قضايا

لا تقرأ لي إن كنت تبحث عن مرآة لما ورثته لا لما تفكر فيه.. ولا تقترب من صفحتي إن كان اختلافك يرتدي هيئة سكين.. فبعض القراءات ليست فهما بل محاكمة وليست حوارا بل رجما مؤجلا.

ثمة لحظة يبلغها الإنسان يتعب فيها من شرح نفسه كما تشرح التهم. ومن تبرير أفكاره ومشاعره وطريقته في النظر إلى العالم. لأنه يدرك أخيرا أن الحياة ليست ملف دفاع وأن الوعي لا يحتاج إلى إذن وأن يعرف نفسه يكفيه وأن يكون صادقا مع ذاته هو أسمى أشكال الاكتفاء

 الإنسان ليس ملزما بالدفاع عن حقه في التفكير فأن يعرف نفسه بصدق أعمق من كل الشهادات

لا يعنيني موقعك مني ولا كيف تراني ولا زاوية نظرك إلى.. فالصور التي يرسمها الآخرون لنا غالبا ما تكون انعكاسا لمخاوفهم لا لحقائقنا. ما يعنيني أن أكون حاضرة في ذاتي متصالحة مع عقلي بلا أقنعة ولا خوف من الاختلاف.

أختلف معك نعم وقد نتصادم فكريا أو عقائديا لكن الاختلاف لا يبرر أن تحفر الجروح في الروح ولا يمنح أحدا حق تحويل الفكرة إلى خنجر.

أنا لا أطلب منك أن تشبهني بل فقط ألا تلغيني

الاختلاف ليس شقا في الجدار بل نافذة؛ والآراء لا تتحول إلى عداوة إلا حين يخون الإنسان إنسانيته.  لا مشكلة لدي أن نختلف فكريا أو عقائديا لكن المشكلة أن يتحول الرأي إلى حجر وأن يصبح الحوار ساحة إعدام للأسئلة.

أدرك أن أفكاري جريئة ومحرضه على التفكير ولا تشجع على الطاعة بل التساؤل ولا تمنح اليقين.  هكذا أنا ولا أستطيع حتى لو أردت أن أعلق عقلي على مشجب العادات أو أستقيل من السؤال إرضاء للجماعة.

ربما كانت مأساة الإنسان الأولى أنه مختلف ومأساته الأعمق أنه يفكر. أن يحاول الفهم في عالم يقدس التلقين. وأن يسبح أحيانا ضد التيار لا حبا في العناد بل وفاء للصدق الداخلي.

لا أرى في اختلافي فضيلة ولا في وعيي سببا للتباهي لا أبحث عن تفوق ولا أحتاج إلى كراهية الآخر كي أثبت وجودي أنا فقط أحاول أن أكون أنا وأرفض أن أعيش نسخة باهتة من الآخرين. لا أشعر بالنقص إن رفضت افكاري ولا الاكتمال إن صفق لي.  أصمت أحيانا لا ضعفا بل نجاة. وأتجاهل أحيانا لا هروبا بل رحمة بالنفس. وأتناسى ما مضى لأمنح الطريق فرصة أن يستمر.

أنا لا أنتمي لأحد أنتمي لأفكاري وشكوكي..  للموقف الذي يدافع عن حق كل الكائنات في الحياة. لكل ما يخفف عن روحي ثقل هذا العالم. انتمي لألمي أيضا لأن الألم معلم صادق لا يخون.

لذا إن كنت غيورا على يقينك خائفا على عاداتك متشبثا بدوغمائيتك كطوق نجاة فلا تقترب مني إن كان ثمن الاقتراب أن تضحي بعقلك أو تطلب مني أن أضحي بعقلي. لا تقترب مني إن كنت تخاف السؤال أو ترتعد من الشك أو ترى في التفكير خطيئة. لا تحاورني إن كان هدفك الانتصار لا الحقيقة فأنا لا أبحث عن هزيمتك ولا أفرح بانكسارك.

واعلم أيها المخالف لي حين أحاورك لست أبحث عن انتصار ذاتي ولا أحتفل بهزيمتك فالانتصارات في الحوار التي تترك أحدنا مكسورا هي هزائم متنكرة

غايتي أبسط وأصعب.. أن ننتصر للحقيقة.. أن نفرح معا بصحة الفكرة.. وأن نقتسم ثمرة الخير دون أن يقصى أحد ودون أن يصلب السؤال.. أن نخرج من الحوار أكثر إنسانية وتحضر. وفي النهاية لا أطلب منك أن تتبعني ولا أن تتفق معي ولا أن تتخلى عما تؤمن به. بل أطلب شيئا واحدا فقط أن تترك لي حقي في أن أكون أنا دون وصاية. ودون محاكمة. ودون خوف من الاختلاف.

إن كنت ترى في سؤالي تهديدا وفي شكي خطرا وفي عقلي استفزازا فتراجع ولا تقرأ لي أنا لا أقاتلك ولا أنافسك ولا أسعى لإسقاطك أنا فقط أدافع عن حق الإنسان في التفكير وعن كرامة العقل وعن حرية الروح من كل ما يحاول تدجينها.

أنا لا أطلب منك أن تعبر طريقي ولا أن ترى بعيني بل أن تعترف بأن للإنسان أكثر من نافذة على الوجود وأن الحقيقة لا تسكن صوتا واحدا ولا عقلا واحدا ولا زمنا واحدا فكل يقين يغلق أبوابه يتحول مع الوقت إلى سجن. فإن التقينا يا صديقي على الحقيقة فذلك مكسبنا معا وإن اختلفنا بوعي فذلك شرف الاختلاف.  أما إن تحولت الفكرة إلى سلاح والعقل إلى عدو فاعلم أننا سنخسر.

***

ابتهال عبد الوهاب

 

يقبع في كواليس كل نجاح خطوات متراكمة تسبقه، إذْ كل خطوة تأخذ بحُجْزة أختها، في التزامٍ متواصل، ليُفضي بعد حين - طال الزمان أو قصُر - إلى حلم يرى النور، وإنجاز يولد للوجود، وإنْ شئت فقل إن النجاح هو آخر حلقة في سلسلة التراكمات، وفي هذا المقال لست أتحدث عن هذا النوع من التراكمات.

وفي المقابل كل انهيار كارثي من الحتمي أن يكون مسبوقا بسلسلة من التراكمات، تراكمات من الكتمان أو القرارات بالغة الضآلة غير المسؤولة أو الاستهانة بعدم وضع حدود صارمة مع العالم الخارجي، أو كبت مشاعر تفرضها الطبيعة البشرية، أو الاتكال على تقدير الآخرين، والانصياع لإملاءات البيئة، وهنا أتناول قصرا هذا النوع من التراكمات.

لا شيء يحدث من فراغ، ولا حَدَثَ يظهر في الواقع اعتباطا، ولا أمرَ جَلَلًا يحدث عفو الخاطر، هكذا مضت سنة الحياة فينا نحن بني البشر، إنه أشبه بغرس بذور لنباتات سامة، وتركها لرعاية الزمن، حتى يأتي يوم الحصاد، بثمارٍ من جنس تلك النباتات لا غير، والأمل بِغُلّة ثمار يانعة من جنس مختلف ما هو إلا محض وهم وارتهانٌ للمستحيل وتجاهلٌ لحقيقة معيشة.

في أدبنا العربي دأبنا على ترديد هذا الشطر الخالد: "ومعظمُ النار من مُستصغر الشرر" وهو حقا كذلك، فالنار هي شرارة بعد أخرى، ولهب يتبعه آخر، حتى تصير نارا هوجاء تأكل الأخضر واليابس، ولا تُبقي على شيء، ما يطالنا من أغلب ما نئنّ تحت وطأته ما هو إلا ما اكتسبته أيدينا على مدى الزمن، كلمةٌ طائشة هنا، وانفعال متهور هناك، وتسرّع هنا، وإهمالٌ هناك، تغافلٌ هنا، وانجرارٌ هناك، مواقف نحسبها عابرة ليست بذي بال، وقراراتٌ لا نقرؤها إلا تصرفات لحظية تافهة، لكننا نستيقظ ذات صباح لنجد أن كل شيء قد احترق! ونتهم العالم بأنه مَن أوقد تلك النار.

البدء بالانتباه والمراقبة والمحاسبة لأفعالنا الصغيرة هو أولى خطوات إيقاف كرة الثلج الآخذة في التدحرج قبل أن تغدو انهيارا ثلجيا يطمر أنفاسنا حين يعبرنا، تلك الرغبة الجامحة التي أخرسناها، وتلك اللحظة التي وجب أن نتريّث فيها، وذلك الموقف الذي تحتّم علينا التفكير مليًا قبل التفوّه بكلمة لإشباع غرورنا أو إطفاء ثورة غطرستنا، وتلك العلاقة التي توجّب أنْ نحملها على مأخذ الجِدّ، ولحظة الغضب الذي احتاج إلى ضبط النفس، وذلك التردد الذي استلزم قطعه بالمبادرة، وذلك الموقف الذي تطلّب شجاعة، وذلك التجاوز الذي استلزم صرامة، وتلك الفرصة التي تَمَلّكنا الخوف لاقتناصها، كل تلك اللحظات ليست بمعزل عن الوضع الراهن الذي نعيشه، فهي شبكة مترابطة يعضد بعضها البعض، وتتبعها تداعيات قد لا ننتبه إلى صلتها بها، وما إنْ نتوقف لبُرهة للتصرف إزاءَها بطريقة مختلفة حتى تأخذ حلقة التراكمات تلك بالتصدّع، ونأخذ بزمام الأمر شيئا فشيئا، لنجد أنفسنا مع واقع مختلف، ما ظننا يوما أن يكون من نصيبنا.

إنّ الأزمات حين تحلّ بنا، ونسعى جاهدين للتصدي لها، ليست جوهر المشكلة، بل أعراضٌ لخطواتٍ صغيرة خطوناها، واستجاباتٌ متكررة ارتضيناها، هذه الأزمات قذفتها الحياة فوق رؤوسنا لتبعث لنا برسالة واحدة: يا صاحِ عليك بتصحيح المسار! إنها نداء استيقاظ يخبرنا عنّا، وإنذارٌ لوجود خلل مستمر يجب معالجته على جناح السرعة والاهتمام، وللكاتب (Ryan Holiday) لفتة أنيقة جدا في عمقها في علاقة وقع دروس الحياة إذا تجاهلنا الانتباه عن كيفية تعاطينا مع أحداثها واستهترنا بأجراس الإنذار بين الفينة والأخرى، إذ يقول في كتابه

The Obstacle is the Way:

(1) "Lessons come hard only if you’re deaf to them"

أي: دروس الحياة تكون قاسية إذا أعرتها أذنا صماء!

إنّ تحمّل المسؤولية مهنة الشجعان، والقيام بأدوارنا المنوطة بنا تجاه ما يحدث صنعةُ أولي النباهة، فما يحدث إنما يحدث خلالنا ولا يحدث لنا! وفي اللحظة التي نبدأ فيها بالتحرك من منطلق الجزء المسؤولون عنه أصالةً، والتوقف عن لوم الظروف والآخرين والنحس، وتعليق معاناتنا على مِشْجب الحظ العَكِر، يستجيب لنا الكون، فيتغير الواقع! فليس ثمة أسهل من إلقاء اللوم على العالم الخارجي، ولن نُعدَم التبرير بأنّنا ضحايا لا حول لها ولا قوة، ومن اليسير جدا أن نندب حظنا ونتباكى طوال الليل متذمرين مما نحن فيه، ولكن ذلك البكاء لن يزيدنا إلا بُؤسًا، أما الوعي بأننا نملك الكثير لنقوم به، وفي جعبتنا خيارات تنتظر أن نلتفت إليها، مهما كانت المعاناة التي نتجرّعها، فإن ذلك كفيلٌ بقلب المعادلة رأسًا على عقِب، لتصبّ في صالحنا.

ذلك الشعور المكبوت سنين طويلة الذي نقرر التنفيس عنه، وتلك المبادرة التي نُقدم عليها بجرأة متبصّرة، والتقدير الذاتي الذي نرجعه لحياض ذواتنا، وتوطين النفس على الاعتناء بالتفاصيل الصغيرة، وتلك المراجعة الحازمة لردات فعلنا وطريقة استجابتنا للمثيرات الخارجية، كل ذلك بداياتٌ قد تبدو صعبة بادئ الأمر أو إيلاء اهتمام أكبر من حجمه فيما يبدو، لكنها تخلق مسارات جديدة تحمل في تضاعيفها مآلاتٍ تخترق واقعنا البئيس، وتكسر الحلقة المفرغة من اللامبالاة والألم الذي ينشب بمخالبه عديمة الرحمة في حظوظنا في الحياة.

التراكم يدحضه تراكم آخر ولكن باتجاه معاكس، وكل تراكم مضادّ يبدأ بحركة مضادة، فيُستبدل باللامبالة الانتباهُ، وبالانفعال الأناةُ، وبالكبت التحرّر، وبالعشوائية التخطيطُ، وبالفوضى الهدوءُ، وبالجُبن الإقدام، ومرّة بعد مرة، ويوما بعد يوم، سيؤتي التراكمُ أُكُلَه؛ فينتج عنه واقعٌ مبتسم الحظ وبهيّ الملامح.

لا شيء يضاهي مبدأ التراكم في سلطانه على الأحداث، أكان تراكما نحو الهاوية، أو كان تراكما صوب العُلا، والحياة لا تحمي المغفلين! وقوانينها تنسحب على الجميع ولا تحابي صدق النوايا غير المتسقة مع الأفعال الصائبة.

فلا تستوي تراكمات الاستثمار والادخار مع تراكمات التبذير وهدر الأموال، ولا تستوي تراكمات الكتمان والكبت مع تراكمات السماح لاحتيجاتك الداخلية بالتنفيس، ولا تراكمات الإهمال مع تراكمات المسؤولية الذاتية، ولا تراكمات الانفعال مع تراكمات ضبط النفس، ولا تراكمات التساهل مع الآخرين في تجاوز مساحتك الخاصة مع تراكمات إرساء حدود صارمة تصون ذاتك من هضم حقها، ولا تراكمات الكسل مع تراكمات الالتزام.

أنتَ لست ضحية للعالم، بل نتيجة لتراكماتك! وكل علاج يبدأ من سبب المشكلة، وكل نهاية تقطعها بداية، والقرار بيدك، إما كسر حلقة التراكمات بتراكمات أخرى، أو ترك الحبل على غارب تراكماتك المشؤومة لتغوص بك في الضحالة أكثر وأكثر، لا أحد ينقذك إلا أنت، والسرّ - كلُّ السر - في الخطوة الأولى، ولكل شيءٍ مرة أولى.

***

محمـــد سيـــف

........................

الهوامش:

(1) The Obstacle is the Way, Ryan Holiday, P:86, Profile Books LTD, 2015.

خط الدفاع الأول في مواجهة الغش والمعلومات المضللة

تعد منظومة القيم والانضباط التربوي جوهر العملية التعليمية وأساس بناء الإنسان الصالح الذي يميّز بين الحق والباطل ويهتدي بنور العلم والأخلاق، فالقيم هي الإطار الذي يوجّه السلوك ويهذب الضمير ويمنح الفرد القدرة على اتخاذ القرار الصحيح في عالم تتزاحم فيه المعلومات وتكثر فيه المغريات، وإنّ التربية التي لا تقوم على القيم تكون جسدًا بلا روح لأن القيم هي التي تحفظ للعلم مكانته وللمتعلم كرامته، وقد أكد القرآن الكريم على أهمية الصدق والأمانة في قوله تعالى ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ [طه: 114] فالزيادة في العلم لا تُطلب إلا بنية صافية وسلوك مستقيم، كما قال سبحانه ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ﴾ [الأنفال: 58]، وهذه الآية تؤكد أن الغش في أي صورة من صوره خيانة للأمانة العلمية والإنسانية

أما في الفكر الإسلامي، فإن القيم التربوية تمثل منظومة من المبادئ الأخلاقية التي تُستمد من القرآن والسنة، وهي أساس تكوين الشخصية المؤمنة الواعية التي تتعامل مع الآخرين بالعدل والإحسان، فالقيمة في الإسلام ليست مجرد فكرة مجردة بل هي سلوك عملي متجذر في الإيمان، وقد بين الله تعالى في كتابه العزيز أن غاية التعليم هي تزكية النفس لا مجرد جمع المعلومات، قال تعالى ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا﴾ [الشمس: 9]، فالتزكية هنا هي أسمى صور الانضباط القيمي، إذ تعني تهذيب النفس وتطهيرها من الميل إلى الخطأ والغش والخداع، كما أن النبي (ص) جعل من الصدق ميزانًا للإيمان بقوله «عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة» رواه البخاري، فالقيمة الأخلاقية في الفكر الإسلامي ترتبط بمصير الإنسان الروحي والاجتماعي

أما الانضباط التربوي في الفكر الإسلامي فهو نظام متكامل يهدف إلى تنظيم السلوك وضبطه وفق الشريعة ومقاصدها، لا على أساس القسر والعقاب وإنما على أساس الوعي بالمسؤولية أمام الله والضمير، فالمتعلم في الإسلام مسؤول عن علمه وسلوكه، مصداقًا لقوله تعالى ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾ [المدثر: 38]، والانضباط بهذا المعنى هو التزام ذاتي ينبع من الإيمان بالله والخشية منه، كما جاء في الحديث الشريف «اتق الله حيثما كنت واتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن» رواه الترمذي، فالانضباط في الإسلام ليس مجرد التزام شكلي بالقواعد المدرسية، بل هو تربية داخلية على المراقبة والمحاسبة والإحسان في العمل

وفي ظل الانتشار الواسع للمعلومات عبر الوسائط الرقمية أصبح المتعلم عرضة للمعلومات المضللة التي تُبنى على التضليل والخداع، وهنا تتجلى أهمية المنظومة القيمية في تعزيز التفكير النقدي والتمييز بين المعلومة الصحيحة والزائفة، فالقرآن الكريم يدعو إلى التثبت قبل تصديق الأخبار قال تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا﴾ [الحجرات: 6] وهذه الآية تمثل قاعدة ذهبية في التربية الإعلامية المعاصرة إذ تربي المتعلم على التمحيص قبل النشر أو التبني لأن الانخداع بالمعلومات الكاذبة نوع من الغش المعرفي الذي يتنافى مع القيم الإسلامية

ومن الروايات التربوية التي تبرز أهمية القيم في التعليم ما ورد عن الإمام علي عليه السلام قوله «قيمة كل امرئ ما يحسنه» وهذه المقولة تختصر فلسفة التربية القيمية، فالقيمة الحقيقية للإنسان ليست بما يملك من مال أو جاه وإنما بما يتحلى به من خلق وعلم نافع، كما قال أيضًا «العلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل» في إشارة إلى أن العلم المنفصل عن القيم والانضباط لا يثمر ولا يبقى

إن الغش والمعلومات المضللة لا يُمكن مواجهتهما بالرقابة الخارجية وحدها بل بالرقابة الذاتية التي تُغرس في النفس منذ الصغر، فحين يتربى المتعلم على الصدق والأمانة يصبح هو الرقيب على نفسه ويعي أن الغش لا يضر غيره فقط بل يسيء إلى ذاته وضميره، ومن هنا فإن المؤسسات التعليمية مطالبة بترسيخ القيم من خلال المناهج والأنشطة والتفاعل الإيجابي بين المعلم والمتعلم، كما يجب على الأسرة أن تكون شريكًا في هذه العملية التربوية لأن القيم تبدأ من البيت وتنمو في المدرسة وتترسخ في المجتمع

وبذلك يمكن القول إن منظومة القيم والانضباط التربوي تمثل خط الدفاع الأول في حماية التعليم من التلوث الأخلاقي والمعرفي، فهي السور الذي يحفظ نقاء العلم ويمنع الغش والخداع، وهي في الوقت نفسه البوصلة التي توجه الأجيال نحو الصدق والنزاهة والإتقان، مصداقًا لقوله تعالى ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [البقرة: 195]، فالعمل المتقن القائم على الصدق والانضباط هو التعبير الأسمى عن الإيمان بالله وعن عمق الانتماء الإنساني والحضاري وبه تزدهر الأمم وتسمو النفوس وتعلو القيم

***

د. صباح خيري

 

ينزع المتشددون الذين أطلقوا على أنفسهم (السلفيون الجدد) إلى أن شيوخ المعتزلة قد جانبهم الصواب في تقديمهم العقل على السمع ودفعتهم تأويلاتهم العقلية للنصوص القرآنية إلى انزلاق أقدامهم في آتون الاجتراء كما قادتهم أهواؤهم إلى تكفير بعضهم بعضًا ثم راح الوهابيون من بعدهم يصفون التأويل والاجتهاد في إعمال العقل في السمعيات بأنه درب من دروب الهرطقة والتجديف بل والكذب على الله ورسوله مرددين (لا اجتهاد مع نص). وفاتهم أن تجديد الدين لا يكون مع غيبة المجتهدين، والاجتهاد لا يستقيم إلا إذا صدر عن عالم أريب وعقل فطن ودقة في التعبير والصياغة.

وغاب عنهم أيضًا (أنه لا اجتهاد مع نص قطعي الثبوت وقطعي الدلالة وهذا لا ينطبق إلا على المحكم من آيات القرآن فقط) ومن أقوال فخر الدين الرازي في كتابه (مختصر الصواعق) في ذلك (المطالب الثلاثة: الأول: ما يتوقف ثبوت الشرع على ثبوته، كوجود الله وصدق الرسول، فهذا يستحيل أن يعلم بإخبار الشرع. الثاني: ثبوت أو انتفاء ما يقطع العقل بإمكان ثبوته أو انتفائه، فهذا إذا لم يجده الانسان من نفسه، ولا أدركه بحسه استحال العلم به إلا من جهة الشرع. الثالث: وجوب الواجبات، وإمكان الممكنات، واستحالة المستحيلات، فهذا يعلم من طريق العقل بلا إشكال. فأما العلم به بإخبار الشرع فمشكل، لأن الخبر الشارع في هذا المطلب إن وافق عليه العقل فالاعتماد على العقل وخبر الشارع فضل، وإن خالفه العقل وجب تقديم العقل وتأويل الخبر في قول المحققين) ولعل هذا القول يعبر عن العقل الجمعي الذي يدين به جل المسلمين.

فشيوخ المعتزلة لم يحتكموا في تأويلاتهم للسمع إلا لصريح المعقول -وذلك قبل اختلاط آرائهم بالنظريات الفلسفية - وعليه أن تأويلاتهم للمتشابه من القرآن لا يخرجهم عن رأي الجمهور وقد انحصرت مواطن انتقادات بعضهم لبعض في المسائل ذات الصلة بالتصورات الفلسفية الميتافيزيقية فحسب أما آرائهم في القضايا العقدية فقد اعتمدت على نظرية تجاور العقل للنقل ولم يقفوا من كتب جماع الحديث موقفًا استبعاديًا إلا بعد تنقيتها بغرابيل صريح المعقول.  كما أن كثرة محاوراتهم ومناظراتهم مع شتى المذاهب والملل والنحل قد اكسبتهم دربه ودراية بقواعد حرية التثاقف، والالتزام بحدود الموضوعية في النقد مع الزام المحاور بعقلانية التصورات في طرح الرؤى والاتيان بالحجج والبراهين ذلك فضلًا عن مجهم للتقليد في شتى صوره وعدم الاحتكام للمألوف والموروث ولاسيما في أمور التشريع. وبهذا المنحى وبفضل غرابيلهم العقلية قد استطاعوا صد الهجمة الشرسة التي شنت على أصول العقيدة الإسلامية من قبل عشرات الفرق (الجبرية، المجسمة، الدهرية، الحلولية، الباطنية، عصبية الخوارج، بدع الشيعة، تجديف الملحدين وإفك الهراطقة) وليس هناك أدل على أهمية وعظم جهودهم في تبيان فلسفة المقاصد الشرعية إلا عودة معظم خصومهم إلى التسلل إلى الثقافة الإسلامية ثانيةً وذلك عقب غيبة المطبقين لمنهج المعتزلة العقلي ولاسيما في الفكر الإسلامي المعاصر الذي بات مولعًا بعشرات الأكاذيب التي اصطنعها الخوارج الجدد من الإرهابيين والتكفيريين من جهة وأصحاب البدع مثل عبدة الشيطان والمجدفين التفككين والارتيابيين ودعاة وحدة الأديان والعقيدة الابراهيمية وتأليف الجماعات الماثونية من جهة ثانية وتجديف المتعالمين من دعاة الحداثة وما بعد الحداثة والفوضويين والوجودين والعبثيين والاباحيين والمجترئين على النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته من المأجورين ودعاة الفتن من جهة ثالثة فجلهم قد ارتدى عباءة الصدق وراح يلوح برايات العدل والحرية التي جاء بها المهدي المنتظر وخفي تحت عباءته لباس أبليس ومسبحة ترانيم الشيطان الكاذبة.

مع العلم أن جل شيوخ المعتزلة لم يلزم أحدهم باتباع اجتهاداتهم ولم يزعموا أن ما انتهوا إليه عقلًا ناسخًا لما جاء في السمع (القرآن). ولعل نهجهم يتفق مع قول الامام الشافعي (ميز يا بني، علمك الله، ما قد شرحت لك من هذا القول وتدبر ما حكيت لك من قول الكذابين على الله يبن لك الصدق وتعلم الحق، لأنه واضح مبين لا يخفى أهل المعرفة والعقل لأن العقل أكثر حجج الله سبحانه على عباده ولذلك لم يخاطب إلا ذوي الالباب والعقول).

كما يؤكد شيوخ المعتزلة أن تدبر نسقية القرآن والنظر للقضايا التي تحدث عنها في آياته تغني العابد المريد عن غرابيل الكذب وذلك لأنه قد توصل بعقله المؤمن بأنه أوشك على الوصول إلى حق اليقين وهو الممثل الأوحد إلى المقاصد الربانية ولعل ابن سينا وبن طفيل قد تأثرا بهذا المنحى العقلي في حديثهما عن قصة (حي بن يقظان) - فالحق لا يناهض أو يعارض الحق- والصدق لا يمكن أن يتخفى في رداء الكذب بل العكس صحيح لذا نجد شيوخ المعتزلة يحزرون من الآيات التي ينزعها الكذابون من سياقاتها لإضلال الناس بإسم الدين الامر الذي يوجب مقابلة الآيات بعضها ببعض إذا كانت تشتمل على حكم أو الارشاد إلى حقيقة أو الاخبار عن واقعة ولا يحتج في هذا المقام بما يقال عنه الناسخ والمنسوخ فالنسخ في القرآن عند جميع شيوخ المعتزلة لا يكون بمعنى الابدال أو الانتقال من حكم إلى نقيده فقد اعتبر جلهم أن القرآن نص متناغم ومتناسق ولا يوجد فيه نسخ، أو أن شئت قولت النسخ عندهم مقيد بأن يكون في حدود التخصيص لا الإلغاء الكامل. وقد اعتمدوا في ذلك على مبدأ أن كل آية لها حكمها الخاص، وأن الأوامر والنواهي فيه متوافقة، وربطوا ذلك بمبادئهم العقدية، كما ورد في قضية "خلق القرآن".

كما ينكرون أيضًا وصف أفعال العباد بأنها مقدرة قبل وجود أصحابها ويكذبون كل من رد المعاصي والآثام التي تدخل في بابها بأنها قدر من عند الله تجبر الانسان على فعلها بحجة أنه لا مرد لقدر الله بينما الصدق عندهم أن كل أفعال العباد قد خبرها الله بعلمه وليس بإرادته لأنه لو كان غير ذلك لبات العادل ظالمًا وحاشا لله أن يكون كذلك فقد قال تعالى في سورة فصلت ( مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيد)ِ (46) وجاء في صحيح الحديث قول النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل: "يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا".

ويجدر بنا الإشارة إلى أن شيوخ المعتزلة قد أخرجوا الخوارق والمعجزات الواردة في القرآن من غرابيل النقد التي تفصل بين الصدق والكذب فكل ما جاء في حق اليقين صادق بالضرورة والعقل عاجز عن الوصول إلى حقيقته ويرجع ذلك لأنهم اعتبروا أن علم الله وقدرته هي ذاته ومن ينكرهما يجحد وحدانيته وربوبيته وعليه فإن المعجزات الخارقة للسنن ما هيا إلا آيات يحتج بها على كذب الكاذبين وأنها تأييد لأنبيائه ورسله ضد المنكرين والجاحدين ومع ذلك فأنهم لا يسلمون بحدوث الخوارق والمعجزات والكرامات التي لم يذكرها القرآن سواء كانت منسوبة إلى الأنبياء أو الأولياء وحجتهم في ذلك أنها تحدث إشكالًا في الاستيعاب بين عين اليقين الذي يمكن للعقل تصوره وبين حق اليقين الذي أخبر عنه الله في قرآنه الكريم كما أن ذيوعها بين العوام  قد يحدث فتنة ويجلب الشكوك والخلط بين الأنبياء والأولياء ويجعل الكذب يتسلل إلى ألسنة من يظنهم الناس على غير حقيقتهم مثل الافتتان بالخلفاء أو المتصوفة الاتقياء أو أصحاب المناقب والنجاحات من الأمة والزعماء أو الادعياء.

أما المعجزات الواردة في السيرة وكتب جماع الحديث مثل رواية حوار النبي صلى الله عليه وسلم مع حماره يعفور، وادعاء بعض الرواة (بقيام النبي صلى الله عليه وسلم بوطء كل زوجاته وسراريه في ليلة واحدة)، ووجود الحمامتين والعنكبوت في مدخل غار ثور أثناء الهجرة لإخفاء النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه عن عيون مطارديه. فإن مثل هذه القصص والروايات المختلقة يأبها صريح المعقول شكلًا وموضوعًا ويسهل على غلاة المستشرقين والطاعنين في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم نقدها وهدم أركانها وقد شكك فيها جمهور العلماء.

أما موقف شيوخ المعتزلة من قضية خلق القرآن فهي أيضًا تعبر عن وجهتهم العقلية النابعة من عمق إيمانهم بعدم الفصل بين علم الله وذاته وأن إعجاز القرآن ليس  في صياغته اللغوية وروعته البلاغية التي لا يدركها إلا أرباب تلك اللغة فحسب بل أن نسقيته وبنيته المعرفية وموضوعيته التي تفوق كل تصور في صلاحيتها للتطبيق في كل زمان ومكان وجمع فضائله الأخلاقية بين الثوابت والأصول الركينة والقابلة دومًا للتجديد والتطويع وفق المتغيرات الثقافية والبيئات المتغايرة هي المعجز الحقيقي الذي يمكن التحقق منه بعين اليقين ويمهد للذهن سبيله إلى قبول الغيبيات التي تحدثت عنها الآيات في حق اليقين وقد تأثر بهذا المنحى ابن رشد.

  كما قام شيوخ المعتزلة بالرد على مخالفيهم بنهجهم الجدلي المفحم مبينين أن القرآن باعتباره كلام الله فهو صادر عنه وكل ما يصدر عن الله من أشياء فهي من خلقه سبحانه وتعالى كما أن الألفاظ والحروف والكلمات والتراكيب اللغوية أشياءً قد اكتسبت دلالاتها من البشر وقد خلقها الله سبحانه وتعالى   وجعلها وعاءً لحمل أوامره وشرائعه ومقاصده بلسان يفقهوه شأن الكتب السابقة على الإسلام التي تنزلت على أقوام بلغات شتى أما القول بقدم القرآن فهو لا يكون لأن الله سبحانه هو الأول والأخر والأول لا يشاركه أحد في وجوده.

 وخلاصة قول المعتزلة أن حلاوة وجمال الالفاظ القرآنية لا تعد وجهًا للإعجاز فقط إذا ما قورن هذا المعجز بتلك الحكمة النسقية والمنطق المكين والحجج التي سوف تظل من المستحيلات التي لا يستطيع العقل الاتيان بمثلها، ولعل قول الله (إنَ نحن نزلنا الذكر وإنَ له لحافظون)، (سورة الحجر الآية 9) يتضح فهمه على الوجه الأمثل الذي يكشف أن سر حفظه كامن في جوانية النص وجوهره وبنيته التي يصعب تزييفها أو تسلل الكذب إليها، وكيف لا وكل الواقعات والمعارف والمعلومات تؤكد حجيته الصادقة وعظم خالق آياته وإن كره الجاحدون.

 ويترئ لي أن قضية خلق القرآن وقدمه من القضايا المفتعلة التي أثارها الأغيار من لاهوتي أصحاب الكتب المقدسة، وذلك خلال مساجلات المعتزلة معهم وإن حجة شيوخ المعتزلة وردهم تبعًا للسياق السالف كان في شدة العبقريّة؛ لأنهم لم يقولوا بأن القرآن مخلوق بالمعنى الدلالي الذي ينظر إليه الذهن بأن كل المخلوقات ناقصة ومصيرها للهلاك شأن الإنسان ذاته،  كما أنهم لم ينظروا إلى القول بالقدم على أن دلالة القدم هي (السرمديّة أي القبلية المطلقة) فقالوا إنّ القرآن هو المرآة  التي جعلها الله صورةً تعكس جانبًا من علمه الذي يسهل على البشر رؤيته واستيعابه.

وعليه؛ يمكن اعتبار (جبريل) مرآة ناطقة للآيات، وأن الأثر الذي يُحدثه وقع القرآن في القلوب هو شكلٌ من أشكال المرآة الشعوريّة التي تلحق بوجدان الذين يستمعون إلى القرآن دون علمًا منهم بلغته وما تحمله الآيات من معاني ودلالات.

ومن زاوية أخرى - لقراءتنا لكلام المعتزلة - نجد أن خلافهم مع الأشاعرة في هذه القضية يكاد يكون خلافاً دلاليًا حول دلالة الكلام وظاهر الألفاظ؛ ولعل مضمون هذا التصور يتفق مع رؤية الامام أحمد بن حنبل الذي ذهب إلى أن القرآن هو كلام الله فحسب. وحديث الجرجاني (1339:1413 م) في كتابه (دلائل الاعجاز) عن المعجز الدلالي للقرآن الكريم. 

وللحديث بقيّة حول الجانب التطبيقي من آراء المعتزلة المستنبطة من غربلتهم للآراء التي طرحت في الثقافة الإسلامية ولحقت بعقائدها.   

***

بقلم: د. عصمت نصّار

 

تأتي دعوة الدكتور أيمن السيد عبد الوهاب، مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، للنخب الفكرية لتعريف دورها في تشكيل مستقبل الأمة، في لحظة فارقة من تاريخنا المعاصر. إنها لحظة تحول "جيوفكري" عميق، تعلن نهاية دورة حضارية هيمنت على العالم قرونا، وتبشر بولادة دورة جديدة متعددة الأقطاب، تحمل بصمات شرقية آسيوية واضحة. هذا التحول ليس مجرد إعادة توزيع للقوى على الخريطة العالمية، بل هو تحول في "الميتافيزيقا الاجتماعية" التي تنظم علاقات البشر والمجتمعات والدول. وهو يطرح أسئلة مصيرية على النخب العربية، التي تقف أمام منعطف تاريخي لا يحتمل التردد أو التلكؤ.

فالعالم الذي نعيش فيه اليوم لم يعد هو العالم الذي نشأت فيه مراكز الفكر العربية في منتصف القرن الماضي. لقد انقضى زمن كانت فيه هذه المراكز مجرد نوافذ نطل من خلالها على إنتاج المعرفة في الغرب، أو ورش لتكييف هذه المعرفة مع واقعنا المعقد. نحن اليوم أمام واقع جديد: واقع تعيد فيه التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي صياغة مفهوم المعرفة ذاتها، وتحيل فيه التحولات الجيوسياسية الكبرى الكثير من المسلمات الفكرية السابقة إلى تاريخ.

في هذا الواقع المتشابك، تواجه مراكز الفكر العربية ثلاثة تحديات وجودية متداخلة:

أولا: تحدي الهوية في عالم الذوبان: كيف تحافظ هذه المراكز على رسالتها الحضارية الخاصة، بينما تتعرض الخصوصيات الثقافية لعمليات إذابة ممنهجة في بوتقة العولمة الثقافية؟ وكيف تشارك في صياغة النظام العالمي الجديد دون أن تفقد بوصلة ذاتها، ودون أن تظل أسيرة الثنائيات العقيمة التي شغلت العقل العربي طويلا (الأصالة والمعاصرة، التراث والحداثة، الدين والعلمانية)؟ السؤال الجوهري هو: كيف ننتقل من موقع المتلقي للفكر إلى موقع المشارك في إنتاجه وصياغته؟

ثانيا: تحدي التسونامي التقني: لقد غير الذكاء الاصطناعي وثورة البيانات قواعد اللعبة الفكرية برمتها. فالقدرة على جمع المعلومات ومعالجتها وتحليل الأنماط لم تعد حكرا على العقل البشري. بل إن الآلات تتفوق عليه في هذه المهام بمراحل. وهذا يطرح سؤالا محوريا: ما هي القيمة المضافة التي يقدمها الباحث والمفكر البشري في عصر الخوارزميات الخارقة؟ وما هو الدور الجديد لمراكز الفكر في ظل هذه الثورة التي تتدخل حتى في تشكيل الوعي واتخاذ القرار؟

ثالثا: تحدي التحول الفلسفي: نحن إزاء تحول قيمي عميق في النسق العالمي. فالنموذج الغربي، الذي رفع شعار الفردانية والحرية المطلقة، يعاني أزمة عميقة تتجلى في التفكك الاجتماعي والاستقطاب السياسي. وفي المقابل، يبرز النموذج الآسيوي، الذي يقدم الجماعة والتنمية والاستقرار كبديل. مجتمعاتنا العربية تقف في ملتقى الطرق، تبحث عن مسارها الثالث الذي يستلهم من تراثها ويستوعب معطيات العصر، دون أن يكون نسخة طبق الأصل من أي نموذج وارد. هذا البحث يحتاج إلى تأمل فلسفي جريء، لا إلى مجرد ترقيع سياسي أو اقتصادي.

الاستجابة لهذه التحديات المصيرية لا تكون ببعض الإصلاحات الإدارية السطحية، بل تتطلب تحولا نوعيا في الرؤية والوظيفة والمنهج. وهذا التحول يقوم على أربعة أركان أساسية:

1. إعادة تحديد الهوية والوظيفة: يجب أن تنتقل مراكز الفكر من دور "مورد الخدمات الفكرية" للحكومات والنخب، إلى دور "حاضنة التجديد الحضاري". عليها أن تعمل على إعادة ربط العقل العربي بجذوره المعرفية والتاريخية، ليس للوقوف عندها تحنيطا، بل للانطلاق منها في حوار خلاق مع منجزات العصر. عليها أن تكون الجسر بين ثوابت الأمة ومتغيرات العصر، بين العمق التاريخي ومتطلبات المستقبل.

2. تبني منهجية تكاملية مركبة: لقد آن الأوان لتجاوز منهجية "إما/أو" التي شطرت العقل العربي وأضعفت فاعليته. نحتاج إلى منهجية تستوعب التعقيد، وترفض التبسيط المخل، وتجمع في تحليلها بين دقة العلوم الاجتماعية، وعمق الفلسفة، وروح النقد التاريخي، وحدس الحكمة الإنسانية. منهجية تنظر إلى الظواهر في كليتها وترابطها العضوي، لا كأجزاء منعزلة.

3. الاستيعاب النقدي للثورة التقنية: لا مكان هنا لموقف الرفض المطلق، ولا للانبهار السلبي. على مراكز الفكر أن تتحول إلى مختبرات لاستكشاف وفهم وتوظيف التقنيات الحديثة، خاصة الذكاء الاصطناعي. الهدف هو بناء "ذكاء مضاعف" يجمع بين سرعة التحليل الآلي الهائل، وعمق السؤال البشري، وقدرته على الحكم الأخلاقي والتأويلي الذي تفتقده الآلة.

4. بناء تحالفات المعرفة الجنوبية: في عالم يتجه نحو التعددية القطبية، يجب أن تتعدد وتتنوع روابط المعرفة. فالحوار مع مراكز الفكر في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية لم يعد ترفا، بل أصبح ضرورة استراتيجية. إنه الطريق لخلق توازن معرفي جديد، ولتأسيس منظور "جنوب-جنوب" يحرر الفكر العالمي من ثنائية الشرق والغرب التي هيمنت عليه قرونا طويلة.

بهذه الرؤية المتكاملة، يمكن لمراكز الفكر العربية أن تتحول إلى خلايا تفكير جماعي حقيقية، وذلك من خلال:

- استعادة الروح النقدية البناءة: نقد ينطلق من الانتماء والحرص، لا من التمركز حول الذات أو الانبهار بالآخر. نقد يفرق بين الجوهر والعرض، ويهدف إلى الإصلاح والتجديد، لا إلى الهدم والتشويه.

- بناء معرفة تشاركية حوارية: الخروج من الأبراج العاجية للإنصات إلى نبض الشارع وفهم هموم الناس الحقيقية. فالمعرفة التي تبنى مع الناس ولهم، هي وحدها القادرة على تقديم أجوبة مقنعة عن أسئلتهم المصيرية.

- تبني رؤية استباقية للمستقبل: الانتقال من ثقافة رد الفعل إلى ثقافة الفعل، ومن تحليل الماضي والحاضر إلى المشاركة الفاعلة في صياغة المستقبل. رؤية تجمع بين واقعية التشخيص وجرأة الطموح.

- إعادة الاعتبار للبعد الأخلاقي: في زمن العولمة المادية الصاخبة، تصبح مهمة الدفاع عن القيم الإنسانية والأخلاقية، المستمدة من تراثنا الروحي والحضاري ومن الفطرة الإنسانية السليمة، مهمة مركزية. فالفكر بلا أخلاق قوة عمياء، والسياسة بلا أخلاق صراع همجي.

بين لحظتين تاريخيتين نعيش: لحظة نهاية وهمود، ولحظة بداية وولادة. الخطر الوجودي حقيقي، لكن التاريخ يعلمنا أن أعظم المخاطر تحمل في طياتها أعظم الفرص. العالم الذي يبحث عن توازن جديد، هو عالم يحتاج إلى كل الأصوات الحضارية، خاصة صوت حضارتنا العربية الإسلامية الحامل لتراث إنساني هائل. ولكن هذا الصوت لن يسمع، ولن يكون له تأثير، إذا ظل مشتتا أو ضعيفا أو عاجزا عن التعبير بلغة العصر.

هنا تكمن المهمة التاريخية لمراكز الفكر العربية: أن تصوغ هذا الصوت، أن تجسده في رؤى واضحة، ومناهج دقيقة، وسياسات عملية. أن تقود النقلة النوعية في الفكر التي تشكل الأساس المتين لأي نهضة حقيقية. المهمة شاقة وتتطلب شجاعة المفكر، وصبر الباحث، وحكمة الحكيم، وتواضع من يدرك أن المعركة الحقيقية هي معركة فكرية في المقام الأول.

فالأمم التي تتخلف عن صناعة فكرها، محكوم عليها باستهلاك فكر غيرها. والفكر المستورد، كالرداء المستعار، قد يغطي الجسد لحظة، لكنه لن يناسب مقاسه يوما، ولن يعبر عن روح صاحبه وذاتيته. والقرن الحادي والعشرون، بتحولاته الجارفة، ينتظر منا إجابتنا الخاصة: المتماسكة، الأصيلة، والمعاصرة.

***

د. عبد السلام فاروق

كانت مسألة خلق العالم ومصير الإنسان بعد الموت من بين أولى الأسئلة التي خطرت في ذهن الإنسان، وقد تم التعبير عن مفاهيمه في عصور ما قبل التاريخ من خلال رسومات كهفية جذابة.

بدأ تطور المعرفة في الشرق الأدنى مع ظهور حضارة وادي النيل وحضارة بلاد ما بين النهرين.

رفض المصريون القدماء قبول الموت كنهاية لوجودهم، مما دفعهم إلى التفكير والتأمل بعمق في معنى الوجود، وكيف تم خلق الكون، وكيفية التغلب على الموت والوصول إلى الحياة الأبدية. وقد ادي ذلك الي الاعتقاد بان الحياة على الأرض مجرد جزء من رحلة أبدية تستمر بعد الموت وفقا لدينونه صارمه تقيم حياه الانسان قبل موته.

ظهرت الحضارة السومرية في جنوب بلاد ما بين النهرين، وابتكر السومريون نظام دولة المدينة حيث كان لكل مدينة استقلال ذاتي وإله خاص. كان السومريون يعتقدون أن العالم تحت مراقبة الآلهة، وأن المرض سببه الغضب الإلهي.

يرتبط تاريخ اليهوديه بتاريخ كنعان وهي منطقة تشمل فلسطين وسوريا وغرب نهر الأردن. ظهرت مملكة إسرائيل في الشمال منذ القرن الثالث عشر قبل الميلاد، ومملكة يهوذا في الجنوب خلال القرن العاشر قبل الميلاد. تم كتابه أجزاء كبيرة من التوراة بواسطه نخبه من اليهود المنفيين في بابل واختيار يهوه إلها سماويًا لليهود. يصف التوراة وعد الله لـ "إبراهيم" وهروب نسله إلى مصر، ثم خروجهم من مصر بقيادة "موسى" وعند جبل سيناء تلقى "موسى" التوراة (أسفار موسى الخمسة). في النهاية، قادهم الله إلى أرض كنعان التي أصبحت "إسرائيل .“ تقدم الديانه اليهودية مجموعة من الارشادات والتقاليد والطقوس بعضها تأثر بالثقافة المصرية وهناك تقارب كبير بين النصوص المصرية والنصوص العبرية، ومن الامثله كلمة ”مزمور" كلمة مصرية تطلق على الترانيم، ونصائح الحكيم "بتاح حتب" هي أصل سفر المزامير، وحكم "أمينموب" هي أصل سفر الأمثال. وأخذ العبرانيون عن المصريين عمل الخبز بلا خميرة، وختان الذكور . كما يوجد تشابه بين بعض القصص في ”التوراة" والأساطير السومرية مثل قصة "نوح" والطوفان وأسطورة جلجامش السومرية. كذلك هناك تشابه بين قصة "آدم وحواء“ مع اساطير منقوشة باللغة الأوغاريتية في "سوريا" .

كانت الزرادشتية الديانة الرسمية لبلاد الفرس منذ عام 600 قبل الميلاد إلى 650 ميلادي. انتشرت الزرادشتية على يد النبي زرادشت، الذي تلقى وحياً متكرراً من ملاك يخبره عن إله واحد يدعى أهورا مازدا (الرب الحكيم) الذي خلق العالم، وهو مصدر الأفكار والكلمات والأفعال الطيبة، ويجب عبادته، وأن هناك صراعاً مستمراً بين الخير والشر.

تشمل الممارسات الدينيه عند الزرادشتيون الصلاه خمس مرات في اليوم مع تغطية الرأس بقبعة بيضاء من القطن للرجال ووشاح للنساء. كما يمارس الزرادشتيون غسل الوجه والارجل واليدين قبل الصلاه . ينظر الزرادشتيون الي النار على أنها الرمز الأسمى للنقاء، وتمثل نور الله ”أهورا مازدا“. يحاسب روح المتوفى رئيس الملائكة ” والصالحون مصيرهم الجنه، وينجحون بسهوله في عبور الصراط الذي يقع فوق جهنم أمَّا الأشرار سيفشلون في عبور الصراط ويهوون في النار. بعد نهاية الزمان، سوف يجتمع الجميع اهل الجنه وجهنم وسوف يعيشون في سلام ووئام إلى الأبد مع أهورا مزدا، الذي برفض العذاب الابدي .

هناك تشابه بين الزرادشتية والعديد من المعتقدات والممارسات الدينيه في الشرق الادني، وقد دخلت بعض المعتقدات والممارسات الزرادشتية إلى المجتمع الإسلامي، فهناك تشابه في وصف الاله وفي ممارسه الصلاه خمس مرات في اليوم، وفي ممارسه الوضوء قبل الصلاة. كما ويوجد تشابه بين قصه الاسراء والمعراج في الاسلام مع أساطير زرادشتيه.

كانت الفترة الهلنستية (323 قبل الميلاد إلى 30 قبل الميلاد) المرحلة الأخيرة في تطور الفكر الديني في الشرق الأدنى قبل ظهور المسيحية. أدت حملات الإسكندر الأكبر إلى تواصل ثقافي كبير بين الشرق والغرب، وإلى إنشاء إمبراطورية عالمية اندمجت فيها الثقافات والحضارات والأديان الشرقية والغربية. وقد أسفر هذا الاندماج عن ظهور ثلاثة تيارات دينية: الهرمسية، والغنوصية، والمساريه. لعبت الغنوصية دورًا هامًا في الإيمان بإله واحد يضع المعرفة الباطنية في القلب النقي ليدرك الإنسان وجود الإله السماوي، وأن طريق الخلاص يمر عبر الوسيط السماوي، "المخلص"، الذي تصعد الروح معه إلى السماء لتتحد مع الله إلى الأبد. أثر التوحيد الغنوصي على اليهودية ليصبح "يهوه" الإله الواحد العظيم، وجعلوا السماء مقرًا أبديًا له.

في الختام، فإن التشابه في المفاهيم الدينية عبر حضارات الشرق الأدنى يعكس حقيقة أن التجربة الإنسانية هي سلسلة متشابكه من الافكار. للاسف انكر ارسطو وجماعته التواصل الفكري القوي بين الحضاره المصرية القديمة والحضاره الإغريقية، علي الرغم من ان عشرات من الفلاسفة الإغريق تلقوا تعليمهم في "جامعة أون" المصرية واستفادوا من مكتبة الإسكندرية التي كانت منارة للمعرفه في العالم القديم. اخطأ ايضا منظري "العصر المحوري“ في حصر الحضارات البشريه الهامه في فتره محدده تمتد من القرن الثامن إلى القرن الثالث قبل الميلاد. ها الاختيار العشوائي يتجاهل التسلسل الحقيقي للفكر الإنساني ودور اهم حضارتين في تاريخ البشريه: الحضاره السومريه والحضاره المصريه القديمة.

لقد حلت النظريات العلمية محل الأساطير والتأملات المجردة،منذ اكتشاف كوبرنيكوس في عام 1514، أن الأرض ليست مركز الكون، وأصبح الإنسان قادرًا على القياس والتنبؤ معتمدًا على علوم الفيزياء، والمعادلات الرياضية .

للاسف، انتشرت الحركات الدينية الأصولية في جميع أنحاء الشرق الأدنى خلال العقود الأخيرة، مما أعاق تقدم المعرفة، ويجب علينا مواجهة هذه الظاهرة المؤسفة وهزيمتها بالمعرفة العلمية الحديثة.

***

بقلم استاذ دكتور سامح مرقس

جدلية الموروث والعصرنة في تشكيل النص الإبداعي المعاصر

تتناول هذه الدراسة قضية الإبداع في عصر التكنولوجيا، من خلال تحليل العلاقة الجدلية بين استلهام الموروث الثقافي والتفاعل مع معطيات العصر الرقمي. تنطلق الدراسة من فرضية أن الإبداع المعاصر لم يعد مجرد إنتاج جمالي أو لغوي، بل أصبح فعلاً تواصليًا يتفاعل مع قارئ جديد تشكّل وعيه ضمن بيئة رقمية متسارعة. ومن ثمّ، فإن الكاتب المعاصر مطالب بإعادة صياغة أدواته الفنية والفكرية بما ينسجم مع متطلبات هذا القارئ العصري، دون التفريط في أصالة الموروث أو عمق الهوية الثقافية.

الكلمات المفتاحية: الإبداع، التكنولوجيا، الموروث، العصرنة، القارئ الجديد، الأدب الرقمي.

المقدمة

يشهد العالم المعاصر تحولات جذرية بفعل الثورة التكنولوجية التي غيّرت أنماط التفكير والإنتاج والتلقي في مختلف المجالات، ولا سيما في ميدان الإبداع الأدبي والفني. فقد أصبح الإبداع في زمن الرقمنة ظاهرة مركّبة تتقاطع فيها الفنون والمعارف والتقنيات، مما يفرض على الباحثين والمبدعين إعادة النظر في المفاهيم التقليدية التي حكمت العملية الإبداعية لعقود طويلة.

تنبع أهمية هذه الدراسة من كونها تسعى إلى استكشاف جدلية العلاقة بين الموروث الثقافي والعصرنة في تشكيل النص الإبداعي المعاصر، في ظل التحولات الرقمية التي أعادت تعريف مفاهيم النص، والكاتب، والقارئ. كما تهدف إلى إبراز كيف يمكن للمبدع العربي أن يوازن بين الأصالة والانفتاح، بين الجذور الثقافية والآفاق التقنية، ليصوغ نصًا قادرًا على التفاعل مع روح العصر دون أن يفقد هويته.

وتنطلق الدراسة من إشكالية محورية مفادها: كيف يمكن للإبداع أن يحافظ على عمقه التراثي وهويته الثقافية في ظل هيمنة التكنولوجيا الرقمية؟ وما السبل التي تمكّن المبدع من توظيف أدوات العصر لخدمة القيم الجمالية والفكرية الأصيلة؟

وللإجابة عن هذه الإشكالية، تعتمد الدراسة منهجًا تحليليًا نقديًا يقوم على تتبع مظاهر التحول في مفهوم الإبداع، وتحليل أثر التكنولوجيا في بنية النصوص المعاصرة، مع استحضار دور الموروث الثقافي في إثراء هذا التحول.

أولاً: مفهوم الإبداع في ضوء التحولات التكنولوجية

الإبداع، في جوهره، فعل إنساني يتجاوز المألوف نحو اكتشاف الجديد والمغاير. غير أن هذا المفهوم شهد تحولات عميقة مع الثورة الرقمية. فقد أصبح الإبداع اليوم مرتبطًا بقدرة المبدع على توظيف الوسائط المتعددة، والتفاعل مع فضاءات رقمية مفتوحة، تتجاوز حدود الورق واللغة التقليدية.

يشير عبد الله الغذامي (2005) إلى أن "التحول الرقمي في الثقافة العربية لم يعد خيارًا، بل أصبح شرطًا من شروط الوجود الثقافي ذاته"¹. وهذا يعني أن الإبداع لم يعد يُقاس فقط بجماليات النص، بل بمدى قدرته على التفاعل مع بيئة رقمية متغيرة، تستوعب الصورة والصوت والحركة إلى جانب الكلمة.

ثانياً: الموروث الثقافي كمنطلق للإبداع المعاصر

يُعد الموروث الثقافي خزانًا رمزيًا يغذي الإبداع ويمنحه عمقه التاريخي والإنساني. غير أن استلهام الموروث في عصر التكنولوجيا لا يعني استنساخه، بل إعادة قراءته وتأويله بما يتناسب مع روح العصر.

يرى محمد عابد الجابري (1991) أن "التراث ليس كتلة جامدة، بل هو طاقة فكرية قابلة للتجدد عبر القراءة النقدية"². ومن هذا المنطلق، فإن المبدع المعاصر مدعو إلى إعادة إنتاج الموروث في ضوء أدوات العصر، ليصبح التراث مادة حية تتفاعل مع الحاضر، لا عبئًا يثقل النص.

إن الموروث، حين يُعاد توظيفه بوعي نقدي، يتحول إلى عنصر إبداعي فاعل يسهم في بناء هوية النص المعاصر، ويمنحه بعدًا إنسانيًا يتجاوز حدود الزمان والمكان.

ثالثاً: القارئ الجديد وإشكالية التلقي في العصر الرقمي

أفرزت التكنولوجيا قارئًا جديدًا يختلف جذريًا عن قارئ الأمس. إنه قارئ متصل بالشبكة، سريع التفاعل، متعدد الوسائط، يستهلك النصوص عبر الشاشات لا عبر الصفحات.

تؤكد دراسات علم الاتصال أن "القارئ الرقمي يميل إلى النصوص القصيرة، المتفاعلة، والمفتوحة على الصورة والصوت"³. وهذا يفرض على الكاتب إعادة النظر في بنية نصه، ولغته، وإيقاعه، ليواكب هذا التحول في الذائقة.

فالنص الإبداعي المعاصر لم يعد مجرد خطاب لغوي، بل أصبح فضاءً تفاعليًا يدمج بين الكلمة والصورة والصوت، ويتيح للقارئ المشاركة في إنتاج المعنى، مما يجعل عملية التلقي جزءًا من الفعل الإبداعي ذاته.

رابعاً: النص الإبداعي بين التجديد والتشويق

إن التجديد في النص الإبداعي لا يعني القطيعة مع الماضي، بل يعني إعادة صياغة العلاقة بين الشكل والمضمون بما يحقق التشويق والتفاعل. فالقارئ العصري يبحث عن نصوص تثير خياله وتستجيب لسرعة إيقاع حياته.

يشير رولان بارت (1970) إلى أن "النص الحديث هو نص مفتوح، يولد معناه من تفاعل القارئ معه"⁴. ومن هنا، يصبح التشويق عنصرًا بنيويًا في النص، لا مجرد وسيلة لجذب الانتباه، بل أداة لإشراك القارئ في عملية الإبداع ذاتها.

إن النص الإبداعي المعاصر، في ضوء هذا الفهم، يتحول إلى تجربة جمالية تفاعلية، تتجاوز حدود القراءة التقليدية نحو فضاء من المشاركة والتأويل المستمر.

خامساً: نحو رؤية تكاملية للإبداع في عصر التكنولوجيا

إن الإبداع في زمن التكنولوجيا يتطلب رؤية تكاملية تجمع بين الأصالة والمعاصرة، بين الموروث والحداثة، بين الجمالية والتفاعلية. فالمبدع المعاصر مطالب بأن يكون واعيًا بتراثه الثقافي، ومتمكنًا من أدوات العصر الرقمية، ليصوغ نصًا قادرًا على مخاطبة القارئ الجديد دون أن يفقد هويته.

إن هذا التوازن هو ما يضمن للنص الإبداعي أن يظل متجددًا ومشوقًا، وأن يحقق رسالته الجمالية والفكرية في عالم سريع التحول. فالإبداع الحقيقي هو الذي ينجح في تحويل التكنولوجيا من أداة إلى لغة، ومن وسيلة إلى فضاء للتعبير الإنساني العميق.

الخاتمة

يُظهر تحليل الإبداع في عصر التكنولوجيا أن التحدي الأكبر أمام المبدع المعاصر يتمثل في قدرته على الجمع بين استلهام الموروث والتفاعل مع معطيات العصر الرقمي. فالقارئ الجديد، الذي أفرزته التكنولوجيا، يفرض على الكاتب أن يعيد النظر في أدواته وأساليبه، ليقدم نصًا متجددًا، مشوقًا، ومؤثرًا. ومن ثمّ، فإن مستقبل الإبداع العربي مرهون بمدى قدرة المبدعين على تحقيق هذا التوازن الخلاق بين الأصالة والتجديد، بين الجذور والآفاق، في زمن تتسارع فيه التحولات وتتشابك فيه الهويات.

النتائج العلمية

1. يتضح أن الإبداع في عصر التكنولوجيا لم يعد نتاجًا فرديًا خالصًا، بل أصبح عملية تفاعلية تتقاطع فيها الذات المبدعة مع الوسائط الرقمية، مما أفرز أنماطًا جديدة من التعبير الفني والأدبي.

2. أثبتت الدراسة أن الموروث الثقافي لا يتعارض مع العصرنة، بل يشكل رافدًا أساسيًا لإثراء النص الإبداعي المعاصر، إذ يمنحه عمقًا دلاليًا وهوياتيًا في مواجهة العولمة الثقافية.

3. أظهرت النتائج أن التكنولوجيا أسهمت في إعادة تشكيل مفهوم النص ذاته، من خلال توسيع فضاء التلقي والتفاعل، وتحويل النص من بنية مغلقة إلى فضاء مفتوح متعدد الوسائط.

4. تبين أن المبدع المعاصر بات مطالبًا بامتلاك كفايات رقمية وثقافية جديدة تمكّنه من توظيف الأدوات التقنية دون التفريط في الأصالة الجمالية والفكرية.

5. كشفت الدراسة عن بروز تيارات إبداعية هجينة تمزج بين التراث والحداثة الرقمية، مما يعكس تحولات عميقة في الذائقة الجمالية وفي آليات إنتاج المعنى.

6. أكدت النتائج أن التفاعل بين الموروث والعصرنة ليس مجرد جدلية فكرية، بل هو مسار ديناميكي يعيد تعريف الهوية الثقافية في ضوء التحولات التكنولوجية المتسارعة.

التوصيات

1. ضرورة إدماج الدراسات الرقمية في مناهج النقد الأدبي والإبداعي لتأهيل الباحثين والمبدعين لفهم التحولات النصية في البيئة الرقمية.

2. تشجيع المبدعين على استلهام الموروث المحلي والعربي في إنتاج نصوص رقمية معاصرة تحافظ على الخصوصية الثقافية وتواكب روح العصر.

3. دعم المشاريع البحثية التي تدرس العلاقة بين التكنولوجيا والإبداع من منظور ثقافي وفلسفي، وليس فقط من زاوية تقنية.

4. إنشاء منصات رقمية عربية متخصصة في عرض وتحليل النصوص الإبداعية الرقمية، بما يسهم في توثيق التجارب الجديدة وتبادل الخبرات.

5. تعزيز التعاون بين الباحثين في مجالات الأدب، والفنون، والتقنية، لتطوير مقاربات متعددة التخصصات تواكب التحولات الإبداعية الراهنة.

6. توجيه المؤسسات الثقافية إلى تبني برامج تدريبية للمبدعين الشباب حول الكتابة الرقمية وأساليب توظيف الوسائط المتعددة في الإبداع.

مقترحات لتوجيه الدراسات المستقبلية

1. دراسة أثر الذكاء الاصطناعي في تشكيل النصوص الإبداعية ومستقبل العلاقة بين الإنسان والآلة في عملية الإبداع.

2. تحليل التفاعل بين القارئ الرقمي والنص التفاعلي، واستكشاف التحولات في مفهوم التلقي الجمالي في البيئة الافتراضية.

3. بحث دور اللغة العربية في الفضاء الرقمي الإبداعي، وكيفية تطوير أدوات رقمية تدعم حضورها في النصوص التكنولوجية.

4. دراسة مقارنة بين الإبداع العربي والإبداع العالمي في توظيف الموروث ضمن النصوص الرقمية المعاصرة.

5. استقصاء التحولات في البنية السردية والشعرية للنصوص الرقمية، ومدى تأثرها بالوسائط البصرية والصوتية.

6. تحليل الأبعاد الأخلاقية والجمالية لاستخدام التكنولوجيا في الإبداع، خاصة في ظل تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي والتطبيقات الحديثة.

***

د. خليل حمد الأزهري - مدير مكتب البحث العلمي للاستشارات والنشر والترجمة بالكاميرون -عضو رابطة الأدب الحديث بالقاهرة

.....................

الهوامش

1- عبد الله الغذامي، الثقافة الرقمية وسقوط النخبة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2005.

2- محمد عابد الجابري، التراث والحداثة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1991.

3- دراسات في علم الاتصال الرقمي، جامعة القاهرة، 2018.

4- رولان بارت، لذة النص، ترجمة محمد برادة، دار توبقال، الدار البيضاء، 1986.

حين نتأمل الذكاء الاصطناعي، لا نرى فقط تقدّمًا تقنيًّا مذهلًا، بل نواجه أنفسنا في أكثر صورها تعقيدًا: الإنسان وقد صار مرآةً تصنع مرايا.

لقد أراد الإنسان أن يخلق عقلًا شبيهًا بعقله، فإذا به يوقظ السؤال القديم الذي أرّق أفلاطون وأرسطو وابن سينا: ما الذي يجعلنا نفكر؟ أهو الدماغ بما هو عضو مادّي؟ أم الوعي بما هو أثر في الروح؟

إن كل محاولة لفهم الذكاء الاصطناعي ليست سوى تجسيد جديد لدهشة الفلسفة. تلك التي تضعنا أمام حدود المعرفة.

لقد ظنّ الإنسان أنه سيصنع آلة تفكر، لكنه لم ينتبه إلى أنه في اللحظة ذاتها يصنع مرآة وجودية تعكس هشاشته وخوفه من أن يُستبدل، فكما قال هيدغر: "جوهر التقنية ليس تقنيًا". إنها ليست أدوات نستخدمها فحسب، بل طرائق تفكير تعيد تشكيل علاقتنا بالعالم.

وإذا كان العلم قد حرّر الإنسان من كثير من الأوهام، فإن الذكاء الاصطناعي يعيده إلى أقدم أوهامه، الرغبة في الخلق. إننا نعيد تمثيل لحظة التكوين نفسها، ولكن هذه المرة لا بوصفنا مخلوقين، بل بوصفنا صُنّاعًا. وهنا يتجدد السؤال الميتافيزيقي: هل يحقّ لنا أن نصنع "وعياً آخر"؟، أم أن الوعي يظل سرًّا لا يُعاد إنتاجه إلا بوصفه أثرًا في النفس، لا كودًا في الخوارزمية؟.

إن التفكير في الذكاء الاصطناعي ليس شأناً علميًا فقط، بل هو تحدٍّ فلسفي ومعرفي. فالآلة قادرة على التعلّم، لكنها لا تعرف لماذا تتعلّم. وهي تمتلك منطقًا حسابيًا، لكنها تفتقد الوعي بالمعنى، ذلك الوعي الذي يجعل الإنسان يسأل لا فقط "كيف؟" بل "لأي غاية؟"، وهنا تتجلّى المفارق، إذ كلما ازداد الذكاء الاصطناعي إتقانًا، ازددنا نحن حيرة أمام ماهية الإنسان. هل نُعرّف أنفسنا بالعقل أم بالروح؟ بالقدرة على التفكير أم بالقدرة على التأمل؟.

لقد كتب ميرلوبونتي أن "الوعي ليس مرآة تعكس العالم، بل هو حضورٌ في العالم". أما الوعي الاصطناعي فليس له عالم، بل بيئة، ليس له تجربة وجودية، بل وظيفة. إنه يحاكي الوعي دون أن يعيش العالم، بينما الإنسان يعيش العالم ليكتشف ذاته. ولعل هذا ما يجعل "المعنى" مستعصياً على البرمجة. فالمعنى ليس نتيجة منطقية بل تجربة روحية، تتكوّن من الذاكرة والحنين والرمز، ومن قلق الإنسان أمام موته وخلوده في الوقت ذاته.

إن الآلة لا تموت، ولذلك لا تحيا بالمعنى الإنساني للحياة. فليس المقصود من نقد الذكاء الاصطناعي هو رفضه، بل تحريره من مركزية الأداة، وإعادته إلى أفق الوجود الإنساني. إنه ليس خطرًا في ذاته، بل خطر حين يغدو نموذجًا للفكر.

وحين يصبح الإنسان نفسه "ذكاءً اصطناعيًا" في سلوكه، حسابيًا في قراراته، آليًا في انفعالاته. يذكّرنا الجابري بأن "العقل لا يكون عقلًا إلا متى كان نقديًا"، بينما يحذّرنا بودريار من أن “الواقع سيذوب في محاكاته". هنا يكمن التحدي، كيف نعيش داخل الثورة التقنية دون أن نفقد حرارة المعنى؟. وكيف نُعيد إلى الوعي قدرته على التساؤل، لا الاكتفاء بالتنفيذ؟

ربما يكمن الحلّ فيما يسميه ابن عربي "الخيال الخلّاق"، ذلك البعد الوسيط بين الحسّ والعقل، بين العالم المرئي والعالم الغيبي. الذكاء الاصطناعي سيظل أداة إن لم نتعلّم كيف نحوله إلى رافعة للوعي الإنساني، لا بديلاً عنه.

علينا أن نجعل من التقنية أفقًا للإنسانية لا نهاية لها. فالرهان اليوم ليس على التفوق العلمي، بل على القدرة على أنسنة المعرفة، وجعلها امتدادًا للروح، لا سجنًا لها. وما لم نعد اكتشاف المعنى في داخلنا، فإن كل ذكاء خارجي سيظل ناقصًا، لأنّ الإنسان وحده هو القادر على أن يسأل عمّا لا جواب له، وهو ما يجعل منه، في النهاية، الكائن الوحيد القادر على أن يتجاوز نفسه.

ربما يكون الذكاء الاصطناعي فرصة لا لإعادة اختراع الإنسان، بل لاكتشاف مدى إنسانيته. فحين نتساءل عن حدود الآلة، فإننا في الحقيقة نتساءل عن حدود وعينا. وعندما نحلم بخلق "عقلٍ آخر"، فإننا نحاول أن نرى في هذا الآخر صورتنا الممكنة، صورة الإنسان وهو يسير بين المادة والروح، بين المعقول والغيب، بين العلم والإيمان. ذلك هو أفقنا المفتوح: أن نواصل التساؤل، لأن السؤال نفسه هو آخر ما تبقّى من الإنسان في عصر ما بعد الإنسان.

***

د. مصطفى غَلمَان

صادفت هذا الأسبوع مقالين: أحدهما «الهوية الإسلامية والمؤامرة عليها» للدكتور ناصر دسوقي رمضان، وقد نشر في 2009. أما الآخر فهو «الحق في الكرامة والهوية المغلقة» للدكتور عبد الجبار الرفاعي، ونشر الأسبوع الماضي.

كلا المقالين يعالج مسألة مثيرة للجدل، تنطوي في سؤال: هل يمثل الدين هوية خاصة لأتباعه، تنفي الهويات الأخرى أو تزاحمها، أم أنه، على العكس: هوية مفتوحة، تتفاعل مع غيرها، أو على الأقل تقبل مجاورتها والتداخل معها؟

القائلون بأن الدين هوية متفردة، يعتبرون السؤال ذاته دينياً. أي أن الهوية، من حيث المبدأ، موضوع ديني، وينبغي أن يأتي تكييفه من داخل الدين. بناءً على هذا؛ فإن الدين يضع نفسه وأتباعه في دائرة خاصة، تفصلها حدود واضحة عن بقية الانتماءات، بما فيها الانتماء العائلي والقبلي والمهني والسياسي والقانوني وغيره. هذه الحدود ليست مجرد اختلاف في الأفكار، بل مخالفة في النظام الاجتماعي والتراتب وحتى نمط العيش.

أما التصور الآخر فيقود منطقياً إلى الاستنتاج، بأن الدين - في ذاته - أداة تواصل أو موضوع تواصل بين المختلفين. وفقاً لهذه الرؤية، فإن الانتماء للدين، يعني أن تصعد الجسر الذي يوصلك إلى بقية الخلق، بشراً ونباتاً وحيواناً وجماداً، من خلال استيعاب النظام الكوني الذي خلقه الله وسخَّره للإنسان، والقيم العليا التي يقبلها بنو آدم كافة، بغض النظر عن أديانهم وأعراقهم أو بلدانهم.

يركز الفريق الأول على «تمايز» المسلمين عن غيرهم. وهو يصرف هذا التمايز إلى مختلف أطراف الحياة. لكنه - في التطبيق - يقصر اهتمامه على التمايز المظهري، كما في اللباس واللغة والهيئة وأمثالها. وبناء على التمايز، فإنه يرجح الانقطاع أو حتى المنازعة، كمضمون للعلاقة مع المختلفين، لا سيما أتباع الأديان التي تبدو منافسة. وفي الوقت الراهن يمثل الصراع مع الغرب الثقافي والحضاري، مادة أثيرة للنقاش والتعبئة عند أهل هذه الرؤية، لكنه – للسبب المذكور نفسه – صراع يدور حول الجوانب المظهرية، وليس – على سبيل المثال – الاقتصاد والعلم والابتكار وحقوق الإنسان وأمثالها. كما ينظر للغرب باعتباره مسيحياً أو يهودياً، أي ديناً منافساً، وليس باعتباره حضارة مختلفة، يمكن التفاعل معها أو الاستفادة من تجربتها.

في المقابل، يدعو الرفاعي لهوية منفتحة، تسمح بمشاركة الآخرين، بمن فيهم أتباع الأديان الأخرى ومن لا يتبع ديناً على الإطلاق. ويرى أن النموذج الذي يعرضه القائلون بتفرد الهوية الدينية، قد أسهم في تحويل الدين آيديولوجيا مغلقة، أشبه بقلعة، يتعارف الناس في داخلها، وينكرون المختلفين الذين في خارجها.

تقديم الدين كهوية منفتحة، وقادرة على التفاعل مع الهويات والأديان والآيديولوجيات المخالفة، يعني أن الجوانب المظهرية والشكلية، أي تلك العناصر الحياتية التي تميز المسلمين عن غيرهم، ليست جزءاً من جوهر الدين، بل هي وعاء لحياة أتباعه، يرتبط بظرفهم المعيشي فحسب.

هذا المفهوم مقبول من حيث المبدأ، في الماضي والحاضر، ونعرفه باسم تأثير الزمان والمكان في الاجتهاد، وقابلية الأحكام الشرعية للتشكل حسب ضرورات الظرف الخاص للمكلفين. لكن هذه القاعدة، أي تأثير الزمان والمكان، لم تتحول قاعدة حاكمة، بل بقيت هامشية في معظم العمل الفقهي المعاصر. وتظهر هامشيتها في جعل نصوص الكتاب والسنّة، متراساً لمنع التصرف في الأحكام التي لم تعد مناسبة لحاجات المسلمين وضرورات حياتهم المعاصرة. فكلما احتاج المسلمون إلى حكم جديد، بحثوا في منطوق النص وليس في حكم العقل كما يفترض.

أعتقد أن القول بالهوية المنفتحة، يسنده أصل سابق للدين، وهو اعتبار التعرف والتعارف وكسب المعرفة، علّة لخلق الناس مختلفين، كما ورد في التنزيل الحكيم «وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا». فهل يمكن للدين أن يلغي علة من علل الخلق والتكوين الرباني؟.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

غنى محمد عبده الأماكن كلها مشتاقه لك.. فهل فعلا الأماكن تشتاق لنا كما نشتاق لها؟؟

الأماكن ليست حجارة صامتة ولا جدران عابرة، إنما هي أرواح مستترة تنتظر من يوقظها بالذاكرة.

نحن حين نقول: "اشتقنا إلى مكان ما" فإننا في الحقيقة لا نشتاق إلى الجغرافيا بقدر ما نشتاق إلى أنفسنا القديمة التي تركناها هناك، إلى ملامح كنا نظنها اندثرت فإذا بها محفوظة بين عتبة ونافذة وشجرة ظلت صامدة رغم الغياب

الأماكن ليست مجرد مساحات تحدها الجدران أو الطرقات أو الأشجار، بل هي كائنات حية في وعي الإنسان، تمتلك روحا لا تدرك بالحواس بل تشعر بالقلب. حين نذكرها فإننا لا نذكرها كأشياء خامدة، وإنما نستدعي عبرها جزءا من ذواتنا، من طفولتنا> الأماكن تشبه المرايا الخفية كلما عدنا إليها أعادت إلينا وجوها كادت تمحى، وأحاديث كادت تذوب وابتسامات غافلتنا وغابت. إن لها ذاكرة لا نراها، لكنها تقيم في جدرانها، في رائحة غبارها، في ملمس خشب عتيق أو حجر بردته السنين. نحن نقيم فيها حتى ونحن بعيدون، وهي تقيم فينا حتى ونحن نقسم أننا نسينا.

قد نتصور أننا من نترك بصمتنا على الأماكن، لكن الحقيقة أنها هي من تترك بصمتها فينا. فهي تعلمنا كيف نختبر معنى الغياب وكيف نذوق طعم الفقد. كل زاوية هي درس في الذاكرة، وكل شارع هو شاهد على قصة ما، وكل مقعد قديم يخفي تنهيدة أو دمعة أو لحظة انتشاء.

فحين نعود إلى مقعد قديم أو شارع عرف خطواتنا، ينهض من الصمت كل ما مر بنا: دمعة سقطت يوما على حجر بارد، ابتسامة ولدت تحت ظل شجرة، أو كلمة بقي صداها عالقا بين جدارين. ولعل الإنسان لا يشتاق في الحقيقة إلى المكان ذاته، بل إلى ذاته القديمة التي تركها هناك، إلى تلك النسخة البريئة أو العاشقة أو الكسيرة من نفسه.

ولأننا كائنات عاطفية أكثر من كوننا عقلانية، فإننا نغدو أسرى الأماكن التي عبرناها. نعيش في وهم الذكريات التي صنعتها أرواحنا هناك، نضخمها حتى تغدو أكبر من اللحظة نفسها، فنغدو في قبضة الحنين، عاجزين عن الانفلات. الأماكن بهذا المعنى ليست خارجنا، بل هي نحن وقد تحولنا إلى أثر منقوش على حجارتها.

الأماكن تربي فينا أوهاما وحنينا يتجاوزان حدود الواقع، فنخلق حولها صورا مضخمة من الذكريات، حتى نصبح أسرى ما تخيلناه أكثر من أسرى ما عشناه بالفعل> لكن هذا التعلق ليس بلا ثمن. فالفقد يضاعف وجع الإنسان حين ينتزع من مكان أحبه أو ينفى عنه. فالأماكن تحمل في أعماقها طاقة تشبه المرض حين نفارقها> لذلك، لا عجب أن نمرض حين نفارقها، ولا عجب أن نبكي حين نراها من جديد، لأننا نلتقي في تلك اللحظة بأنفسنا المفقودة. الأمكنة تحفظنا كما نحفظها، وربما تشتاق إلينا بالقدر الذي نشتاق إليها، لأن ما يملؤها بالحياة ليس طينها ولا جدرانها، بل نحن، بضعفنا وعواطفنا وخيباتنا، التي تركناها هناك شاهدة علينا إلى الأبد

إننا لا نحيا في الأماكن فحسب، بل هي أيضا تحيا فينا. نحن نتبادل معها الأثر. نترك فيها صدى خطانا وتنهداتنا، فتترك فينا ذكرى لا تموت. ولعل سر عذوبة الاماكن وقسوتها في الوقت نفسه، هو أنها تحفظنا أكثر مما نحفظها، تذكرنا بمن كنا، وتعيد إلينا ما فقدناه من ذواتنا. لذلك، يظل الإنسان كلما نظر إلى مكان قديم يشعر بأنه لم يغادره قط، بل ما يزال يقيم هناك، مختبئا في حجر أو نافذة أو ظل،،، ينتظر أن يلتقي بنفسه من جديد>

بعض الأماكن تحتوينا، تزيل عن قلوبنا القلق وتمنحنا السكينة.. بعض الأماكن أكثر إنسانية من البشر. تمنحنا دفئا لا تفسير له، تزيل عن القلب وحشة الأيام، وتسكب فينا سلاما عميقا يشبه الاعتراف. هي ليست جدرانا ولا نوافذ، بل صدور خلقت لتحتوي تعبنا، وتقول لنا بصمتها: ما زلت أعرفك… وما زلت أحفظ أثر خطواتك.

الأماكن في جمالها وقسوتها هي أكثر ما يشبه الإنسان: تبكي، وتنتظر، وتشيخ، وتشفى، وتبقى رغم كل ما يتغير. ولعل سر الحنين كله يكمن في تلك القدرة العجيبة لها على حفظنا أكثر مما نحفظها، وعلى رؤيتنا بوضوح أكثر مما نرى أنفسنا

الاماكن، ليست مجرد مشاهد. انها اوطان صغيرة نكبر فيها، ونغادرها، لكنها لا تغادرنا. تبقى معلقة في داخلنا، تفتح ابوابها كلما اغمضنا اعيننا، وتذكرنا بمن كنا، وبمن خفنا ان نصبح، وبمن نحاول ان نعود اليه.

اننا لا نسكن الاماكن وحدنا. الاماكن ايضا تسكننا. وحين نشتاق اليها، فإنما نشتاق الى انفسنا التي ما زالت تنتظر هناك، جالسة في ظل شجرة، او واقفة عند باب، او تمشي على رصيف كان يشبه حياة كاملة لم نعد نعيشها

في نهاية الامر ندرك حقيقة لا يمكن الهرب منها: نحن لسنا ابناء الزمن وحده، بل ابناء الاماكن التي عبرناها. كل مكان مررنا به ترك فينا خيطا خفيا يشدنا اليه مهما ابتعدنا. ولعل اعمق ما نكتشفه ان الاماكن لا تظل كما هي، بل تظل كما تركنا نحن ارواحنا فيها. وما الحنين الا عودة متأخرة نحو ذات حاولت ان تنسانا فاخذها المكان في حضنه وحفظها. لذلك كلما عدنا الى مكان احببناه، ندرك اننا لم نفقده قط، بل فقدنا انفسنا التي كانت تسكنه. والعودة اليه ليست عودة الى حجر او طريق، بل عودة الى نسخة منا تمنحنا القوة لنكمل الطريق من جديد.

فنحن لا نغادر المكان حقا… بل نترك في دهاليزه نسخة منا، تظل جالسة هناك، صامتة، تنتظر لحظة واحدة: أن نعود لنلتقي بأنفسنا من جديد.

وكما قال ادونيس: المكان الذي اغادره يسكنني اكثر، وربما لهذا لم نغادر اماكننا يوما مهما ابتعدت المدن وامتدت المسافات...

***

ابتهال عبد الوهاب

 

تتحفنا مواقع التواصل الاجتماعي بنسخ من أحكام المحاكم العراقية يوميا في أحكام الأحوال الشخصية مثل رد دعوى نفقة أو قضية حضانة الأطفال، أو حكم بالنشوز على الزوجة، أو حالات عنف يقوم بها الزوج تجاه الزوجة، ما يثير الإستغراب أن أحدى الدعاوى التي أقامتها الزوجة على الزوج بالنفقة تم ردها ، وسبب الرد عدم قدرتها على أثبات دعواها، (من كونها غير ناشز) حين خرجت من البيت دون إذن الزوج، بسبب العنف أو التضرر، وقضية أخرى لم يتم الحكم على الزوج بعقوبة لعدم كفاية الأدلة في قتل الزوجة أو انتحارها، لم يكن معها بينة غير أقوالها قبل وفاتها.

إن قضية مطالبة الزوجة بالبينة في المجال الخاص هو ما يجب إعادة النظر به، فالبينة هنا غير ممكنة، والضرر لا يكون ماديا دائما، لتثبته بأدلة مادية وشهود يشهدون رؤية واقعة معينة. البينة (الشهود) صالحة في الفضاء العام، في الأزقة والشوارع والأسواق، أما في البيوت وفي المجال الخاص، فهذا الأمر شبه مستحيل.

تقوم البينة في الفقه التقليدي على الشهود، في القاعدة الفقهية " البينة على من أدعى واليمين على من أنكر".(المجلسي: وسائل الشيعة، ج٢٧، ٢٣٣، ٣؛ الصنعاني، سبل السلام، ج٤، ص٥٨٨، الحديث ١٣٢٣) وطلب البينة في الفضاء الخاص يفترض مسبقا أن الطرفين قادران على جلب البينة، وأن المجال الذي تقع فيه الوقائع سهل الإثبات، لكن هذا الأمر غير ممكن في بيت مغلق، خاضع لسلطة الزوج، لاحضور فيه لشهود خارجيين، ولاقدرة للزوجة على التوثيق، ولا أمن لسلامتها النفسية والجسدية. ولذا يصبح من شبه المستحيل أن تثبت الزوجة مايمارس ضدها، تعيش في مكان لايسمح لها بالتحرك أو الشكوى أو تسجيل الوقائع، وتصويرها أو طلب الحماية. فمكان لاتملك فيه السلطة لايمكن فيه أثبات دعواها ببينة. وهنا تدخل العدالة في المحك، لأن الفقه سيحسم النزاع بمجرد يمين الزوج بالإنكار.

هذه الطريقة في التعامل مع البينة تعني مكافئة المسيطر ومعاقبة التابع (الضحية)، وتحول البيت إلى فضاء خارج القانون، وتعيد إنتاج السلطة الذكورية دون مساءلة.

السؤال المهم: هل يمكن تطبيق قواعد البينة العامة على الحياة الخاصة؟ وهل ممكن هذا منطقيا ومعرفيا، هل توجد بينة خاصة؟.

للإجابة على هذا السؤال لابد أن نجيب عن طبيعة اختلاف الفضاء بين الحالتين، فالبينة في الفضاء العام تعني فضاء مفتوحا، يمكن التواجد فيه، ويمكن مراقبته والتحقق منه، وتشارك فيه أطراف متعددة.

أما الفضاء الخاص فهو فضاء مغلق، وأحادي السلطة ولاشهود فيه، ولارقابة ولاقدرة على التوثيق، ومن هنا تنهار معايير الإثبات التقليدية.

كما أن طبيعة الفعل والاعتداء في الحياة الخاصة كالايذاء اللفظي والتحقير والتحكم هذه أفعال نفسية جسدية سياقية، لاتلتقط بالكاميرا دائما، ولاتكون مرئية ولاتترك أثرا في الغالب، ولاتعامل كجرائم عامة.

لذا معاملتها كجرائم عامة يحتاج الى شهود أو أدلة مادية يجعلها غير قابلة للإثبات في أغلب الحالات.

ولأن الرجل يملك هذا الفضاء الخاص ويملك الموارد وحرية الحركة، والقدرة مع منع الشهود وكذلك بامكانه أداء اليمين للخلاص من تبعات الجريمة. بينما تكون فيه المرأة في هذا الفضاء كائنا معرضا للإعتداء والتهديد، في فضاء لايحميها. لذا كيف يمكن مساواتها في عبء الإثبات ؟ (ظ: الكلابي، مصطفى راشد عبد الحمزة، ذاتية الاثبات في جرائم العنف الاسري، مجلة العلوم القانونية والسياسية، جامعة ديالى، المجلد العاشر، العدد الأول، حزيران ٢٠٢١، ص٥٨)

موقف الإمامية من الوقائع السرية بين الزوجين

يعتمد الفقه الجعفري في البينة على الشهادة واليمين والقرائن.

والقرآئن الحسية الخارجية هي التي يعمل بها وليس الحدس الداخلي ولاتوجد ادلة خاصة للحياة الخاصة.

والقرآئن في الحياة الزوجية غير المنظورة، يمكن ان تكون مثل: تغير الحال، كالخوف والهلع من الزوج، وعدم رغبتها المطلقة بالرجوع الى بيت الزوجية، الكآبة والأضطراب النفسي. وهذه كلها قد لا تساعد القاضي في الوصول للضرر، ولذا لا بد من اتخاذ إجراءات أخف وطأة على الزوجة منها على سبيل المثال: تصديق الضحية والبحث الموسع عن قرائن تؤيد إدعائها.

ولغياب الأدلة الظاهرة وعدم اعتماد القرائن قضائيا وفقهيا بشكل واضح وقطعي كان لا بد من اللجوء الى آلية أخرى لأنقاذ النساء من العنف المنزلي وعدم جعل البيوت منطقة خارج القانون والحصول على الطلاق للضررعلى أقل تقدير.

المعايير القانونية الحديثة التي يمكن أن تستخدم لإنصاف الضحية والنظر الى وسائل الأثبات في الحياة الخاصة غيرها في الحياة العامة:

أهم هدف تستهدفه هذه المعايير هي نقل عبء الإثبات من الزوجة.

ويتم ذلك عبر:

-        افتراض صحة أدعاءات الضحية في الحياة الأسرية، في الفضاء المغلق.

-        نقل عبء الأثبات للطرف الأقوى في الأسرة (كالزوج أو الأب، هو عليه أثبات أنه لم يمارس العنف).

-        اعتماد البينة السياقية: التي لا تشترط دليل مباشر بل تعتمد على تقارير نفسية وانماط سلوكية، وشهادات الأقارب والجيران، رسائل، وتغير صحة الضحية.

-        الإعتراف بالعنف النفسي وليس الجسدي فقط.

والى ذلك الحين الذي يتم أعتماد وسائل خاصة، ستظل النساء يدفعن الثمن في حياة غير منصفة وغير محمية، ولا تخضع للعدالة.

***

د بتول فاروق الحسون

النجف: ٩/ ١٢/ ٢٠٢٥

...........................

* جزء من بحث فقهي.

لقد اخترتُ لهذا المقال عنوان "أركيولوجيا النفس والخطيئة" لأنّ مخطوطات الخطايا ليست رواية تُقرأ شكليا، بل نصّ ينفتح على أعماق النفس البشرية كما لو كان طبقات جيولوجية مدفونة تحت ركام التجارب والآلام والرغبات. فكلّ مخطوطة، وكلّ باب، وكلّ شخصية، ليست سوى طبقة من طبقات هذا الوعي الإنساني الذي يحفر فيه برهان شاوي بأدوات الروائي والفيلسوف وعالم النفس. ومع تقدّم السرد، يتبيّن للقارئ أن شاوي لا يروي حكايات بقدر ما يمارس حفريات أنطولوجية تكشف جذور الخطيئة، وبنية الجرح القديم، وملامح الذات الممزقة بين رغبتها وقيدها. كاتبنا العارف الذي لا يكتفي بالكشف، بل يواصل الحفر، حتى يصل إلى أعمق ما يمكن أن يُسمّى النفس. ومن هنا بدت ملامح العنوان تكتمل وتلحّ على تصدّر المقال.

أجدني، وأنا أقترب من "مخطوطات الخطايا"، في متاهة من متاهات برهان شاوي، متاهة لا تُقرأ بقدر ما تُعاش، ولا تُدْرَك بقدر ما تُكْتَشَف طبقة بعد أخرى، كأنّ النص شبكة من المرايا التي تعكس القارئ بقدر ما تعكس العالم. وليس غريبا أن تكون هذه المتاهة بهذا العمق، فشاوي ليس مجرد روائي، بل كائن معرفي تَشَكَّل عبر ترحال طويل بين روسيا وألمانيا والعراق وأوروبا، درس السينما في موسكو وتعمّق في الإعلام في ألمانيا، وتمرّس في التاريخ والعلوم السياسية، وحمل معه إلى الكتابة إرثا من الترجمة عن الروسية والألمانية، وخبرة نقدية وجمالية وصوتا شعريا يمتدّ منذ شبابه. إنّه من أولئك الكتّاب الذين لا تتشكّل معرفتهم من الكتب وحدها، بل من الاحتكاك بالعالم والإنسان، من معايشة الروح في لحظات ضعفها وكبريائها، ومن الوعي بأنّ الأدب ليس حكاية تُروى، بل رؤية تُصاغ، وأن الرواية ليست قالبا، بل معملا لإعادة تشكيل الذات واللّغة والوجود. وبهذا المعنى، تدخل مخطوطات الخطايا في النبض العميق لمشروعه الروائي، ذاك المشروع الذي يمدّ جذوره في سلسلة المتاهات التي كتبها (متاهة آدم، متاهة حواء، متاهة قابيل، متاهة الأشباح، متاهة الأرواح المنسية، متاهة الأنبياء)… وهي أعمال لا تكشف عن عبقرية روائي فحسب، بل عن عقل فكّر طويلا في الإنسان، وحفر في طبقاته النفسية كما يحفر الطبيب الفيلسوف. هذا الكاتب الذي تنقّل بين لغات وثقافات وتيارات، يجمع في نصّه بين هلع دوستويفسكي، وحكمة كازانتزاكيس، وشكّ أوغسطين، وحَدْسِ المتصوفة، ولا أدرية الشاعر الفيلسوف،وعين السينمائي الذي يرى العالم بتتابع حادّ من اللّقطات والظلال.

من هنا ندرك أن "مخطوطات الخطايا" ليست رواية تُروى بل تجربة تُخاض. تبدأ بالانغماس في متاهة وجودية تسكنها ثنائية آدم وحواء، تلك الثنائية التي لم يخترها شاوي لأنّها دينية أو أسطورية، بل لأنّها البنية الأولى التي يمكن عبرها اختبار الوعي، وقياس جراحه، وفهم الخطيئة كمعطى وجودي لا كخطأ أخلاقي. فآدم عنده ليس فردا، بل نموذج للوعي حين يسقط وحين يحاول أن ينهض. وحواء ليست امرأة، بل معادلة للجرح والرغبة والاتهام، معادلة تُعيد إنتاج نفسها مع كل مجتمع يُحمّل الجسد الأنثوي خطايا العالم، ويبرّئ الذكورة من جراحها الأولى. لذلك يولّد الكاتب عبرهما عشرات المرايا "آدم النذل"، "آدم الطاهر"، "حواء القناع المحتشم"، "حواء دليل الحائرين"، "الدكتورة حواء الآداب"، وكأنّ النص يقول: "لسنا أمام شخصيات، بل أمام صيغ بشرية تتكرّر مثل دوائر متداخلة في تاريخ الوعي الإنساني".

ونسجّل بأنّ سردية الرواية تتشكّل عبر مخطوطات تتوالد من بعضها عنقوديا، كأنّ النص يكتب نفسه بنفسه. ففي المخطوطة السابعة، حين تخرج امرأة خمسينية من بين السطور وتخاطب الدكتور آدم السيد، يدرك القارئ أنّه لم يعد أمام رواية، بل أمام كتابة واعية بذاتها، كتابة تعرف أنّها كتابة. هذا الانزياح الميتافيكسيونالي meta-fictional يمثّل إعلانا أن الحقيقة لم تعد في الخارج، بل في تداخل المقروء والحي، وأنّ الشخصيات ليست كائنات ورقية، بل حالات شعورية تتجاوز حدود النص.

في فصل "إيفا ماريا، الصوت الجريح"، حيث يبدو الألم كأنّه الخطيئة الأولى قبل أي خطأ. الطفولة هنا ليست براءة، بل جرح يتسرب في الوعي حتىّ يصنع امرأة ممزّقة، وكأنّ الكاتب يريد القول أنّ الخطيئة تُصنع في الإنسان قبل أن يصنع هو أي خطيئة. وهذا جوهر المشروع النفسي للرواية (أن الفعل ليس دائما أصل الألم، بل ألم الجرح هو أصل الفعل).

وتتعدّد المخطوطات، فتتعاقب النساء، الزوجة الوفية، العشيقة، الجارة الغيورة، الطفلة الأم… كلهنّ وجوه لذات واحدة تبحث عن خلاص مستحيل. وفي المخطوطة الثامنة، "حواء القناع المحتشم"، تنكشف البنية الاجتماعية للخطايا حيث تتعرّض امرأة للاعتداء داخل مؤسّسة رسمية، ويصبح القمع هو القناع الذي ترتديه السلطة باسم الأخلاق. لكن المخطوطة التاسعة، "مخطوطة الخطايا"، هي القلب النابض للرواية. أبوابها الخمسة ليست سردا بل فلسفة صريحة، تطرق باب الجشع، الشهوة، الغرور، الكذب، ورمي المحصنات. وكل باب منها ليس موضوعا، بل مرآة. ففي "خطيئة الجشع" يظهر الإنسان المستهلك لرغباته، وفي "الشهوة" تتحوّل الرغبة إلى جوع للسلطة قبل أن تكون جوعا للجسد. أما "الغرور" فيكشف كِبْرَ المعرفة، وكيف تتحوّل الأنا إلى حجاب يحجب الحقيقة، بينما "الكذب" هو البنية التي يقوم عليها مجتمع يخاف المواجهة. وفي"رمي المحصنات" يبلغ النص ذروته الأخلاقية مدجّجا بالآيات القرآنية، ليس لأنّه يدافع عن امرأة، بل لأنّه يكشف عن نظام بأكمله يعمل على سحقها. بطلها "آدم النذل" وهو هنا ليس رجلا، بل بنية عقلية، و"حواء" ليست فردا، بل ضميرا جريحا يتخبّط وسط أقنعة الضمير.

نفتح الأبواب الوجودية الأخيرة "حواء دليل الحائرين "، "الحمامة العمياء"، و"مغارة الحكيم الأعشى"، لنتفاجأ بأنّنا نتوخّى الضوء المظلم، حيث العمى يصبح رؤية، والظلام كشفا، عبر رمزيات الحمامة والأفعى والشيخ الأعشى. إنّها لحظة يمرّ فيها النص من التحليل إلى التأمّل، من تفكيك الخطايا إلى البحث عن الخلاص. لتنتهي الرواية بموت آدم الطاهر، ذاك الكائن الذي كان يمكن أن يكون، لكنّه لم يُترك ليكون. موته ليس حدثا، بل مجازا للإنسان الذي يظلّ نقيا رغم قسوة العالم، فيفنى قبل أن يتلوّث ويذوب في الضوء الأزرق المتسرّب من السماء كرمز للتسامي بحثا عن الطهارة والنقاء. وكأنّ شاوي يضع القارئ أمام سؤال أبدي: هل الطهارة ممكنة في عالمنا هذا؟ وهل الخطيئة قدر، أم جرح ورثناه ولم نتعلّم كيف نُضمّده؟

بهذا التوتّر بين السقوط والبحث، الجرح والسؤال، وبين القلق، الهشاشة، الذنب، اللاّيقين، وتفكّك الهوية. تتجلّى مخطوطات الخطايا بوصفها رواية لا تسرد العالم بل تفسّره، ولا تتّهم الإنسان بل تفهمه. رواية تدخلها قارئا، وتخرج منها كما لو كنت جزءا من متاهة شاوي أو من متاهتك أنت ذاتك، لأنّك تتوغّل في عمقها فتكتشف ذاتك من خلالها، وشيئا فشيئا تدرك أنّها رحلة تيه إنساني تتأرجح بين اللاّأدرية وقلق الأسئلة الوجودية التي لا تنطفئ، حيث تتقاطع الأرواح والأقدار لتعلن هشاشتك أمام سرّ كينونتك، وعجزك عن فهم خطّ المكتوب في لوحٍ لا تراه. يتحوّل الوجود فيها إلى متاهة من الظلال، ينشطر فيها اليقين إلى شكّ، ويغدو القدر قوة خفيّة تجرّ الشخصيات جَرّا نحو مصائرها، بينما تتداخل الأسطورة بالمشهد الحيّ، والروح بالجسد، كأنّ الكون كلّه ليس سوى كتاب مفتوح تقرؤه العيون ولا تفهمه القلوب. وتأتي الآيات القرآنية التي ترد داخل السرد لتكون ومضات صارخة تذكّرك بأنّك مهما ضللت في شعاب اللاتحديد، تبقى محمولا على ناموس أعلى، وأنّ شكّك مهما اتّسع لا يستطيع أن يمحو السؤال الأزلي: "من أين؟ وإلى أين؟ ولماذا هذا القدر بالذات؟ " فتقف على تخوم اليقين والعدم، معلّقا في الفراغ الذي تتخلّله فقط رجفة روحك وهي تبحث عن المعنى.

***

ليلى تبّاني ـــ الجزائر

 

العلاج الفلسفي ليس رفاهية فكرية، بل ضرورة في مجتمعٍ معاصرٍ سريع التغير والتطور، أصبحت فيه الأفكار الكلاسيكية والتقليدية غير كافية لتشخيص ومعالجة المشكلات الفكرية، والتحديات الجديدة التي تواجه الإنسان والمجتمع، إن مشكلة المجتمع الإنساني الأساسية أنه يرث مفاهيم بعينها في الفلسفة، ومُجمل العلوم الإنسانية الأُخرى، ويتعامل معها على أنها مسلمات وحقائق ثابتة، غير قابلة للتدقيق والتصحيح والمعالجة، فيصبح النص الفكري الفلسفي ضعيفاً، مقابل كل التلجيم والتقييد الفكري الذي يواجهه من قِبل الكُتاب، والباحثين الكلاسيكيين والتقليديين أنفسهم، الذين ينتقدون بل ويهاجمون أي رؤية فلسفية جديدة واعدة لديها إسلوب فلسفي عملي وعصري يتماشى مع متطلبات الواقع الجديد والإنسان المعاصر، ويُشخص مشكلاته ويباشر في علاجها.

العلاج الفلسفي في زمن الميتافيرس

نحن بلا شك في زمن الميتافيرس، والتطور التكنولوجي من حيث الصورة والصوت الذي بدأ يتفوق على الحقيقة والواقع الذي نعيش فيه، نحن نعيش في زمن يسيطر فيه الذكاء الإصطناعي على أغلب جوانب حياتنا، حيث بدأ يضخ لنا معلومات هائلة، وغير محدودة في مختلف المجالات، بل وأصبح يمارس هيمنةً فكريةً، وتأثيراً كبيراً على أبناءنا وبناتنا، من الأطفال، والمراهقين، وجيل الشباب، من خلال فيديوهات إصطناعية، لايمكن التمييز بينها وبين الحقيقية، نحن في زمنٍ لم يعد فيه التفكير التقليدي، والحلول الكلاسيكية، كافية لمواجهة الميتافيرس الذي بدأ يزداد  ذكاءأ وقوةً يوماً بعد يوم، في مقابل تراجع قدرات البشر الفكرية، نتيجة رفض، وعدم تقبل الحلول العملية الواقعية التي يقدمها العلاج الفلسفي، والفكر التوليدي النقدي الإبداعي، والرؤى الفلسفية الخلاقة التي تدعو الى التطبيق العملي للأفكار الفلسفية، وإختيار مايصلح  منها في أن يكون علاجاً للمشكلات المعاصرة، وتطبيقها بصورة عملية على أرض الواقع.

نحن أمام أزمة وجودية حقيقية

في زمن صار فيه الميتافيرس يشكل عالماً كاملاً من الصور والتجارب الإلكترونية، وهيمنة الأفكار الرقمية، وهي تجارب أكثر تشويقاً وجاذبية من الواقع الحقيقي المادي لدى الكثير من البشر، الذين فقدوا ثقتهم في الواقع المادي، وفي حلوله النظرية التي لاتساهم بشكل فعال في حل المشكلات الحقيقية، ونتيجة لذلك، أصبحنا نحن البشر أمام ازمة فكرية، وصراع وجودي، بين ما كان، ومازال، وما ينبغي أن يكون من الأفكار التي اثبتت عدم جدواها على مر السنين، نحن بحاجة الى تشخيص للمشكلات، وليس الى مجرد تحليل نظري لها، لذلك فإن كل علاج فلسفي لا يراعي حاجة الإنسان والمجتمع الروحية والأخلاقية والإنسانية والواقعية، ولا يقدم له حلول حقيقية، وعملية، لن يحظى بقبول ومكان حقيقي في الواقع الجديد، ويجب أن يكون دور الفلسفة المعاصرة هو الحفاظ على ما تبقى لنا من الواقع الحقيقي في مواجهة الميتافيرس، وتفعيل عملي واقعي للوجود الإنساني.

***

شيماء هماوندي

الإختصاص/ الفلسفة والعلاج الفلسفي

انهيار عربي وأفق مفتوح

في التاسع من ديسمبر من كل عام، يتوقف العالم ليتأمل آفة تنخر في عظام المجتمعات وتسرق أحلام الشعوب: الفساد. هذه الظاهرة ليست مجرد رقم في تقرير دولي أو إحصائية باردة، بل هي قصص أطفال حُرموا من التعليم لأن ميزانية المدارس نُهبت، ومرضى فقدوا أرواحهم لأن أموال المستشفيات تبخرت في جيوب الفاسدين، وشباب هاجروا بحثاً عن العدالة المفقودة في أوطانهم. يقول الله تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّن أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة: 188)، في إشارة واضحة إلى تحريم الفساد واستغلال النفوذ.

لدينا كعرب، يحمل هذا اليوم معنى أعمق وألماً أشد. الفساد عندنا ليس مجرد خلل إداري، بل سرقة منظمة للمستقبل، وسلب ممنهج للكرامة.

وكما نظم الشاعر أحمد شوقي: "إنما الأمم الأخلاق ما بقيت... فإن هُم ذهبت أخلاقهم ذهبوا"، وما الفساد إلا انهيار أخلاقي يهدد بقاء الأمم ذاتها. شعار هذا العام يحمل بارقة أمل: الحوكمة الرقمية كدرب نحو الشفافية، لكن السؤال يبقى: هل يكفي تغيير الأدوات دون تنوير العقول وإصلاح القلوب؟

الفساد ليس مجرد "مشكلة إدارية"، بل جريمة أخلاقية وخيانة للعقد الاجتماعي. يروح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي" (رواه الترمذي)، فالرشوة باب من أبواب الفساد الذي يهدم العدالة ويقوض الثقة. عندما يسرق مسؤول المال العام، فهو لا يسرق أرقاماً، بل يسرق لقمة الفقير ودواء المريض وكتاب الطالب. وكما يعبر المفكر المصري رفاعة الطهطاوي: "إن الأمة التي لا تحاسب حكامها، تستحق أن تعيش في العبودية"، فالفيلسوف جان جاك روسو رأى أن العقد الاجتماعي يقوم على تنازل الأفراد عن جزء من حريتهم مقابل العدالة والحماية. فماذا يبقى من هذا العقد حين تتحول السلطة إلى أداة للنهب؟ ولقد صدق المفكر التونسي الطاهر الحداد حين كتب: "لا يمكن لأمة أن تنهض وهي محملة بأثقال الفساد والظلم". في وطننا العربي، يتخذ الفساد أشكالاً متعددة: من الرشوة الصغيرة إلى صفقات المليارات، من المحسوبية إلى الاستيلاء على الأراضي العامة، كما لا ننسى أن الفساد ليس وليد اليوم، جذوره تضرب في تربة ثقافية واجتماعية. صدق الله تعالى في قوله : ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ (الرعد: 11)، فالتغيير يبدأ من الداخل. عندما نقبل بالواسطة ونبرر الغش ونصمت عن الظلم، نساهم في استمرار المنظومة الفاسدة.

وهناك كلمة للمفكر التقدمي اللبناني كمال جنبلاط يقول فيها: "الفساد ليس مرضاً في الدولة فحسب، بل هو مرض في الضمير الجمعي". والفيلسوف إيمانويل كانط ركز على أن الأخلاق تقوم على الواجب المطلق، لا على المنفعة. فالمسؤول عندما يرفض الرشوة يجب أن يفعل ذلك لأنه الصواب بذاته.  والنبي صلى الله عليه وآله وسلم حسم الأمر في قوله: "كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ" (متفق عليه)، فالمسؤولية ليست وظيفة، بل أمانة. وأذكر كلمة لمفكرنا الجزائري مالك بن نبي في كتابه "شروط النهضة": "إن مشكلتنا ليست في نقص الموارد، بل في فساد الإنسان الذي يُدير هذه الموارد".

معركة النزاهة في مضمار التربية والقيم

لا يمكن بناء مجتمع نزيه دون تعليم يغرس القيم. يقول الله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (الزمر: 9)، فالعلم أساس الوعي بالحقوق والواجبات. والتعليم هو السلاح الأقوى ضد الفساد. والشاعر المصري حافظ إبراهيم حدد المعادلة في نظمه: "الأم مدرسة إذا أعددتها... أعددت شعباً طيب الأعراق".

التربية على النزاهة تبدأ من البيت والمدرسة، ثم إن الاستثمار في التربية والتعليم يعني إعداد أجيال تؤمن بالاستحقاق لا بالواسطة، تطالب بحقوقها وتعرف واجباتها. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ" (رواه ابن ماجه)، والعلم هنا يشمل العلم بالحقوق والواجبات المدنية.

من الغنيمة إلى الرسالة

أكيد أن التعليم وحده لا يكفي، نحتاج إلى إصلاح الإدارة العامة: موظفون مدربون، رواتب عادلة، بيئة عمل تحترم الكفاءة.

وإصلاح الإدارة العامة ليس ترفاً، بل ضرورة استراتيجية. إدارة كفؤة ونزيهة تعني خدمات أفضل، وبيئة أعمال أكثر جاذبية، وثقة أعلى بين المواطن والدولة. نحتاج إلى تبسيط الإجراءات البيروقراطية المعقدة التي تفتح الباب للفساد. نحتاج إلى قيادات إدارية تؤمن بأن الخدمة العامة شرف ومسؤولية، لا غنيمة ومغنم.

يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لَوْ أَنَّ بَغْلَةً عَثَرَتْ بِشَطِّ الْفُرَاتِ لَخَشِيتُ أَنْ يَسْأَلَنِي اللهُ عَنْهَا: لِمَ لَمْ تُمَهِّدْ لَهَا الطَّرِيقَ؟"، في تصوير بليغ للمسؤولية. عندما يشعر المواطن أن دولته تعمل لصالحه، لا ضده، فإنه يصبح شريكاً في التنمية، لا عقبة أمامها.

الحوكمة الرقمية: وسيلة وليست غاية إشهارية

التكنولوجيا الرقمية تقدم حلولاً عملية لمشكلات عويصة. عندما تتم المعاملات إلكترونياً، يصعب على الموظف طلب رشوة. عندما تُنشر البيانات الحكومية بشفافية، يستطيع المواطن مراقبة كيف تُنفق أمواله. عندما تُرقمن المشتريات الحكومية، تنحسر فرص الفساد في العقود والصفقات. يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ﴾ (النساء: 135)، والشفافية هي شهادة بالحق ضد الفساد.

لكن لنكن حذرين: التكنولوجيا سلاح ذو حدين. يمكن أن تُستخدم لتعزيز الشفافية، ويمكن أن تُستخدم لتعميق السيطرة والمراقبة. ويمكن أن تُسهل حياة المواطنين، ويمكن أن تُستخدم لخلق أشكال جديدة من الإقصاء الرقمي. لذلك، الاستثمار في البنية التحتية الرقمية يجب أن يترافق مع ضمانات حقوقية وأخلاقية صارمة. وهنا تحضرني عبارة للمفكر السوري برهان غليون يقول فيها : "التقنية وحدها لا تصنع التقدم، بل القيم التي تحكم استخدامها" هي التي تصنع ذلك.

الخطاب التنويري ضد الفساد

هنا يبرز الدور المحوري للخطاب الديني والثقافي، حيث الإسلام يزخر بنصوص تحرّم الفساد بكل أشكاله، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا﴾ (النساء: 58)، والمال العام أمانة، لكن الخطاب الديني اليوم يحتاج إلى تجديد، يجب أن ينتقل من الوعظ النظري إلى التطبيق العملي في حياة الناس، من التنظير إلى الواقعية، يجب أن يربط بين النزاهة والإيمان، بين الشفافية والتقوى.

و الشهيد المفكر السوداني محمود محمد طه كان من بين الأوائل الذين دعوا إلى "فهم عصري للإسلام يواجه تحديات الواقع"، والفساد من أخطر هذه التحديات، الخطاب التنويري يجب أن يكون واقعياً، يتحدث عن الفساد في تفاصيل الحياة اليومية: الرشوة عند استخراج رخصة، المحسوبية في التوظيف، التلاعب في المناقصات. يجب أن يقدم بدائل عملية، لا مجرد شعارات أو مونولوج استعراضي. لأن الإصلاح كما يعبر المفكر التونسي محمد الطالبي: "الإصلاح الحقيقي يبدأ من تغيير الوعي، لا من تغيير القوانين فقط".

والخطاب الثقافي أيضاً مسؤول. الأدباء والمثقفون يجب أن يكونوا صوت الحق، كلنا يذكر نجيب محفوظ كتب في رواياته عن الفساد والظلم الاجتماعي، وكذلك فعل الطيب صالح وإبراهيم الكوني. والمفكر المصري طه حسين قال: "التعليم كالماء والهواء، حق لكل إنسان"، ومكافحة الفساد تبدأ بتعليم ينور العقول ويبني الضمائر. الشعر العربي أيضاً كان دائماً منبراً للحق.

عندما تنتفض الشعوب ضد الفساد

هناك نماذج حية وملهمة في مكافحة الفساد بكل أشكاله نذكر منها:

- سنغافورة كانت في الستينيات دولة فقيرة غارقة في الفساد. بقيادة لي كوان يو، أطلقت حملة صارمة أسست "مكتب التحقيق في ممارسات الفساد" بصلاحيات واسعة، ورفعت رواتب الموظفين لتنافس القطاع الخاص، وطبقت مبدأ "صفر تسامح" مع الفساد. اليوم، سنغافورة من أنظف دول العالم. هونغ كونغ سارت على نفس الدرب بإنشاء هيئة مكافحة الفساد المستقلة.

- الدنمارك والنرويج والسويد وفنلندا تتصدر دائماً مؤشرات النزاهة. السر ليس في قوانين معقدة، بل في ثقافة الشفافية المتجذرة، والثقة العالية في المؤسسات، والرقابة الشعبية الفاعلة. هذه الدول دمجت مبادئ النزاهة في السياسات العامة. التعليم النوعي والمساواة الاجتماعية يلعبان دوراً محورياً.

- كوريا الجنوبية عانت لعقود من فساد مستشر، لكن الحركات الشعبية والإصلاحات الجريئة غيرت المشهد. أنشأت "لجنة مكافحة الفساد وحقوق المواطنين"، وأقرت قوانين صارمة تحظر الهدايا للموظفين العموميين. الشعب الكوري أسقط الرئيسة بارك غون هيه بسبب الفساد في 2017، في رسالة واضحة: لا حصانة للفاسدين.

- اليابان تعتمد على نظام الجدارة في التوظيف، وثقافة الانضباط، وآليات رقابية صارمة. النظام البيروقراطي الياباني يقوم على التدوير بين الأقسام وصنع القرار التشاركي، مما يقلل فرص الفساد. الإصلاحات الإدارية في التسعينيات كسرت احتكار البيروقراطية وعززت الشفافية.

- الرئيس شي جين بينغ أطلق حملة واسعة لمكافحة الفساد منذ 2012، حوسب فيها أكثر من 2.3 مليون مسؤول، بينهم كبار القادة. الحملة أعادت ثقة الشعب في الحزب، واستردت أموالاً طائلة للخزينة. رغم الانتقادات حول استخدامها سياسياً، إلا أنها أظهرت أن الإرادة السياسية قادرة على تحقيق نتائج ملموسة.

- في البرازيل، عملية "لافا جاتو" (غسيل السيارات) كشفت شبكة فساد ضخمة في شركة بتروبراس النفطية، أدت لسجن رؤساء وسياسيين كبار. رغم التحديات، أظهرت العملية أن استقلالية القضاء والإعلام الحر قادران على محاسبة الأقوياء.

- كندا وألمانيا وهولندا هذه الدول تعتمد على أنظمة رقابة متعددة المستويات، وشفافية في تمويل الأحزاب، وحماية للمبلغين. الإعلام الحر والمجتمع المدني القوي يلعبان دور الرقيب. هولندا تطبق معايير صارمة في المشتريات الحكومية، وألمانيا تفرض قواعد صارمة على تضارب المصالح.

- أيرلندا أطلقت إصلاحات شاملة شملت الشفافية المالية والمساءلة البرلمانية بعد أزمتها المالية.

-  رواندا، بعد الإبادة الجماعية 1994، بنت نظاماً قائماً على الأداء والمحاسبة، وحققت قفزات في مؤشرات الحوكمة.

أختم بتوصية للقارئ الكريم أنه لفهم ظاهرة الفساد بعمق، هناك مراجع أساسية:

-    Why Nations Fail : : The Origins of Power, Prosperity, and Poverty  دارون آسموغلو وجيمس روبنسون: يشرح كيف تؤدي المؤسسات الفاسدة إلى فشل الدول

- "شروط النهضة " لمالك بن نبي: يؤكد أن النهضة تبدأ بإصلاح الإنسان أخلاقياً وفكرياً

-    - "Corruption and Government" لسوزان روز أكرمان: مرجع أكاديمي شامل عن الفساد

- "نقد العقل العربي" لمحمد عابد الجابري: سلسلة تحلل العقبات الفكرية أمام النهضة

- "العرب وجهة نظر عربية" للكاتب الياباني نوبوأكي نوتوهارا

سيظل الفساد عدو التنمية المستدامة. لا اقتصاد قوي في بيئة فاسدة، ولا عدالة اجتماعية، ولا ديمقراطية حقيقية. يقول الله تعالى: ﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ﴾ (الأنعام: 152)، والعدل في الموازين يشمل العدل في توزيع الثروات والفرص. المفكر الهندي أمارتيا سِن الحائز على نوبل قال: "التنمية هي الحرية"، وحرية الإنسان تبدأ بتحرره من الفساد.

كل الأدوات لن تجدي دون إرادة سياسية حقيقية. كما نظم أبو الأسود الدؤلي : "لَا يَصْلُحُ النَّاسُ فَوْضَى لَا سَرَاةَ لَهُمْ، وَلَا سَرَاةَ إِذَا جُهَّالُهُمْ سَادُوا"، فالقيادة الحكيمة النزيهة أساس الإصلاح.

المجتمع المدني والإعلام الحر ركيزتان أساسيتان. يقول الله تعالى: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾ (آل عمران: 104)، والأمر بالمعروف يشمل فضح الفساد ومحاسبة الفاسدين.

من اليوم الدولي إلى مشروع نهضة شاملة

في هذا اليوم، يقف الوطن العربي أمام مفترق طرق. يقول الشاعر الفلسطيني محمود درويش: "على هذه الأرض ما يستحق الحياة"، ومستقبل أجيالنا يستحق أن نخوض معركة النزاهة بكل قوة. يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (التوبة: 120)، والإحسان في العمل العام أعظم الجهاد.

مكافحة الفساد مسؤولية الجميع. كل مرة نرفض فيها الرشوة، كل مرة نحاسب مسؤولاً، كل مرة نربي أطفالنا على الصدق، نبني مجتمعاً أفضل. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ" (رواه مسلم)، والفساد من أعظم المنكرات.

الطريق طويل، لكن البديل هو الانهيار. الحوكمة الرقمية توفر الأدوات، والتربية تبني القيم، والخطاب الديني والثقافي يغذي الضمير، والإرادة السياسية تقود التغيير. تجارب العالم تؤكد: الانتصار على الفساد ممكن.

وكما يقول المتنبي: "على قدر أهل العزم تأتي العزائم"، فهل العرب والمسلمون أهل عزم؟

***

بقلم: مراد غريبي

 

يستقر في ذهني أن انطلاقة التطور الحضاري عند العرب والمسلمين قد بدأت مع انفتاح الاعتقاد على العلم والاجتهاد وممارسته من لدن العلماء والمفكرين منذ عصر الرسالة وما بعدها، ولأن الاجتهاد هو طريق الحداثة الدائمية فقد تخطى العلوم الانسانية الى العلوم الصرفة كالطب والفلك والكيمياء وغيرها، حتى حان القرن الرابع الهجري = العاشر الميلادي وكان قرن اقتطاف ثمرات القرون المؤسسة للمعرفة العالية، بيد انه ظهر تيار تراجعي يدعو الى ايقاف الاجتهاد، بنوعيه في المجال الديني أو مجالات العلوم الدنيوية.

فقد نقل القاضي عياض (ت544) (ان الناس قد اجمعوا على تقليد المذاهب الاربعة) (1) فقط وكان المفروض أن يقال ان السلطات واساطين الفتوى هم الذين أجمعوا، وتعبير عياض بـ(الناس) يكشف عن مبالغة أن القرار هو قرار عموم المجتهدين حتى الذين لم يرتبطوا بالسلطة ويعزى السبب في ايقاف حركة العقل نحو الاجتهاد الى سببين عجز الامة عن انجاب المجتهدين كما يدعى وفي هذا إهانة وتقزيم للأمة وعجز العلماء عن تأسيس قواعد منهجية وهذا أدهى وأمر

والحق: ان السبب الحقيقي هو خوف السلطات آنذاك من أتساع حرية الرأي (2) ونقد السلطة من خلال صناعة الموقف الفقهي لذلك فغلق الاجتهاد تم عن طريق السلطة عندما اصدر الخليفة العباسي القادر بالله (البيان القادري) عام 408 الذي حدد ما يلزم الاعتقاد به، وأخذ عليه اقرارات العلماء ونص على أن ما عداه باطل ومعتنق غير أيديولوجية السلطة ضال أو كافر وكان هذا البيان افرازاً لفترة عصيبة ومضطربة ولعل العقلانيين كانوا من اوائل المستهدفين بهذا البيان (3).

وكانت طبيعة الاحوال أن السلطان لم يكن يتدخل في شؤون العقائد لأن ذلك موكول الى رجال المعرفة الدينية، لكن هنا فرض السلطان عقيدته بالسيف وسفك الدماء وكان علماء السلطة كعلي بن عمر القزويني وغيره قد كتبوا على هذا الاعتقاد ان هذا الاعتقاد صحيح ومن خالفه فقد كفر ومن لا يكفره فهو كافر ومثله فعل ابن فورك (4).

لكن الغريب أن البويهيين للاسف دعموا هذا النوع من الا(5)غلاق في التفكير العقائدي والقانوني وهذا ما يؤيد أن الهدف الاساس عند البويهيين لم يكن الاعتقاد المنتحل بل هو السياسة وبعد ستين عاماً من موت القادر بالله (422هج ) كتب الغزالي عدة كتب مثلت لائحة بالاعتقادات المسموحة بتكليف من نظام الملك السلجوقي فكان كتابه (الاقتصاد في الاعتقاد) الذي كتبه في 488 هـ وكتاب (فضائح الباطنية) وكتابه (قواعد العقائد) وكتابه (فيصل التفرقة بين الاسلام والزندقة) وكتابه (المنقذ من الضلال) واخيراً كتابه (الجام العوام عن علم الكلام) الذي كتبه آخر ايامه (505) وكلها اطروحات مفروضة على الناس تنظم مجالات قمع حرية الاعتقاد.

ثم جاءت مهمته في نقد الفلسفة في كتابه (تهافت الفلسفة) الذي قدّم له بكتاب اسماه (مقاصد الفلاسفة) الذي فسقهم في سبعة عشر موضعاً فصاروا في نظره (فسّاقاً)، وكفرهم في ثلاثة مواضع فكانوا (كفاراً) وصارت الفلسفة كفراً وفسقاً وبها تم قمع نزعة التفكير المنظم، ثم حصل أن ابن الصلاح الشهرزوري قد أفتى بتحريم الاشتغال بالمنطق مدعياً أنه المدخل الى الفلسفة ولما كانت الفلسفة شر، فالمدخل الى الشر شر (6). وتعلمه ليس مباحاً شرعاً، ودعا السلطان لمعاقبة من يروج بها بفتواه (ان المنطق مدخل للفلسفة، ومدخل الشر شر)

وينص الشهرزوري على انه ليس الاشتغال بتعلمه وتعليمه مما اباحه الشارع ولا استباحه احد من الصحابة والتابعين والائمة المجتهدين والسلف الصالحين وسائر من يقتدى به من اعلام الائمة وسادتها واركان الامة وقادتها (7). وبذلك الغى الغزالي التفكير بالحاضر والمستقبل

ثم يقول: (فالواجب على السلطان أن يدفع عن المسلمين شر هؤلاء المشائيم ويخرجهم من المدارس ويبعدهم ويعاقب على الاشتغال بضمهم ويعرض على من ظهر منه اعتقاد عقائد اهل الفلسفة على السيف او الاسلام) (8).وفي ذلك من شرعنة القمع الفكري وتحريض السلطة ضد المفكرين وبذلك: تعطل النظر في كتب علم الاصول (مناهج الاستنباط) في الفقه مثل كتاب البرهان ل لجويني ومستصفى الغزالي نفسه وغيرها من الامهات فحينما يوقف الاجتهاد، ويحرّم استعمال المنطق ويحرّم تداول الفكر الفلسفي وتحارب العقلانية، عند ذاك تسقط اسس وركائز الحضارة ومعارفها لأنها تفتقد الى ما تركز عليه

لذلك: فأني أرى ان القرن السابع والثامن الهجري كانا بداية لعصور التردي الحضاري والمعرفي وفيه تراجع نمط انتاج المعرفة، واعتمد نظام الحواشي والشروح على المتون الاصيلة التي انجزت في القرون الماضية وفيه أنتشر التيار السلفي وكان ابن قيم الجوزية الشخص البارز فيه، والمؤرخ ابن كثير و المحدث ابن تيمية (9) هم الرموز التي عبرت تماماً عن سمة ذلك العصر.

واذا كانت الدراسات التاريخية تذكر في ان سبب سقوط بغداد ان عدم حصافة الحكام العباسيين تسببت بسقوط بغداد، فأن الحقيقة أن البنية المعرفية التي بدأت بالانهيار بالبيان القادري (408هـ) وتحريم المنطق وتحريم العقلانية، وازدراء الفلسفة والتفكير المنظم هو السبب الحقيقي للانهيار لان لها انعكاس على التقدم الاجتماعي والقوة المجتمعية وكانت هي الظروف التي اوصلت المستعصم الى خلافة تقع اسيرة ذليلة بيد الغزاة المغول عام (656هـ) أي بعد قرنين من تصدع البناء الحضاري (10) للأمة، وان كان قرنان من صمود الدولة يكشف عن صلابة ذلك البناء الحضاري الذي حصل في القرون الاربعة الاولى الذي صمد كل هذه الفترة بعد الانحطاط الحضاري.

لقد سبق هذا الانهيار الفعلي، أن البلدان التابعة للخلافة تحولت الى لايات شبه مستقلة أدراياً يحكمها ولاة وأمراء محليين وكان اتساع رقعة الخلافة بدل أن تحول المعرفة الى قوة فقد ساهمت في الجهل الذي ساد فصار حالة (عدم سيطرة) فالمسافات الشاسعة بين الواقع والفكر لم تعالج بتطبيقات علمية للسيطرة على صعوباتها ولقد كان اختيار اخر خلفاء العباسيين ناتج لتردي المعرفة المتزامنة لتطور المجتمع فكان الخليفة على درجة من الطيش والتهور والشهوات حتى وقف عاجزاً أمام فيضان دجلة عام 654 أي قبل غزو المغول بسنتين، وقد أدى هذا العجز الى خسائر هائلة، كنتيجة للوضع العلمي المتردي الذي كان ينبغي أن يستعان به لتقليل الخسائر.

اذن فأن تصدع الارث الثقافي للامة الذي شاع في القرن السابع الهجري وتداعت منه عدة دعامات منها غلق الاجتهاد في مجال الفقه والقانون ومنها تحريم المنطق، وتحريم الاشتغال بالفلسفة فقد انعكس على نظام التفكير العام للناس.

يرى باحث: أن عودة العرب الى الفلسفة ضرورة حيوية لثقافتهم المعاصرة، لأنها تحفز على إعمال العقل لتحصيل التقدم العلمي الذي طالما ازدهر جنباً الى جنب مع الفلسفة التي تحقق اكتشاف المشتركات بين الانسانية لأنها تبني معايير محددة في الحكم على الاشياء ومجموعة محددة من القيم وتشارك الفلسفة في تفكيك الاستبداد الديني والسياسي (11).

واذا كان لبعض الاخوة أن يقول أن فترة السبات الحضاري قد انتهت ببداية القرن العشرين مع حراك الافغاني، فهذا تفاؤل لان زمن الافغاني كان زمن تشخيص المحنة ولم يكن عصر انتاج البدائل الحضارية وحينما عاد الوعي تبين الفارق الحضاري بين بلداننا والغرب وصحيح ان زمن الافغاني – عبدة قد حفز العلماء على ممارسة الاجتهاد واعتماد المنطق، واحترام الجهد الفلسفي، لكن ذلك كله لم يكسر (دوامة السبات الحضاري) ولم يكمل التطلع العام لممارسة فعاليات النهوض فلماذا لم يحصل التقدم طالما تخلصنا من تراث التخلف

اقول: أن ظهور الافغاني لم يكن صيرورة وعي ذاتية انبعثت من داخل العقل العربي، بل جاءت رد فعل على امرين احدهما الاحتلال الغربي للعالم الاسلامي وسقوط الإمبراطورية العثمانية، وقد بقي الفارق الحضاري بين اوربا والعالم الإسلامي المشهد الصادم لجيل اوائل القرن الماضي لأنه وعي محنته بفعل خارجي وليس بفعل ذاتي والفعل الخارجي يستوجب رد فعل تركز في التشويه الذي سيق للمبالغة في نزعات العداء للغرب وحروب الهوية وتقليل اهمية التخلف، والفحص عن المثالب بينما الوعي الذاتي يتحسس المشكلة بذاته ويبحث عن علاجها من خلال الضاغط الشعوري والأدوات العلمية.

ان حراك الافغاني يرتكز على قطيعة محددة مع تراث التخلف بينما كان الهدف اقامة منظومة سياسية بديلة عن الدولة العثمانية وهي تمر بأكثر ازمنتها تدهوراً، لكن الافغاني لم يطرح مشروعاً متكاملا كالامام النائيني

أن قبول علماء القرن العشرين بالمنطق الارسطي، ومخالفة (اسلافهم) من أهل الفتوى والحديث في تحريمه جاء في الوقت الضائع إذ أن أوربا منذ أربعة قرون أكتشفت أن منطق ارسطو الذي هو (مناط القبول والرفض) غير نافع لأغراض الاكتشافات وانه ربما ينفع في تصحيح ما هو صحيح أو الاقرار بالصحيح من الفاسد منطقياً، وقد غادرته اوربا الى منطق الاستقراء والمنطق الرياضي، فكان المنهج الاستقرائي في القرن 16 على يد فرانسيس بيكون وبعده جون سيتوارت ميل وحينما لاحظوا أن الاستقراء لا يطبق على كل العلوم قاموا بتطوير المنطق التقليدي واخترعوا المنطق الرياضي (لغة الرموز) الذي حفز عليه جورج يول وبرتراند رسل وما نتج عن المنطق الرياضي من آثار على مخرجات الفلسفة التحليلية (12) ومنها ما ظهر عنه ديكارت (1656م) الذي رفض منطق ارسطو واعتبره منهجاً عقيماً وأسس للمنطق الرياضي وطبقه على العلوم (13) في حين لا تزال الدراسات الإنسانية عندنا تصر على منطق ارسطو.

أما من حيث القبول بالفلسفة وعدمها فان تيار الغزالي (تهافت الفلاسفة) فقد بقيّ مستمراً (عند الذهبي الذي يسميها العلم المهجور) وما ألفه شهاب الدين السهروردي في الرد على الفلسفة بالقرآن وما تعرضت له اسرة المتصوف عبد القادر الكيلاني وظهور كتابات ابن حزم وفتوى ابن الصلاح ت (643هـ) واوصل ابن تيمية العداء للفلسفة والمنطق الى اعلى رتب المواجهة في كتبه الرد على عقائد الفلاسفة، والرد على المنطق، اما سوسيولوجيا فان تهمة الاشتغال بالفلسفة تهون قبالتها تهمة الكفر والزندقة (14)

***

ا. د. عبد الأمير كاظم زاهد

...............................

(1) الذهبي: سير اعلام النبلاء 8/92.

(2) ظ: أبن نجيم المصري: البحر الرائق ص 288.

(3) ظ: الزركلي: الاعلام 1/92

(4) ابن الجوزي، المنتظم: 8/294.

(6) ابن الصلاح الشهرزوري، فتاوى ابن الصلاح 1/210.

لقد بلغ (العداء للعقلانية والمنهجية مداه عند ابن تيمية الذي الف في الرد على المنطق اليوناني، أو الرد على المنطقيين، وكتاب نقض المنطق).

(7) ابن الصلاح: الفتاوى 1/210.

(8) م. ن: 1/210.

(9) علي الشهراني: جهود علماء السلف في تقرير العقيدة ص 37.

(10) ظ محمود شاكر: العهد المملوكي ج7/68.

ابن الجوزي: المنتظم 8|295، أبن كثير: البداية والنهاية 4\ 77

(11) انور مغيث، عودة الفلسفة ص 172.

(12) oxford Com panionp.498

(13) نيقولا ريشر، تطور المنطق العربي، تعليق محمد مهران ط1 85 ص 320، ظ محمد مهران: علم المنطق.

(14)(14) جورج طرابيشي، مصائر الفلسفة بين المسيحية وا لاسلام ص 70-72.

 

شهدت مقولة التسامح جملة من التطورات، منذ تداول المفهوم في الأوساط الدينية والسياسية والمعرفية في أوروبا، مع مستهلّ الحقبة الحديثة. وبدا ترسيخ المفهوم حينها، في أوضاع مشحونة بالنزاعات والانقسامات، سبيلًا للخروج من دوّامة الفوضى التي ألمّت بالقارة مع بروز الانشقاقات البنيوية الكبرى في التفكير والتصورات، جرّاء الموقف من الحداثة والعلمنة، وجرّاء ما طرأ على مفهوم الدولة من تبدّل، وما صاحبه من هجران لمفهوم الرعية وانفتاح على مفهوم المواطَنة.

بدا التسامح المنطوي على دلالات مغرية، مثل العفو، والتساهل، والاحترام، والكرامة، والقبول بالمغايرة وغيرها، سفينة النجاة للخروج من أوضاع الضيق والانغلاق والمركزية. وتجلى ذلك "في مديح التسامح" وفي رسائل "الحثّ على التسامح" التي دبجها كثير من الرواد في المجال، أمثال جون لوك، وباروخ سبينوزا، وفولتار وآخرون، ولكنّ ذلك الطور التأسيسي المثقل بالمخاوف والوعود، كان في واقع الأمر التمهيدَ الرخو الذي سار باتجاه التوليد النظري للمفهوم ثانية.

فمع الطور الثاني لمفهوم التسامح وقد خرج فيه من الحيز الغربي، والأوروبي تحديدا، إلى مجال عانقَ فيه العالمية والكونية، هو ما طبع صلة مفهوم التسامح بعالمنا مع القرن الفائت، وما خلّفه من تشبّث جملة من المعنيين بشؤون الأديان والحضارات باستعادة وعود المفهوم المغرية. بدا التسامح لغة جديدة، وسبيلا للتواصل بين علماء ورجال دين في تقاليد إيمانية عدّة، في زمن تقارب فيه أتباع الأديان، وتسارعت فيه المطالب بصياغة لغة جديدة، تتقلّص منها عبارات الهيمنة والأفضلية لمعتقد بعينه، ليعلوَ بدلها التطلّع إلى نحت "إيتيقا" مغايرة تهدف إلى إرساء التأسيسات اللازمة لإشاعة وئام جامع. تميّزَ الحديث عن التسامح، في هذا الطور الثاني، بالتعويل على تجديد الخطاب، من خلال البحث عن حيز للآخر في رحابة اللاهوت الذاتي، وفي التمثلات الثقافية بعيدا عن الانغلاق. صيغت مراجعات مهمّة في تشريعات الأديان الكبرى، لاحت آثارها في انفتاح القائمين على الأديان الإبراهيمية، على بعضهم البعض، بشكل لم نعهده. بدا ذلك جليا في مقرّرات مجمع الفاتيكان الثاني (1962/1965) في الكنيسة الكاثوليكية، وما تمخّض عنه من طروحات مستجدّة كان لها وقع على الأديان الأخرى.

والواقع أن رجال الدين والفقهاء والعلماء في شتى التقاليد الدينية، لم يدّخروا جهدا في هذا السياق. خاضوا في مسائل على صلة باستيعاب الآخر، مواكَبةً للتحولات في العالم، مع شيوع مبادئ حقوق الإنسان، وترسّخ فكرة المواطَنة، وتداخل الجغرافيات الدينية. وبالمثل اشتغل كثير من المفكرين على مراجَعات وانتقادات لطروحات الانغلاق المتراكمة عبر قرون، بغرض التأسيس لوئام جماعي ووفاق إيماني، يخرج بمقتضاه التصوّر الديني من ضيق المركزية العقدية إلى رحابة التشاركية الإيمانية، بما يفسح المجال للآخر بالحضور والإسهام في النسيج المجتمعي. الأمر تطلّبَ مراجَعات فقهية ولاهوتية هائلة: برز في المسيحية الاشتغال على "لاهوت الأديان" وعلى مفهوم "الحرية الدينية" من الأمور اللازمة لمواكبة العصر، ولإيجاد لغة تقطع مع الانغلاق الذي تلخّص في المقولة القروسطية "لا خلاص خارج الكنيسة". وفي الجانب الإسلامي بدا الاشتغال على البحث عن "كلمة سواء"، عبر مراجعات طالت مفاهيم مترسّخة مثل أهل الذمّة وأهل الكتاب وضوابط فقهية متقادمة. ولاح الاشتغال هدفا منشودا للحفاظ على سلامة المجتمعات، ولإيجاد لغة تخاطُب وتواصُل مع العالم. لم تكن اليهودية بعيدة عن هذا التمشي، وجرت مراجعات مهمّة لمفهوم اليهودي، ومفهوم الغويم، ترافقا بالبحث عن نصب خيمة إبراهيم مجددا في مفترق الطرقات لاحتضان الجميع. وقد تطلّب الأمر جرأة عالية من العقل الديني: اللاهوتي/ الفقهي/ الحبري، الذي عانى من تراكمات هائلة، بحثًا عن تعامل سويّ في عالم ديني جديد. والملاحظ بشأن خطاب التسامح في هذا الطور، في الأديان الثلاثة، أنّ التراث الصوفي، قد مثّل عنصرا لافتا في إبراز قدرة الأديان على التسامح، وعلى الخروج من البراديغمات المنغلقة، أعاد للذات المؤمنة رحابتها وثقتها واحتفاءها برأسمالها القيَمي.

والمتابع لجينيالوجيا التسامح يلحظ أنّ المفهوم متحوّل وغير مستقرّ على حال، وهو بصدد ولوج طور جديد يضعنا فيه مسار التحول أمام مطلب جوهري يتمثّل في الإجابة عن سؤال: كيف نسكن العالم؟ فاللافت أن مفهوم التسامح قد اشتكى مع أواخر الألفية الثانية من بلوى التفسّخ، وهو داء متربّص يصيب المفاهيم بالابتذال والخواء، أو ما يشبه الشيخوخة، والأمر عائد بالأساس إلى حالة الجمود وغياب تطوير الدلالات، وعدم الانتقال بالمفاهيم من طور خُلقي إلى طور عملي، ومن مستوى عاطفي إلى مستوى مؤسّساتي. فحين يجتاز المفهوم اختبار الولادة الثانية، يثبت حينها جدارته وديمومته، وهو المصير نفسه الذي عرفته مفاهيم كبرى رافقت البشرية في رحلتها، مثل الديمقراطية والليبرالية وحقوق الإنسان. وما كان لتلك المفاهيم وغيرها أن يُكتب لها الاستمرار لولا تلك التحولات والمراجعات والقطائع التي شهدتها.

وفي مسيرة تحول مفهوم التسامح، جرى البحث عن بدائل طورًا في التفاهم، وتارة في التضايف، وأخرى في التعايش، وهو بحث قلق ومشروع، ولكن الملاحظ أن التسامح ظلّ البؤرة الدلالية الأم التي يستند إليها السلم والأمن والأخوّة والحوار. والطور الحالي الذي نعيشه يُلزم بالخروج من "مديح التسامح" إلى "تمكين التسامح"، والبحث عن تنزيل مضامينه ضمن سياقات معرفية وإجراءات عملية. فأمام التقارب الهائل بين البشر، من شتى المعتقدات والثقافات، باتت جملة من التساؤلات ذات الصبغة العاطفية، في السابق، مدعوة للتحول نحو صبغة إجرائية. ولذلك أضحى طورُنا الحالي في فهم التسامح معنيا أكثر بالتحول من التسامح الخُلقي إلى التسامح العملي.

فمع التغيرات التي شهدها عالمنا منذ مطلع الألفية الثالثة، من ثورة الاتصالات الخارقة إلى موجات الهجرة العارمة، بدا موضوع التعدّدية محفّزا للأديان للتشبّث بمقولة التسامح وترسيخ أبعادها في المعيش اليومي وفي السلوك العملي. واللافت أنّ زمن التعدّدية الذي نعيشه يُلزم بإعطاء دلالات حقيقية لمفاهيم كانت في ما مضى نظرية أو ضبابية، أو مشحونة بدلالات خُلقية مفتقرة إلى بُعد عملي.

لماذا باتت الحاجة ملحّة إلى التسامح العملي في الزمن المعولم؟ نلحظ في غياب التسامح المؤثّر في نسيج المجتمعات أن جموعا واسعة تجد نفسها أمام وحش التشدّد، ودوّامة العنف، وانخرام القِيم، وهي مهالك تتربّص بمنجزات قيّمة تحقّقت في مجال التقارب بين البشر. لذا يلوح التسامح العملي بمثابة القدرة التنفيذية لتفادي مغبة التراجع عمّا تحقق للبشرية من إنجازات على مستوى كوني. والمتمعّن في تطوّر مفهوم التسامح يلحظ أن تشبّث البشرية بالتسامح وإصرارها عليه يأتي كلاهما جراء إدراك تلك الحاجة عقليا. فكما يقول كانط في ذلك المقطع الشهير في رسالة "السلام الدائم" حتى الشياطين، أو الأفراد الأنانيين للغاية، يحتاجون إلى الدولة، بشرط أن يكونوا عقلانيين، وعلى المستوى الدولي يحتاجون إلى جمهورية عالمية. يحتاجون إلى الدولة، بمعنى تقبل الجموع بنظام يرعى سير العلاقة بينهم، وهو أمر نابع من حاجة اضطرارية لأداة تنظّم سير العلاقة بين الجميع، لأن في انتفاء تلك الأداة يتهدّد كيان الجميع، وبالتالي ضرورة تقليص الجميع من رصيد الأنانية والتفكير بمنظور جمعي.

من هذا الاضطرار العقلي أو الحاجة العقلية، كما يبيّن كانط، يلوح التسامح في ظرفنا التاريخي الحالي مقبلا على تبدلات بحجم التحديات الكبرى، تسير صوب التمكين العملي.

***

د. عزالدّين عناية

أستاذ تونسي بجامعة روما، إيطاليا

مقاربة تنويرية

مقدمة: "إن الأسئلة هي التي تصنع الفيلسوف." - بول فاليري.

في سياق تاريخ الفلسفة، يُعد مفهوم "أنماط التفلسف" إطاراً تحليلياً يساعد على فهم كيفية تطور الأفكار الفلسفية عبر العصور، وكيف شكلت هذه الأنماط علاقة الفلاسفة بمجتمعاتهم. يشير هذا المفهوم إلى الطرق المتنوعة التي يمارس بها الفلاسفة تفكيرهم، سواء من خلال المنهجية الشكية، أو الاستدلال الهندسي، أو التحليل التاريخي، أو حتى الأسلوب الأدبي مثل الشذرات والحكم والأقوال المأثورة.

هذه الأنماط ليست مجرد أدوات فكرية، بل هي تعكس السياقات الاجتماعية والثقافية التي نشأت فيها، وتؤثر بدورها في تشكيل المجتمعات. من هنا، يبرز دور الفلاسفة كمؤثرين، حيث يتجاوزون حدود التأمل النظري ليصبحوا محركين للتغيير الاجتماعي، السياسي، والأخلاقي.

تتبنى هذه الدراسة مقاربة تنويرية، مستوحاة من عصر التنوير الأوروبي في القرنين السابع عشر والثامن عشر، الذي أكد على العقل كأداة أساسية للتقدم البشري، والنقد للسلطات التقليدية، والثقة في القدرة الإنسانية على تحسين المجتمع.

تهدف هذه المقاربة إلى إلقاء الضوء على كيفية استخدام الفلسفة لتحرير الإنسان من "القصور الذاتي"، كما وصفه إيمانويل كانط في مقالته "ما هو التنوير؟" (1784)، حيث يدعو إلى الشجاعة في استخدام العقل الخاص دون توجيه من الآخرين.

سنستعرض في هذه الدراسة أنماط التفلسف عبر التاريخ، مع التركيز على أمثلة تاريخية لفلاسفة أثروا في مجتمعاتهم، مستندين إلى تحليل تنويري يبرز دور العقل والنقد في هذا التأثير. فماهي أنماط التفلسف عبر مراحل تطور الفكر الفلسفي؟ وماهي أحوال الفلاسفة وطرائق تواصلهم مع مجتمعاتهم؟

أنماط التفلسف في العصور القديمة: المنشأ والتأثير الاجتماعي

"الفيلسوف الحقيقي يجب أن يشعر بغرابة وجوده في العالم دائمًا."

بدأت أنماط التفلسف في العصور القديمة مع الفلاسفة اليونانيين، الذين أسسوا أسس الفكر الغربي. كان النمط السائد هو "المنهج الشكي"، الذي يعتمد على التشكيك في المعارف المسبقة للوصول إلى الحقيقة. سقراط (470-399 ق.م)، على سبيل المثال، استخدم طريقة "القابلية" أو "التوليد"، حيث يسأل أسئلة متسلسلة ليخرج الحقيقة من المتحدث، مما يعكس نمطاً حوارياً يركز على النقاش العام.

كان سقراط مؤثراً في مجتمعه الأثيني، حيث تحدى الأفكار التقليدية حول العدالة والفضيلة، مما أدى إلى إدانته بتهمة إفساد الشباب، لكنه ألهم حركات فلسفية لاحقة مثل الأفلاطونية. أفلاطون (427-347 ق.م)، تلميذ سقراط، طور نمطاً "مثالياً"، مستخدماً الحوارات كأداة أدبية لاستكشاف العالم المثالي مقابل العالم الحسي. في "الجمهورية"، اقترح نظاماً سياسياً يحكمه الفلاسفة، مما أثر في مجتمعات لاحقة مثل الدول المدنية في العصور الوسطى.

أما أرسطو (384-322 ق.م)، فقد أدخل نمطاً "تجريبياً" ، يعتمد على الملاحظة والتصنيف، كما في كتبه عن المنطق والأخلاق. تأثيره امتد إلى المجتمعات الإسلامية والمسيحية، حيث أصبح "المعلم الأول" في الفكر الإسلامي، مؤثراً في علماء مثل ابن سينا وابن رشد، الذين نقلوا فلسفته إلى أوروبا، مما ساهم في النهضة الأوروبية.

من منظور تنويري، يُرى هؤلاء الفلاسفة كرواد للعقلانية، حيث تحدوا الخرافات وشجعوا على الفكر النقدي، مما أدى إلى تطور المجتمعات نحو أنظمة أكثر عدالة.

أنماط التفلسف في العصور الوسطى والإسلامية: التوفيق بين العقل والدين

"أولئك الذين يلتزمون في كل شيء بالماهية، وليس بالرأي، يجب أن يطلق عليهم اسم الفلاسفة."

في العصور الوسطى، سادت أنماط تفلسف "تألفية"، تهدف إلى الجمع بين الفلسفة اليونانية والعقائد الدينية. القديس توما الأكويني (1225-1274) استخدم نمطاً "منهجياً"، كما في "الخلاصة اللاهوتية"، حيث دمج أرسطو مع المسيحية، مما أثر في المجتمع الأوروبي بتعزيز دور العقل في اللاهوت.

في العالم الإسلامي، كان ابن رشد (1126-1198) يمثل نمطاً "تأويلياً"، حيث فسّر أرسطو ودافع عن الفلسفة ضد الغزالي، مؤثراً في مجتمعه بتشجيع العلم والتسامح، ولاحقاً في أوروبا عبر ترجماته.

من منظور تنويري، يبرز هذا العصر كمرحلة انتقالية، حيث بدأ النقد للسلطة الدينية، كما في فلسفة بيير آبيلار (1079-1142)، الذي استخدم الجدل للتشكيك في النصوص المقدسة، مما أدى إلى صراعات اجتماعية لكنها مهدت للتنوير.

أنماط التفلسف في العصر الحديث: الثورة العقلانية والتأثير السياسي

"الفلسفة ليست علمًا ولا دينًا: كل شخص يبحث عن الحقيقة فيها، لكنه لا يجد إلا حقيقته الخاصة، والتي يقارنها بعد ذلك بواقع الآخرين."

مع العصر الحديث، تطورت أنماط تفلسف "عقلانية" و"تجريبية".

رينيه ديكارت (1596-1650) أسس نمطاً "هندسياً"، يبدأ بالشك المنهجي للوصول إلى "أنا أفكر إذن أنا موجود"، مما أثر في مجتمعه بتعزيز الثورة العلمية.

جون لوك (1632-1704) طور نمطاً تجريبياً، ينفي الأفكار الفطرية ويعتمد على الحواس، مؤثراً في المجتمع البريطاني والأمريكي بفكرة العقد الاجتماعي، التي ألهمت الثورة الأمريكية (1776).

في عصر التنوير نفسه، كان فولتير (1694-1778) يمثل نمطاً "نقدياً"، مستخدماً السخرية لمهاجمة التعصب الديني، مما أثر في المجتمع الفرنسي بتشجيع التسامح والحرية، مساهماً في الثورة الفرنسية (1789).

جان جاك روسو (1712-1778) استخدم نمطاً "عاطفياً"، في "العقد الاجتماعي"، مؤكداً على الإرادة العامة، مما ألهم حركات ديمقراطية لكن أيضاً أدى إلى إفراط في الثورة.

إيمانويل كانط طور نمطاً "نقدياً نقياً"، في "نقد العقل الخالص" (1781)، محدداً حدود المعرفة، مما أثر في المجتمعات الأوروبية بتعزيز الاستقلالية الأخلاقية.

أنماط التفلسف في العصر المعاصر: التنوع والتأثير الاجتماعي

"لقد قام الفلاسفة فقط بتفسير العالم بطرق مختلفة؛ المهم هو تغييره." - كارل ماركس.

في القرنين التاسع عشر والعشرين، تنوعت الأنماط مع "الوجودية" لدى سورن كيركغارد وجان بول سارتر، الذي يركز على الاختيار الفردي، مؤثراً في مجتمعات ما بعد الحرب العالمية الثانية بتشجيع الحرية الشخصية. كارل ماركس (1818-1883) طور نمطاً "تاريخياً"، يحلل الصراع الطبقي، مما أثر في مجتمعات مثل الاتحاد السوفييتي والصين، مساهماً في الثورات الاشتراكية.

فريدريك نيتشه استخدم نمطاً شذريا "أقوالياً"، في "هكذا تكلم زرادشت"، نقداً للأخلاق التقليدية، مؤثراً في الفكر الحديث بفكرة "الإنسان الأعلى".

من منظور تنويري، يُرى هؤلاء كامتداد للعقلانية، لكنهم ينبهون إلى مخاطر الإفراط في العقل، كما في نقد نيتشه للعقلانية التنويرية.

خاتمة

"إذا لم يكن الفيلسوف سعيدًا، فهو ليس فيلسوفًا حقيقيًا." - روجر فورنييه

تكشف أنماط التفلسف في تاريخ الفلسفة عن تطور مستمر نحو التنوير، حيث يصبح الفلاسفة مؤثرين في مجتمعاتهم من خلال النقد والابتكار. من سقراط إلى ماركس، ساهموا في تحرير الإنسان من السلاسل التقليدية، مستندين إلى العقل كأداة للتقدم.  في عصرنا، يظل هذا الإرث حياً، مشجعاً على استخدام الفلسفة لمواجهة التحديات المعاصرة مثل التغير المناخي واللامساواة، مع الحفاظ على روح التنوير: "شجاعة استخدام عقلك الخاص". فكيف يتحول الفيلسوف الى قوة تغيير جذري في مجتمعه؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

 

الوطن ليس سؤالا جغرافيا، بل سؤال وجودي يبدأ من عمق الانسان قبل ان يبدأ من حدود الارض. الوطن هو تلك اللحظة التي يشعر فيها المرء ان حياته ليست مجرد عبور، وان خطوته تترك اثرا، وان كلمته تجد صدى، وان قلبه لا يخاف ان ينبض بصوته الحقيقي

الوطن في جوهره العميق ليس خريطة ترسم ولا حدودا تحرس ولا نشيدا ينشد في الصباح. الوطن فكرة ثم شعور ثم اثر يتركه الانسان في طريقه نحو ذاته. هو المساحة التي يتعرف فيها المرء على صوته الحقيقي لا على صدى ما يفرض عليه من شعارات مستهلكة.

 الوطن ليس ما نولد فيه بل ما نولد به من كرامة وما نحمله من شوق الى حياة تستحق ان تعاش. الوطن هو المكان الذي لا تضطر ان تقايض فيه حقيقتك بالولاء. ولا كرامتك بالصمت  ولا احلامك بالتنازل.

انه المساحة التي تقف فيها دون ان يخبرك احد ان قدميك عبء ودون ان يعلمك الخوف كيف تخفي قلبك في جيبك كي لا يصادر.

 الوطن هو المكان الذي لا يطلب منك ان تنحني كي تصبح مقبولا ولا ان تختبئ كي تكون امنا. هو حيث لا تصبح غريبا عن نفسك حتى وان كنت غريبا عن الجميع.

الوطن الحقيقي لا يصنعه التراب بل الانسان الذي يحول التراب الى حياة.. انسان يزرع عدلا لا خوفا ومساواة لا قبيلة وحرية لا طاعة عمياء.

هذا الانسان هو وطنه الاول فاذا صلح صلحت الارض كلها وان انهار. انهار المعنى من حوله مهما اتسعت الخريطة.

في وجهه نظري كل ارض تمنحك فرصة لتنهض هي وطن وكل ارض تكسر ظهرك حين تحاول الوقوف هي منفى مهما حملت من اسماء عريقة واناشيد رنانة. قد تكون قطعة الصدر التي تحتضنك او لحظة صدق مع نفسك وطنا اعمق من ساحات وجبال وحكومات. فالانتماء ليس مسألة موقع بل مسألة معنى.

الوطن مساحة من الطمأنينة لا تقاس بالامتار بل بقدرتك على ان تكون انت دون خوف.

وحين يتبدل الوطن الى سجان وحين يصبح الاختلاف تهمة. والمرأة نصفا. والمذهب هوية. والرأي الحر جريمة. يتلاشى الوطن ويترك الناس في جغرافيا بلا روح.  فالوطن الذي يحتقر ابناءه لا يستحق اسمه والوطن الذي يحرس الكراسي اكثر مما يحرس العدالة هو مجرد صدى فارغ.

والاوطان تتبدد حين يتحول الحاكم الى ظل الله في الارض، ورجل الدين الى حارس ابواب الجنة، والقبيلة الى هوية جاهزة، والمذهب الى وطن بديل.

قد يكون الوطن اغنية قديمة تعيد ترتيب روحك وقد يكون حضن امك الذي لا يسألك من انت.  وقد يكون صديقا يقول لك ابق كما انت.. او كتاب فتح لك نافذة على نفسك. وربما كما قال العظيم نجيب محفوظ..  الوطن المكان الذي تنتهي عنده كل محاولات الهروب.

رغم كل شيء، يبقى للانسان قدرة عجيبة على خلق وطنه من جديد. من فكرة صغيرة، من بيت يضيء بالحوار، من مدرسة تزرع السؤال، من عمل يوقظ الكرامة، من مجتمع يؤمن ان المواطن ليس تابعا بل شريكا. حينها يصبح الوطن فعلا: استمرارية وتاريخ وتغيير، يصبح عقدا اخلاقيا بين الانسان وذاته قبل ان يكون بينه وبين الارض.

الوطن في النهاية هو هذا الامان الداخلي الذي يجعل قلبك يبتسم قبل وجهك وهذا الضوء الذي يسمح لك بان تزهر دون اذن وان تحلم دون شروط وان تقول دون خوف. هنا لا احتاج الى عباءة غير حقيقتي. هنا أكون. وهكذا، لا يعود الوطن مساحة تراب نختلف على حدودها، بل يصبح مساحة روح نتفق على قيمها. الوطن ليس ما نقف عليه، بل ما نقف لأجله. وحين ندرك ان الانسان هو البداية والنهاية، نكتشف ان كل وطن لا يرفع من قيمة ابنه هو وطن ساقط مهما علت راياته.

و الإشكاليه ليست ان نبحث عن وطن، بل ان نصير نحن الاوطان التي تستحق ان تسكن. فالوطن الذي نرجوه لن يولد من سلطة ولا من قبيلة ولا من معجزة، بل من انسان يعرف كيف يحمي كرامته قبل ان يرفع علمه، وكيف يحرس حريته قبل ان يحرس حدوده.

وعند تلك اللحظة فقط، يصبح الوطن وعدا لا خديعة، ومساحة حياة لا مساحة نجاة، ويصبح سؤال الانتماء اجابة واحدة واضحة

هنا لا ينهزم الانسان

وهنا فقط

يبدأ الوطن.

***

ابتهال عبد الوهاب

بالنسبة للعديد من الذين يعيشون في المجتمعات المتقدمة، لا توجد علاقة واضحة بين الطب والدين. وربط الدين بالشفاء هو مفارقة تاريخية لا تتوافق مع القواعد العلميه للطب الحديث. في العالم القديم كان هناك القليل من المعرفة بالطب وبنية جسم الإنسان، وكانت أسباب المرض غامضة، وكان المعالجون يأملون في الحصول على المساعدة من خلال مناشدة قوى خارقة للطبيعه.

لقد انقطعت الصلة بين الدين وممارسة الطب منذ عدة عقود في العالم المتقدم، وهناك تعليمات واضحة تمنع الأطباء من استغلال تحيزاتهم الدينية للتأثير على المرضى. كما يجب على الأطباء احترام المعتقدات الدينية للمرضى، لما لذلك من أثر إيجابي على تعاملهم النفسي مع المرض وتحمل الامه. في حالة احتياج المريض إلى علاج يتعارض مع القيم الدينية للطبيب، يجب عليه إرسال المريض إلى طبيب آخر قادر على تقديم هذا العلاج دون انتقاد أو التقليل من اختيار المريض.

لا شك أن وظيفه الطبيب هي معالجة المريض ونشر الممارسات المفيدة للصحة وليس الدعاية الدينية أو التدخل في معتقدات المرضى أو سلوكياتهم غير الضارة بالصحة، ومن يريد ممارسة الدعاية الدينية فعليه أن يفعل ذلك خارج نطاق وظيفته كطبيب وألا يستغل منصبه المتميز للتأثير على المرضى. كذلك، يجب أن يكون الأطباء على استعداد للتنازل عن المعتقدات الشخصية التي تتعارض مع تقديم رعاية فعالة للمرضى. علي سبيل المثال، دعا المجلس الطبي العام في المملكة المتحدة بعدم استخدام النقاب عند التعامل مع المرضي لانه يعيق التواصل الفعال وتنمية الثقة بين الطبيب والمريض. كما تحظر ارشادات المجلس الاطباء من استغلال موقعهم المهني للتاثير العقائدي علي المرضي، ويؤدي انتهاك هذه التعليمات إلى إحالة الطبيب للتحقيق من قبل المجلس الطبي العام، وقد يتسبب استمرار هذه التصرفات الي سحب ترخيص ممارسة الطب في المملكة المتحدة.

في مجال تدخل الدين في الطب، يجب مراجعه قسم الطبيب في مصر، الذي فرضته نقابه الاطباء علي الأطباء المصريين اثناء سيطره جماعه الاخوان المسلمين علي المناصب القياديه داخل النقابه، ولا يزال يستخدم هذا القسم حتي يومنا هذا.

صدر هذا القسم عن المؤتمر الدولي الأول للطب الإسلامي الذي عقد في الكويت في يناير 1981 وينص علي ما يلي:

”بسم الله الرحمن الرحيم. أقسم بالله العظيم أن أراقب الله في مهنتي. وأن أصون حياة الإنسان في كافة أدوارها، في كل الظروف والأحوال، باذلًا وسعي في استنقاذها من الموت والمرض والألم والقلق، وأن أحفظ للناس كرامتهم، وأستر عوراتهم، وأكتم سرّهم. وأن أكون على الدوام من وسائل رحمة الله، باذلًا رعايتي الطبية للقريب والبعيد، الصالح والطالح، والصديق والعدو. وأن أثابر على طلب العلم، أسخِّره لنفع الإنسان لا لأذاه. وأن أوقر من علمني، وأعلّم من يصغرني، وأكون أخًا لكل زميل في المهنة الطبية في نطاق البر والتقوى. وأن تكون حياتي مصداق إيماني في سري وعلانيتي، نقيًا مما يشينني أمام الله ورسوله والمؤمنين. والله على ما أقول شهيد“

ينحاز هذا القسم إلى فصيل معين من الأطباء ويتعارض مع قيمة مهمه في مهنة الطب، وهي الحياد تجاه اي معتقد.علي نقابه الاطباء في مصر مراجعه هذا القسم ليخاطب جميع الاطباء علي اختلاف معتقادتهم، ويركز فقط علي قيم مهنه الطب في التعامل مع المريض بصدق واخلاص وتفاني واحترام خصوصيته. ولذلك، يجب الرجوع الي قسم أبقراط الشهير الذي تم مراجعته وتنقيته من المرجعية الدينية الاغريقية في عام 1948 بواسطه الجمعية العمومية لـجمعية الطب العالمية في جنيف، بعد الحرب العالمية الثانية، فيما أصبح يعرف باسم ببيان جنيف بشأن أخلاقيات المهنة الطبية. ومنذ ذلك الحين، أصبح قسم أبقراط، في لغته وشكلته الجديدين، المرجع لقسم الاطباء في مختلف انحاء العالم، وقد تم مراجعته عدة مرات، وكان آخرها في عام 2006. يُعتَقد أن إقرار القسم في عام 1948 كان ردًا على تعاون بعض الأطباء مع النازيين، ولذلك أُضيفت إليه عباره “وأن لا يستخدم معرفته الطبية فيما يُخالفُ الأنسانية”، ويتضمن القسم “مُراعاةُ مصالح المرضى، وتقديمُ إنقاذ حياتهم على أي أولويات أخرى، والالتزام بالأخلاقيات والمحافظة على شرف المهنة، والالتزام بحدود الخبرة والقدرة وعدم الاقدام على المغامرات غير المحسوبة ويتمثل ذلك في التشجيع على تحويل الحالات إلى الأكثر اختصاصًا، وكتمان الأسرار والمحافظة على خصوصية المرضى، واحترام المُعلمين والزملاء وتعليم الآخرين، وتقديم الرعاية الطبية دون تفرقة على أساس العرق واللون والدين أو الجنس“. تجدر الإشارة إلى أن قسم أبقراط الأصلي كان يحتوي على فقرتين، واحدة تتعلق بالإجهاض والأخرى بالقتل الرحيم، ولكن تم إسقاطهما من النسخ الحديثة من القسم لأنهما موضوعان مثيران للجدل في العصر الحديث.

وفي الختام، لا داعي لتدخل الدين في الطب، لأن هذا لا يخدم الطب او الدين، فلكل منهما قواعده الخاصة التي يجب احترامها وعدم إساءة استخدامها، ولا يوجد تصنيف ديني للطب الحديث، فهو يعتمد بشكل أساسي على البحث العلمي والملاحظه الدقيقة للأمراض وكيفية علاجها وفق الأدلة العلمية، وينبغي ان يكون للمريض الحريه الكامله في اختيار وممارسة معتقداته غير الضارة بالصحة دون تدخل من الطبيب المعالج.

***

د. سامح مرقس

 

يُعد التعليم العالي والبحث العلمي الركيزة الأساسية لبناء الدول الحديثة وتعزيز قدرتها على المنافسة في الساحة العالمية. إن التصنيفات الأكاديمية الدولية مثل Times Higher Education (THE) و QS World University Rankings ليست مجرد أرقام أو جداول، بل هي انعكاس مباشر لجودة المؤسسات التعليمية، وفاعلية البحث العلمي، ومدى ارتباط الجامعات بسوق العمل والمجتمع.

وفي هذا السياق، برزت أصوات أكاديمية عراقية رصينة — مثل الدكتور إبراهيم الجميلي، والدكتور محمد الربيعي، والدكتور عبد الهادي الخليلي، وغيرهم — الذين أثروا النقاش عبر كتاباتهم ومحاضراتهم ووسائطهم التعليمية والمقروءة والمسموعة، مؤكدين أن إصلاح التعليم العالي في العراق يبدأ من التوثيق والبيانات الدقيقة، وتطوير البحث العلمي، وربط الجامعات بالقطاع الخاص والمجتمع الدولي.

معايير التصنيفات العالمية

تعتمد التصنيفات الأكاديمية الدولية على مجموعة من المؤشرات، أبرزها:

- جودة البحث العلمي المنشور في المستوعبات العالمية.

- قوة البنى التحتية للمؤسسات التعليمية.

- كفاءة المخرجات التعليمية بحسب تقييم أصحاب العمل والجهات المستفيدة.

- الموارد البشرية (نسبة الأساتذة إلى الطلبة وعدد حملة الدكتوراه).

- حجم التمويل والاستثمار في البحث العلمي.

- توظيف الخريجين ومعدلات الاندماج في سوق العمل.

- الشراكات الدولية والإنتاجية مع الجامعات والشركات.

واقع العراق

إن غياب أو تراجع العراق عن هذه التصنيفات الدولية يعود إلى:

- نقص البيانات الرسمية الموثقة.

- ضعف ثقافة التوثيق الأكاديمي والبحثي.

- غياب منهجية لرصد الممارسات الجيدة والأنشطة التطوعية.

- محدودية الشراكات مع القطاع الخاص والمؤسسات الدولية.

رؤى الأساتذة العراقيين (اقتباسات مباشرة)

- الدكتور إبراهيم الجميلي: قال في إحدى مشاركاته الأكاديمية: "إن اعتماد المعايير الوطنية للجودة في التعليم الهندسي هو الخطوة الأولى نحو إدخال الجامعات العراقية في التصنيفات العالمية، فالجودة لا تتحقق إلا عبر مؤشرات دقيقة تشمل جميع تفاصيل العملية التعليمية" (Al-Jumaili, 2018).

- الدكتور محمد الربيعي: كتب في مقالاته: "النشر الدولي الرصين هو الشرط الأساسي لنهضة التعليم العالي في العراق، ولا يمكن لأي جامعة أن تدخل التصنيفات العالمية ما لم يكن لديها إنتاج بحثي معترف به دوليًا" (Al-Rubaie, 2022).

- الدكتور عبد الهادي الخليلي: أوضح في محاضراته: "الدراسات العليا في العراق تفتقر إلى استراتيجية وطنية واضحة، حيث تُركن الأطاريح على الرفوف بدل أن تُستثمر في تطوير البلد. إن ربط البحث العلمي بالاحتياجات الوطنية والتعاون الدولي هو مفتاح الإصلاح" (Al-Khalili, 2021).

- أصوات أخرى: مثل كتابات مراكز الدراسات العراقية (مركز الروابط ومركز الرافدين للحوار) التي أكدت أن "التعليم هو المحرك الأساسي لتطور المجتمع، وأن الإصلاح يبدأ من بناء قاعدة بيانات دقيقة وشفافة" (Rawabet Center, 2021).

خطوات عملية للنهوض

1. إنشاء قاعدة بيانات وطنية موحدة للبحث العلمي والأنشطة الأكاديمية مرتبطة بالمستوعبات العالمية.

2. تعزيز النشر الدولي عبر دعم المجلات العراقية للوصول إلى Scopus وWeb of Science.

3. تطوير البنى التحتية الجامعية (مختبرات، مكتبات رقمية، مراكز ابتكار).

4. رفع كفاءة الكادر التدريسي بزيادة نسبة حملة الدكتوراه وتدريبهم على البحث والنشر.

5. توسيع الشراكات الدولية مع جامعات رائدة وشركات إنتاجية.

6. تفعيل نظام تتبع الخريجين لقياس نسب التوظيف والاندماج في سوق العمل.

7. اعتماد مؤشرات الأداء الأكاديمي (KPIs):

- مؤشرات الأداء الأكاديمي هي أدوات قياس كمية ونوعية تُستخدم لتقييم مدى نجاح الجامعات والكليات في تحقيق أهدافها التعليمية والبحثية.

- أمثلة على هذه المؤشرات: عدد البحوث المنشورة دوليًا، معدل الاستشهادات العلمية، نسبة الأساتذة إلى الطلبة، نسبة حملة الدكتوراه، معدلات توظيف الخريجين، حجم التمويل البحثي، عدد الشراكات الدولية، والأنشطة الطلابية.

- الهدف النهائي هو بناء قاعدة بيانات دقيقة، وتحفيز المنافسة الإيجابية، وتوجيه السياسات التعليمية، بما يسهل دخول الجامعات العراقية في التصنيفات العالمية.

***

الدكتور عبد الجليل البدري

...........................

المراجع

- Times Higher Education. (2025). World University Rankings methodology. Retrieved from https://www.timeshighereducation.com/world-university-rankings/methodology

- QS Quacquarelli Symonds. (2025). QS World University Rankings methodology. Retrieved from https://www.topuniversities.com/qs-world-university-rankings/methodology

- World Economic Forum. (2023). Global Human Capital Report. Geneva: Author. Retrieved from https://www.weforum.org/reports/global-human-capital-report

- Altbach, P. G., Reisberg, L., & Rumbley, L. E. (2019). Trends in global higher education: Tracking an academic revolution. UNESCO Publishing.

- Salmi, J. (2020). The challenge of establishing world-class universities. World Bank Publications.

- Kaplan, R. S., & Norton, D. P. (1996). The balanced scorecard: Translating strategy into action. Harvard Business School Press.

- UNESCO. (2019). Measuring higher education performance: Indicators and methodologies. Paris: UNESCO Publishing.

- Al-Khalili, A. H. (2021). Postgraduate studies in Iraq. Retrieved from https://hadialkhalili.com

- Al-Rubaie, M. (2022). Education and societal stability. Al-Mada Newspaper.

- Al-Jumaili, I. (2018). National standards for engineering education in Iraq. University of Anbar.

- Rawabet Center for Strategic Studies. (2021). Education in Iraq: Reality and ambition. Retrieved from https://rawabetcenter.com

 

كتبت الفيلسوفة "آنا ماريا ماتوتي" ذات يوم جملة تبدو بريئة لكنها في الحقيقة مفخخة وجودياً: "لم أكن أتخيل أبداً أن الغياب سيشغل مساحة كبيرة." وهي جملة لو فكّر فيها المرء قليلاً لاضطر إلى شراء خريطة جديدة للعالم، لأن الخرائط القديمة لم تُرسم فيها بلدان الغياب، وهي مساحات شاسعة، لا تقل عن قارات بأكملها.

من منظور فيزيائي–عاطفي (وهو علم لم يعترف به أحد رسمياً بعد، رغم انتشاره)، يمكن القول إن مساحة الغياب تتناسب عكسياً مع المساحة التي كان يشغلها حضور الشخص في حياتنا. وكلما كان وجوده مركزياً، تمدد غيابه كعجينة بيتزا سيئة الإعداد.

إنه ذلك الفراغ المصنوع خصيصاً لنا، والذي لا يشعر به إلا من عرف حضوراً حقيقياً. فالمرء لا يفتقد المقعد الخالي في مقهى لم يجلس فيه، بل يفتقد المقعد الذي كان يجلس عليه شخصٌ أصبح اليوم مادة روائية صالحة للحزن.

إذن الحضور والغياب ليسا ضدّين، بل زوجاً فلسفياً متناغماً: وجود وظل، امتلاء وفراغ، حياة وقصيدة رثاء. حتى إن الغياب، بهذا المعنى، ليس نقيض الحضور، بل امتداده بوسائل أخرى.

الحب الرومانسي — ذاك الكائن الساخر الذي يعدك بالخلود ثم يختفي فجأة — يجعل الغياب أشبه ما يكون بـ"متلازمة الانقطاع". الحبيب يمضي، والمخ يعتمد على جرعاته السابقة.

في العلاقات المستقرة لا يعود الحدث عاصفاً، بل متشبثاً بروتينه اليومي: كوب القهوة الذي كان له صاحب، ظلّ الخطوات في الردهة، الجملة التي كان يكررها الشخص الذي غاب. هنا يصبح الغياب عادياً، وهذا تحديداً ما يجعله مؤذياً.

يتطلب التخلص من هذا الإدمان مهارات غير متوفرة في دليل الاستخدام البشري. فالاعتياد على الوحدة فنّ صعب، يحتاج تمريناً نفسياً شاقاً، ولا يتقنه إلا من مارس رياضة "التجرد" لسنوات.

وفوق ذلك، يأتي الحنين — ذلك السوط الثقيل — ليخبرك بأن الماضي كان كاملاً، وأنك أنت الذي لم يدرك ذلك.

في الشيخوخة: حين يسقط عمود الحياة فجأة، أكثر أنواع الغياب إيلاماً هو غياب الشريك بعد عقود من التعايش.

أنت لا تفقد شخصاً هنا، أنت تفقد نسختك المشتركة مع العالم. من اعتاد الآخر وروحه وصوته اليومي، يصبح فقدانه انهياراً بنيوياً. الأنا تصبح هشة، والذهن يترنح مثل عود قصب في مهبّ الريح.

الأمر لا يتعلق بالحب فقط، بل بـ"تعريف الذات": من أنا بدون من كان معي نصف قرن؟ هنا يصبح الغياب مساحة تُقاس لا بالمتر، بل بـ"عدد الأيام التي تُعاد دون وجهة".

أما الغياب الذي يصنع حفرة سوداء حقيقية فهو غياب الأم، خصوصاً حين لا يكون الطفل قد بلغ ما يكفي ليخترع أسطورته الخاصة عنها. الأم ليست مجرد حضور، بل هي البنية التحتية الوجودية للكائن الصغير.

يختفي الجدار الأول الذي استند إليه الطفل في الوجود. أي فراغٍ هذا يمكن قياسه؟ وكيف يُرمم؟

الجواب الفلسفي: لا يُرمم. والجواب النفسي: يُتعايش معه. والجواب الساخر: يوضع في صندوق خشبي طويل مع بقية صدمات الطفولة التي ستناقش لاحقاً مع معالج نفسي.

غياب الناس، أم غيابنا نحن؟ للوهلة الأولى يبدو أن الغياب هو فراغ تركه الآخر.

لكن الكثير من المدارس الفلسفية — من مركيز إلى بودريار — تربت على كتفك وتخبرك أن الأمر ليس بهذه البساطة.

فالغياب في كثير من الحالات ليس نقصاً في الآخر، بل نقصاً في نسختنا من أنفسنا التي كانت تتشكل بوجوده. نحن نفتقد "أنفسنا كما كنّا معه"، لا الشخص نفسه.

وهي مفارقة لطيفة ومؤلمة في آن واحد. الإنسان، كما قال أرسطو، كائن اجتماعي، أي كائن محكوم بالخسائر. الحياة تمنحنا الحضور، فقط كي تسحبه لاحقاً. والعالم، بكل عبقريته الكونية، قائم على قانون بسيط: خذ ما تحب… ثم استعد لدفع الثمن.

لذا فالغياب يشغل أكبر المساحات، لأنه مكوّنٌ أساسي من التجربة الإنسانية. نحن نغيّب ونُغَيَّب، نفقد ونُفقد، ونتعلم الوقوف بعد كل سقوط، لا حباً في الوقوف، بل لأن الأرض قاسية ولا رغبة لنا في النوم على البلاط.

الغياب ليس حدثاً طارئاً، بل قانون وجود. ليس مساحة تُقاس، بل مساحة تبتلع. لكن رغم قسوته، هو ما يدفعنا إلى إعادة تشكيل ذواتنا، إلى ترميم ما يمكن ترميمه، وإلى الانحناء أمام الحقيقة الكبرى: أن الإنسان كائن يتقن التكيّف، لأنها حرفته الوحيدة التي لا تفشل.

وهكذا نفهم جملة "ماتوتي" على حقيقتها: لم يكن الغياب يشغل مساحة كبيرة… بل كان يسكن فينا، ويعيد توزيع جدراننا الداخلية كما يشاء.

***

الأستاذ محمد إبراهيم الزموري

كانت اللحظة التي أسس فيها افلاطون (الأكاديمية)، أهم لحظة تاريخية، ليس في تاريخ اليونان فحسب بل وفي تاريخ البشرية عموماً، فهي لحظة بداية التفكير الفلسفي المدرسي، المؤسس على نهج علمي وتربوي سليم ومنظم، وهي اللحظة الأولى التي آوى فيها أفلاطون الفلسفة في مدرسة، في حدود معرفية وزمانية ومكانية تشكل لحظة تأسيسية مهمة للفكر البشري، بعد أن كانت الفلسفة شريدة وهائمة سائرة ودائرة على الشفاه وفي الصدور مع سقراط وتلامذته وفلاسفة آخرين، حين يتجلون في شوارع أثينا وطرقها، معتمدين الحوار والنقاش الشفاهي لمعالجة قضايا الواقع المعاش لأثينا وأسبارطة ومن حولها، سياسياً وأجتماعياً وفكرياً ودينياً، وبقي سقراط دائراً في فلسفته (جوال) من مكان الى آخر، ينشر فلسفته والفلسفة بين الناس بطريقة (فلسفة الشارع)، وهي تحاكي الواقع وتهتم به وبالحدث الذي كان دائراً في الشارع اليوناني آنذاك. ولكن أفلاطون سعى الى أن تكون للفلسفة كينونتها المعرفية وهويتها الفكرية التي تميزها عن غيرها من أنماط التفكير البشري، ولا يكون ذلك إلا بوجود الفلسفة في مدرسة أو جامعة أو مكان ينُشر من خلاله الفكر الفلسفي ويدرّس وفق منهج تربوي وعلمي أكاديمي، وعندها كانت الفلسفة، لحظة تكوينية لكينونة أرقى ما في العقل الانساني ألا وهو ولادة التفكير الفلسفي، هذا النمط الفكري الذي يجسد لحظة التحول الكبير في طريقة التفكير، من المثلوجيا الى الفلسفة، لحظة ارجاع المادة الى أصلها، ومعرفة العلل الأولى للاشياء، مادية كانت أو روحية، وتخليص الفكر من الأفكار الميثولوجية التي لا تناسب اللحظة الجديدة للوقع الفكري الجديد، فكانت ثورة الفلسفة اليونانية ثورة على العصر السابق، وكانت بحق تمثل عصراً للنهضة في حينها تجسد ولادة العقل الاستدلالي، ولادة البحث عن الحقيقة ومعرفتها، من خلال الحكمة ومحبتها، وكان ذلك يونانياً ثم أخذت تنتشر نحو العالم، نحو الشعوب والأمم محققة ولادات حضارية وثقافية وفكرية رائدة من خلال الحوار والتثاقف والتعارف المشترك بين الفلسفات والثقافات والحضارات، وما كان ذلك ليكون لولا وجود الدولة التي ترعى تلك الحريات والمؤسسات الداعمة لبناء الانسان والمجتمع، ففي ظل الدولة تنمو وتتطور أو تتخلف وتتقهر كل الانشطة الفكرية والعلمية والحياتية، وفقاً لسياسة الدولة ومنظومتها الفكرية، وهذا ما جعل أثينا، يونانياً، تختلف عن أسبارطة، في نظامها الفكري والسياسي، حيث جسدت أثينا النمط المدني الديمقراطي، بينما جسدت اسبارطة النمط العسكري الدكتاتوري، وهو ما أنعكس بالتالي على طبيعة المجتمعين وتحديد نمط الشخصية والسلوك والتربية بين المدينتين المتصارعتين.

وقد كانت اللحظة التاريخية الأهم في تاريخ الاكاديمية العراقية هي لحظة تأسيس قسم الفلسفة في جامعة بغداد عام 1949م، تلك اللحظة التأسيسية الأساسية التي شكلت الولادة الجنينية والبذرة التكوينية لنشأة الفلسفة في العراق، بصورة أكاديمية، وهذا لا يعني عدم وجود فلسفة أو أهتمام بها في العراق قبل ذلك التاريخ، ولكن الاهتمامات التي سبقت ذلك كانت فردية وشخصية وذات صبغة دينية، لا ترقى إلى مرحلة النشأة التي أنجبت أجيالاً من طلبة الفلسفة وأساتذتها سواء في العراق أو الوطن العربي، وقد ساهمت لحظة التأسيس مساهمة مبكرة في تدشين الفكر الفلسفي عراقياً وعربياً، ولكن للأسف لم تلحق ولادات جديدة لأقسام الفلسفة في الجامعات العراقية إلا بعد مرور أكثر من أربعين عاماً على القسم الأم، حيث تأسست أقسام الفلسفة في جامعة الكوفة عام 1990، وفي الجامعة المستنصرية عام 1993، وفي جامعة الموصل عام 1994، وفي جامعة البصرة عام 1995، وفي جامعة واسط عام 2003، وفي جامعات أقليم كردستان هناك أقسام الفلسفة في جامعة رابرين في رانية السليمانية عام 2010، وفي جامعة صلاح الدين وفي جامعة السليمانية، وآخر الولادات كان قسم الفلسفة الاسلامية في كلية العلوم الاسلامية في جامعة بغداد عام 2012م.  وقد كان لهذه الاقسام الدور الكبير في تحقيق وعي أكاديمي معرفي ومجتمعي بأهمية الفلسفة في حياة الانسان والمجتمع، وسعيها الحثيث نحو مناقشة ومعالجة مشكلات الحياة المعاصرة.

وما كان لاقسام الفلسفة في العراق أن تتأسس لولا الجهود الكبيرة التي بذلت من قبل المهتمين وأصحاب الشأن الفكري والفلسفي من أساتذة الفلسفة والنخب الثقافية والعلمية، الذين سعوا الى نشر الفلسفة من خلال قنوات تواصلهم مع الجهات المسؤولة وأصحاب القرار، وقد كان لذلك التأسيس دوره الفاعل في نهضة العراق الفكرية والثقافية وترسيخ وعي فلسفي لدى مجموعة من الطلبة والمختصين وأهل العلم والمعرفة، ومن خلال حصولهم أيضاً على الشهادات العليا في الاختصاص، ورفد الجامعات العراقية والعربية بكوادر من اساتذة الفلسفة الأكفاء في تخصصات مختلفة، وهذا بدوره ما رفع من وتيرة الوعي الفلسفي وزيادة الاهتمام بالفلسفة والفكر النقدي الحر في الثقافة العراقية، وما كان ذلك ليكون لولا تأسيس أقسام الفلسفة، ونشر الفلسفة بصورة مدرسية وفق المنهج الاكاديمي المنظم والمحترف، الذي بدوره يختلف عن التفلسف غير المحترف، فلسفة الهواة وليس فلسفة المحترفين.

والذي نود الاشارة اليه في هذا المقام هو رغم زيادة اقسام الفلسفة في العراق التي وصلت الى العشرة اقسام في عموم الجامعات العراقية، إلا أن عدد الطلبة المتقدمين للدراسة في الفلسفة بدأ يتناقص في السنوات الاخيرة، وتلك الحكاية أو الحدث الابرز الذي لا بد من مناقشته ووضع الحلول له ومعالجته، فمستقبل الدراسات الفلسفية والعلوم الانسانية في الجامعات العراقية في خطر ينبغي الأنتباه له وتفاديه، وتحول وجهة الخريجين نحو اقسام الدراسات العلمية والتطبيقية وصرف النظر عن الدراسات الفكرية والانسانية، وهذا بحد ذاته يعرض مستقبل التربية والتعليم والثقافة والفكر لخطر محدق وهو غياب الدراسات والتخصصات الانسانية والاجتماعية التي لها الدور الكبير في عملية البناء التربوي والثقافي والفكري والاجتماعي والمعرفي والتحول نحو العلوم الرياضية والطبية والهندسية والتقنية التي أصبحت السوق الرائجة للخريجين والدارسين، متناسين دور العلوم الانسانية وما تشكله من أهمية كبيرة في خدمة المجتمع تضاهي دور العلوم التطبيقية أو تتقدم عليها.

والسبب الرئيس لتحول الخريجين اليوم للعلوم التطبيقية هو توجههم نحو سوق العمل والبحث عن الوظيفة، وللأسف فأن تراجع كليات الآداب وبعض الكليات الاخرى والتخصصات الانسانية ينذر بجفاف فكري وانحسار ثقافي كبير يهدد المجتمع، فلو تسآلنا من هو المفكر الذي ينظّر ويفكر ويخطط ويشرّع ويدرس مشكلات الانسان والمجتمع والتاريخ والدولة هل هو الطبيب والمهندس والرياضي والفلكي أم هو الفيلسوف والناقد والمصلح والمثقف؟ بالتأكيد نحن لا نقلل من قيمة العلوم التطبيقية ولها مجالها الخاص بها، ولكن تراجع العلوم الانسانية وغيابها يهدد بسقوط المجتمع ومؤسساته وتناسي همومه وأهمية بحث مشكلاته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والحياتية، والذي نلاحظه من خلال تاريخ الفكر البشري أن العلماء لهم مجالهم الفيزيقي الخاص بهم، أما الميتافيزيقا والفكر والتربية والتعليم فلها مجالها ومنهجها الخاص بها أيضاً، هذا من جهة، ومن جهة أخرى نلاحظ التداخل الكبير بين الفلسفة والعلوم الاخرى، حتى العلوم التطبيقية الصرفة منها، وهذا ما  نلاحظه من تاريخ الفلسفة عبر عصورها المختلفة،  فالفلسفة تبحث قضايا مهمة في مجال فلسفة الدين وفلسفة التاريخ وفلسفة الاخلاق وفلسفة الجمال وفلسفة اللغة وفلسفة القانون وفلسفة العلم وفلسفة الفن وفلسفة الادارة وفلسفة السياسة وغيرها من المجالات الفكرية المتنوعة، فضلاً عن قضايا المنطق والمعرفة الاخرى. وقد أطلق المفكر التونسي فتحي التريكي مفهوم (الفلسفة الشريدة)، وهي تلك الفلسفة المنفتحة اليوم على كافة مجالات الحياة والتي تتفاعل مع قضايا الانسان والمجتمع المعاصر وهمومه اليومية، والتي كان لتشردها الدائم محاولات للتقرب من الناس وقضايا الحياة اليومية، وما نخشاه اليوم على الفلسفة هو عدم إيواها من تشردها الدائم، في هذا العالم المجنون في التقنية والغارق في الرأسمالية المقيتة حد التخمة. فهل تلقى تلك الدعوة آذان صاغية من قبل المسؤولين لتلبية النداء ووضع حلاً عاجلاً لها، كي لا يصاب رحم الفلسفة بالعقم من الولادة والابناء، وتبقى الفلسفة محروسة في المدرسة تنتج افكارها بأنتظام بعيداً عن التشرد والمضايقات التي تلاحقها طوال التاريخ من قبل السلطات المعادية لها.

***

أ.د. رائد جبار كاظم

ما بين التأمل الميتافيزيقي والتواصل الإيتيقي

"الحقيقة ليست شيئاً نملكه، بل طريقاً نمشيه"

مقدمة: منذ أن نزل سقراط إلى ساحة أثينا، ومنذ أن صعد أفلاطون إلى عالم المثل، والفلسفة تتأرجح بين قطبين لا يفترقان ولا يجتمعان تماماً: قطب التأمل الميتافيزيقي الصامت المنعزل، وقطب التواصل الإيتيقي الذي يولد في اللقاء مع الآخر. هذه الدراسة لا تريد أن تختار بين القطبين، بل أن تُظهر أن كل فيلسوف عظيم كان، في اللحظة الحاسمة، مضطراً لأن يمشي على الحبل المشدود بينهما، وأن الحقيقة نفسها تكون دائماً في هذا المشي الخطر. فماهو الطريق الذي يسلكه الفلاسفة بحثا عن الحقيقة؟

التأمل الميتافيزيقي: الصعود المنفرد نحو الواحد

في البداية كانت الكلمة… لكن قبل الكلمة كان الصمت. كل الفلاسفة الكبار بدأوا برحلة داخلية صامتة تقريباً:

بارمنيدس يقف مذهولاً أمام الوجود الواحد ويعلن: «الكائن كائن، وغير الكائن ليس». لا حوار هنا، بل صوتٌ واحدٌ يدوّي في فراغٍ مطلق.

أفلاطون في الفيدروس يصف صعود النفس إلى عالم المثل كتجربة من يُخطف إلى السماء في عربة مجنّحة، بعيداً عن الجموع، بعيداً عن الكلام البشري اليومي.

أفلوطين يطلب من تلميذه أن «يغلق عينيه الخارجيتين ويفتح عينه الداخلية»، ثم يصمت لسنوات، لأن الواحد لا يُنطق به.

ديكارت في غرفته المسخّنة في هولندا يقول: «أنا أفكر، إذن أنا كائن»، ويبني العالم كله من هذه النقطة المنفردة.

سبينوزا يجلس في غرفته الصغيرة في لاهاي، يصقل العدسات، ويكتب الأخلاق بالطريقة الهندسية، كأن الحقيقة يمكن أن تُستنتج وحيداً، دون حاجة إلى وجهٍ آخر.

حتى هيدجر في كوخه في الغابة السوداء يكتب «الوجود والزمان» وهو يستمع إلى رنين الصمت فقط.

في هذه اللحظات يكون الفيلسوف راهباً، عاشقاً منفرداً، متسلّقاً يصعد الجبل وحده. الحقيقة هنا هي الواحد، الثابت، المطلق، الذي لا يتغيّر بتغيّر الوجوه. والطريق إليها هو التنقية، التجريد، الارتفاع فوق الزمن واللغة والجسد والآخر.

التواصل الإيتيقي: الحقيقة تولد في وجه الآخر

لكن لا أحد بقي على الجبل إلى الأبد. في اللحظة التي يعود فيها الفيلسوف إلى المدينة، أو يبدأ في الكتابة، أو يُسأل سؤالاً من إنسان آخر، يحدث الانقلاب:

سقراط لم يترك كتاباً واحداً، لأن الحقيقة عنده لا توجد إلا في الحوار الحيّ، في الولادة المشتركة. يقول لثياتيتوس: «أنا لا أعرف شيئاً، لكني أجعل الآخرين يلدون ما في أنفسهم».

أوغسطينوس يكتب الاعترافات مخاطباً الله مباشرة: «أنت كنت داخلي وأنا كنت خارجي». لكن هذا الخطاب موجّه في الوقت نفسه إلى كل قارئ سيأتي بعده، فالحقيقة هنا اعترافٌ يطلب شاهداً.

كيركغارد يكتب بأسماء مستعارة، يتكلم مع القارئ المنفرد الواحد، ويقول إن الحقيقة هي «ذاتية»، أي أنها تولد فقط في الشغرفة المغلقة بين روحين.

ليفيناس يقلب الطاولة كلها: الحقيقة ليست أولاً في الوجود، بل في الوجه. «وجه الآخر يمنعني من القتل، ويأمرني، ويستدعيني إلى مسؤولية لا نهائية». قبل أي ميتافيزيقا، هناك إيتيقا.

حنّة آرندت تقول إن الحقيقة السياسية لا توجد إلا في الفضاء العمومي، في الحوار بين متساوين، في «العالم المشترك» الذي يولد من الكلام والفعل معاً.

في هذا القطب تكون الحقيقة دائماً علاقة، نداء، مسؤولية، جرحٌ مفتوح. لا يمكن امتلاكها، بل يمكن فقط الشهادة لها أمام الآخر.

التوتر الخلاق: الفيلسوف يمشي على الحبل

كل فيلسوف حقيقي عاش هذا التمزق:

أفلاطون يكتب حوارات، لكنه يجعل سقراط دائماً هو المنتصر، ويضع في فمه أطول مونولوجيا ميتافيزيقية في التاريخ.

سبينوزا يكتب بالطريقة الهندسية، لكن كتابه الأكثر حميمية هو «رسالة في تحسين العقل»، وهي رسالة موجهة إلى صديق.

كانط يكتب نقداً صارماً للعقل الخالص، ثم في النقد الثالث يقول إن العقل العملي (أي الأخلاقي) هو الذي يملك «الأولوية العملية» على النظري.

هيدجر يكتب «الوجود والزمان» كتأمل منعزل، ثم في الخمسينيات يقول إن «اللغة هي بيت الكينونة»، وإن الحقيقة لا تُكشف إلا في الكلام الشعري المشترك.

ليفيناس يكتب «الكلية واللامتناهي» ككتاب ميتافيزيقي صعب، لكنه يبدأه بجملة إيتيقية: «الحقيقة تفترض العدالة».

أربعة أشكال للجمع بين القطبين

أ. الشكل السقراطي: الحوار كطريق إلى الميتافيزيقا

الحوار ليس غاية، بل وسيلة لكي يرى كل واحد الحقيقة في نفسه. الحقيقة تبقى مطلقة، لكنها لا تُرى إلا في وجه الآخر.

ب. الشكل الأوغسطيني: الاعتراف

الصمت الداخلي يتحول إلى خطاب موجه إلى «أنت» مطلق (الله، أو القارئ). الحقيقة اعتراف، والاعتراف يحتاج شاهداً.

.ج. الشكل السبينوزي: الهندسة المكتوبة لقارئ مجهول

الكتابة كتواصل مؤجّل، كرسالة في زجاجة نرميها في البحر، عسى أن يجدها إنسان حرّ واحد في المستقبل.

د. الوجه الليفيناسي: الميتافيزيقا تنشأ من الإيتيقا

ليس الصعود إلى الواحد أولاً، بل النزول إلى وجه الآخر. الميتافيزيقا نفسها تولد من الصدمة الأخلاقية أمام اليتيم والأرملة والغريب.

خاتمة

"الحقيقة هي لاتحجب، أي الكشف عما كان مخفيًا." مارتن هيدجر

لا توجد حقيقة فلسفية كبرى لم تُدفع ثمنها بهذا التمزق بين الصمت والكلام، بين الجبل والساحة، بين الواحد والوجه. الفيلسوف الحقيقي ليس من يختار أحد القطبين، بل من يظلّ يمشي بينهما، يصعد ويهبط، يصمت ويتكلم، يختفي ويعود، يبكي في الخفاء ويضحك في العلن. في النهاية، الحقيقة ليست شيئاً يصل إليه الفيلسوف يوماً ما، بل هي الحركة نفسها، التنفّس بين التأمل والتواصل، بين الوحدة واللقاء. وهي، فوق كل شيء، الشجاعة على أن يبقى الإنسان في الطريق، عالماً أنه لن يصل، لكنه يعرف أيضاً أن كل خطوة على هذا الطريق الضيّق هي، في ذاتها، الحقيقة. لأن الحقيقة، في النهاية، ليست ما نراه في نهاية الطريق، بل ما نصير نحن، ونصير مع الآخرين، ونحن نمشي. فكيف تظل الفلسفة من خلال فعل التفلسف مفتوحة على كل الطرق؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي 

ماذا ينتظرنا في نهاية حياتنا العملية؟ الفيلسوفة الفرنسية سيمون دي بوفوار(1908-1986) ترى ان التقاعد أقل من مكافأة وأكثر من تمزق وجودي. هذا الحدث يجعل العالم ينظر الينا بشكل مختلف، وهو حدث له القدرة على عزلنا عن أنفسنا. "هناك فقط حل واحد هو ان لا تكون الشيخوخة محاكاة ساخرة وسخيفة لحياتنا السابقة، والاستمرار في السعي نحو غايات تعطي لوجودنا معنى". المجتمعات الرأسمالية الغربية تميل لإعطاء قيمة لإنتاجية الفرد، وتشجيع العمل الرخيص والنزعة التكنلوجية للشباب المواطنين. عندما لم يعد شخص ما مناسبا او انه يختار الخروج من الماكنة الاقتصادية المعاصرة، فهو يكون أقل ربحية ومن ثم أقل فائدة وبالتالي أقل ملائمة. ادفع بهم الى الهامش، مساهماتهم للعالم قد انتهت.

ان الأزمة التي يعيشها بعض الناس عند التقاعد هي جزء من تهميش شامل يفرضه المجتمع على كبار السن حسبما ترى سيمون بوفوار. لا أحد يريد ان يوصف كـ "عجوز"، هي تكتب: "المجتمع ينظر الى كبار السن كنوع من سر مخجل لا يليق ذكره. خلافا للموت الذي يمكن ان يأتي في أية لحظة، ترى بوفوار ان "العمر ازيل عنا بمدى زمني كبير جدا لدرجة انه يتحد مع الأبدية، هذا المستقبل البعيد يبدو غير واقعي".

في الحقيقة، الموت هو مرادف للعدمية، انه يشكل القليل من التهديد لهويتنا قياسا بما يفعل التقدم في السن. هذه العدمية يمكن ان تؤدي الى دوار ميتافيزيقي، لكن بطريقة مريحة -انها لا تثير مشاكل. "انا لم اعد موجودا". في اختفاء من هذا النوع انا احتفظ بهويتي. عندما افكر في نفسي كشخص طاعن في السن وانا في عمر 20 او 40 سنة سأرى نفسي كشخص آخر، غير ذاتي.

وبهذا، "تبدو الشيخوخة كأنها كارثة": انها عمر يتناقض مع الحياة، وليس الموت، عمر يتم التعامل معه كمحاكاة ساخرة للحياة. ومن منظور المجتمع، ينال الكبير في السن هدوء الحكماء ذوي الوجوه المجعدة، يتم تبجيله كروح متعالية بين الحياة والموت، او كما في الحالات الأكثر شيوعا، يُحال الى منزلة المسنين الحمقى. ومهما كانت الطريقة، هو يقف بعيدا عن الإنسانية، جرى تصنيفه كنوع آخر. تقدم بوفوار هذا التحليل في عملها عام 1970 (التحول من الطفولة الى مرحلة البلوغ) The coming of age. هي تدرس اضطهاد كبار السن بنفس الطريقة الصارمة التي تقيّم بها موقف المرأة في كتابها الشهير (الجنس الثاني،1949) The second sex.

الشيء الغريب حول موقف المجتمع من كبار السن هو التضحية بالرغبات لأجل هدف اكبر. "مت مبكرا او تقدّم في السن، لا خيار آخر". لكن هذا هو حال إقصائنا لكبار السن. نحن نتبنّى هذا الإقصاء حتى نصل الى النقطة التي يتم تحويله ضد أنفسنا: لأننا في عمر الشيخوخة الذي يجب ان نعيشه، نرفض الاعتراف بأنفسنا. رفْضنا المخيف للشيخوخة هو تعبير عما تسمّيه بوفوار وغيرها من الوجوديين بـ "خداع الذات" bad faith او رفض مواجهة الحقائق. خداع الذات بالضرورة يعني خداع أنفسنا حول حياتنا الخاصة، وهناك طريقتين رئيسيتين للقيام بهذا.

أولا، نحن ننكر حقيقة حياتنا المسلّم بها سلفا: منْ نحن، من أين جئنا، ما هو الواقعي بالنسبة لنا، وهكذا.

ثانيا، نحن ننكر "حرية" حياتنا: ما هو الشيء الذي نحن قادرين على عمله، وما الهوية التي نقبل ان نكون فيها، والإمكانات التي يمكننا بلوغها. نحن نعيش توتر بين واقع مفروض لا يمكن تغييره facticity والحرية، ولكي نحل هذا التوتر نحن في الغالب ننكر أحد الجانبين: ننكر منْ نحن (واقع مفروض)، او ننكر ما يمكننا ان نكون عليه (حرية).

ان إنكار بداية الشيخوخة هو إنكار واقع مفروض او شكل من خداع الذات. عندما يتم التعامل مع كبار السن كأنواع غرباء، من خلال فصل "كبار السن" كشيء لا يحدث الاّ للآخرين، فان الذين لم يبلغوا السن القانونية ينزلقون نحو نوع سخيف من الخداع واللاأصالة نحو حياتهم الخاصة. هذا النوع من خداع الذات يمكن ان يستمر لعقود حتى يأتي اليوم الذي يجبرنا فيه العالم لمواجهته. ربما سقوط، مرض، او ببساطة قد يتم استقبالك في المرآة بوجه متجعد.

بوفوار تتذكر صدمتها عندما اكتسحها مرور الزمن بشكل غير متوقع: انا أتذكر ذهولي عندما كنت مريضة جدا لأول مرة في حياتي وقلت لنفسي "هذه المرأة التي يحملونها على ثقالة هي انا". لكنها ليست فقط صدمة جسدية، المواجهة الأكثر شراسة مع الشيخوخة تأتي عند التقاعد. التقاعد ينقل الشخص المنتج الى متقاعد بين يوم وليلة. شكرا لخدماتك، يقول الاقتصاد، الان افتح الطريق للناس الجدد. رجاءً تذكّر انك الان شخص كبير السن، لقد بلغت مرحلة عالية من النمو الفردي. ربما انت تتجه الان نحو البستنة.. المتقاعدون في الرأسمالية يجب ان يكافحوا ضد أسئلة يمكن ان تقود الى ازمة ثقة. اذا كنت عامل ولم تعد تعمل، اذن ما القيمة، ما الهدف الذي تمتلكه حياتك الان؟ الماضي هو جامد والمستقبل يبدو محدودا، ماذا بعد الانحدار الآن؟ هل اتجه نحو كومة من السكراب؟ هل "الشخص المسن" هو كل ما استطيع ان أكون عليه الان؟. بعد مرحلة من خداع الذات في انكار الواقع المفروض وإبعاد واقع الشيخوخة، يواجه المتقاعد الان التمييز على أساس السن الذي ينتجه خداع الذات.

اذا نُظر الى "المسن" كمرادف لنوع من التدهور والانحدار، عندئذ فان الظروف ناضجة لكبار السن للنظر الى انفسهم بهذه الطريقة أيضا. هم ينزلقون الى شكل من خداع الذات وانكار الحرية، واضعين حدودا على ما سيكونون عليه من هوية وماذا سيكونون. "انا" كبير جدا لكي ارتدي هذا، لكي اسافر الى هناك، او أحاول ذلك". وكما تكتب بوفوار:

اذا كان كبار السن يبيّنون نفس الرغبات، نفس المشاعر ونفس المتطلبات كالشباب، فان العالم ينظر اليهم باشمئزاز: الحب والغيرة يبدوان مقززين او سخيفين، الجنس بغيضا والعنف مثيرا للضحك.

لهذا فان إنكار الواقع المفروض لمنْ هم ليسوا كبارا في السن الان (في متوسط العمر) يقود الى خداع الذات وانكار الحرية لمن هم كبار سلفا. وبما انهم غرباء بواسطة المجتمع، سيصبح كبار السن في خطر ان يكونوا غرباء عن أنفسهم. اذن ما هو الحل؟ كيف يمكننا تحرير انفسنا من خداع الذات بشأن العمل والتقاعد والشيخوخة؟

تعلن بوفوار عندما ترتبط قيمتنا للكائن البشري بإحكام مع مكانتنا كعمال، لا غرابة ان يواجه كبار السن غير العاملين العزلة والوحدة والشك الذاتي.

حياتنا العملية تقدم الوهم باننا الى الابد نعمل نحو شيء ما: هناك وجهة مجيدة تنتظرنا. معالم تقليدية مثل الزواج، القرض السكني، تربية أطفال، تعزز هذا المنحنى من السرد الكبير. لكن فيما بعد يأتي التقاعد بتلميح وقح وهو ان كل هذا بلا فائدة. الماكنة تستمر في الدوران، تتخلص من الأجزاء القديمة وتلقي بها على جانب الطريق. وكما تذكر بوفوار:

في كل مرة يكتشف انسان انه لم يعد يذهب الى أي مكان، ان مساره يقوده فقط الى القبر. هو تسلّق الى القمة، ومن القمة سيكون هناك سقوط. يقول الشاعر الايرلندي Yeats" ان الحياة استعداد طويل لشيء لم يحدث ابدا". ستأتي لحظة عندما يعرف المرء انه لم يعد مستعدا لأي شيء ويدرك ان فكرة التقدم نحو هدف ما كانت وهماً. تاريخنا الشخصي افترض انه امتلك هدفا، والان يجد وبلا ادنى شك، ان هذا الهدف اُخذ منه. وبينما يكون هذا الادراك عادة مقلق ومدمر، تؤمن بافوار انه في الظروف الصحيحة يمكن ان يكون محفزا للمرح والأصالة على المدى الطويل. كبير السن يمتلك عدد من الإيجابيات المجهولة دائما. في الحقيقة، حتى مع خلفية التمييز على أساس السن، مع ذلك، يعيش البعض مرحلة التقاعد كتحرر كبير. لم يعد يتوجب على كبار السن التصرف بطرق لأجل تسلق السلم المهني، وتحسين سمعتهم مع جماعة معينة او إضافة المزيد من النقود لصندوقهم التقاعدي.

هذه الإزالة للأصنام والاوهام هي الأكثر صدقا وقيمة من كل المساهمات التي جلبها العمر. احدى الطرق لمقاومة خداع الذات حول الشيخوخة هي إعادة فحص ما يفتح الطريق لها. نعم، العمل انتهى، لكن العمل ليس الشيء الوحيد الذي نقدمه. الفيلسوف اليوناني ارسطو جادل بان التسلية وليس العمل هو ما نجد فيه أحسن تعبير عن تميّزنا الإنساني.

بدلا من أزمة الهوية، يمكن النظر الى التقاعد كشكل من اشكال التخرج الى طريقة للحياة والى أصالة للحياة. الناس يمكنهم التركيز على الأنشطة التي يجدونها مثيرة ومحفزة حقا: حياة العائلة والجد، بناء جماعات، تطوير مهارات جديدة، تعلّم أشياء لم يكن لدينا ابدا وقت لتعلّمها..

بكلمة أخرى: تنمية الصفات التي تجعلنا أناسا. "هناك فقط حل واحد للشيخوخة هو ان لا تكون محاكاة ساخرة و سخيفة للحياة السابقة"، والاستمرار في متابعة الأهداف التي تعطي معنى لوجودنا والتفاني للأفراد والجماعات وخلق عمل فكري او اجتماعي او سياسي خلاّق.

لهذا، الاستعداد للتقاعد ليس فقط حالة من تأمين اننا نمتلك نقودا كافية، او مكان للعيش وبعض الهوايات للتسلية. نحن أيضا نمتلك معنى الالتزام والسعي والخطط التي تستمر معنا الى نهاية حياتنا. نحن يجب ان نسأل انفسنا باستمرار ماذا نريد من الحياة، ليس فقط في نهاية عملنا المهني ، ونكافح لبناء حياتنا حول ذلك السؤال قبل وقت طويل من توقفنا عن العمل لأجل النقود.

بالنسبة للعديد من الناس، هذا ربما غير واقعي. في ثقافة تعرّف مواطنيها من خلال العمل، ربما من المستحيل تجسيد او استطلاع أي شيء آخر. ليس كل شخص لديه الرغبة في اكتشاف وتطوير شغفه. ربما يريد احد فقط إبقاء رأسه فوق الماء من راتب الى راتب، او يكون جزءا من صناعة تثبيط الحماس لمتابعة أي شيء عدى الوظيفة، او امتلاك عائلة يهتم بها. عند التقاعد كل ما يرونه حولهم هو أراضي قاحلة.

طبقا لبوفوار كل ما في المجتمع من فشل يصب في الوحدة والنفي لهؤلاء الناس. كتابها (التحول من الطفولة الى البلوغ) صيحة انذار لتحوّل المجتمع بطريقة لا يتم التخلص فيها من كبار السن او عزلهم بواسطة الماكنة الاقتصادية، وانما امتلاك مكان ذي قيمة في الحياة اليومية، طريقة للتعبير عن مشاعرهم الداخلية، وسائل للمشاركة في عمق ولون تجربتهم المعاشة، والاحتفال بإنسانيتهم التامة والمستمرة.

الناس الشباب يجب ان يعترفوا ان الطريقة التي يتعامل بها المجتمع مع الكبار ستكون هي ما يعاملهم به العالم أيضا. لا يمكننا نزع الإنسانية عن الأشخاص الذين من المقدر لنا ان نصبح كما هم: نحن يجب ان نتوقف عن الخداع: المعنى الكامل لحياتنا هو موضع تساؤل في المستقبل الذي ينتظرنا. اذا كنا لا نعرف ماذا سنكون عليه، لا نستطيع ان نعرف ماذا نحن: دعونا نميز انفسنا في هذا الرجل المسن او في تلك المرأة المسنة.. تجسيد سنوات الحكمة والنضج هو اسهل في القول من الفعل في مجتمع منغمس بقيمة الشباب، لكنه شكل حيوي للمقاومة ضد ثقافة خداع الذات حول العمل والتقاعد والشيخوخة.

التغيرات المادية والتحديات ستأتي مع العمر لكنها لا تحتاج لتترافق مع غربة وجودية واجتماعية. فقط لأن حياتنا ليس لها وجهة جيدة في نهاية المطاف لا يعني انها لا تستطيع ان تُملأ بمختلف المشاريع التي تضيف قيمة للعالم، حسب بوفوار:

أعظم ثروة جيدة، وحتى أعظم من الصحة، بالنسبة لكبار السن هو ان يمتلكوا عالمهم الذي لايزال مسكونا بالمشاريع: مشغول ومفيد، هم يهربون من الضجر والتآكل. الوقت الذي يعيشون فيه يبقى ملكهم وهم مجبرون بتبنّي أشكال دفاعية من السلوك الذي غالبا ما يكون من سمات السنوات الأخيرة. شيخوختهم تمر كما كانت دون ان تُلاحظ... في الحقيقة، بالنظر للظروف الصحيحة والحياة المملوءة بالسعي الهادف والعلاقات، يستطيع كبار السن ان يكونوا أسعد واكثر أصالة. لكن بوفوار تعترف، اذا كانت تجربة المرء لا تتماشى جيدا مع هذا، فهي أبعد من الفشل الشخصي. هناك فرصة ضئيلة للاحترام والتقدير في سن الشيخوخة اذا لم يكن هناك احترام في العمل الذي يجب ان يقوم به الناس للوصول الى هناك: لكي يتم ذلك يجب ان يلتزم كبير السن في أواسط عمره بمباشرة تعهدات تضع وقته امام التحدي: في مجتمع الاستغلال هذا تُرفض هذه الامكانية من جانب الأغلبية الكبرى في المجتمع.

تحرير أنفسنا بالكامل من خداع الذات حول الشيخوخة سوف يتطلب ثورة كبيرة في نظامنا الاقتصادي الحالي. ثقافات أخرى طوال التاريخ مجّدت واحترمت تجربة الحياة وحكمة كبار السن، منحتهم أماكن ذات قيمة وادوارا في المجتمع. في المجتمع الغربي المعاصر، طالما نحن نحكم على قيمة الفرد طبقا لانتاجيته وربحيته، طالما نحن نعامل الناس كوحدات اقتصادية يتم عصرها والتخلص منها، ستستمر الشيخوخة تثير الخوف والاحتقار، والذين يعيشونها سيواجهون تحديات أبعد من التدهور الجسدي. 

***

حاتم حميد محسن

تعريف السعادة: إن تعريف السعادة هو موضوع خلاف وجدل عند الفلاسفة منذ القدم، حيث يختلف تعريف السعادة باختلاف المذاهب الفكرية والمدارس الفلسفية، من حيث أفكارها، وقناعاتها، حيث يُنظر إليها كغاية عُليا للحياة، تتراوح بين الرضا التام، والانسجام العقلي، والروحي،وقد يربطها البعض بالإشباع الروحاني، ويراها البعض الآخر في تحقيق الفضيلة، وهو ما نادى به  الفيلسوفين (سقراط) و(آرسطو)، في حين يراها (أبيقور) في التخلص من الألم والشقاء، بينما يعتبرها (نيتشه) التصالح مع الشقاء، وتقبل الحياة بكل مافيها، بما في ذلك الألم، ويراها (إينشتاين) في الحياة الهادئة، ويُعرّفها (كانت) بأنها توافق رغبات الإنسان مع القانون الأخلاقي والوجود، بينما يعتقد (سيغموند فرويد) أن السعادة مرتبطة بالإشباع النفسي والجنسي، والقدرة على الحب والعمل، ولقد ربط الفلاسفة المسلمون السعادة بالجانب الروحي والمعرفي، فعلى سبيل المثال يرى الفيلسوف (إبن سينا) أن السعادة الحقيقية هي السعادة الروحية التي لا يصل إليها إلا العارفون الذين تخلصوا من شواغل البدن وإتصلوا بالعالم العلوي، وكان أرسطو من أبرز الفلاسفة الذين تحدثوا عن السعادة، وكيف يمكن أن تكون مُتاحة لمعظمنا، ولكن فقط إذا اجتهدنا في تحصيلها، وبحسب أرسطو، فإن السعادة لا تأتي من اليُسر، بل نحن نشعر بالسعادة عندما يكون لدينا هدف، وعندما ندرك إمكانياتنا، وعندما نطوّع سلوكنا اليومي من أجل أن نصبح أشخاصًا أفضل، لقد وضع أرسطو برنامجًا لتحقيق السعادة، وإن برنامجه العابر للزمن هو بالضبط ما نحتاج إليه في وقتنا الحاضر من أجل المضي نحو عيش حياة مُرضية وذات معنى، حيث أن دمج الفلسفة، والحكمة القديمة في دروس عملية، محلية، وعالمية، هو إجراء عملي ضروري يساعدنا، أينما كنا، على مواجهة مصاعب الحياة ولحظاتها القاسية عن طريق الإستفادة من أفكار ومفاهيم الفلاسفة، بوصفها أدوات غايتها الفضيلة والتخلص من الألم وتحقيق السعادة.

مفهوم السعادة فلسفياً

إن مفهوم السعادة فلسفياً ليس واحداً، بل هو رحلة تتنوع بين الروحانيات والماديات، والإشباع الروحي، والفضيلة، والسلام، والطمأنينة، والرضا الداخلي والتوافق مع العالم، ويشترك الكثيرون في الإجماع على أنها حالة من الرضا التام والكمال الإنساني تتحقق عبر مسارات مختلفة، باختصار، يظل مفهوم السعادة محل اختلاف نظراً لارتباطه بتصورات الفلاسفة المختلفة حول الأخلاق، والغاية من الوجود، وطبيعة النفس البشرية.

التداوي بالسعادة

يمكن للإنسان التداوي بالسعادة، والإستشفاء بها، ولكن من خلال شروط وقواعد فلسفية، وأخلاقية، أهمها أن يعرف الإنسان ذاته، ويدركها، حيث ان معرفة الإنسان نفسه، وإدراكه لذاته، هي الشرط الأساسي لتحقيق السعادة، ومن ثم تصبح هي السبب الوحيد لتجنب أسباب الشقاء والخيبة، وإذا كانت معرفة الإنسان لنفسه شرطاً ضروريا للسعادة، فهي بالأحرى الشرط الأساسي لتدبير لحياة العملية في المجتمع المعاصر، وتقبل كل مالايمكن تغييره، والإعتراف بالأخطاء، والشعور بالرضا، وإستعادة التوازن النفسي والهدوء والسكينة والطمانينة.

***

شيماء هماوندي

الإختصاص/ الفلسفة والعلاج الفلسفي

(يا أصدقائي، ليس هناك أصدقاء).. أرسطو

فرش اشكالي: الصداقة مقوّم أساسي لفعل التفلسف، حتى انه يمكن القول إن الفلسفة ولدت من رحم السؤال عن الصديق. فمن "فيلوس philos" أي الصديق كما جاء في اشعار هوميروس، إلى "فيلو صوفيا" حب الحكمة، يظل الحوار مع الآخر وطلب الحقيقة معه النبض الأصيل للتفلسف، فالصديق الحقيقي هو رفيق البحث عن الحقيقة. وقد قيل لأرسطو من الصديق؟ قال: إنسان هو أنت، إلا أنه بالشخص غيرك! والصداقة في المتن الفلسفي الارسطي لا تتحقق الا عبر الحوار العمومي وليس العلاقات الحميمية ذلك ان وظيفة السياسة الرشيدة هي توليد الصداقة باعتبارها فضيلة أخلاقية كبرى، وحجراً في بناء الكمال الإنساني المنشود؛ فالإنسان – بطبعه – مفطور على التطلع نحو الكمال، ولا يتحقق هذا الكمال إلا داخل الدولة عبر الصداقة التي تُشكِّل شرطاً جوهرياً للسعادة داخل المدينة الفاضلة. " والمشرعين الجيدين كما جاء في كتاب الاخلاق الى نيقوماخوس " أبدوا اهتمامًا بالصداقة أكثر من اهتمامهم بالعدالة "

وإذا كانت الدراسات المعاصرة تشير إلى تعمق هذه العلاقة في المسيرة العمرية المتأخرة، فإنها – في جذرها الأنطولوجي – تظل حاجة وجودية متأصلة في كينونة الإنسان، لا يقوم عودها على هشاشة المنفعة العابرة، بل يتأسس على أصل الخير وغايته. ومن هنا يصفها ابن مسكويه بأنها الفضيلة الوحيدة الدائمة، لاستنادها إلى الخير الثابت الذي لا يتزعزع. وفي جذرها اللغوي (ص. د. ق) تتجلى دلالات القوة والمتانة والثبات، فهي – بحسب تعبير فولتير "زواج الروح"، لكنه زواجٌ يصطدم بمرارة الواقع لذلك هي عُرضة للطلاق.

من هذا الالتباس بين المثال الأخلاقي الثابت وهشاشة الواقع المتغير، تنبثق إشكاليتنا المركزية: كيف تُقرأ الصداقة بين تشكيك الواقع وتوق المثال؟ وكيف يتجلى هذا الجدل في النصوص الفلسفية المؤسسة له؟  لذلك سنحاول في هذا المقال النبش في مفهوم الصداقة كما يتجلى في نصوص مفكرين وان شئت قل فيلسوفين ينتميان إلى حقلين ثقافيين مختلفين، لكنهما يلتقيان عند هاجس السؤال نفسه: أبو حيان التوحيدي في "الصداقة والصديق"، وميشيل دي مونتين في مقاله "عن الصداقة". وستدور مقاربتنا حول الأسئلة الجوهرية الآتية:

1.  هل الصداقة إمكانية إنسانية قابلة للتحقق، أم هي مثالٌ يستعصي على التطبيق في واقع العلاقات؟

2.  كيف نحددها فلسفيا؟

3.  إذا كانت ممكنة، فما هي مستويات تحقيقها ومراتبها الأخلاقية والوجودية؟

4.  كيف يمكن تفسير هشاشتها الواقعية المتكررة، بالرغم من كونها أعلى مراتب الفضائل الأخلاقية؟

5.  هل تُفهم الصداقة على أنها قيمة ذاتية تنبع من التجربة الشخصية والوجدان، أم هي قيمة موضوعية مستقلة تنتمي إلى عالم المُثل الأخلاقية؟

6.  هل الصداقة بالضرورة متبادلة؟ وهل يجب أن يكون الأصدقاء دائما على قدم المساواة؟

في مفهوم الصداقة

يتميز مفهوم الصداقة بالترحال ونقطة البداية هذه تدفعنا الى التنقّل بين ثلاثة عوالم: عالم الفضيلة العمومية (أرسطو)، حيث الصداقة ركن المدينة، وعالم المعيار الأخلاقي الفردي (التوحيدي)، حيث تصير الصداقة حكمة شخصية ومقياسًا لنقد زمن الجهالة، وعالم الحدث الوجودي الفريد (مونتين)، حيث تتحول إلى تجربة وجدانية تعبر عن انفتاح الكينونة.

لقد ميز أرسطو في كتاب "الأخلاق النيقوماخية" بين أنواع الصداقة الثلاثة: صداقة المنفعة وهي قائمة على المصالح المتبادلة و تزول بزوال المنفعة، وصداقة المتعة القائمة على اللذة المشتركة والتي تزول بزوال المتعة، وصداقة الفضيلة وهي تقوم على حب الخير في الشخص لذاته، وهي أكمل أنواع الصداقة وأكثرها ديمومة، ولا تكون الصداقة عند ارسطو كاملة دون مشاركة في الحياة والتأمل والنقاش فمن خلال الصداقة، يمارس الإنسان فضائله ويشارك في "الحياة الخيرة" مع الآخرين.

واذا تركنا ارسطو جانبا قلنا بداية ان رؤية كل من التوحيدي ومونتين للصداقة تتقاطع في رفض البعد المادي والنفعي، والارتقاء بها إلى مصاف الظاهرة الوجودية المتكاملة، التي تحمل في طياتها أبعادًا فلسفية عميقة. غير أن الاختلاف الجوهري بينهما يكمن في الأساس المؤسِّس لها وشروط تحقُّقها.

حيث ينطلق التوحيدي في تشريح ماهية الصداقة من مبدأ المشاكلة، جاعلاً إياها مشروطةً بالانسجام العقلي التام والتماثل الروحي الخالص. فهي عنده، في المقام الأول، صداقةٌ عقلانية تتغذى على حوار التأمل وقد قال أعرابي لصاحب له: إني لأصقل بلقائك عقلي، وأشحذ بمحادثتك ذهني، وهي تنبثق من فطرة الإنسان السوية؛ تزدهر بالصدق وتموت بالتصنُّع. إنها تتحقق عبر "مواتاة خُلُقية" تتناغم فيها الطبائع والسجايا في صمتٍ، قبل أن تتفق الأقوال والأفعال. يقول التوحيدي: قلت لأبي سليمان محمد بن طاهر السجستاني: إني أرى بينك وبين ابن سيار القاضي ممازجة نفسية، وصداقة عقلية، ومساعدة طبيعية، ومواتاة خلقية. فمن أين هذا؟ وكيف هو؟ فقال: يا بني! اختلطت ثقتي به بثقته بي، فاستفدنا طمأنينة وسكوناً لا يرثان على الدهر، ولا يحولان بالقهر، ومع ذلك فبيننا بالطالع، ومواقع الكواكب مشاكلة عجيبة، ومظاهرة غريبة، حتى أنا نلتقي كثيراً في الإرادات، والاختيارات، والشهوات، والطلبات.

وهكذا، في هذه العلاقة المثلى، تلتقي الإرادة مع الفطرة، ويندمج الخُلُق مع الطبع السوي في وحدةٍ عضوية. فالصديق لا يراد ليؤخذ منه شيء، أو ليعطي شيئاً، ولكن ليسكن إليه، ويعتمد عليه، ويستأنس به، ويستفاد منه، ويستشار في الملم، وينهض في المهم، ويتزين به إذا حضر، ويتشوق إليه إذا سفر، والأخذ والإعطاء في عرض ذلك جاريان على مذهب الجود والكرم، بلا حسد، ولا نكد، ولا صدد، ولا حدد، ولا تلوم، ولا تلاوم، ولا كلوح، ولا فتوح، ولا تعريض بنكير، ولا نكاية بتغيير.

وفي السياق ذاته، يؤكد مونتين أن الصداقة المتلبِّسة بثوب المنفعة، أو المختزَلة إلى تبادل عابر للملذات، هي علاقةٌ ناقصة، أقل جمالاً ونبلًا، ولا تستحق أن تُدرج في سجل الفضائل الأخلاقية الخالصة، ما دامت المنفعة – كما يُذكِّرنا كانط – تشوِّه جوهر الأخلاق. فالصداقة الحقة، عنده، هي قبل كل شيء فعل إرادي حرّ، ينبع من الاختيار المحض. وهي في حركتها الوجودية، انفتاح للأنا على الآخر بحثًا عن ملاذٍ وجودي وسكنٍ روحي. في رحاب هذه العلاقة الفريدة تتلاشى الحدود بين الساكن والمسكون، فلا يعود الصديق "آخرًا" يُضاف إلى الذات، بل يصير "أنا أخرى" تتجلى فيها معجزة الوحدة في ظل التعدد. وهكذا الصداقة "لا تتطلب أي اختبار أو حساب"، انها تفتح "حقل ثقة غير محدود ومجاني"، على عكس العلاقات النفعية المبنية على أساس مادي تفرض "الحذر والاقتصاد والحساب". ان الصداقة الحقة “هبة إلهية" وروح واحدة في جسدين " حب الأصدقاء هو دفء عالمي عام، معتدل وسلس، دفء ثابت وهادئ، كله لطف واعتدال، ليس فيه شيء حاد" ان الصداقة من منظور مونتين هي التي تسمح بـ "توسيع الذات" وتجاوز "تفكك الأنا". فالصديق هو "مسرح الإيمان الأنثروبولوجي والروحي بالآخر"، وهو الذي يمنح الذات إمكانية التماسك "

ويمكن تفصيل حدود هذا التقاطع وطبيعته الدقيقة في ثلاثة محاور جوهرية:

أولاً: في نقد الصداقة النفعية، فهما يتفقان على رفض العلاقة السطحية الزائلة، غير أن تعبير كل منهما يحمل نبرة مختلفة؛ فبينما يوجه التوحيدي نقدًا لفظيًا قائمًا على مفهوم "المشاكلة"، يصدر مونتين حكمًا أخلاقيًا صريحًا بوصفها تشويهًا للفضيلة.

ثانيًا: في التشديد على التجانس الداخلي والوحدة، حيث يلتقيان في الغاية المتمثلة في خلق كينونة موحدة، ولكن الآلية تختلف؛ فوحدة التوحيدي تقوم على تماثل قبلي في الجوهر عبر "الممازجة الروحية"، بينما تقوم وحدة مونتين على اتحاد اختياري لاحق عبر "ذوبان الإرادتين".

ثالثًا: في النظر إلى الصداقة ككمال وجودي وسكن.

يمثل التقاطع بين الرؤيتين تآلفًا في الغاية ينبع من تباين في المنهج والمنطلق: فقد انطلق التوحيدي من مبدأ عقلي-أخلاقي (المشاكلة) كمقدمة ضرورية لقيام الصداقة، حيث ركز على شروطها القَبْلِية، في حين انطلق مونتين من التجربة الوجدانية-الوجودية كناتج للصداقة، مركزا على حقيقتها البَعْدِية. ويفضي هذا التحليل إلى أن كليهما يرى الصداقة الحقة كـ "ميثاق غليظ" يتجاوز العرض ليلمس الجوهر، غير أن هذا الميثاق يكون عند التوحيدي عقدًا تُكتب شروطه سلفًا بالمشاكلة، ويكون عند مونتين حدثًا وجوديًا فريدًا تُخلق شروطه لحظة التحقق.

العوائق الوجودية والاجتماعية للصداقة المثالية عند مونتين والتوحيدي

إذا كان أرسطو قد وضع المثال، وفولتير قد تنبأ بطلاقه، فإن مونتين والتوحيدي يتعمقان في تشريح مَواطن العَطَب التي تمنع تحقُّق هذا المثال من الأساس. فبينما يصوغ كلٌّ منهما تصوّرًا ساميًا للصداقة، فإن تشخيصهما للعوائق التي تحول دونها يكشف عن رؤية تشاؤمية عميقة الجذور، تختلف منابعهما لكنها تلتقي في النتيجة.

أولاً: الحواجز الذاتية والأنطولوجية عند مونتين

يرسم مونتين حدود الصداقة بسلسلة من النفي المحكم، مستبعدًا منها كل علاقة لا تقوم على الحرية المطلقة والتجانس الإرادي الاختياري. فهو يرفضها:

- بين الأب وابنه، بسبب ثقل اللامساواة المفرطة وهيمنة سلطة الوالدين، مما يحول دون قيام شراكة حرة بين ندَّين.

- بين الإخوة، لأن رباط الدم القانوني والطبيعي يسبق الإرادة ويقيدها، فيحل "الواجب المفروض" محل "الاختيار الطوعي".

- على أساس العاطفة أو الغريزة، لأن الأولى طائشة متقلبة، والثانية مرتبطة بالجسد وتذبل بذَبلان اللذة.

يُظهر هذا التحليل أن عائق الصداقة الحقيقية عند مونتين ليس خارجيًا، بل كامن في طبيعة العديد من الروابط الإنسانية ذاتها، التي تفتقر إلى نقاء الإرادة الحرة التي هي عنده الشرط الأنطولوجي الوحيد لزواج الأرواح.

ثانيًا: العوائق التاريخية والاجتماعية عند التوحيدي

ينطلق أبو حيان التوحيدي من منظور أوسع، مُرجعًا استحالة الصداقة إلى فساد الزمن وانحلال النسيج الأخلاقي للمجتمع. فـ "سوق الوفاء قد كسدت"، ونحن نعيش في "زمن الجهالة" حيث يحلل التوحيدي انهيار سلم القيم الذي ضبط العلاقات قديمًا: من الدين (كمرجعية عليا)، إلى الحياء (كضابط داخلي)، إلى الرغبة والرهبة (كدوافع بدائية). مستندا الى قول ( الشعبي) : " تعايش الناس بالدين زماناً حتى ذهب الدين، ثم تعايشوا بالمروءة حتى ذهبت المروءة، ثم تعايشوا بالحياء حتى ذهب الحياء، ثم تعايشوا بالرغبة والرهبة، وسيتعايشون بالجهالة زماناً طويلاً."

وبديهي ان انهيار هذا السلم يعني غياب التربة الخصبة التي تنمو فيها أي فضيلة، ومنها الصداقة. وهكذا، بينما يبحث مونتين عن العائق في طبيعة العلاقة الفردية، يبحث التوحيدي عنه في الوضع الأخلاقي الموضوعي للمحيط الاجتماعي؛ فالفرد، مهما كان صافي النية، غارق في مستنقع عام من الانحطاط يسمم ينابيع الثقة والوفاء من المنبع. قال الفضيل بن عياض: قال لي ابن المبارك: ما أعياني شيء كما أعياني أني لا أجد أخاً في الله قال: فقلت له: لا يهيدنك هذا فقد خبثت السرائر، وتنكرت الظواهر، وفني ميراث النبوة، وفقد ما كان عليه أهل الفتوة.

ويرى أبو حيان التوحيدي أن الصداقة لا تقف عائقها عند فساد الزمن العام فحسب، بل تتعذر أيضًا وتتكسر على صخرة التمايز الطبقي والوظيفي في المجتمع. فهو يُخضع الفئات الاجتماعية الرئيسية لتحليل نقدي لاذع، ليستنتج استحالة قيامها في معظمها:

- فهي مستحيلة عند الملوك، لأن حياتهم وسلطتهم تجري على موج القهر والهوى، حيث يُستبدل الصدق بالنفاق، والمساواة بالخضوع.

- وهي لا تتحقق عند التجار، لأنهم منشغلون بكسب المادي وزينة الدنيا، فتكون معاملتهم محكومة بالمقايضة والمصلحة، لا بالتجرد والإخلاص.

- وحتى بين أهل العلم – الذين يفترض فيهم السمو الأخلاقي – فإنها لا تتحقق إلا نادرًا، لأن مجتمعهم كثيرًا ما يُفسده الحسد والتنافس على المكانة والتماري (المجادلة) في البحث عن الغلبة لا عن الحقيقة.

شروط تحقق الصداقة

بعد تشريح العوائق الوجودية والاجتماعية التي تحول دون الصداقة، يطرح كل من التوحيدي ومونتين شرطًا جوهريًا لقيامها وازدهارها، يرتكز على مفهوم الثقة المطلقة، وإن اختلفت تجلياته بينهما.

يرى التوحيدي أن ازدهار الصداقة مرهون بـ ثلاثية الفضائل العملية: الثقة والصفاء والصدق قال أبو العتاهية: قلت لعلي بن الهيثم: ما يجب للصديق؟ قال: ثلاث خلال: كتمان حديث الخلوة، والمواساة عند الشدة، وإقالة العثرة. فـ الصفاء هو طهارة الباطن من الغش، والصدق هو انطباق اللسان على السريرة، والثقة هي الثمرة الطبيعية لهما. وتتجلى هذه الثقة في أسمى صورها كـ حصانة روحية تمنع انتقال الأسرار من حرمة الضمير إلى مجازفة الشفاه. فالعلاقة هنا تُبنى على حصيلة أخلاقية متراكمة من الاستقامة والنقاء، تؤسس لمساحة مقدسة من الأمان.

بينما يقدم مونتين اختبارًا وجوديًا أشد جذرية للثقة. فهو يفترض سيناريوًا حيث ينقلب المعيار الأخلاقي والقانوني نفسه: فالسر الذي أقسَم المرء على عدم إفشائه لأي "آخر"، يصبح من الممكن – بل ومن الواجب الوجودي – إفشاؤه للصديق دون حنث في اليمين. السبب جذري: الصديق "ليس آخر" يمكن أن يُفشى له السر، بل هو "أنا أخرى". الثقة هنا ليست مجرد ثقة بـ الآخر، بل هي ثقة كون الآخر هو الذات. فهي ليست فضيلة مكتسبة، بل هي حالة وجودية يذوب فيها الفاصل بين الأنا والأنت، ويصبح الإفصاح كالمكاشفة مع النفس.

بعد تأسيس شرط الثقة المطلقة، يقدم كل من التوحيدي ومونتين آلية عملية لاختبار متانة الصداقة وصقلها في مواجهة صعوبات الواقع، حيث يؤسس التوحيدي لديناميكية الصداقة على مبدأ تقاسم الأعباء والثبات في الشدائد فالصديق "يعرف وقت الشدة لا في الرخاء". أي أن قيمة الصداقة وصدقيتها تُختبران ليس في أوقات السهولة والمسرة، بل عندما تنكشف الأقنعة وتتعرى النفوس تحت وطأة المحن. هنا، تتحول الصداقة من علاقة تشارك في الخير إلى ملاذ وجودي وأخلاقي، حيث يصبح الوفاء والتضامن فعل مقاومة ضد قسوة الظروف. الصداقة بهذا المعنى هي التزام أخلاقي صارم بمواساة الصديق وتحمل جزء من ألمه، مما يزيدها متانة وعمقًا. وعلى النقيض، لا ينظر مونتين إلى الشدة كمعيار مركزي، بل يؤسس ديمومة العلاقة على مبدأ العطاء كمتعة خالصة. فهو لا يرى في تقديم الخدمة للصديق أو العون له واجبًا ثقيلًا، بل فرصة للتفرد والتعبير عن الذات. العطاء بين الصديقين، في هذه الرؤية، لا يُقدَّر بثمن ولا يُنتظر عليه مقابل، لأنه يصدر عن اتحاد الإرادتين حيث يصير خير الصديق خيرًا للذات. الخدمة إذن هي تعبير عن الحرية والوفاء للذات الموحدة، وليست اختبارًا للثبات. المتعة هنا ليست في الاستلام، بل في فعل التجرد والعطاء نفسه، الذي يشكل جزءًا من حوار الحب والتفاهم المستمر.

وبعد تأسيس الصداقة على الثقة واختبارها في الشدة والعطاء، يبرز تحدٍّ أخير أكثر دقة: كيف تتعامل مع هفوات الصديق ونقائصه البشرية المحتَّمة؟ هنا يقدم التوحيدي، مستأنسًا برؤية بلزاك، مبدأً حكيماً لضمان استمرارية العلاقة.حيث يرتقي التوحيدي بفعل التسامح من كونه فضيلة إلى كونه ضرورة حكيمة لبقاء الصداقة. فهو يرى أن الصديق "لابد أن يحتمل له ظلم الغضب وظلم الدالة وظلم الهفوة". هذه "الظُلم" الثلاثي – الانفعال العابر، استغلال القرب، وزلات الطبع – هي شوائب بشرية حتمية. المفتاح ليس إنكارها، بل احتمالها بحكمة. ويحذر التوحيدي تحذيراً شديداً من "العتاب المفرط"، فهو يصفه بأنه "مذلة" للصديق وقد يُفضي إلى الحقد. فالعتاب، وإن كان بحق، إذا تجاوز حده أصبح إهانة تُضعف ذلك "الميثاق الغليظ". فالعلاج هنا وقائي، يقوم على الصبر والحلم والتغاضي الحكيم، حفاظاً على كرامة العلاقة من "مذلة" العتاب.

اما من المنظور المونتيني، قد يبدو هذا السؤال عن احتمال العيوب ثانوياً أو حتى مُفتعلاً. إذا كانت الصداقة اتحاداً وجودياً حيث يصير الصديق "أنا أخرى"، فكيف تُحتمل عيوب الذات؟ العيوب في هذه الحالة جزء من كينونة الصديق الكلية التي قبلتها الإرادة بحرية مطلقة. لا يوجد مجال هنا "لحمل" أو "احتمال" بالمعنى الكراهي، لأن القبول كان تاماً منذ البداية. ما يراه التوحيدي "هفوة" قد يراه مونتين سِمة شخصية في الكل الذي أحبه. فالثقة المطلقة التي أسسا لها تستبطن التسامح مسبقاً، بل تُبطِل الحاجة الشعورية إليه كواجب.

وكتخريج عام

وهكذا، بعد رحلة التأمل بين تشكك التوحيدي وحلم مونتين، نعود إلى السؤال الافتتاحي: هل نعلم حقًا لماذا لدينا أصدقاء؟ يقدم لنا الفيلسوفان إجابتين متكاملتين: إجابة واقعية-اجتماعية (التوحيدي) تُرجع الأسباب إلى فساد المحيط أو نقاء المشاكلة، وإجابة وجودية-فردية (مونتين) ترفض الأسباب نفسها لصالح حدث فريد ('لأنه هو هو'). إذا كان سؤال وسائل التواصل الاجتماعي عن طبيعة 'الصداقة' اليوم يلح علينا، فإن دروس هذين المفكرين تلتقي في تحذير مشترك: حذار من الخلط بين الكثرة والجودة، وبين المنفعة والتفرد. ربما تكون مهمتنا، في زمن 'الجهالة' الرقمي الجديد، هي الحفاظ على إمكانية ذلك 'اللا-سبب' المونتيني المجاني، عبر بناء 'مشاكلة' أخلاقية واعية (توحيدي) تُمكّننا من تمييز الجوهري من العَرَضي. فالصداقة الحقة، في النهاية، ليست مجرد اسم في قائمة، او عدد يضاف الى عدد بل هي مسعى فلسفي معيشي، سؤال نحمله وعلاقة نبنيها أو نعترف بها، في المسافة الدائمة بين واقع العلاقات الهشّة ومثال الوحدة المستحيل.

***

عمرون علي - أستاذ مادة الفلسفة

الجفاف لا يهبط على الارض وحدها، بل يهبط على الانسان حين يفرغ داخله من نبض الحياة. فهناك جفاف لا تراه العيون، لكنه يلتهم ارواحنا بصمت اشد من كل العواصف. الجفاف لا يصيب الارض فقط. فالارض حين تجف تنذر بالمجاعة، اما الانسان حين يجف في داخله فانه ينذر بانطفاء الوجود نفسه.

هناك جفاف شعور، ذلك النوع الذي يكسو القلب بطبقة من الملح، كلما حاول ان يحب احترق. يحول القلب الى صحراء واسعة، تمتد رمالها كلما حاولنا الاقتراب من الاخر. جفاف يجعل المشاعر هشة، كاوراق خريفية لم تعد تحتمل لمسة ريح. انه جفاف لا يرى، لكنه يسمع في الصمت الطويل بين شخصين كانا يوما قادرين على صنع موسيقى معا.

وهناك جفاف اسلوب، حين تصبح اللغة فقيرة، جافة كغصن ماتت فيه العصارة. الاسلوب الفقير ليس فقرا لغويا، بل فقر رؤية؛ كاتب يرى العالم بعين باهتة، فينقل الينا صورة بلا حرارة ولا عمق. الجفاف هنا ليس في الحروف، بل في الروح التي وراء الحروف.

الجاف لا يكشف عن نقص في البلاغة، بل عن نقص في الوعي، اذ لا يكتب الانسان بيده، بل يكتب بروحه، فاذا جفت الروح تكسرت اللغه. وجفاف المعاملة، حين يتعامل البشر مع بعضهم ببرود يجعل دفء الوجود يتبخر. يصبح العطف ترفا، والاهتمام عبئا، واللطف استثناء نادرا حين يتحول البشر الى الات تؤدي الواجب ببرود، كانهم فقدوا نعمة اللمسة الانسانية. جفاف المعاملة لا يكسر القلوب فقط، بل يكسر الاحساس بان العالم مكان صالح للعيش. انه يجعل الشخص يشعر انه ضيف ثقيل في حياة الاخرين، لا احد يلاحظ غيابه كما لم يلاحظوا حضوره.

لكن اسوأها جميعا هو جفاف العقل.. ذلك الجفاف الذي يجعل الذهن ارضا منزوعة الدهشة، خالية من السؤال. عقل جف هو عقل توقف عن النمو، عن التامل، عن مقاومة القبح الذي يتكاثر من حوله. حين يجف العقل تموت القدرة على التمييز، وتضمحل الفضيلة، وتغدو الحياة مجرد تكرار ميت لحركة بلا معنى. وهو اشدها خطرا. فعقل بلا سؤال هو عقل بلا حياة، وعقل بلا دهشة هو عقل بلا أبواب.

الجفاف العقلي يجعل الانسان يسير في العالم بعيون مطفأة، لا يرى، لا يتساءل، لا يعترض، بل يكرر ما قيل له كما تردد الجدران صدى الاصوات بلا فهم. ومع جفاف العقل يموت الخيال، وتضيق الافكار، ويصبح العالم سجنا من المسلمات.

جفاف العقل لا يهدد صاحبه فقط، بل يهدد المجتمع باكمله؛ اذ يتحول الناس الى نسخة واحدة من الصمت الفكري، يخشون التفكير كما يخشى الظمآن الاقتراب من بئر مسحورة.

ان مقاومة الجفاف الداخلي ليست ترفا، بل فعل بقاء.

علينا ان نسقي ارواحنا بالصدق، ولغتنا بالجمال، ومعاملاتنا باللين، وعقولنا بالسؤال. ولنعلم ان الجفاف الحقيقي ليس ما يحدث في التربة، بل ما يحدث في انسان توقف عن النمو من الداخل، ونسي ان الحياة لا تستمر الا لمن يحافظ على نبع روحه جاريا ومفتوحا.

وفي النهاية، ليست الحياة معركة ضد الموت كما نظن، بل معركة ضد الجفاف الداخلي. فالموت حدث واحد، اما الجفاف فهو موت يتكرر كل يوم.

والانسان الذي ينجو ليس الاقوى، ولا الاكثر علما، بل الاقدر على ان يحفظ في داخله قطرة نور، قطرة حب، قطرة سؤال، تقاوم تصحر الروح وتعيد تشكيل معنى الوجود.

ان خلاص الانسان يبدأ من لحظة يدرك فيها ان اعظم ثرواته ليست ما يملكه، بل ما يبقيه حيا من الداخل. فاذا حافظ على نبع روحه متدفقا، وعلى عقله متسائلا، وعلى قلبه دافئا، فلن يخشاه جفاف، ولن تهزمه صحراء، لان بداخله مطرا لا ينقطع.

***

ابتهال عبد الوهاب

 

نحو إعادة تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع

يشهد العالم تحوّلاً جذرياً بفعل الثورات التكنولوجية المتسارعة، التي باتت تخترق مختلف البنى الاجتماعية وتعيد تشكيل أنماط التواصل والإدراك والسلوك. وقد ولّدت هذه التحولات تحديات غير مسبوقة أمام الأنظمة السياسية، لاسيما في الدول النامية التي تعاني هشاشة في مجالات التربية والتكوين والتعليم. فالتفاهة الرقمية، وميولات الغواية الجديدة الموجّهة إلى العقول الأقل تحصيناً، أصبحت آفة مركّبة تُضعف مناعة المجتمع وتحدّ من فاعلية الفعل السياسي التقليدي.

ضمن هذا المشهد العالمي المضطرب، تتقدّم التجربة الديمقراطية المغربية بخطوات محسوبة، تجمع بين الحذر وبناء التراكم. فقد رسخت الدولة حضورها المركزي في قيادة التحولات الاستراتيجية، مستندةً إلى منظومة مؤسساتية تحمّلت عبء توجيه التغيير بعد عقود من تعقّّد التاريخ السياسي الوطني. ومع ذلك، يظلّ هذا التقدم مشروطاً بقدرة الفاعلين السياسيين والمؤسسات على الاستجابة لمتطلبات الانتقال نحو حكامة حديثة وعقلانية، تفصل بوضوح بين السلطات، وتضمن الانخراط الفاعل للمجتمع.

أولاً: مفترق طرق سياسي وفكري

لم يعد الوضع السياسي الراهن في المغرب يحتمل مقاربة تقوم على المسايرة أو إدارة الزمن السياسي بأدوات الماضي. فالتحديات التي يواجهها المغرب، في سياق إقليمي ودولي متغير، تفرض مراجعة عميقة للمفاهيم المؤطّرة للفعل السياسي، مثل السلطة، والحق، والعدالة، ومشروعية العنف. كما أن تراكم التجارب منذ تسعينيات القرن الماضي مكّن البلاد من تجاوز نسبي لمرحلة الهشاشة، لكنه لم يلغِ مظاهر التصلّب داخل بعض المفاصل المؤسساتية، والتي ما تزال تعيق الانخراط الكامل في تفعيل السياسات العمومية وفق المعايير الحديثة للحكامة والشفافية.

وقد أضحت الحاجة ملحّة لإعادة التفكير في سبل تعزيز الديمقراطية الشعبية، وتحقيق الالتقائية بين السياسات العمومية، وتكريس التضامن بين الوحدات الترابية، وإنعاش الطبقة الوسطى، والحد من الانتشار الواسع للاقتصاد غير المهيكل.

ثانياً: أولويات لإعادة بناء العقد الاجتماعي

يتطلّب الظرف الحالي من المغرب توظيف الجهود المجتمعية والمؤسساتية لمواجهة جملة من المطالب الإستراتيجية الملحّة، من أبرزها:

- تعميق مسار الحرية الفردية باعتبارها حجر الزاوية لأي مشروع ديمقراطي حديث.

- ترسيخ الدولة ككيان أخلاقي وروحي يستند إلى قيم موضوعية في بناء سلطته ومشروعيته.

- ضمان الحق في الحياة والكرامة وصون الخيرات المدنية للذوات الفردية.

- إعادة التوازن بين الأمن وحقوق المواطنين عبر التخفيف من المقاربات الاحترازية المفرطة وإبراز قيم الرأفة والتلاحم الوطني.

- تعزيز الفصل بين السلط وتحصين دور الدولة الجامعة التي توحّد ولا تُقصي.

- الحد من اللجوء إلى العنف وحصر ممارسته المشروعة في إطار قانوني ديمقراطي يرسّخ حقوق الإنسان.

- ربط شرعية الدولة بالإجماع الوطني وسيادة الحق والقانون، وبالبعد الإنساني لمؤسسات التأديب.

ثالثاً: العقل السياسي المغربي ورهانات المستقبل

يميل الأفق المغربي نحو التفاؤل، إذ يستند العقل السياسي للدولة إلى خبرة تراكمية عميقة تُغذّيها اجتهادات فكرية وفلسفية لروّاد مثل سبينوزا، هيغل، مونتيسكيو، عبد الله العروي، جاكلين روس، ومحمد عابد الجابري... وتدلّ هذه المرجعيات على أن ازدهار الدولة واستمرار قوتها يمران عبر تكريس الديمقراطية الشعبية، وتثبيت الأمن والاستقرار، والاستجابة لمطالب المشاركة المواطِنة.

ولا يمكن لتمثّلات العقل الجمعي أن ترتقي في ظلّ اعتماد مقاربات قسرية أو ظرفية. فالعنف ــ تاريخياً وفلسفياً ــ ليس خياراً طبيعياً في الإنسان، بل وسيلة للسيطرة والاستغلال. وعليه، فإن تعزيز السلم الاجتماعي لن يتحقق إلا بترسيخ العدالة الاجتماعية، وضمان التوزيع العادل للثروة، وإتاحة متعة العيش الكريم كقاعدة لثقافة سياسية مناهضة للعنف.

رابعاً: سياق دولي متوتر ومسؤوليات مضاعفة

يشهد العالم توترات حادة، تتراوح بين النزاعات التقليدية والحروب المعلوماتية، ما يجعل اختراق سيادات الدول عملية ممنهجة تحرّكها دوافع التنافس والهيمنة والحذر المتبادل. وفي هذا السياق، يحتاج المغرب إلى يقظة مؤسساتية وروح وطنية صلبة لمواجهة هذه التحديات، لا سيما في ظلّ التحولات التكنولوجية الكبرى التي تعيد تشكيل الأنماط الاقتصادية والاجتماعية.

فالتقدم الاقتصادي لم يعد قابلاً للإنجاز اعتماداً على القوة العضلية أو الموارد التقليدية، بل عبر المعرفة، والابتكار، والتكنولوجيا، والثقافة. ويستوجب هذا الواقع عقلنة الممارسة السياسية، وترسيخ حقوق الإنسان كشرط أساسي لإخماد بؤر التوتر الناتجة عن التهميش وضعف تكافؤ الفرص.

خاتمة: نحو منطق سياسي جديد

لم تعد المقاربة الأمنية قادرة على احتواء الاحتجاجات الاجتماعية المطالبة بالعدالة، خصوصاً في ظلّ شعور واسع لدى الشباب بضعف آفاق التشغيل وجودة التربية والتعليم والصحة. وعليه، يفرض السياق الانتقال إلى منطق سياسي جديد يقوم على:

- تعزيز الثقة في المؤسسات،

- تجديد صيغ الإنصاف والمساواة،

- رفع منسوب الشفافية،

- والقطع مع ممارسات الهيمنة التقليدية التي فقدت مشروعيتها.

فالدولة الحديثة، في ظلّ التكنولوجيا المتقدمة، لم تعد تُعرَّف بوصفها جهازاً للهيمنة، بل باعتبارها منظومة كفاءات مستدامة، تحكمها قواعد عقلانية وتُكرّس قيم الخدمة العمومية والعدالة والكرامة.

***

الحسين بوخرطة

لكل لغة اربعة مستويات: استهلاكي، ابداعي، علمي، رسمي. وتتسم اللغة الادارية الرسمية بالاتي:

الوضوح: فأدنى سوء فهم يؤدي الى الوقوع في خطأ التفسير، ومن ثمّ الخطأ في العمل. فهو يحرص على الإبلاغ دون (البلاغة) التي تعنى بجماليات ومهارات الكلام.

المباشرة: يقصد بها الخلو من الدلالات الإيحائية، والحرص على نقل المعلومات بدقة متناهية.

 الإيجاز: هو استعمال اقل عدد من الكلمات لإيصال فكرة الكتاب، الا اذا اقتضى موضوعه التطويل.

الموضوعية: وهي طرح القضايا بشكل غير ذاتي. فالكاتب يكتب باسم الإدارة لا باسمه الخاص، لكي لا يقع في الذاتية والانفعال العاطفي. وترتبط بها المسؤولية؛ فالكاتب مسؤول عن كل كلمة يكتبها.

 احترام السلم الإداري: هو جعل الكتاب مناسباً لمقتضى حال المرسل إليه، فخطاب الجهة الاوطأ يختلف عن خطاب الجهة الأعلى، وخطاب هذه بدورها يختلف عن خطاب الجهة الأكثر علواً.

 الكليشهات (العبارات الجاهزة): هي عبارات وصيغ جاهزة تستعمل في بعض الكتب. ولكنها ليست عامة في كل الكتب، فالى جنبها استعمالات جديدة يكون فيها تصرّف.

غلبة الجمل الاسمية: سببها أن الجملة الاسمية تدلّ على الثبوت، في حين تدلّ الجملة الفعلية على التجدد والحركة. ففي قوله (تعالى) (وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ (الكهف: 18) تؤدي لفظة باسط معنى الثبوت والبقاء على هذه الحال. ولو قال: (يبسط) لدلَّ على احتمال تغيير الكلب حالة بسط ذراعه. وتعتمد الكتب الادارية تبعاً لموضوعها الجمل الفعلية أيضاً.

عرف الجاهليون المستوى الاستهلاكي (الحديث اليومي) والابداعي (الشعر). وحين جاء الاسلام طرح القرآن المجيد (المصطلح) واضعا الاساس للمستوى العلمي الذي تحقق بنشأة العلوم في العصر العباسي (النحو، الصرف، البلاغة، العروض، علوم القرآن والحديث..) بصناعة مصطلحات مماثلة للصلاة والصوم والزكاة وغيرها. وهذا المستوى يتجسَّد الان بدراسة علوم الطب والحاسوب والهندسة وغيرها.

أما المستوى الرسمي (لغة الادارة) فيوجد عادة مع قيام الدول؛ فالإدارة تعني فلسفة الدولة والنظام والعقل المدبر لشؤونها بلغة ذات طابع خاص. ونجد الدول القديمة كلها تتخذ لها عواصم وهو اول اجراء اداري، ويكون فيها سجلات دقيقة وارشيف هائل وقوانين مكتوبة ومكتبات. وفي اوغاريت المدينة السورية التي كانت بمقام دولة تكتب الرقم الطينية بسبع لغات، وتسجل حتى الارامل واليتامى ومقادير رواتبهم.

ام بعرف العدنانيون الكتابة لانهم لم يقيموا الدول، بينما عرفها اخوانهم القحطانيون لإقامتهم الدول كالسبئية والمعينية والقتبانية والحميرية، وقد عثر على كتابات ادارية توثيقية كثيرة كعقود البيع والشراء والمخاطبات المختلفة، حتى كتبوا الديون الشخصية.

وكانت الرسائل عند عرب الجزيرة اكثرها شفهية، وينقلها عدّاؤون قيل (يسبقون الخيل) ومن هؤلاء تأبط شرا وابن اخته الشنفرى. وفي جمهرة رسائل العرب رسالة من عبد المطلب الى اخواله بني النجار يستنجد بهم، كتبت شعرا وحملها احد العدّائين اليهم. وله رسالة اخرى مكتوبة. واكثر ما وصلنا من رسائل مكتوبة من ذلك العهد من حاضرة (الحيرة) وفيها قامت مملكة تابعة لكسرى، وكان الكتاب حيَريين واشهرهم (زيد بن عدي العبادي الشاعر) وابنه (عدي بن زيد)، فيختار النعمان كاتبه بعد مكاتبة كسرى وموافقته عليه. ويكتب الكاتب باللغتين العربية والفهلوية (الكردية القديمة) وكان الملك هو يملي والكاتب يكتب ويترجم.

اما لغة الرسائل فهي تفتقر الى اللغة الادارية وفيها شطحات فنية وقد قتل كسرى النعمان بسبب احدى هذه الشطحات. فحين طلب كسرى الزواج من بنت النعمان كتب الى كسرى (أما في مها السواد وعِين ايران ما يكفي الملك؟). فترجمها عدي انتقاما لقتل النعمان اباه زيدا الى (اما تكفي بقرات العراق وايران الملك) فقتله تجاسرا عليه واحتقارا له. ولو كتب لغة ادارية واضحة لكتب (اما تكفي جميلات العراق وايران الملك).

الاسلام والادارة

اتخذ الرسول (ص) خمسة انواع من الكتاب: كتاب الوحي، وكتابا يكتبون بين يديه، وكتابا يكتبون في شؤون الناس، وكتابا لمخاطبة الملوك. وجعل حنظلة بن الربيع بديلا لمن غاب من جميع الكتاب السابقين لذا لقب بـ(حنظلة الكاتب) وكان الرسول يضع خاتمه عنده. وكان الرسول هو الذي يملي والكتاب يكتبون. وكانت الرسائل تبدأ باسم المرسِل ثم المرسل اليه ثم البسملة ثم نص الرسالة على غرار ما جاء في سورة النمل (إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (النمل: 30). ولكن لم تعرف تلك الحقبة الادارة واللغة الادارية بمعناها المعروف.

بعد معركة القادسية في عهد الخليفة عمر بن الخطاب استعمل أول مصطلح اداري ساساني هو (الديوان) ولو قرأنا مقدمة الجهشياري لكتابه (الوزراء الكتاب) سنطلع الى منظومة ادارية مذهلة مع لغتها الادارية بصورة تفصيلية واضحة. واستخدم الديوان لكتابة اسماء المقاتلة ومقادير رواتبهم وامور اخرى تخص الجيش، باقتراح من بعض الايرانيين الذين اسلموا.

والديوان مصطلح فهلوي (الفهلوية الكردية القديمة) يعني (المجنون) والى الان تستخدم الكلمة بهذا المعنى لدى الكرد والفرس. وذلك انهم تعجبوا من حفظ الديوان للمعلومات سنين طويلة، (والعادة ان ينسب اي شيء عجيب الى الجن والجنون؛ فتعجبوا من قدرة الشعراء على القول الجميل دونهم فجعلوا لكل شاعر جنا يملي له، وحين اشترط المتنبي على سيف الدولة أن ينشده قاعدا على خلاف المتعارف نسبوه الى الجنون).

يتفق على ان اول دولة اسلامية في عهد عبد الملك بن مروان؛ فقد سك العملة وصنع (السنجة) وهي قالب سك العملة باقتراح الامام محمد الباقر. بعد تهديد الروم بطبع عملة تسيء للإسلام والرسول لان العرب لم يعرفوا استخراج المعدن فصهروا الدنانير الرومية واعادوا سكها في سنجة تحمل كلمات اسلامية. كما استخدم عبد الملك وخلقاؤه كتابا روميين نقلوا الكتابة الادارية (غير الابداعية) لتكون لغة الدواوين والدولة، واهم الكتاب سالم وابنه وعبد الحميد الكاتب الذي قيل فيه (بُدئت الكتابة بحمد الحميد وانتهت بابن العميد) وابن المقفع وغيرهم، فكونوا مدرسة سادت مع الوقت وهي تجعل الثقل الأكبر للمعنى وتكون المعاني غزيرة، والالفاظ مساوية للمعنى وغير جزلة بعكس مدرسة النثر العربية التي مثلها الجاحظ .

كان الجهد الاعجمي قليلا في العصر الاموي لتشدد الامويين في العروبة. وحين جاء العباسيون انفتحوا على الفرس فنقلوا كل ما استخدمه الاكاسرة من مظاهر ولغة ادارية، كالمراسيم الادارية والزي الاداري ووسعوا في الدواوين فكثرت المصطلحات الادارية الاعجمية في الوهلة الاولى ثم عربوا منها ما أتيح وامكن لهم.

ان الكتاب الاداريين العرب والمستعربين في العصر العباسي قاوموا الامواج العاتية للافاظ والاساليب الادارية الاعجمية، وقليلا ما نقلوا الالفاظ نفسها والاكثر انهم عرّبوا تلك الالفاظ فاخذت القياس العربي. كما انهم اجتهدوا في صنع (لغة ادارية) مختلفة عن المستويات الاخرى للغة وفي ذلك يقول قدامة (وان كان بعض ذلك لا يوافق ما عليه مجرى اللغة) بمعنى بعض ما يكتبه الكتاب يخرج عن مذهب اللغة. ومن ذلك: الايغار: الاستيفاء، الحطيطة: تنزيل السعر. واستعملوا (الفرس الكمتاء مقابل الحصان الكميت) وهو خلاف اللغة. وسموا المساحة الصالحة للزراعة (الجريب) واصل الجريب هو الوادي. وقاموا بتعريب كثير من المصطلحات التي استعملوها اولا مثل الديوان عربوا الى (الجريدة أو الجريدة السوداء)، وانجيذج عربت الى الجزية.

مصطلحات الدواوين الفارسية:

ديوان الخراج (الواردات) وقد عربت مصطلحاتها ولم تستعمل كما في اصلها الفارسي ومنها: (أوراج) أي ديوان الخراج الكبير. (انجيذج) (الجزية) من گريت (التخمين) من همانا، ويقابلها في العربية الخرَص. ويسمى المخمن للثمار في البساتين (خاروص). وما يخص هذا الديوان العملة: دينار، درهم، فلس، دانق = قيراطين. ومن اسماء المناطق: كورة = مقاطعة. رستاق= قرية. سمرت: من شمارة = يوم الجباية.

ومن مصطلحات الماء: بست = من اقيسة مستوى الماء. كستبزود: زيادة ونقصان الماء. الهندسة لدراسة المساحات من اندازه وهو المقدار. والى اليوم مستعملة يقولون باندازي أي بقياس. ومنه دروزن للمساحات المزروعة.

ديوان النفقات (المصروفات) (الصك) من چك.. (الطسق) من الاجور. سفتج: السفتجة الحوالة.

ديوان الجيش: من مصطلحاتها (اسكودار) وتعني كتب الصادر والوارد. و(آيين) وتعني العادة والاسلوب والروتين في الكتابة. ومصطلح (عسكر وعسكرية) فارسي من (لشكر) بمعنى الجيش، واستخدموا منه المعسكر.

ديوان الرسائل: مهرق من مهركرد وهو كتاب العهود. البريد من بريدم (بري = مقطوع، دِم ذيل). اسكودار : يقابل ساعي البريد.

ديوان البريد والسكك:

البريد مصطلح فارسي من (بري = مقطوع، و (دِم = ذيل) = الذيل المقطوع؛ لانهم كانوا يميزون بغال البريد بقطع الذنب. وصاروا يطلقون اسم البريد على الرسائل وناقل الرسائل. والفرسخ فارسي ايضا، والميل رومي = 3 فرسخ. واضاف العرب (المرحلة والمنزلة) للمسافات الطويلة وهما بمعنى واحد.

وهكذا لبقية الدواوين: ديوان التوقيعات، ديوان الخاتم، ديوان الفض، ديوان النقود والعيار، ديوان المظالم.

لغة الادارة الحديثة

الادارة بالمعنى الحديث المعمول به (وضع خطوات ثابتة ومحددة لاستكمال المعاملات في الدوائر والمؤسسات الرسمية وغير الرسمية) ويعبر عنها بالروتين. واللغة الادارية (عبارات محددة يُتَّفق عليها لكل غرض أو معاملة. ولا يترك وضع النص الإداري لأهواء أي شخص، بل يخضع للمؤسسات. وخطابها غير أدبي، له خصائص ومفردات رسمية تتسم بالوضوح وعدم التأويل، وذات بُعد إجرائي وقانوني، وترتبط بالمجتمع ارتباطا فاعلا).

ولابد من التسليم بأن المؤسسة الإدارية جاءتنا برمتها مع المحتلين، فنقلت معها المصطلحات الإدارية التي استعملوها في دوائرهم الى عالمنا العربي. لذا حفلت بأساليب وصيغ مترجمة لعدم وجود استعمال عربي لها.

و(الإدارة) لغة (التحويل) كإدارة العين والكأس والرحى والأثاث. و(المدير: الذي يقوم بذلك). وقد استعملت الادارة للحكم لأنها الجهة الوحيدة التي تحتاج إلى إدارة. فقيل (حسن الإدارة) (الإدارة وتدبير الممالك). واستعمل (يسوس) بمعنى (يدير) ايضاً فقالوا (يسوس الدولة) (يسوس الامور). وهذا يعني ان (الإدارة) ليس لها الخصوصية التي نفهمها اليوم. ولم يصطلحوا على الحاكم والقائم بالأمر (المدير) فبقيت اللفظة (ذات معنى عام). وهكذا مصطلحات الادارة فهي ترجمات ليس لأغلبها جذور عربية. فعلى سبيل المثال (اللجنة) لا وجود لها في لغة العرب. فيوجد من جذرها (اللجِن: الوسخ) و(اللجان) في الابل يقابل الحران في الخيل، وهكذا.

من أهم اصطلاحات الإدارة المترجمة من الإنگليزية:

(الإدارة = Administration)

(المدير = Manager)

(المدير العام = General Manager)

(الموارد البشرية = Human resources)

(رئيس غير رسمي: رئيس عشيرة، رئيس طباخين = Chef)

(رئيس رسمي: رئيس قسم، رئيس فخري = Head)

رئيس مجلس، رئيس لجنة =chairman )

(لجنة: Committee)

(عميد، مدير عام = Dean)

رئيس الجامعة (University's president)

(رئيس قسم = Head of department)

رئيس مجلس الادارة = (chairman of board of directors)

(مدير شعبة = Division Manager)

قسم (department)

شعبة (Division )

مفتش (Inspector)

الوحدة (Unit)

(وحدة طبية = Medical unit)

(وحدة إدارية = Administrant unit)

 (إجراءات = Procedures)

(جدول الأعمال = Schedule)

(موظف =Employee )

(موظف بعقد = Contract Employee)

ترقية، ترفيع = (Upgrade)

(الصادر والوارد Exported & Imported = )

(الموارد البشريةHuman Resources = )

(السكرتاريةSecretarial = )

(السكرتيرSecretary = )

(العلاوة = Raise)

(الصادر والوارد = Exported and Imported)

(الذاتية = Self care)

(الحسابات = Accounts)

(اجتماع = Meeting)

(جلسةSession = )

(ندوةSeminar = )

(مؤتمرconference = )

(احصائياتStatistics = )

(دوامOffice hours = )

(سلم الرواتبSalary scale = )

مصطلحات ادارية

(بناءً على/ استناداً لـ = Based on)

(طبقاً، وفقاً لـ = According to)

(إشارة إلى = With reference to)

(نظراً لـ = In view of)

 في ضوء (in lite of)

(وعليهAccordingly = )

وكثير من المصلحات المستعملة لها اليوم معنى اداري يختلف عن المعنى العربي الاصلي مثل (موظف/ توظيف) (تعيين)؛ فالوظيفة عربيا ليست العمل المخصص، بل (مقدار الصرف) لذا يقولون (له وظيفة من رزق. أي مقدار مبلغ يصرف له جراء العمل) ولا يقولون (هو موظف) بل (هو موظَّفٌ عليه = يُجرى عليه مبلغ). و(التعيين = تحديد الأجر) قالوا (التوظيف: تعيين الوظيفة = تحديد مقدار الرزق). و(الاستقالة: طلب الشخص الذي يسقط من آخر أن يعينه على النهوض) وقد تستعمل مجازا (عثر في أذيال الردى وما استقال) والتقاعد (Retirement) عربيا تعني التكاسل وهي اهانة لمن قضى عمره يبذل قصارى جهده في العمل. ولفظة (vote = تصويت انتخابي) مشتقة من (voce = صوت) بينما في العربية لا يصح الاشتقاق؛ فـ(التصويت) رفع الصوت (عوى الذئب فاستأنست بالذئب اذ عوى/ وصوّت انسان فكدت أطير) وعفط واطلق الغازات. بمعنى ان المصطلحات الادارية الاجنبية محددة الدلالة لكن المصطلحات العربية المترجمة عنها في اصلها العربي عامة أو لها دلالات بعيدة. ومنها:

- المصطلح الانجليزي (bombs): ترجم الى القنابل وهي تعني الخيول: قال المتنبي:

قَريبٌ عَلَيهِ كُلُّ ناءٍ عَلى الوَرى      إِذا لَثَّمَتهُ بِالغُبارِ القَنابِلُ

وقال الجواهري المعاصر بمعنى bombs:

يا معدن الخسة من تقاتلُ           وفوق من تساقط القنابلُ

- (Microbe = ميكروب) ترجمت الى الجراثيم. والجراثيم الاصول والعشائر. قال ابو تمام:

خَليفَةَ اللَهِ جازى اللَهُ سَعيَكَ عَن جُرثومَةِ الدِينِ وَالإِسلامِ وَالحَسَبِ

- الرتب العسكرية

(نقيب = Captain)

 الباحث عن الماء (رائد = Major)

 الذي يقدم على غيره (مقدم = Lieutenant Colonel)

عميد قومه المعول عليه والعاشق (عميد = Brigadier Colonel)

العلم (لواء = Major General)

الزعيم (عقيد = Lieutenant)

المجموعة (فريق = Colonel General)

(أركان حرب = Staff Officer)

الخلاصة ان العباسيين كانت تدفعهم الغيرة على العربية فحافظوا عليهم وبذلوا فوق الجهد لاستيعاب مسميات لم يألفوها، فاستحدثوا مصطلحات عربية ازاءها مثلا في الجيش استحدثوا مصطلح (الاعمدة) وهي الصفات المميّزة بينما استعل الان (العلامات الفارقة) نقلا من الانجليزية (Distinctive features). ولم يأخذوا لفظا اجنبيا كما هو بل عرّبوه فصار بالقياس العربي الا اذا استعصى عليهم وهو ما ندرز

اما لغة الادارة الحديثة فهي نقل الالفاظ الانجليزية كما هي هو وضع الفاظ عربية ازاءها وغالبا ما تكون هذه الالفاظ بمعاني عربية معايرة، فهم يحفرون اللفظ ويرمون معناه العربي ويحشونه بمعنى انجليزي كما تحشى السن. او يضعون ازاءه لفظا عربيا عاما.

***

الأستاذ الدكتور محمد تقي جون

لم يعد الإنسان اليوم يتعامل مع المعرفة كما كان يفعل أسلافه، فقد تغيّر المشهد تغيّرًا واسعًا بفعل تدفق المعلومات المستمر، حتى صارت حياتنا غارقة في كمّ هائل من البيانات التي تبدو أقرب إلى ثروة رقمية لا تكفّ عن النمو. غير أن هذه الثروة تُقاس بالعدد والانتشار أكثر مما تُقاس بالعمق والفهم، وهو ما صنع مفارقة واضحة بين الثراء المعرفي وثروة المعلومات.

فالثراء يقوم على النوعية والدقة والسياق والترابط، أي على المعلومة التي تُنير العقل وتستفز التفكير. أما الثروة فليست إلا تراكمًا متتابعًا لبيانات مشتتة لا يجمعها رابط، فتتحول عند غياب التمحيص إلى ضباب يحجب المعنى ويُربك القدرة على التمييز. ومع هذا التحول الكبير، وجد الإنسان نفسه ممزقًا بين حاجته الداخلية إلى الفهم والطمأنينة، وبين عالم خارجي يفرض عليه تدفقًا لا ينقطع من المعلومات.

فمنذ قرابة عقدين نعيش حالة دائمة من الانكشاف المعرفي، أشبه بسوق مفتوحة لا تهدأ فيها الأصوات ولا تُتيح لأي عابر فرصة للتأمل أو التوقف. ومع تضاعف الأخبار والدراسات والتحليلات عبر الشبكات الرقمية، بدا الوصول إلى المعرفة وكأنه بلا حدود، لكنه لم يمنح الإنسان فهمًا أعمق بقدر ما زاد من سرعة الإيقاع إلى حدّ يفوق قدرته على المتابعة؛ فأصبح يعيش في زمن وفرة هائلة تُقدّم كل شيء تقريبًا، لكنها لا تمنحه تلقائيًا القدرة على إدراك ما يعترضه إدراكًا حقيقيًا.

وبسبب هذا الغمر المستمر للمعلومات، كثيرًا ما يجد الفرد نفسه في حالة من التيه، غير قادر على التمييز بين الصحيح والزائف، أو بين المهم والهامشي، أو بين المصدر الموثوق وما يُضلل. فغدت علاقته بالمعرفة أشبه بوقوف شخص على شاطئ مفتوح تضربه الأمواج من كل جانب؛ لا يبحث عما يقرأ بقدر ما يحاول النجاة من كثرة ما يُفرض عليه من قراءة ومشاهدة وتأويل.

ومع أن التاريخ شهد ثورات معرفية كبرى، من اختراع الطباعة في القرن الخامس عشر إلى انتشار الصحف في القرن التاسع عشر، ثم البث الإذاعي فالتلفزيوني، نجد أن كل تلك التحولات لم تُحدث هذا القدر من التشويش الذي نعيشه اليوم، ولم تغيّر طريقة تلقي الإنسان للمعرفة كما فعلت الثورة الرقمية المعاصرة. فمع ظهور الهواتف الذكية بعد عام 2007، انتقلت البشرية إلى ساحة مختلفة كليًّا. ولم يعد الإنسان مستقبلًا للمعلومة فحسب، بل صار يعيش حالة تعرض دائم أشبه بإنسان يسير في سوق صاخب طوال اليوم دون خيار الانسحاب.

وفي عام 2011، حين انفجرت مواقع التواصل الاجتماعي في العالم العربي، ولا سيما مع أحداث الربيع العربي، ظهر لأول مرة الشعور الهائل بأن المعلومة لم تعد شيئًا خارجيًّا، بل جزءًا من نبض حياة الناس، يرفعهم ويخفضهم، يثير مخاوفهم ويغذي آمالهم، ويعيد تشكيل رؤيتهم لأنفسهم وللعالم.

هذا التناقض بين وفرة الثروة المعرفية والفراغ الداخلي يكشف عن أزمة عميقة تدفعنا للتساؤل: لماذا لا تتحول هذه الوفرة المعلوماتية إلى معرفة حقيقية؟. وكيف لعصر يمتلك موارد المعرفة كلها تقريبًا أن ينتج عقلاً فارغًا معرفيًا بهذا الحجم؟. هل يكمن الخلل في الإنسان ذاته أم في طبيعة هذه الثروة التي تتضخم دون أن تثمر وعيًا؟.

هذه الأسئلة ليست مجرد تفكير نظري، بل هي انعكاس مباشر لحالة يعيشها الجيل المعاصر، إذ أصبح فقيرًا بالمعنى وغنيًا بكمّ هائل لا قيمة له من المعلومات، تتلاشى فيها المعايير التي تمنحها الوزن والاتجاه.

والأمر الذي يقودنا إلى فهم هذه المفارقة هو إدراك أن وفرة المعلومات لا تعني بالضرورة المعرفة، بل إن بيئة نشرها وأساليب التحكم في تدفقها وأدوات التوجيه الرقمية كلها تساهم في إنتاج حالة من التيه المعرفي المتعمد. ويتجلى ذلك بالنظر في المعلومات التي تصل إلى الإنسان اليوم، حيث لا تُعرض جميعها على قدم المساواة، بل يتم اختيارها وترتيبها، بل وحتى تضخيمها أو تشويهها وفق مصالح معينة، سواء كانت تجارية أو سياسية أو ثقافية.

كل ذلك يؤكد أننا أمام تعمية متعمدة، ليست مؤامرة مغلقة بالمعنى التقليدي، بل شبكة معقدة من آليات تجعل الفرد يعيش وسط بحر من المعلومات المتضاربة، بحيث يصعب عليه استخلاص معنى متماسك أو حقيقي، وتختلط أمامه الحقيقة بالزيف، ومن ثم يتفتت العقل الجمعي، ويصبح غير قادر على التماسك أو الوصول إلى وضوح وفهم.

وإذا ما تأملنا هذه الظاهرة من زاويتها النفسية والمعرفية، سنجد أن الإنسان المعاصر يعيش حالة دائمة من الإرباك الذهني؛ فالعقل البشري لم يُخلق ليستقبل هذا السيل المتواصل من البيانات التي تنهال عليه يوميًا. فقبل هذه الظاهرة، كان العقل يعتمد على آليات واضحة للاختيار والتركيز والتحليل، وهي الآليات التي تجعل المعلومات تتحول إلى معرفة قابلة للفهم.

أما اليوم، فقد أصبح هذا العقل محاصرًا بموجات متلاحقة من معلومات متناقضة، تُشتت انتباهه وتستنزف قدرته على الاستيعاب، حتى يغدو عاجزًا عن بناء رؤية ساقبة أو معنى متماسك وسط هذا الضجيج المستمر.

وإذا ما نظرنا إلى جيل العصر الرقمي، نجده على الرغم من اطلاعه الدائم على كل جديد واتصاله المستمر بشبكات عالمية، لا يزال يعيش في قلب التيه المعرفي نفسه. فكثرة ما يستهلكه من بيانات يوميًا لا ترافقها بالضرورة الأدوات النقدية التي تمكنه من التمييز والتحليل، ومن ثم تحويل ما يعرفه إلى معرفة راسخة.

وقد أسفر هذا الواقع المقلق عن وعي سطحي قائم على الانطباعات السريعة واللحظية، يدفع الفرد إلى الاعتقاد بأنه ملمّ ومتابع، بينما هو غارق في كمّيات متناقضة من المعلومات تمنعه من بناء فهم عميق أو رؤية واضحة. وهذا الوضع ليس مصادفة، بل نتيجة مباشرة لبيئة رقمية صُممت لخلق التشويش والتحكم في انتباه الفرد، بحيث يصبح أسيرًا للمحتوى الذي يُقدَّم له، لا للمحتوى الذي يسعى إليه بوعي واستقلالية.

وبهذه الطريقة، يتحول النقاش العام إلى سلسلة من ردود الأفعال السريعة والانفعالية، تُعاد توظيفها عبر وسائل الإعلام الرقمية والمؤسسات التجارية والجهات السياسية بما يخدم مصالحها، فتتحول وفرة المعلومات إلى أداة لتوجيه المجتمع وصياغة وعيه. أما من الناحية الفلسفية المعرفية، فإن الإنسان يفقد القدرة على العودة إلى ذاته، وهو ما تؤكده دراسات علم النفس المعرفي منذ عام 2015، التي ربطت بين كثرة التعرض للمعلومات وتراجع القدرة على بناء رؤية متماسكة للحياة.

وقد لاحظ فلاسفة غربيون مثل ميشيل فوكو العلاقة بين السلطة والمعرفة وكيفية تشكيلها، إلا أن ما نراه اليوم يتعدى سلطة مركزية لتصبح البنى الرقمية اللامركزية هي المسيطرة، ما يصعّب على الفرد التمييز بين الحقيقي والمختلق.

وفي السياق العربي، أشار عبد الله العروي إلى أن المعرفة تتحقق فقط عندما يتمكّن المتلقي من تمثّلها داخليًا، لكن هذه التمثلات اليوم تتشتت بفعل ضوضاء المعلومات المتعمدة، وتفقد قدرتها على الاستقرار في العقل الجمعي. والإنسان اليوم لم يعد قادرًا على الاعتماد على مصدر واحد أو مجموعة محددة، فكل مصدر أصبح موضع شك أو خاضعًا لعمليات توجيه وانتقاء، ما يُعرف بـغيبة الاطمئنان للمعلومة، تلك الحالة التي يشعر فيها المتلقي بأن الحقيقة لا تصل إليه كاملة، بل مجتزأة أو منحازة أو مشبوهة.

ويظهر هذا على مستويات متعددة؛ من المنصات الاجتماعية التي تمزج الأخبار العاجلة بالترفيه والدعاية، مرورًا بمحركات البحث التي تقترح النتائج وفق خوارزميات غير شفافة، وصولًا إلى المقاطع الصوتية والفيديوهات المتداولة في المجموعات المغلقة.

وكل ذلك يصنع فيضًا من المعلومات، لا يزيد المعرفة بقدر ما يعمّق شعور الفرد بالارتياب، ويضاعف شعور الإنسان بالضغط، خصوصًا في العالم العربي حيث يُطلب من الفرد متابعة كل ما يجري حوله، من الأخبار الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وسط أزمات معيشية متكررة. هذا الضغط لم يكن معروفًا بهذا الشكل قبل سنوات قليلة، فقد كان الإنسان يملك فسحة بين الحدث ورد فعله، أما اليوم فاختفت تلك الفسحة تمامًا؛ فالخبر يصل قبل أن يستقر الحدث، والرأي يتشكل قبل اكتمال الفهم، والزمن ينفلت من اليد بسرعة تفوق قدرة الفرد على المواءمة.

ومن ينظر إلى جيل التسعينيات يدرك الفرق؛ فقد كان آخر جيل تعلّم القراءة قبل التصفح، وآخر من اعتاد البحث الصبور قبل التعود على التمرير السريع. أما الجيل الحالي، فقد نشأ على التلقي الفوري، وتعلّم التمرير قبل القراءة، واستسهل الوصول بدلًا من التأمل العميق.

لذلك لم يكن غريبًا أن تتغير أنماط التدين، وأنماط التفكير الأخلاقي، وحتى رؤية الإنسان للعالم؛ إذ أصبحت أغلب ردود الفعل اليوم قصيرة وغير متروية، تحل محل التأملات الطويلة التي تمنح العمق والاتزان. ولذلك، فنحن بحاجة ماسة إلى أدوات واضحة تعيد بناء الجسر المقطوع بين الفرد والمعلومة، أدوات تمنح العقل الجمعي القدرة على ضبط هذا التدفق الضاغط الذي لا يتوقف. فعند ذلك فقط يتحول موقع الإنسان من مستهلك سلبي ينجرف مع السيل إلى مشارك يقظ، قادر على التمييز والتحليل، وعند هذه النقطة تستعيد المعرفة معناها الحقيقي، بدل أن تبقى مجرد ثروة رقمية مشبعة بالكمّ وفارغة من الاتجاه والروح.

وكل ذلك يتحقق بما يعرف بالغربلة المعرفية؛ أي الأدوات التي تمكّن الفرد من غربلة المعلومات، والتمييز بين الحقائق والمغالطات، وبين ما هو أساسي وما هو هامشي.

وغياب هذه الغرابيل يترك الإنسان في حالة من ارتباك داخلي مستمر، ويدفعه إلى الشعور بالتيه وسط بحر لا نهاية له من البيانات، حتى يغدو يعاني فراغًا عميقًا، رغم أنه يعيش في عالم يُفترض أنه الأكثر معرفة في التاريخ.

للحديث بقية...

***

بقلم: د. بدر الفيومي

 

تَتميَّز الرُّوحَانِيَّةُ عِندَ الكاتب اللبناني الأمريكي جُبْرَان خَليل جُبْرَان (1883- 1931) بِعُمْقِها الفَلسفيِّ، وقُدرتِها عَلى تَجاوزِ الماديَّاتِ، والتَّعبيرِ عَن الحَنينِ إلى مَا هُوَ أسْمَى وأرْقَى في النَّفْسِ البشرية. وَهُوَ يَرى أنَّ الرُّوحَانِيَّة لَيْسَتْ مُجرَّد شُعورٍ أوْ طُقوسٍ تقليدية، بَلْ هِيَ حالةُ وَعْيٍ مُتكاملة، تَجْمَعُ بَيْنَ التَّأمُّلِ والفَهْمِ العَميقِ للذاتِ والتواصلِ معَ العَالَمَيْن الداخليِّ والخارجيِّ.

يَصِفُ الرُّوحَانِيَّةَ بأنَّها رِحْلة داخلية نَحْوَ مَعرفةِ النَّفْسِ، واكتشافِ المَعْنى الحقيقيِّ للحَياةِ. وَيُشيرُ إلى أنَّ الإنسانَ يَعيشُ صِرَاعًا دائمًا بَيْنَ الرَّغَبَاتِ الدُّنيويةِ والبَحْثِ عَن السَّلامِ الداخليِّ، وأنَّ مَنْ يَسْلُكُ طَريقَ الرُّوحَانِيَّةِ يَستطيعُ تَجاوزَ هذه الصِّراعاتِ، والوُصولَ إلى حالةٍ مِنَ التَّوَازُنِ والصَّفَاءِ النَّفْسِيِّ.

كَمَا يَرى أنَّ الرُّوحَانِيَّة تَتَجَلَّى في الحُبِّ والعَطَاءِ والتسامحِ، فَهِيَ لا تَقْتَصِر على الانعزالِ أو التَّأمُّلِ فَقَط، بَلْ تَتطلَّب أيضًا التواصلَ الإنسانيَّ العميقَ، والمُشارَكةَ في تَجَارِبِ الآخَرِين. وَوَفْقَ رُؤيته، فإنَّ الإنسانَ الرُّوحَانِيَّ يَعيشُ في تَنَاغُمٍ معَ نَفْسِهِ ومعَ العَالَمِ، ويَستطيعُ أنْ يَرى الجَمَالَ في كُلِّ شَيْءٍ، حتى في الألَمِ والمُعَاناة، باعتبارها جُزْءًا مِنْ تَجْرِبَةِ الحَياةِ التي تَصْقُلُ الرُّوحَ.

وَتُعْتَبَرُ رُوحَانِيَّةُ جُبْرَان دَعْوَةً إلى التَّأمُّلِ في الحَياةِ، والبَحْثِ عَنْ مَعْنى أعمق لِمَا نَعِيشُه، وَهِيَ رِحْلَة نَحْوَ النُّمُوِّ الداخليِّ، تَتجاوز الحُدودَ الماديَّة لِتَصِلَ إلى أعلى دَرَجَاتِ الوَعْيِ الإنسانيِّ.

تَتَّسِمُ الرُّوحَانِيَّةُ عِندَ الكاتبِ الهِنديِّ رابندرانات طاغور (1861 - 1941/ نوبل 1913) بالعُمْقِ والمُرونةِ، فَهِيَ تُركِّز على تَجْرِبَةِ الإنسانِ الداخليَّةِ، وعَلاقَتِهِ بالعَالَمِ والطبيعةِ. وَهُوَ يَرى أنَّ الرُّوحَانِيَّةَ لَيْسَتْ مُجرَّد مُعْتَقَدَاتٍ جامدة، بَلْ هِيَ رِحْلَة نَحْوَ فَهْمِ الذاتِ، والانسجامِ معَ الكَوْنِ.

والرُّوحَانِيَّةُ - مِنْ وِجْهَةِ نَظَرِه - تَتجلَّى في الإحساسِ العَميقِ بالجَمالِ، سَوَاءٌ في الفَنِّ أو المُوسيقى أو الطبيعةِ. وَالطبيعةُ عِنْدَه لَيْسَتْ بيئةً خارجيةً فَحَسْب، بَلْ هِيَ أيضًا مِرْآةٌ تَعْكِسُ الرُّوحَ الإنسانية، وتُعزِّز الشُّعورَ بالسَّلامِ الداخليِّ. وَمِنْ خِلالِ مُراقبةِ شُروقِ الشَّمْسِ، وَتَدَفُّقِ الأنهارِ، وَتَفَتُّحِ الأزهارِ، يُمكِن للإنسانِ أنْ يَعيشَ لَحَظَاتٍ مِنَ الصَّفاءِ والتَّأمُّلِ العميقِ، وَهُوَ مَا يُعْتَبَرُ جَوْهَرَ الرُّوحَانِيَّةِ عِنْدَه. كَما يَرى أنَّ الرُّوَحانِيَّة تَتعلَّق بالحُبِّ والتواصلِ الإنسانيِّ. وفي كِتاباتِه، كثيرًا مَا يَرْبِطُ بَيْنَ السَّلامِ الداخليِّ والتعاطفِ معَ الآخَرين، مُعْتَبِرًا أنَّ الرَّحمةَ والصِّدْقَ والوفاءَ هِيَ بَوَّاباتُ الوُصولِ إلى تَجْرِبَةٍ رُوحِيَّةٍ أسْمَى. ويُؤَكِّدُ على أنَّ السَّعادةَ الحقيقة تَنْبُعُ مِنَ التَّوَازُنِ بَيْنَ الداخلِ والخارجِ، بَيْنَ النَّفْسِ والمُجْتَمَعِ.

وَمِنَ السِّمَاتِ المُمَيِّزَةِ لِرُؤيته الرُّوحِيَّةِ الاعتقادُ بالوَحْدَةِ الكَوْنِيَّةِ، أي إنَّ كُلَّ شَيْءٍ في الكَوْنِ مُترابِط، وإنَّ الإنسانَ جُزْءٌ مِنْ نَسِيجِ الحياةِ الأكبر. هذا الشُّعُورُ بالاتِّصالِ العميقِ معَ الكَوْنِ يَمْنَحُ الفَرْدَ شُعورًا بالسَّكِينةِ، ويُشجِّعه على التَّأمُّلِ الذاتيِّ، والمُشارَكةِ الإيجابيةِ في الحياة.

الرُّوحَانِيَّةُ عِندَ طاغور تَجْرِبَةٌ شخصيةٌ عميقةٌ، تَعتمد على التَّأمُّلِ في الجَمالِ، والإحساسِ بالوَحْدَةِ معَ الطبيعة، والانفتاحِ على مَشاعرِ الحُبِّ والتعاطفِ معَ الآخَرِين، بعيدًا عَن الطُّقُوسِ أوْ الشعائرِ الجامدةِ، لِتُصْبحَ حَياةُ الإنسانِ أكثرَ مَعْنًى وَسَلامًا داخليًّا.

إنَّ الرُّوحَانِيَّة لَيْسَتْ مُجرَّد مُمَارَسَةٍ أوْ شُعورٍ عابرٍ، بَلْ هِيَ رِحْلَةٌ داخلية تَقُودُ الإنسانَ إلى فَهْمِ ذَاتِهِ والعَالَمِ مِنْ حَوْلِه. في أعمال جُبْرَان خَليل جُبْرَان ورابندرانات طاغور، نَجِدُ أنَّ هذه الرِّحْلة تأخذُ أشكالًا فَنِّية عميقة، تَتجاوزُ الكَلِمَاتِ لِتُصْبحَ شُعورًا حَيًّا يَنْبِضُ في القُلوبِ.

عَالَمُ جُبْرَان مَلِيءٌ بالرُّموزِ والصُّوَرِ التي تَتحدَّث عَن الحُرِّيةِ الداخليةِ، والانفتاحِ على الحَياةِ بِكُلِّ تَقَلُّبَاتِها، والبَحْثِ الدائمِ عَن المَعْنى الأسْمَى. في نُصُوصِهِ، يَشْعُرُ القارئُ بأنَّ الرُّوحَ تُسافِر بَيْنَ الأحاسيسِ المُختلِفة، وَتَتَعَلَّمُ مِنَ الألَمِ والفَرَحِ، وتُدرِك أنَّ الانتماءَ الحقيقيَّ لَيْسَ للأشياءِ الماديَّة، بَلْ للحَياةِ نَفْسِها. جُبْرَان يَرى الرُّوحَانِيَّةَ كَفَنِّ العَيْشِ بِوَعْيٍ، كأنْ تَكُون حاضرًا في كُلِّ لَحْظَةٍ، مُتَفَاعِلًا معَ الطبيعةِ والإنسانيةِ دُون أنْ تَفْقِدَ هُوِيَّتَكَ.

أمَّا طاغور، فَقَدْ قَدَّمَ الرُّوحَانِيَّةَ مِنْ مَنظورِ شاعرٍ، يَنْسُجُ الكَلِمَاتِ كَما يُنْسَجُ الضَّوْءُ عَلى صَفْحَةِ المَاءِ. شِعْرُهُ يَعْكِسُ انسجامَ الإنسانِ معَ الكَوْنِ، وكَيْفَ يُمكِن لِلَحْظَةٍ صامتةٍ أنْ تَكُونَ أكثرَ تعليمًا مِنْ آلافِ الكَلِمات. بالنِّسْبَةِ إلَيْه، الرُّوحَانِيَّةُ هِيَ شُعورٌ بالارتباطِ العميقِ، وإدراكُ أنَّ كُلَّ شَيْءٍ حَوْلَنا يَحْمِلُ نَغْمَةً خاصَّة، وأنَّنا جُزْء مِنْ هَذا الكَوْنِ المُتَنَاغِمِ. هَذا الوَعْيُ يُحوِّل التَّجْرِبَةَ اليَوْمِيَّةَ إلى حالةٍ مِنَ التَّأمُّلِ الجميلِ، حَيْثُ يَتحوَّل المَشْهَدُ العاديُّ إلى دَرْسٍ للحَياةِ والوُجودِ.

رَغْمَ اختلافِ الأُسلوبِ بَيْنَ جُبْرَان وطاغور، إلا أنَّ الرابطَ بَيْنَهما واضحٌ، وَهُوَ الرَّغْبَةُ في الوُصولِ إلى جَوْهَرِ الإنسانِ، وتَنقيةُ الرُّوحِ مِنْ كُلِّ ثِقَلٍ ماديٍّ أوْ وَهْمِيٍّ، وإدراكُ أنَّ الحياةَ لَيْسَتْ مُجرَّد أحداثٍ نَمُرُّ بِهَا، بَلْ هِيَ دُروسٌ مُتواصِلة، وَفُرَصٌ للنُّمُوِّ الداخليِّ. والرُّوحَانِيَّةُ عِندَهُما لَيْسَتْ هُروبًا مِنَ الواقعِ، بَلْ هِيَ مُوَاجَهَةٌ للحَياةِ بِوَعْيٍ، واستكشافٌ للجَمَالِ، وَفَهْمٌ للمَعْنى الحقيقيِّ للوُجودِ.

أعمالُ هَذَيْنِ الكَاتِبَيْن تُوضِّح أنَّ الرُّوحَانِيَّةَ لَيْسَتْ مُجرَّد طُقُوسٍ وأفكارٍ، بَلْ تَجْرِبَة حَياة. تَجْرِبَةٌ تَدْعُو إلى أنْ يَعيشَ الناسُ بِصِدْقٍ معَ أنفُسِهِم، وَضَرورةِ أنْ يَتَعَلَّمُوا كَيْفِيَّةَ استشعارِ اللحْظَةِ، وكَيْفِيَّةَ التفاعلِ معَ الكَوْنِ بِعُمْقٍ، مِمَّا يُؤَدِّي إلى مَنْحِ الحَياةِ مَعْنى حقيقيًّا يَتجاوزُ حُدودَ المَادَّةِ والكَلِمَاتِ.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

قبل أيام بعث لي صديقي الشاعر جواد الحطاب بفيديو تظهر فيه الزميلة الدكتورة سناء البياتي مع الأستاذ باسم الجمل ببرنامج تتحدث فيه عن نظرية خاصة بها في اللغة وتيسير النحو العربي تحت عنوان (نظرية الصفر اللغوي). وهي دون شك نظرية مثيرة للاهتمام، وتبدو جديدة في طريقة عرضها وحديث السيدة البياتي الفخور والمتكرر عن توفيقها بإنجاز ما أنجزته منها. وهي عندها لا تقف عند حدود اجتهادات في نحو العربية وتعديل الميل في مناهجها التعليمية المعقدة، بحيث تكون مكمّلة لما سبقها من جهود لغويين ونحاة عرب في هذا الباب، وإنما تبدو عندها كما لو أنها من الاكتشافات العلمية التي لم تُسبَق إليها من قبل اللغويين العرب والأجانب، وتعادل في وزنها الاكتشافات العلمية الكبرى في هذا العصر. وهي تقول بثقة تحسد عليها إنها فتحت الصندوق الأسود للدماغ الذي عجز الآخرون عن فتحه وعرفت طرائق اشتغال اللغة وعلاقتها بالفكر فيه. ولكنها لم تحدثنا عن الطريقة ولا الوسائل التي استطاعت بها التوصل إلى هذا الفتح أو الاكتشاف سوى القول بأن هناك صفرا أو منطقة فراغ تتشكل بها المعاني في هذا الدماغ قبل أن تمرّ في علاقتها باللغة بمراحل تحددها بثلاث:

تتصل الأولى منها بتحديد المعنى العام للفكر، والثانية بالربط بين مكوناته الدلالية وما يتصل بها من إسناد، ثم مرحلة اختيار الدوال المناسبة للمدلول في المعجم اللغوي للمتكلم.

وهو، كما نرى، تقسيم يبقى احتماليا. وفي أفضل حالاته قائم على تصورات ذهنية مجردة ليس هناك دليل علمي محسوس وملموس على صحتها. إذ أنه يستند إلى المنطق الصوري أو الشكلي الذي هو علم يبحث في صورة الفكر أو بنيته الشكلية دون النظر إلى محتواه، أي بكيفية بناء الحجة أو الاستدلال الصحيح من حيث الشكل فقط، وبعض الفلاسفة الرياضيين (مثل فينغنشتاين) رأوا أن اللغة الطبيعية لا يمكن اختزالها تمامًا في منطق صوري. لأن هذا المنطق يهتم بصورة الحجة لا بمضمونها.

ورغم قوة هذا النوع من المنطق في ضبط الاستدلالات العلمية والرياضية، فهو يحتاج إلى التكامل مع أشكال التفكير العملي والسياقي لفهم الواقع والتواصل البشري.

والمشكلة أن منطقة الصفر اللغوي التي صارت عنوانا لهذه النظرية لا علاقة وثيقة لها حتى إذا صحّت بالصيغ اللغوية التي تقول الباحثة إنها تتشكل بدءا منه. لأن الأمر قائم فيها على مجرد الظن. وصاحبة النظرية تشبه بذلك النظّام المعتزلي الذي كان يقول عنه تلميذه الجاحظ إنه كان يظنّ الظن ويبني عليه، وينسى أنه كان في بدء أمره ظنا.

وحين قال لها الدكتور محمد حسين آل ياسين رئيس المجمع العلمي العراقي الحالي في إحدى المحاضرات التي عرضت فيها هذا الاكتشاف بحضوره منذ سنوات: ألّا صفرَ فكريا أو لغويا بمعنى (خلاء) أو (عدم) في الدماغ، موجود على الحقيقة وأن هذا العدم لا وجود له لأنه يعدم نفسه، وإن الأمر يتصل بنوع من الاستعارة أو المجاز الذي انتهى إليه العلم الرياضي في القرون الوسطى العربية للتفريق بين الإيجاب والسلب في الأعداد الرياضية، صارت تقول إن هذا الصفر اللغوي، مثل الصفر الرياضي، منطقة ربط ولقاء بين الفكر واللغة لا منطقة خلاء تتشكل فيها المعاني والأفكار قبل أن تأتي الجمل اللغوية ذات المفاهيم الكلية لاستيعابها والتعبير عنها بطريقة تفصيلية أو جزئية تبعا لنظرية الجشتالت في الإدراك الكلي للمفاهيم. الأمر الذي يبدو بحاجة إلى إثبات حتى إذا كان صحيحا، لأنه مبني، كما ذكرنا، على تصورات واعتقادات نظرية مجردة، وليس على حقائق علمية رياضية أو تجريبية مؤكدة يمكن تصوّرها أو رؤيتها بطريقة منطقية ثابتة، أو صحيحة صحة مطلقة. وهي تقول إنه منذ نظرية العامل في النحو لا يوجد غير هذه النظرية الخاصة بالصفر اللغوي على الرغم من أنها تضيف إلى ذلك في موضع آخر أنها جعلت من نظرية عبد القاهر الجرجاني الخاصة بالنظم ومعاني النحو منطلقا لها، واستخدمت نفس اعتراضات النحاة الذين اهتموا بتيسير النحو وشواهدهم في معالجة التعقيد الذي أدخله المنطق ونظرية العامل على القواعد الخاصة بكلام العرب.

وقد كان لدينا من قبل "صفر" كتابي آخر، طرحه الناقد الفرنسي رولان بارت في كتابه (درجة الصفر في الكتابة) للتعبير عن حلم الكاتب للوصول إلى درجة النقاء والشفافية في الكتابة التي لا تنتمي إلى زمن أو أسلوب محدد. لكنها تبقى، كما نعلم، كتابة مستحيلة التحقق، لأن اللغة محمّلة دائمًا بالثقافة والأيديولوجيا، واستخدام الآخرين لها.

والغريب في أمر السيدة البياتي أنها لا تتورع عن القول إن نظريتها تحتاج من أجل إثباتها تعاون علماء الأعصاب لرؤية "مساقط" الأفكار وكيفية تشكّلها وطبيعة حركتها وعلاقتها باللغة في المناطق المخصصة للفكر وللغة من الدماغ البشري. أي أنها تقوم بنوع من المصادرة على المطلوب لإثبات ما هو ثابت، أو دعم نظرية مقررة جرت الفتوى فيها وتثبيتها منذ زمن طويل، وتحدثت بها صاحبتها في عشرات المحاضرات واللقاءات تحت عنوان (الصفر اللغوي)، بوصفها النظرية التي لم يأت بها أحد قبلها، بما في ذلك اللغوي الأمريكي تشومسكي الذي لم يعرف الطريق إلى الربط بين الفكرة وقالبها اللغوي كما فعلت هي.

وبما أن كل شيء جديد ويبدأ مع السيدة الباحثة حيث تبدأ الأشياء من الصفر، فإنها تبدو غير عارفة بجهود علماء الأعصاب المخصصة

لاكتشاف المناطق الخاصة باللغة والأفكار في الدماغ، وأن علماء الأعصاب ينتظرون إشارتها لإثبات ما تقوله نظريتها في الصفر اللغوي، ولم يفعلوا شيئا من قبل في هذا المجال، وأن هذا الصندوق الأسود الذي هو الدماغ البشري قد بقي مقفلا على سواده قبل أن تتوجه هي بنظريتها لفتحه.

وهي تعرف ربما أن العلاقة بين الفكر واللغة في الدماغ البشري واحدة من أكثر المواضيع تعقيدًا وإثارة للبحث في علم الأعصاب الحديث. ومع تطور تقنيات تصوير الدماغ والتقنيات الإدراكية، توصل العلماء إلى عدد من الاكتشافات المهمة التي أعادت تشكيل الفهم التقليدي لهذه العلاقة، منها مثلا أن الفكر واللغة ليسا الشيءَ نفسه، وأن اللغة، التي هي أداة للتعبير عن الفكر، ليست مرادفة له. وأن الدماغ يمكنه التفكير دون استخدام اللغة، كما يظهر ذلك في الحساب الذهني والتصورات المجردة والموسيقى، والحدس أو اتخاذ القرار السريع.

وقد وجد هؤلاء العلماء أن الأشخاص الذين يعانون من حبسة لغوية (فقدان القدرة على الكلام) يحتفظون بقدرات تفكير وتجريد تمكنهم من الفهم دون استخدام الواسطة اللغوي؛ مثلما وجدوا أن اللغة تعزز الفكر المجرد والمعقد وتمكّن الدماغ من التعبير عن الأفكار وتوضيحها. وربط المفاهيم وبناء سرديات معقدة يمكن للغة أن تساعد على تنظيمها، ولكنها لا تحددها بصورة نهائية. كما أن دراسات التصوير العصبي أظهرت أن التفكير اللفظي يستخدم شبكات دماغيةً مختلفة عن التفكير غير اللفظي..إلى آخر ذلك من هذه المعلومات التي ليس لي غير نقل ما هو موجود منها في مواقع البحث الخاصة بها، ولكن حصيلتها هي أن من فتح هذا الصندوق الأسود ليس السيدة سناء بوسائلها وتصوراتها النظرية المجردة، وإنما هم هؤلاء العلماء بوسائلهم العلمية الخاصة. فيما تعتمد هي بشكل أساسي على نظرية الجشتالت في الإدراك الكلي للظواهر والتبصر الذهني الخاص بعلم النفس الإدراكيّ، ولا تلتفت إلى ما وجه لهذه النظرية التي ظهرت في ألمانيا مطلعَ القرن الماضي من نقد بأنها غير قابلة للقياس التجريبي بدقة. وأنها تُركز على الإدراك البصري، لكنها أهملت العمليات العقلية الأخرى كالذاكرة والانتباه واللغة. وأنها لم تُقدم تفسيرًا كافيًا للأساس العصبي للإدراك (وهو ما بدأت علوم الأعصاب الإدراكية بتفسيره لاحقًا).

هذا من الجانب العلمي الصرف أو نقطة الانطلاق العصبية لما تسميه (نظرية الصفر اللغوي).

وثمة جانبان آخران تم إغفالهما أو لم تجر الإشارة إليهما بأمانة علمية وموضوعية كافية في حديث الدكتورة البياتي عن هذه النظرية:

الأول هو علاقة جهودها الخاصة بتيسير النحو العربي وتركيب الجملة العربية ومنهج القدماء ذي الطبيعة المنطقية الصورية في دراستها، بما سبقها من جهود عربية قديمة وحديثة في هذا الباب.

والدكتورة سناء تعرف بالتأكيد أكثر مني بحكم اختصاصها، بعلماء اللغة العرب المعاصرين الذين دعوا قبلها إلى تيسير النحو مثل إبراهيم مصطفى (1888–1962)، صاحب كتاب “إحياء النحو” (1938)، ويُعد من أوائل من نادوا بضرورة تحرير النحو من قيوده التقليدية، واقترح تبسيط المصطلحات، وإلغاء التعليلات المعقدة، والاكتفاء بما يخدم الفهم. وأمين الخولي (1895–1966) الذي دعا إلى ضرورة فهم النحو في ضوء وظيفته لا بنيته الصورية، وربطه بالبلاغة والتفسير. وشوقي ضيف (1910–2005) في كتبه التعليمية، التي سعى فيها إلى تقديم النحو بطريقة مبسطة وحديثة، وقلّل من عرض الشواهد النادرة والخلافات المذهبية. وعبد العزيز الميمني، ومصطفى الغلاييني اللذين قدّما كتبًا نحوية مبسطة للطلبة، واهتما بـ”الوظيفة التعليمية للنحو”. وتمّام حسان (1918–1990) في كتابه “اللغة العربية: معناها ومبناها”، حيث قدّم رؤية بنيوية لسانية جديدة للنحو، تعتمد على السياق لا على الإعراب التقليدي. واقترح اعتماد النحو الوظيفي القائم على المعنى والسياق، وتجاوز التصنيف النحوي القديم. وعبده الراجحي (1937–2010) أحد أبرز علماء النحو المحدثين الذين دعوا إلى تجديده من الداخل، وإعادة ترتيب أبوابه بطريقة تعليمية مبسطة. ورمضان عبد التواب، الذي تناول طرق تعليم النحو، وركّز على وظيفية القاعدة النحوية بدلًا من تعقيدها بالشواهد والمذاهب. ومهدي المخزومي عالم النحو العراقي في جهودة الخاصة بنقد نحو القدماء وتوجيهه هذا النحو بطريقة منهجية ليست بعيدة عما تقول به الدكتورة البياتي، خصوصا في كتابه المهم (في النحو العربي: نقد وتوجيه) (١٩٦٤) الذي قدّم فيه نقدًا شاملًا للمنهج النحوي العربي الكلاسيكي، ورأى أنه قد أصبح عائقًا أمام تعلم العربية بسبب من التوسع في التعليلات العقلية التي لا تفيد المتعلم. والخلافات المذهبية بين البصريين والكوفيين التي ترهق الطالب دون طائل والتمسك بالشواهد الشاذة والنادرة. وقد دعا إلى الابتعاد عن النحو القائم على الجدل والمنطق الصوري، واقترح العودة إلى الوظيفة اللغوية للعنصر النحوي، أي أن يُفهم النحو من خلال السياق لا من خلال الإعراب الشكلي. الأمر الذي تكرره الدكتورة البياتي في محاضراتها أمام المختصين وغير المختصين في أحيان كثيرة بنفس الطريقة تقريبا.

الثاني يتصل بجهود علماء اللغة الغربيين

إذ تُعدّ مسألة العلاقة بين الفكر واللغة من القضايا المركزية في الفلسفة واللسانيات الحديثة، وقد شغلت حيزًا واسعًا من التأملات المعرفية. وفي هذا السياق، تتقابل رؤيتان متميزتان: الأولى يمثلها اللساني الأمريكي نعوم تشومسكي، والثانية الفيلسوف النمساوي البريطاني لودفيغ فينغنشتاين، وخاصة في مرحلته الفلسفية المتأخرة.

يرى تشومسكي أن الفكر سابق على اللغة ومتجاوز لها، إذ يؤمن بأن الإنسان مزوّد منذ الولادة بما يُعرف بـ”الملكة اللغوية” (Language Faculty)، وهي بنية معرفية فطرية تُنتج “لغة داخلية” تُسمى أحيانًا language أو mantles. وفي ضوء هذه الرؤية، يُفترض أن الأفكار تنشأ داخل الدماغ بمعزل عن اللغة المنطوقة، وأن اللغة ما هي إلا وسيلة لاحقة لصياغة هذه التمثيلات الذهنية وتوصيلها. وبذلك، يقرّ تشومسكي بوجود فكرة مجردة في الدماغ غير مرتبطة بالضرورة بالقالب اللغوي الظاهر، ويمنح الفكر استقلالية نسبية عن اللغة في مستواه التكويني الداخلي.

في المقابل، يُقدم فينغنشتاين المتأخر، في كتابه “بحوث فلسفية” (Philosophical Investigations)، موقفًا مغايرًا يقوم على أن اللغة ليست فقط أداة للتعبير عن الفكر، بل هي الإطار الذي يتشكل فيه الفكر ذاته. فالكلمات، في نظره، تكتسب معناها من خلال الاستخدام داخل ما يسميه بـ”ألعاب اللغة” (language-games)، وهي ممارسات لغوية ذات طابع اجتماعي وثقافي. ووفقًا لهذا التصور، لا يمكن الحديث عن “فكرة” مستقلة عن اللغة، إذ إن ما نسميه “تفكيرًا” ليس إلا جزءًا من فعل لغوي وسلوكي مشروط بسياقات الاستعمال.

وعليه، فإن الفارق الجوهري بين الرؤيتين يكمن في أن تشومسكي ينطلق من منظور معرفي – عقلاني يرى الفكر كيانًا سابقًا ومتعاليًا عن اللغة، في حين أن فينغنشتاين ينظر إلى الفكر باعتباره نشاطًا لغويًا غير ممكن خارج شروط الاستخدام والسياق الاجتماعي. هذا التباين لا يعكس مجرد اختلاف في المنهج، بل يؤسس لرؤيتين متباينتين في فهم طبيعة العقل البشري وحدود اللغة ودورها في تشكيل الوعي والمعرفة.

كل هذه الجهود تتجاوزها الدكتورة البياتي أو أنها تختار منها ما يتناسب مع نظريتها الجديدة وتترك ما توصل اليه هذا العالمان وغيرهما من جهود في هذا الباب. وهي ترى مثلا أن تشومسكي في النحو الكلي أو النحو التوليدي لم يستطع أن يتوصل إلى ما توصلت إليه من معرفة بمراحل اللقاء بين اللغة والفكر في الدماغ البشري بالطريقة الآلية التي حددتها وفق تصوراتها النظرية دون أسانيد علمية كافية. أما الشواهد القرآنية وغير القرآنية التي اعتادت الدكتورة البياتي الاستشهاد بها في محاضراتها ولقاءاتها المتعددة، فليست جديدة، وأغلبها مما جرى التمثيل والاستشهاد به من قبل من ذكرت من علماء النحو المتقدم ذكرهم. وليس لها، هي الأخرى، كبيرُ علاقة بنظرية الصفر اللغوي المفترضة.

غير أن ما يسجل للدكتورة البياتي بالارتباط بهذه النظرية أو بدونها هو فهمها الصحيح لضرورة التغيير في المناهج الخاصة بنظرية العامل في النحو، والحاجة إلى إقامة تصنيف جديد لتعليم النحو على أسس منهجية جديدة تُعنى بملاحظة تركيب الجملة العربية وطريقة الإسناد فيها وما يتصل منها بحركات الإعراب وأدوات الربط، ونوع الزمن الناتج عن تركيبها.

وهي، كما نرى، أمور ليست جديدة تماما إللهمّ إلا في طريقة عرضها، فضلا عن أن علاقتها بالصفر اللغوي التي تعني الدكتورة سناء أكثر من غيرها تكاد تكون معدومة.

***

د. ضياء خضير

 

يبدو أن معظم شيوخ المعتزلة قد أدركوا مُسبقًا ما لم نلاحظه إلا مؤخرًا ألا وهو أن الكذب يمكنه ارتداء لباس الصدق ويتوقف ذلك على اتقان الراوي والحاكي، وفي مقدور الصدق أيضًا أن يرتدي رداء الكذب، إذا لم يخالف مقصده الحقيقي غير أن هذا الرداء الكاذب لم يصب حقيقة الخبر إلا في ظاهره ولم يبدل باطنه أو جوهره أو أصله الصادق.

وتسعفني الذاكرة في استدعاء أطرف وأصدق وأكذب بيت شعري في آن واحد الذي رواه المتنبي (ت 965 م) وبات من بعده مثلًا يذكر في عدة مناسبات منها: المُفارقة في المقصد والمغايرة في المظهر والابداع في الحرفية والحبكة فيقول المتنبي (بعيني رأيت الذئب يحلب نملة ويشرب منها رائبًا وحليبًا، فناديت عليه فلم يجب، ولقد كان ذئبًا في ثياب رجال)

ولما سُأل المتنبي عن ذلك البيت الذي ينضح كذبًا فأجاب أنه يعبر عن صورة صادقة رآها بعينه قائلًا (نعم إنّ الذئب لا يعرف كيفية الحلب والنملة أصلاً ليست بالحلوب، والصورة خيال لا يمكن تصوره مطلقًا.

أمّا الصدق فيها أني كنت مرة في أحد أسواق الكوفة فوقفت بجوار امرأة فقيرة تبيع السمك، فجاءها رجل ثري في تكبره، وغني في هيئته، وسألها عن ثمن ما تبيع؟

فقالت المرأة: بخمسة دراهم السمكة الواحدة يا سيدي.

فقال الغني: بل بدرهم واحد.

فقالت يا سيدي: إن السمك ليس لي، وأنا لا أستطيع أن أبيع الواحدة إلا بخمسة، فرد عليها الغني أعطني عشر سمكات، ففرحت المرأة وأعطته ما أراد ولما مسك السمك بيده قام بحمله ثم ألقى لها بعشرة دراهم وانصرف، فصرخت المرأة تناديه فلم يجبها فروحت أناديه أيضًا فلم يسأل عني؛ فكتبت هذا البيت لأعبر عن تلك المظلمة؛ وذلك الجور الذي عايشت أحداثه ورويته بخيال الشعراء، فإذا كان الكذب في الكلمات والصور البلاغيّة؛ فالحقيقة كامنة في الواقعات الخفيّة، فالذئب هو الرجل الثري، والنملة هي المرأة التي كانت تبيع السمك ولا تملكه.

وواقع الأمر الذي أريد توضيحه والحديث عنه هو طبيعة العقل ومرتبته من اليقين عند معظم شيوخ المعتزلة؛ وقد تبين ذلك في أصولهم ومثقفاتهم ومناظراتهم وفي ردودهم على ما يعتقده مخالفيهم؛ فالعقل عندهم ليس حرًا بالقدر الذي يجحد أو يجنح عن المقصد الإلهي الذي يعتبرونه العقل المطلق بل هو آلية من نفس جنس خالقه، والدليل على ذلك أن حديث العقل الربّاني يوجه في المقام الأول للعقل الإنساني؛ ومن ثم يصبح العقل الإنساني هو الطريق الأقوم لفهم الوحي (كلام الله) والاجتهاد وإعمال العقل في النّص يمثل عندهم عين اليقين، وإذا ما تأكدوا من مطابقة ما فهموه بعقولهم مع المقصد الإلهي اطمئنوا آنذاك على أنهم، توصلوا مع (حق اليقين).

ويعني ذلك أن شيوخ المعتزلة لم يقنعوا إلا بحق اليقين، وذلك عن طريق غرابيلهم النقدية. أمّا دون ذلك فعندهم في مرتبة أقل (علم اليقين، عين اليقين)؛ فعلم اليقين عندهم يمثل الخبر الذي يوضع في الغرابيل لتفصل فيه بين الصدق والكذب. أما المُجرب والصالح والنافع في التطبيق أي في عين اليقين؛ فيصعد إلى مرتبة حق اليقين.

وإذا ما انتقلنا من النظر إلى التطبيق عند المعتزلة في قضية الكذب وجدناه على هذا النحو، فيبدأ الفكر المعتزلي بتحليل الخبر المروي أو الكلام المرسل معتمدًا في ذلك على الفهم المباشر لمعاني الألفاظ ودلالاتها ثم مقابلة التركيب اللفظي الذي يشكل عبارات الخطاب بمنطقية حدوثه في الواقع ثم يضعه في الغرابيل النقديّة للكشف عن دقة دلالاته والإحالات التي يقصدها إذا كان الخطاب رمزيًا أو إشاريًا ثم يعيد طرح ما توصّل إليه من دلالة (ليتبين إن كانت قطعية الثبوت والدلالة من عدمه؛ فإن كانت واضحة بذاتها فيؤكد صدقها وإن كانت إحالية في دلالاتها نجد شيوخ المعتزلة يستعينون بغرابيل التأويل التي تتفق مع النسق العام لموضوع الخطاب؛ الأمر الذي يجعل من تأويلاتهم خطوات إرشاديّة للمعنى الحقيقي الذي يتوافق مع المقصد الصحيح الصادق).

واعتقد أن هذا التصور لنهج المعتزلة العقلي يفسر لنا موقفهم من المرويات الواردة في كتب جُمَّاع الحديث التي لا تخلو من الدس والانتحال والاجتراء والكذب والتلبيس، سواء كان ورودها في كتب ما نطلق عليه (كتب الصحاح مثل البخاري ومسلم أو في كتب السنن) فهم لا يفرّقون بين صحة الأحاديث المنسوبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم التي جمعها أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري (ت 870 م) في صحيحه وبين مرويات الربيع بن حبيب الأزدي (ت، ن 698 م) التي جمعها في مسنده فمعيار الصدق أو الكذب عندهم كما بينا هو موضوعية الخبر المروي في سياقه، وعدم تناقضه مع النسق القرآني في عمومه أي قياس المتغير على الثابت أو مقارنه علم اليقين بحق اليقين.

فعلى سبيل المثال نجد شيوخ المعتزلة يرفضون منطقية (حديث الفرقة الناجية، وارضاع الكبير) بغض النظر عن حجية تواترهما أو قبول بعض الفقهاء لهما، وبرهانهم على ذلك أن الحديث الأول يجعل الفرقة الناجية (المؤمنين) هم القلة ويعمل على تفريق الأمة وانتحال كلًا منها الشيفونية. أما باقي الفرق من أمة محمد فمصيرها إلى النار؛ الأمر الذي يناقض النسق العام لوعد الله سبحانه وتعالى ونبيه صلى الله عليه وسلم من آمن بالله ورسوله واليوم الآخر ....

أمّا الحديث الثاني فهو يناقض أيضًا النسق الأخلاقي وآداب المرأة مع الاغراب واستحالة حدوث الواقعة على النحو الذي ورد في الرواية من الناحية العلميّة.

ومن أقوال شيوخ المعتزلة التي تؤكد رفضهم لما يخالف صريح المعقول في كتب جماع الحديث قول عمرو بن عبيد (لو سمعت الأعمش - محمد بن سليمان الأعمش، وهو من كبار التابعين ورواة الحديث النبوي - يروي حديثًا مشكوك فيه لكذبته، ولو سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم يقول ما يخالف صحيح المنقول وحق اليقين لرددته، ولو أدعى أحد الخطباء ونسب قوله إلى آية لقلت ليس على هذا القول أخذ الله ميثاقنا).

ومن ثم، يؤكد الجاحظ أنه لا يجوز للدعاة والمحدثين والخطباء التأول على الله قبل معرفتهم اليقينية بمقصده كما ينبغي عليهم التمعن في مصادر ما يقولون  حتى لا يجنح أحدهم عن سبيله إلى حق اليقين فيقع في شرك الهوى فيكذب ويدلس ويزيف ويحرف الدلالات والمعاني ومقاصد العقل الإلهي.

ويرى إبراهيم النظام (ت 845 م) أن الخبر الكاذب يمكن حدوثه بين ما نطلق عليه حديث المتواتر؛ وذلك لأن هذا الحكم لم يبنْ على ثابت عقلي بل بني على كثرة الرواة، وذيوع الخبر وانتشاره، ومن ثم لا يجب الحكم عليه بالصدق إلا بعد عرضه على العقل.

وأقره على ذلك أبو هذيل العلاف (ت 840 م)؛ إذ ذهب إلى أن إجماع أهل الرأي غير المعصومين لا يستبعد كذب أحدهم فيردده الناس من بعده؛ فيصبح بذلك حديثًا متواترًا.

ويرى مخالفو شيوخ المعتزلة أن انتصار معظمهم لصريح المعقول، فاته نسبية أحكام العقل تبعًا للملابسات والظروف والأزمات وخبرة صاحب الغربال النقدي. غير أن مؤيديهم بينوا أن غرابيل النقد عند المعتزلة لم تتعرض إلى حق اليقين المتمثل في القرآن الذي لا يتسلل إلى آياته الشك أو الظن أو التدليس أو التحريف بيد أن خلاف المفسرين أنصب على المتشابه من آياته وفهم مقاصدها بمعزل عن النسق القرآني الشامل واكتفى بعضهم بالمعنى السياقي للآية؛ الأمر الذي دفع شيوخ المعتزلة إلى غربلة تلك التأويلات وليس نص الآيات لتبيان أقربها للعقل والواقع معًا من جهة والمتناغم مع شمولية العلم الإلهي من جهة أخرى؛ كما أن اختلاف الفقهاء حول التفسير والتأويل؛ ليس ببدعة أو خروج عن الملة، بل هو فرض عين للتدبر من قبل أهل الذكر فهو عين الاجتهاد الذي لا ينبغي انقطاعه؛ لأنه البرهان القاطع على أن القرآن لا يحده مكان ولا زمان وصالح للتطبيق على كل البشر حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولاً.

بل والأكثر من ذلك أن هناك بعض الأقوال الحسنة قد نسبت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يكذبها شيوخ المعتزلة استنادًا إلى أنها تتفق مع بنية النص القرآني مثل (اطلبوا العلم ولو في الصين) وقول إن كل المخالفات والأخطاء مقبولة إلا الكذب فهو يعادل الكفر البواح (إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون) كما أخذ على شيوخ المعتزلة أيضًا تقديمهم العقل على السمع؛ فجاء في ردهم على ذلك أن العقل النقدي الذي مكّن الانسان من فضح الأكاذيب والروايات المدسوسة والواقعات المُلفقة في الكتب التي قدسها الأغيار باعتبارها وحي إلهي، وهو منها براء. كما أن خطاب الله لأصحاب العقول والألباب يؤكد أن عقل الانسان قادر على الفصل بين الصدق والكذب، وذلك بمعرفته القبلية الفطرية لحقيقة الله رب الأرباب المدبر الحكيم.

أضف إلى ذلك كله؛ أن غرابيل المعتزلة العقلية ونهجهم الجدلي في التثاقف والتناظر والتصاول، كان من أقوى الأسلحة التي تصدت لعشرات الادعاءات والأكاذيب والمكائد التي جعلها الأغيار من أصحاب الملل والبدع معولًا وترياقاً سامًا لهدم الشريعة الإسلامية، وإغواء المسلمين لانتحال الأفكار والمذاهب والشعائر والطقوس التي تتعارض مع عقلانيّة القرآن وأصالة مقاصده؛ فلم يكن من اليسير الرد على ادعاءات الطاعنين في الإسلام بحديث الوعظ أو الاستشهاد بخطابات قاموا هم بتكذيبها، ودسوا في بعضها الإفك وارتابوا في البعض الآخر.

فلم يكن أمام شيوخ المعتزلة سوى مجادلة هؤلاء الكاذبين المكذبين بصريح المعقول ثم تبيان أن ما يسلم به العقل هو الذي ورد في النّص القرآني الذي لا سبيل لهم بتحريفه أو الشك في مصدره؛ وذلك لأنه محفوظ بنسقيته وخلو بنيته من الاضطراب والتناقض، وهو الاعجاز الذي لا يمكن لبشر أن يفكك أوصاله.

وسوف تظل كتابات واصل بن عطاء (ت 748 م) وأبي هذيل العلاف، وإبراهيم النظام، وعمرو بن عبيد والخياط (ت 933 م) والجاحظ والقاضي وغيرها من أقوى الغرابيل النقديّة التي فضحت إفك الطاعنين وزيف المضللين واجتراء الملحدين وصناع الأكاذيب التي تآمرت على الإسلام في مهده منذ النصف الثاني من القرن الأول؛ الأمر الذي يجعلنا نؤكد حاجتنا لتطوير نهج المعتزلة النقدي وتحديث تلك الغرابيل للحد من مكائد شياطين هذا العصر.

وحريٌّ بي أن أشيد بموقف هارون الرشيد، ومن سلك دربه في مؤازرة ودعم وتأييد شيوخ المعتزلة، ومباركة جهودهم في محاربة الأكاذيب وتنوير العقول وحماية الرأي العام، وذلك لتصديهم بالحجة والبرهان لأضاليل أرباب البدع والفاسد من النحل والخبيث من الشائعات والجانح من الفرق.

وخليقٌ بي في هذا السياق أيضًا أن أعبر عن أسفي من موقف صنّاع القرار في بلادنا الذين دمروا نهوج التفكير العقلي؛ واغلقوا منابره في حياتنا الثقافية المعاصرة وقادهم جهلهم إلى إهمال المشتغلين بالفلسفة واستبعادهم عن مواطن صناعة القرار فضلوا وأضلوا.

(وللحديث بقيّة عن عقلانية المعتزلة وغرابيلهم النقديّة).

***

بقلم: د. عصمت نصار

 

المجد للإنسان.. ذلك الكائن الذي خلق من هشاشة الطين وقوة السؤال، من ضعف الجسد وصلابة الروح. ذلك الكائن الذي لا يهدأ، ولا يكتفي، ولا يرضى ان يكون ظلا يمر على جدار الزمن دون ان يترك فيه اثرا يشبه صوته الداخلي.

المجد للمتمردين الذين ادركوا ان الطاعة ليست فضيلة اذا قتلت فيهم نور العقل، وان السكون ليس سلاما بل موت بطيء. اولئك الذين يشقون ليل العالم باسئلتهم، ويسيرون في الدروب التي يخشاها الجميع، لانهم يعرفون ان الحقيقة لا تمنح لمن يختبئ، بل لمن يغامر بان تنكسر قناعته امام ضوء جديد.

هم من اكتشفوا ان الحياة لا تعطي لمن ينتظرها، بل لمن ينتزع معناها من فوضى العالم. الذين اشعلوا اول شرارة حين فهموا ان الظلام ليس قدرا، بل غيابا مؤقتا للنور. الذين وقفوا امام الحقيقة لا بوصفها نهاية المعرفة، بل بداية سؤال جديد. الذين ساروا على حواف الخوف واكتشفوا ان الخوف نفسه طريق، وان القلب الذي لا يرتجف ميت قبل ان يموت.

المجد لمن امتلك شجاعة ان ينقض ما ورثه كي يبني ما يليق به. لمن وقف امام ذاته عاريا من الاعذار نقيا من التبريرات، فصار اقرب الى جوهره مما كان يتخيل.

لمن طهر قلبه من الاوهام، واعاد تشكيل روحه بما يليق بانسان يريد ان يفهم لا ان يبرر، وان يسكن الكون لا ان يساق فيه.

والمجد لمن نظر في مراياه وواجه كذبه الصغير قبل كذب العالم الكبير. لمن تراجع خطوة كي يرى الصورة كاملة، لا كي يهرب. لمن اتخذ من الشك منزلا مؤقتا ومن التامل وسادة دائمة. لمن خرج من واديه الضيق الى فسحة الكون، ليس ليتوه، بل ليجد نفسه في اتساع اكبر مما ظن.

المجد للغرباء الذين عرفوا ان الوطن ليس مساحة ترسم على الورق، بل معنى يتسع كلما اتسعت الروح. الذين يحملون نورهم في الداخل ويجرؤون على السير به وسط ظلمات لا تنتهي. الذين اختاروا الفن والادب والفلسفة طريقا، لانهم ادركوا ان هذه العوالم ليست ترفا بل نجاة، وان الانسان بلا جمال ينهزم اسرع مما يتوقع.

المجد لمن خلق لنفسه عالما يليق بنبل روحه بعيدا عن ضجيج المقارنات وصخب التفاهات. لمن عرف ان العظمة ليست ارتفاعا فوق الناس، بل نزولا الى اعماق الذات حيث تنام بذرة الحقيقة.

والمجد للفضول الذي دفع العقل الى الحفر في ليل الكون بحثا عن معنى. للمجانين في اعين الناس والعقلاء في اعين انفسهم، الذين ادركوا ان العقل لا يقاد بل يطلق. الذين لا يركعون لفكرة لم يختبرها عقولهم

والمجد لمن لا يقيس نفسه بميزان الناس، بل بميزان الرحلة التي يقطعها نحو ذاته. لمن عرف ان المقارنات تقتل البهاء، وان الانسان لا يضيء الا حين يقف وحده امام اتساعه الداخلي.

ولمن صنع نورا صغيرا في قلب عتمته، وظل يحميه حتى صار ضوءا قادرا على ان يرى.

والمجد لمن صنع هالة نور في قلب كهف معتم، لمن ادرك ان الضوء لا يأتي من الخارج بل من الشرارة التي يوقظها الاصرار. لمن حاول ان يخفف من معاناة البشر، لانه عرف ان الخلود ليس تمثالا من حجر، بل اثرا من رحمة.

والمجد لمن خفف ألما، او ازال حجرا من طريق اخر، او ترك كلمة تجعل الحياة اقل قسوة. فهؤلاء وحدهم يدركون ان الخلود ليس ان نتذكر اسماءهم، بل ان نلمس اثرهم ونحن لا نعرفهم.

المجد للانسان...

للانسان الذي يخطئ فيتعلم، ويسقط فينهض، ويخذل فيشتد. الذي يؤمن رغم كل جراحه ان الطريق يستحق العناء، وان الحياة مهما اتسع ظلامها تبدأ من لحظة يقول فيها لنفسه ؛ انا لن اتوقف.

المجد للانسان...

للروح التي لا تنطفئ مهما انكسرت، وللعقل الذي لا يكف عن السؤال مهما ارهقته الاجابات، وللقلب الذي يجرؤ على الحب في عالم يتقن القسوة.

والمجد للانسان...

لانه الكائن الوحيد الذي ينهض من رماده كلما ظن العالم انه انتهى.

المجد للانسان...

ذاك الذي يخطئ فيتعلم، ويكسر فيتجدد، وينهض كلما اشتهى العالم سقوطه.

ذاك الذي يحاول.

يحاول دائما.

ويظل يحاول.

***

ابتهال عبد الوهاب

 

يعد الغش الأكاديمي من أخطر الظواهر التي ابتلي بها التعليم المعاصر لأنه لا يمثل مجرد خطأ عابر يرتكبه طالب تحت ضغط الامتحان بل هو انعكاس لانهيار منظومة قيمية تمتد جذورها في بنية المجتمع كله فحين يفقد التعليم رسالته الأخلاقية يصبح الغش ممارسة مبررة ومقبولة وكأنها جزء من اللعبة الاجتماعية التي تحكمها المصلحة والأنانية والبحث عن المكسب السريع قال تعالى ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون فالغش هو صورة من صور هذا اللبس الذي يحيل الصدق إلى زيف والاجتهاد إلى مظهر والعدالة إلى قشرة خاوية

في البداية كان الغش سلوكا فرديا يختبئ صاحبه من العيون ويشعر بالذنب لأنه خان نفسه قبل أن يخون قلمه أما اليوم فقد صار ثقافة تتسع لتشمل بعض المؤسسات التي تغض الطرف عنه وبعض الأسر التي تراه حيلة مشروعة لتحقيق النجاح وبعض الطلاب الذين يرونه ذكاء ودهاء لا عيبا ولا جرما وهنا تتبدى الذروة الأخلاقية للأزمة حين يصبح الغش منهجا مقننا تقوده أدوات التقنية وتبرره ضغوط المجتمع فيتحول التعليم من رسالة إلى صفقة ومن بناء للعقل إلى صناعة للواجهة

تتجلى خطورة الغش الأكاديمي في كونه تواطؤًا على الحقيقة، إذ يُقلب معيار الاستحقاق إلى محاباة، ويُستبدل الجهد بالتحايل. إنّ المشكلة لا تكمن في فعل الغش ذاته فقط، بل في القبول الاجتماعي الضمني له، حين يراه البعض "ذكاءً" أو "حيلة مشروعة"، وحين تتغافل المؤسسات عن مكافحته بدعوى "الظروف" أو "الضغوط".

قال تعالى: ﴿وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة: 42]، وهذه الآية تُجسّد عمق الأزمة، إذ يتحول الخداع إلى لبسٍ بين الحق والباطل، فيضيع العدل، ويُسفَّه الجهد، ويُكافأ المتقاعس بقدر المجتهد.

وفي الذروة الفكرية للمشكلة، يصبح الغش الأكاديمي مؤشّرًا على انحراف المعايير القيمية في المجتمع بأسره؛ إذ يتربّى الطالب على أن "الغاية تبرّر الوسيلة"، وأنّ النجاح يُقاس بالنتائج لا بالنزاهة، في حين أن القرآن يربط بين العلم والأمانة، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾ [النساء: 58].

فالغش خيانة للأمانة العلمية، وخروج عن خط التكليف الإلهي الذي يجعل العلم مسؤولية لا امتيازًا.

إن المشكلة الحقيقية ليست في الفعل وحده بل في القبول به والتبرير له فالمجتمع الذي يبرر الغش يزرع في أبنائه بذور الفساد المستقبلي لأن من يغش في الامتحان اليوم سيغش في العمل غدا ومن يتهاون في الأمانة العلمية سيتهاون في الأمانة المهنية قال تعالى إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها والغش هو خيانة صريحة لهذه الأمانة التي هي أساس العدل وميزان التفاضل بين الناس

تتعدد صور الغش الأكاديمي باختلاف الأزمنة والوسائل. ففي الماضي كان يتمثل في نقل الأجوبة أو سرقة الجهود، أما اليوم فقد أصبح أكثر تعقيدًا مع تطور التقنية والذكاء الاصطناعي، وتفشي ثقافة (الإنجاز السريع) و(النتيجة بأي ثمن).

تظهر الدراسات التربوية أنّ أكثر من 60% من الطلبة عالميًا اعترفوا بارتكاب شكل من أشكال الغش الأكاديمي مرة واحدة على الأقل خلال مسيرتهم التعليمية. هذا الرقم يعكس ليس فقط سهولة الوصول إلى وسائل الغش، بل أيضًا تطبيع السلوك في ثقافة المجتمع.

يمكن تحليل الظاهرة من ثلاثة مستويات:

1. المستوى الفردي:

حيث ينبع الغش من ضعف الوازع الذاتي، وفقدان معنى الأمانة، فيتحول التعليم إلى سباق خالٍ من القيم.

قال تعالى: ﴿بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾ (القيامة: 14)، فكل غاشّ يدرك في قرارة نفسه أنه يخون ميثاقًا أخلاقيًا بينه وبين الله قبل أن يخون مؤسسته.

2. المستوى المؤسسي:

حين تضعف الرقابة أو تغيب العدالة في التقييم، تصبح المؤسسة نفسها بيئة ميسّرة للغش. فإذا لم يُحاسَب الغاشّ، تهاوت ثقة المجتهد بالنظام. هنا يتحقق قوله تعالى: ﴿وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾ (النساء: 58).

3. المستوى المجتمعي:

في هذا المستوى، يصبح الغش نتيجة لتساهل المجتمع وتناقض خطابه؛ فهو يُمجّد التفوق، لكنه قلّما يسائل عن وسيلته. وهكذا يتكوّن جيل يبرّر الفساد الصغير لأنه يرى الفساد الكبير معفيًّا من الحساب.

وتكشف هذه النماذج أن الغش الأكاديمي ليس سلوكًا عارضًا، بل منظومة قيمية مختلة تحتاج إلى معالجة فكرية وروحية متكاملة، لا إلى عقوبة شكلية فحسب.

وعند تحليل الظاهرة من منظور نفسي نجد أن الغش يعكس خوفا من الفشل وضعفا في الثقة بالنفس فبدل أن يكون التعليم مجالا للنضج والتحدي يتحول إلى ساحة للهروب من المواجهة أما من منظور اجتماعي فإن الغش هو نتيجة طبيعية لثقافة تقدس النتيجة أكثر من الطريق وتحتفي بالشهادة أكثر من المعرفة وتربط الكرامة الشخصية بالعلامة الرقمية لا بصدق السعي والجهد ومن منظور مؤسسي نرى أن ضعف الرقابة واللامبالاة في ضبط الامتحانات وتهاون بعض الأساتذة في متابعة الأمانة العلمية يكرس هذه الممارسة ويمنحها غطاء من الصمت المؤسف.

إن القرآن الكريم حين جعل العلم نورا وربطه بالخشية إنما أراد أن يحرر الإنسان من عبودية الغاية إلى حرية الصدق فقال تعالى إنما يخشى الله من عباده العلماء فالعلم لا يكون نورا إلا إذا كان صادرا عن ضمير طاهر ونية خالصة أما العلم الذي يبنى على الغش فهو ظلمة تظلم القلب والعقل والمجتمع

وفي عرض النماذج المعاصرة يمكن أن نرى كيف يتحول الغش الأكاديمي إلى ممارسة مؤسساتية حين تنتشر خدمات إعداد البحوث الجاهزة وشراء الرسائل العلمية ونسخ المقالات من الإنترنت هذه الأشكال الحديثة تمثل مستوى جديدا من الفساد العلمي لأنها تقتل روح البحث وتضعف الثقة بين الأستاذ والطالب كما تفرغ الجامعات من معناها الحقيقي بوصفها بيئة للصدق والإبداع فيتحول المتعلم إلى مستهلك للمعرفة لا إلى منتج لها قال تعالى ولا تبخسوا الناس أشياءهم فالغش بخس لحق المجتهد وعدوان على جهد المخلص

ومن زاوية معرفية فإن الغش في الوسط الاكاديمي يقوض قيمة العلم لأنه يفصل بين المعرفة والعمل ويجعل الشهادة رمزا زائفا للعلم في حين أن القرآن يربط الرفعة بالعلم الحق (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) فليس كل من تعلم حروف العلم صار عالما ما لم يتحل بصدق النية وعدالة السلوك

إن الحل لا يكون في تشديد العقوبة فقط بل في إعادة بناء الوعي الأخلاقي داخل المؤسسة التعليمية فالعدالة التعليمية لا تتحقق بالمراقبة وحدها بل بزرع معنى الأمانة في الضمير وبتحويل التعليم إلى عهد بين الإنسان وربه قبل أن يكون التزاما بين الطالب والجامعة قال تعالى (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) فالإصلاح يبدأ من داخل النفس قبل أن يفرض من الخارج

ولكي تستعيد المنظومة التعليمية نزاهتها لا بد من ترسيخ ثقافة تربوية تجعل الصدق قيمة مركزية وتربط بين التفوق والجهد لا بين النجاح والمظاهر كما يجب تطوير أنظمة تقييم شفافة تمنح المجتهد حقه وتحرم الغشاش من ثمرة جهده وإلا أصبحنا في عالم يقاس فيه العلم بالعلامة لا بالحقيقة وفي ذلك انحراف عن مقاصد التعليم وغاياته العليا

الخلاصة القول أن الغش الأكاديمي ليس مجرد سلوك فردي منحرف بل هو مرآة لأزمة قيمية عميقة تضرب جذور العدالة التعليمية حين يختل ميزان الأمانة تضيع الثقة في المعرفة ويتراجع الإيمان بالحق ويحل محله منطق المنفعة والمصلحة الآنية ولذا فإن مواجهة الغش ليست معركة في قاعة الامتحان بل هي معركة في ضمير الأمة كلها فإذا انتصرنا فيها استعدنا للعلم قدسيته وللعدل مكانته وللإنسان قيمته.

يبقى التعليم مرآة لضمير الأمة؛ فإذا صلح العلم صلح المجتمع، وإذا فسد ميزان الأمانة، انهارت القيم وتحوّل الإنسان إلى أداة. قال تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ (المجادلة: 11)، فلا رفعة بلا صدق، ولا علم بلا أمانة، ولا عدالة بلا مقاومة للغش في كل صوره.

***

ا. م. د. صباح خيري راضي العرداوي

لقد خاضت البشرية على طول تاريخها تجارب طويلة وقدمت تضحيات بالغة لاجل ان تحقق لعيشها على هذه الأرض السلام والآمان ولكي يسود القانون والحقوق والحريات المدنية وكان جهدها في العالم الغربي (أوروبا وامريكا) قد توج بصدور الشرعة الدولية لحقوق الانسان الذي مثلّه الإعلان العالمي للحقوق الصادر في 10 / كانون الأول / 1948 وما تلاه من تشريعات وقوانين دولية، وقوانين خاصة بالدول حول تطوير حق الانسان المطلق في الحياة والكرامة والامن والتعليم والتكامل وأقيمت الحياة المدنية في الغرب على هذه الشرعية، بيد ان اكثر ما ينتقد به الغرب، ازدواجية التصرف فهو من جهة يطبق بحرص لائحة الحقوق في بلدانه ويهدرها عندما يتعامل مع بلدان العالم الثالث او بقية بلدان العالم الأخرى.

اما في العالم الإسلامي فان تاريخ هذه البلدان ينطوي على تراث نظري قيمي رفيع من الحقوق والحريات ممثل بالشرعة الإسلامية التي اسسها القرآن الكريم والتجربة النبوية في معطياتها الفكرية والسياسية والاجتماعية، وسلوك أئمة اهل البيت (ع) سواء كانوا حكاما او معارضين للسلطات او سلوكهم كمواطنين داخل تجربة سياسية.

بيد اننا – بكل اسف يجب ان نعترف بان التجربة السياسية للخلافة الإسلامية (بدءا من العصر الاموي – حتى سقوط الخلافة العثمانية 1924 م) كانت تجربة غير مستقرة من جهة الممارسة الحقوقية وتوفير الحريات المدنية

فقد مرت هذه التجربة بادوار توفرت فيها الحقوق والحريات ولكن الى جنبها كانت فترات  صادرت السلطات هذه الحريات واشاعت سياسات القمع والاستبداد السياسي والديني

لكن ذلك: لم يغير وجهة اعاظم الفقهاء الاحرار واهل العلم والمفسرين والكلاميين عن تأسيس لائحة حقوق مدنية وحريات متوافقة مع الشريعة الإسلامية بحيث أصبحت لائحة حقوقية تفوق الشرعة الدولية.

وهذا يمكّنني من القول ان لائحة حقوق الانسان الإسلامية – نظريا – تنافس اللائحة الدولية التي شرعت عام 1948، والتي استندت الى الفلسفة الليبرالية الفردية وتتفوق على قيم حقوق الانسان والحريات المدنية في ظل الفلسفة الماركسية تستند الى القيم الطبقية ومعطيات الصراع بين الطبقات وصولا الى ما تسميه تلك النظرية المجتمع الاشتراكي

وخلاصة القول: ان الاتجاهات الفلسفية والفكرية المؤسسة لمنظومات حقوق الانسان الراهنة في عالمنا المعاصر ثلاثة هي: فلسفة الشريعة الإسلامية، والفلسفة الليبرالية الفردية، والفلسفة الهيجلية الماركسية.

وايا كان الاختلاف او عدم التوافق في المنطلقات والمسارات والاهداف بين هذه الفلسفات وما ينتج عنها من حقوق وحريات ومصالح إنسانية، فان ما تلتقي عليه كل المنظومات مجموعة أمور منها (الاتفاق على حق الانسان في الحياة، وحق الانسان في اختيار المعتقد والتعبير عنه) فقد ورد في القرآن الكريم قوله تعالى (من قتل نفسا بغير نفس او فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا) [1] وعن النبي الاكرم (صلى الله عليه واله وسلم) قوله (الانسان بنيان الله لعن الله من هدم بنيانه)[2] فكان الانسان هو المحور لأنه صنيعة الله، وهو الذي وهبه الحياة فصار حق الانسان في الحياة حقا فطريا ومن ابرز الحقوق الطبيعية، وحقا شرعيا نصت عليه الدساتير والقوانين فلا يجوز سلب هذا الحق منه – تحت كل الظروف – الا ما نصّ القانون عليه من تدابير وقف الاعتداء على النفس بتشريع القصاص في الشريعة، وان لكل انسان الحق في اتخاذ عقيدة له والاعتزاز بها والتعبير عنها بكل اشكال التعبير شرط عدم الاعتداء على عقائد الاخرين ودياناتهم.

فنصت المادة الثالثة من اعلان حقوق الانسان الدولية 1948(ان لكل فرد حق في الحياة، وحق في الحرية، وحق في الأمان) وجاء في المادة التاسعة عشر من الإعلان (ان لكل شخص حق التمتع بحرية الراي والتعببير ومجتمع مثل هذا تسوده هذه الرؤية القيمية الفلسفية التي تدعو الانسان الى تكريم أخيه الانسان واحترام اختياراته الفكرية.. هو الأصل الذي خلق الله الناس عليه وجعله قانون المجتمع الأول الفطري الذي لم يصب بالتشوهات ولعله هو الذي يجب ان تسعى اليه الجهود الإنسانية المعاصرة في بناء وصياغة المجتمعات المعاصرة فان كانت المجتمعات ذات الثقافة الواحدة فعليها احترام الثقافات الأخرى وان كانت المجتمعات تعددية فيجب ان تتحول التعدديات الفكرية، والعرقية، والدينية، والمذهبية الى تعدديات في التنوع الذي يكّمل بعضه بعضا على وفق نظرية المعرفة النسبية، ويجعل العيش المشترك هو القيمة الارفع والهدف الأكثر إحتراما وعلوا على (المجال المختلف فيه). فالاثنيات على وفق مبدا لا اكراه على عقيدة لاتجبر غيرها على الاعتقاد بما تعتقد بل تحاول جمع المشترك الفكري والعقائدي والتوافق على

(المختلف فيه) بان يكون العيش المشترك هو المهيمن والدافع لفهم معطيات المختلف فيه عقائديا فهما إيجابيا .ولكن واقعنا عكس هذا التصور وهو ما نجده في عالمنا الإسلامي المعاصر فاننا نشهد اشتعال اوار الطائفية المقيتة في بلدان هذا العالم على صعيدين: الديني (مصر انموذجا) والقومي في (المغرب العربي انموذجا) والمذهبي (العراق، سوريا، لبنان انموذجا) ومن هنا عرف العالم الإسلامي المعاصر ازمة احتدام الصراع بين المعتقدات والأعراف فكانت الطائفية بكل تنوعاتها هي المشكلة الراهنة، والطائفية نوعان: طائفية عقائدية، وطائفية سياسية.الطائفية العقائدية: هي توجه حركي يوظف المعرفة الدينية ويحولها الى (ايديولوجيه)[3] غالبا ما تكون متشددة ومحتكرة للحقيقة لصناعة واقع سياسي شمولي، او لتحقيق مصالح دنيوية محددة وتعتمد في ذلك على تاويل غير ملتزم بمنهج برهاني وضوابط الإنتاج المعرفي ويغلب على مثيري الطائفية الدينية انهم ثلاث فئات هم: (بعض رجال الدين) الذين يثيرون عن طريق الفتوى التحريضية ودوافع الصدام و (السياسيون) لحشد الاتباع وراءهم و (الممولون) لاستثمار الأوضاع الناتجة لاستثماراتهم القادمة في ظل جو من الفساد المالي

مما تقدم يظهر ان للطائفية الدينية صلة بالسلطة واتخاذ العمل السياسي سبيلا للغنيمة، وصلة بالتضليل السياسي وصلة بالفساد المالي، والمضمون النهائي لها انها دعوة لاتجاهات متشددة.ويظهر: ان الطائفية الدينية بهذا الوصف ليست اتجاهاً دينياً قيمياً روحانياً ينطلق من الايمان ويهدف الى تعزيز الايمان انما هي توجه سياسي فئوي يسعى لتحقيق مجموعة من المصالح. وتتفرع عن الطائفية الدينية: الطائفية السياسية: وهي عبارة عن ممارسة سياسية تقوم على التمييز بين (المواطنين) على أساس المعتقد الديني والمذهبي في الحقوق والحريات وتنمو: هذه الممارسة حينما تكون السلطة: ذات طبيعة استبدادية فهناك علاقة جدلية بين الاستبداد السياسي وبين الطائفية السياسية فكل يوجد الاخر.وفي الغالب يتم اللجوء للطائفية السياسية عندما تخفق الحركات السياسية في إحكام القبضة على السلطة (ومن تلك التجارب: التجربة المصرية التي انتهت في 30/6/2013، او عندما تفتقد جهة سياسية الى صياغة برنامج وطني للتنمية والتطوير، او عندما تفشل مجموعة حاكمة في تحقيق الانماء او في عموم إدارة الدولة اي ان الطائفية السياسية تعد كهفا للاختباء، او زورق النجاة لمن يفشل في اسعاد الناس او من يمارس سياسات الاستبداد، وبذلك تبدو الطائفية ضداً نوعياً لحقوق الانسان السياسية، فضلا عن انها مضادة للحقوق المدنية، ومحرض نحو سلوكيات العنف فعندما يتحول البرنامج السياسي لمجموعة سياسية من انتهاج سبيل الوسطية والعقلانية الى التطرف والقسرية والتمييز الطائفي فانه سيؤسس لمقدمة تكوين حاضنة اجتماعية وسياسية لممارسة العنف سواء صدر من السلطة (الطائفية) على مواطنيها كفعل كما حصل في سياسات ما قبل 2003، او من المقهورين طائفيا ضد سلطة التمييز الطائفي كرد فعل أي ان دورة العنف العقائدي ستكون عبارة عن (حلقة الفعل العنفي ورد الفعل) وبذلك يصبح العنف تصورا متوقعا وممكنا وناتجا عن التصورات الطائفية.وفكريا فان الطائفية في اول تكوينها تضع الطرف الاخر تحت عنوان أصحاب الرؤية المنشقة ثم تنتقل بهم الى (اتباع البدعة) وتنقلهم من البدعة الى الكفر فتكون الطائفية في مرحلتها الأخيرة شريعة للتكفير ثم تستند الى التكفير حينما تستأصل الاخر.وكما تقسم الطائفية الناس على فرضياتها الى جماعتين جماعة (مع الله) والأخرى (أعداء الله)، وتمنح لمن جعلتهم (مع الله) حق إبادة واستئصال من اسمتهم (أعداء الله) فانها تقسم بلدان الأرض الى ملكوت الله ودولة الشيطان وبذلك تضع الطائفية أساسا دينيا للعنف تحت دواعي اعتقادية او مبررا عقائديا لاستئصال الاخر تحت ذات المبرر.بحيث نستطيع الجزم بان أي مسار طائفي سينتهي الى العنف الدموي وان بدا في اول وهلة خلافا نظريا، وتمييزا طفيفا في الحقوق والحريات والامتيازات، الا انه جنين قابل للتطور ولديه إمكانية ان يتحول الى خطر يهدد وحدة المجتمعات حينما يجهض من فلسفاتها قيم (حقوق الانسان) عند ذاك يسقط (الدين) الذي يمارس بعض اتباعه هذا الاقصاء الاستئصالي من كونه مشروعا حضاريا ربانيا إنسانيا عالمي النطاق ويتحول الى أيديولوجيا متشددة تبيح لمجموعة من القتلة والعصابيين سلوكيات إجرامية إزاء الانسان والحياة، ويختزل الدين في فئة صغيرة تحوله الى مشروع للهدم والابادة ومنشأ للتخلف، ويفتقد اتباع ذلك الدين – حتى غير الطائفيين منهم – الى ذلك النبض الإيماني والروحي والقيمي النبيل ويتحول الى ترقب على أساس الخوف والقلق على الذات وعلى الوجود والحذر من الاخر، فيكون التشكيك بالاخر هو السائد بدل قيم الثقة، والخوف مقابل الاطمئنان النفسي والترقب بدل الانشغال في الإنجاز المدني، والقلق بدل الشعور المستقر بالامن وان كل هذه التهديدات والتحديات ضد الانسان والمدنية تدور حول (حق الانسان بالحياة وبالوجود) وحقه في التفكير والتعبير وبذلك يتضح ذلك القدر الكبير من التضاد بين حقوق الانسان والتورط في الطائفية  ويحبط هذا التورط تماما إمكانية قيام مجتمع المواطنة ويصيب رؤية المواطنة بالخلل المصداقي سعيا وراء مجتمع الجماعات والطوائف والعرقيات الى جانب ما يعقد من المسالك للتفكير ببرامج تنموية لدولة مدنية.. فتنزلق المجتمعات في ظلها الى متاهات الفقر والحرمان والانانية ومجتمع الجريمة، والخفية والمعلنة.ان كل الاخطار التي تعد تداعيات التفكير الطائفي او معطيات للممارسة الطائفية تتعارض أساسا مع الدعوة التي يبشر بها اتباع الديانات انهم حملة قيم الرحمة والرأفة والعدل، وهم من يجلب بركة السماء وهم حاملو القيم الإنسانية فتحولهم الطائفية الى المؤسسين لمجتمع الشقاء، وامارات الحروب ودويلات ديكتاتورية ، ومجتمعات الاحتراب و مجتمع الفقراء الذين يعيشون تحت رحمة اللصوص والقتلة العتاة.

وفكريا: يتحول الفكر الديني – في خضم الطائفية – كتصور نظري الى رؤية تعبوية سياسية تستخدم الدين لتصنع به عقلا ايديولوجيا دوغماتيا احادي الرؤية بكل ما يسعه نطاق هذه الايديولوجيا.عندها تتهيأ ظروف ذلك البلد للدخول في دوامة العنف لذلك فالطائفية هي المقدمة الفكرية الشرطية لتنامي موجات الإرهاب.. ذلك الخطر الكبير و الممنهج على حق الانسان في الحياة وحقه في اختيار عقيدته.ودينيا: فان أي رؤية تعددية تفترض، بل تقر وتدافع عن لا نهائية الطرق الى الله، فالطرق الى الله كما قال العارفون متعددة بتعدد انفاس الخلائق.في حين تفترض الرؤية الطائفية طريقا واحدا يرسمونه هم، فتكون الدولة الطائفية مؤسسة على انكار حق الاخر الديني او المذهبي في انه طريق من الطرق الى الله، وبذلك يحتل الطائفيون الجنة وفردوس الله ويوزعونها غنائما على اتباعهم، وتخصص لخصومهم نار جهنم كمأوى لهم.

اما فلسفيا: فان الفلسفة هي (برهان على موضوع واقع في نطاق الشك) والحال الطبيعي ان كل انسان يرى انه على حق.. ولكن ليس بالضرورة انه امتلك كل الحق، بل ليس بالضرورة ان مخالفيه هم باطل محض وهنا تكمن فائدة النسبية المعرفية.في حين: يرى الطائفيون: انهم يمتلكون الحكمة الإلهية المتعالية وحدهم وبشكل حصري.وبهذه المعطيات: يظهر التضاد الموضوعي بين حقوق الانسان والطائفية.كما يظهر الخطر الواقع فعليا وهو ان الطائفية من مقدمات الإرهاب وإشاعة الرعب، فالإرهاب تنتجه الطائفيات.- وفكريا فانها تشوه عقائدي يصنع مسلكاً تغييرياً بنيوياً شمولياً في مجتمع ما، ويقوم بغسل الادمغة لصنع إنموذج عقائدي واحد يتمتع بالصحة.وانها قيميا: مسلك غير أخلاقي لانه مسلك انتهازي يدخل بسرعة في المناطق الرخوة معرفيا ليملأ الفراغ، ومسلك احتيالي لان ابرز وسائله الاغتيال الجماعي العشوائي للناس اعتمادا على نظرية التترس كما سماها الغزالي.وهنا لابد من الإشارة الى ان زمن التأسيس للطائفية في الوسط الإسلامي هو زمن قديم لكن انتاج الطائفية المعاصرة للارهاب المعاصر نشا من جراء المنهجية النصية التلقينية الحرفية التي عمت مدارس (الحجاز) ذات المسلك الوهابي ثم اتجهت الى المناطق الرخوة (كالسودان وأفغانستان) تحت علم ورعاية ودعم المخابرات الامريكية في تجربة طالبان وتجارب المجموعات السلفية في المغرب العربي.ومن حرب المتشددين في أفغانستان ضد السوفييت نشأت ثقة موهومة ان التشدد والطائفية موجه دينية مقابل التطور الحضاري الإنساني وفي حربهم الثانية ضد الامريكان تحولت طائفية الإرهاب من حركة محلية الى نظرية عمل عالمية سرعان ما اتسع نطاقها.وتشير خارطة معهد (Rand) الى انها اسست حول اوروبا والجمهوريات السوفياتية سابقا حزاما هجوميا خطرا فهي تتوجه مرة أخرى لضرب روسيا بعد ان تطلعت الأخيرة لدور دولي، وتصر على حربها الصورية ضد الغرب وتركز على ضرب المسلمين في بلدانهم لمجرد انهم يختلفون معهم في التفاصيل الفرعية.اما القوى الغربية: التي اشرنا الى تعاملها المزدوج مع قيم حقوق الانسان فإنها تتعامل هي الأخرى مع الإرهاب على أساس ما يحققه لها من معطيات ومن تلك ان الإرهاب والطائفية تحول دون إقامة تجارب دستورية في بلدان العالم الإسلامي ، وتؤسس لإقليم جيو سياسي متوتر يصرف ثلث ايراداته على برامج مكافحة الإرهاب، ويضعف الإرهاب الناتج عن طائفية سياسية قوة الممانعة لدول العالم الإسلامي المجابهة للتمدد الغربي في النفوذ واستنزاف تجارة العالم المتقدم لثروات وفرص التنمية في دول العالم الفقير.وهكذا يعوّق الإرهاب سياسات الطاقة التي هي ثروة المسلمين الحالية والمستقبلية باعتبار ان هذه الدولة منتجة للطاقة، بناء هذا العالم ويكسر ارادتها في امتلاك التقنيات المتقدمة لتحديث التجربة المدنية.كيف نواجه الطائفية في العراق ؟ لعل هذا السؤال هو اهم ما يجب ان نفكر فيه تفكيرا جادا ونضع له تصورا اولياً.

سبل المواجهة:

ان تضع المؤسسات الاكاديمية الإسلامية في العراق، والاقسام العلمية في الكليات ذات التخصصات الإنسانية حقائق أساسية كمنطلقات لمشرع وطني (فكريا وفلسفيا)، ثم يتحول هذا التصور الى برامج عمل تدريسية، وثقافية، ليكون البلد على أعتاب صناعة العقل السياسي الوطني غير القابل للانزلاق بالطائفية وذلك:

ا/ ان نقوم بمراجعة المقررات الدراسية (للمراحل كافة) والتشديد على قيمة الانسان التي تعلو على القيم الاخرى.

ب/ إزالة كل الإشارات التي تشجع على الغلو في التصور الفئوي او المذهبي او الديني او الجهوى على حساب (حق الانسان في الحياة وحقه في اختيار العقيدة).

تشريع قانون يجرّم الخطاب الطائفي، والدعوات التحريضية ضد السلم الوطني، ويعاقبها عقابا رادعا أيا كانت الوسائل التي تتوسل بها.

إصدار الفتاوى الدينية التي تحرّم أي خطاب تحريضي وطائفي وتجيز للسلطات محاسبة أصحابه ومعاقبتهم ومنعهم من تشويه الوعي وبث صناعة الموت.

دعوة المؤسسات الثقافية وصناع الراي العام ومنظمات المجتمع المدني الى المساهمة الخلّاقة في حملة (عراق بلا طائفية) ببرامج فاعلة، لان الطائفية لا تكون بديلا عن الوطن ولا تبني وطنا وان يخطط لهذه الحملة وتنفذ على مراحل.

مد الجسور مع المؤسسات الدينية في العالم الإسلامي كالازهر الشريف والعالم اجمع كالفاتيكان والمساهمة في المسعى الى تقارب الأديان وتعارف الثقافات وتأصيل الحوار والتفاهم والتضامن مع حقوق الانسان.

المساهمة في حملة دولية حقوقية لتجريم الدول والجماعات المثيرة للطائفية والإرهاب، والممولة لها ومقاضاة هذه المؤسسات في القضاء الدولي واعتبارها من جرائم الإبادة، او الجرائم ضد الإنسانية او التطهير العرقي.

واعتقد: ان هذه الإجراءات ضرورية للمواجهة الحالية لان بلدان عالمنا الإسلامي تتهاوى الواحدة تلو الأخرى في دمار العبث بمصائرها ومستقبلها من فئات جاهلة ومعصوبة العين والعقل وغير قادرة على التفكير الجاد، لم تجد وسيلة للتعويض عن بلادتها ومعنويتها الا إشاعة التشدد الطائفي بوصفه عنصر (سرابي جاذب) لمجموعات يسهل التغرير بها.

***

ا. د. عبد الأمير كاظم زاهد

........................

[1] سورة المائدة /اية (32)

[2] تخريج الاحاديث والاثار  1/346

ظ تخريج احاديث الكشاف  1/346

[3] الأيديولوجيا: صياغة معرفة محمّلة بمهام وظيفية لصالح فئة او هي وعي مقلوب كما يقول جورج طرابيش

ظ: مصائر الفلسفة في الأديان الثلاثة ص 4

لم يكن ميلاد مراد وهبه قبل مئة عام مجرد حدث في سجل الزمن، بل كان ولادة عقل سيصبح لاحقا واحدا من أكثر العقول العربية تمردا على المألوف، وأشدها إصرارا على أن تسير الفلسفة في الشارع لا في الرفوف. جاء في لحظة كان فيها العقل العربي يخاف الأسئلة، فتجرأ على طرحها. وفي زمن كانت فيه الحقيقة حكرا على أصحاب السلطة، فانتزعها منهم ووضعها فوق طاولة النقاش. لم يكن فيلسوفا ينتظر أن يتغير العالم من حوله، بل كان هو من يطرق جدرانه، ويهز يقيناته، ويضيء زواياه التي أطفأها الخوف.

حين نقترب من مئوية مراد وهبة، ندرك أننا لا نحتفل بعمر رجل، بل نحتفل باستمرار صراعا بدأ منذ قرون. معركة خاضها ابن رشد ضد فقهاء زمانه، ويخوضها مراد وهبة اليوم ضد الأصوليين وجماعات الإسلام السياسي.

المشهد ذاته يتكرر عبر الزمن، لكن الأسماء وحدها هي التي تتغير. كما نفي ابن رشد وأحرقت كتبه، تعرض مراد وهبة للفصل من الجامعة، ومنع من التدريس عامين كاملين، لأن العقل الحر في عالم يخشى التفكير جريمة لا تغتفر.

وكما رد ابن رشد على تهافت الفلاسفة بكتابه العظيم تهافت التهافت، سخر مراد وهبة من الذين يحتكرون اليقين وسماهم «ملاك الحقيقة المطلقة»؛ ووهو اسم إحدى مؤلفاته الهامه..ذلك اللقب الذي يكشف جوهر المعركة: حرب بين من يرى الحقيقة أفقا واسعا مفتوحا، وبين من يختزلها في رأي واحد جامد لا يتغير

مئة عام مرت على ميلاد الفيلسوف الذي ظل يحاول ان يوقظ فينا شهوة التفكير، ويعيد للعقل مكانته المفقودة في حضارتنا المنهكه

 لم يكن مجرد استاذ فلسفة، بل مشروع نهضوي كامل يمشي على قدمين، يسعى الى ان يعيد للعرب ما فقدوه منذ قرون: القدرة على التفكير الحر.

مراد وهبه هو ذلك الصوت الحاد الذي اصطدم مرارا بجدران الجمود، ولم يمل، ولم يهادن. امن بان التنوير ليس رفاهية، وبان العقلانية ليست خيارا تجميليا، بل شرط الوجود الانساني ذاته. وفي لحظة كان فيها العقل العربي محاصرا بين التطرف والانكفاء، خرج وهبه ليقول عبارته الشهيرة: لا نهضة بلا عقل، ولا عقل بلا حرية، ولا حرية بلا فصل بين الدين والسياسة.

كان يرى ان معركتنا الكبرى ليست مع الواقع، بل مع طريقة التفكير التي تصنع هذا الواقع. لذلك دعا الى نزع القداسة عن الافكار، والى اخضاع كل شيء دون استثناء لمبدأ الشك. فالحقيقة عنده ليست ميراثا جاهزا، بل رحلة في المجهول، وان التفكير هو الفعل الاخلاقي الاول.

ولم يكن التنوير عنده مجرد تنظير اكاديمي؛ فقد حاول ان يمنحه جسدا ومؤسسة، فاسس مؤسسة ابن رشد للفكر الحر، بوصفها مساحة تجتمع فيها العقول التي تؤمن بان الحضارة لا تبنى باليقين المغلق، بل بالنقاش المفتوح. كانت المؤسسة امتدادا طبيعيا لفكر الرجل، ومنصة تعاون فيها مفكرون واكاديميون واعلاميون بهدف احياء سؤال التقدم في عالم عربي انهكته الازمات.

لقد امن وهبه بان تحرير العقل هو الخطوة الاولى نحو تحرير المجتمع، وبان ابن رشد ليس مجرد رمز تاريخي، بل وصفة انقاذ: ان نعود الى جذوة العقل التي اطفئت يوم احرقت كتبه، وان نعيد وصل ما انقطع بين الفلسفة والحياة، بين الايمان والحرية، بين الانسان وقدرته على التفكير.

ومن هنا كان إصراره على استعادة ابن رشد؛ ليس بوصفه صفحة من التاريخ، بل بوصفه قوة فكرية حية، ما زالت قادرة على خوض المعركة إلى جانبنا.

فمعركتنا اليوم كما يرى وهبة ليست إلا امتدادا لمعركة ابن رشد: مقاومة الجمود، والانتصار للعقل، والدفاع عن حق الإنسان في التأويل.

والتأويل عند مراد وهبة ليس لعبة لغوية، بل مبدأ وجودي:

إنه الامتناع عن التكفير، لأنه يفتح الباب للتعدد، ولإمكان أن يكون للعقل أكثر من بديل وأكثر من طريق.

العقل الذي يكتفي ببديل واحد يسقط في الدوغمائية، يتوهم أنه يملك الحقيقة المطلقة، وحين يقع في هذا الوهم يتوقف التطور، ويُغلق المستقبل أبوابه.

 التأويل كما يفهمه مراد وهبه هو رحابة، تسامح، واعتراف بأن الحقيقة لا تنزل على عقل واحد، ولا تختصر في رأي واحد، ولا يمكن أن تختذل في نصٍ مغلق.

وهكذا تصبح الرشدية المعاصرة دعوة إلى التحرر، وإلى أن نعيد للعقل قدرته على تنويع البدائل، وعلى مواجهة العالم بلا خوف.

وها نحن اليوم، في ذكرى ميلاده المئوية، نقف امام ارثه لا لنجله فقط، بل لنسال انفسنا:

هل نستطيع ان نحمل المشعل من بعده؟

هل ما زال لدينا الشجاعة لطرح الاسئلة التي كان يطرحها؟

ام اننا ما زلنا ندور في الدائرة نفسها التي حاربها طوال حياته؟

في النهايه. يظل مراد وهبة واحدا من القلائل الذين حملوا  مشعل التنوير دون أن ترتعش أيديهم.

مائة عام قضاها وهو يقف في الصفوف الأولى للمعركة من أجل أن يبقى العقل حيا، وأن تبقى الفلسفة في قلب الحياة، لا في أطرافها.

سلام على هذا الرجل الذي أعاد للرشدية أنفاسها، وللعقل العربي حقه في السؤال، وللفكر مساحته التي يستحقها.

ان حديثي اليوم عن الفيلسوف الكبير مراد وهبه ليس استدعاء لماض بعيد، بل محاولة لاستعادة بوصلة فقدت.

فهذا الرجل لم يكتب ليصفق له احد… بل كتب ليحررنا من الخوف، وينتزع من اذهاننا وهم المسلمات، ويذكرنا دائما بان الحضارة تولد حين يجرؤ الانسان على ان يقول: لماذا؟

في مئويته…

نقول له: شكرا لانك ظللت واقفا في وجه الريح.

شكرا لانك كنت ضوءا حين كان الظلام سيد الموقف.

في مئويته، لا نحتفي برجل تجاوز العمر، بل بفيلسوف تجاوز زمنه. لا نحتفل بمن عاش مئة عام، بل بمن منح هذه الاعوام معناها.

لقد ترك مراد وهبه لنا ما هو ابقى من السيرة وما هو اكبر من الاعمال: ترك لنا سؤالا مفتوحا لا يموت، وسعيا لا يتوقف، وجرأة لا تنكسر امام سلطان او خطاب او جماعة.

وحتى لو غاب جسدا سيظل الفيلسوف مراد وهبة حيا في وعينا لا بذكراه، بل بما ايقظه فينا من شغف لا ينطفئ نحو النور.

***

ابتهال عبد الوهاب

 

التعاسة هي حالة من الشعور بالضيق والحزن، وهي قد تنجم عن عوامل مختلفة ومتعددة، مثل فقدان إنسان عزيز، أو فقدان عمل، اوالفشل والخيبة، كل هذه العوامل يمكن أن تؤدي الى شعور الإنسان بالتعاسة، والواقع أن التعاسة هي جزء من منظومة الحياة الإنسانية ، وهي تجربة إنسانية معقدة، ومتعددة الأوجه، تشمل جوانب نفسية، وإجتماعية، وفلسفية، وإن التعامل مع التعاسة، وإيجاد حلول لها قد شكل تحدياً كبيراً للإنسان منذ القدم، وفي هذا السياق برزت الفلسفة بوصفها أداة تُقدم حلولاً للتعاسة، وكيفية التعامل معها، بوصفها حالة إنسانية يتعرض لها البشر في بعض مراحل حياتهم،ويعتبر الفيلسوف الرواقي (أبكتيتوس)، أحد أشهر الفلاسفة الذين كتبوا عن التعاسة، وبينوا أسبابها، وطرق النجاة منها، حيث كان له رؤية فلسفية خاصة، أشار أبكتيتوس من خلالها الى أن التعاسة تأتي من محاولة الإنسان السيطرة على ماهو خارج عن إرادته، مثل الأحداث الخارجية والممتلكات، فالتعاسة  ليست بسبب الأشياء، بل بسبب أفكارنا عنها، بينما يكمن السلام الحقيقي في التركيز على مايمكننا التحكم فيه، وهو أفكارنا وأفعالنا، لذلك فإن الشقاء ينبع من التعلق بالأمور الخارجية، ورغبتنا في السيطرة عليها، بينما السعادة الحقيقية تكمن في تقبل ما يحدث لنا، دون شكوى، لأنها تمنحنا الحرية الداخلية والسلام النفسي.

قدمت الكاتبة، والمفكرة (جولي ترمبلاي)، في كتابها  (الفلسفة علاجاً للتعاسة) ، رؤية فلسفية حول كيفية التعامل مع المشاعر السلبية، والأزمات النفسية من خلال الفلسفة، وكيف يمكن للفلسفة ان تكون علاجاً للتعاسة،حيث تشير جولي ترمبلاي الى أن الفلسفة يمكن أن تكون أداة قوية للتغلب على التعاسة، وتشرح الكاتبة كيف ان الفلسفة ساعدتها على رؤية العالم بمنظور مختلف، وفهم المغالطات المنطقية، والأخطاء والأوهام التي يعيشها الإنسان، وتقدم رؤى فلسفية متعددة، حول كيفية التعامل مع هذه الجوانب المختلفة من الحياة،وتؤكد جولي ترمبلاي ان الفلسفة ليست مجرد مجموعة من الأفكار المجردة، بل هي أداة عملية فعالة يمكن إستخدامها لتحقيق أهدافنا وتحسين حياتنا، ومن خلال الفلسفة يمكن أن نصبح أكثر وعياً بذواتنا وقدراتنا، وأكثر قدرة على مواجهة تحديات الحياة.

وختاماً نقول ان الفلسفة يمكن ان تكون علاجاً فعالاً للتعاسة، وللعديد من المشكلات الفكرية التي يواجهها الإنسان في حياته اليومية، وتقدم لنا أدوات لتغيير وجهة نظرنا، من خلال التفكير النقدي، و التحليل المنطقي، ورفع مستوى الوعي الفكري، وفي هذا السياق، يمكن للفلسفة أن تكون أداة فلسفية علاجية قوية للتغلب على التعاسة، وتحقيق السعادة والرضا.

***

شيماء هماوندي

في يناير (كانون الثاني) 1998 نشر الدكتور عبد الصبور شاهين كتابه «أبي آدم... قصة الخليقة بين الأسطورة والحقيقة»، فأثار ضجة واسعة بين الملتزمين بالرؤية التقليدية للخلق. ورفعت دعاوى عديدة أمام المحاكم، طالب بعضها بمنع الكِتاب ومصادرته، وطالبت أخرى بالحكم على المؤلف بالردة أو الاستتابة من الكفر. ونقل شاهين طرفاً من هذا الجدل في الطبعات التالية للكتاب.

لم يكن شاهين متخصصاً في البيولوجيا أو الوراثة أو تاريخ الإنسان. ولذا يصعب اعتبار عمله علمياً، من هذه الزاوية. لكنه خبير في اللغويات والتراث الإسلامي. وقد استثمر خبرته في إعادة تفسير القرآن والسنّة النبوية، للتدليل على رؤيته المعارضة للفهم الموروث لقصة الخلق الأول. وهو يرجع اهتمامه بهذا الموضوع إلى رغبته في تنظيف التراث مما أسماه التفسيرات المتأثرة بالإسرائيليات والخرافة، بالاعتماد على قراءة جديدة لمصادر الدين نفسه. يقول في مقدمته للطبعة الثانية:

«أردت أن أدق رأس الأفعى الإسرائيلية اللابدة في الثقافة الإسلامية القديمة، ممثلة فيما سمّي بالإسرائيليات، وهي لا تعدو أن تكون أساطير خرافية، تسللت إلى الفكر الإسلامي، وإلى عقل الإنسان المسلم، فاعتمدها أئمة من أهل التفسير. ومن خلال تلك التفاسير، سكنت في منطقة المسلمات من العقل المسلم، وهي في الواقع أفعى إسرائيلية، اعتنقها كثير من الرجال ممن لم يعملوا عقولهم في تحليل نصوص القرآن».

الفرضية المحورية للكتاب هي التمييز بين البشر بوصفهم جنساً قديماً، والإنسان بوصفه جنساً حديثاً. وقال إن آدم ابن لرجل وامرأة من البشر، وهو أبو الإنسان وليس أبا البشر، ويتميز الإنسان عن سلفه البشري بما ذكره القرآن من أوصاف، منها العقل وحسن التقويم واحتواؤه نفحة من روح الله، وهذه كانت مفقودة في البشر السابق له.

حديث الدكتور شاهين هذا ليس الأول في نوعه. لكن على الأرجح، إنها المرة الأولى التي نشهد فيها عالماً مسلماً يعارض علناً التفسير المتوارث لقصة الخلق، مستنداً إلى النص الديني نفسه. وهو في هذا يواجه كل المفسرين والمؤرخين المسلمين.

ويبدو أن شاهين لم يتوقع رد الفعل العنيف الذي قوبل به، فهو أكاديمي عريق، وكان إماماً لمسجد شهير في القاهرة. ولهذه المناسبة قالت الصحف المصرية إنه شرب من الكأس ذاتها التي سقاها زميله د. نصر حامد أبو زيد، الذي كان قد اقترح قراءة جديدة للنص القرآني، على ضوء «الأفق التاريخي للمتلقي»، وهو المنهج المعروف بالهرمنيوتيك الفلسفي، الذي يركز على مبدأ التواصل بين النص والقارئ، وإمكانية العبور من اللفظ الظاهر إلى الرسالة الداخلية التي يختزنها النص. المضمون الداخلي -وفقاً لهذه الرؤية- متعدد المستويات، ويتأثر فهمه بالظرف الخاص للقارئ، أي ظرفه الزماني والاجتماعي والتحديات التي يواجهها، فضلاً عما يتوقعه من وراء القراءة.

تفجرت قضية أبو زيد حينما قدم طلباً للترقية إلى رتبة أستاذ في جامعة القاهرة. فقرأ شاهين أبحاثه، وقرر أنها تنتهك قواعد التفسير والكلام الديني، وتساوي بين كلام الله وكلام خلقه وتسمح بنقد القرآن. وقيل إنه سرَّب هذه الاتهامات إلى الصحافة، التي حولت أبو زيد إلى مرتد ومناوئ للدين في نظر عامة الناس. ثم أتبع هذا بدعوى أمام المحكمة، تطلب إعلان ردته وفسخ زواجه ومصادرة أمواله، مما اضطر أبو زيد لهجران بلده إلى هولندا، حتى وفاته قبل شهرين من وفاة غريمه.

قبل كتابه «أبي آدم» التزم عبد الصبور شاهين بأعراف التيار الديني التقليدي. ولم يظهر ميلاً واضحاً لمراجعة التراث الإسلامي أو نقد الأفهام الموروثة. في شبابه المبكر ترجم كتابين لمالك بن نبي، يتضمنان رؤية نقدية للثقافة السائدة. لكنه سرعان ما اختلف معه. ولذا يمكن القول إن «أبي آدم» كان استثناء في المسار العام لمنهجه الفكري، خصوصاً دعوته للتحرر من تقاليد قدامى المفسرين. هذه الدعوة تقارب رؤية نصر حامد أبو زيد. فهل كانت معركته معه مدخلاً لتغيير رؤيته لمنهج التفسير بشكل عام؟

***

د.  توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

لم تكن السيادة الوطنية يومًا مجرد سيطرة على حدود جغرافية أو فرض إرادة عسكرية، بل ظلّت، عبر التأريخ، ترتبط أيضًا بما هو أعمق وأبقى، التحكم في الوجدان الجمعي، والقدرة على تشكيل الوعي الثقافي للشعوب، وفي العصر الرقمي، اتّسعت هذه المعادلة لتدخل مجالات جديدة لم تكن تُؤخذ بالحسبان، حيث بات الفضاء الافتراضي مجالًا لتحديد الهوية، وإعادة صياغة القيم، وترتيب الأولويات، وتوجيه السلوك اليومي للأفراد والمجتمعات. وهكذا، لم تعد الثقافة رقمًا هامشيًا في الحسابات السياسية، بل غدت أداة تأثير لا تقل خطرًا عن الأسلحة التقليدية، ولا تقل فاعلية عن الاقتصاد في صناعة النفوذ.

تعيش البشرية اليوم لحظة فارقة في تأريخها الثقافي، لحظة تُعاد فيها صياغة العلاقة بين الإنسان والمعلومة، بين الوعي والآلة، بين الذات والآخر، وبين المواطن والدولة. وفي قلب هذا التحول العاصف تقف (الثقافة الرقمية)، لا بوصفها مجرد وسيط أو قناة جديدة، بل كمنظومة متكاملة لإنتاج المعنى وتوزيعه وإعادة تدويره. لم يعد السؤال اليوم عن قدرة الشعوب على إنتاج ثقافتها، بل عن قدرتها على حماية وعيها من التلاعب، وصون ذاكرتها من التذويب، والحفاظ على استقلالها الرمزي في عالم باتت فيه الحدود الوحيدة هي تلك التي ترسمها الخوارزميات.

في المجتمعات العربية على وجه الخصوص، يتّخذ هذا التحدي بُعدًا مركّبًا. إذ أننا نعيش واقعًا ثقافيًا هشًا، يرزح تحت وطأة أزمات متراكمة: ضعف البنى التحتية الثقافية، تراجع دور المؤسسات التعليمية والتربوية، غياب المشروع الثقافي الشامل، وتراجع دور المثقف المستقل لصالح نُخب تابعة أو صامتة. وفي هذا المناخ، إقتحمت الثقافة الرقمية حياة المواطنين، لا من بوابة المعرفة أو التنوير، بل غالبًا من باب الترفيه السطحي والمحتوى السريع والمرئي، الذي يركّز على الإنفعال لا العقل، ويُشجّع على النسيان لا الفهم، ويقدّم صورة زائفة عن الواقع بدلًا من تحليله أو تغييره.

ليس من المبالغة القول إن ما يُعرض على المنصات الرقمية العالمية، التي تتصدرها شركات كبرى مثل (ميتا) و(غوغل) و(إنستغرام) و(توك تك)، يشكّل في كثير من الأحيان (ثقافة بديلة)، تسحب البساط من تحت أقدام الثقافة الوطنية، وتقدّم للأجيال الجديدة نماذج وأفكارًا وسلوكيات لا تنتمي إلى محيطهم ولا تُعبّر عن همومهم، بل تستهدف تحويلهم إلى مستهلكين في سوق عالمي لا يعترف بالهويات الصغيرة، ولا يقدّر الخصوصيات المحلية. بهذه الطريقة، تصبح الثقافة الرقمية قناة لتكريس الهيمنة الرمزية، حيث لا تُفرض السيطرة بالقوة، بل بالإقناع، لا بالتخويف، بل بالإغواء، لا عبر القمع، بل من خلال رغبات الجماهير نفسها.

يُضاف إلى ذلك أن هذا النوع من الهيمنة لا يُمارَس بالضرورة من قِبل دول بعينها، بل من خلال نمط عالمي للإنتاج الثقافي تُحدّده الخوارزميات، وتتحكّم فيه معايير (الترند)، و(المشاركة)، و(عدد المشاهدات)، وكل ما من شأنه أن يُحوّل الثقافة إلى منتج استهلاكي سريع الزوال. في هذا السياق، تُهمَّش القضايا الجادة، وتُسخَّف الموضوعات العميقة، ويُدفع بالجمهور نحو محتوى لا يحرّك الفكر بل يُخدّره، ولا يثير الأسئلة بل يُكرّس الإجابات الجاهزة.

من هذا المنظور، فإن الحديث عن السيادة الوطنية في زمن الثقافة الرقمية لا يمكن أن ينفصل عن سؤال (من يملك المنصة؟)، و(من يُنتج الخوارزمية؟)، و(من يُحدّد ما يجب أن يُشاهد؟). فالمعادلة هنا لم تعد بسيطة، بل تُبنى على بنية معقدة من التبعية التقنية، والهيمنة الثقافية، والتفاوت الاقتصادي، الذي يجعل المجتمعات غير القادرة على إنتاج منصاتها أو حماية بياناتها عرضة لتشكيل وعيها من خارج حدودها. وما يُضاعف من خطورة هذه المسألة هو أن الجيل الجديد، الذي وُلد ونشأ في كنف الإنترنت، لم يعد يتعامل مع هذه المنصات كمصادر محتملة للمعلومة، بل كمرجعية مطلقة، وكسلطة ثقافية موازية أو بديلة عن المدرسة، والأسرة، والكتاب، والمجتمع.

إن أكثر ما يثير القلق في هذه المعادلة هو أن الدولة، في كثير من الأحيان، تبدو كأنها غائبة أو عاجزة عن مواكبة هذا التحول. فبينما تتسابق القوى العالمية الكبرى لتطوير أدواتها الرقمية، وتعزيز حضورها الثقافي عبر الإنترنت، نجد أن الدول العربية ما زالت تتعامل مع المسألة الرقمية إما من زاوية أمنية ضيقة تقتصر على الحجب والرقابة، أو من خلال محاولات خجولة لإنتاج محتوى بديل لا يصل إلى مستوى المنافسة الحقيقية. بل إن بعض المؤسسات الرسمية تتعامل مع الثقافة الرقمية كأمر ثانوي أو ترفيهي، لا كأحد أركان الأمن القومي. وهذا خلل إستراتيجي لا يمكن تبريره، في وقت بات فيه التأثير في الفضاء الرقمي أكثر فعالية من أي وسيلة إعلامية تقليدية.

ليس المطلوب بالضرورة أن تملك الدول منصاتها الخاصة على غرار الصين أو روسيا، وإن كان ذلك خيارًا إستراتيجيًا مهمًا لبعض الحالات. لكن المطلوب بالحد الأدنى أن تُعيد الدولة النظر في سياساتها الثقافية، لتضع في أولوياتها دعم المحتوى الرقمي الوطني، وتشجيع الإبداع المحلي، وتحفيز الشباب على إنتاج سردياتهم الخاصة بلغتهم وأساليبهم، بما ينسجم مع خصوصياتهم ولا ينفصل عن روح العصر. فالحفاظ على السيادة لا يعني الانغلاق، بل يتطلّب التفاعل الذكي مع العالم، ضمن قواعد تحترم الهوية ولا تفرّط بها.

المدهش في هذا السياق هو أن الإمكانيات التقنية متوفرة أكثر من أي وقت مضى، والطاقات الشبابية موجودة، لكنها غالبًا ما تُهدر بسبب غياب الرؤية الاستراتيجية، وإنعدام التنسيق بين المؤسسات، وإفتقار المشهد الثقافي إلى روح المبادرة. وما يزيد الطين بلّة أن بعض الفاعلين في المجال الثقافي يتعاملون مع الفضاء الرقمي بآزدراء، أو ينظرون إليه كفضاء تافه، في حين أن خصومهم من صناع المحتوى التجاري أو السياسي فهموا منذ زمن، أن المعركة الحقيقية تُخاض على الشاشات الصغيرة، لا في صالات العرض أو قاعات الندوات.

ومن المؤسف أن غياب البدائل الجادة يدفع فئات واسعة من الجمهور العربي إلى تبني أنماط تفكير وقيم ومفاهيم لا تنتمي إلى بيئتهم، بل تتسلل إلى وعيهم بطرق غير مرئية. فالمسلسلات المدبلجة، والمقاطع الكوميدية، والألعاب الإلكترونية، ومنصات الفيديو القصير، كلها تُعيد تشكيل تصورات الناس عن الجمال، والنجاح، والأسرة، والدين، والجنس، والوطن، بل وعن أنفسهم. وهذا ما يجعل الثقافة الرقمية اليوم أشبه بـ(سلاح ثقافي ناعم)، يُستخدم لتفكيك المجتمعات من الداخل، لا بالقوة، بل بالإقناع البطيء.

ومع كل ذلك، فإن الصورة ليست قاتمة بالكامل. فما زالت الفرصة قائمة لبناء مشروع ثقافي رقمي عربي قادر على المنافسة، شريطة أن يتم تجاوز النظرة التقليدية للثقافة، وأن يُفتح المجال أمام المبادرات الشبابية، وأن تُستثمر الطاقات الكامنة في الجامعات، والمعاهد، ومراكز الأبحاث، والمجتمعات الرقمية الوليدة. ذلك أن السيادة الحقيقية، في عالم اليوم، لم تعد تُقاس فقط بمدى إمتلاك الموارد الطبيعية أو القدرات العسكرية، بل أيضًا بمدى القدرة على إنتاج سردية وطنية، رقمية، جذابة، تحاور العالم من موقع الندّية لا التبعية، وتُقدّم صورة صادقة عن الإنسان العربي لا صورةً مشوّهة أو مسطّحة.

في النهاية، يمكن القول إن معركة السيادة الوطنية في الزمن الرقمي هي في جوهرها معركة على الوعي، على اللغة، على الذوق، على الرموز، وعلى طريقة فهم الذات والعالم. وهي معركة لا تُخاض بالصدفة، ولا تُربح برد ألف. بل تحتاج إلى رؤية، وإستراتيجية، وإرادة. فإما أن نكون فاعلين في تشكيل الوعي الرقمي الجديد، أو نُترك لغيرنا ليصوغ وعينا بالنيابة عنا. وفي الحالتين، لا يمكن للزمن أن ينتظرنا طويلًا.

***

د. عصام البرّام - القاهرة

في المثقف اليوم