الإلهي، والثاني يعبّر عن نسبية الفهم البشري، وهو ما يعبّر عن أحد أوجه جدلية الوحدة والتعدّد التي تشكل محورًا في جدلية الدين والسلطة: حيث يعبّر الدين عن الوحدة الأصلية، فيما تعبّر السلطة (أو الفتوى) عن التطبيق المحلي المتعدد(3).

وبهذا يتجلّى القمر في انتظامه ووحدته شاهدًا على أن التنوّع في الرؤية لا ينقض وحدة الخلق، بل يعبّر عن محدودية الإدراك الإنساني أمام الكمال الإلهي. ومن ثمّ فإن اختلاف الأفق ليس اختلافًا في الحقيقة، بل تباينٌ في زاوية النظر إلى النور الواحد.

***

م. م: سُميِّة إبراهيم الجنابيَّ.

دكتوراه علوم إسلامية/ جامعة بابل

........................

([1]) دعاء السمات، من أدعية أهل البيت عليهم السلام، مروية في كتب الأدعية كـمفاتيح الجنان. للشيخ عباس القمي، (نقلاً عن أهل البيت عليهم السلام)، منشورات دار التعارف للمطبوعات، قم، الطبعة المعتمدة، 1423هـ، 557.

(2) روح الله الموسوي الخميني، تحرير الوسيلة، مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني، قم، الطبعة الثانية، 1415هـ، 1/271–272.

(3) ينظر: محمد بن يعقوب الكليني، الكافي، تحقيق: علي أكبر الغفاري، دار الكتب الإسلامية، طهران، الطبعة الرابعة، 1407هـ، 4/ 78. ومحمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، الطبعة الخامسة، 1417هـ، 2/ 47.

 

يعتقد المؤمنون بالجبرية اعتقادا فلسفيا او دينيا بان جميع أفعال الانسان ومقادير الكون كلها خاضعة للقدر، وان الانسان مسير ليس له قدرة الاختيار، او التأثير في تصرفاته او صناعة مستقبله بمعنى وضع (نفي الاختيار الانساني)، وعليه فان مسؤوليته عن أفعاله منتفيه ما دام ليس له قوة الاختيار، انما يحصل الفعل ذاك بإرادة خارجة عن ذاته، وتنسب أفعال الانسان عند الملتزمين بالجبر انها من الله تبارك وتعالى وهي تجري ضمن سنن الخلق التكوينية ويقرر هذا المسلك نفي قدرة الانسان على اكتساب الأفعال لأنه لا يملك إرادة مستقلة فلا يكون له كسب من أفعاله لكنه مسؤول عن سلوكه عقابا (الحساب الإلهي) على افعاله  وهنا يظهر ان في فقه الجبرية اشكال في عدالة الحساب والعقاب المنزه عنه الباري، طالما الانسان لم يخلق افعاله .وهذه النزعة هي النقيض لنظرية (حرية الإرادة) ويرى باحثون ان اصل هذه النزعة يعود الى الفكر التلمودي وانها تسربت الى الفكر الإسلامي في بواكير زمن الدولة الاموية قيل  ان من دعاتها الجعد بن درهم وابان بن سمعان ومنها صارت الفرقة الجهمية . والجعد بن درهم من الموالي من أهل الشام، وهو مؤدب مروان بن محمد الخليفة الأموي وهو شيخ الجهم بن صفوان الذي تنسب إليه الطائفة الجهمية اما بيان بن سمعان التميمي النهدي فهو من الغلاة، وإليه تُنسب الطائفة البيانية.

لقد وضع الاشاعرة في أصول الإسلام مبدأ الايمان بالقضاء والقدر في أصول الدين فصير هذا مستندا للاعتقاد بالجبر لأنه من الفهم السلبي للدين، ويتفرع عن القول بالجبرية  ان الانسان عاجز عن القيام باي شيء غير ما يقوم به فعلا، وعليه فهناك مبرر للتخلي من مواجهة التحديات، لأنه يعتقد انه لا مفر منها، ويقال ان بعض المذاهب الفلسفية الهندية ترى ان تناسخ الأرواح هو الأصل في الأيمان بالقضاء والقدر والجبرية ويرون ان الاحداث  والافعال حاصلة حتما  وان المستقبل مرسوم  مما يدعى بالحتمية  أي (عدم جدوى الإرادة الانسانية) فيكون من الوهم التخطيط البشري لمستقبلهم، ولا بد من تقبل احداث المستقبل المرسومة (الحتميات التاريخية)، فالمعرفة مهما بلغت لا تستطيع التنبؤ بالمستقبل طالما ان للطبيعة قانون قهري وان الله هو الذي يخلق أفعال الناس كما يخلقها في الجمادات انما تنسب الأفعال الى الانسان مجازا لانها من الله ولعل دوافع القول بالجبر والاعتقاد بملازماته تنبع عن

من الناحية السايكولوجية الرغبة في رفع المسؤولية عن الفرد، وتبرير (الحرية السائبة) للفرد عن أفعاله وعدوانه وسلوكه السلبي المدمر، وعلى المستوى السياسي ترى سلطات الاستبداد ان هذه النزعة رؤية فلسفية مطلوبة لأنها تقلل من الثورات ضد الحكام الجائرين  لذلك تم ترويج هذه المفاهيم في أوائل زمن الدولة الاموية ليبرروا السياسات القهرية الاجرامية والتنكيل والبطش التي كانت الميزة الرئيسة لدولتهم وتصلح نظرية الجبر وهي سلطة معرفية لإخماد كل الاحتجاجات التي تزعزع عروشهم (1) وهذه النزعة وان بدت من صنع الأنظمة الوراثية الاستبدادية الا انها  سرعان ما تمددت الى  المجال الفقهي واثرت على مجموع العقائد والأصول لاسيما عند من اعلنوا مولاتهم للسلطة الحاكمة، ويذكر ان الامام مالك اعلن بطلان بيعة الإكراه للمنصور لما سألته الناس عن مدى شرعية الالتحاق بمحمد ذو النفس الزكية، وحديث ان الله رفع القلم عما استكرهوا عليه لايعنى رفع المسؤولية عنه انما رفع ما يترتب على الاكراه  من الطاعة  وكان ملوك بني امية اول من دعوا الى القول بالجبر وشجعوا اعراب الرواية على الكذب على رسول الله (ص) واعقبهم العباسيون على هذا المنوال الا المامون

يقول د . سامي النشار - كان معاوية يعلن الجبر في الشام، ونقل قوله (ان لم يراني الله اهلا لهذا الامر ما تركني واياه فإنما قاتلتكم لا تامر عليكم (2)..) وعلى فكرة الجبرية نصب ابنه يزيد ملكا على المسلمين فلما اعترضت عائشة اجابها ان أمر يزيد قضاء من القضاء وليس للعباد الخيرة من امرهم (3). ومن معطيات الجبر في المجال السياسي

أ/ اجبار المسلمين على بيعة صورية لأي مستول على السلطة جبرا واكراههم على الإقرار بشرعية السلطة المتغلبة المستبدة

ب/ شيوع عقيدة ان الله هو خالق أفعال العباد كيفما كانت، تلك العقيدة التي قبلها من اهل السنة بعض الاشاعرة، ومن ذلك ما قاله ابن بطال القرطبي في شرح  البخاري ان (الفقهاء مجمعون على ان الامام المتغلب طاعته لازمة)

ج/ان الخط العام للفكر الجبري وامتداداته في الكلام الاشعري يوجب على الناس ان يتركوا السياسة وشأنها ويكتفوا بثمار الثروة وعلى العلماء ان ينشغلوا بالعلم بعيدا عن الاحتكاك بالسلطة او توجيهها او تغييرها ولقد استقرت مفاهيم الجبرية في العقل العام حتى القرن الرابع الهجري ومنها ما اعتبره الاشاعرة ايدولوجية مقابلة لنظرية  حرية الانسان واختياره عند المعتزلة فقالوا ان العبد غير قادر ان يخلق افعاله انما له الكسب فقط، فاذا أراد الانسان فعل امر ما، فان الله تعالى يخلق له القدرة على ذلك الفعل (4)

ومن أنواعها  الجبرية السياسية ويراد بها اثبات شرعية زائفة للحاكم المتسلط على الرغم من عدم  اختياره من الامة، وتبرير الإذعان لأمره، والتسليم ببيعة الاكراه دون التدقيق في حقيقتها، والمقصود ان يسلس انقياد الامة لحكام الجور وإشاعة عدم جدوى النقد السياسي للجائرين والمتغلبين  ومحاسبتهم    وتشكيل وضع قانوني ( لفقهاء البلاط) لتبرير امارة التغلب والاستيلاء الغاصب للسلطة لوصفه عندهم  انه (جزء من القدر الحتمي ) فيكون المستبد خارج المحاسبة والتقاضي، وتقبل الظلم الذي ينتجه الاستبداد ولكن بأدوات دينية مبررة بنصوص شرعية ومن الاستبداد توريث السلطة للأبناء ببيعة صورية  والخلاصة ان النزعة الجبرية أسهمت في :

- تبرير الاستبداد السياسي والدولة المتغلبة غير الشرعية ودعت الى طاعة الحاكم مطلقا وحرمت انتقاده ومحاسبته وعزله لأنها تشيع ان السلطان (قدر من الله) فلا يجوز الاعتراض عليه لأنه قضاء الهي فصارت الطاعة للحاكم واجبا دينيا

- نزع المسؤولية عن الظالم والفاسد لاعتقادها ان المظالم الاجتماعية من اقدار الله التي لا ترد ولان الله فرض على الناس الرضا بالأمر الواقع تحت طائل الايمان بالقضاء والقدر

- انهاء روح المعارضة وجهود الإصلاح والترقية السياسية والاجتماعية، وانهاء (المعارضة السياسية) واعتبارها خروجا عن الدين بحجة ان ذاك يخدم الاستقرار

- إضفاء القداسة على النظام الاستبدادي للربط بين القدر الإلهي والشرعية السياسية للمستبد

- اضعاف مفهوم المسؤولية الأخلاقية والسياسية وتلاشي مفهوم المحاسبة السياسية لان الاعتقاد ينص على ان كل شيء مكتوب

- تراجع قيمة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر في الشأن السياسي وتحجيم الفكر النقدي وضعف مفهوم الحرية العقلانية النقدية ليتاح للسلطة الهيمنة

ونلاحظ ان التيار المضاد للجبرية هو تيار المعتزلة الذي جعلوا العدل احد اهم عناصر منظومة أصول الدين عندهم وجعلوا الامر بالمعروف من اهم ركائز العقيدة الاعتزالية وتوسط اغلب الاشاعرة بين نظرية حرية الإرادة والاختيار وبين الجبرية فابتدعوا نظرية الكسب، واتفق الشيعة الامامية مع المعتزلة في هذا الصدد ان الجبرية نظرية تفضي الى دولة استبدادية دكتاتورية تحكم باسم الله ولا تراعي أي قيمة من قيم الحقوق السياسية للفرد والجماعة.

***

ا. د. عبد الأمير كاظم زاهد

..................

(1) الاشعري: مقالات الإسلاميين ص279/ الشهرستاني: الملل والنحل 1/87

(2) النشار: نشأة الفكر الفلسفي في لإسلام 1/231

(3) ابن قتيبة: الامامة والسياسة 1/ 127

(4) عضد الدين الاليجي: الموافق 3/214

 

من حرية المعتزلة الى جبرية المتوكل

قراءة الذات، وقراءة الواقع، وجهان لعملة واحدة، ففي الوقت الذي تعمد فيه إلى قراءة النص إنما تستجلي في الوقت نفسه قراءة الواقع، إذ لا ريب أن هناك أسئلة ملحة يطرحها علينا الواقع، ولا نجد لها إجابات مقنعه، نتوجه بفزعنا إلى التراث المخزون الذهني والوجداني لعله يسعفنا في الإجابة عن مشكلات الحاضر واستشرافات المستقبل.

ولا ريب أننا حين ننطلق لتوجيه أسئلتنا للتراث، لا ننطلق ونحن صفحة بيضاء، بل نعبر عن مواقف فكرية محددة. وفي ضوء هذا لا وجود لموضوعية مطلقة أبدًا لقراءة التراث، وليست هنالك قراءة بريئة أو محايدة، إذ كل قراءة إنما هي منحازة على نحو من الأنحاء.

وأحسب من زاوية أخرى أن هنالك تقابلًا واضحًا بين النص والواقع، ونحن في حقيقة الأمر لسنا سوى تناصات مختلفة ومتعددة للنصوص المقروءة الحاضرة والماضية، وفي الوقت نفسه تناصات لأحداث في الواقع، صحيح أن هذه التناصات للواقع وللنصوص ليست متماهية معها تمامًا، بمعنى أن الذات القارئة لا تستقبل النصوص والواقع استقبالًا سلبيًا، بحيث تستسلم لهما دون فرز أو مناقشة رفض أو حوار قد تقبل وقد ترفض، وفي مجمل هذه العملية يتكون الإنسان.

ولذلك فالإنسان العربي يتم تشكيله بكيفية تختلف تمام الاختلاف عن الإنسان الياباني عن الأوروبي بسبب اختلاف النصوص واختلاف الواقع.

وفي الوقت الذي كنت أقرأ فيه المعتزلة لم أكن أقرؤها منفصلة عن سياقاتها التاريخية والاجتماعية، نعم إن للمعتزلة وجودًا حقيقيًّا هناك في التاريخ والواقع الاجتماعي العباسي، وأنا أحاول إحضارهم من ذلك الوجود لأتحاور معهم وأنا هنا في تاريخ آخر، وواقع اجتماعي مختلف، وأطرح عليهم أسئلة ملحة ومحرجة في الوقت نفسه.

وليس من المخاتلة أنك حين تقرأ المعتزلة لا تستدعي الوجود الفكري المصاحب مؤيدًا أو معارضًا الأمر الذي كان يستحضر معه الشيعة، والأشاعرة والفلاسفة.. إلخ، وتستحضر في الوقت نفسه مؤسسات دينية واجتماعية سياسية كثيرة.

وأستحضر المحن التي تعرض لها المفكرون، محنة خلق القرآن، وما عانى منها الناس، ومن ثم محنة التخلف التي أرساها المتوكل، والتي لا تزال تعصف حتى الآن بكل محاولات التطور والتقدم، مما يدفعني إلى القول بأن المتوكل لا يزال يحكم العالم الإسلامي وهو في قبره

ولقد كنت في حالة انفصال عن الذات واتصال، انفصال عنه كونه يبتعد عنى وجودًا " بالمعنى الاجتماعي والتاريخي" واتصال به كون النص له وجود مادي أتفاعل معه، ويحدث حوار ونقاش وجدل، وكنت أجد في التراث الاعتزالي قيمًا تجاوزت عصرنا بالعمق والأصالة والابتكار، بل إنني أستطيع القول أننا متأخرون قرونًا عن الفكر الاعتزالي على كافة المستويات المعرفية والفكرية والاجتماعية.

ولذلك كنت أؤكد أن القراءة مولدة للمعاني وكاشفة للصور التي يتضمنها العالم والنص، ومن ثم فإنها تعيد إنتاج المقروء فكأن المقروء -عالمًا أو نصًّا- موجودًا، ويصبح بعد القراءة موجودًا آخر، لأن القراءة ليست نقلا للمقروء، أو إحضارًا له، وإنما يضفي القارئ على المقروء رؤيته، وذاته، وخصوصيته، ويتولد من العلاقة بينهما مركب جديد، ليس هو المقروء تمامًا، وليس هو القارئ بما هو عليه، وإنما هو مركب منهما معا بكيفية خاصة، ولذلك تتفاوت القراءات لاختلاف القراء، وكأن المقروء ثابت قبل القراءة، وتتغير صورته ومعانيه ودلالاته بفعل عملية القراءة التي ترتبط بخصوصية القارئ ورؤيته.

ويمكن القول تجاوزًا إن النص قبل القراءة يعرف استقرارًا نسبيًّا في دلالته ومعانيه، ولكنه، في الحقيقة، استقرار متوهم، إذ لا وجود حقيقي للنص إلا في أثناء قراءته، نعم هناك وجود موضوعي فيزيفي للنص خارج الذات الإنسانية، متمثلا في الكتب التي أنتجته، أو تقرؤه، ولكنه وجود هامد، أما وجوده الفعلي فهو يتحقق عبر قراءته.

وليست هناك قراءة صحيحة وقراءة خاطئة، وإنما هناك قراءة ممكنة يحتمل النص دلالاتها ويعكس القارئ رؤيته ومواقفه من خلالها، وهناك قراءة غير ممكنة، لعدم احتمال النص دلالتها، وبخاصة القراءة الإسقاطية.

وكنت أتبنى القراءة الفاعلة التي تؤكد أهمية تاريخية المقروء، بمعنى أنها تنفي المعايير والأحكام المسبقة القائمة على أساس ديني، أو مذهبي، ومحاولة تأمل أي ظاهرة في إطار سياقها التاريخي والاجتماعي، أي قراءة النص بوصفه موجودًا هناك في الماضي، وأن وجوده محكوم بسياقات معرفية وتاريخية واجتماعية، وأن اجتزاءه عن سياقه تعني قراءة ناقصة ومشوهة له.

إن التراث جزء من بناء معرفي أشمل، وجزء من منظومة، وينبغي فهمه في إطار منظومته، وإن إخراجه عن منظومته يعني فهما مخلا لطبيعته وماهيته.

وإن فهم التراث بوصفه موجودا هناك في إطار سياقه التاريخي لا يعني بالضرورة أنه منفصل عن القارئ، إذ يمكن تأمله وفهمه وإدراك دلالاته.

ففي القراءة الانطباعية الانفعالية التي تصدر أحكاما مسبقة على الأشياء وتقيم قراءة تتأسس على عقلانية منهجية تؤكد أهمية النظر، وتعلي من شأن التحليل والتعليل.

وليست هناك أسئلة تلح علي فحسب وإنما كانت هناك طموحات ورؤى وأماني كنت أتمنى حدوثها أو تحقيقها. لعل أبرزها كيف يمكن أن تستثمر هذا التراث العقلاني في حياتنا الفكرية والسياسية والاجتماعية على المستوى الأمثل.

وكيف ننتقل من الأحكام المسبقة القائمة على نفي الآخر ذهنيًّا وجسديًّا، إلى أحكام عقلية منهجية تقبل الآخر وتتحاور معه تمامًا كما كانت في الماضي، إذ يتعايش ويتحاور أصحاب الملل والأفكار، حتى الملاحدة كان لهم حضور في المشهد الثقافي، ولذلك ألف ابن الخياط المعتزلي كتابًا في الرد على ابن الراوندي الملحد!

ولعل مفهوم الصرفة الذي أرساه إبراهيم بن سيار النظام المعتزلي هو واحد من أكثر الأفكار جرأة وجسارة في كيفية النظر لإعجاز القرآن! سواء اتفقنا معه أم اختلفنا وإياه، فهو يرى ان الانسان قادر على ان يجيء بمثل ما في القرآن، ولكن الله صرفه عن ذلك

وأخيرًا كيف يمكن استبدال المعايير الانطباعية التي تحكم الحركة النقدية الى أحكام منضبطة يمكن الاتفاق عليها.

صحيح إن هذا يمثل حلمًا، لا يمكن له أن يتحقق أبدًا، حتى لدى الأسلوبية الاحصائية، كون الخصائص الفردية تؤثر في تحديد المعايير وكيفية توظيفها فضلا ًعن الاختلاف الحضاري حتى ولو أصبح العالم قرية، وهو كذلك الآن.

***

د. كريم الوائلي

 

في جرائم القاتل إد جين وتمثيلاتها الثقافية (2025-1957)

تشكل جرائم إد جين نموذجاً لإشكالية الشر الأنطولوجي، حيث تتجاوز هذه الجرائم تفسيرها كمجرد انحراف أخلاقي عابر لتكشف عن شر متجذر في صميم الوجود الإنساني، وهو ما دفع ألفريد هيتشكوك لاحقاً إلى استلهام هذه الجرائم في شخصية نورمان بيتس ضمن فيلم Psycho (1960)، مما مثل تحولاً سيميائياً نقل الشر من واقع تاريخي موثق إلى تمثيل سينمائي رمزي، حيث تحولت الواقعة الفردية إلى علامة ثقافية مفتوحة على التأويلات المتعددة والمُعاد إنتاجها جماهيرياً… وبعد أكثر من ستة عقود، يأتي مسلسل Monster: The Ed Gein Story (2025) ليعيد فحص هذه الإشكالية من خلال العودة إلى الجريمة الواقعية، حيث يمارس المسلسل ميتا-تأويل نقدي يفحص المسافة بين الجريمة التاريخية وأيقونتها الثقافية، مما يخلق دائرة هيرمينوطيقية تبدأ من الواقع المعيش لتمر بالتمثيل الفني وتصل إلى التأمل النقدي الذاتي.

إن إدوارد "إد" ثيودور جين (1906-1984) يتميز عن القتلة المتسلسلين الآخرين في طبيعة أفعاله التي تجاوزت القتل إلى تحويل الجثث البشرية إلى أدوات وظيفية وجمالية، حيث كان يصنع من الجماجم أوعية، ومن الجلد البشري ملابس وأقنعة، ومن عظام النساء أثاثاً منزلياً، وهذا التحويل للإنسان إلى شيء يمثل نقضاً للإنسانية في أصلها الأنطولوجي يتجاوز مجرد العنف… أما نبش جين للقبور (حوالي 40 زيارة ليلية لثلاث مقابر بين 1947-1952) فإنه يشير إلى علاقة مضطربة مع الموت نفسه كنقطة انتقال لاستمرار الاستخدام بدلاً من كونه حدثاً نهائياً، وعندما استلهم ألفريد هيتشكوك شخصية نورمان بيتس من جرائم جين، حدث تحول جذري في طبيعة تمثيل الشر، إذ لم يعد هيتشكوك يعيد سرد الواقعة، وإنما استخلص البنية الأسطورية للجريمة.

قدم فيلم المخرج هيتشكوك الجريمة كبنية نفسية قابلة للتكرار بدلاً من تقديمها كحدث تاريخي، فأصبح نورمان بيتس نموذجاً أولياً للقاتل المضطرب نفسياً، وهو ما سمح للجمهور باستهلاك الشر دون مواجهة رعبه الحقيقي، كما ألهم إد جين شخصيات أخرى منها ليذر فيس في مجزرة منشار تكساس (1974) وبافالو بيل في صمت الحملان (1991)، حيث استخلصت كل شخصية عنصراً محدداً من جرائم جين: الأقنعة الجلدية، العلاقة المضطربة مع الأم، تحويل الجسد البشري إلى مادة خام… ويمثل المسلسل الجديد Monster: The Ed Gein Story (2025) عودة نقدية إلى الحدث الأصلي، فعندما يقول تشارلي هونام: "أردت الاقتراب قدر الإمكان من شخصية إد الحقيقية... هذا سيكون الاستكشاف الإنساني والرقيق واللامتحفظ لمن كان إد"، فإنه يعلن عن مشروع العودة إلى ما قبل الأيقونة.

تتشكل الدائرة الهيرمينوطيقية من مراحل متتالية: الحدث الأصلي (جرائم إد جين في الخمسينيات)، ثم التمثيل الأولي (سايكو ومجزرة منشار تكساس في الستينيات والسبعينيات)، يليها الأيقونة الثقافية (استهلاك جماهيري للشر المُمَأسَس)، وصولاً إلى العودة النقدية (Monster 2025 - فحص المسافة بين الحدث والتمثيل)، والسؤال الأساسي يكشف عن التناقض الجوهري في علاقتنا مع الشر: هل نحن قادرون على مواجهة جوهره، أم أننا مجرد مستهلكين لصوره المعاد إنتاجها ثقافياً؟ وتتدرج مستويات الاستهلاك الثقافي للشر من الاستهلاك الآمن (مشاهدة أفلام الرعب كترفيه)، إلى الفضول المرضي (البحث عن تفاصيل الجرائم الحقيقية)، إلى التطهر النفسي (استخدام الرعب لمواجهة مخاوفنا الداخلية)، وصولاً إلى التأمل الفلسفي (فهم الشر كجزء من الحالة الإنسانية).

إن إعادة إنتاج قصة إد جين في 2025 تطرح سؤالاً أخلاقياً معقداً: هل تشريح الشر يساعد على فهمه أم على تطبيعه؟ كلما زادت دقة التمثيل، كلما اقتربنا من خطر الانبهار بالرعب بدلاً من فهمه، وجرائم إد جين تستمر في إثارة الاهتمام بعد سبعة عقود لأنها تكشف عن الشر كمعطى أنطولوجي يتجاوز مجرد الانحراف الاجتماعي، إنها تواجهنا بحقيقة أن الوحشية تنتمي إلى الطبيعة البشرية كعنصر كامن فيها. والمسلسل الجديد، من خلال عودته إلى الحدث الأصلي، يدعونا لمواجهة هذه الحقيقة بدلاً من الاكتفاء باستهلاك نسخها المخففة، وهكذا تظل قضية إد جين نموذجاً لدراسة تحولات الشر من حدث تاريخي إلى نص ثقافي مفتوح على التأويلات المتعددة، فإن عودة الاهتمام بهذه القضية في عام 2025 تمثل بحثاً عن فهم أعمق لطبيعة الشر في زمن تتزايد فيه أشكال العنف الرمزي والمادي، وربما يكون السؤال الحقيقي حول قدرتنا على مواجهة الشر دون أن نصبح جزءاً منه.

إن إشكالية الشر في قضية إد جين تبقى مفتوحة لأنها تمس جوهر الإنسان ذاته أعني تلك المنطقة الرمادية حيث تلتقي الحضارة بالوحشية، والحب بالدمار، والطبيعي باللاطبيعي.

***

عبد العزيز سعود الشريف

نحو تدشين التحرر الوطني واستكمال الاسترجاع الحضاري للأمة المضطهدة

مقدمة: في سياق القطيعة الكارثية التي أحدثها طوفان الأقصى، التي تتميز بالتحديات العسكرية، الاقتصادية، البيئية، الاجتماعية، السياسية والثقافية، تظهر فلسفة المقاومة والالتزام بالثورة والتغيير كأداة حاسمة لإعادة صياغة الوعي الإنساني والوطني والعالمي. يُشير مصطلح "طوفان الفلسفة" إلى التدفق الغزير للأفكار الفلسفية الجذرية التي تهدف إلى نقد الهيمنة العالمية وإعادة بناء الهوية الحضارية، بينما تعبر "فلسفة الطوفان" عن مقاربة فلسفية استردادية تتناول الأزمات السياسية الكبرى كفرصة للتجديد والتحرر. في سياق الأمم المضطهدة، التي عانت من الاستعمار والاستيطان والاستغلال، تصبح الفلسفة الانسانية التقدمية أداة لتصويب بوصلة الطريق نحو التحرر الوطني واسترجاع الهوية الحضارية. تستلهم هذه الدراسة أفكار يوسف كرم حول العقل والوجود، مع ربطها بسياق ما بعد الاستعمار وتحديات القطيعة الكارثية، لتحليل كيف يمكن للفلسفة أن تُسهم في تحرير الأمة المضطهدة واسترجاع دورها الحضاري.

طوفان الفلسفة وفلسفة الطوفان

يُمثل "طوفان الفلسفة" تدفق الأفكار الفلسفية التي تحمل إمكانية التغيير الجذري، مستلهمة من مفهوم العقل عند الفلاسفة الوجوديين، الذين يرون أن العقل أداة لإدراك الوجود وتجاوز الطبيعة إلى ما بعدها. أما "فلسفة الطوفان" فهي مقاربة ميتافيزيقية تستلهم من الأزمات الكبرى، مثل القطيعة الكارثية، لإعادة صياغة الوضع البشري . في سياق الأمم المضطهدة، تتجسد هذه الفلسفة في نقد الهيمنة الاستعمارية والعولمة، كما وصفها إدوارد سعيد (1978) في تحليله للاستشراق، وفي السعي نحو استرجاع الهوية الحضارية. يتطلب التحرر الوطني والاسترجاع الحضاري تصويب بوصلة التفكير الفلسفي نحو العدالة والاستقلال.

طوفان الفلسفة: إعادة صياغة الوعي الوطني

نقد الهيمنة العالمية:

يُشكل طوفان الفلسفة أداة لنقد الهيمنة الثقافية والاقتصادية التي فرضتها العولمة الاستعمارية. يرى سعيد أن المعرفة الاستشراقية شكلت أداة للهيمنة على الأمم المضطهدة، مما يستدعي فلسفة نقدية لتفكيك هذه السرديات. يمكن للفلسفة أن تُعيد صياغة الوعي الوطني من خلال تعزيز التفكير النقدي.

العقل كأداة تحرر:

يُعتبر العقل أداة أساسية لإدراك الوجود وتجاوز العروض الحسية إلى المعاني المجردة. في سياق الأمم المضطهدة، يمكن للعقل أن يُساهم في نقد الروايات الاستعمارية وبناء هوية وطنية مستقلة.

التفكير متعدد التخصصات:

يتطلب طوفان الفلسفة دمج الفلسفة مع العلوم الإنسانية، كما في دراسات ما بعد الاستعمار، لفهم تأثير العولمة على الهوية الحضارية. هذا التمازج يعزز القدرة على تصويب بوصلة التفكير نحو التحرر.

فلسفة الطوفان: الأزمات كفرصة للتجديد

القطيعة الكارثية كمحفز:

تُشكل القطيعة الكارثية، بما فيها من أزمات بيئية واجتماعية، فرصة لإعادة التفكير في الوضع البشري. يرى فريتيوف كابرا (1996) أن الأزمات البيئية تتطلب نهجًا شموليًا يدمج الفلسفة مع العلوم لفهم الأنظمة المعقدة. فلسفة الطوفان تستلهم من هذه الأزمات لتجديد الهوية الحضارية.

التحرر الوطني:

تُقدم فلسفة الطوفان إطارًا للتحرر الوطني من خلال إعادة صياغة الرؤية للعالم. يشير فرانز فانون (1961) في معذبو الأرض إلى أن التحرر الوطني يتطلب تحرير الوعي من الهيمنة الاستعمارية، وهو ما يمكن تحقيقه من خلال الفلسفة النقدية.

الاسترجاع الحضاري:

يتطلب استرجاع الهوية الحضارية إعادة بناء المعرفة المحلية التي هُمّشت بفعل الاستعمار. يمكن لفلسفة الطوفان، باستلهام من كرم، أن تُعيد الاعتبار للعقل العربي الإسلامي كأداة للنهضة.

دور الفيلسوف في تصويب بوصلة الطريق

كما ذكرت في تعليقاتك السابقة، فإن دور الفيلسوف لا يقتصر على إشهار المعرفة، بل يمتد إلى التعريف بأنماط إنتاجها، وهو ما ينسجم مع طوفان الفلسفة وفلسفة الطوفان.

تعزيز التفكير النقدي:

يمكن للفيلسوف تعليم طلاب الحقيقة كيفية نقد الروايات المهيمنة، مستلهمًا من فوكو (1980)، الذي يربط المعرفة بالسلطة.

التعليم الفلسفي الملتزم:

يُساهم دمج فلسفة كرم في المناهج في تعزيز وضوح الرؤية، كما ذكرت في تعليقك حول "التدرب على وضوح الرؤية وسط التباس العالم"، مما يساعد في بناء هوية وطنية مستقلة.

التعليم متعدد التخصصات:

يمكن للمربي دمج الفلسفة مع العلوم الإنسانية لفهم تأثير العولمة على الأمم المضطهدة.

استخدام التكنولوجيا:

يمكن استخدام منصات مثل X لنشر أفكار فلسفية نقدية تشجع على التحرر الوطني واسترجاع الهوية الحضارية.

تحديات تصويب بوصلة الطريق

الهيمنة الثقافية:

تُعيق الروايات الاستعمارية استرجاع الهوية الحضارية.

التفاوت في التعليم:

يعاني العديد من الأفراد في الأمم المضطهدة من محدودية الوصول إلى التعليم النقدي.

التحديات التكنولوجية:

قد تُعزز التكنولوجيا الروايات المهيمنة بدلاً من نقدها.

الحلول المقترحة:

تطوير مناهج تعليمية تركز على نقد الهيمنة.

زيادة الاستثمار في التعليم في الأمم المضطهدة.

استخدام التكنولوجيا بشكل نقدي لتعزيز الوعي الوطني.

توصيات لتدشين التحرر الوطني واسترجاع الهوية الحضارية

دمج الفلسفة النقدية: إدخال أعمال كرم وسعيد في المناهج التعليمية لتعزيز التفكير النقدي.

التعليم متعدد التخصصات: ربط الفلسفة بدراسات ما بعد الاستعمار لفهم تأثير العولمة.

تعزيز الحوار العام: تنظيم منتديات فلسفية لمناقشة التحرر الوطني.

استخدام التكنولوجيا: تطوير منصات رقمية تنشر أفكارًا فلسفية تدعم استرجاع الهوية الحضارية.

إعادة إحياء التراث: التركيز على التراث الفلسفي العربي الإسلامي كأساس للنهوض الاجتماعي.

خاتمة

إن طوفان الفلسفة وفلسفة الطوفان يُشكلان إطارًا قويًا لتصويب بوصلة الطريق نحو التحرر الوطني واسترجاع الهوية الحضارية للأمة المضطهدة. من خلال دمج العقلانية الفلسفية الملتزمة، مع نقد الهيمنة العالمية، يمكن للفلسفة أن تُسهم في إعادة صياغة الوعي الوطني وبناء مستقبل مستدام وعادل. في زمن القطيعة الكارثية، تظل الفلسفة أداة لتحرير العقل العربي والوجود الإسلامي والضمير الانساني التقدمي. فكيف يمكن ان تستكمل فلسفة الطوفان عملية طوفان الأقصى البطولية على مستوى العقل والارادة وفي سياق النظر والفعل؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

قراءة مقارنه بين الحضارة الغربية والعالم الإسلامي

يشكل الدين عاملا مهما في اعراف المجتمعات وثقافتها، وخياراتها الاجتماعية والسياسية، ويحتل مكانة في القلوب والضمائر، وفي ذات الوقت يمكن استغلاله للهيمنة والتسلط وفرض نمط من القراءة على الاخرين، ان الذي تركز علية هذه الورقة، هو العلاقة السببية المتبادلة بين الدين والحضارة، وهي قراءة علمية مقارنة للمشهد التأسيسي لكلا الحضارتين في العالم العربي والإسلامي (كمراجعة تاريخية تحليلية) واثارهما في معضلات راهنة مثل تقبل المواطنة والديمقراطية والعلمنة.

أولا: تعد الحضارة الغربية أقدم زمنيا من الحضارة الإسلامية وقد بدأت بفعل ثقافي تولد من بوابة الفلسفة، وبالاستعانة بمنهجية تنظيم الفكر البشري من خلال اختراع (المنطق) لان الإشكالية المركزية فيها كانت تعدد اختلاف وجهات نظر البشر حول الظواهر الكونية والمشكلات الفكرية لاسيما مع ظهور السفسطائيين الذين لا يجابهون الا بمنهج ضابط للتفكير فكانت التعددية والبرهانية من لوازم الاختلاف الفطري في الآراء التي ليس لبعضها تمييزا على البعض الاخر.

لقد بدأت حضارة الغرب من نشأة المدينة (أثينا)، والمدينة تعني تكون مجتمع له كيانه وقوانينه و تحدياته وتطلعاته بحسب ظروفه وله احتياجاته ألتي ينظمها القانون وهو مشروعها الحقوق والاستحقاقات، وتتمتع بمدار فلسفي للجهد الإنساني الفردي والاجتماعي لذلك اهتمت تلك (المدينة) المتحضرة الاوربية بإنتاج الفلسفة لبناء التصورات والقيم والبرهان، واهتمت بإنتاج لائحة الحقوق الخاصة والعامة، وصار المدار والمعيار هو (المصلحة البشرية)، وتنامى التفكير في اليات السلطة حتى وصلوا الى مفهوم العقد الاجتماعي وكان الجهد المدني للحضارة جهدا تراكميا أفرزته (المدينة الاوربية) مقابل المجتمع الرعوى، او البدوي، او الزراعي الذي تخطته التجربة الغربية فيما بعد للمجتمع المعرفي.

ولما جاءت المسيحية الى اوربا، وقام القديس بولس بتشكيل نسختها الاوربية، بقت المدينة هي مرجعية النهضة، مع منافسة الدين لها وعادة فان (المدينة) تزيح الأديان، اذ في تصورها ان الدين رؤيه ماضويه لا يتسع للحداثة، لذلك سعى الغربيون الى التعامل مع الدين في اضيق مهماته وهي ترصين الشأن الشخصي وتم الغاء أي دور له في دورة التحولات الاجتماعية واستجاب الدين المسيحي الى ثنائيه (الله \ القيصر) بعد نزاع طويل مع قوى المجابهة مع الكنيسة ورغم ان المسيحية كانت السبب في سقوط الامبراطورية الرومانية الا انها لم تهتم بالفلسفة والعلوم والقانون، ماعدا القانون الكنيسي الذي تأثر كثيرا بالقانون الاقطاعي، لكن الانصاف يقتضي الاعتراف بان المسيحية سعت الى تشكيل القيم الروحية والاخلاقية، بينما كانت حضارة المدينة وراء اكتشافات الفنون والعلوم والآداب ووراء التحولات في المجالات الاقتصادية والاجتماعية واخيرا فقد رست اوربا في المفاهيم المسيطرة على التطور الاجتماعي الاوربي على قيم الفردانية والديمقراطية وحريات (المعتقد، والرأي، والتعبير) واختارت العقلانية مقابل حاكميه النصوص الدينية في فهم الظواهر الكونية والاجتماعية لكنها لم تطهر نفسها من (الاستعمار والظلم الاجتماعي للشعوب المستضعفة والتحيز العرقي، ونهب ثروات الشعوب، وحروب الابادة المتوحشة)

ويظن باحثون ان السبب في تناقص مكانة الدين التي كانت محدودة، فلان الدين لم يؤسس حضارة الغرب ويلاحظ ان التاريخ الغربي ارتبط بتيارات من الاصلاح السياسي والديني لان الفكر الغربي فكر مرحلي اجتهادي قابل للنقد وتجاوز الظروف له فاحتاج الى موجات من حملات الاصلاح والتعديل، ولم تكن غير (المصلحة العامة المتغيرة) والتي لا ضابط لها هي المدار والمعيار

لقد دخلت اوروبا عصر الحداثة في القرون الثلاثة من القرن (17 _19) وبها ألغت تماما اي دور مركزي للدين، حتى اجبرت الكنيسة على الاعتراف بالثنائية (الدنيوية/ والدينية) فلم تكن الكنيسة عند اذن مؤسسة موازية للدولة، فكان الدين امرا عرضيا، ومرت اوروبا بعصور اتسمت دائما في تحدي للدين، ولم تدع له الفرصة في ان يشكل حضارتها، سواء في عصور ما قبل الحداثة او عصور ما بعد الحداثة

ثانيا : اما في جانب الحضارة الاسلامية، فان المسلمين زحفوا الى يثرب لتحويلها الى (المدينة المؤسسة للحضارة) التي تعني البدء بإقامة حضارة، فكانت التأسيسات الاولى دينية ب (وثيقة المواطنة المشتركة المسماة: وثيقة المدينة)واجراء المؤاخاة بين المهاجرين والانصار، وبناء المسجد، وتأسيس المجتمع المتجانس، وتأسيس الحكومة، والدستور، والمنهج السياسي، فكانت المدينة الدينية هي التي شكلت الحضارة، في عالم كان يخلو من منهج حضاري (بديل) او منافس بحيث لم يحدث تدافع بين منهجين حضاريين، فلم تحصل علاقة عكسية بين المدينة ذات (المجتمع المتنوع) وبين الدين، واغلب الظن ان الترتيبات الاساسية لحضارة (مدينة يثرب) لن تكن دينية محضه انما كان برنامج يثرب دعوة مدنية تعتمد على المواطنة والشورى والثقة بين عموم الناس من جهة وبين الحكومة والمحكومين من جهة اخرى ولم تتأثر (نظرية المدينة) بالنمط الاقتصادي سواء في مكة (كونها المركز التجاري) ولا في المدينة كونها بيئة زراعية وصيرفيه والمشروع الحضاري في (المدينة يثرب) لم يغلق الباب على نفسه إنما تطلع للاطلاع والإفادة من الحضارات المعاصرة له فكان نمط تطلع لحضارة (أثيوبيا : فكرة العدل) والفرس، والروم، وقد تعامل مشروع يثرب معها إيجابيا، وهكذا يسعى المشروع إلى تكوين نظام اجتماعي، وليس هناك نص صريح ينص على أن مشروع المدينة الحضاري التأسيسي، هو الذي يجب أن يتبع في تأسيس المدن الحضارية الأخرى في مرحلة تطور الحضارة الإسلامية وازدهارها (البصرة، الكوفة، دمشق، مصر) وقد تمازج الوحي مع السياق الثقافي الجديد الذي إنشاته هذه الحضارة بل شكل الوحي المرتكز والمعيار العابر للأزمنة وموجات الحداثة، ولأنه مقبول ومتقبل من كل المسلمين فقد صار عاملا أساسيا في وحدة المسلمين على اختلاف تنوعاتهم وثقافاتهم وبيئاتهم الاجتماعية

وإذا كانت بعض المفردات الثقافية الموجودة في بيئة نشأة الحضارة الإسلامية الجديدة غير ملائمة لبرنامجه فإن الإسلام غيًر ما لا يتفق مع القيم النبيلة التي جاء بها، وأوجد نسقا جديدا، ثم احتوى حضارة الفرس والمسلك العرفان فيها، وحضارة الروم والمسلك التجريبي العقلي، وجعلهما ضمن تصوره الحضاري لذلك: فإنه لما كانت تتصف به أوروبا من اعتياد ثقافة السؤال، فكان لابد للفلسفة ان تكون عاملا من عوامل مكوناتها وصيرورتها بينما العالم الإسلامي تلقى التكوين الحضاري من نص ديني مقدس ذات مضامين مدنية، فصار يلزم للسؤال تقديم مسوغات لان الاصل التلقي، وزاد في ذلك أن موقف النخبة الدينية الإسلامية قد وقفت من الفلسفة مواقف متعددة أغلبها متشدد وسلبي، ووصفت بأنها تعارض الإيمان، فخضع السؤال والنقد لضرورة تقديم المبررات التي يجب يقدمها الناقد قبل الممارسة الفعلية

ولأن ثقافة الغرب - ثقافة بشرية - فكان التعدد والتنوع ينطلق في مستوى واحد للشرعية، فلا ميزة لرأي على أخر وعليه فالتعددية حالة أساسية، في حين حضارة الإسلام ميالة إلى ثقافة النمط، وما تجاوز النمط يحتاج الى تسبيب ومبررات ولأن الآراء لها مستوى واحد من الاعتبار فاعتمدت البرهانية كمعيار للتفاضل والترجيح، بينما في الغرب نجد تدافعا بين معطيات الحضارة المدنية والحضارة الدينية وعلى مستوى واحد في حين ان للشرع في حضارتنا هناك أعلوية للمقولات الدينية على المفاهيم والأفكار المدنية ولعل رؤى الغرب للحاضر وللمستقبل أكثر من الماضي بينما الحضارة الدينية في العالم الإسلامي يشكل التاريخ مكونا أساسيا

وما تقدم يفسر لنا صعوبة تطبيق الديمقراطية بنسختها الأوروبية في جغرافيا العالم العربي والاسلامي الذي حكمته (هيمنة بيعة الخليفة) الذي يمسك بيده كل السلطات المدنية والدينية، فصار تطبيق الديمقراطية فيه صعب صعوبة بالغة ويفسر لنا: الموقف الصارم ضد العلمنة بكل أشكالها حتى (العلمانية المؤمنة لأن الأصل في العلمانية طبيعة دنيوية، ومكون الحضارة الإسلامية مكون ديني ويفسر: صعوبة تقبل مفهوم المواطنة وأولوياتها على أممية الاعتقاد، لأن مفهوم الأمة في تطور هذه الحضارة مفهوما عقائديا. ويفسر لنا: الدور الذي تمنحه حضارتنا للتاريخ ومشكلاته وللدين واختلاف قراءاته، أكثر من الدور الذي يجب أن يمنح للتقدم والرفاه، ويفسر: لنا أن الحريات في حضارتنا مقيدة بالدين والنظام العام لكل ذلك:

فأن أي محاولة لاجراء التحولات الجذرية في حياتنا ستكون مرتبطة بالمكونات التي أسهمت في نشأة حضارتنا. وعلينا أن نجد حلولا لهذه المعضلة.

***

ا. د. عبد الأمير كاظم زاهد

كثيرة هي المفاهيم الأبوية التي شيّأت المرأة وجعلتها بلا هوية إنسانية مستقلة، وتعاملت معها بطريقة تحافظ على امتيازات الرجل المهيمن، حتى وأن أهدرت كرامتها.

كان لمصطلح أو لمفهوم العِرض الدور الأكبر في تحويل الأنثى الى مفهوم رمزي يُتملك ويدافع عنه، بدل أن تُعامل كإنسانٍ له كيان وكرامة مستقلة. عندما يقال العِرض يختزل الإنسان الى جسده، والى منطقة الخطر الأخلاقي، وهنا تصادر كرامة الإنسان ككائن حر مسؤول عن ذاته .

كلمة العِرض في الأصل كانت تُطلق على السمعة والشرف، سواء للرجل أو للمرأة.

لكن مع مرور الزمن، تم تضييق المفهوم حتى صار يُقصر على جسد المرأة تحديدًا، أي على “عفتها الجنسية”، وكأنّ شرف العائلة أو القبيلة كلّه معلق بجسدها وحدها. هذا التحوّل جعل المرأة رمزًا يُدافع عنه، لا ذاتًا تُحترم.

 فصارت العلاقة بها علاقة "ملكية" لا "شراكة"، والرجل صار "حارس العرض" لا شريك الحياة، وصارت الغيرة على العرض كأداة سيطرة، فتحولت من معناها الوجداني الطبيعي إلى أداة ضبط وسلطة .

من خلالها يُبرَّر:

 تقييد حركة المرأة. منعها من التعليم أو العمل،

 فرض العزلة الاجتماعية عليها .

وفرض قيود على حرية الرأي والتعبير، ومراقبة جسدها وكلامها وسلوكها، حتى طريقة ضحكها أو نظراتها.

في المجتمعات المنقسمة أو التي تعيش حروبًا وصراعات، تُستخدم قضية الشرف والعِرض لتعبئة الرجال وشحنهم بالعنف، وكأنّ الدفاع عن النساء يعني بالضرورة حمل السلاح. فبأسم العرض صارت ترتكب الجرائم وتشن الحروب، وفي النهاية، المرأة نفسها تُقتل أو تُسجن باسم حمايتها.

بهذا الشكل، تتحول المرأة إلى رمزٍ مجرد، لا صوت له، رمزٍ يُرفع في الخطابات، ويُضحّى به في الواقع.

ومن الغريب أن هولاء الذين يتاجرون بالعرض هم أول من يهمشونها ويبتزونها ويحمّلونها ذنب العلاقات أو "الفتنة" ويستبيحون جسدها تحت مسميات شرعية أو اجتماعية.

ومن منظور أنثروبولوجي، يمكن القول إنّ مفهوم العرض اشتغل كـ أداة رمزية للضبط الاجتماعي، توازي في تأثيرها السلطة السياسية أو الدينية. إذ تمّ من خلاله تشكيل وعي جمعي يرى في المرأة حدًّا للهوية الجماعية، وفي جسدها حدودًا للشرف يجب حمايتها بالقوة. ومن هنا نشأت "الغيرة" كمفهوم قيمي مضاد للحرية، أي بوصفها ممارسة سلطوية تُعيد إنتاج البنية الأبوية، وتُعيد الرجل إلى موقع الحارس والمالك، والمرأة إلى موقع المحروسة والمملوكة.

وها نحن ندور في مفاهيم تعيد النساء الى تصور أحادي، وهو أن المرأة ينحصر وجودها في الجسد، يُضيق عليه ليحمى ويكون تحت طوع " الحامي "، حتى وأن أهدرت كرامته!.

***

ا. د. بتول فاروق - بغداد

٦/ ١٠ / ٢٠٢٥

سألني صديق في معرض نقاشنا حول تأثير البيئة على الأخلاق: كيف يتم التغيير؟ وها أنا أحاول الإجابة على هذا السؤال المرعب، لأن رهاب التغيير يتملكنا كلما فكرنا أو حاولنا تجاوز الوضع القائم.

كثيرا ما يتبادر إلى أذهاننا حين سماع مثل هذا السؤال ثنائية الفرد والمجتمع، أو الإصلاح والثورة، بمعنى، من المسؤول عن التغيير؟ أهم الأفراد أم البُنى والمؤسسات؟ ثم كيف يتم التغيير؟ أيكون عن طريق إصلاح أفكار ومعتقدات الأفراد، أم عن طريق التغيير الجذري، أي الثورة؟

أعتقد أن هذه الثنائيات هي قوالب فكرية مضللة. التغيير لا يحدث من خلال إصلاح الأفراد فقط، ولا هو محض أوامر فوقية تمليها البنى أو تتنزّل من المؤسسات. التغيير هو عملية ديناميكية تفاعلية بين الفاعلين والأنساق، بين الفرد والمجتمع، بين المواطن ومؤسسات الدولة. ثم أن هذا التغيير لا يستوجب بالضرورة أن تكون البداية من الوحدات الصغرى، أي الأفراد، من خلال البرامج الإصلاحية التي تشمل كل المجالات المجتمعية. أو أن نجاحه (التغيير) مرهون بحتمية ثورية هدفها التغيير الجذري والقطيعة الشاملة.

فأول ما يجب أن نتجاوزه هو معضلة الثنائية هاته التي تشتت جهود التغيير في صراعات فكرية وحروب كلامية لا طائل منها ولا فائدة تجنى من ورائها سوى الانشغال عن التغيير الحقيقي. كما علينا أن نتيقن من أن التغيير هو الأفكار التي استوعبها الواقع فأحدثت ديناميكية زعزعت الوضع القائم وغيرت معالمه. فكثيرة هي الأفكار القيمة التي لا تجد لها صدى في قلوب الناس وعقولهم، فتسقط كما تسقط الثمرة الناضجة فوق الأوساخ المتراكمة حول الشجرة فيعافها الناس، بل قد تثير اشمئزازهم بدل شهيتهم.

لطالما كانت جدلية الفرد والمجتمع، أو الفاعل والنسق، محّل تجاذبات فكرية بين علماء الاجتماع. فقد رجّح الكُلآّنيون Holistes)) أسبقية المجتمع على الفرد، وأقرّوا بأن هذا الأخير ليس سوى قارئ مطيع لتعاليم البنى والأنساق، أو ما أسماه دوركايهم "الضمير الجمعي". أما الفردانيون Individualistes) ) فقد حاججوا بأولوية الفرد الذي سُمي في عرفهم "الفاعل "Acteur، وأكدّوا على قدرته على تغيير الواقع. ثم ظهرت نظريات توفيقية حاول روادها إيجاد حلّ لهذه المعضلة والوقوف موقف الوسط بين الفرد والمجتمع.

من هنا نقول أن التغيير ليس منوطا بالفرد وحده، ولا هو قوة سحرية يمارسها المجتمع على الأفراد دون إرادة منهم، بقدر ما هو عملية تفاعلية معقدة يساهم فيها الأفراد، بكل تـأكيد، لكنه (التغيير) قد لا يحدث على الرغم من سعي الأفراد إليه، كما أنه قد يحدث دون رغبة منهم.

يجادل المحافظون في أن التغيير لن يتأتى إلا من خلال إصلاح ما فسد من أفكار ومعتقدات وقيم، فلا يصلح حال المجتمع إلا بصلاح أفراده. أما الراديكاليون فيعتقدون أن التغيير لن يحدث إلا من خلال الثورة التي تقضي على الوضع القائم ورموزه. أما التوفيقيون فيدّعون أن هناك فترات يحتاج فيها المجتمع إلى إصلاح، ولن يحدث التغيير، في فترات أخرى، إلا من خلال الثورة.

لم يتغير حال المجتمعات الأوروبية من شكلها التقليدي الزراعي إلى مجتمعات صناعية حديثة لو لا الاكتشافات العلمية والثورة الفكرية التي ساهم فيها الفلاسفة والمفكرين، ولو لا الإصلاحات الدينية التي حررت العقل الأوروبي من هيمنة الكنيسة. هذه النقلة التي غيرت وجه المجتمع الأوروبي بدءا من الثورة الكوبرنيكية إلى غاية الثورة الفرنسية كانت، في اعتقادي "إصلاحات ثورية"، أي لم تكن إصلاحات ناعمة تتعاطف مع الماضي أو تخشى سلطة الحاضر، بل كانت إصلاحات جريئة حطمّت الأوهام كما كان الحال مع كوبرنيكوس وفرنسيس بيكون، وتحدّت سلطة الكنيسة كما حدث مع مارتن لوثر.

فشلت الإصلاحات في المجتمعات العربية لأنها تخلّت عن طابعها الثوري، وأخفقت الثورات في هذه المجتمعات لأنها تخلّت عن شقها الإصلاحي. الإصلاح الناعم الذي لا يزعزع المعتقدات الراسخة ولا يقضّ مضجع المستفيدين من الوضع القائم ولا يحرك مشاعر أولئك المصابين بفوبيا التغيير، لا يعدو كونه جعجعة بلا طحين. أما الثورات الشعبية الصلبة التي تأتي على الأخضر واليابس، والتي لا يدعمها الإصلاح، فهي مجرد صرخات للمقهورين والمظلومين سرعان ما تخمد نارها كالبركين بعد أن تدمر كل ما اعترض طريقها.

الإصلاح الثوري، في اعتقادي، هو الوسيلة المثلى للتغيير، فلن ينجح إصلاح دون تفكيك أو نفي أو تدمير، فقد سكّ عالم الاقتصاد النمساوي جوزيف شومبيتر مصطلح "الهدم الخلاق" " destruction créatrice" ليشرح الكيفية التي يتم من خلالها التغيير الإيجابي الذي لا يبني إلا بعد أن يهدم. وحتى عملية الإصلاح التي تهدف إلى تهذيب وإصلاح ما فسد لن تنجح ما دامت الأفكار والمعتقدات والسلوكات الفاسدة موجودة وفاعلة. لن تنجح عمليات التغيير ما لم نهدم البنى والأنساق، الأفكار والمعتقدات، الأفعال والسلوك، التي ساهمت في انتاج الفساد. الدواء الفعال لم ينجح في علاج الداء إلا بعدما قضى على مسبباته.

أخفقت المجتمعات العربية في الإصلاحات كما في الثورات منذ النهضة التي بدأت في القرن التاسع عشر، وإن كان العامل الخارجي أحد الأسباب التي عطلّت هذه النهضة، فإن العوامل الداخلية هي التي مازالت إلى حدّ الساعة تقف كحاجز أمام كل محاولات التغيير. وأهم هذه العوامل في اعتقادي هو الاحتماء بالماضي أو ميكانيزم الرجوع إلى الأصول، كما وصفه محمد عابد الجابري، هذه الألية الدفاعية هي من تُبطل مفعول الإصلاح، وتجعل عملية الهدم تبدو وكأنها من المحرمات. كذلك من الأسباب التي تُعطل محاولات التغيير في مجتمعاتنا العربية هي حتمية الخيار بين الفتنة أو الاستبداد، كما قال محمد جابر الأنصاري، والتي تجعل كذلك من يطالبون بتحطيم وهدم ركائز الاستبداد يبدون وكأنهم عملاء وخونة ومؤججين للفتن.

الإصلاح الثوري هو منهج في التغيير المستدام يحمي المجتمعات من الوقوع في فخ الجمود والتكلّس. هو ألية للانتقال السلس والمستمر من حالات الانغلاق والتقوقع الناتجة عن تقديس الماضي ورموزه وفوبيا التغيير التي تزكيها السلطة المستفيدة من الوضع القائم.

***

د. تركي لحسن

 

منذ بزوغ فجر الفلسفة والإنسان مشغول بالسؤال الوجودي عن الزمن: ما هو؟ وما علاقته بالوجود والفعل الإنساني؟ وقد تباينت المقاربات باختلاف العصور والأنساق الفكرية. فأرسطو (384–322 ق.م) حدَّد الزمن بأنّه «عدد الحركة بحسب قبل وبعد»، أي مقياس للتغير والتحول، وهو تصور يتوافق مع النزعة الطبيعية المادية للفلسفة اليونانية الكلاسيكية. بينما رأى الرواقيون (القرن الرابع، الثالث ق.م) أن قيمة الإنسان تتحدّد بمدى استثماره لأيامه واستيعابه لمحدوديّة العمر، وهي رؤية أخلاقية وجودية تتقاطع مع روح التصوف في تركيزها على الحاضر وتهذيب النفس. أمّا أوغسطين (354–430م) فقد جعل الزمن متصلًا بالوعي والذاكرة الداخلية للإنسان، وهو تصور يكشف عن عمق البعد الروحي والميتافيزيقي في الفكر المسيحي المبكر.

وفي الفكر الإسلامي، نبّه أبو حامد الغزالي (450–505هـ) في إحياء علوم الدين إلى أن العمر هو رأس المال الحقيقي، وأن التفريط في لحظة واحدة خسران لا يعوَّض. وقد عمّق ابن الجوزي (510–597هـ) هذا المعنى حين قرر أن «أنفاس الإنسان هي حياته». ثم جاء ابن تيمية (661–728هـ) ليقرر أن «الوقت هو رأس مال الإنسان الحقيقي»، وأن ضياعه أعظم من الموت؛ إذ إن الموت يقطع الإنسان عن الدنيا، بينما ضياع الوقت يقطعه عن الله والدار الآخرة. كما ربط ابن تيمية بين البعد الفردي والبعد الجماعي، معتبرًا أن إهدار الأوقات يضعف الأمم ويؤدي إلى انحطاطها، وهو ما يتناغم مع ما قرره ابن خلدون (732–808هـ) في المقدمة حول أثر البطالة والترف في سقوط الحضارات. واعتبر ابن القيم (691–751هـ) أن العارف الحق «ابن وقته»، لا يملك إلا لحظته الحاضرة التي إن لم يستثمرها ضاعت منه وفقد وجوده الفاعل، وهو تصور يتناغم مع المسحة الصوفية التي تجعل من الحضور واليقظة شرطًا للسلوك الروحي.

أما في الفلسفة الحديثة، فقد توقف بليز باسكال (1623–1662م) عند عجز الإنسان عن استثمار عزلته وفراغه، معتبرًا هروبه الدائم من ذاته علامة ضعف وجودي. ثم جاء إيمانويل كانط (1724–1804م) ليرى أن الزمان شرط قبلي لتنظيم الخبرة الإنسانية وإدراك الظواهر، وهو تصور يضع الزمن في قلب البنية المعرفية للعقل. وأما هنري برجسون (1859–1941م) فقد أعاد تعريف الزمن باعتباره «مدّة ذات روح وحياة» تتدفق في الوعي الداخلي بعيدًا عن الحسابات الكمية للثواني والساعات، وهو تصور يعبّر عن الفلسفة الحدسية العقلية التي تؤكد الخبرة الذاتية على حساب الكميّة المجردة. بينما جعل مارتن هايدجر (1889–1976م) الوجود الإنساني مرهونًا بوعي الإنسان بفنائه، بحيث يستمد الزمن قيمته من حضوره نحو الموت، وهو تصور يتوافق مع النزعة الوجودية التي تجعل القلق طريقًا إلى الأصالة. وفي المقابل، رأت حنا أرندت (1906–1975م) أن الفراغ ليس بطالة ولا خواءً، بل هو المجال الذي تنبثق فيه الحرية والإبداع. وأخيرًا ذهب ميشيل فوكو (1926–1984م) إلى أن الزمن ليس مجرد إطار محايد، بل هو مجال تتخلله السلطة عبر تنظيم الإيقاعات اليومية وضبط الفراغات بما يخدم البنى السلطويّة.

وتُظهر هذه المقاربات التي سقناها أن الفلاسفة والمفكرين جعلوا من الزمن ميدانًا لجدل أنطولوجي وأخلاقي عميق، وأدركوا خطورة الفراغ والوقت المهدر. غير أنهم – رغم عمق تحليلاتهم – لم يسعفهم النظر الفلسفي في صياغة معيار جامع يوازن بين البعد الفردي والبعد الغائي الوجودي للإنسان. فبقيت رؤاهم متفرقة ولم تنتظم في نسق تكليفي متكامل.

وهنا ينهض الحديث النبوي الشريف بكلماته الموجزة الجامعة: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ» ليؤسس لرؤية وجودية ومعيارية للزمن والفاعلية الإنسانية. حيث لا يتعامل مع الصحة والفراغ بوصفهما حالتين جسمانيتين أو عارضتين، بل يرفعهما إلى مستوى المعيار الذي تُقاس به قيمة الإنسان ومسؤوليته التاريخية. فيفتح أمام العقل الإنساني آفاقًا للتفكير في قيمة الصحة بوصفها الطاقة المُمكِّنة، والفراغ بوصفه المجال الذي يمنح الإنسان حرية الاختيار ومجال الفعل. وبذلك يعيد ترتيب أولويات الإنسان، ويؤسس لوعي زمني يجعل كل لحظة فرصة، وكل فرصة مسؤولية، فلا يترك الإنسان أسير العبث واللهو الذي حذّر منه باسكال، ولا ضحية القلق والاغتراب الذي وصفه هايدجر، بل يرشده إلى عيش الزمن بوعي روحي وأخلاقي متكامل.

فالنص النبوي فجعل الزمن أمانة وجودية يُسأل عنها الإنسان: «عن عمره فيما أفناه، وعن جسده فيما أبلاه». وهكذا لم يكتفِ التصور الإسلامي بالموازاة مع تلك المقاربات، بل تجاوزها وأكملها، إذ حوّل الزمن من فكرة فلسفية مجردة إلى معيار عملي ومحاسبة وجودية، فصارت الصحة والفراغ رأس مال رمزي وحضاري يُقاس به وزن الإنسان وفاعليته في العالم، ويُقوَّم به إسهامه في مشروع العمران البشري.

فاستحضار هذا الحديث النبوي في سياق الفلسفة يكشف عن سبق الرؤية المحمدية التي صاغت معيارًا كليًّا للوجود الإنساني يربط بين الدنيا والآخرة، والفرد والجماعة، والصحة والزمن، ليجعل منها جميعًا ميدانًا للاختبار الأخلاقي ومسؤولية وجودية لا تقبل التفريط أو الإهمال.

وتبدوا أهمية هذه الرؤية بجلاء في عالمنا المعاصر الذي تتسارع فيه إيقاعات الحياة على نحو غير مسبوق، وتُستنزَف الطاقات في اللهو الرقمي والاستهلاك المفرط واضطراب سلّم الأولويات، فيتجدّد صدى التحذير النبوي من الغُبن. حيث اتّسع مدلول الصحة في الفكر الحديث ليغدو قدرةً على الإبداع والعطاء، لا مجرد انتفاء العِلّة والمرض، وصار الفراغ ساحةً لتشييد المشاريع الكبرى وصوغ المصائر الفردية والجمعية. ولذلك نرى أن التفريط في هذين الموردين يفضي إلى خسارة الذات على المستوى الوجودي للفرد، وإهدار المستقبل على المستوى الحضاري للأمم.

وعليه، يغدو هذا النص النبوي حجر الزاوية في بناء فلسفة إسلامية للزمن؛ فلسفة تنظر إلى العمر بوصفه رأس مال الكائن الإنساني، وإلى الصحة باعتبارها طاقة للفعل وتحقيق الغايات، وإلى الفراغ باعتباره مجالًا لاستنطاق المعنى وإعادة تأسيس الوعي. وهكذا تلتقي الرؤية النبوية مع هموم الفلاسفة قديما وحديثا في أعمق صورها، غير أنها تتجاوزها بتوجيه الوعي الإنساني نحو الغاية القصوى: عبادة الله وعمارة الأرض، في توازن رفيع بين البعد الأخروي والهمّ العمراني.

***

بقلم: د. بدر الفيومي

في عصر تتسارع فيه التقنيات وتتداخل فيه المفاهيم بين الواقع والافتراضي، لم يعد الإعلام مجرد وسيلة لنقل الخبر أو صناعة الرأي العام، بل تحول إلى سلاح استراتيجي يخوض من خلاله الفاعلون الدوليون وغير الدوليين حروبًا غير تقليدية تتجاوز حدود الجغرافيا والسيادة. الإعلام السيبراني، بوصفه نتاجًا لهذا التطور، أصبح أحد الأعمدة الرئيسية في تشكيل استراتيجيات الحرب النفسية والرقمية، بل ويمثل في كثير من الأحيان واجهة الصراع ومختبره الأول. فما الذي يجعل هذا النوع من الإعلام مؤثرًا إلى هذه الدرجة؟ وكيف يتم توظيفه ضمن منظومات الحرب الحديثة؟ ولماذا أصبح امتلاك ناصيته من أهم أدوات الردع والهجوم في آنٍ معًا؟

الإعلام السيبراني هو ذلك الشكل الجديد من الإعلام الذي ينشط بشكل رئيسي على الفضاء الرقمي، متخذًا من منصات الإنترنت والذكاء الاصطناعي ووسائل التواصل الاجتماعي أدواته الأساسية. ما يميزه عن الإعلام التقليدي، ليس فقط بنيته التقنية أو طبيعة انتشاره، بل أيضًا قدرته الهائلة على الاستهداف، وسرعة الانتقال، ومرونة التوظيف في حملات التأثير والتضليل والتوجيه، مما يجعله بيئة مثالية لخوض حروب نفسية تستهدف الوعي الجمعي، وتفكك التماسك الاجتماعي، وتزرع الشك في النفوس، وكل ذلك من دون طلقة واحدة.

لقد أعادت الحرب النفسية تعريف نفسها في العصر الرقمي، فهي لم تعد مقتصرة على بث الشائعات أو التحريض عبر منشورات ورقية أو إذاعات موجهة كما كان الحال في حروب القرن العشرين، بل أصبحت عمليات رقمية معقدة تبدأ بتحليل البيانات الشخصية على نطاق واسع، ثم إنتاج محتوى موجه بدقة فائقة، يوصل رسائل خفية أو مباشرة تستهدف التأثير على الرأي العام، أو إحباط المعنويات، أو تشويه صورة الخصم، أو حتى دفع الشعوب لاتخاذ مواقف معينة دون وعي بأنها مستهدفة في معركة سيكولوجية، وهنا يظهر دور الإعلام السيبراني كأداة فعالة في تنفيذ هذه العمليات، إذ يمكن لفيديو قصير، أو تغريدة، أو منشور على موقع إلكتروني مشبوه، أن يخلق تأثيرًا يتجاوز ما كانت تصنعه حملات بروباغندا كاملة قبل عقود.

تتجلى خطورة الإعلام السيبراني في قدرته على اختراق المجال المعلوماتي للدول والمجتمعات، وإعادة تشكيله بما يخدم أهداف المهاجم، فالحدود السيادية لم تعد قادرة على وقف تغلغل المحتوى الرقمي، خاصة مع وجود شبكات ما يعرف (الذباب الإلكتروني) والجيوش السيبرانية، والحسابات المزيفة، التي تديرها جهات محترفة وتستخدم الذكاء الاصطناعي لتضليل المستخدمين أو تأجيج النزاعات. في حالات كثيرة، شهدنا كيف اندلعت أزمات داخلية في دول مستقرة نتيجة محتوى تم تضخيمه عبر الإعلام السيبراني، وكيف تشكلت موجات من الخوف أو الغضب الجماعي بسبب معلومات مزيفة، أو تسريبات مشكوك فيها، أو مقاطع مجتزأة من سياقها. ولعل أبرز الأمثلة على ذلك ما حصل في العديد من الدول خلال الانتخابات أو الاحتجاجات الشعبية، حيث تم استخدام الإعلام السيبراني لتوجيه المزاج العام وتفجير الشارع.

لقد شكلت الحرب الرقمية، بصفتها الصيغة الأكثر تطورًا للصراع في العصر الحديث، لا تقتصر فقط على الهجمات الإلكترونية التي تستهدف البنية التحتية، بل تشمل أيضًا الحرب على العقول والوعي. في هذا السياق، يعد الإعلام السيبراني رأس الحربة في المعركة، إذ يستخدم كأداة اختراق معرفي وثقافي، تسهم في تغيير المفاهيم، أو خلق واقع بديل، أو إرباك الخصم من الداخل. فالجهات الفاعلة لم تعد تركز فقط على نشر الأكاذيب أو التضليل، بل على زرع الشكوك في المعلومة الصحيحة، وخلق تعددية سردية تجعل المتلقي في حالة تشويش دائم، غير قادر على تمييز الحقيقة من الزيف. وهذا ما يضعف ثقة المواطن في دولته ومؤسساته، ويخلق فراغًا معلوماتيًا تستغله القوى المعادية لصالحها.

إن الاستراتيجيات السيبرانية الحديثة تعتمد بشكل متزايد على الدمج بين تقنيات الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات والإعلام الموجه. فعبر تتبع سلوك المستخدمين وتحليل تفضيلاتهم، يمكن إنتاج محتوى مخصص يستهدف فئات بعينها، بلهجتها واهتماماتها، وبما يتماشى مع توجهاتها النفسية والثقافية. هذا التخصيص يجعل الرسائل أكثر فاعلية، ويصعب مقاومتها، لأنها تبدو وكأنها نابعة من الداخل لا مفروضة من الخارج. وهنا يتحول الإعلام السيبراني من مجرد قناة بث إلى منظومة سيطرة وتحكم ناعم، تمهد الطريق لعمليات التأثير العميق التي لا يشعر بها الجمهور إلا بعد أن تكون قد أتمت دورها التخريبي.

إضافة إلى ذلك، فإن الإعلام السيبراني لا يعمل في فراغ، بل يتغذى على الأزمات الحقيقية ويضخمها، مستغلاً نقاط الضعف في المجتمعات المستهدفة، سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية. فعندما تندلع أزمة سياسية مثلًا، تبدأ أدوات الإعلام السيبراني في نشر نظريات المؤامرة، والتشكيك في النوايا، وبث الإحباط، مما يؤدي إلى فقدان الثقة في المسار السياسي، ويعمق الانقسامات الداخلية. وفي الأزمات الاقتصادية، يتم تضخيم المخاوف، وترويج الإشاعات حول الانهيارات، ودفع الناس إلى اتخاذ قرارات غير عقلانية. هذا التفاعل بين الأزمة الواقعية والتضخيم الإعلامي السيبراني يخلق بيئة خصبة لنجاح استراتيجيات الحرب النفسية التي تستهدف كسر إرادة الشعوب من الداخل.

من المهم الإشارة إلى أن الإعلام السيبراني لا يُستخدم فقط من قبل الدول الكبرى أو الأطراف التقليدية في الصراع، بل أصبح في متناول جماعات غير حكومية، وميليشيات، وحركات متطرفة، بل وحتى أفراد يملكون المعرفة التقنية والتمويل اللازم. وهذا ما يضاعف من تعقيد المشهد ويجعل التهديد أكثر انتشارًا وعشوائية. كما أن طبيعة الفضاء السيبراني المفتوحة، وضعف الرقابة عليه، وعدم وجود قوانين دولية رادعة، كلها عوامل تجعل من الإعلام السيبراني ساحة حرب غير متكافئة، فيها يمكن لطرف صغير أن يحقق تأثيرًا ضخمًا دون أن يظهر بوضوح من أين جاء أو من يقف وراءه.

في ضوء هذا كله، بات من الضروري أن تضع الدول استراتيجيات متكاملة لمواجهة التهديدات الإعلامية السيبرانية، لا من خلال الرقابة التقليدية التي ثبت فشلها، بل عبر بناء وعي مجتمعي حقيقي، وتعزيز مناعة الجمهور تجاه التضليل، وتطوير أدوات الكشف المبكر عن حملات الحرب النفسية. كما أن الاستثمار في الإعلام الوطني القادر على إنتاج محتوى عالي الجودة، سريع الانتشار، وموثوق، يمثل خط الدفاع الأول ضد محاولات اختراق العقول والتلاعب بالحقائق. ولا يقل أهمية عن ذلك التعاون الدولي في مجال أمن المعلومات والسيطرة على الفضاء الرقمي، بما يحد من استخدامه كأداة للحرب والعدوان.

لقد تغير مفهوم الأمن القومي في ظل الإعلام السيبراني، ولم يعد الدفاع عن الحدود كافيًا، بل أصبح الدفاع عن الوعي الجمعي أولوية قصوى. فالحروب الحديثة لا تبدأ بإعلان عسكري، بل بمنشور أو تغريدة أو مقطع فيديو، وقد يكون التأثير المعنوي الذي تحدثه أكبر من أي قنبلة. إن من يربح معركة الرواية، ويملك السيطرة على المحتوى والمعلومة، يملك اليد العليا في المعركة. لذلك، فإن فهم الإعلام السيبراني، ومتابعة تطوراته، وبناء قدرة على التعامل معه، ليس ترفًا بل ضرورة وجودية في عالم يتغير فيه كل شيء بسرعة، ويبقى الوعي هو الهدف الأسمى لكل من يسعى للهيمنة أو التحرر.

لذا، يمكن القول إن الإعلام السيبراني أعاد صياغة قواعد الاشتباك في الحروب النفسية والرقمية، وجعل من الكلمة أداة اختراق أقوى من الرصاصة، ومن الصورة وسيلة إسقاط أسرع من القذيفة، ومن (اللايك) سلاحًا في معركة كبرى لا يسمع فيها صوت المدافع، ولكن تُخسر فيها الدول وتنهار المجتمعات بصمت، إنها معركة الوعي، والإعلام السيبراني هو ساحتها.

***

د. عصام البرّام

توقفنا مع الإمام محمد عبده عند قوله: "كل ما أنا فيه من نعمة في ديني، فسببها التصوف".

وقلنا إن هذه المقولة الخالدة وحدها استبصار ذوقي، كاشفة عن أذواقه وإشراقه الروحي ومراقي بصيرته؛ فهو يعد التصوف نعمة أنعم الله بها عليه في دينه، بل عنده أن "التصوف هو الدين"، "وأن ارتقاء النفوس في مقامات الكمال من العناية الإلهية هو بحث دقيق ممّا أختص به علم التصوف"؛ ولنلحظ أنه يذكر التصوف ولم يذكر الصوفيّة؛ لأن نقد الصوفية وارد ليس منه مانع، إذ كان نقداً للرجال وللأفكار. إنّما الفرق واضحُ وضوح الشمس في ضحاها بين إنكار أشخاص ومسالك، وإنكار قضايا وعقائد؛ فالأشخاص ممّا يجوز لك الاختلاف معهم ومع مسالكهم فيما شاءت لك حجة الخلاف أن تمضيها نقداً على الأعمال والأفكار، وعلى ما يكون وراؤها ممّا يكشف عنها فيما هو مخبوء تحتها من طوايا ونوايا وتخريجات.

وليست العقائد الكبرى هكذا؛ لأنها ليست سوى النصوص، صامتة في ذاتها لا ينطقها إلاّ من أراد النطق بها بمقدار ما يفهم، وبمقدار ما يلهم منها، ومن ذلك الفهم الذي يتوخّاه. أمّا التصوف فمعناه كبير جداً فهو القيمة العليا، هو الإحسان من الدين ومقام الإحسان من الدين إذا أوتيه إنسان فليس من نعمة فوقه.

وتتجلى لديه حكمة العارفين منهجاً لطريقة العمل والتفكير في أرفع صورها وأخلص عطاياها، حين يكون مع المتصوفة في رياضاتهم النفسية والفكرية؛ وله من الرأي السديد:" أن إلهام المتصوف "ذوق وجداني" لا يجوز له أن يدين به غيره، ولا ينكر أن لهم أذواقاً خاصاً وعلماً وجدانياً، ولكنه خاصٌ بمن يحصل له لا يصلح أن ينقله لغيره بالعبارة، فإنِّ هذا الذوق يحصل للإنسان في حالة غير طبيعية، وكونه خروجاً عن الحالة الطبيعية، لا يجوز أن يخاطب به المتقيد بالنواميس الطبيعية.

فكل ما يتصل بالمعارف الوجدانية والإيمان ممّا ليس في استطاعة البشر بذله أو البذل منه، وهو ما فضل الله به بعض الناس على بعض في المواهب الظاهرة والباطنة هو ما يسميه الصوفية بالأسرار التي قالوا فيها: إنها أمور ذوقيّة لا يعرفها إلا من ذاقها، فلا يصح أن تطلب ولا أن توهب".

ومع ذلك كله؛ فقد نجد بيننا الكثير ممّن فقدوا ذوق البصيرة والشعور الديني الصادق؛ من يرى أن التصوف ما كان، ولن يكون أبداً، حسب اعتقادهم، هو طريق الخلاص من وضعنا المتردي، لأنه في نظرهم طريق استسلامي يشجع على استكانة المشاعر وانهيار القوى في وقت نحن فيه بأمس الحاجة للروح الوثابة، والمشاعر الثائرة، والفكر النير، والحلول التي تخلصنا من مشاكل التخلف التي نرزح تحت وطأتها صباح مساء.

ومن الغريب الداعي للدهشة أن هذه الصفات الأخيرة التي ومضت من عقولهم على غفلة في زمن القيم الساقطة، والتي يرصّونها لفظاً ميتاً لا حياة فيه يجيء بغير معنى ولا مدلول هى صفات في الأصل من العمل الحي لمعطيات التصوف ومن فاعليته الكبرى، فالروح الوثابة الحرة الطليقة والمشاعر الثائرة والفكر الصافي المستنير هى في الواقع صفات الصوفي الحقيقي الذي لا يعرف للخمول ولا للاستكانة طريقاً بل هَجِّيرَهُ العمل، وديدنه الجهاد في سبيل مطلوبه، وغايته الإخلاص في القول والفعل؛ فلا يهدأ الصوفي أبداً إلا أن ينال ما يريد؛ لكن الفرق بينه وبين غيره من أصحاب الإرادات أن مراده غير مرادات الذين غرقوا في وحل الواقع المتردي؛ فانهارت قواهم على التصدي له بروح وثابة طليقة فلم يتقدّموا في إصلاحه خطوة واحدة، ولا حتى ترقيعه قيد أنملة، بل كلما رقعوه تمزق منهم ولا يزال مع التّمزّق حتى مزق بشراهته نفوسهم وقلوبهم حسرةً على الضعف والتردي والشّرَه المادي الساقط اللعين.

ولا يخفى أن للإمام محمد عبده موقفاً من نقد سلوك المتصوفة الطرقي التجهيلي الذي لا يقوم لديهم على العلم ولا المعرفة؛ بل على الاعتقاد السلبي في شيوخ التصوف مما بثت في نفوسهم أوهام الوساوس التي "تملك الجاهل وتربك العاقل إذا لم يغلبها بعوامل الدين الصحيح"، وعلى "اتخاذ الدين متجراً يكسب منه الحطام ويجعل من ذكر الله آله لسلب أموال الطغام"؛ ممّا يسبب لوثة الاعتقاد بل الشرك، وهو أمر لا ينفرد به محمد عبده وحده؛ بل وجد عند أعلام التصوف أنفسهم: نقد أنفسهم بأنفسهم نقداً ذاتياً منذ أيام المحاسبي في الرعاية لحقوق الله، والغزالي في الإحياء، والقشيري في "الرسالة"، ووصولاً إلى الشعراني في "آداب العبودية".

فلئن كانت حكمة العارفين قد تجلت عند الأستاذ الإمام والفيلسوف الحكيم في أعلى مراقيها، فهو من جانب آخر كان، طيّب الله ثراه، "... مع الحكماء المتصوفين ولا سيما الأخلاقيين؛ لأن التصوف عنده رياضة عقلية. غير أنه يرى لهذه الرياضة جانباً غير الجانب الحسي من الحياة الدنيوية يسميه "ذوقاً"، ويحمد من صاحبه أن يروض عليه ضميره ووجدانه ولا يدين به أحداً من المقيدين بالحياة الطبيعية أو الحياة الحسية؛ لأن الأمر في هذه الحياة لما يستقيم عليه صلاح الجماعة، ولا محلّ فيه للذوق الخاص الذي تراض عليه طبيعة العموم".

ذكر الإمام محمد عبده للسيد رشيد رضا يوماً قوله:" إذا أنا يئست من إصلاح الأزهر، فإنني أنتقي عشرة من طلبة العلم، وأجعل لهم مكاناً عندي في "عين شمس" أربيهم فيه "تربية صوفية" مع إكمال تعليمهم"؛ ويعقب رشيد رضا على ذلك، أن الإمام محمد عبده كان أقترح على السيد جمال الدين الأفغاني هذه الاقتراح أيام كانا ينشئان مجلة "العروة الوثقى" في باريس، ثم يقول رشيد رضا معقباً على هذا:" ولو تمَّ للأستاذ الإمام هذا على الوجه الذي يريده، لكان أعظم أعماله فائدة" .

غير أن السؤال الذي يفرض نفسه: ولماذا التربية الصوفيّة؟

لأنها هى سبيله الذي قاده إلى الكمال، وقرر من يوم أن فتح الله بها عليه أن يكون كامل المعرفة، من طريق ذلك الشيخ الصوفي الشاذلي (درويش خضر) خال أبيه، الذي أخذ بزمام الجانب الروحي من تلميذه الفتي (محمد عبده) في عنفوان ثورة نفسية، قد وجه عواطف الشباب وخيالاته إلى معان من اللذائذ القدسية. مرة أخرى .. ولماذا التربية الصوفية؟ لأنها داعية إلى تلطيف السر بأنواع الرياضات؛ كالعبادة المشفوعة بالفكرة والألحان المستخدمة لقوى النفس، الموقعة لما لحن من الكلام موقع القبول من الإفهام ويعين على تلطيف السر- كما يقول ابن سينا في الإشارات - الفكر اللطيف، والعشق العفيف الذي تأمر فيه شمائل المعشوق لا سلطان الشهوة. إنه كانت التربية الحديثة تدعو إلى تهذيب الذوق بفنون الجمال، كما يقول الشيخ مصطفى عبد الرازق في ترجمة الإمام على صفحات جريدة المنار لمنشئها رشيد رضا؛ فإن التربية الصوفية تدعو إلى تلطيف الأسرار وتهذيب قوى النفوس.

ولا جَرَمَ كانت تلك التعاليم الصوفية من شأنها أن تربي الوجدان وتكمّل النفس وتزينها بمفعول الآثار. ولا جَرَمَ كذلك كان الشيخ محمد عبده صوفي الأخلاق.

وليس في المستطاع تصور تربية مستقيمة في رحاب الدين القويم بغير اعتماد التربية الصوفية؛ لتكون أساساً لها ومرتكزاً على دعائمها، وذلك لأن غرض صوفية المسلمين كان تربية المريدين بالعلم والعمل الذي غايته أن يكون الدين وجداناً في أنفسهم تصدر عنه الأعمال الصالحة ولا تؤثر فيه الشبهات العارضة.

ــ موقفه من الصوفية:

ولكن السؤال الذي يطرح نفسه الآن: كيف أراد الأستاذ الإمام ـ في حالة يأسه من إصلاح الأزهر ـ أن يربي تلاميذه من طلبة العلم "تربية صوفية"، وهو في الوقت نفسه يكيل الهجوم على المتصوفة وبخاصّة في موقفهم من الحرية؟ أو كيف صار التصوف لديه بديلاً تربوياً وهو في ذات الوقت يحاربه، ويحارب معطياته العملية؟ وللإجابة على هذا السؤال نتوقف وقفة تحليلية نزيل بها هذه الإشكالية؛ لنرى موقف الأستاذ الإمام من مشكلة حرية الإرادة الإنسانية وتكييفها تكييفاً عقلياً وشرعياً أيضاً.

وبداية نقول: إذا كان الشيخ محمد عبده قَدَحَ في موقف الصوفية من الحرية، وبخاصَّة حرية الإرادة الإنسانية التي لا يعترف بها ولا ينشط لموجباتها إلا الجهلة والغافلون، فهو في موقفه هذا لا يعدُّ قدحاً على الصُّوفيَّة، ولكنه قدح بالجملة على الجهل والتخلف والركود الروحي وادعاء الولاية على وجه العموم.

وقد يفهم من أقواله إنه يقدح في موقف الصوفية من الحرية قدحاً شديداً، وينعي باللائمة على تركهم العامة يعيثون في تيه من الفوضى والعبث اسمه "الجبر"، ويعتبره موقفاً يكاد يكون خارجاً عن الإسلام، ولا يَكاد يعتبره موقف مَنْ يؤمن بقدراته وملكاته التي غرسها الله فيه. فواجب كل مسلم ـ كما قال ـ:

"هو أن يعتقد بأن الله خالق كل شيء على النحو الذي يعلمه، وبأنه يجب عليه مع ذلك أن يُقرَّ بأن أعماله منسوبة إليه، وأن يعمل بما أمره به وَيَتَجَنَّب ما نهاه عنه، وذلك باستعمال تلك الحرية التي يجدها من نفسه. وليس على المسلم بعد هذا أن يبحث فيما وراء ذلك".

أقول؛ قد يفهم منه أنه يهاجم التصوف والمتصوفة، ولكن فهم من يَفْهَم عن الأستاذ الإمام أقواله شيء، وحقيقة هذه الأقوال شيء آخر؛ لكأنما الصوفية لا يعيرون اهتماماً بالغاً لما كان قرَّره الشيخ، وهو الاعتقاد بأن الله خالق كل شيء، وأن العبد عليه أن يعمل بما أمره به ويتجَنَّب ما نَهاه، ويقر مع العمل بأن أعماله منسوبة إليه، فمن يفهم من قول الشيخ محمد عبده معنى أن الحريّة عند الصوفية تخالف هذا يفتري عليهم كل الافتراء.

نعم! قد يركن العجزة والمفلسون إلى البطالة والخنوع والتردي وكل ما يؤدي في عصب الحياة إلى الكسل والخمول، ثم نسبة ذلك كله إلى القضاء والقدر في الإسلام. ولكن هذا كله شيء، والتبتل العميق في باطن الوعي الصوفي شيء آخر، وهو ما أشار إليه محمد عبده نفسه، وهو بصدد بحث مشكلة القدر التي نهى القرآن ونهر الحديث عن الخوض فيها وكثرة الجدال لما يتضمنها جسيم الخطر، وركز على الإيمان بالقدر الذي لا يتطلب بحث هذه المشكلة الغامضة، غير أنه يجزم بأن التطلع إلى حلها هو "شَرَه العقول في طلب رفع الأستار عن الأسرار".

وليس في مقدور العامة ـ كما قال ـ أن تنفذ بصائرها إلى أسرار الحرية والقدر؛ فذلك شأن من شئون القليلين من أهل الولاية والصفاء.

وعليه يمكن القول، بأن الشيخ محمد عبده لا يُهَاجم الأولياء من كبار الصوفية، كيف وهو القائل: "إنه لم يوجد في أمة من الأمم من يضاهي الصوفية في علم الأخلاق وتربية النفوس، وأنه بضعف هذه الطبقة وزوالها فقدنا الدين".

ولقد تصوف مصلحنا العظيم - كما قال أستاذنا العقاد - زمناً في صباه، ولا نخاله أبتعد من طريق المتصوفة إلى ختام حياته. وهو ينسب نفسه إلى الطريقة الشاذلية، ويحترم أبا الحسن الشاذلي، وهو من أهل طريقته، ولم يكن سالكاً طريقة غيرها.

ولكن الأستاذ الإمام والفيلسوف الحكيم يهاجم خزعبلات العامة من المسلمين ممّن ساروا في غير علم ولا دلالة وراء كبار الصوفية، بيد أنهم لا يعملون عملهم ولا يطيقون مجاهداتهم، ولكنهم ركنوا إلى القضاء ركون المفلس العاجز الضعيف، فبثوا في نفوس الضعفاء أوهاماً لا نسبة بينها وبين أصول دينهم؛ الأمر الذي دفع الوهن بالمسلمين فكانوا يرزحون تحت ثقل الجبر بمعناه الكلامي لا بمعناه الصوفي؛ فالجبر بمعناه الكلامي مراء باطل وجدل عقيم حول أفعال الرّب وأفعال العبد، بما فيه "نظرية الكسب الأشعرية التي يعتبرها الإمام محمد عبده نظرية غير مفهومة.

أمّا الجبر بمعناه الصوفي فهو غير هذا كله: هو شعور دائم بالمعية الإلهية ليس إلا، شعور لا ينقض العمل والعبادة؛ بل يدفع إلى التَّحَرُّر من سطوات الأغيار؛ فهو ليس جبراً كلامياً سلبياً اتكالياً لا ينهض بعمل ولا يتقي شريعة ولا يتوقى العلم، كلا بل معيَّة دائمة لا ينفذ إليها إلا أهل الولاية والصفاء.

وليس أدل على هذا من قوله طيب الله ثراه:" إنه قد اشتبه على بعض الباحثين في تاريخ الإسلام، وما حدث فيه من البدع والعادات التي شوَّهت جماله، السبب في سقوط المسلمين في الجهل؛ فظنوا أن التصوف من أقوى الأسباب، وليس الأمر كما ظنوا ...".

ولكن هذا كله شيء، والتكاسل والخمول شيء آخر:" فما أشَدَّ جمود هؤلاء العامة وتواكلهم وإشفاقهم على أنفسهم من السَّعي والكفاح. وكأن لسان حالهم يقول: مَادَاَمَتْ قدرة الله قد حُدّدت من قبلُ كل شيء، فليس من الحوادث ما يقع خلافاً لما أراد الله. وإذا كان الله يعلم المستقبل منذ الأزل فلا بدّ أن المستقبل يكون على نحو ما يعلمه الله. وإذن ما الفائدة من العمل؟ وفيمَ نتكلف العناء والنَّصَبَ؟ إننا لا نغير قط شيئاً مما كُتبَ علينا في لوح العالم الآخر. أفليس خيراً لنا أن نسلّم أمورنا إلى المقادير دون أن نفرض على أنفسنا جهوداً مقضياً عليها بالضَياع.

إنّ مثل هذا القول إنْ هو إلا تحريف فاسد للعقيدة والدين؛ لأنه مذهب جبري بحت، لا يقوم على شعور ديني ولا على ذوق إيماني؛ فهذا الموقف الفاسد المهين للكرامة الآدمية هو الموقف المرفوض من قبل الشيخ محمد عبده؛ ولأن عقائد الإسلام تخالف عقيدة الجبر، فلم يكن هذا الموقف بالذي يؤيده القرآن الكريم، وهو الذي أيد الحرية بصراحة تامة، ومن غير مواربة في نحو ست وأربعين آية. وإذا كان هناك آيات أخرى قد يكون فيها ما يفيد فكرة القهر والجبر؛ فلم ترد تلك الآيات إلا لتقيم القوانين الإلهية العامة التي نُسَمّيها "نواميس الكون".

وفي إطار الدفاع عن الحريّة في الإسلام ونقد كل ما يقابلها من اتجاهات جبرية؛ يذهب الشيخ "محمد عبده" إلى أن الذين ينكرون الحرية يحتجون بالآية القرآنيّة القائلة: "والله خلقكم وما تعملون". وهم يفسرون هذه الآية على معنى أن الله هو خالق أعمال الإنسان. غير أنه يُلاحظ أن هذه الآية نفسها تقول "وما تعملون": فهي بذلك تفيد نسبة العمل إلى الإنسان، ولكنهم قد يزعمون بعدٌ أننا إذا صرحنا بحرية الإنسان، فقد رفعنا إرادته إلى مرتبة الإرادة الإلهية، وهذا يؤدي إلى الشرك بالله وهو كبيرة الكبائر. ولكن الأستاذ الإمام والفيلسوف الحكيم يدفع هذا الاعتراض على وجه لا يخلو من طرافة، فيبيّن أن الإنسان الذي يقترف إثم الشرك ليس هو الإنسان الذي يعول على قواه الخاصة وقدرته الذاتية، ويعد نفسه مسيطراً على أفعاله؛ بل المشرك هو الذي يفعل ذلك.

ــ وخلاصة القول:

إنما التربية الصوفية في الأساس أدبٌ وحضورٌ بالعلم والعمل بين يدي الله، تتوجه إلى غرس قيم دينية عاملة ونافعة ليس بالمستطاع لغيرها من أساليب التربية أن تغرسها.

هذا ما تبيَّنه الأستاذ الإمام محمد عبده نفسه من خلال تجربة عاشها وتذوق معالمها. ومن هنا فعندما نقول: إنّ اللفظة القرآنية لتشع في قلب المتصوف الذي يقرأ القرآن على شرعة الأدب وفريضة الحضور نوراً متصلاً وحياة جديدة، لكأنما يتلقاه بالمباشرة من ربِّ العالمين؛ فهو يحفظ تلك الألفاظ القرآنية؛ لأنه يعلم نورانيتها بمقدار ما يعلم ما عَسَاه تُضْفِيِهِ عليه هذه النورانيّة من حياة خصبة راقية متجدّدة، يكون قولنا واقعاً مقرراً من حياة كبار أئمة الصوفية أنفسهم ومن حياة الإمام محمد عبده نفسه.

وفي المحافظة على ألفاظ الشارع أسرار: أسرارٌ لا يعلمها  إلا أهلها الذين يحفظون في أنفسهم هذه الأسرار ممّا يتبع حفظهم لتلك الألفاظ حين يتوجّهون بها ذلك التوجُّه العلوي نحو شرف الغاية وقصد التحقيق. في الحفاظ على الألفاظ القرآنية أسرار. وفي الحفاظ على ألفاظ الحديث النبوي كذلك أسرار: ألفاظ الشارع فيها أسرار يلمسها لمس اليقين كل مَن تذوَّقها فيمضى من فوره باللفظة إلى غاية ما تصيبه من مكامن الشعور وفجاج الفكر وأغوار الضمير.

إنّ هذا الكتاب قيمة عُلوية كبرى ومباركة: قيمة تلخص الحكمة وتفرِّع مدلولاتها في الواقع وفي شتى مناحي الوجود، بمقدار ما تعطي الحكمة في الوقت نفسه خالصة لمن يخلص لها ويبذل قصارى ما في سعته من تقدير لهاته القيمة تقديراً يلمس آثارها في أعصابه وخلاياه، في جوفه وباطنه، في رُوحه وآفاقه. في كيانه كله، في حركته كلها، وفي سكونه وثباته، وفي مثواه الأخير.

إنه حقاً وصدقاً لمعجزة لا يدركها حق دَرْكها إلا من تحقق بها وعرف بعد التحقيق موارد الإعجاز فيه. طوبى للذين وفّقهم الله إليه؛ فاغتربوا عن هذا العالم وتبتَّلوا في رحاب الغربة من أجله "وَطوُبَى للغُرَبَاء".

وقد دل دليل الصدق في واقع تلك الشخصية الكبيرة: حياتها وأفعالها ومناقبها كما تبينت معالمها في أوصاف الأقربين ممّن عرفوه ولازموه: أنه كان سليم الفطرة، قدسيّ الروح، كبير النفس، صادف تربية صوفية نقيّة زهدته في الشهوات والجاه الدنيوي، وأعدته لوراثة هداية النبوة، فكان زيته في زجاجة نفسه صافياً يكاد يضئ ولو لم تمسسه نار. هكذا وصفه السيد رشيد رضا وافتتح ترجمته بعد وفاته بنحو عشرين سنة بقوله عنه:"إنّ هذا الرجل أكمل من عرفت من البشر ديناً وأدباً ونفساً وعقلاً وخلقاً وعملاً، وإنّ من مناقبه ما ليس فيه ندٌ ولا ضريب، وإنه لهو السريّ العبقريّ". وزاد الأستاذ العظيم عباس محمود العقاد فقال:" رأيت الشيخ محمد عبده مرات معدودة، ورأيته مرات لا تحصى في صوره الشمسية التي لا تلتبس إحداها ملامح صورة أخرى، فكانت النظرة الأولى كالنظرة الأخيرة إلى تلك الملامح فيما تنم عليه وتشير إليه: قوة وطيبة متفقتان لا يبين لك أنهما تنازعتا يوماً أو تتنازعان، فهو قوى لا ينازع طيبته نية من نياتها، وهو طيّب لا ينازع قوته دافعاً من دوافعها، وهو أقرب الناس سمة بما يرتسم في أخلادنا من سمات النبوة وهى في طلعتها الإنسانية بشر مثلنا، وإن لم نكن نحن بشراً مثلها فيما تتلقاه عن وحي الله".

وعندي أنه ليس هناك أدني مبالغة فيما ذكره الأستاذ العقاد ممّا عساه يرتسم من شخصية الأستاذ والإمام، وتبيّن له مما وصف من ملامحها، فهو بحق الفيلسوف العقلاني والحكيم المتأله، تجلت فيه حكمة العارفين كما تجلت فيه عقلانية الإمامة، ولم تنفصل صفة الفيلسوف وجهاد العقل والمعرفة، عن صفة العرفاء ممّن جهدوا أنفسهم في سبيل ارتقاء أممهم وعقائدهم التي يدينون لها بكل الولاء. وما من عجب فقد كان القرآن الكريم قبلته وهداه.

ليس من شك عندي أن دعوة الدين كما بيَّنها لنا الأستاذ الإمام والفيلسوف الحكيم، وكما نفهمها منه؛ لتهدف إلى الشعور بالاستقلالية والتميز، وبالطلاقة الرُّوحيَّة وبالتّفرُّد على شِرعة القرآن؛ ليُنتج الدين على هداها دوماً أُناسَاً خَلاَّقين.

***

د. مجدي إبراهيم

(التاريخ هو نتاج الإنسان لكنه لا يتركه حرّاً بالكامل).. أريك هوبسباوم

الخوف من التاريخ ليس مجرّد هاجسٍ عابر، بل هو ارتعاشةٌ في عمق الوعي البشري أمام مرآةٍ لا ترحم. إنه بوصفه سرداً متراكماً لأفعالنا وإخفاقاتنا، يكشف هشاشتنا أمام الزمن، ويفضح عجزنا عن بلوغ الامتلاء الذي نحلم به. من هنا ينبع السؤال: أهو الخوف من الوقائع الماضية بما تحمله من هزائم وانكسارات، أم الخوف من قوّته الرمزية التي تجعل الماضي سلطةً تحكم الحاضر وتكبح المستقبل؟

إنّ التاريخ في هذا المنظور، يتجاوز كونه أرشيفاً للأحداث، إنّه كائن أسطوري يتنفس داخل وعينا الجمعي، ينسج قوانينه الخاصة، ويتحرك بمنطق يعلو على رغبات الأفراد. إنّه “المطلق المتحرك” الذي يتغذى من لحظات الصعود والهبوط، لكنه لا يموت بسقوط الإمبراطوريات ولا بتفتت الدول، بل يواصل سيرورته بما يشبه القدَر. ولعلّ خوفنا الأكبر أن ندرك أنّنا لسنا سوى عابرين في نصّه، نضيف إليه شذراتٍ قد تُمحى أو تُؤوَّل وفق ما يشاء هو، لا نحن.

في هذا الأفق يصبح التاريخ أشبه بمرآة مزدوجة، مرآة تكشف الموت الرمزي للإنسان حين يدرك أن أفعاله تُستهلك سريعاً وتتحول إلى “أثر” بارد في سجلاته. ومرآة أخرى تُظهر العدم المخبأ في تكرار الوقائع، حيث تنقلب الصيرورة نفسها إلى دائرة مغلقة، تُعيد الأخطاء وتعيد معها فشلنا في “اقتدار الوجود”.

إنّ الخوف من التاريخ إذن هو خوف من ثورة زمنية لا نتحكم فيها، ثورة على محاولاتنا للسيطرة على السرد، وثورة على أوهام التقدّم الخطي، وثورة على فكرة أنّ الإنسان سيد قدره.

حين نُدرك هذا، نرى كيف يتحول التاريخ إلى سلطة رمزية تعيد تشكيل وعينا. إنه يطالبنا بأن نعترف بفشلنا وأخطائنا، لا لكي نسجن أنفسنا فيها، بل لكي نتحرر من وهم الكمال. وهنا تتجلّى المفارقة، ما نخشاه في العمق ليس الماضي، بل الحرية التي يكشفها الماضي، لأنّ مواجهة أخطائنا تفرض علينا أن نغيّر الحاضر، وهذا هو التحدّي الأشد.

لذلك يصبح التاريخ مجالاً للصراع بين الخوف والخلق، من جهة، هو قوة قهر، لأنه يعرّينا أمام أعيننا ويذكّرنا بأنّنا نتكرّر. ومن جهة أخرى، هو حافز للتحرّر، لأنه يبرهن أنّ كل لحظة جديدة تحمل إمكانية التخطّي.

ربما لهذا كتب نيتشه أن “التاريخ إذا استُهلك بلا وعي يصير سُمّاً”، فهو إن لم يُستفد منه بحكمة، يتحوّل إلى عبء يكبح حرية الإنسان ويجمّد صيرورته. غير أن فهمه لا يقتصر على الوقائع وحدها، بل هو حوار مستمر بين الحاضر وما مضى كما رأى غادامر، حيث يصبح الماضي نصًا حيًّا يُعاد صياغته في ضوء وعينا وحرّيتنا. وفي هذا السياق، يتقاطع قول ريكور: “الذاكرة ليست مجرد استحضار، بل إعادة صياغة مستمرة للزمن”، مع فكرة أن الإنسان ليس متلقياً سلبيًا للتاريخ، بل فاعل يضيف إلى نصه المفتوح ما يمنحه من إرادة ومعنى.

هوبسباوم يذكّرنا بأن “التاريخ نتاج الإنسان لكنه لا يتركه حرًّا بالكامل”، مما يضعنا أمام التوتر بين الحتمية والاختيار، وبين الوقائع الماضية وحرية التأويل. أما بروست فيُبرز أن “الزمن الماضي يعيش فينا أكثر مما نعيش فيه”، إذ يؤكد أثر التاريخ الرمزي على وعينا وعلى إمكاناتنا في الابتكار والتغيير. ويأتي ياسبرز ليقول: “كل إنسان يواجه التاريخ كمسألة وجودية، فهو امتحان للحياة والحرية”، ليضعنا أمام حقيقة أن تحدي التاريخ ليس مجرد مواجهة للماضي، بل ممارسة للحرية والإبداع في كل لحظة حياة.

 لكنّ هذا التاريخ في الوقت نفسه جعل من “التأمل التاريخي” أداةً لتحرير الإنسان من عبودية التكرار. فالتاريخ ليس قدراً مكتوباً، بل نصٌّ مفتوح، وما نخافه هو أن يفضح كسلنا أمام حريتنا.

إن مواجهة التاريخ ليست استسلاماً لسطوته، بل وعيٌ شجاع بكونه فضاءً يتقاطع فيه الفشل والأمل، الموت والميلاد، العدم والخلق. حين نراه كذلك، لا يعود كابحاً للصيرورة، بل يصبح شريكاً في ابتكار المعنى، مهما بدا كائناً أسطورياً يتحرك بنظامه الخاص

السؤال: هل التاريخ قوّة تُحاكمنا أم نصّ نعيد كتابته؟ حين نقول: «قد نكون أو لا نكون»، فنحن نلمّح إلى التاريخ ليس ضمانةً للوجود، بل ساحة امتحان. قبوله بأحكامه المطلقة يشبه اعتراف الإنسان بحدود حريته، لا مهرب من الوقائع التي جرت، لكن طريقة قراءتها هي ما يحدد حريتنا.

هنا يطلّ سؤال نيتشوي آخر عن “التاريخ النافع للحياة”؛ فالتاريخ قد يُقيد إن قرأناه كقدرٍ مُبرَم، لكنه يتحوّل إلى طاقة تحرّر حين نقرأه كحافزٍ لخلق مستقبلٍ مختلف. التاريخ ليس انتصارًا للغيب ولا للعقل وحدهما، بل هو فضاء صراعٍ حيّ تتقاطع فيه الحتمية والاختيار، المجهول والممكن. فإذا استسلمنا لسطوته المطلقة صرنا أسرى العدم واللاجدوى، وإذا أنكرناه جملةً فقدنا الجذور والمعنى.

 إنّ تحدّي التاريخ، في جوهره، وعيٌ مزدوج، أن نعترف بقوّته الكاسحة التي لا تُلغى، وفي اللحظة نفسها نمارس حريتنا في إعادة تأويله وكتابته، فنحيا لا كضحايا نصٍّ مكتمل، بل كفاعلين في نصّ مفتوح لم ينتهِ بعد، نصٍّ لا يُنجز إلا بقدر ما نمنحه نحن من إرادة ومعنى.

***

د. مصـطـفــى غَـــلمـان

إنَّ الأدب في المملكة العَرَبيَّة السُّعوديَّة هو امتدادٌ للتراث الأدبي العَرَبي الذي منبعه الجزيرة العَرَبيَّة. وقد نشأ في بداية العهد السُّعودي شِعرًا، وجاء وريث عصور انحدار العَرَبيَّة وآدابها في القرون الوسطى الإسلاميَّة؛ فكان عليه أن يتخلَّص تدريجيًّا من ذلك الإرث الثقيل. فاتجه إلى الإحياء، محاكيًا عصور العَرَبيَّة الزاهيَّة، منذ العصر الجاهلي إلى العباسي. وامتزج لدى بعض الشِّعراء نزوع الإحياء بتقاليد القصيدة البديعيَّة التي سادت خلال القرون الهجريَّة من السابع إلى الثاني عشر. على أنَّ منهم من طوَّر أسلوبه، ليرتقي من وهدة التراث بتقاليده إلى ضروب من الجِدَّة. لكنَّ الشاعر ظلَّ، في طَور ما يمكن أن يُسَمَّى مرحلة الإحياء، مقلِّدًا، لا أكثر، بلا مذهب اجتماعي ولا فني، يحذو حذو هذا الشاعر القديم تارةً وذلك تارة.

ثمَّ جعل الشِّعر يُراوح بين محيٍ لديباجة الشِّعر التقليديَّة، المتعلِّقة بمفهوم عمود الشِّعر، وآخَر حاول إدخال بعض قضايا العصر المستجدَّة. فكان من أعلام الطائفة الأولى: محمَّد بن عبدالله بن عثيمين، وأحمد بن إبراهيم الغزَّاوي، ومن الأخرى، أمثال: حمزة شحاتة، وحسين سرحان، وطاهر زمخشري، وحسين عرب، وخالد الفرج، وعبدالله بن خميس، ومحمَّد بن علي السنوسي. ويدخل في هذا التيار من حيث بناء القصيدة أولئك الشُّعراء المتأثِّرون بالشِّعر الحديث في مِصْر والشام والمهجر، ولا سيما بمدرسة أبولو في مِصْر، مثل: محمَّد حسن فقي، وعبدالله الفيصل، ومقبل العيسى، وأضرابهم.

ثمَّ جاءت موجة التجديد، وشِعر التفعيلة: محمَّد حسن عواد، وحسن عبدالله القرشي، ومن تلاهم حتى وقتنا الراهن.

على أنها بدت ملامح التطوُّر في قصيدة الحداثة خلال العِقد الأوَّل من القرن الحادي والعشرين واعدةً بآفاق مستقبليَّة أكثر نضجًا وتخلُّصًا من عثرات المراحل الانتقاليَّة التي مرَّت بها، إبَّان السبعينيَّات والثمَّانينيَّات من القرن الماضي. وبالرغم من أنَّ التحوُّلات النوعيَّة ظلَّت وئيدةً، فإنَّ الاستقراء يشير إلى أنَّ القصيدة الحديثة ما زالت في طريقها إلى عهدٍ جديد، يُنبئ عن انصهار التيارات في تيارٍ جديد، كنتُ قد أطلقتُ عليه (الحداثة الأصيلة، أو الأصالة الحداثيَّة).

-2-

أمَّا في ميدان النثر الأدبي، فمن الملامح اللَّافتة أنْ بدا أحيانًا ما يُسمَّى (القِصَّة القصيرة جِدًّا) (قصيدة نثرٍ في قِصَّة قصيرة جِدًّا)، أو( قِصَّة قصيرة جِدًّا في قصيدة نثرٍ)، في تزاوجٍ يجعل الفارق بين هذين النوعين شفَّافًا جِدًّا، حتى لا يكاد يميِّز القِصَّة القصيرة جِدًّا سِوَى التزامها حكائيَّة ما، في حين لا يلزم ذلك قصيدة النثر. فكما أن بعض الشِّعر لا يميِّزه عن النثر سوى الإيقاع- والإيقاع وحده ليس ما يمنح الشِّعر شِعريَّته الكاملة، وليس فقدانه هو ما يمنح النص نثريَّته بالضرورة، وإنما الإيقاع عنصر فارق للشِّعر- كذلك يلزم أن تكون الحكائيَّة عنصرًا مائزًا لكلِّ ما يندرج تحت اسم «قِصَّة»، طالتْ أم قصرت.

وكذلك بدا توالج الشِّعريِّ بالروائيِّ، لينشأ بينهما ما وَسَمْتُه في بعض دراساتي بمصطلح «القصيدة-الروايَّة». وإذا كان التداخل بين الشِّعريِّ والسرديِّ معدودًا في الكتابات المعاصرة من جملة التقنيات التعبيريَّة الحداثيَّة، أو ما بعد الحداثيَّة، فإنَّ لذلك أسبابًا شِعريَّة عَرَبيَّة تجعل العوامل مضاعفة في بروز هذه الظاهرة في السياق العربي. بيد أنَّ الأمر يزداد حِدَّةً إشكاليَّةً حين يكتب النصَّ السرديَّ شاعرٌ ذو تجربة لافتة، فيتمخَّض عمله عن شكلٍ كتابيٍّ ملتبس الهويَّة، يقع في منطقة برزخيَّة بين نوعين أدبيَّين (الشِّعر والروايَّة)، جديرةٍ بأن تُعطَى تسميتها المائزة، المتَّفقة مع طبيعتها الخاصَّة. ويأتي هذا الشكل الكتابي نتاجًا حداثيًّا، تنطمس فيه الفروق بين الأجناس الأدبيَّة، حيث بات الشِّعر يتقمَّص النثر، منذ: تي. إس. إليوت T. S. Eliot، وإي كامنجز Ee Cummings، كما يتقمَّص النثر الشِّعر، مثلما هي الحال عند: فرجينيا وولف Virginia Woolf، أو جيمس جويس James Joyce، أو نيكوس كازانتزاكي Nikos Kazantzaky. والروايات اليوم- كما يشير الشاعر المكسيكي (أوكتافيو باث Octavio Paz)- تنزع عمومًا إلى التحوُّل أكثر فأكثر إلى تشكيلات لفظيَّة، غير كثيرة الاختلاف عن بِنَى الشِّعر، كما تستعيد القصيدة لدَى بعض الشِّعراء النَّفَس الملحميَّ، فتقترب من الروايَّة. 

وبهذا، فإذا كانت الروايَّة قد جاءت في العصر الحديث وريثة الملحمة الشِّعريَّة- التي كانت هي «القصيدة-الروايَّة»، في صيغتها العتيقة- فإن (القصيدة-الروايَّة) اليوم، في صيغتها الجديدة، تأتي بمثابة ارتدادٍ إلى نوعٍ من جنسٍ أدبيٍّ مهجور، هو الملحمة. غير أنَّ (القصيدة-الروايَّة) الجديدة، تتخلَّص من حِدَّة الحضور ذي الوجود الكامل لكلا الجنسين- الشِّعري والروائي- كي تُنشئ نمطًا جديدًا من التماهي بينهما، وإنْ كانت كفَّة الشِّعري فيها تميل إلى الرُّجحان. وهذا ما يدعو إلى تسميَّة النص بـ(قصيدة-روايَّة) لا بـ(روايَّة-قصيدة).

تلك ملامح عجلَى من مراحل تطوُّر الأدب السعودي حتى وقتنا الراهن.

-3-

على أنَّ الرؤية المستقبليَّة تحدو الأمل إلى تفعيل الثقافة- وفي جوهرها الأدب- لتأخذ دَورها الحضاري محلِّيًّا وعالميًّا؛ فليس من المقبول أن تكون المملكة العَرَبيَّة السُّعوديَّة، بتاريخها الضارب في الذاكرة الإنسانيَّة على هامش الثقافات، أو أن تتعامل مع الثقافة رديفةً لشؤون أخرى. وليست الثقافة بمهرجانات ملوَّنة، واحتفاليَّات يُدعَى لها الأصفياء، وليست بأضواء إعلاميَّة، وتوقيع كتب، وتغريدات «إكس»، وعلاقات عشائريَّة في زمن الثورة المعلوماتيَّة. إنَّها- كما ينبغي لها أن تكون- ثقافة الأرض التي تمثِّل أرض الإنسان الأوَّل، ثمَّ التي تمثِّل أرض العروبة والإسلام الأُولى، بآثارها، وتاريخها، وفنونها وآدابها، الجديرة بأن تكون في صدارة ثقافات العالم. ذلك أنها ثروةٌ أهم من النفط، حتى على المستوى الاقتصادي، بوصفها مادة الاقتصاد المعرفي الأُولى، ورافدة الاقتصاد العام. وكما أقول دائمًا: لقد آنَ التنقيب عن ثقافتنا وآثارنا وتقديمها إلى العالم، في القرن الحادي والعشرين، كما كان التنقيب عن الثروات المعدنيَّة في القرن الماضي. بل إنَّ ثروة المملكة في مجال الثقافة والآثار أهم من ثروتها النفطيَّة، وأبقى؛ فهي الماضي والحاضر والمستقبل. ومنذ إنشاء وزارة باسم (وزارة الثقافة)، واستقلالها عن (وزارة الإعلام)، استجابةً لمطالبات متكررة بذلك، والأمل معقود عليها لتحقيق الآمال الثقافيَّة التي أُنشئت من أجلها.

إنَّ الأدب- من حيث هو- قائم ونشط وفاعل، منذ نشوء المملكة. والأدباء الحقيقيُّون كثر. ذلك أن الجزيرة العربيَّة تاريخيًّا هي منبع اللُّغة العَرَبيَّة وآدابها، وهي في العصر الحديث حافلة بالشُّعراء والكتاب والمثقفين والمفكرين. ويأتي تفعيل هذه الواجهة الحضاريَّة الخصبة وتنظيمها، بوصفها رافدًا رئيسًا من روافد التنميَّة وبناء الإنسان، وهي من أهم محرِّكات التحول الوطني إلى المستقبل، وتحقيق رؤية 2030. ذلك أنَّ من ركائز القوَّة الأُولى في رؤيَّة المملكة 2030: الاهتمام بالعُمق العربي والإسلامي. ومن توجُّهات المحور الأوَّل في الرؤيَّة، الذي يدور حول حيويَّة المجتمع: دعم الثقافة، وبناء الشخصيَّة. وفي الأهداف الاستراتيجيَّة لهذا المحور يأتي تعزيز القِيَم الإسلاميَّة والهويَّة الوطنيَّة. وذلك من خلال المحافظة على تراث المملكة الإسلامي والعربي والوطني والتعريف به، والعنايَّة باللُّغة العَرَبيَّة. ومن ضمن الأهداف الاستراتيجيَّة كذلك: تمكين حياة عامرة وصحيَّة، بوسائل منها: دعم الثقافة والترفيه، ومن ذلك تنميَّة المساهمة السُّعوديَّة في الفنون والثقافة. ومعلومٌ أنَّ الأدب يُعَدُّ القاسم المشترك الأعظم بين تلك الأهداف الاستراتيجيَّة لمحور حيويَّة المجتمع، بالنظر إلى موقعه الجوهري في بناء القِيَم والهويَّة، وكونه وعاء اللُّغة والتراث والثقافة، وهو فوق ذلك بمثابة الأب للفنون الأخرى، قديمًا وحديثًا. فمن نافلة القول أنَّ إيلاء الأدب ما يستحق من رعايَّة، ودعم الأدباء، وتنظيم شؤونهم من خلال جهاز مرجعي واحد، هو من آليَّات العمل الأساس لتحقيق برامج رؤية 2030.

غير أنَّ ثمَّة نقاط قصور، أراها ما زالت قائمة دون تحقيق الرؤيَّة الثقافيَّة. فبالرغم من أنَّ الأديب منذ ارتضى الأدبَ حرفةً، يدرك أنَّ «حرفة الأدب ستُدرِكه»، ولذا فما ينبغي أن يعوِّل في حِراكه الإنتاجي على آخَر، غير أنَّ هناك جوانب تنظيميَّة، وأبعادًا إنسانيَّة، يؤمَّل أن يكون للجهاز التنظيمي دورٌ مهمٌّ في رعايتها ودعمها وتنميتها.

ونفصِّل القول في مقال الأسبوع المقبل، بعون الله.

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

في المثقف اليوم