قضايا

تاريخ الأدب السوفييتي مليء بالحوادث المأساوية والمحاولات المدهشة لتجاوز الحواجز الأيديولوجية. الرقابة المتزمتة أجبرت الكتاب على التفنن في استخدام الرموز والمعاني المبطنة. وأدى حظر نشر عدد كبير من الأعمال الأدبية الرائعة لأسباب أيديولوجية، إلى البحث عن طرق بديلة لنشر النصوص الأدبية سراً، على يد الكتّاب والمثقفين الروس المنشقين. هكذا ظهرت ساميزدات (النشر الذاتي السري) – إحدى أكبر وأهم الظواهر في الثقافة الروسية في القرن العشرين. كانت تلك النصوص مكتوبة بخط اليد، أو مطبوعة على الآلة الكاتبة وغير خاضعة للرقابة، ثمًّ تستنسخ وتوزع وتنتقل من يد إلى يد خارج سيطرة المؤلف، وقد حاول المواطنون السوفييت صنع آلآلات الكاتبة بأنفسهم تجنبا للمخاطر الأمنية، فقد كان على أصحاب الآلات الكاتبة تسجيلها لدى جهاز الأمن السري، وترك عينة مطبوعة لديه. عندما يعثر رجال الأمن على منشورات أو أدبيات مناهضة للسلطة، يمكنهم تحديد الآلة الكاتبة التي طُبعت عليها تلك المواد. مع تطور التكنولوجيا، بدأ استخدام آلات الاستنساخ من التصاميم المبكرة، وأجهزة التسجيل وغيرها، وخلال سنوات البريسترويكا، تم استخدام أجهزة الكمبيوتر أيضاً.

عشية انهيار النظام السوفييتي، عندما تم تخفيف القمع والاضطهاد والرقابة الرسمية على المطبوعات تدريجياً، أصبحت ساميزدات وسيلة بديلة تعمل بالتوازي مع المجلات الأدبية ودور النشر الحكومية.

يُعرّف الكاتب الروسي المنشق فلاديمير بوكوفسكي (1942-2019) هذا المصطلح باختصار في مذكراته: « أنا أقوم بتأليف نصوصي، وتحريرها، ورقابتها، ونشرها، وتوزيعها بنفسي، وأسجن بسبب ذلك». ويرى بوكوفسكي أن ساميزدات ظاهرة ثقافية ترتبط بدايتها بقصائد الشعراء المحظورين والمنسيين والمقموعين، التي لم تسمح الرقابة بنشرها في المجلات الأدبية ـ التي كانت كلها خاضعة لسيطرة الدولة. يثمن هذا الكاتب المنشق دور الآلة الكاتبة، التي حلت محل مكائن الطباعة، وأدت إلى شكل جديد من أشكال نشر النصوص، حتى إنه اقترح إقامة نصب تذكاري لها. فقد كانت «ساميزدات» الشكل الوحيد الممكن للتغلب على احتكار النظام السوفييتي لوسائل الإعلام ودور النشر والمطابع.

لم يكن الهدف الرئيسي لحركة الانشقاق هو محاربة النظام بقدر ما كان تجاهل أوامره وتعليماته. الانشقاق نموذج لسلوك شخص حر داخلياً، يعيش في مجتمع غير حر. أصبحت ساميزدات آلية لتحقيق واحدة من أهم الحريات المعترف بها من قبل المجتمع الدولي – حرية التعبير. لذلك، يسميها ناشطو حقوق الإنسان الأداة الرئيسية لحركة الانشقاق.

ثقافة مضادة

كانت ساميزدات لعدة عقود من التاريخ السوفييتي ثقافة مضادة، أي ظاهرة ثقافية ترفض قيم الثقافة الرسمية السائدة في البلاد. كما كانت أحد العناصر الأساسية في حياة المجتمع الذي لم يقبل الواقع السوفييتي. وبفضل ساميزدات أصبح من الممكن كتابة أفكار وآراء ووجهات نظر مستقلة حول قضايا الساعة، فضلاً عن النقد الاجتماعي والسياسي للنظام السوفييتي، ونشر الأدب الإيروتيكي، والدعاية الدينية، والتجارب الإبداعية لما بعد الحداثة. وكانت كل هذه تابوهات لدى الرقابة الرسمية المتزمتة، وفي الوقت نفسه كانت تقييداً لحرية الإبداع بهدف فرض الأساليب المقبولة للكتابة الفنية، وحظر كل ما يتعارض مع الأيديولوجية الرسمية.

لم تكن الأعمال الأدبية المنشورة في» ساميزدات» تعود إلى الكتاب الممنوعين من النشر فحسب، بل كذلك لأولئك الكتاب المعروفين الذين نشروا أعمالهم الأدبية من خلال المنابر الرسمية، ثم سحبت من المكتبات ومنعت من التداول مثل قصائد أوسيب ماندلشتام. وآنّا أخماتوفا، ومارينا تسفيتاييفا، وبوريس باسترناك، وجوزيف برودسكي، وروايات ميخائيل بولغاكوف وألكسندر سولجينيتسن.

نشر من خلال ساميزدات الكثير من الأعمال الأدبية للعديد من الكتاب المحظورين، الذين يعدّهم النقّاد اليوم من كبار الأدباء الكلاسيكيين في الأدب الروسي، ومن ذوي الشهرة العالمية.

دوريات ساميزدات

كانت لساميزدات دورياتها الخاصة. الأكثر شهرة في هذا المجال مجلة «سينتاكسيس» التي نشرها ألكسندر غينزبرغ بين عامي 1959-1960. غيرت «سينتاكسيس» الوضع الأدبي في روسيا بشكل جذري، وفتحت إمكانيات لم يكن من الممكن تصورها من قبل. أصدر غينزبرغ ثلاثة أعداد من مجلته التي أثارت ضجة داخل روسيا وخارجها، ما أدى إلى اعتقاله والحكم عليه بالسجن والنفي.

بحلول بداية الثمانينيات، كان هناك حوالي عشر مجلات ساميزداتية أدبية في لينينغراد من بينها مجلة «البريد الشمالي» المكرسة حصرياً للمشاكل النظرية والتطبيقية للغة الشعرية. وقد نشرت المجلة مواد عن تاريخ ونظرية الشعر الروسي في القرن العشرين، ومراجعات لمجموعات شعرية وقصائد الشعراء الشباب و»أيتام أخماتوفا» (وهم أربعة شعراء مقربون من الشاعرة آنا أخماتوفا في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات، وهم: جوزيف برودسكي، الذي فاز لاحقا بجائزة نوبل في الآداب عام 1987 وديمتري بوبيشيف وأناتولي نيمان وإيفجيني راين). وكانت أخماتوفا تقدر بشدة إبداعهم. صدرت ثمانية أعداد من هذه المجلة السرية الرائدة، ثمّ توقفت بعد ذلك بسبب الهجرة القسرية لرئيس تحريرها سيرغي ديديولين. في الوقت نفسه، ظهرت مجلة «ميتين» المؤيدة للغرب (تحرير دميتري فولتشيك)، وركزت على ثقافة ما بعد الحداثة. استمرت «ميتين» في الصدور حتى حقبة البريسترويكا. وتوجد اليوم مجلة علنية تحمل الاسم نفسه.

لم تقتصر ساميزدات على نشر الأدب المحظور، بل شملت أيضاً التوزيع الذاتي لموسيقى الجاز والروك المحظورة رسميا، والتي تم تسجيلها وتوزيعها سراً أيضا. وهكذا فإن ساميزدات ظاهرة متعددة الجوانب للغاية. كان النشر أو التوزيع عن طريق «ساميزدات» محفوفاً بالمخاطر، ويمكن أن يؤدي إلى الاعتقال وشتى أشكال الكبت والقمع. بالطبع، لم تكن المخابرات السوفييتية « كي جي بي» تتجاهل مثل هذه الأحداث، فقد تعرض العديد من الأدباء وأصحاب الدوريات السرية للاضطهاد، منهم من نفي إلى سيبيريا، أو أُودع المصحات العقلية، أو اسقطت عنه الجنسية السوفييتية.

ساميزدات كظاهرة شفهية

بدأ تقليد الأمسيات الشعرية بالقرب من النصب التذكاري للشاعر فلاديمير ماياكوفسكي في موسكو عام 1958. في يوم الأحد الأخير من كل شهر، يجتمع شعراء المدينة المعروفين وغير المعروفين والمحظورين معاً، ويلقون قصائدهم على الجمهور. وشاركت في القراءات شخصيات أدبية بارزة مثل يفغيني يفتوشينكو وأندريه فوزنيسينسكي. وفي وقت لاحق، من عام 1965، منعت السلطات السوفييتية إلقاء القصائد في ساحة ماياكوفسكي، ووصفت الحدث بأنه «أرض خصبة للمنشقين» واتهمت الحاضرين بـ»السلوك المعادي للمجتمع».

وفي الوقت نفسه، افتتح في لينينغراد العديد من المقاهي الأدبية، التي تحولت إلى مراكز فكرية تتم فيها قراءة الشعر ومناقشته باستمرار، لعل أشهرها «مقهى الشعراء»، خاصة أن الثقافة المحلية للمقاهي الأدبية تعود إلى أيام مقهى «الكلب الضال» الشهير في بطرسبورغ في العصر الفضي للأدب الروسي. في البداية كان الشعراء، ومنهم «أيتام أخماتوفا» يلقون قصائدهم على الجمهور في «مقهى الشعراء» دون أي رقابة. هنا قرأ جوزيف برودسكي عام 1962 قصيدتيه «رومانسية عيد الميلاد» و»التلال» علناً لأول مرة. ظل «مقهى الشعراء» قائما لمدة عامين، ثم فرضت عليه رقابة صارمة، وسرعان ما تم إغلاقه نهائياً.

ساميزدات اليوم

في عام 1986، وقع ميخائيل غورباتشوف مرسوماً يلغي الرقابة على المطبوعات، ومنذ ذلك الحين، أضحت دور النشر حرة في نشر ما يحلو لها، دون مراعاة رغبات الحزب والحكومة. وترتب على ذلك تدفق سيل هائل من الأعمال الأدبية التي كانت محظورة في السابق. بدأ التراجع عن حرية التعبير عام 2007، عندما نشرت وزارة العدل الروسية قائمة بالمواد المتطرفة المحظورة. كانت الكتب المدرجة فيها، في الغالب، بعيدة عن الأدب، لذا فإن الحظر لم يؤثر بشكل كبير في حرية النشر وسوق الكتب الأدبية. زادت الرقابة على المطبوعات تدريجياً في السنوات اللاحقة، وصدرت قوانين تحظر الدعاية للمثليين والمخدرات. على الرغم من أن هذا الحظر يبدو بسيطاً ومنطقياً، إلا أنه في الواقع لا يمكن التأكد أبداً من الكتاب الذي لن يعجب السلطات غداً. بعد التدخل الروسي في أوكرانيا في 24 فبراير/شباط 2022. اشتد التضييق على حرية النشر وتوزيع الكتب وتداولها. ولم يكن الهدف الأول للاضطهاد الكتب نفسها، بل مؤلفيها، الذين أعلنوا صراحة موقفهم المناهض للحرب ووصمتهم السلطة بـ»العملاء الأجانب»، الذين بلغ عددهم أكثر من أربعين كاتباً وصحافياً ومفكراً، بينهم عدد من كبار الأدباء، وفي مقدمتهم: لودميلا أوليتسكايا، ودميتري بيكوف، وبوريس أكونين، وفلاديمير سوروكين، وميخائيل فيلر، ودميتري جلوغوفسكي.

كما جرى حظر عدد كبير من الأعمال الأدبية الأجنبية وسحبها من متاجر الكتب والمكتبات العامة وحظر تداولها ومصادرتها من القراء عند عبور الحدود الروسية. ومن هذه الأعمال على سبيل التمثيل لا الحصر: «أورلاندو» لفرجينيا وولف، و»غرفة جيوفاني» لجيمس بالدوين، و»سبوتنيك الحبيبة» لهاروكي موراكامي. لذا لم تكن عودة ظاهرة ساميزدات مفاجئة في هذه الظروف التي تذكرنا بالعهد السوفييتي، وإن اتخذت أشكالا أخرى أكثر تأثيراً، ويرجع ذلك في المقام الأول إلى تطور تكنولوجيا المعلومات والإنترنت.

أحد الأشكال الرئيسية لمنشورات ساميزدات في روسيا اليوم هو إنشاء وتوزيع النصوص عبر شبكات الإنترنت (الكتب والمجلات الإلكترونية والمدونات ومواقع التواصل الاجتماعي وأشرطة الفيديو وغيرها)، حيث يمكن للمؤلفين التعبير عن آرائهم ومشاركة تجاربهم من خلال المواد الصوتية والمرئية، بالإضافة إلى ذلك، هناك نتاجات ساميزدات المطبوعة، التي تتضمن أعمالا لا يمكن نشرها عن طريق دور النشر داخل البلاد، بل يتم نشرها من خلال دور النشر الروسية في الدول الغربية. ومع ذلك، على الرغم من الحرية التي يوفرها النشر عن طريق قنوات الساميزدات الحديثة، إلا أنه يمكن أن يواجه أيضا مشاكل تتعلق بالرقابة والقيود المتزايدة التي تفرضها السلطات على حرية النشر بجميع أشكاله، ومنها النشر عبر ساميزدات الورقية والإلكترونية، حيث تخضع هذه المواد أيضا للتشريعات المتعلقة بالتطرف والدعاية للانتحار والمثليين ومزدوجي الميل الجنسي ومغايري الهوية الجنسانية وتشويه سمعة الجيش الروسي.

***

د. جودت هوشيار

في زمن تتسارع فيه الابتكارات العلمية والتكنولوجية بشكل غير مسبوق، نجد ان الدول العربية لا تزال تواجه تحديات كبيرة في هذا المجال، مما يؤثر سلبا على واقعها ومستقبلها. فالدول العربية ليس لها تأثير ملحوظ في الانتاج العلمي والابتكار التقني على المستوى العالمي، وتواجه العديد من التحديات والتغيرات العالمية التي تتطلب مزيداً من العلم والتكنولوجيا. تعود أسباب هذا التخلف الى مجموعة متنوعة من العوامل التي تمتد عبر مختلف المجالات، بدءا من الاقتصاد والمجتمع وصولا الى السياسة والثقافة والدين والتعليم. دعونا نستعرض معا ابرز هذه الاسباب والتحديات التي تواجه الدول العربية  ونبحث في كيفية التغلب عليها لتحقيق مستقبل أفضل.

قلة الاستثمار في البحث العلمي:

من الأسباب الاقتصادية قلة الاستثمار في البحث العلمي، حيث تخصص الدول العربية نسبة ضئيلة من ناتجها المحلي الإجمالي للبحث العلمي مقارنة بالدول المتقدمة، وهذا ينعكس على نقص الموارد المالية والبشرية المخصصة للبحث العلمي، وضعف البنية التحتية للبحث العلمي. ففي حين تخصص الدول المتقدمة ما بين 2% إلى 3% من ناتجها المحلي الإجمالي للبحث العلمي، فأن الدول العربية لا تخصص سوى 0.5% أو أقل من ذلك بكثير. كما تلعب ضعف البنية التحتية للبحث العلمي دورا في تخلفه حيث تعاني معضمها من نقص في المختبرات المجهزة بأحدث التقنيات، وقلة عدد الباحثين المؤهلين، وضعف الإمكانيات المتاحة لإجراء التجارب والدراسات العلمية. بالاضافة الى غياب الاستراتيجيات الاقتصادية الواضحة لدعم البحث العلمي . ففي كثير من الأحيان، تخصص الميزانيات للبحث العلمي دون تخطيطٍ مسبق أو تحديد للأهداف المرجوة من ذلك.

يؤدي هذا الأمر إلى هجرة العقول العربية إلى الدول المتقدمة بحثا عن فرص أفضل.  فمع توفر الموارد المالية والإمكانيات اللازمة، يفضل العديد من الباحثين العرب العمل في الدول المتقدمة، مما يفقد الدول العربية كفاءات علمية هامّة ويعيق مسيرتها نحو التقدم.

عدم تمكين المرأة:

من الأسباب الاجتماعية عدم تمكين المرأة والمشاركة في المجالات العلمية والتكنولوجية، حيث تواجه المرأة العربية العديد من العوائق الاجتماعية والثقافية والتعليمية التي تعيق تقدمها وتفوقها في هذه المجالات، مثل بعض العادات والتقاليد التي تقيد حريتها وطموحها. كما أن هناك نقصاً في الوعي بأهمية العلوم والتكنولوجيا للمراة في المجتمع العربي، وعدم تقدير العلماء والمبتكرين والمخترعين.

عدم الاستقرار السياسي:

من الأسباب السياسية عدم الاستقرار السياسي في بعض الدول العربية، حيث تشهد هذه الدول حروباً وصراعات وانقلابات وثورات تعيق التنمية العلمية والتكنولوجية، وتهدر الكثير من الموارد والطاقات. كما أن الدول العربية تفتقر إلى الديمقراطية والمشاركة السياسية، وتعاني من الفساد المالي والإداري، وهذا ينعكس على ضعف الحوكمة والمساءلة والشفافية في إدارة الشؤون العامة.

عدم تشجيع الابتكار والإبداع:

ترجع أسباب ضعف تشجيع الابتكار والإبداع في العالم العربي الى مجموعة من العوامل المتداخلة، منها ثقافة التقليد والخوف من الجديد والتركيز على الشهادات الأكاديمية، بالاضافة إلى نظام تعليمي تقليدي وغير مشجع للإبداع. على الصعيد الاقتصادي والسياسي، يعاني العالم العربي من اقتصاد ريعي وبيروقراطية معقدة وفساد، مما يثبط روح المبادرة والابتكار. كما ان غياب سياسات علمية واضحة وعدم كفاية التمويل المخصص للبحث العلمي يزيدان من حدة المشكلة. على المستوى النفسي، يعاني الأفراد من نقص الثقة بالنفس والخوف من الفشل، مما يجعلهم يترددون في طرح افكار جديدة. ولكن يمكن التغلب على هذه التحديات من خلال اتخاذ مجموعة من الإجراءات الشاملة والمتكاملة. يجب على الحكومات والمؤسسات التعليمية والقطاع الخاص والمجتمع المدني العمل معًا لخلق بيئة محفزة للابداع والابتكار. وهذا يتطلب اتخاذ مجموعة من الاجراءات، منها اصلاح النظام التعليمي ليشجع على التفكير النقدي والابداع وتشجيع التعاون العلمي العربي المشترك ودعم رواد الأعمال وتوفير بيئة محفزة لهم وزيادة الاستثمار في البحث العلمي وبناء ثقافة الابتكار في المجتمع والاستفادة من التكنولوجيا الرقمية. كما يجب تمكين المرأة وتشجيع مشاركتها في مجال العلوم والتكنولوجيا وتطوير اللغة العربية لتصبح لغة علمية وتشجيع القطاع الخاص على الاستثمار في البحث والتطوير.

ضعف التفكير النقدي:

ضعف التفكير النقدي في العالم العربي هو احد العوائق الأساسية التي تحول دون تحقيق التقدم والازدهار. جذور هذا الضعف متشابكة في النظام التعليمي الذي يركز على الحفظ والتلقين بدلا من تشجيع الطلاب على طرح الأسئلة والتفكير النقدي، وفي الثقافة المجتمعية التي تتسم بتقديس السلطة وتجنب الاختلاف. ان غياب التفكير النقدي يترجم الى قبول الأفكار دون تمحيص، والاعتماد على الحفظ الببغائي بدلاً من الفهم العميق والتحليل، مما يحد من القدرة على الابداع والابتكار. علاوة على ذلك، فأن ضعف التفكير النقدي يعيق القدرة على مواجهة التحديات المعقدة التي تواجه المجتمعات العربية، ويؤدي الى الاعتماد على الخبرات الأجنبية في حل المشكلات. ان الحلول المقترحة تتطلب إصلاحاً شاملاً للنظام التعليمي وبناء ثقافة تحفز على التفكير النقدي والابداع وتوفير بيئة محفزة للبحث العلمي والابتكار. فمن خلال تعزيز التفكير النقدي، يمكن للمجتمعات العربية ان تساهم بشكل فعال في بناء مستقبل افضل.

ضعف أنظمة التعليم:

ضعف انظمة التعليم في الدول العربية هو تحد متعدد الأوجه. فبالإضافة إلى التركيز على الحفظ والتلقين بدلا من التفكير النقدي والابداع، تعاني هذه الأنظمة من نقص حاد في الكوادر التعليمية المؤهلة، ومناهج دراسية تقليدية عتيقة لا تواكب متطلبات العصر. تتجلى هذه المشكلة بوضوح في غياب المختبرات العلمية المجهزة والأدوات التعليمية الحديثة، مما يحرم الطلاب من فرص التعلم العملي واكتشاف قدراتهم. كما ان الاعتماد الكبير على الامتحانات النمطية التي تقيس قدرة الطلاب على الحفظ يؤدي إلى تقييد التفكير الإبداعي لديهم، ويجعلهم يركزون على حفظ المعلومات بدلا من فهمها وتطبيقها.

بالاضافة الى ذلك، تعاني انظمة التعليم العربية من افتقار الى التنوع في المناهج الدراسية، حيث تفتقر هذه المناهج الى المواد التي تشجع على التعلم الذاتي والبحث المستقل. كما ان البنية التحتية للمدارس في العديد من الدول العربية متردية، مع وجود مباني متهالكة ونقص في المرافق الصحية والمكتبات المجهزة. هذا يؤثر سلبًا على بيئة التعلم ويقلل من حماس الطلاب.

ومن المشاكل الأخرى التي تواجه انظمة التعليم العربية غياب التقييم المستمر للطلاب والمعلمين، والاعتماد الكبير على الامتحانات النهائية كأداة وحيدة للتقييم. هذا النظام التقليدي لا يسمح بتحديد نقاط الضعف لدى الطلاب وتقديم الدعم اللازم لهم في الوقت المناسب. كما انه لا يشجع المعلمين على تطوير ادائهم وتحسين طرق تدريسهم.

اضف الى ذلك ضعف الاهتمام بالتعليم المهني والتقني في العديد من الدول العربية، حيث يركز التعليم بشكل أكبر على الشهادات الأكاديمية النظرية، مما يؤدي إلى ارتفاع معدلات البطالة بين الخريجين وعدم قدرتهم على تلبية احتياجات سوق العمل. كما ان تأثير التوجهات السياسية والاجتماعية على المناهج الدراسية يؤدي إلى تسييس التعليم وتضمينه بأفكار وأيديولوجيات معينة، مما يبعده عن هدفه الأساسي وهو تنمية قدرات الطلاب ومهاراتهم.

كل هذه العوامل مجتمعة تساهم في انتاج أجيال من الخريجين غير مؤهلين لسوق العمل، وهو ما يعيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية في الدول العربية.

الفساد المالي والاداري:

من بين هذه الأسباب المهمة للتخلف التكنولوجي، يبرز الفساد المالي والإداري كعامل مؤثر. يشمل الفساد المالي والاداري استغلال السلطة العامة لتحقيق مكاسب شخصية ويؤدي إلى نقص الموارد المخصصة للبحث والتطوير و يؤثر على توجيه الاستثمارات والخدمات في البنية التحتية ويؤدي إلى تحويل الأهداف العامة للمؤسسات إلى أهداف شخصية. 

الاقدمية في الانظمة البيروقراطية:

ان تكريس مبدأ الأقدمية في المؤسسات الجامعية والتقنية، التي تتطلب حيوية ومرونة، هو مسألة كارثية. بينما يحلم الشباب ذوي الافكار الابداعية بأن يساهموا في بناء مستقبل أفضل لوطنهم، وأن يستغلوا طاقاتهم وإبداعاتهم في خدمة مجتمعهم نجد نظام الأقدمية الجامد يحرمهم من هذه الفرصة، ويجعلهم يشعرون بالاحباط واليأس. فكيف يمكن لشاب مبدع وطموح أن يحقق أحلامه في ظل نظام بيروقراطي يفضل الخبرة الموروثة على الكفاءة الحقيقية؟ هذا الظلم يهدد مستقبل الاجيال القادمة، ويحرم البلاد من الاستفادة من عقول الشباب المبدعة.

استراتيجيات مكافحة التخلف العلمي والتكنولوجي:

للتغلب على التخلف العلمي والتكنولوجي في الدول العربية وتحقيق نهضة علمية حقيقية، لابد من اتخاذ الخطوات الجدية التالية:

1. زيادة الاستثمار في البحث العلمي، وتخصيص نسبة معقولة من الناتج المحلي الإجمالي للبحث العلمي، وتوفير الموارد المالية والبشرية والبنية التحتية اللازمة للبحث العلمي، وتشجيع التعاون العلمي بين الدول العربية والدول المتقدمة.

2. إصلاح أنظمة التعليم، وتطوير المناهج الدراسية، وتحديث الأساليب التعليمية، وتأهيل الكوادر التعليمية، وتعزيز التفكير النقدي والإبداع لدى الطلاب، وتوفير فرص التعليم المستمر والتعليم عن بعد.

3. اصلاح الانظمة السياسية، وضمان الحريات والحقوق لخلق مجتمعات حرة وديمقراطية، وتحقيق الاستقرار السياسي في الدول العربية، والقضاء على الفساد والمحسوبية، وتعزيز الحوكمة والمساءلة والشفافية في إدارة الشؤون العامة.

4. تشجيع الابتكار والإبداع، وخلق بيئة ثقافية داعمة للعلوم خلق بيئة ثقافية داعمة للعلوم والتكنولوجيا، وتعزيز الثقة بالذات والطموح لدى الشباب العربي، والاستفادة من التراث العلمي العربي والإسلامي، والفصل بين الدين والعلم، وتنمية روح الحوار والنقد البناء واحترام الرأي الآخر.

5. تمكين المرأة لغرض مشاركتها في المجالات العلمية والتكنولوجية، والقضاء على العوائق الاجتماعية والثقافية والتعليمية التي تعيق تقدمها وتفوقها في هذه المجالات، وتوفير فرص التعليم والتدريب والتوظيف للمرأة العربية.

6. نشر الوعي بأهمية العلوم والتكنولوجيا في المجتمع العربي، وتقدير العلماء والمبتكرين والمخترعين، وتشجيع المواهب والمهارات العلمية والتكنولوجية، وتكريم الإنجازات العلمية والتكنولوجية العربية.

ختاماً، يعد التغلب على التخلف العلمي والتكنولوجي في الدول العربية هدفا استراتيجيا يتطلب مسؤولية الجميع، من حكومات ومؤسسات تعليمية ومجتمع مدني. ولا بد من العمل الجاد وتضافر الجهود من أجل تحقيق التقدم العلمي والتكنولوجي في الدول العربية، والارتقاء بمكانتها على الساحة العالمية. وهذا لا يتحقق الا بالايمان وبالالتزام بالعلم والتكنولوجيا كمنهج حياة وأسلوب تفكير ومصدر قوة واعتزاز.

***

ا. د. محمد الربيعي

بروفسور متمرس ومستشار مهتم بالتعليم والعلوم والتكنولوجيا، جامعة دبلن

السينما تعبير اجتماعي: تعتبر السينما من الفنون المؤثرة والمتنوعة، فهي الفن السابع من حيث تاريخ ظهورها بعد الفنون الستة الكبرى، وهي العمارة والنحت والرسم، الأدب والموسيقى والأداء، لكنها قد تكون الأولى من خلال استحواذها على اهتمام العالم (1).

حيث أنها مرت من عدة مراحل مما زاد من نضجها، بداية بالأخوين لوميير من خلال صنعهما لأول كاميرا وأول جهاز عرض سينمائي، ومرورا بالسينما الصامتة ثم أفلام الأبيض والأسود ثم الأفلام الملونة والأفلام ثلاثية الابعاد فالتصوير الرقمي (2).

السينما إضافة الى كونها مجموعة من التقنيات، والعمليات الفنية التي تتوزع بين الخدع التقنية والصور وأجهزة التصوير والإضاءة والمونتاج والصوت الخ، فهي أيضا انتاج ثقافي واجتماعي، يتداخل فيه ما هو اقتصادي، أيديولوجي، سياسي، ديني وأخلاقي...

فلا يمكن ابدا فهم السينما بمعزل عن المجتمع، لأنها انعكاس لجميع تفاعلاته والتغيرات التي تمسه، وقد استأثرت باهتمام الباحثين السوسيولوجيين والأنثروبولوجيين، حيث تمكنت السينما من الجمع بين ما هو تقني وأدبي/ فني، ونجحت في استعمال الصورة كوسيلة للتعبير على مجموعة من التمثلات وتسليط الضوء على بعض المواضيع ومناقشتها في فنيا، باعتبارها مجالا للتوثيق السوسيوثقافي.

وقد أصاب من وصف السينما بأنها وثيقة اجتماعية، لأنها توثق الاحداث والشخوص، وهناك أوجه تشابه بين السينما والسوسيولوجيا، كعلم يحاول تفسير الظواهر وتحليلها من خلال دراسة أسبابها ونتائجها، السوسيولوجيا عند دوركهايم، هي العلم الذي يهتم بدراسة البناء الاجتماعي وما به من مؤسسات من حيث مقوماتها ووظائفها، ويقصد بالبنية الاجتماعية هنا هو الاطار التنظيمي العام، الذي يندرج تحته كافة أوجه السلوك الإنساني في مجتمع ما، ويتضمن مجموعة النظم الاجتماعية ذات القواعد السلوكية المستقرة التي تحكم الأنشطة الإنسانية المتعددة في مجتمع ما. وهو نفس الشيء بالنسبة للفلم السينمائي، من خلال رصده للظواهر الإجتماعية ومناقشتها، في إطار فني ودرامي.

الواقعية قد ساهمت في إنماء السوسيولوجيا كعلم يبحث في الواقع ويتخذ منه مختبرا لفرضياته واستخراج نظرياته وتطوير مناهجه... ان السينما تتطرق لمواضيع ذات صبغة كونية، ونفس الشيء بالنسبة لعلم الاجتماع(3).

بهذا المعنى يمكن اعتبار السينما مرآة الشعوب والمجتمعات لأن الهدف الأساسي منها كفن هو ترجمة نبض المجتمع بمختلف أطيافه فمن خلال تجسيد الحدث، والاعتماد على آلية التوثيق فهي تلامس الواقع الاجتماعي، وبالتالي فالفعل السينمائي يتأثر بالمجتمع ويؤثر فيه أي انهما على علاقة وثيقة.

فهل السينما نجحت في ترجمة أفكار مجتمعاتها، وهمومها وظواهرها؟ أم أنه يصعب فعلا نقل الحقيقة والواقع عبر الفلم كما قال محمد المعنوني: "في دول العالم الثالث نخاف ان نظهر صورتنا الحقيقية ونعرضها امام الناس".

حضور الجنس والجسد في السينما المغربية

يعتبر موضوع الجنس من الطابوهات في مجتمعنا، يتجنب البعض نقاشه أو الخوض فيه علنا، بالرغم من كونه مرافقا للحياة اليومية وحاضرا فيها، مع ما كل ما يحيط بالموضوع من حواجز.

و بالحديث عن السينما المغربية في بداياتها، لم يكن للجنس حضور إلا كمحور ثانوي، ضمن مواضيع مختلفة بين ما هو اجتماعي وسياسي الخ، لكن الامر يختلف الآن فقد اصبح من المواضيع والتيمات الرئيسية في الفلم السينمائي، حيث لم يقتصر على التلميح والإشارة اللبيبة، بل وصل الى تعاط مباشر وصريح من خلال جرأة الموضوع، والتقمص والتشخيص بالإضافة إلى المشاهد الجريئة وما يتخللها من إشارات.

ولعل فترة التسعينات كانت بداية لتشكل رؤية سينمائية جديدة في المغرب، وموجة مختلفة عما سبقها، غلب عليها طابع الجرأة في الطرح الذي رافق موضوع الجنس وكان الافتتاح مع فلم "حب في الدار البيضاء" لمخرجه عبد القادر لقطع، لتتوالى بعدها الاعمال السينمائية. فجرأة تناول الموضوع على الشاشة الكبيرة كان بمثابة صيحة حديثة بالنسبة للمشاهد المغربي، حيث لاقت انتقادات وغضب في البداية، لكن سرعان ما اصبح الاقبال على مشاهدة هاته الأفلام المحظورة اجتماعيا، كنوع من الفضول او المتعة والانفتاح على هاته النوعية من الأفلام على غرار السينما الغربية، لانها تمس جزءا مهما من حياة الافراد، ليبرز مع هذا كله الجسد وكيفية تناوله من قبل المخرجين في هاته الأفلام، خصوصا جسد المرأة، الذي يعتبر المادة الأهم في المشهد السينمائي وذلك لاستحواذه على قوة الجذب والاثارة والتعبير.

دعونا نتفق على كون الجسد له لغة تعبيرية خاصة، قادرة على ترسيخ الرؤية الجمالية والفنية وقد تعطي بسخاء واحترافية، إذا تم توظيفها بشكل صحيح لخدمة القصة او المشهد، من اجل ترجمة الفكرة المراد ايصالها في الفلم، وهنا نتحدث عن التوظيف الدرامي والفني للجسد.

لكن ما الذي يحدث حين نرى ان حضور الجسد الانثوي في المشاهد السينمائية، لا يسير دائما في الاتجاه الفني المحض، وانما قد ينحو نحو جذب الجمهور الذي يقوده فضوله وشهوته للبحث عن المتعة والتمعن في الأجساد لا غير، مما يجعلنا نكتشف ان الامر تجاري وعملية تسليع للجسد الانثوي، تعزف على الاوثار الغريزية والمواضيع المحظورة نوعا ما، من اجل جذب المشاهد ورفع نسبة المشاهدة والإيرادات في لمحة ذكية من بعض المخرجين، من خلال تقديم ما هو مطلوب ومرغوب فيه، وكل ما يمكن ان يشكل موضوعه ضجة لدى المشاهد، وهو ما تم استغلاله لصالحهم مما يجعل من الجسد يظهر بشكل سطحي، في أي مناسبة دون رؤية فنية عميقة او جمالية للمشهد وقد يختلف التعامل مع جسد المرأة بالنسبة للمخرجين في نظري من خلال هذا التقسيم بين من:

- يوظف جسد المرأة في الجانب التعبيري والفني المحض.

- من ينحو نحو التسليع والمتاجرة، من اجل الرفع من نسب الإيرادات والمشاهدة ونفاذ التذاكر.

- من يحاول جعله مادة أساسية لمناقشة قضايا تلامس المجتمع، أخلاقية كانت او أيديولوجية وأيضا من أجل توظيفه كرمز للتحرر او الالتزام.

- فئة أخرى حاولت وضعه في سياق المرأة المنتهكة حقوقيا واجتماعيا وعاطفيا، من خلال تصوير حياة المرأة : المغتصبة، بائعة الهوى، المعنفة، المتحرش بها، المكرهة على الزواج، الحامل خارج إطار الزواج، في علاقة غير شرعية، أو ضحية العادات والطقوس التقليدية ...إلخ.

لن يختلف اثنان في كون جرأة الطرح أمر مطلوب ومحبب، لكن هذه الجرأة التي تؤثث المشهد السينمائي المغربي أو العربي عامة، هل غدت مطلوبة فقط فيما يتعلق بتيمات الجنس وإبراز جسد المرأة والمشاهد الساخنة، ام أن جرأة الطرح يجب ان تخدم مواضيع متعددة ومعقدة ملغية من طاولات النقاش؟ ألا يجذر بها أن تقدم طرحا يعالج قضايا مجتمعية مهمة أيضا؟ في صلب الصراع المجتمعي على كافة المستويات وبهذا نكون أمام نوع من الموازنة في الطرح السينمائي.

أم أن الجرأة ...تتمثل في ابراز مفاتن امرأة عارية.. الجرأة في الحقيقة هي ان تأخذ موقفا وتدافع عنه على حد تعبير المخرج المغربي عزيز السالمي.

هل تستطيع السينما إحداث التغيير في المجتمع؟

من المعلوم جيدا ان الفن يعمل على تقديم رسائل متعددة، تختلف باختلاف المقبلين عليها، لانها تعتبر أداة لنشر الثقافة والمعرفة وتساهم في تشكيل قيم المجتمع.

حيث لها القدرة على إضاءة دائرة العتمة المحيطة بمجموعة من القضايا، ووضعها في قالب فني يرتقي بالعمل المقدم وبالمشاهد أيضا، ويبقى لها الأثر الكبير في إحداث التغيير على مستويات عدة، وكمثال نجد الدراما أو السينما المصرية، حيث كان لهذه الأخيرة دور كبير وراسخ، في تغيير مجموعة من القوانين والتشريعات، ورصد الظواهر والمشاكل المؤرقة، وهناك بعض الأعمال الفنية التي نجحت فعلا في الوصول الى هذا المستوى.

من بين هذه الاعمال نجد فلم "جعلتني مجرما" حيث ناقش مشكلة السوابق العدلية، وعدم تمكن أصحابها من الاقبال على الحياة، والاندماج في فرص عمل جديدة، ليصدر بعدها قانون الاعفاء من السابقة الأولى في الصحيفة الجنائية بمصر.

يليها فلم "اريد حلا" حيث ناقش ازمة امرأة لا تستطيع الاستمرار في العيش مع زوجها، ويرفض طلبها المتعلق بالطلاق، مما جعلها تعيش سلسلة من المشاكل والعراقيل داخل رداهات المحاكم، بعدها تم احداث تغيير في قانون الأحوال الشخصية، ليعطي للمرأة الحق في الخلع.

ننتقل الى السينما الغربية هذه المرة "فلم قصير عن القتل"، لمخرجه كريستوف كيسلوفسكي، عندما كانت بولندا لا تزال تصدر عقوبة الإعدام، حيث اثار عرضه في مهرجان السينما سنة 1988، نقاشا حادا حول الموضوع، وبعد بعد العرض الأول للفلم تم حذف عقوبة الإعدام من قانون العقوبات في بولندا.

ثم الفلم الفرنسي الألماني" روزيتا" الذي صدر عام 1999، حيث يحكي قصة البطلة القاصر التي تبحث عن عمل، بعيدا عن والدتها مدمنة الكحول، لكنها تلاقي استغلالا من طرف أرباب العمل، من خلال عملها بأجور زهيدة ...حيث حاز الفلم على السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي، مباشرة بعدها أصدرت الهيئة التشريعية البلجيكية قانون يحظر تشغيل المراهقين بأقل من الحد الأدنى للأجور.

من خلال هاته النماذج وغيرها، نستشف أن للسينما سحر خاص وصوت مدوي ومسموع، يصل لكل الجهات والشرائح إذا تم تسخيرها للأهداف النبيلة والرسائل السامية التي أتى من أجلها الفن بشكل عام، وقد يقول قائل أن السينما ليست بمربي الأجيال أو مصلح إجتماعي، ودورها ليس هو ممارسة الأبوية على المشاهد كما أن المشاهد من يقصد السينما وليست هي من تقتحم منزله إلخ.

لكن بالنسبة لي فهي تنطلق من المجتمع وإلى المجتمع وعلاقة التأثير واضحة، وكفن فهي مطالبة وملزمة بخدمته من موقعها وإمكانياتها، لأنها تستطيع الهدم والبناء، والجمع بين الفرجة والإصلاح الاجتماعي والأخلاقي والكثير غيره، وإحداث التغيير على مستوى مجموعة من المفاهيم والممارسات، بل تعدت كونها مجرد فن وإنما قوة تحيي القضايا وتلهم، وتضيء الزوايا المعتمة في المجتمع، في إطار فني يجب أن يكون محبوك، نعم السينما تسطيع ...

***

أحيزون سميرة - أخصائية اجتماعية ومدونة

......................

الهوامش

1- إبراهيم العريس وفريق مجلة القافلة، "السينما هي الفن السابع".

2- علياء طلعت، عن الجزيرة 360 "تاريخ الفن السابع" (بتصرف).

3- محمد شويكة، السينما والسوسيولوجيا أية علاقة.

 

للدكتور عبد العظيم السلطاني

ان القارئ لمقال الأستاذ (عبد العظيم السلطاني) المذكور في أعلاه، لا يملك إلاّ أن يشاطره الآراء والتصورات التي أثارها حول هذا الموضوع الشائك، لاسيما وأنه – كما قال – على اطلاع كاف ودراية وافية بكل ما شاب الموضوع من سلبيات علمية وانتكاسات أدبية، ما كان ينبغي لها أن تشيع في مثل هذا الوسط العلمي / المعرفي. ولعل ما أعطى لمقال الأستاذ (السلطاني) أهمية خاصة، ليس فقط كونه يتناول قضية خطيرة باتت تشغل بال الأوساط الثقافية والعلمية والأكاديمية، دون أن يصار الى وضع الحلول والمعالجات المناسبة لها فحسب، وإنما لكون المقال كتب بيراع أستاذ (جامعي) ينتمي لذات الوسط الأكاديمي الذي يعيب عليه أخطائه وهفواته وانحرافاته !.

وبادئ ذي بدء نقول؛ أنه من حيث المبدأ ليس هناك ما يعيب صاحب الأطروحة الأكاديمية (الطالب) أن تتضمن رسالته بعض الأخطاء والهفوات والهنات، التي هي حاصل تحصيل (قصور المعرفة) لدى كل إنسان هو في طور التعليم، طالما كان ما يقدمه بين دفتي الأطروحة هو من نتاج جهده الخاص واجتهاده الذاتي. هذا من جهة، أما من جهة ثانية، لا تثريب على (الأستاذ) في عضوية لجان مناقشة الأطاريح من الإشارة الى أخطاء الطلبة المتقدمين لنيل شهادتي الماجستير والدكتوراه، مثلما لا ضير من تقديم النصائح والإرشادات التي تستهدف تصويب الأخطاء وتقويم الخلل فيما ذهبوا إليه، سواء ما يتعلق بالمعلومات أو الأفكار أو التصورات ذات الصلة، فتلك هي من واجبات (الأساتذة) تجاه (الطلبة) لاسيما ضمن المستوى التعليمي الجامعي. هذا مع الأخذ بنظر الاعتبار ضرورة تضمين تلك الإضافات (العلمية والمعرفية) التي يدلي بها (الأستاذ) على هامش الأطروحة، الى متن رسالة (الطالب) باعتبار كونها مصدر من مصادر البحث أو الدراسة قيد المناقشة، وذلك لضمان حق الأستاذ المناقش في أرشفة رصيده العلمي والمعرفي لاستخدامه عند إجراءات الترقية، وهو ما استحسن حصوله الأستاذ (السلطاني) في مقاله.

وفي إطار خشية الأستاذ (السلطاني) من تأثيرات الوسط الاجتماعي وما ينطوي عليه من قيم وأعراف وتقاليد قبلية وطائفية، قد تسيء الى هيبة المؤسسات الأكاديمية / الجامعية من جانب، وتقلل من جانب ثان، من رصانة المحتوى العلمي والمعرفي للأطاريح قيد المناقشة. لاسيما بالاعتماد على ما أسماه بثقافة (الخطية) و(الفزعة) الشائعتا التعاطي بين الكيانات والجماعات العراقية، سواء على مستوى العلاقات الاجتماعية أو التواضعات العرفية. حيث سبق الأستاذ (السلطاني) العديد من الكتاب والباحثين والأكاديميين (ومنهم كاتب هذه السطور) في الإفاضة بتبعات تلك التأثيرات السلبية، ليس فقط على سمعة الجامعات والأساتذة المنسوبين إليها، فضلا "عن المستوى العلمي والقيمة المعرفية لأطاريح الطلبة فحسب، بل وكذلك الى مصير العملية التعليمية والتربوية بمختلف مراحلها ومستوياته. والحقيقة ان الأستاذ (السلطاني) يتواضع جدا "حين يوصم ما يجري داخل قاعات المناقشة بين (طالب) الدراسات العليا، وبين (اللجنة) المسؤولة عن منح هذه الدرجة العلمية بثقافة (الخطية) و(الفزعة)، اللتان تندرجان ضمن مصفوفة القيم والأعراف (القبلية – العشائرية) السائدة في المجتمع العراقي حاليا"، حيث أن هناك الكثير من العيوب والمثالب مما لم يقله أو يتطرق إليه.

 والغريب في الأمر حقا "ان الذي أثار حفيظة الأستاذ (السلطاني) قضية جانبية تكاد تكون (ثانوية) أو (هامشية)، ضمن مسار (التراجع) العلمي و(الانحطاط) المعرفي المستشري في جامعاتنا العراقية بصورة تثير الفزع، في حين تجنب الإشارة الى قضية هي أسّ المصائب والنوائب في هذا المجال، ألا وهي (البازار الأكاديمي) الذي أضحى سوقه رائجا "ويدر الملايين من الدنانير على تجاره ورواده، حيث (تباع) و(تشترى) الأطروحات الجامعية مثلما تباع وتشترى البضائع والسلع من الأسواق التجارية، وان قيمة هذه البضاعة / السلعة تتحدد بنوع تخصصها (العلمي) و(الإنساني). وهنا يغدو الحديث عن دور المسائل (القانونية) و(الأخلاقية) ضربا"من سفسطة خطابية لا معنى لها.

وأخيرا"فان دعوة الأستاذ (السلطاني) الى (إزاحة) القيم والأعراف والتقاليد ذات المنزع العصبوي عن (حرمة) هذا المجال، وعدم زجه في أتون التأثيرات (العاطفية) والمساومات (السياسية) والتوافقات (المصلحية)، هي دعوى أقرب الى اليوتوبيا منها الى الواقع. إذ كيف يتسنى لمؤسسة، هي جزء من منظومة اجتماعية وسياسية عامة نخر بنيتها الفساد وعمّت أرجائها الفوضى، ان تتغلب على أمراض وعوارض دولة كسيحة الإرادة ومستباحة القدرة فقدت زمام أمورها وأضحت أسم على غير مسمى، حيث تقاسمت مؤسساتها العصبيات القبلية والأصوليات الطائفية.  

***

ثامر عباس

في مأثورنا العربي، كثيرة هي الحكم والأمثال التي ذهب أصحابها، وبقي فحوى تلك الحكم والأمثال يرنُّ في الأذهان ما بقي الزمن، وليس قول الإمام علي ع لكميل بن زياد، إلا واحدًا من تلك الشواخص الحية في الذاكرة العربية، ولا أريد استرجاع هذا القول بتفصيلٍ يعرفه الكثيرون، بقدر ما أريد الوقوف على هذا القسم الثالث من الناس، ممّن شبّه سلوكياتهم بنوعٍ من الذباب أو البعوض لصغر حجمه، يسقط على وجوه الغنم المهزولة والحمير وأعيُنِها، يُزعج الدواب بحركته العشوائية السريعة حول الوجه، ولعل وصفه بالهمج، جاء اشتقاقًا من الفعل "هجم"  فهو لا يفتر عن هذه الصفة، ولكن هجومه يتصف بالعشوائية أو الفوضوية، ومنه جاءت الصفة "الهمجيّة" لتُدلل على هذا السلوك العدواني الفوضوي الذي يؤذي الآخرين حتى في التصدّي له؛ لأن من يتصدّى له لا يعرف الخطة التي يسير عليها مثل هذا العدوّ..!

وهنالك من اللغويين من رأى أنّ كلمة الهمج، تدل على الحمقى، فـ(الهَمْجَة من النَّاس: الأحمق الَّذِي لَا يتماسك، والهَمَج جمعُ الهَمجَة)، أو الجوع، وكلُّ هذه المعاني لا تتقاطع مع المعنى الأول الذي عرضناه آنفًا، إذ يجمع هذه المعاني دلالة الفراغ، والعبَثيّة، والاضطراب، وعدم الاتّزان في القول أو الفعل. ومن المؤكَّد بل اليقين، أنَّ فراغ الإنسان من عقلهِ، أو عدم الاحتكام إليه، يُفضي به إلى العَبَثيّة في السلوك، وكلُّ من يتّصف بهذا الوصف، فهو أحمق لا يملك قياد نفسه؛ لأنه مفتقرٌ إلى عقلٍ يُرشِدُهُ إلى الصواب.

والملفت أن الإمام علي لم يكتف بوصف هذه الفئة من الناس بالهمج، بل أردفها بصفةٍ أخرى لم تكن بأفضل دلالةً منها، إن لم نقل إنها جاءت مُفسِّرةً للوصف السابق، فوصفهم بالرِّعاع، ودلالة هذه الكلمة، تعني فيما تعنيه: "السفلة من الناس" . وقد جاء في حديث عمر بن الخطاب، ذكرًا لهؤلاء، وذلك في قوله: "إن المَوسم يَجمع رَعاع الناس". أي غَوْغاءهم وسُقّاطَهم وأَخلاطَهم، وغيرها من الشواهد التاريخية التي تُدلِّل على هذا المعنى الذي أوضحناه آنفًا..

وإذا تمّ لنا هذا المعنى، فمن الطبيعي أن لا أحد يرضى أن يكون مصداقًا لهذه الفئة من المجتمع، فهي فئة لا يتشرف أحدٌ بالانتماء إليها. ولكن هل نتمثّل – لا شعوريا – سلوكيّات هذه الفئة...؟ ونكون في أعمالنا ضمن هؤلاء الذين نالوا استهجان الإمام علي الذي لا يختلف عليه اثنان في صلاحه ورجاحة عقله وحنكته وبُعد نظره وتدبيره، فقال عنهم: "أتباعُ كلِّ ناعقٍ، يميلونَ مع كلِّ ريحٍ، لم يستضيئوا بنورِ العلمِ، ولم يَلْجؤوا إلى ركنٍ وثيقٍ"، ومن الواضح أن تفصيله بيان حال هذه الفئة من المجتمع دون الفئتين السابقتين – العالم الربّاني والمتعلم على سبيل نجاة – لدليلٌ واضحٌ على التحذير من أن يكون سامعو هذا الخطاب العابر للزمن، مصداقا لهذه الفئة، بما جعله يُفصّل في أحوالهم؛ ليُلقي البيّنة لمن تورّطَ باتخاذ مسلك هؤلاء.

ولنا أنْ نتخيّلَ مقدار استشعار هذا الإمام الهمام، خوفه من خطر هؤلاء؛ لما أوقعوه من فتن في حياته قبل تسنمه الخلافة وبعدها، ولما سيكون حال المجتمع، حين يطغى أمر هؤلاء، ويكون لهم الغلبة والحول والطول، من اضطرابٍ في مقاييسه، وفوضى في شؤونه، وتفشٍّ لرذائل الأخلاق، وانتهاك لقيم الإنسانية النبيلة، وضياعٍ للمُثُل العليا التي ينبغي أن تكون الربّان القائد لسفينة كل مجتمع ينحو إلى الخير والصلاح.

وقد يقول القائل معترضًا: وما شأنُنا نحن بهذه الفئة التي لم يكن لها تأثير سلبي في المجتمع، ما لم يكن الجهل سيّد الموقف في تلكم العصور، فبحضوره "الوبيل" تنتعش بفضله طبقة "الهمج الرعاع" وتعشو في دياجيره آخذةً في التمدُّد والانتشار، ولكن لا يختلف اثنان أننا الآن نعيش عصر العلم، عصر التكنولوجيا، عصر التوثيق الرقمي، عصر الذكاء الاصطناعي، عصر العولمة والحواضر العلمية، والمؤتمرات، والمختبرات، والبراءات العلمية في مختلف مجالات المعرفة، فلماذا الخوف والحذر من "الهمج الرعاع" وهم إنما يطفون على السطح الاجتماعي، في غياب كل ما ذكرناه من معالم الازدهار العلمي...؟! ويمكن لهذا السائل، أن يرى – وفقًا لقناعته – انتهاء صلاحية ذلك القول، وانحسار تأثيره في عصورٍ خلت، عشعش الجهل فيها، وباض في صدور أتباعه وأفرخَ، ما جعلهم لا يفرقون بين الناقة والجمل بحسب وصف معاوية داهية عصره، فلا حاجة لنا أن نستعيد هذا القول، أو نتخوّف أصلاً من مضاعفات تفشي هذه الفئة..!

وإذا أردنا الجواب عن سؤال هذا القائل، فإننا لا نملك إلا إجابتين لا ثالثَ لهما: إحداهما بالإيجاب، والأخرى بالسلب، وواحدةٌ من هاتين الإجابتين، لا تتطلّب من صاحبها بذل الأدلة والبراهين على إثبات مصداقيتها، والأخرى بعكسها تماما؛ إذ ستعتمد الأولى على ما طرحه سؤال هذا القائل، من أدلة، وتكتفي بها لتوكيد فكرته برهانا على صحته، فما على المجيب بذل الجهد إلا في دفع قناعة هذا القائل بالضدِّ منها؛ ليترجّحَ لديه سيرورة فحوى قول الإمام علي عن هذه الفئة، واستمرار تمثُّلاتها إلى يوم الناس هذا، وليكن بعدها على حذرٍ أن يكون جزءًا منهم، وهنا يبقى المعيار في ترجيح إجابة على أخرى، لا ينطلق إلا من الواقع المعيش، وليس الخيال الذي نفترض عليه ما ينبغي أن نكونَ عليه، فمن الواقع كانت المشكلة، ومن الواقع ينبغي أن يكون الحل لتلك المشكلة، ولا يصحُّ بحال، أن تتعالى على الواقع، ونُؤسِّسَ إجاباتنا على "ما ينبغي"، وفي مقام التوضيح، نجد هؤلاء الذين ينطبق عليهم هذا الوصف مختلفين لا عن بصيرة ووعيٍ، بل عن هوىً قاد كل فرقةٍ منهم إلى مسلكٍ دون آخر، وإلى جهةٍ لا تغني ولا تُسمن من جوع عن الأخرى، وأعني هنا بالجوع لا المستوى الماديِّ منه، بل المعنويّ، وهو الفكر، هذا الذي عبّر عنه الوائليُّ في إحدى أروع قصائده، بالقول:

فانهَد له بالفكرِ يخضُدُ جذرَهُ

فالفكرُ ليس بغير فكرٍ يُقرَعُ

*

وأغِثْ جياعَ عقيدةٍ فهُمُ إلى

فكرٍ يُسدَّدُ من طعامٍ أجوعُ

نعم، تجاذبَ الكثيرَ منّا الأهواء والميول، ولم يكن العقل دليلا لهم في ما اتخذوه من مذاهب واتجاهات، فما كان أسرعهم إلى الباطل، بوقوعهم أسرى في شباك العاطفة، وانهماكهم في إشباع غرائزهم، باتّخاذهم الهوى إلهًا يُعبَد من دون الله، وما العبادةُ سوى الطاعة والانقياد، وكأن القرآن الكريم تحدّث عن هؤلاء "الهمج الرعاع" في قوله الحكيم: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّـهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [القصص: من الآية ٥٠] ولا يخفى على المتأمِّل، ما تصفه الآية عن هؤلاء أنه لا يوجد أكثرَ ضلالةٍ منهم، وكأنَّ اتِّباع الهوى قرينُ الضلالةِ ومُؤدٍّ لها، والضلالة ليست إلا الضياع والتخبُّط بما يُنسي الإنسانَ قيمتَه العظيمة في هذا الوجود، ويجعله يسيء لهذا النظام الحكيم الذي سخّره الله لخدمته، شرطَ أن يكون سَوِيّ التفكير، سَوِيّ الوعي، سَوِيّ الفطرة، يبحث عن كل ما يرفع قيمته الإنسانية، ويربأ عن كل ما يشوِّهها أو يخدِّرَها أو يمسخها، ولعل من أوضح الأمثلة المؤلمة في واقعنا المعيش، أنَّ الكثير لا يأبه لأولي الفضل، من أهل العلم، فلا تجد لهم توقيرًا بين هؤلاء، ولا تعظيمًا لشأنهم، بعكس ذلك نجد الجهلة – أو الذين يلبسون مسوح العلماء وهم من الجهلاء – يلتفُّ حولهم الناس، ويتقاطرون عليهم، ويروّجون بضاعتهم، ويتهافتون لاقتناء ما يصدر عنهم، يتأثرون بهذا أو بذاك، من دون أنْ يكون لهم خيارٌ نابعٌ من دراية ومعرفة، فيتشبّثون بالآخرين، ويتّكلون على خياراتهم، فكانوا فعلاً كما وصفهم الإمام أنهم "همج رعاع أتباع كل ناعق"، ويُعقّب ابن أبي الحديد توضيحًا لهذه الفقرة بقوله: "ألا تراهم ينتقلون من التقليد لشخصٍ إلى تقليد الآخر لأدنى خيالٍ وأضعفِ وهمٍ..؟" .

وإذا نظرنا في واقعنا، وجدنا على سبيل المثال، ما يخص الجانب الثقافي، ففي المحالِّ المخصّصة لبيع الكتب، لا ترى الكتب المهمة تلقى اهتماما من الزبائن مثل كتب قراءة الكف أو تفسير الأحلام أو التي تتحدث عن أسرار الأبراج، أو كتب التنمية البشرية لمن هبّ ودبّ من أدعياء هذا المجال، أو الروايات والقصص المغمور أصحابها، والتي لا تحمل المضامين العميقة في مختلف جوانب الحياة، ولنُلقِ نظرةً أخرى في المجال السياسي، فهنا أيضا لا يختلف الحال عن سابقه، إذ الجمهور يميل إلى القائد الأكثر بذلاً للأموال والمغريات في سبيل الفوز في حملته الانتخابية، وهؤلاء الذين انقادوا لمغريات هذا المرشّح، لم يضعوا في حسبانهم أن صوتهم الانتخابيَّ أمانةٌ عليهم أن يُحسنوا الاختيار؛ ليكون مستقبلُهم ومستقبلُ أولادهم أفضل مما هم عليه الآن من بؤس وحرمان، فلم يُفكِّروا إلا في قضاء يومهم، وحالُهم بهذا الفعل المُتدنّي، "كَالْبَهِيمَةِ اَلْمَرْبُوطَةِ هَمُّهَا عَلَفُهَا أَوِ اَلْمُرْسَلَةِ شُغُلُهَا تَقَمُّمُهَا تَكْتَرِشُ مِنْ أَعْلاَفِهَا وَ تَلْهُو عَمَّا يُرَادُ بِهَا"،  بحسب وصف علي بن أبي طالب في رسالته لعثمان بن حنيف عامله على البصرة. وهكذا الحال نفسه تجدهم في أغلب المجالات، إذا لم نقل جميعها، يغيب العقل والوعي وانعدام الثقافة والذوق في أكثر سلوكياتهم ومواقفهم، ويسيطر الجهل بما يُقدمون عليه من فعل لا يكترثون أن يعود وبالاً عليهم فيما بعد..! ولعل من الأوصاف التي تنطبق عليهم، ما ذكره المسعوديُّ في وصف أخلاق هذه الفئة "أن يُسوِّدوا غير السيّد، ويُفضِّلوا غير الفاضل، ويُقوِّلوا بعلمٍ غير العالم، وهم أتباعُ مَن سبق إليهم من غير تمييز بين الفاضل والمفضول، والفضل والنقصان، ولا معرفة للحق من الباطل عندهم، ثم انظر هل ترى إذا اعتبرت ما ذكرنا ونظرت في مجالس العلماء هل تشاهدها إلا مشحونة بالخاصة من أولي التمييز والمروءة والحِجى، وتفقُّد العامّة في احتشادها وجموعها، فلا تراهم الدهر إلا مُرْقِلين إلى، قائد دبٍّ، وضارب بدف على سياسة قرد، أو متشوقين إلى اللهو واللعب، أو مختلفين إلى مشَعبذ متنمِّسٍ مُخرِّق، أو مستمعين إلى قاصٍّ كذاب، أو مجتمعين حول مضروب، أو وقوفاً عند مصلوب؟ يُنْعَق بهم فيتبعون؟ ويصاح بهم فلا يرتدعون، لا ينكرون منكراً، ولا يعرفون معرفاً، ولا يُبالون أن يلحقوا البرَّ بالفاجر، والمؤمن بالكافر". وهذه الصفات والأحوال لا نستغرب من وجود بعضها ماثلةُ في سلوكيات من يعيشون في عصرنا الحالي، مع بعض الزيادات التي تتطلّبها متغيّرات العصر، فلكلِّ عصرٍ أدعياؤه من الزعماء والرموز، ومن الهمج الرعاع.

ولو تصفّحنا العالمَ الافتراضيَّ – بوصفه العالَمَ المُوازي الواقعي ويعكس صدى شخصياتهم فيه – لما وجدنا كبيرَ فرقٍ عن الواقع الذي يعيشه من ينطبق عليهم وصفُ "الهمج الرعاع"، فمن يُروِّجُ للمحتوى الهابط غير هؤلاء...؟ ومن يتهالك تملُّقًا لصفحات أهل الدنيا من سياسيّين كذبة، أو أثرياء تنامت ثروتهم من الحرام والشُبُهات، ومن منافقين يدّعون – كذبًا وزورًا – أنهم يُمثِّلون الوطنية أو الإنسانية أو التديُّن أو الفن أو الثقافة أو غيرها من الدعوات العريضة، وليس لها وجودٌ حقيقي يتجسّد في الواقع، إلا في الكلام، أو لغرض الإشهار والصعود بتلك المُشاهدات على رؤوس هؤلاء المخدوعين فيهم، أو قد تجد من يتمسُّك بالإشاعات الكاذبة ليرضي هواه، فيشارك خبرًا كاذبًا، أو صورةً مفبركةً، لا أساس لهما من الصحة، ولا نصيب لهما من الوثاقة، فيلهث وراء بريق الإعلام الزائف، وتنطلي عليه الأكاذيب، ويبثُّها على صفحته منساقًا وراء رعيلٍ من الموهوبين أمثاله بتلك الأخبار أو تلك الصور، مسرورًا بها، وهو لا يعلم أنه بهذا النشر، أو بذلك التعليق، يُسهم - من حيث يشعر أو لا يشعر - في تخريب المجتمع، وزيادة الطين بلةً في مسخ قيم الإنسانية النبيلة فيه، مُشاركًا في ترسيخ الرذائل وتطبيعها في المجتمع، بما يُضاعف حجم الداء، ويقطع الطريق أو يكاد لمن يسعى إلى النهوض بواقع لما هو أفضل، وهذا كلُّهُ لا يصدر إلا من "الهمج الرعاع" أيًّا كان شكلهم أو مراتبهم الاجتماعية، بما يُوحِّدهم في هذه الفئة، عبر هذه السلوكيات التي تُترجم مصداق هذا الوصف عليهم سواء أكانوا من فئات متدنّية معيشيًّا لم تُتِح لهم الظروف إكمال شوطهم في الدراسة، أم كانوا من المتعلِّمين، ولكن لم يعملوا بما علموا، ولم يكن علمهم وسيلةً يرتقون بها في حياتهم اليومية لما فيه كمالهم العقلي والأخلاقي والنفسي، وهؤلاء الذين وصفهم القرآن الكريم (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّـهِ وَاللَّـهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)  [الجمعة:٥]  والحكمة من هذه الآية الكريمة أنها لا تقتصر في دلالتها حصرًا على من لم يعمل بآيات التوراة، بل تنطبق على كل من يحمل علمًا ولا ينتفع به، ولا يقوده إلى الخير والصلاح والإصلاح، إلى النور بعد أن كان في الظلام، وهذا ما يؤكده قول علي بن أبي طالب في حواره مع كميل عن هؤلاء، (لم يستضيئوا بنورِ العلمِ، ولم يَلْجؤوا إلى ركنٍ وثيقٍ) فهم جهلة فارغون من العلم، يلوذون بهذا أو بذلك من المُدّعين، يميلون مع كل ريح هوجاء – وهي رمز لكلِّ تيار أو اتّجاه أو رمز لا يمثِّل الخير والصلاح في مضمونه - لضعف معارفهم، ورخاوة وعيهم الذي بانعدامه يتعرضون لمثل هذه الاهتزازات في اختياراتهم، ولا يملكون الصمود إزاءها، أو لديهم من العلم ولكن لم يعرفوا كيفية الاستفادة منه، أو توظيفه ليضفي عليهم حصانةً فكريةً تقيهم شرّ الوقوع في شِراك الجهل أو من يقودون المجتمع لهاوية الجهل والتجهيل عبر تسطيح الوعي الجمعي وتخديره بأفكار تمحو شخصيته، وتمسخ هويته، وتزيُّن المنكر بشعارات جوفاء، بما آل حالهم إلى ما وصفهم الإمام علي .

***

د. وسام حسين العبيدي

يعد الأمام علي.. الأنموذج الذي جسّد جوهر الأسلام في صفات الحاكم وفي علاقة الحاكم بالمحكوم في نص وثيقة عهد علي للاشتر النخعي حين ولاّه على مصر. ولكي يكون التحليل علميا لهذه الوثيقة، فأن طريقة (تحليل المحتوى) تعد احدى الطرق العلمية المعتمدة لتحليل (المضمون).. فاستعنت بمن كان طالبي الراحل الدكتورشوقي يوسف بهنام (الذي كانت رسالته للماجستير عن تحليل المحتوى)، وحددنا اهداف تحليل نص (وثيقة العهد) بثلاثة:

- معرفة القيم السيكولوجية الخاصة بشخصية الحاكم،

- الكشف عن القيم الخاصة بعلاقة (سلوك) الحاكم بالرعية،

- ومقارنة القيم في عهد الأمام علي وما عليها في عهد حكّام أحزاب الآسلام السياسي في العراق.

لماذا القيم؟

كان اختيارنا (للقيم Values) مقصودا، لدورها الرئيس في صناعة الانسان وتحديد سلوكه وتوجيهه، ولأنها نظام متكامل من الاحكام والقواعد الاخلاقية والمعايير يخلقه النظام السياسي والمجتمع في نسق مميز ويعمل على اعطائه اساسا عقليا يستقر في اذهان افراده، ويزودهم بمعنى الحياة والهدف الذي يجمعهم من أجل البقاء.

دلالات العهد

يتضمن عهد الإمام (ع) لمالك الأشتر النخعي حين ولاّه مصر مجموعة قيم هدف منها تحقيق ما توصل اليه علماء النفس المعاصرون في ثلاث قضايا اساسية،

الأولى: ان يتمثل الحاكم القيم الايجابية في شخصيته بوصفه القدوة التي تتماهى به الرعية وتقلده.

والثانية: ان القيم هي التي تحدد سلوك الحاكم مع الرعية، وهي التي تحدد موقف الرعية منه،

والثالثة: ان القيم هي الرابط الذي يوحّد افراد المجتمع، وبدونها يتهرأ النسيج الاجتماعي وتشيع الكراهية والعنف والعدوان.

فضلا عن ان الأمام اراد لهذا العهد ان يكون وثيقة تستقى منها المباديء التي ينبغي على الحكّام ان يهتدوا بها في كل زمان ومكان.

تحليل النتائج

اجرينا تحليلا احصائيا (للعهد) بجدولين تضمن الأول القيم الخاصة بشخصية الحاكم وكانت (16) قيمة، بينها (تقوى الله واتباع ما أمر به، اختيار أفضل الرعية للحكم، الأستعانة بأهل الخبرة في طلب المشورة، اكرام العلماء ومجالستهم.. وانتهاء بسعة الصدر وعدم التسرع في اتخاذ القرارات).

وتضمن الثاني القيم الخاصة بسلوك الحاكم مع الرعية وكانت (15) قيمة، بينها: (العدل والانصاف في التعامل، عمارة الأرض، اعتماد مبدأ التدرج الوظيفي، عدم اشعار الرعية بالمنّية، مراقبة دور الحاشية والمتملقين والمنافقين، الأصغاء للعامة من الناس، وانتهاء بالأبتعاد عن الغضب المؤذي والقسوة).

ولدى المقارنة بين مواصفات الحاكم وسلوكه مع الرعية في عهد الامام علي وبين عهد حكّام احزاب الأسلام السياسي، تبين ان واقع الحال هو بالضد من تلك القيم، وسنكتفي بواحدة تخص الضمير تحديدا، بوصفه الرقيب على افعال الانسان، أو القاضي الذي يحكم بالعدل، أو صوت الله في الانسان.. وفص العقيق في الخاتم الذي اذا نزعته منه صار لا يساوي شيئا.

أقبح الضمائر

مع بشاعة الضمائر الميتة، فأن أقبحها هو خيانة الأمانة التي تخص الناس حين تكون بذمّة حاكم مسؤول عن الرعية، وأوحشها حين يكون هذا الحاكم قياديا في حزب اسلامي، وافجعها حين يعلن هذا الحزب انه يقتدي بالأمام علي.

وللتاريخ فان السيد نوري المالكي يعدّ هو المسؤول الأول عن خيانة الذمة بشهادته الصريحة عبر الفضائيات: (لديّ ملفات للفساد لو كشفتها لانقلب عاليها سافلها) لأنه كان على يقين بأنه ان كشف الفاسدين من الخصوم فأنهم سيفضحون حيتان فساد من حزبه.

ولم يصغي هو ومن بعده للرعية كما أمر الأمام، ولم يستجيبوا لمطالب المتظاهرين بالأصلاح التي استمرت تظاهراتهم من شباط 2011 الى انتفاضة تشرين/اكتوبر 2019، ولم يكترثوا بما نشرته الصحف من كاريكاتورات ساخرة بمرارة عن وزير هرب بأموال الناس المساكين بما يعادل ميزانية موريتانيا، وموظف كبير يستحرم أخذ الرشوة في الدائرة لأنه صائم، ويطلب من الراشي ان يأتيه بالدبس الى بيته بعد الافطار!

الحاكم.. سيكولوجيا:

يقدّم العهد مآثر في فلسفة الحكم وسيكولوجية الحاكم. ففي قوله (لا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم اكلهم..)، فانه يطرح مقياسا كاملا للعدالة فيه بعد سيكولوجي هو ان يضع الحاكم نفسه موضع المحكوم، فيكره له ما يكرهه لنفسه. والتقط حقيقة سيكولوجية بثلاث مفردات في قوله (اجتنب ماتنكر أمثاله).. اي عدم فعل ما لا تحب ان يفعله الآخرون بك. ويذكّر الذين جاءوا الى السلطة من داخل الشعب انهم كانوا قبل ذلك يثيرون النقد ضد سيئات الحاكم السابق، فيدعوهم الى ان لا ينسوا مواقعهم النقدية السابقة فيصغوا الى النقد الآتي من القاعدة الشعبية.. وتلك اثمن نصيحة لم يأخذ بها من جاء بهم الشعب الى السلطة بعد التغيير، مع اننا كنّا اطلقناها في (2004) وموثقة في كتابنا (الشخصية العراقية بين المظهر والجوهر)لأنهم كانوا لا يستعينون بأهل الخبرة في طلب المشورة ولا يجالسون العلماء، بل انهم احاطوا انفسهم بالذين يقولون لهم ما يحبون ان يسمعوه.. ولهذا كانوا هم الأفشل والأفسد في تاريخ العراق الذي اعتبروه غنيمة لهم فتقاسموه.

***

أ.د. قاسم حسين صالح

قررتُ اليوم تقييم اقتباس بابلو بيكاسو: "الفن كذبة تقربنا من الحقيقة"، لأن هذا الادعاء يحتوي على عدة قضايا قد تؤدي، حسب التعريف، إلى صعوبات أكبر في التفسير. ماذا نعني بـ "الحقيقة"؟ وما هي "الكذبة"؟ وماذا نعني بـ "الفنون"؟ ومن نقصد عندما نقول "نحن"؟ يُفهم العمل الفني، كموضوع منفصل، من قبل كل فرد. فهو يُلهم "نحن" جميعًا، سواءً كنا مبدعين أو متلقين للفن، ليؤدي إلى استنتاجات محددة وشخصية. لذلك، ليس فقط الافتراض الأساسي بل أيضًا النتيجة الرئيسية للفنون هي النسبية؛ لهذا السبب لا يمكننا تحديد أي قيم مطلقة فيه. وكما قال بيكاسو مرة: "لن تفهم الفن طالما أنك لن تدرك أنه في الفن 1+1 يمكن أن يعطي أي نتيجة سوى 2". هذا يؤكد، في رأيي، أن الفن لا يستطيع أبدًا تقديم إجابة مطلقة، وبالتالي هو "كذبة" بالمفهوم المطلق. وعليه، فإن الفن يوضح فقط الانطباع الشخصي للفنان، حقيقته، ولا يمكن أن يكون مقياسًا لأي تمييز واضح بين المطلق والانطباع ذاته. بما أن الاقتباس لبيكاسو هو ما يتم تقييمه في هذه المقالة، فيمكن شرحه في سياق النظرية التكعيبية للحقيقة، حيث تدعي النظرية أن الحقيقة الكاملة هي مجموع كل وجهات النظر. فكلما زادت الحقائق الشخصية، من منظور نسبي، أو الأكاذيب المتعددة (غير المكتملة)، من منظور مطلق، يقترب المرء أكثر من معرفة الحقيقة. هذه هي الطريقة التي يكون فيها الفن كذبة تساعدنا على إدراك الحقيقة.

سأثبت فرضيتي من خلال تحليل نوع الحقيقة التي توصلني إليها لوحات يوهانس فيرمير، الواقعي، وبيير أوجست رينوار، الانطباعي، وإدوارد مونش، التعبيري، وريج روسو، التكعيبية، حول النساء، كل على حدة ومجتمعة. تم اختيار هؤلاء الفنانين والحركات التي يمثلونها بسبب التباين الأساسي في طريقة تصورهم للحقيقة وتعبيرهم عنها. فهم يمثلون نهجًا متنوعًا يسمح بإبراز العيوب في كل وجهة نظر والوصول إلى استنتاج معتدل يقع في صميم فرضية التحقيق.

لوحة "خادمة الحليب" لفيرمير تصور امرأة تقف في مطبخ تعد طعامًا. ملامح وجهها هادئة، ومن ملابسها ومحتوى الغرفة يمكن الحكم بأنها تعيش في مستوى من الرفاهية. تقدم اللوحة بطريقة ما، الواقع الاجتماعي في القرن السابع عشر في هولندا، مما يعطيني حقيقة اجتماعية وتاريخية عن المرأة. بالإضافة إلى ذلك، فإن حقيقة فيرمير عن النساء هي أنهن حاميات المنازل. وجهة نظره تقع في إطار نظرية التطابق للحقيقة، التي تدعي أن شيئًا ما يكون صحيحًا إذا تطابق مع واقع معين. على الرغم من التغييرات الاجتماعية الحديثة في القرن العشرين بشأن مكانة المرأة، فقد كان لها دائمًا دور كبير في رعاية المنزل. الحركة نفسها هي مثال على الواقعية التي تندرج ضمن نظرية المحاكاة في الفن. مفهوم المحاكاة يفترض أن غرض الفن هو نسخ الواقع. لذلك، تنشأ المشكلة عند تقييم الواقعية؛ هل هي خاطئة لأنها تتعامل مع التقليد، أم هي صحيحة من خلال مفارقة الخيال بأن النموذج يقدم بعض أنماط السلوك البشري؟ أعتقد أن فيرمير، عن طريق تجريد الشخصية من هويتها الشخصية مقابل إنشاء نموذج عام، يعيق الحقيقة الشخصية لهذه المرأة. هو يعرض النظام الاجتماعي والحقيقة التاريخية بشكل فعال، لكن التعميم يكون دائمًا حول المتوسط فقط، وليس جميع الاحتمالات.

لوحة "امرأة مع كلب" لرينوار تصور امرأة مع كلب تجلس على العشب. تم استخدام الخطوط الضبابية لإظهار حركة العشب. بالنظر إلى تفتح اللون والظل الأحمر على الفتاة، يمكن الحكم بأن الوقت هو فترة ما بعد الظهيرة. تنطبق حقيقة رينوار في هذه اللوحة فقط على مظهر المرأة في مكان محدد وزمان محدد. بالإضافة إلى ذلك، فإن اللوحة تقول شيئًا شخصيًا عنها؛ أنها ربما كانت تستمتع بوقتها في الطبيعة، حيث يعبر وجهها عن البهجة، وأنها ربما كانت تحب مشاهدة الغروب. اللوحة هي مثال حي للانطباعية. فالانطباعية تحاول إثبات أن الحقيقة ليست تعميمًا، كما في الواقعية. بل تكشف الحقيقة حول أشياء معينة في زمن ومكان محددين جدًا. لذلك، تقع الانطباعية أيضًا ضمن نظرية التطابق للحقيقة، حيث تتطابق لوحة رينوار مع واقع – مظهر الفتاة أثناء الغروب. ولكن بما أن الانطباعيين حاولوا تخليد النظرة العابرة، علينا أن نسأل أنفسنا: إلى أي حد تُعتبر هذه حقيقة جيدة؟ بمتابعة أفكار مونيه، أفترض أن الحقيقة عن كل شيء ستكون محجوبة في سلسلة من النظرات. وبالتالي، فإن إظهار مجرد واحدة من هذه النظرات التي لا تُحصى في عددها يعطينا جزءًا صغيرًا جدًا من الحقيقة حول النساء عمومًا والفتاة بشكل خاص.

لوحة "مدونا" للفنان إدفارد مونك تُظهر امرأة ذات تجويفات غائرة في عينيها وقوام نحيل، ما يجعلها تبدو كشيطانة. يرمز الجنين في الزاوية اليسرى إلى الخصوبة، مما يصور المرأة كمصدر للحياة. ويُظهر وجهها شعورًا بالنشوة، وبربط هذه الصورة مع عنوان العمل "مدونا"، الذي يمثل النظرة المسيحية للأم المقدسة، قام مونك بتقليل قيمة المرأة. فقد كان الفنان كارهًا للنساء، وحقيقته هي أن المرأة مصدر لكل المعاناة، وأم الهرطقة، وتجسيد للشر الخالص. بالنسبة للتعبيريين مثل مونك، فقد أرادوا عرض العالم من خلال منظورهم الشخصي. كانت الفكرة الأساسية في هذا التيار هي عدم تقليد الواقع، بل تقديم آراء شخصية وذاتية للغاية التي تفترض أن القضية تكون صحيحة إذا كانت تتوافق مع مجموع معتقداتنا. على الرغم من أن مفهوم المرأة كشيطان قد يكون صحيحًا بالنسبة لمونك، فإنه بالنسبة لمعظم الناس يُعد وجهة نظر متطرفة ومتحيزة. ومع ذلك، فالتعبيرية، بسبب افتراضاتها الأساسية، تتحدث عن الفنان أكثر مما تتحدث عن العالم. ينبع تصور مونك من خوفه من المرأة، ولهذا هو ضيق للغاية. ومع ذلك، فإن هذا التضييق هو إجراء متعمد. الفنان، بصفته تعبيرياً، يقول من خلال أعماله: "هذه هي حقيقتي، فما هي حقيقتك؟"

لوحة ريج روسو لا تصف، كما يوحي العنوان، الشكل الخارجي. ففي "بورتريه" تصور ثلاثة أجساد مختلفة، مما يُظهر تعقيد وتنوع طبيعة المرأة. يمكن أن تكون مبتهجة ودافئة (برتقالي)، أو متحفظة وباردة (أخضر)، وهناك أيضًا شخص بينهما، بالكاد مرئي، بني اللون - يُحاكي الغموض الكامل وتجسدات المرأة الأخرى. الحقيقة التي تحملها روسو عن المرأة مخبأة في الرموز: الوجه الأخضر يشبه القناع، وهو يعني المظهر الخارجي، مما يعني أن الشخص المبتهج يمثل الطبيعة الداخلية للمرأة. ولذلك، فإن اللوحة تمثل جوهر نظرية الحقيقة في التكعيبية - لعرض الشيء في أوسع سياق ممكن عن طريق النظر إليه من وجهات نظر متعددة. بعبارة أخرى، تفترض التكعيبية أننا نقترب من الحقيقة بقدر ما نتعرف على المزيد من وجهات النظر. لكن، ما مدى جودة تلك الحقيقة؟ أدرك الآن أن الحقيقة المطلقة عن المرأة تعني جمع كل الحقائق الشخصية عن كل امرأة بشكل منفصل، ومع ذلك فإنها مهمة مستحيلة. علاوة على ذلك، فإن أي محاولة لرسم رؤية معتدلة رياضيًا عن المرأة ستعني العودة إلى نقطة البداية، أي مفاهيم التعميم والمحاكاة. لذلك، ما يتم تحقيقه من خلال التعامل مع الفنون ليس فقط اكتشاف مدى جهلنا، بل أيضًا مدى صعوبة فهم الحقيقة المطلقة واستحالة تصويرها.

ماذا استفدت من التعامل مع لوحات فيرمير، ورينوار، ومونك، وروسو؟ لوحة "خادمة الحليب" أخبرتني عن الوضع الاجتماعي في هولندا في القرن السابع عشر. ورينوار خلد نظرة فتاة أثناء غروب الشمس، والمشاعر التي عبر عنها وجهها وحركة العشب من حولها. ومونك أخبرني عن كرهه وخوفه الشديدين من النساء. وأوضحت لي روسو ألا أثق في الانطباع الأول لأن المرأة كائن معقد للغاية.

لذلك، أصبحت أكثر حكمة بفضل وجهات النظر التي نقلتها هذه اللوحات الأربع، ولكن أدرك الآن أنني أصبحت أفقر بسبب افتقادي للرؤى التي تحتويها آلاف اللوحات الأخرى. وهكذا، "أعلم أنني لا أعلم شيئًا" من الحقيقة المطلقة عن المرأة، لأنني فقط التقطت فكرة عن تعقيد الحقيقة. عندما قال بيكاسو إن الفن هو كذبة تساعدنا على إدراك الحقيقة، أعتقد أنه لم يكن يقصد أي أسلوب معين، أي لم يكن يقصد أن الواقعية كذبة، بل أن جميع الإنجازات في الفنون، بجميع أنماطها وافتراضاتها، غير مكتملة. وبالنظر إلى أن بيكاسو هو من أنشأ التكعيبية، لا أستطيع مقاومة تقييم ادعائه فيما يتعلق بنظرية الحقيقة في التكعيبية. وفقًا لهذه الفكرة، فإن الحقيقة المطلقة هي فسيفساء تتألف من عناصر مختلفة. بمعنى آخر، ما قصده بيكاسو هو أن الفنون مغلقة ضمن حدود محددة لأنماط مختلفة ولا يمكنها تقديم الصورة الكاملة، وبالتالي هي كذبة. ومع ذلك، كلما تم خلق أشكال ومفاهيم جديدة أُضيفت المزيد من وجهات النظر، حتى تكتمل الفسيفساء قطعةً قطعة.

***

الأستاذ محمد إبراهيم الزموري

 

في الأفق الفلسفي، تبرز خوارزمية الحرب، كحتمية إنسانية مجردة من أي استثناء (السلم والاستقرار). بل إن طبيعة تكوينها تنتج عن مفارقة ثابتة، تقوم على اعتبار "الشريعة نزاعا" مستمرا ومقدرا، وأن "الحرب ملك للجميع، وأب الجميع أيضا" بحسب عبارة هيرقليطس.

السؤال: ما الذي تقدمه الحرب، في صراعها ضد قيم الوجود والإنسان والحتميات التاريخية؟ وما التأثيرات النفسية والثقافية التي تتولد بإزائها، عند تقديمها كإرادة وعقيدة وسلوك، وفكر واستراتيجيا أيضا؟

هل تسقط الماكينة الإعلامية، في تدوير هذه الفرضيات القيمية، وتشكيلها بالأنماط التي تمت صناعتها في كل النماذج الحربية العالقة في متاهة التاريخ المظلم، على اعتبار قوة "الإسقاط" التزييفي للحقائق، وتأويلها إلى بيانات ضدية، غارقة في المواربة والتعتيم والزيف وصناعة الأوهام؟.

فعندما يتم توجيه بوصلة الأخبار عن الحرب، في اتجاه ابتداع تأويلات مبطنة للعمليات العسكرية، بخلفيات سياسية معينة، وتأطيرها على مستوى البناء الإعلامي الموجه، يصبح العمل الصحفي عائدا لا منتظما لما يسميه هاوارد تومبر ب" الاستنتاج النظري في التغطية الإعلامية للأخبار". وهو ما يفرض وجود نقائص في تناول الحرب كساحة طرفية للغالب الذي يستعمل كل مقاصد البروبجندا ضد الطرف المغلوب، العاري من كل شيء، والمعزول عن العالم، والمضطهد بالقياس الأخلاقي لحقه في الإعلام والتوجيه.

وإذا كان استعمال الحروب هنا، يناكف مناط التوجه السياسي، في شكله المنبثق عن تكتلات قوية، تفرز آلياتها بإزاء هذا التفوق والضغط والتكشف على حقيقة العدالة العالمية، بمعناها المغاير للحقوق الأممية والإنسانية المتعارف عليها، فإن منطق السلام هو الآخر، يصير أثرا لحقيقة صناعة الحروب وتداعياتها على الوعي الجمعي وتداولياته في الخطابات الإعلامية المبتوتة في الأحواز الفضائية الزرقاء وغالب مواقع التواصل الاجتماعي، المرهون بفعل قوة الصانع وتبعيته للسياسات المخترقة.

في هذا المنحى بالذات، أورد الباحث الإنجليزي ستيوارت آلان صاحب كتاب "الإعلام، علم ومخاطر"، في كتابه الآخر "الصحافة: قضايا نقدية"، مجسا رصديا لمجموعة نماذج في انشغال النقد الصحفي بإشكالية تفوق الأخبار الحربية وانحيازاتها الثاوية في تعبئة الرأي العام، مع استحضار خلفيات اختيار الأخبار وتوتراتها البنيوية وتأثيراتها في الدوال السياسية المجتمعية والخطابية عامة.  

ومثل ستيوارت بحادث تفاعل الصحافة الامريكية مع أحداث 11 سبتمبر، مبتدعا ثلاث أسئلة نسقية، حولها إلى منطقة تحليل استبياني، تحولت فيه كل المعطيات الواردة في التعليق إلى مجال مفتوح للنقاش والجدل. أما الأسئلة الثلاثة المطروحة بنظر ستيوارت (1) فهي:

ـ كيف ومتى بدأ الحديث عن الحرب بعد 9 / 11؟

ـ ما أشكال الوصف الأخرى المتاحة؟

ـ هل فقدت الصحافة تأثيرها الانطباعي من الشخصيات العامة؟

ومهما كان تحليل الخطاب هنا معبأ لتأسيس قاعدة استشرافية متوترة وضاغطة للمعرفة والاستنتاج السيروري، فإن تحويل الحادث (الإرهابي) بلغة التوصيف، إلى عملية شن (حرب)، تجرد التغطية الصحفية من حدودها المنطقية والعقلية، الساردة لفعل غير موجود، أو هو في وارد الافتراض، الذي يترتب عليه، توجيه منظور، يراد لتداعياته الزمنية المواربة، أن تفعل في سلطة ما، يمكن أن تكون الرأي العام، أو مراكز القرار، أو حتى منظومة الحكم، بشكلها الدولتي.

وغالب اعتقادي، أن البناء الإيقاعي لمدلول هذا الاستنتاج الذي حصرته الآليات الإعلامية في هذا الاعتقاد الصارخ لحدوث شن عملية حربية، له ما يكيف أسلوبه المباشر في استحضار المشهد أولا، ثم تحويله إلى مبدأ للتكيف.

وستيوارت آلان نفذ ببدهيته الخبراتية الإعلامية إلى هذا النظر، فقال في فورة برهانية سماها ب"ملاءمة الاستجابة لكل من المشهد المذاع ومبدأ الكيف": "إذا كانت مشكلة الوصف هي "الجودة" أو "الدقة"، و"الحصول عليها صحيحة"، أي عدم قول ما يمكن أن يكون غير مؤكد، فإنها سوف تصبح سريعا مشكلة "كم"، كما في المصطلحات "الجريسية"، اجعل مساهمتك مليئة بالمعلومات من أجل أغراض التغيير الحالية"، و"هذا المبدأ الجوهري يمكن إعادة تسميته ب"مبدأ التضخيم المتزايد" (2).

إذا كان الأمر هنا يتعلق فقط بتأويل نقل خبر متجاور للدلالة على "الحرب" من عدمها، فما بالك بالوقوع في "الحرب" ذاتها، أو خوضها، واستعمال أسلحة محرمة، وتحويلها إلى أداة للسيطرة والتقتيل والعدوان المبرح، والإبادة الجماعية حتى؟.

إنها المقاتلة المعكوسة، التي تجعل من الحروب شكلا من أشكال الإفناء والقطيعة المخزية. ليس فقط، لأنها شيطانية ومرعبة وغير قابلة للتحويل "الاجتماعي" أو "السياسي"، بل لكونها تفيض عن الحاجة العقيدية أو القدرية أو الاختلافية.

***

د مصطفى غَلمــــان

.....................

1 و2 ـ "الصحافة: قضايا نقدية" ستيوارت الان، مجموعة النيل العربية، ط1 / 2009 ـ ص405 و 410

لموقف فرانكل (1905-1997) الايجابي من الدين واقعة في منتهى القسوة. فهو طبيب نفسي نمساوي أمضى خلال الحرب العالمية الثانية ثلاث سنوات في أحد المعسكرات النازية، وكان وقتها أستاذا لعلم الأعصاب والطب النفسي بجامعة فينا. وكان والده وأخوه وزوجته مسجونين ايضا وقد لقوا حتفهم في معسكرات الموت أو أرسلوهم الى أفران الاعدام بالغاز. وعن هذه التجربة القاسية والمرعبة أصدر في عام 1959كتابا بعنوان (من معسكر الموت الى الوجودية)، أعاد طبعه في عام 1963 بعنوان جديد هو (الانسان يبحث عن المعنى) وصف فيه الاذلال والمهانة والرعب والتعذيب التي عاشها في السجن، وشرح كيف استطاع هو وآخرون أن يعيشوا نفسيا في ظروف معسكر الموت. واستنتج فرانكل بأنه استطاع أن يحافظ على توازنه الانفعالي لكونه نجح في ايجاد معنى لمعاناته المريرة التي ربطها بحياته الروحية. ورأى أن روحه هي التي أعطته الحرية لتجاوز ظروف فرص البقاء فيها ضئيلة. واكتشف أن بداخله طاقة ورؤية مستقبلية ترفعه فوق ظروف القهر والسجن والجوع والبرد والقسوة.. وتوقع الابادة في كل ساعة.

والذي جعل فرانكل يتحول من منهجه الفرويدي الى منهج روحي وجودي هو أنه لاحظ أن السجناء الذين كانوا معه في معسكر الاعتقال كانوا على نوعين، الأول: شحبت وجوههم و هزلت أجسامهم وصاروا جلدا على عظم، والثاني :صمدوا  وظلوا في صحة جسمية ونفسية أفضل..وتبين له، بعد دراستهم، أن الصنف الأول فقدوا الأمل في الخلاص وصاروا كالمحكوم بالاعدام الذي ينتظر لحظة التنفيذ، فيما النوع الثاني كان لديهم ايمان ديني او روحي منحهم القدرة على تحمل المعاناة والتعلق بالحياة.

ويعتقد فرانكل ان الامراض النفسية وبخاصة الكبت تنشأ حين لا يكون للفرد غرض او هدف في العيش او الحياة، وأن الانسان  يكون أكثر مقاومة للمرض النفسي وأسرع تعافيا منه اذا كان في حياته معنى يشكل له هدفا وغاية، وأن الايمان من أهم المعاني التي تمنح لحياة الانسان معنى وجدوى، ويكون لوجوده أهمية ومغزى. وبتعبير جوردن البورت في مقدمته لكتاب فرانكل (الانسان يبحث عن المعنى): " هنا نقف على الفكرة الرئيسة للوجودية: فلكي تعيش عليك أن تعاني، ولكي تبقى عليك أن تجد معنى للمعاناة. واذا كان هنالك هدف في الحياة، فانه يوجد بالتالي هدف في المعاناة وفي الموت ". ويذكر فرانكل أنه وجد في بعض الأحيان معنى في الموت، اذ يموت الانسان سعيدا من أجل معنى ديني أو روحي أو وطني. هذا يعني أنه عكس سارتر الذي وصف الموت بأنه نهاية سخيفة.

وقد استخدم فرانكل طريقة جديدة في العلاج النفسي أسماها (العلاج بالمعنى Logo Therapy) يوظّف فيها الأفكار والنصوص الدينية التي يعتقد بها المريض في تصحيح ما لديه من أفكار مرضية أو مغلوطة. وابتكر نوعا جديدا من العصاب أسماه (عصاب اللامعنى أو الفراغ الوجودي) حدد أهم أعراضه بالشعور بالملل والتعاسة والفراغ الداخلي وعدم الرضا والاحساس بأن الحياة لا لون ولا طعم لها بالرغم من أنه لا يوجد سبب واضح لهذه الأعراض. ويعزو فرانكل أسباب العزلة والاغتراب الى فشل صاحب المعاناة في أن يجد معنى واحساسا بالمسؤولية ازاء وجوده. وبهذه الانجازات فقد عدّته مجلة تايم الأمريكية بأنه يمثل المدرسة النمساوية الثالثة في العلاج النفسي بعد فرويد وأدلر.

وقد عبّر فرانكل عن المعنى عبر ثلاثة انواع من القيم هي: قيم الخبرة " التي تتحقق من خلال الوجود المدرك في العالم"، والقيم الابداعية " التي تتحقق من خلال الفعل المباشر في العالم "، وقيم الاتجاه " التي يتوقف تحقيقها على وعي الفرد، وتكون ممكنة حتى حين يحال التعبير عن قيم الخبرة والقيم الابداعية ".

ونوضّح، من جانبنا، أن في الفلسفة الوجودية فريقين من الوجوديين، الأول: الوجوديون المؤمنون، ويمثلهم جابريل مارسيل وكارل يسبرز من الفلاسفة، وفرانكل من علماء الطب النفسي. والثاني: الوجوديون الملحدون، ويمثلهم هايدجر وسارتر من الفلاسفة، ورولو مي من علماء النفس.

ويرى الفريق الأول (المؤمنون) أن للانسان طبيعة بشرية خلقه الله بمقتضاها، ثم بعد ذلك يختلف الناس ويتباينون، فيما ينكر الفريق الثاني (الملحدون) أن للانسان شيئا أسمه الطبيعة البشرية، لأنه لا يوجد الرّب الذي تمثل وجود هذه الطبيعة، كما يرون.

***

أ.د. قاسم حسين صالح

تتعدد طرق تعليم الرحمن للانسان تعددا لا نهائيا في المناهج والاساليب بحسب استعداد العبد للاستقبال وتبعا لتوجه العبد لمولاه.

الرحمن علم القرآن خلق الانسان علمه البيان، ومن تعليم الله للانسان البيان، تعليمه النطق بلغات وألسن مختلفة، وتلقينه الكتابة بخطوط متنوعة، فبالنسبة للألسن يمكن ان نذكر اللغات الهند أوربية كالانجليزية والألمانية والفرنسية.

واللغات السامية مثل العربية والآرامية واللغات الصينية التبتية كالماندرين والكانتونية.

اما بالنسبة لتنوع خطوط الكتابة يمكن أن نستحضر الخطوط الرومانية المستخدمة في اللغات الأوربية والخطوط الصينية التي تستخدم رموزا معقدة والخطوط الابجدية المستخدمة في اللغات الفارسية والعربية.

من طرق تعليم الحق للانسان المؤمن، أمره بتكرار مجموعة من الآيات القرآنية وصلوات على الرسول وأدعية وحركات إشارية مومئة للحق عز وجل بالخضوع والاجلال.

لا شك أن كل مقيم للصلاة بخشوع قلبي سيرتقي بفهمه عروجا ذوقيا مقصودا منه سبحانه من أول ما فرض الصلاة من فوق سبع سماوات على احب الخلق اليه حبيبنا جميعا مولانا محمد صلوات ربي وسلامه عليه.

فالسجود الظاهري بالجسد مراد منه طبعا خضوع الباطن للمولى عز وجل في سائر الاعمال اليومية، حيث لا يختلف اثنان ان إشارة الموظف لرب العمل بتمرير بطاقة العمل الالكترونية على الآلة الالكترونية التي تسجل حضور الموظفين كل صباح أو عند انصرافهم انما هو دليل على حضوره للعمل لا على قيامه بالعمل، وانما يقاس العمل بالمردودية ومؤشرات قياسها على لوحة القيادة.

كذلك الامر يمكن ان يقال في حقل العبادة، فإن الصلوات الخمس انما هى إيماءة من العبد لمولاه خمس مرات في اليوم انه حاضر في اوقات الصلاة لا على انه حاضر بنيته في سائر اعماله اليومية، وانما الصلاة تدريب يومي على التوجه القلبي لرب العباد في سائر أوقاته خلال اليوم, فيحضر قلبه خلال صلاة الفجر مثلا دقيقة كاملة وخلال صلاة فجر آخر دقيقتين الى أن يرتقي إلى الخشوع خلال الصلاة كلها ويغفل في أخرى، فيستمر شيئا فشيئا الى أن يرتقي إلى تحصيل خشوع قلبي خلال الصلوات الخمس كلها، ومن ثم الى سجود قلبي دائم لا ينقطع يقظة ومناما، ليلا ونهارا.

و دفاعا عن زيارة مقامات الاولياء واضرحة الصالحين لا ينبغي ان ننسى إشارة الحق خلال اهم فريضة في حقل التوحيد التي هي الصلاة، فكل عبد مسلم مأمور بترديد كلمات التشهد التي من ضمنها قول المؤمن: السلام عليك أيها النبيئ ورحمة الله تعالى وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، تكرارا يتردد كل ركعتين ليس فقط في صلوات الفرائض بل يتعداها الى صلوات النوافل عل وعسى ان يفهم المتدبر للوح الصلاة أو قل سبورة الغيب ان كاف الخطاب دليل على حياة دائمة لروح النبي الكريم وأرواح الصالحين شهداء جهاد النفس، الذي هو اعظم جهاد، ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل احياء عند ربهم يرزقون.

لكن من غريب الصدف ان نفس العبد الذي سلم بكاف الخطاب على النبي الكريم صلى الله عليه وسلم كما سلم على عباد الله الصالحين جميعا بدون استثناء إذا فرغ من الصلاة وطلبت منه زيارة مقام من مقامات الصالحين اخبرك انه عمل من قبيل الشرك والعياذ بالله.

يصلي كل منا الصلاة الإبراهيمية مرددا عددا لا بأس به يوميا : اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما صليت على سيدنا ابراهيم وعلى آل سيدنا ابراهيم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما باركت على سيدنا ابراهيم وعلى آل سيدنا ابراهيم في العالمين انك حميد مجيد، ولا شك أن كل متدبر في هذا القول سيفهم ان الصلاة من الحق للعبد بركة ورحمة وكأننا ندعو لهؤلاء الانبياء والصالحين بالبركة والرحمة في مراقدهم شكرا لما قدموه من تضحيات وبرورا بآباء روحيين أوصلوا لنا الاسلام غضا طريا.

لنر المسألة من زاوية أخرى ليتخيل احدنا انه مدعو لندوة علمية بمدينة الخليل حيث يرقد نبي الله ابراهيم عليه السلام او وادي شعيب جنوب مدينة السلط بالاردن حيث يرقد نبي الله شعيب عليه السلام او بجنوب مدينة البتراء على جبل هارون حيث يرقد نبي الله هارون عليه السلام، لا شك انه سيجد وقتا ولا بد لزيارة مقام احدهم بالمدينة التي زارها لغرض علمي دون ان يتساءل للحظة هل زيارته بدعة ام لا، لان زيارته ستكون تلقائية لمحبته القلبية لهؤلاء البررة، فكذلك زيارة الابن لأبيه او أمه سوف يزورهم دون ان يسأل نفسه هل هي بدعة ام لا، وان تساءل ولو للحظة سيكون ذلك جحودا لاهل خير وفضل، فكذلك زيارة مقامات الاولياء والصالحين من آل بيت رسول الله ندعو لهم خلال كل صلاة ابراهيمية ان يبارك فيهم كما بارك في آل سيدنا ابراهيم عليه السلام، بمعنى ان يرقيهم في عالم الارواح وفي مراقدهم وينتج ممن لم يولدوا بعد من ذرياتهم رجالا صالحين كما انتج الانبياء من ذرية ابراهيم عليه السلام، لكن بمجرد الانتهاء من الصلاة أن طلب من احدهم زيارة مرقد من مراقدهم ردد دون وعي وتأمل في لوح سبورة الصلاة التي انتهى منها للتو ان ذلك بدعة. فعجبا كل العجب وما اشد هذا العجب.

***

د محمد غاني

بقلم: راؤول روجاس

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

راؤول روجاس عن أصول واشتقاق بعض المصطلحات الرياضية التي نستخدمها بكثرة 

الجبر كلمة عربية. لفهم أصلها، يجب أن نعود إلى الوقت والمكان الذي ظهرت فيه قصص ألف ليلة وليلة، خلال العصور الذهبية الإسلامية، عندما تحول الإمبراطورية الإسلامية إلى قوة عسكرية وعلمية عظمى. كان ذلك في وقت حكم الخليفة هارون الرشيد في بغداد، عاصمة الإمبراطورية. كانت تلك الحقبة، التي تم وصفها ببراعة في حكايات شهرزاد، بطلة ألف ليلة وليلة، حين كان العالم العربي هو المكان الذي كانت فيه الحقيقة والسحر يلتقيان.

قبل العصور الذهبية الإسلامية، تعود أصول الرياضيات إلى أولى المعارف الحسابية — إلى اختراع الأرقام والعمليات الممكنة بها. لاحقًا، طور اليونانيون الهندسة وأساسيات المعالجة الرمزية في الرياضيات. مضى ثلاثة وعشرون قرنًا منذ أن جمع إقليدس الإسكندري، في عمله العظيم "العناصر"، المعارف الحسابية والهندسية في عصره. ومع ذلك، استغرق الجبر وقتًا أطول في التطور، حيث أن هذه المادة تتعامل مع الأرقام ككيانات مجردة، ومتغيرات يمكن أن تأخذ قيمًا مختلفة.

بينما كانت أوروبا تتلمس طريقها في ظلام العصور الوسطى، أنقذ العرب الإرث العلمي لليونانيين. كان ديُوفانتُس، عالم الرياضيات اليوناني العظيم، هو من تجرأ على تمثيل المتغيرات والمعادلات المعقدة باستخدام التراكيب الرمزية. لا نعرف بالضبط متى وُلِد، لكن بعض المؤرخين يعتقدون أنه عاش في القرن الثالث الميلادي. من خلال كتبه الثلاثة عشر في "الحساب"، كان ديُوفانتُس يطمح للوصول إلى نفس مستوى المهارة التي وصل إليها إقليدس. وعلى الرغم من أن المعرفة الهندسية لليونانيين قد تم الحفاظ عليها، فإن التقاليد الجبرية لديُوفانتُس قد فُقدت في أوروبا لعدة قرون، ليتم إعادة اكتشافها وترجمتها إلى اللاتينية خلال عصر النهضة.

بينما كانت أوروبا تتلمس طريقها في ظلام العصور الوسطى، أنقذ العرب الإرث العلمي لليونانيين. خلال العصور الذهبية للإسلام، انتشرت الثقافة العربية من الأناضول إلى شمال إفريقيا وشبه الجزيرة الإيبيرية. على مدار ستمائة عام، من القرن الثامن إلى القرن الثالث عشر، استوعب العرب علوم وتقنيات المصريين والبابليين واليونانيين والرومان. مع تأسيس الخلافة العباسية، أُعطيت أهمية كبيرة للعلم والطب والتعليم. تم نقل عاصمة الإمبراطورية من دمشق إلى بغداد. وفي هذه المدينة، تأسس مركز "بيت الحكمة"، الذي كان في البداية مجرد مكتبة، لكنه تطور ليصبح مركزًا حيث كان أعظم العلماء في تلك الفترة يجتمعون ويتناقشون.

كان أحد العلماء البارزين في ذلك الوقت هو محمد بن موسى الخوارزمي (حوالي 780-850م)، الذي لا يزال اسمه متداولًا حتى اليوم، ونستحضر اسمه كلما تحدثنا عن الخوارزميات، وهي كلمة مشتقة من اسمه. يُعتقد عمومًا أنه وُلِد في مكان ما بين فارس وأوزبكستان. كان الخوارزمي موسوعيًا، حيث كان مشغولًا بمراقبة السماء ورسم الخرائط ودراسة جغرافيا الإمبراطورية، بقدر انشغاله في تطوير الجبر.

تعد كلمة "الجبر" في الواقع جزءًا من عنوان أشهر كتب الخوارزمي، "الكتاب المختصر في حساب الجبر والمقابلة"، والذي يُترجم غالبًا إلى "الكتاب المختصر في الحساب بالإكمال والموازنة". لقد ساهم هذا الكتاب في نشر النظام العشري الموضعي ويحتوي على شرح موسع وتعليمي لأساليب عملية لحل المسائل الجبرية. وبعد قرون من ذلك، في إيطاليا، وعندما كانوا يحلون المسائل العددية باستخدام المعداد أو الورق والحبر، كانوا يقولون إنهم يستخدمون الخوارزميات والأرقام العشرية.

يعرض كتاب الخوارزمي منهجًا مشابهًا لعديد من كتب الجبر اللاحقة التي تحتوي على "وصفات" لحل المشكلات. يبدأ الكتاب بمشكلة معينة ويعرض كيفية إيجاد الحل. على سبيل المثال، قد تكون المشكلة هي إيجاد عدد، وعند تقليصه بثلاث وحدات يصبح العدد اثنين. ما يهم هو طريقة الوصول إلى النتيجة، التي يمكن استنباطها وتطبيقها على مواقف جديدة.

كان الكتاب موجهًا للتجار وحتى القضاة الذين كان عليهم توزيع الميراث وفقًا لنسب معينة. أسلوبه كان بمثابة دليل عملي، وليس عملاً بحثيًا. في حالة المعادلات الجبرية، نتبع نفس الأسلوب الذي نستخدمه عندما يكون لدينا ميزان لوزن ومقارنة الأشياء. إذا نقلنا وزنًا—أي عددًا—من جانب من الميزان إلى الجانب الآخر، يجب أن نكون حذرين للحفاظ على التوازن. ولهذا السبب، تُفسر كلمة "الجبر" في عنوان كتاب الخوارزمي على أنها تعني "الإكمال"، في إشارة إلى فكرة إتمام التعبيرات الرياضية للحفاظ على التوازن. النسخة اللاتينية من كتاب الخوارزمي، التي ترجمّت في عام 1145، كان عنوانها Liber algebrae et almucabola. ومن هذه الترجمة دخلت كلمة "الجبر" إلى المفردات الأوروبية.

جميع لكتب لها تاريخ مزدوج: تاريخ كتابتها وتاريخ تأثيرها اللاحق. قد يبدو أن تفسير كلمة "الجبر" على أنها تعني "الإكمال" قد تم قبوله بشكل عالمي، ولكن هذا ليس دقيقًا.

منذ حوالي ثمانين عامًا، تتبع مؤرخا العلوم سولومون جاندز وأوتو نويجباور أصل مصطلح "الجبر" وتوصلا إلى استنتاج مختلف. قام العالمان بتحليل مصادر الخوارزمي، الذي اعتمد على نصوص بابلية وآشورية وسومرية. وبشكل خاص، تعني الكلمة الآشورية "غابرو-ماحارو" "التباين" أو "المساواة". اعتمد العرب على نطق الكلمة لكنهم كتبوا "الجبر". بالإضافة إلى ذلك، كان لدى العرب تعبيرهم الخاص بنفس المعنى وهو "المقابلة". لذلك، فإن عنوان كتاب الخوارزمي (الكتاب المختصر في حساب الجبر والمقابلة)   يعد في الواقع تكرارًا، لأن كلمتي "الجبر" و"المقابلة"—الآشورية والعربية على التوالي—تشيران إلى المعادلة وتعبران، باختصار، عن "علم المعادلات".

لكن جميع الكتب لها تاريخ مزدوج—تاريخ كتابتها وتاريخ تأثيرها اللاحق. وعلى الرغم من أن عمل الخوارزمي لم يصل إلى مستوى التجريد الذي بلغه ديوفانتوس، إلا أنه كان له تأثير مباشر وفوري أكثر. فديوفانتوس كان قادرًا على حل المسائل التي تحتوي على عدة متغيرات وحتى القوى السادسة، لكنه لم يتمكن من كتابة كتاب يمكن استخدامه كدليل جبر عملي لمشاكل الحياة اليومية. أما كتاب الخوارزمي، فقد كان له تأثير كبير على الرياضيات اليومية في أوروبا من خلال أولئك الذين ساهموا في نشر عمله.

لقد أعجب العديد من الكتاب بالأدب العربي الكلاسيكي. خلال مؤتمر في بوينس آيرس عام 1977، قال خورخي لويس بورخيس ما يلي: "في القرن الخامس عشر، تم جمع سلسلة من الأمثال في الإسكندرية، مدينة الإسكندر الأكبر. هذه الأمثال لها تاريخ غريب من المفترض. فقد قيلت أولاً في الهند، ثم في فارس، ثم في آسيا الصغرى، وأخيرًا، عندما كتبت بالعربية، تم جمعها في القاهرة. إنه كتاب ألف ليلة وليلة." كتب إدجار آلان بو نوعًا من النهاية لليالي العربية في السخرية "القصة الألف والثانية لشهرزاد". يتمنى البعض منا أن بورخيس، الذي كان يحب الرياضيات، قد أضاف إلى ألف ليلة وليلة قصة سحرية عن الخوارزمي وبغداد والكتب الرياضية التي غيرت العالم.

(انتهى)

***

......................

* من كتاب لغة الرياضيات: القصص وراء الرموز. بقلم:  راؤول روجاس. منشورات جامعة برينستون2025.

الكاتب: راؤول روجاس /  Raúl Rojas أستاذ الرياضيات والإحصاء في جامعة نيفادا، رينو، وأستاذ فخري في علوم الكمبيوتر والرياضيات في الجامعة الحرة في برلين. وهو خبير عالمي مشهور في الذكاء الاصطناعي، وهو مؤلف الكتاب الرائد الشبكات العصبية ومحرر (بالاشتراك مع أولف هاشاغن) لكتاب أول الحواسيب.

افترض فروم أن الانسان مخلوق مزدوج الوجود، فهو من جانب جزء من الطبيعة، ولكنه أكثر الحيوانات ضعفا من الناحية الجسمية في تعايشه مع الطبيعة. وهذا الضعف البيولوجي قد جرى تعويض له يتمثل بالقدرات الفريدة التي يتميز بها الكائن البشري. غير أن هذه القدرات أدت به الى أن يبتعد عن الطبيعة ويشعر بالعزلة.

ولأن الانسان ابتعد عن الطبيعة فأنه افتقد القدرة على مجابهتها، فنجم عن ذلك محاولته لتكوين علاقات نفسية جديدة تحل محل العلاقات القديمة، فالتجأ الى تكوين هذه العلاقات الجديدة مع الناس، أرادها أن تكون قائمة على المحبة وتبادل الرعاية والمسؤولية والاحترام.

ويرى فروم أن الانسان حين بدأ يبتعد عن الطبيعة حاول ايجاد طرائق تربطه بها، فعمد الناس القدامى الى الانتماء الى مجموعات تربطها أساطير وطقوس وعبادات أشياء أو ظواهر طبيعية مثل الشمس والقمر والنار والبرق.

وبتطور الانسان وانتهاء علاقته بالطبيعة، تشكلت لديه حاجات جديدة تماما ذات طبيعة اجتماعية – نفسية هي : الانتماء (توجهت الى الأفراد والمؤسسات الاجتماعية كبديل نفسي للعلاقة بالطبيعة)، والتجاوز (أن يتخطى حدوده الحيوانية الى حالة الخلق والابداع)، والتجذّر (حاجته الى أسرة وبيت في هذا العالم)، والهوية (حاجته الى تأسيس هوية خاصة به، وأن يكون قادرا على أن يقول للآخرين : "أنا..أناّ " ولست " أنا كما ترغب أنت في أن أكون ")، والاطار المرجعي (ويعني تكامل الحاجات السابقة لتشكل اطارا مرجعيا للتوجه نحو الكون الذي نعيش فيه، بما فيه العلاقات مع أفراد الجنس، الأصدقاء منهم والأعداء).

ويقول في كتابه (الأنسان لنفسه Man for himself) ان الحاجة الى اطار مشترك للتوجيه تضرب بجذورها عميقا في أحوال الوجود الانساني، وأن الانسان حين امتلك (الوعي بالذات والعقل والتخيل) صار هو الحيوان الوحيد الذي ينتابه السأم والسخط والشعور بأنه مطرود من الفردوس، وصار هو الحيوان الوحيد الذي يعدّ وجوده مشكلة له..عليه أن يحلها. وأنه عندما أضاع الفردوس وفقد الاتحاد بالطبيعة صار مجبرا على السير قدما الى الأمام باذلا الجهد ليجعل المجهول معروفا، وأن يفهم معنى وجوده. وصار لديه دافع قاهر لاستعادة الوحدة والتوازن بينه وبين بقية الطبيعة وذلك بأنشاء أو خلق صور ذهنية جامعة للعالم تكون بمثابة اطار للأشارة يستطيع من خلاله أن يستمد الاجابة على السؤال الخاص بموقفه وما ينبغي عليه عمله.

ويقر فروم بأنه لا وجود للانسان بغير حاجة دينية، حاجة الى أن يكون له اطار للتوجيه وموضوع للعبادة. ويستدرك قائلا : بيد ان هذا القول لا يخبرنا بشيء عن سياق خاص تتجلى فيه هذه الحاجة الدينية، فقد يعبد الأنسان الحيوانات، او الأشجار، أو الأصنام من الذهب او الحجارة، او آلها غير منظور، أو انسانا مقدّسا، او زعماء شياطين، وربما أسلافه، أو أمته، أو طبقته او حزبه، أو المال..والمسألة ليست " دينا أو لا دين " بل " أي نوع من الدين " هل هو من النوع الذي يساعد على تطور الانسان والكشف عن قواه الانسانية الخاصة به كأنسان، أم هو من النوع الذي يصيب هذه القوى بالشلل؟.

ويعرّف فروم الدين بأنه (أي مذهب للفكر والعمل تشترك به جماعة ما، ويعطي للفرد اطارا للتوجيه وموضوعا للعبادة). ويرى أن الدين على أنواع، فهنالك أديان توحيدية وأخرى متعددة الالهة، غير أنه يركز في نوعين يطلق عليهما :الأديان الانسانية humanistic والأديان التسلطيةauthoritarian . ويقصد بالنوع الأول ألاديان التي يأتي بها أشخاص مثل بوذا، الذي يعدّه معلما عظيما ويصفه " بالمستنير " الذي أدرك حقيقة الوجود الانساني وتحدث باسم العقل وليس باسم قوة فائقة على الطبيعة. أما الأديان التسلطية (يقصد السماوية) فان العنصر الجوهري فيها هو الاستسلام لقوة تعلو على الأنسان، والطاعة فيه هي الفضيلة الأساسية والعصيان هو الخطيئة الكبرى. وكما تصور هذه الأديان (التسلطية) أن الاله قوي شامل القدرة ومحيط علما بكل شيء، فانها تصور الانسان بالمقابل على أنه عاجز، تافه الشأن، ولا يشعر بالقوة الا بمقدار ما يكتسب من فضل الاله ومعونته عن طريق الاستسلام التام. فالاله في الدين التسلطي رمز للقوة والجبروت، وهو الأعلى لأن له القوة الأعلى، والانسان الى جواره لا حول له ولا قوة، على حد تعبير فروم.

وينّبه فروم الى أن الدين التسلطي العلماني (أو الدنيوي) يتبع هذا المبدأ نفسه. فهنا يصبح الفوهرر أو " ابو الشعب " المحبوب، أو الدولة، أو الوطن الاشتراكي.. موضوعا للعبادة، وتصبح حياة الفرد تافهة، وتتألف قيمة الانسان من انكاره لقيمته وقوته. غير أن فروم يفضل ما يسميه الدين الانساني على الدين التسلطي، لأن هدف الانسان في الدين الانساني هو أن يحقق أكبر قدرة من القوة، لا أكبر قدر من العجز، والفضيلة هي تحقيق الذات لا الطاعة، والايمان هو يقين الاقتناع المؤسس على تجربة المرء في مجال الفكر والشعور لا على تصديق قضايا وفقا لذمة المتقدم بها. والمزاج السائد فيها هو الفرح، فيما المزاج السائد في الدين التسلطي هو الحزن والشعور بالذنب، يضيف فروم.

***

أ.د. قاسم حسين صالح

تأملات خاطفة في مستقبل التعليم

(الأمهاتُ هنَّ فقط القادراتُ على التفكير في المستقبل لأنّهنَّ ينجبنه من خلال أطفالهنّ)... مكسيم غوركي في روايته الشهيرة (الأمّ)

***

1- مقدّمة:

شهد المجتمعات الإنسانيّة اليوم كما في الأمس تغيّرات عميقة مذهلة شاملة تفوق حدود كلّ تصوّر وتأمّل، وتقطع الطريق على كلّ خيال ومخيال. وهذا التغيير الجذريّ يغطّي مختلف جوانب الحياة والوجود الإنسانيّ: في مجال الاقتصاد والصحّة والتعليم والإعلام والعلوم. ولا ضير في القول إنّ الإنسانيّة تشهد تحوّلات طفريّة تؤدّي إلى تغيير شامل في جوهر الإنسانيّة والإنسان. وفي دورة هذا التحوّل الأسطوريّ العنيف يفقد الإنسان قدرته على الاستبصار في صيرورة التطوّر والمصير. وقد لا يعرف أكثر أهل العلم خبرة إلى أين هي الإنسانيّة ذاهبة في خضمّ ثورات تكنولوجيّة رقميّة تحسب حركتها بالدقائق والثواني واللحظات الخاطفة تحت مطارق الذكاء الاصطناعيّ والطفرات الذكيّة في كلّ حقل علميّ وميدان تكنولوجيّ. ففي كلّ يوم تطالعنا عجائب التغيّر وغرائب التطوّر وأساطير التحوّل الثوريّ في كلّ ميادين الحياة والوجود، وهو الأمر الّذي يضع الإنسان في متاهات وجوديّة يفقد فيها القدرة على الاستبصار في عالم دمّره التعقيد الذكيّ في مختلف الميادين والمجالات.

وفي خضمّ هذه التغيّرات الأسطوريّة تشهد الأنظمة التعليميّة تحدّيات وجوديّة صادمة قد تدمّر كلّ المنظومات التعليميّة الّتي عرفناها في تاريخ الإنسانيّة. فالذكاء الاصطناعيّ والعقول الإلكترونيّة تستحوذ على التعلّيم، وتستولي على عقول الأطفال والناشئة، وتدفعهم خارج طبيعتهم الإنسانيّة الّتي عرفنها على مدى التاريخ والأزمان. وفي مواجهة هذا التحدّي الأسطوريّ للتربية والتعليم يجب على المجتمعات الإنسانيّة أن تواجه أقدارها التربويّة، وأن تبحث عن أفضل السبل الممكنة في خلق نوع جديد من التوازن الخلّاق في مجال التربية والتعليم والتنشئة الاجتماعيّة. فالثورات الصناعيّة الذكيّة المتواترة يوميّاً ترمي ثقلها في المجال التربويّ والتعليميّ بداية؛ إذ تكتسح هذا المجال الّذي يتعلّق ببنية العقل والتشكيلات الذهنيّة للناشئة، فتعمل على تغييرها وتحطيم كلّ الممارسات التربويّة والتعليميّة التقليديّة الّتي سادت عبر تاريخ الإنسانيّة. ويتطلّب هذا الظرف التاريخيّ الّذي يهيمن فيه نمط جبّار من الذكاء الاصطناعيّ التفكير في مستقبل التعليم، وفي آفاقه التربويّة والإنسانيّة. وعلينا في هذه المرحلة أن نطرح تساؤلات عن مصير التربية وصيرورة التعليم في عالم لا يتوقّف أبداً على الإبداع الطفريّ في مجال الذكاء الاصطناعيّ الّذي يحطّم قدرة الإنسان على التفكير التقليدي، ويجعله عاجزاً عن التأمّل في الصيرورة والمصير الّذي تأخذنا إليه هذه الطفرات الذكيّة في مختلف مجالات الحياة والوجود(1).

2- التعليم والتخطيط التقليديّ:

كان التخطيط للمستقبل ممكناً وواضحاً في الماضي القريب أو البعيد، وكان أهل الخبرة أكثر قدرة على وضع برامجهم واستراتيجيّاتهم في عوالم كان التغيير فيها يحسب بالعقد الزمنيّة (كلّ عشر سنوات أو عشرين عاماً أو ثلاثين عاماً) وهذا ما عهدناه في الخطط الّتي نراها في الخليج وفي العالم. مثل الخطّة الّتي تحدّثنا عن بلدان الخليج في رؤية مملكة البحرين (2030)؛ ورؤية الكويت والسعوديّة الّتي كانت تمتدّ لثلاثة عقود وبعضها كان يحتسب لاستراتيجيّات مئويّة مثل خطّة الإمارات المئويّة (مئويّة الإمارات (2071 هذه الاستراتيجيّات العقديّة فقدت زمنها في ظلّ التغيّرات الطفريّة الّتي نشهدها اليوم، إذ لا يمكن اليوم أن نضع خططاً ثابتة لفترات زمنيّة طويلة، فالتغيّر التكنولوجيّ الذكيّ يشكّل اليوم قوّة هائلة يصدم مختلف مجالات الحياة الإنسانية ويغيرها، وتتجلى قوته الصدمية في الأنظمة التربويّة بوصفها أنظمة عقليّة ذهنيّة ثوريّة؛ أي بمعنى أنها تعدّ العقول والأدمغة الجديدة لدى الأطفال والناشئة. ففي كلّ يوم يطالعنا ابتكارات تكنولوجيّة ذكيّة فارقة تؤدّي إلى التغيير المذهل في بنية العقول والذهنيّات وتشكيل الأدمغة. إذ لم يعد المعلّم كما كان في الماضي معلّماً بمواصفاته التقليديّة، فالذكاء الاصطناعيّ اخترق ذهنيّة المتعلّم، فأصبح كائناً إلكترونيا يتفاعل وجوديّاً مع الذكاء الاصطناعيّ والثورة الرقميّة. وهذا التغيّر الثوريّ الطفريّ كلّه لم يعد يترك مجالاً للمخطّطين والمبرمجين والمصلحين في مجال التربية خيارات وضع استراتيجيّات بعيدة المدى أو حتّى قصيرة المدى؛ لأنّ كلّ شيء يتغيّر ويتبدّل، إذ يكفي اليوم ظهور برنامج رقميّ صغير كي يغيّر كلّ المعادلات التربويّة والمبادرات التعليميّة الّتي يضعها الخبراء والمفكّرون التربويون في مواجهة المستقبل. ولا غرو في القول بأنّ المخطّطين التربويّين يعانون حالة من الارتباك والفوضى والشعور بعدميّة مبادراتهم وعدم قدرتهم على وضع استراتيجيّات ثابتة لفترات زمنيّة طويلة كما كان في الماضي؛ لأنّ أيّة استراتيجيّة قد تسقط في مدار اللحظات الّتي تخرج فيها إلى الوجود. ومن هنا يجب علينا أن نضع نظاماً آخر من التصوّرات الآنيّة الّتي ترتبط بخطط قصيرة المدى أو بخطط تعتمد على مبدأ المبادهة ومصاحبة التغيّر الآنيّ الرقميّ الذكيّ المستمرّ في مجال التربية والتعليم كما هو الحال في مجال الحياة (2).

وما يزيد الأمر تعقيداً في هذه المرحلة التاريخيّة الحاسمة التدافع الأيديولوجيّ الّذي بدأ يصدم الحياة التربويّة الّذي يجعلنا غير قادرين حقيقة على توجيه المسار التربويّ نحو غاياته الحقيقيّة. فنحن نعيش في زمن الليبراليّة الجديدة الّتي يفقد فيها الإنسان مكانته وكرامته وحرّيّته وهو الزمن الّذي فقدت فيه الأيديولوجيّات كلها قدرتها على الصمود في مواجهة التحدّيات الّتي تفرضها الرأسماليّة المتوحّشة الّتي تفرض نفسها في ميادين التعليم والتربية والثقافة والإعلام. ويضاف إلى ذلك التعقيد الّذي يصاحب مختلف مظاهر الحياة إلى الدرجة الّتي يصعب فيها المرء أن يقبض على الحقيقيّة الّتي تأخذ وجوهاً شتّى بأقنعة مزيّفة. فنحن نعيش في زمن ما بعد الحداثة وهو زمن مهول بتقلّباته وصيروراته وطفراته الموجعة. ولذا فإنّه علينا في مواجهة هذه التحدّيات كلّها أن ننظر اليوم إلى التربية والتعليم من خلال نوافذ متعدّدة وسيناريوهات متنوّعة ورؤى مختلفة، وهذا يعني أنّه علينا أن ننظر في المجتمع والثقافة والطبيعة وأنفسنا عبر عدسات أيديولوجيّة متنوّعة ومختلف ومتغيّرة أيضا. نحن منخرطون في خطاب معقّد يتناول تعقيدات ما يطلق عليه "المجتمعات ما بعد الحداثة" (3).

3- التعليم ورهان الحياة الكريمة:

فالعالم اليوم، ينشطر إلى عالمين مختلفين جوهريّاً تنمويّاً ووجوديّاً، يتمثل العالم الأوّل في المجتمعات الغربيّة عموماً يتميّز بالرفاه والتنمية والحياة الحرّة الكريمة. أمّا العالم الثاني فيشكل عالم البؤس والشقاء والقنوط، فهناك ملايين الأمّهات اللّواتي تساورهم الشكوك في الغد إذ قد لا يستطعن التأكّد ممّا إذا كان "الغد" سيتيح لهنّ إطعام أطفالهنّ، وبعض الأسر لا تجد لها مأوى، ومستويات التعليم منخفضة ومتوسّطات العمر متدنّية؛ ولا يكاد لمفهوم حقوق الإنسان أن يكون له وجود في هذا العالم فالنساء والرجال والأطفال يتعرّضون للموت والقتل والذبح والتشريد (السودان ليبيا سوريا العراق). ويمكن القول بوجود هناك حدود واضحة بين العالمين، لكنّها ليست اقتصاديّة أو قارّية بالدرجة الأولى. لا يمكن حصرها بالشعارات التقليديّة مثل "العالم الثالث" أو "الشمال مقابل الجنوب" أو "الدول النامية مقابل الدول المتقدّمة". بل تتحدّد بقدرة البشر على العيش بكرامة أو عدمها.

حاليّاً، هناك الكثير من النقاش والكتابة حول أوضاع الفقراء في العالم. وقد نظّم البنك الدوليّ مناقشات عديدة حول مسألة الفقر والفقراء، وأصدر كتيّبات مثيرة للاهتمام حول أوضاعهم. وفي المستوى التربويّة انخرط المفكّرون في مناقشات حامية حول الأولويّات الّتي ينبغي أن تعتمد في تطوير الأنظمة التعليميّة. ولكن غالباً ما يقع الجميع في خطأ شائع يتمثّل في التركيز المفرط على تزويد الطلّاب بالمعرفة الملائمة وقوائم المهارات والأدوات والكفاءات الّتي يجب غرسها، ولكن في هذه المناقشات والتشخيصات والتوصيفات قلّما يشار إلى الدور الحاسم لظروف المعيشة لكلّ فرد مثل: توفير المأوى، والغذاء، والصحّة، والأمان الكافي، والوصول إلى التعليم الأساسيّ، وهي جملة الظروف الّتي تحرم الأطفال والناشئة من العيش الحرّ الكريم وتجعلهم غير قادرين أبداً على تحمّل مسؤوليّة تشكيل مستقبلهم أو حتّى التفكير في ملامحه؛ لأنّهم منهمكون إلى حدّ الثمالة في تأمين لقمة العيش، وفي مواجهة المرض والفقر والفاقة والجوع. وهذا يعني في النهاية أنّ تمكين البشر، إنّ قدرتنا على تحسين ظروف المعيشة في مجتمعاتنا، بدءاً من أضعف الفئات، ستكون العامل الحاسم للتربية والتعليم في العقود القادمة. لتحقيق هذا الهدف، يمثّل التعليم عاملاً مهمّاً، لكنّه ليس الأهمّ. الواقع يشير إلى أنّ المجتمعات هي الّتي تغيّر التعليم أكثر ممّا يغيّر التعليم المجتمعات. فعلى سبيل المثال فإن حماية المجتمع من الجريمة يمكن أن تتمّ من خلال خفض صناعة الأسلحة وإخضاعها للرقابة (لاستخدام شرعيّ فقط كقوّات الشرطة)، وعندها ستكون مجتمعاتنا ستكون بالتأكيد أكثر أماناً بغضّ النظر عن الكفاءات والتربويّة الاجتماعيّة والمدنيّة المكتسبة فرديّاً. وعندما نقلّل من عرض الأسلحة والمسدّسات في المشاهد والبرامج التلفزيونيّة، ستقلّ الحاجة إلى التعليم الخاصّ بالوقاية من الجريمة. وهذا يعني أنّ جميع أفعالنا وقراراتنا بشأن القضايا الاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة تؤثّر في المستقبل. فالسياسات التنمويّة المستدامة والرؤيويّة يمكن أن تحدث فرقاً حقيقيّاً بين حياة بلا أمل وحياة تسعى نحو مستقبل كريم. فقط المجتمعات الّتي تعيش في سلام اجتماعيّ ستبقى في القرن الحادي والعشرين، وستكون تلك الّتي تضمن حدّاً أدنى من الرفاهية للجميع، وتعزّز التوزيع العادل للثروة، وتصون حقوق الإنسان، وتحارب العنف في كلّ مكان، وعلى جميع المستويات، وتضمن تطبيق القوانين.

وعلى هذا الأساس ستكون القرارات الّتي يتعيّن على مواطني المستقبل اتّخاذها أكثر تعقيداً وغموضاً من تلك الّتي تتّخذ اليوم، وغالباً ما ستكون عواقبها غير قابلة للتغيير. سيتعيّن على صانعي القرار على جميع المستويات: المجتمع، المنطقة، الدولة، القارّة، والعالم - التخطيط لمستويات متصاعدة من الترابط والتداخل بين هذه المستويات وداخل كلّ مستوى.

وفي الوقت الراهن، تفقد المنظّمات والمؤسّسات التقليديّة الّتي كانت تمثّل مراكز صنع الرأي السياسيّ - مثل الكنائس، الأحزاب السياسيّة، النقابات والجمعيّات - تأثيرها تدريجيّاً. وتنشأ أنماط تنظيميّة جديدة داخل المجتمع المدنيّ، مثل المنظّمات غير الحكوميّة الوطنيّة والدوليّة، الّتي تزيد تأثيرها في السياسة العامّة. ومع ذلك، فإنّ الاستعداد الإعلاميّ للسياسة قد يعاني خطر الانقسامات والاستقطابات. ومع تزايد توفّر المعلومات عبر العديد من الشبكات الممكنة، تطرح تساؤلات حول كيفيّة دمج تلك المعلومات في التفكير السياسيّ للمواطنين؟ ومن المهمّ أنّ هذا الدمج يشكّل فرصة نادرة لاتّخاذ قرارات سياسيّة فعّالة في نظام لامركزيّ يتيح قدراً من الاستقلاليّة، حيث تتطوّر الديناميكيّات الأساسيّة لاتّخاذ القرارات من الأسفل إلى الأعلى بدلاً من الاتّجاه العكسيّ.

ربّما تكون أهمّ درس يمكننا استخلاصه من تجارب القرن العشرين هو أنّ المسؤوليّة السياسيّة من خلال العمليّات الديمقراطيّة لها الأولويّة القصوى في الحياة الاجتماعيّة. فالديمقراطيّة ليست مجرّد هدف للتعليم، بل هي مبدأ يجب أن يقوم عليه التنظيم الاجتماعيّ والاقتصاديّ. والديمقراطيّة توجد فقط حين تمارس فعليّاً.

4- التعليم والثورة الجينيّة:

كيف يمكن للتعليم أن يواجه تحدّيات الهندسة الوراثيّة والثورة الجينيّة؟ في الوقت الحاليّ، يتوقّع جيلنا أن يعيش، في المتوسّط، حوالي ثمانين عاماً (مع الأسف، هذا ليس حال الجميع في أنحاء العالم). إنّ العواقب الهائلة للاستغلال الكامل للجينوم البشريّ لزيادة متوسّط العمر المتوقّع لم تفهم بعد بشكل كامل، ربّما لأنّ هذه الإمكانيّات تبدو بعيدة جدّاً عن واقعنا الحاليّ. تتراوح هذه الإمكانيّات بين الوقاية من الأمراض من خلال التلاعب الجينيّ إلى علاجات تستند إلى تقنيّات جينيّة تهدف إلى التحكّم في الشيخوخة نفسها.

يمكن للأجيال الجديدة في المجتمعات الأكثر تميّزاً أن تتوقّع قفزة نوعيّة في جودة الصحّة ومتوسّط العمر المتوقّع إلى ما يتجاوز 100 عام. بل إنّ بعض علماء الأحياء يتوقّعون أن تتراوح متوسّطات الأعمار بين 200 و300 عام للأجيال القادمة. هذا يعني أنّ الأشخاص الّذين يعتبرون "كبار السنّ" الآن قد يكونون قادرين، جسديّاً ونفسيّاً، على المشاركة الكاملة في الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّ (4). وعلاوة على ذلك، قد يصبح بإمكان الأفراد الوصول إلى محدّداتهم الجينيّة، ممّا يتيح لهم تغيير تركيبتهم الجينيّة الخاصّة عمداً، وكذلك تركيبة ذرّيّتهم. وهكذا قد تتغيّر الحالة البشريّة، بمعنى أنّ أسسها البيولوجيّة نفسها قد تصبح قابلة للتغيير. سيضيف هذا بعداً جديداً تماماً إلى عدم المساواة داخل الدول وعلى المستوى الدوليّ، حيث لن تكون الثروة والصحّة التقليديّة فقط تحت تأثير العوامل السياسيّة والاقتصاديّة، بل أيضاً الوصول إلى إطالة الحياة المرتبطة بالجينات(5).

في هذا المجال الجديد تماماً، تصبح المعايير الأخلاقيّة والضوابط السياسيّة والقانونيّة أكثر أهمّيّة من أيّ وقت مضى. إلى جانب اهتمامنا الحاليّ بالمحافظة على البيئة الطبيعيّة، نحتاج إلى "إيكولوجيّا إنسانيّة" جديدة تكرّس للحفاظ على البشر. والسؤال الّذي لا يمكننا الإجابة عنه كيف يمكن للمفكّرين مواجهة هذا التحدّي الكبير، ولاسيّما مسألة صناعة أدمغة فطريّة قادرة على الإبداع اللامتناهي في مجال العلم والمعرفة عن طريق هندسة الجينات؟

5- انفصال الإنتاج والعمل ومكان العمل:

يتفكّك الإطار التقليديّ للتعليم الّذي كان يدمج العمل ضمن هيكل مؤسّسيّ ومستقرّ على الأقلّ خلال الفترات "الجيّدة"، مع مسارات مهنيّة متوقّعة. يحدث هذا التفكّك نتيجة لتقارب اتّجاهين (6):

1- الضغط الاقتصاديّ للابتكار، ممّا يتطلّب إعادة هيكلة دائمة للمؤسّسات. الشبكات متعدّدة الجنسيّات واللامركزيّة في الإنتاج والخدمات تسهّل على الشركات التكيّف مع الأسواق المتغيّرة.

2- تقدّم التكنولوجيا العالية (Hi-Tech)، الّذي يمكن الإنتاج والخدمات من التكيّف بمرونة أكبر. شبكات الاتّصالات الإلكترونيّة تسهّل تحويل العمل من المكتب التقليديّ إلى مواقع يختارها العاملون، مستقلّة عن مكان العمل الفعليّ.

3- من المرجّح أن يؤدّي هذا التطوّر إلى تنظيم جديد تماماً للعمل وظروف عمل جديدة في القرن الحادي والعشرين. ستتكوّن فرص العمل بشكل أكبر متزايد من عقود محدّدة الأجل أو مشاريع محدّدة تنجز بواسطة أفراد أو مجموعات.

4- ومع اختفاء المسارات المهنيّة التقليديّة، ستتزايد مخاطر انعدام الأمن للأفراد. قد يتمّ تخفيف هذه المخاطر إلى حدّ ما من خلال أنظمة الضمان الاجتماعيّ، ولكنّ القوى السوقيّة تفرض المزيد من إزالة القيود حتّى في دول الرفاه.

6- العمل غير المرتبط بالتوظيف:

الوظائف التقليديّة تختفي، وهناك تقديرات تقول إن 80% من الوظائف ستختفي في العقود القادمة. والسؤال كيف يمكن للتعليم أن يتكيّف مع هذا الواقع الجديد؟ والإجابة عن هذا السؤال يحتاج إلى قدرات تخييليّة هائلة في هذا الميدان، والإجابات ما تزال غامضة وباهتة وغير موثوقة حتى اليوم.

تشير العديد من العوامل من العقد الأخير من القرن العشرين إلى أنّ أنظمة الدعم الاجتماعيّ للمتقاعدين وذوي الإعاقة، وكذلك جزئيّاً للشباب، الّتي أُنْشِئَت بتكاليف ضخمة في الدول الأوروبّيّة خلال فترة سياسات "دولة الرفاه"، لن تكون قابلة للاستمرار بصيغتها الحالية في المستقبل. ولن تتمكّن الاقتصادات النقديّة بالكامل من تغطية جميع الخدمات الاجتماعيّة الضروريّة، وسيصبح من اللازم أن تتحمّل الأسر، الشركاء، الأحياء، المجتمعات المحلّيّة، والبلديّات جزءاً أكبر من عبء تطوير الشبكات الاجتماعيّة. وهذه الوضعيّة تبدو شديدة التعقيد في البلدان النامية الّتي تفتقر كلّيّاً إلى شروط الحياة والوجود.

ستتطلّب هذه التغيّرات تغييراً جذريّاً في نظرتنا إلى كلّ من قطاع التوظيف الممجّد وقطاع البطالة المهمّش. لكنّ هناك أسباباً إضافيّة لإعادة تقييم العمل غير المدرّ للدخل إلى جانب ضرورة تأمين شبكات اجتماعيّة موثوقة. مع استمرار التطوّر في الإنتاجيّة الاقتصاديّة، من المتوقّع أن تقلّ فرص العمل. ففي بعض الدول، لدينا بالفعل مفهوم أسبوع العمل لمدّة أربعة أيّام، والجداول الزمنيّة المرنة أو المتغيّرة لمعظم الموظّفين، ومستوى ثابت من البطالة. في الوقت نفسه، يشكّل الأشخاص الّذين تزيد أعمارهم عن 60 عاماً ثلث السكّان.

علينا أن ندرك أنّه سيكون لدينا المزيد من المتقاعدين الأكثر صحّة في المستقبل. ومن ثم، يجب إعادة النظر في مفاهيم مثل "وقت الفراغ"، "التقاعد"، أو المرحلة الّتي ينفصل فيها الفرد عن العمل التقليديّ، لأنّها تقلّل من الحاجة الإنسانيّة للأنشطة ذات المغزى. أعتقد أنّ ثقافة جديدة للعمل ستظهر في المستقبل، موازية لثقافة العمل الحاليّة، ولكنّها غير مرتبطة بها.

يتطلّب هذا النموذج المستقبليّ أن يقيم العمل غير المدرّ للدخل على قدم المساواة مع العمل المدرّ للدخل في القطاع الاقتصاديّ. في هذا السيناريو، لن يكون للعمل غير المدرّ للدخل علاقة تذكر بما يطلق عليه اليوم "الهوايات" في مجتمع الترفيه. على العكس، فإنّ الأنشطة الإبداعيّة والترفيهيّة، والخدمات الاجتماعيّة أو البيئيّة، ستكون معترفاً بها بالكامل من قبل المجتمع، ومنظّمة من خلال نظام مقايضة مباشر أو تعاونيّ.

7- التعليم في مجتمع الثورة المعرفيّة:

الأبعاد الثلاثة المتداخلة الّتي تناولتها سابقاً - إطالة العمر البشريّ، زيادة المرونة والتنقّل في سوق العمل، وارتفاع قيمة العمل غير المدرّ للدخل - لها تأثيرات دراماتيكيّة على فهمنا للتعليم والتعلّم:

لن يركّز الناس في المستقبل على مهنة واحدة أو تخصّص واحد، بل سيركّزون على اكتساب مهارات في عدّة مجالات تخصّصيّة يمكن استخدامها في التوظيف وكذلك في العمل غير المدرّ للدخل.

ما يفعله الناس خلال مراحل الحياة غير المرتبطة بالتوظيف سيحتاج إلى نفس مستوى الاحترافيّة كما في مراحل التوظيف. وستؤدّي زيادة المرونة والتنقّل في سوق العمل إلى المزيد من الفرص (والمخاطر) الّتي تتطلّب مستويات أعلى من الكفاءة في إدارة المهارات الشخصيّة.

سيتعيّن على الأفراد امتلاك مجموعة واسعة من المهارات المتخصّصة والقابلة للتطبيق، والقدرة على التكيّف مع سوق العمل عن طريق إضافة مؤهّلات جديدة. كما يجب أن ينظر إلى التغيّرات في الهويّة والأمان باعتبارها تحدّيات إيجابيّة بدلاً من تهديدات.

وسيميّز التقسيم الزمنيّ للحياة إلى مراحل مميّزة: التعليم والتدريب، والتوظيف، وما بعد التوظيف (أو التوظيف غير المدرّ للدخل) - سيصبح غير واضح على نحو كبير. وقد يتلاشى التمييز بين "التعليم المدرسيّ" و"تعليم الكبار"، ممّا يتطلّب نماذج جديدة تماماً. يمكن أن يشمل ذلك تقصير المرحلة الأولى من التعليم وإضافة مراحل ثانية وثالثة معتمدة بالكامل.

في محاولة لوصف هذا التغيير الجذريّ في الظروف الاجتماعيّة والاقتصاديّة، ظهرت مصطلحات مثل "مجتمع ما بعد الصناعة"، "مجتمع المعلومات"، "مجتمع التعلّم"، ومؤخّراً "مجتمع المعرفة". الفكرة الأساسيّة وراء هذه المصطلحات هي أنّ اكتساب وتطبيق المعرفة يشكّل قيمة مضافة.

في مجتمع المعرفة، يظلّ الفرد (المتعلّم) حاملاً للمعرفة، ولكنّه بمفرده لا يكون قادراً على إدارة وتطوير المعرفة المطلوبة. عندما تصبح المعرفة نقطة الارتكاز للتنمية الاقتصاديّة والاجتماعيّة، ستترسّخ فكرة أنّ إنتاج المعرفة يتطلّب جهداً جماعيّاً.

فالتعاون سيصبح العامل الحاسم في الإنتاج، وستصل المجتمعات الحديثة إلى مفترق طرق في القرن الحادي والعشرين: إمّا أن تتمكّن من تنظيم نفسها بحيث يشارك معظم أفرادها في تطوير واكتساب المعرفة، أو ستنقسم إلى مجموعتين: نخبة "مطّلعة" وجماهير مهمّشة، ممّا يهدّد التماسك الاجتماعيّ. لذا، فإنّ المجتمعات الّتي تطوّر وتستخدم التعلّم التعاونيّ والاجتماعيّ ستتمكّن من تأمين تقدّمها الاقتصاديّ والاجتماعيّ، في حين أنّ المجتمعات الّتي لا تفعل ذلك ستواجه الفشل.

8- التعليم والثورة الإلكترونيّة:

لقد أصبحت المعرفة مترابطة مع تكنولوجيا المعلومات بشكل لا ينفصل، وسيزداد هذا الترابط في المستقبل. يندمج علم النفس، وعلم الأعصاب، وعلوم الحاسوب بصورة أكبر(7). وأصبحت الحواسيب قوّة معرفيّة معتمدة في العديد من مجالات التعلّم الإدراكيّ، بل وحتّى في بعض مجالات التعلّم "الذكيّ". هذا التفاعل بين البشر والحواسيب، الّذي يتضمّن مستويات عالية من تعقيد إدخال البيانات ومعالجتها واسترجاعها، كان ينمو بوتيرة بطيئة نسبيّاً، لكنّه الآن يتقدّم بسرعة مذهلة، إذ تُطَوَّر أنظمة حاسوبيّة إدراكيّة متماسكة بالفعل. على سبيل المثال، في المجالات المتخصّصة للغاية، تتحكّم الحواسيب في جمع البيانات وحلّ المشكلات التشغيليّة، بينما يتحمّل البشر مسؤوليّة اتّخاذ القرارات بناء على المعايير.

يمكن تلخيص رأينا حول مجتمع المعرفة والتعلّم في عصر تكنولوجيا المعلومات بأربع أطروحات بسيطة: (8):

1- يعدّ اكتساب المعرفة واستخدامها العامل الحاسم في مجتمعنا المتغيّر والمبتكر والمتطوّر.

2- يجب أن تعتمد هذه المعرفة على التعاون بين الأفراد في مجموعات متنوّعة.

3- يجب أن يقوم ظهور مجتمع المعرفة على إنشاء وتنظيم مجتمع تعليميّ.

ينبغي أن تشمل جميع مستويات التعلّم دفعاً ضروريّاً نحو تحسين كفاءة التعلّم. ستجعل أشكال التعلّم الجديدة - الّتي غالباً ما تكون مصحوبة أو مدعومة بالحواسيب - هذا التحسين أكثر سهولة.

9- الخاتمة:

لقد كان من تعاليم الفيلسوف الألمانيّ عمانويل كانط Kant أنّ تربية الأطفال –وفقاً للمفهوم الإنسانيّ- يجب أن تشتقّ ليس من مقتضيات أحوالهم الراهنة، ولكن من مسلتزمات الأحوال المستقبليّة المتطوّرة للجنس البشريّ" وبعبارة أخرى أراد كانط أن يقول: إنّ منهج التربية ترسمه حركة التاريخ العامّ، وليس تجارب الماضي البائسة.

فالإنسان في القرن الحادي والعشرين في البلدان المتقدّمة سيكون صحّيّاً ونشطاً لفترة أطول بكثير من حياته، يشارك خلالها في مجموعة متنوّعة من الأنشطة، بعضها بأجر وبعضها دون أجر. مع هذا التغيير، ستزداد قيمة "العمل" غير المرتبط بالتعويض الماليّ. وستستبدل السير الذاتيّة التقليديّة بملفّات شخصيّة متعدّدة المهن والكفاءات. غالباً لن تتطلّب الوظائف المدرّة للدخل مكان عمل ثابت أو عقوداً ثابتة. وستصل أهمّيّة التعلّم خلال مرحلة الطفولة والشباب، مقارنة بالتعلّم في مرحلة البلوغ، إلى مستوى من التوازن. لن ينظر إلى التدريب المهنيّ والتعليم على أنّهما مجرّد إعداد للحياة البالغة، بل جزء من عمليّة مستمرّة. وسيعيش هذا الجيل المستقبليّ في عالم أكثر ترابطاً عالميّاً من أيّ وقت مضى، عالم يجمع بين أشخاص من لغات وثقافات مختلفة. سيكون هذا العالم غارقاً في الرسائل والمعلومات الّتي تنقل عبر وسائل الإعلام، وفيه ستصبح التجربة الافتراضيّة بالكاد قابلة للتمييز عن التجربة المباشرة. كما سيزداد تعقيد المجتمع في القرن الحادي والعشرين. سيستمرّ النموّ في التكنولوجيا والمعرفة في التوسّع بشكل أسيّ، وكذلك المخاطر مثل التهديدات البيئيّة.

من ناحية أخرى سنكون قادرين بشكل أكبر على التلاعب بالطبيعة والحياة البشريّة؛ ومن ناحية أخرى، ستصبح التأثيرات المباشرة وغير المباشرة للتكنولوجيا المتقدّمة أقلّ وضوحاً وأصعب تحكّماً. سيكون نموّ المعرفة الفرديّة والجماعيّة في مجتمع المعرفة ضروريّاً ليس فقط لتحقيق مزيد من الابتكار، ولكن أيضاً للتحكّم المسؤول في الدافع التكنولوجيّ الّذي تم تأسيسه(9).

هذا ويعتمد تحقيق مستوى معيشيّ لائق أو مرتفع للجميع على استمرار الإنتاجيّة الاقتصاديّة. ومع ذلك، يبقى من غير المؤكّد ما إذا كان يمكن الحفاظ على النماذج الاجتماعيّة الحاليّة الّتي توفّر شبكات أمان اجتماعيّ للفئات الأقلّ حظّاً، ولهذا السبب، فإنّ مشاركة المواطنين في النقاشات السياسيّة واتّخاذ القرارات (من المدينة إلى التنظيمات فوق الوطنيّة) تعدّ عاملاً حاسماً في التنمية المستقبليّة. وأخيراً، نقول مع بيل غيتس إنّ الناس: " يخشون دائماً التغيير خشيهم الكهرباء عندما اخترعت، خشيتهم من الفحم سابقاً، إنهم يخشون المحرّكات الّتي تعمل بالغاز، وسيكون هناك دائماً جهل، والجهل يؤدّي إلى الخوف، ولكن مع مرور الوقت سوف يقبّل الناس حكم السيليكون".

***

عليّ أسعد وطفة

كلّيّة التربية -جامعة الكويت

...................

مراجع المقالة وهوامشها:

(1) - علي أسعد وطفة، التعليم القائم على البرهان: ثورة تربّوية في فضاء الثّورة الصناعية الرابعة، مركز نقد وتنوير، 21 ديسمبر، 2020.

https://tanwair.com/archives/8928

(2) - علي أسعد وطفة، التعليم القائم على البرهان: ثورة تربّوية في فضاء الثّورة الصناعية الرابعة، المرجع السابق.

(3)- Uri Peter Trier , Earning to live together future scenarios scenarios for education: A Window to the unknown , Prospects, vol. XXXI, no. 3, September 2001.

(4)- Uri Peter Trier , Earning to live together future scenarios scenarios for education. Ibid.

(5)- Uri Peter Trier , Earning to live together future scenarios scenarios for education. Ibid.

(6)- Uri Peter Trier , Earning to live together future scenarios scenarios for education. Ibid.

(7)- Frawl, W. 1997. Vygotsky and cognitive science, language and the unification of the social and computational mind. Boston, Harvard UP.

(8)- Uri Peter Trier , Earning to live together future scenarios scenarios for education. Ibid.

(9)- Uri Peter Trier , Earning to live together future scenarios scenarios for education. Ibid.

 

"العلمانية هي الحل"!

لا تزال معركة فكر التنوير البشري وعلاقتها بتأسيس بناءات تنويرية عقلانية ومنطقية قائمة لتحرير العقل البشري بصفة عامة والعقل العربي لدى الإنسان العربي اليمني، من براثن التبعية الدينية وأفكارها المشوهة المشحونة قائمة معها إلى يوم القيامة فالسلطة الدينية في كل الشعوب والازمنة فاشلة بكل المجالات لم تنجح إطلاقاً ولم تحقق شيء يخدم شعوبها واتحدى أيا كان يقول ويبرهن ان هناك سلطة دينية في اي دولة او شعب او قارة على امتداد عالمنا الوسيع قد نجحت او حققت شي يخدم شعوبها والانسانية بشكل عام بكل تاكيد لا يوجد فجميع السلطات الدينية التي وصلت إلى الحكم وحكمت الشعوب وخاصة عالمنا العربي منذ العقد المنصرم بكل تاكيد لم تنجز شيء او تحقق شيء بقدر ما صنعته وفعلته بحق نفسها والشعوب من أخطاء وكوارث ويلات وماسي يرتقي إلى جرائم وانتهاكات رهيبة لا يمكن نسيانه مثلما حدث مع السلطة الدينية في أوروبا والسلطة الدينية العثمانية وبلاد فارس وفي الهند والغرب في القرنين الماضين وما حدث ويحدث اليوم والشواهد كثيرة كما اثبتت لنفسها وامام الشعوب والعالم فشلها وعجزها في ادارة الدول بل وسخرت كل شيء لخدمة مشاريعها الصغيرة ووصفت كل شيء لنازيتها لأنها بنيت على الخطأ من الأساس والجذور ولم تقوم على اسس سليمة بل قامت على بُعد ديني مذهبي وجهوي متوحش وتنكرت لاسس التنوير ومقومات العلم فتغطت بوشاح الدين وتسترت بشعارات براقه وتوشحت عباءة الدين والمذهب في كومة ملازم وكتيبات صُنعة لانفسها وتابعيها أشخاص على هيئة اصنام بشرية بهيئة مرجعيات دينيه قذرة هنا وهناك هذا وذاك أيا كان مذهبها اردات ان تشرب من وحل الكراهية والموت والقتل والبدع والخرافات والتمجيد واللغو البعيد كبعد الشمس عن الإسلام، هدفها دفع بعقل الإنسان العربي واليمني خاصة من أتباعهم ممن باعوا أنفسهم رخيصة لذلك الوحش الشرير القاتل الشيطان الديني بلباس الواعظ المرجعي هنا وهناك في هذا البلد او ذاك كادوات تحركها تلك الأصنام المرجعية في سبيل هلاك وقتل العقل العربي اليمني ومن حالة الانكفاء الاسلاموي المميت بشقيه السني الشيعي الرجعي ومن حالة الانطواء المجتمعي/ المتوراث في صيغ عادات وتقاليد جاهلية مشوه وبالية لا تمت لقيم الانسان وحقوقه الإنسانية المشروعة بصلة، ومن حالة السقوط والركود العقلي والمعرفي والعلمي المتقوقع في بناءات معرفية سطحية وقريبة تدور في حلقة مفرغة حول نفسها متاثر بأفكار الإسلام السياسي الرجعي لا حول ولا قوة لها وباتت عاجزة وفاشلة بكل المقاييس وليس لها عوامل القدرة في ان تنظر في افاق الاستدراك والاستدلال العقلي والمنطقي والبعيد عن كل القضايا الجوهرية وابعاد النهوض والتقدم العلمي الانساني والحضاري في جميع المجالات المختلفة.

 أنها معركة حاضرة يخوضها اليوم والى يوم القيامة كل عقول التنوير البشري من المثقفين العرب واليمنين، لتحرير عقل الشباب العربي اليمني من تلك القيود والبراثين .التي أصابت العقل العربي اليمني بمقتل هذه المحاولات لاستجلاء اشكاليات الاستقلال العقلي والادراكي للعقل العربي اليمني تحاول توفير أسئلة لاجابات غائبة.

لماذا البديهيات والمسلمات التي تعلمها، العقل العربي، كادت أن تذهب بعيداً بواقع العقل العربي اليمني وترميه في مقتل، وتهجر العقل والخيال والطموح. الأسباب كثيرة، ومنها أن العقل العربي لدى الشباب العربي اليمني لا يزال خاضع وتابع لأصحاب المدارس الدينية الاسلاموية المغلقة ولم يتحرر بعد من قيود أرباب واصنام تلك المدارس الاسلاموية المغلقة الذي أفضى إلى عقول جامدة مشوه بأفكار إسلاموية اكثر عنف ودموية وعادات وتقاليد وصيغ جاهلية تتنافى مع الفطرة السليمة يرفضها العقل والمنطق فاضحت تلك العقول فارغة ماهيتها ودورها وقيمتها في الحياة تتربع باجسام مسندة طويلة وعريضة تابعة بيد اصنام المدارس الاسلاموية الرجعية المتخلفة تحركها كيفما تريد تمارس الهدم لا البناء والقتل لا الحياة والجهل والخرافات والأساطير لا العلم والمعرفة والاستدراك والاستدلال العقلي المعرفي والتقليد والتجهيل لا التعلم، وبشتى أنواعها ووسائلها تلك، وممارسته أيضا للتعلم المنقول عن الأخر، وفي كل العلوم، الأمر الذي أدى بعقل الانسان العربي اليمني إلي استزراع بذور التخلف الذي اوقعه في مصيدة مدراس الإسلام السياسي المغلقة، وتحويل ذاكرته العقلية الجمعية إلي مستودع لثقافة العبودية للفرد و الطغيان والموت والكراهية الدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، على عكس ثورة العلمانية والتنوير والمعرفة استطاعت ان تنجح في جميع المجالات وتخطوا صوب البناء في كل الشعوب دولة وشعب معا المؤمنة بها القائمة على اسس سليمة وعلمية وحققت ما لم تحققة الدولة الدينية في كل الازمنة والادلة كثيرة والواقع شاهد على ذلك النجاح فأصبح التنافس اليوم في جميع المجالات هو حديث الامم اليوم بقدر ما تقدم من خدمات وانجازات لشعوبها والانسانية وما زال بعض شعوبنا العربية الأفريقية والاسيوية غارقة في صراع القتل على علي ومعاوية ومذهب واخر باشراف الوجوه الدينية الحاكمة منها وغير الحاكمة هنا وهناك استمر الخطأ والتراجع إلى الخلف والواقع الكارثي شاهد على ذلك بينما العالم يسير نحو الأمام وأمام كل جديد  وافد من العلوم والأفكار عندما يتساءل العقل للشباب العربي اليمني لماذا؟ وأين ؟ وكيف؟ يجيبه عقله، بأنه لا يمانع في الاستفادة من التلاقح المعرفي مع العلوم والمعارف والثقافات والحضارات الأخرى بغض النظر عن الأجناس أو الأديان أو اللغات أو الشعوب .

انه انتحار بعقل الانسان العربي اليمني بشكل متعمد وفي تجاهليه تامة لشعوب ومجتمعات عالمنا العربي واليمني ، وتعمد واضح الهدف ابقاء العقل العربي اليمني مكبل بتلك الأفكار والعلوم الدينية الاسلاموية الكهنوتيه الرجعية المشوة الدخيلة على قيم الإسلام السوي وليس له اي صلة بالاسلام كل ذلك من أجل تأسيس بناءات عقلية بصيغ دينية مشوه لتقدم نفسها بأنها سلطة الامر والناهي والناطق الرسمي باسم الله او الرب لتسيطر على حياة الناس والشعوب ومصائرهم وعقولهم تحت استغلال و الاستعطاف العاطفي للناس والشعوب وخاصة شعبنا اليمني وشعوبنا العربية هي في الحقيقة طيبة وسريعة التأثير من يأتي لهم ويتكلم ويخطب باسم الدين انساقت وراءه وصدقته بمكاننا نصورهم انهم حديثي الاسلام وكأنهم لا يعرفون الدين من قبل  لكن ما حدث هو ان وجوه واصنام الاديان ارادت ان تكتب على نفسها الغباء ولعنة التاريخ عندما ارادوا استغباء الناس والشعوب والعزف لهم على وتر الدين تحت مبررات واهيه والهدف منه ابقى العقول العربية اليمنية متخلفه وجاهلة هذا من جانب وإقصاء ومحاولتهم الفاشلة محاربة العقول التحررية التنويرية العربية اليمنية الأخرى من جانب آخر وهذا الامر هيهات لا ولن يتحقق لهم ذلك وخاصة ان اليوم ليس مثل الامس فهناك جيال يمني عربي قائم امامهم شاهر في ووجوهم سلاحه البتار العلم والتنوير والمعرفة ومن وراءه جيل يولد منه جيل وجيل إلى يوم القيامة متسلح بالعلم والتنوير والعلمانية من الصعب اليوم تجاوزه او محاربته إطلاقاً

السؤال لما لا نستطيع النهوض والالتحاق بركاب التطور على الرغم من توفر عوامل العلم والمعرفة لكني اجيب على هذا السؤال ليس لأن العقول العربية اليمنية متخلفة بذاتها بفطرتها وإنما هناك عوامل وقيود فرضت علية أبرزها القيود الدينية لاصحاب المدارس الاسلاموية السلالية المغلقة المتوغلة في كافة جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية وغيرها من العوامل التي قتلت الانسان والعقل العربي اليمني في وقت واحد. اليوم وقبل الامس وقبل الغد.

 الأمر الذي أدى إلى بقاء العقول العربية اليمنية مجرد عقول فارغة وفقيرة وعاجزة وتابعة وعبودية للرجل الديني فقط بهدف إبقاء العقل العربي جاهل يحركه في تحقيق أهدافهم الدنيوية القذرة ومشاريعهم الصغيرة بل وقتلة في أهداف وعنوانين متنوعه لا تخدم الانسان العربي اليمني

ولا يمكن تحرير العقول العربية واليمنية من قيود خاخامات ورجالات الدين وافكارهم المسمومة على المستوى الرسمي "الدولة" والشعبي الا من خلال ثورات العقول التنويرية في الاوساط الشعبية وبالعلم ومحاربة الجهل والفقر الديني والسياسي والاقتصادي والاجتماعي سيبقى هو السلاح الوحيد لإنقاذ عالمنا العربي وتحرير العقل العربي اليمني من تلك القيود الدينية والمدارس الدينية بكل مذاهبها واديانها والولوج إلى عالم النهوض والتقدم والازدهار المفتوح وخاصة بعد بروز عوامل كثيرة لتحرير العقل العربي اليمني

ولا شك أن التاريخ ملىء بالشواهد والدورس التي حررت العقل البشري من قبضة رجالات الدين والتحرر من أفكارهم والخروج من عالمهم الصغير المشحون بالعنف والقتل والكراهية إلى عالم النهوض والتقدم والازدهار والبناء والسلام ولنا في اوروباء ابرز مثال فعندما تحكمت رجالات الدين في الكنيسة والمعبد بعقل الانسان الأوروبي خاضت أوروبا في إحدى الفترات الماضية من القرن الماضي حروب وصراعات دموية داخل دولها وشعوبها اهلكت الحرث والنسل واستمرت لمئات السنوات تعاني وهذا بسبب سيطرة رجالات الدين في الكنيسة والمعبد على مقاليد السلطات الذين استغلوا سلطتهم الدينية الرجعية وأشعلوا الحروب والنزعات هنا وهناك بين أوروبا نفسها بافكارهم الدينية وتحت عنوانين عديده

 دمرت أوروبا الارض والانسان وخلقت ماسي رهيبة وفي كل المجالات وما زال عقل الإنسان الأوروبي يتذكر ذلك لكن عقل الإنسان الأوروبي لم يستسلم للكاهن والمعبد وللواقع الكارثي ولأفكار وخرافات سلطات رجال الكنسية والمعبد فوقف امامها جيل متحرر قاد الثورة ضده بشجاعة المؤمن بانسانيته وعادلتة مطلبه وقضيته فسرعان ما ادرك مؤخرا ان السلطات الكنسية والمعبد هم العدوا وبدأت حركات وثورات وطلائع التنوير الأوروبية تتنامى وتكبر يوما بعد آخر في تلك الحقبة وأطاحت ثورات التنوير بسلطة الكنسية و التي انقذت أوروبا من حروب الكنائس والمعابد واطفاءات الحروب وحررت العقل البشري الأوروبي من تلك القيود الدينية والى الابد و انتقلت ونقلت أوروبا إلى فضاء وعالم آخر من النهوض والتقدم والازدهار والبناء والسلام.

أخيرا الدين لله

والوطن والدولة للجميع.

***

د. فارس قائد الحداد - حقوقي وصحافي يمني

 

بدأ اهتمام يونج بالدين بعد أن انفصل عن فرويد وتخلص من سلطته عليه، وبعد أن أسس له مدرسة أو منهجا أسماه علم النفس التحليلي، فتوجه نحو دراسة الأساطير والرموز القديمة والطقوس وعادات الشعوب البدائية والاحلام وامراض العصابيين وهلوسات الذهانيين.. وخلص الى نتيجة عدّ فيها شخصية الفرد نتاجا ووعاء يحتوي تاريخ اسلافه. ورأى أن الأساطير والتقاليد القديمة والرموز والأفكار المجردة تنتقل من جيل الى آخر عبر مفهوم أطلق عليه مصطلح اللاشعور الجمعي Collective Unconscious الذي يعدّه مخزن آثار الذكريات الكامنه التي ورثها الانسان عن ماضي أسلافه، والمتخلفات النفسية لنمو الانسان التطوري.

ويقول يونج في كتابه (علم النفس والدين) ان الدين هو "الملاحظة الدقيقة المتحوطة لما أسماه رودولف أوتو ببراعة (الخارق للطبيعة)، أي وجود دينامي أو أثر لا يسببه فعل جزافي من أفعال الارادة، بل على العكس، هذا الوجود يمسك ويتحكم في الذات الانسانية التي هي دائما ضحيته أكثر من أن تكون خالقته ".

ويعرّف التجربة الدينية بانها شيء تسيطر عليه قوة خارجة عنّا، وأنها تتسم بضرب خاص من الخبرة العاطفية هي الخضوع لقوة أعلى، ويرى ان انعدام الشعور الديني يسبب كثيرا من مشاعر القلق والخوف من المستقبل والشعور بعدم الامان والنزوع نحو الرغبات الغريزية.

ويرى أن الوجود النفسي يكون ذاتيا اذا طرأت الفكرة لشخص واحد فقط، ولكنه يكون موضوعيا اذا أقر المجتمع تلك الفكرة، أي بإجماع الآراء. وبما أن الدين أقرته المجتمعات عبر تاريخها الطويل، وما تزال، اذن فهو حقيقة موضوعية.

وبابتكاره مفهوم (اللاشعور الجمعي) توصل يونغ الى ان هذا اللاشعور هو منبع الابداع الذي كان غنيا ومتنوعا وبأفضل حالاته لدى الأنبياء بوصفهم مبدعين من طراز فريد.

***

د. قاسم حسين صالح

يمر العديد من الناس بمنعطفات في الحياة ومنغصات قد تشكل بعداً مهماً وواضحاً يلتفت الانتباه لها الكثير من الخلق، أمور قد تكون في غاية البساطة والهامشية من أشخاص خبروا النكد والجهل وركوب محطات فارغة وركزوا على فتات الامور ونقائصها، فننجذب لها ونتفاعل معها حتى تثور دائرتنا ونخرج من السياق ونصاب بالتوتر والانفعال ونغضب ونمارس أفعال لا تمت لنا بصلة ولا تشبهنا لا نألفها، لكنها في محصلة الأمر تبدو سلوكاً يصدر عنا وعن شخصيتنا، كما قال أحد العارفين والمجربين " نواجه الحياة بكل صعوبة وقوة وندع التوافه تغلبنا على أمرنا"، نعم نتمتع بالقوة والتماسك وتغلبنا أشياء تبدو صغيرة ليست ذات قيمة ووجود، وآخرين عصاميون يتمتعون بالجلد والتماسك والرصانة وانتقاء الأفعال والممارسات الإيجابية التي تعبر عن أشخاص نبلاء يعرفون ما يصلح شأنهم وما يرفع من سمتها ويضعها في مقامها ومكانتها، يلتفتون للمواقف التي تستحق وتكون قيمتها وأثرها قيم وذات وقع كبير ويتركون ما لا وزن له، ولا يعيرون الاهتمام بأشياء واستفزازات وسلوكيات لا تشكل نفعاً لهم ولغيرهم.

من أجل ذلك دعونا نتأمل ونناقش موضوعاً مهماً يستحق منا أن نفرد له مساحات ونسلط الضوء عليه من النقاش والقراءة وتدوين الأفكار والأفعال التي تحتم علينا أن نشير لها. إنها ممارسة فنون التغافل فهو قيمة تؤكد التوازن النفسي والشعور بالثقة والمرونة العاطفية في تحلي المرء بها وإنعكاسها على كلماته وسلوكياته وردود أفعاله تجاه نفسه والآخرين، فمن اتصف بالوعي والادراك الذاتي والنضج في التعامل مع المواقف والأشخاص، استطاع أن يمارس ويعيش أطراف وممارسات التغافل الإيجابي المبني على السمو والروح التي تتدفق حكمة وإشعاع من نور الهدى والسكينة والطمأنينة التي تحل في النفوس والتي تنظر للأهداف العليا أهم من المماحكات وهوامش الأمور بدل التخبط والردود الهوجاء التي تزلزل الكيان عند هبة نسائم من الريح والتصرفات البسيطة التي قد تهزم النفوس وتدخلها في دائرة الملامة والتأنيب فهم عرفوا كيف يتحلون بالانضباط والتحكم في أنفسهم، فهم لا يتوقفون عند أشياء لا تذكر ولا تستحق الالتفات إليها وإعطائها طاقتنا ومجهوداتنا. هؤلاء هم أصحاب التوازن والاعتدال فكراً وممارسة وتعاملاً وفهماً ووعياً بالحياة ومن يعيش في كنفها وفي فضائها.

فتأمل معي عندما يتعامل رب الأسرة في بيته مع زوجته وأولاده بفنون من المرونة والتغافل للأمور البسيطة التي قد تثيرها ممارسات الزوج أو الزوجة وأولادهم، يتحلون بالضبط الانفعالي ويناقشون ويحاورن ويضعون النقاط على الحروف دون أن يعرقل حياتهم ترهات المواقف وصغيرها.

وتوقف برهة لتخيل بعض المواقف من الممارسات عندما تصدر عن القائد في منظمته الذي يدير فريق عمله بسهولة ويسر دون أن يعقد الأمور ويضيع طاقاته وطاقاتهم ويشتت انتباههم في أعمال قد تصدر عن أشخاص وقد تظهر في مواقف العمل، بل يشد من أزرهم ويركز الاهتمام على الأهداف التي خطط لها ويسير بهم في بوتقة تحمل للمسؤولية والإنجاز والأداء دون أن ينشغل بمواقف هشة متآكلة تضعف فريقه وتبعده عن تحقيق ما يصبو إليه.

تفكر ملياً عندما تتواصل مع أفراد مجتمعك في مناسباتهم ولقاءاتهم وتجماعاتهم فمن الحكمة أن تولي وتسترعي الانتباه في الذي يجمعك بهم دون أن تشغل فكرك على لحظات من الضعف ينشغل بها أناس ليسوا أهلاً للثقة والمسؤولية، فالتغافل ممارسة فائقة القيمة عندما يتجاوز عن سقطاتهم وإنحدار ممارساتهم، فالعودة إلى الطريق السليم أجدر نفعاً من تضييع الأوقات في هموم وجدال لا يبقى صلة ولا محبة بين الناـ بل يفتت عضدهم وقوتهم.

فالمتغافلون في أسرهم يجلبون النجاح والسعادة لهم ولمن في كنفهم، والصامتون الحكماء عن ممارسات في الأعمال يركزون نحو الأهداف المرسوم لها بثقة وتميز، والمتواصلون في محيطهم الاجتماعي يتجاهلون عن أشياء يثيرها أشخاص تبدو في غاية الروعة أن تحدث تماسكاً وقوة في عضد الجماعة وبنيتها الاجتماعية.

عندما تبحر بنفسك وفي تجاربك الشخصية سواء كنت في أسرتك لا تريد أن تضيع جهود أفرادك وعائلتك في متاهات لا طائل منها، فتهون عليهم بعض الأخطاء من البعض وتركز انتباههم نحو التشارك وقوة اللحمة الأسرية والعائلية، فتثير سحابة من النقاش وتسلط الضوء على أثر التغافل في حياتهم والتغاضي عن بعض الأشياء في مقابل تضمن استمرارية حياتهم وتأثيرها عليهم عندما يتماسكون ويقبلون على بعضهم ويتعاونون في المهمات والأهداف التي تجمعهم.   

وكم نحن في غاية السعادة والتألق عندما نمارس فنون التغافل والتجاهل لصغائر الأمور، نرى انعكاس ذلك في نفوسنا وسلوكياتنا وتشكل عادات أصيلة في فكرنا ومهاراتنا وتوجهاتنا نحو الحياة. ستكون قراراتنا أكثر نضجاً ووعياً وعقلانية، ونرتفع عن ردود الأفعال الفجة والهوجاء التي قد تضر بصحتنا الجسمية والنفسية وتضعف شوكتنا الاجتماعية، وأن الأشخاص الذين يمارسون التغافل يسهمون في خلق بيئة إيجابية جاذبة سلسة التواصل وصحية المبنى والمعنى.

وفي الختام: أن التغافل ممارسة وادراك لفنون أفعالنا وكلماتنا بشكل مستدام. فقيمة التغافل تمنحنا فرصة للنمو والتطور وتحقيق التوازن النفسي وتعزيز البنية الاجتماعية التي تشكل نواة الصلابة والقوة في المجتمعات الرائدة وتعزيز جودة الحياة القائمة على النجاح والسعادة والراحة بعيداً عن سفاسف الأمور وهوامشها.

***

د. أكرم عثمان - مستشار ومدرب دولي في التنمية الشبرية

2025

سوريا اليوم مختبر حي لتحديد المسافة بين عالم الأفكار وبين الوقائع اليومية. وقد اعتدنا على سماع من يعيب على أهل الفكر انشغالهم بالتنظير بدل الانخراط في الجدالات اليومية. بل رأيت من يساوي بين كلمة «تنظير» وعبارة «غير مفيد». إن شيوع مفهوم كهذا يكشف عن عيب خطير في الثقافة العامة، فالتنظير قرين للفكر العميق الحي المتجدد.

بين المسائل المثيرة للتأمل في المختبر السوري، مسألة العصبية، أي النواة الصلبة التي تمثل جوهر النظام السياسي. قد تتمثل هذه النواة في الجيش، أو في القبيلة، أو الطائفة، أو الحزب الحاكم، أو المجموعة القومية التي ينتمي إليها الحاكمون.

هذه مسألة معروفة منذ القدم. وتعرَّف العرب إليها منذ أن كانت السلطة ومصادر القوة محصورة في قبيلة أو حِلف قبلي. ثم أتى عبد الرحمن بن خلدون، فوضع تصويراً نظرياً لهذه الممارسة التاريخية. وأظنه بالغ شيئاً ما في تصوير الدور الذي تلعبه النواة الصلبة أو القاعدة الاجتماعية، حين قرر أن بقاء الدولة رهن بتلك العصبية. فإذا ضعفت تقلصت قوة الدولة وسلطانها حتى تؤول إلى الأفول.

ببساطة، رأى ابن خلدون أن استقرار الحكم مشروط باحتكار مصادر القوة من جانب فئة محددة، تصونها كما يستأثر المقاتل بغنيمته. قد يكون صاحب السلطة قبيلة أو طائفة أو حزباً سياسياً أو آيديولوجياً أو مجموعة عرقية، أو شيئاً مماثلاً. ثم يقرر ابن خلدون أن هذا النوع من التنظيم السياسي قصير العمر، حسب منطق الأمور، وأن أفول الدولة راجع إلى انتقالها من جيل إلى جيل. فالجيل الأول يتألف عادة من الأقوياء والأذكياء الحريصين على صناعة القوة، وإعادة إنتاج مصادرها. ثم تأتي أجيال اعتادت رغد العيش وسهولة الكسب، فلا تجهد نفسها في كسب ولا حفاظ؛ بل تأخذ السلطة من دون جهد، فتفرط في سلطانها، بسبب قلة الفهم، أو قلة التدبير، أو الرغبة في السلامة.

تعكس رؤية ابن خلدون هذه نمطاً من الثقافة السياسية، يتعامل مع السلطة السياسية كغنيمة في يد القابض على زمامها. والواضح أن هذا الفهم شائع في العالم كله، في الماضي والحاضر؛ لكن التحولات العلمية والاقتصادية التي شهدتها أوروبا منذ القرن التاسع عشر، أثمرت عن تغيير هذا التصور، باتجاه جعل السلطة السياسية وكيلاً للمواطنين، وليس ممثلاً للطبقة أو الحزب أو الجماعة التي ينتمي إليها أهل الحكم.

السر وراء هذا التحول ثقافي في المقام الأول؛ حيث استقر فهم جديد ينظر للوطن كملكية مشتركة لجميع أبنائه؛ بلا فرق بين صغير وكبير أو غني وفقير. وتبعاً لهذا التحول، قيل إن الذي يمسك زمام الأمور هو الشخص الذي يمثل المواطنين، ويدير مصالحهم باختيارهم، فهو يعمل لهم، وليس سيداً فوقهم أو جباراً يتحكم في مصائرهم. هذه علامة فارقة في تاريخ البشرية، تمايز عندها ما نعرفه اليوم باسم «الدولة الحديثة» عن «الدولة القديمة»؛ سواء كانت إمارة قبلية أو إمبراطورية.

في الدول القديمة، لم يكن الحاكم مسؤولاً أمام أحد. وليس من واجباته أن يخبر الناس عما يفعل، أو يطلب موافقتهم على سياساته. بخلاف الدولة الحديثة التي تطلب من الوزراء وغيرهم تقديم «كشف حساب» للجهات الرقابية أو التشريعية أو للمجتمع. وبهذا لم تعد السلطة مطلقة؛ بل مقيدة بالقانون وبرأي ذوي الاختصاص، فضلاً عن الهيئات الرقابية والتشريعية.

ما الذي نتوقعه في سوريا: استمرار الدولة القديمة التي حكمت بالاعتماد على الجيش والحزب والطائفة، أم دولة حديثة تستمد قوتها من مشاركة جمهور الناس ورضاهم، بغض النظر عن أصولهم الدينية والعِرقية وتصنيفهم الاجتماعي؟ سياسة تنطلق من كون جميع الناس مالكين لبلدهم، وبالتالي شركاء في إدارة أمره، أم سياسة تعتبر نفسها ممثلاً لـ«أهل الحق»، أي الشريحة الاجتماعية التي تنتمي إليها وتمثل مصالحها، من دون بقية أهل البلد؟ هذا موضوع اختبار جدِّي للعهد السوري الجديد.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

التجربة السويدية

في عالم يتطلب الابداع والتفكير النقدي لمواجهة تحديات لم نعهدها من قبل، هل ما زلنا نعلم ابناءنا بالطرق التقليدية التي تعتمد على الحفظ والتلقين؟ بينما يتسارع العالم من حولنا، تزداد الحاجة الى انظمة تعليمية تعد اجيال المستقبل لمواجهة هذه التحديات. وهنا، تقدم السويد نموذجا ملهما يركز تحديدا على تنمية هذه المهارات الاساسية، من خلال نظام تعليمي يشجع على التعلم العملي والتفاعل الفعال بين الطلاب والمعلمين. ففي السويد، لا يقتصر الامر على مجرد نقل المعرفة، بل يتعداه الى بناء شخصيات مفكرة ومبدعة وقادرة على حل المشكلات واتخاذ القرارات بشكل مستقل. هذا التركيز على بناء الشخصية المستقلة، من خلال تشجيع الطالب كفرد على الاستقلالية والمسؤولية، يساهم في تخريج افراد مثقفين ومنتجين يساهمون بدورهم في بناء مجتمع مزدهر. لذلك، تعتبر هذه التجربة كنزا ثمينا يمكن ان تستفيد منه الدول العربية في تطوير انظمتها التعليمية وبناء مستقبل واعد لاجيالها. فلنكتشف معا كيف يمكن ان تغير هذه الافكار واقع التعليم في عالمنا، وكيف يمكن ان نحول مدارسنا من مجرد اماكن للتلقين الى بيئات حاضنة للابداع والابتكار.

التعليم المدرسي (الابتدائي والثانوي):

الشمولية والمجانية: تتبنى السويد فلسفة تربوية تركز على تنمية قدرات الطفل بشكل شامل، وتشجيع التفكير النقدي والابداع وحل المشكلات. كما يولي النظام التعليمي اهتماما خاصا بدعم الطلاب ذوي الاحتياجات الخاصة ودمجهم في المدارس العادية، مما يعزز من مبدا الشمولية. اضافة الى ذلك، تقدم الدولة دعما ماليا للطلاب في المرحلة الثانوية وما بعدها، مما يساعدهم على اكمال تعليمهم العالي دون عوائق مالية. يساهم هذا النهج الشامل في بناء مجتمع مثقف ومنتج، ويعزز من مبادئ العدالة والمساواة بين جميع افراد المجتمع..

التركيز على الطالب: تتميز التجربة التعليمية في السويد بتركيزها الشديد على الطالب كفرد له احتياجاته وقدراته المتميزة. ينصب التركيز على تنمية شخصية الطالب بشكل شامل، من خلال تشجيعه على التفكير النقدي المستقل، وتحفيز ملكة الابداع لديه، وتدريبه على مواجهة المشكلات وايجاد الحلول المناسبة لها. يبتعد النظام التعليمي السويدي عن اساليب التلقين والحفظ التقليدية، التي تعتمد على استرجاع المعلومات بشكل جامد. بدلا من ذلك، يشجع الطلاب على طرح الاسئلة، والبحث عن المعرفة بانفسهم، والمشاركة الفعالة في العملية التعليمية، مما يساهم في بناء جيل مثقف ومبتكر وقادر على مواكبة تحديات العصر.

التعاون والعمل الجماعي: يعد التعاون والعمل الجماعي حجر الزاوية في التجربة التعليمية السويدية، حيث يعتبر جزءا لا يتجزا من العملية التعليمية برمتها. لا يقتصر التعليم على تلقين المعرفة بشكل فردي، بل يشجع الطلاب على العمل سويا ضمن مجموعات متنوعة. من خلال هذه الممارسة، يتعلم الطلاب مهارات حياتية بالغة الاهمية، مثل التعاون المثمر، والتواصل الفعال، وتبادل الافكار ووجهات النظر المختلفة، وتقبل اراء الاخرين، وادارة النقاشات بشكل بناء. يساهم هذا النهج في تنمية روح الفريق والمسؤولية المشتركة، ويعد الطلاب لمواجهة تحديات الحياة العملية التي تتطلب غالبا العمل ضمن فرق متكاملة. كما يعزز العمل الجماعي من قدرة الطلاب على حل المشكلات بشكل جماعي، والاستفادة من نقاط قوة كل فرد في المجموعة.

المرونة والتنوع: يتميز النظام التعليمي في السويد بالمرونة والتنوع، حيث يتيح للطلاب مجموعة واسعة من المسارات التعليمية التي تناسب اهتماماتهم وقدراتهم الفردية. لا يقتصر التعليم على مسار اكاديمي واحد، بل يوفر خيارات متنوعة تشمل المسارات الاكاديمية التقليدية التي تؤهل الطلاب للالتحاق بالجامعات، بالاضافة الى مسارات مهنية تركز على اكتساب المهارات العملية والتطبيقية التي تمكنهم من الانخراط مباشرة في سوق العمل بعد التخرج. يساعد هذا التنوع الطلاب على اختيار المسار الذي يناسب طموحاتهم وقدراتهم، ويمكنهم من تحقيق اهدافهم التعليمية والمهنية على اكمل وجه. كما يساهم هذا النهج في تلبية احتياجات سوق العمل المتغيرة، وتخريج كوادر مؤهلة في مختلف المجالات.

التقييم المستمر: يعتبر التقييم المستمر ركيزة اساسية في النظام التعليمي السويدي، حيث يعتمد على المتابعة الدقيقة والمستمرة لاداء الطالب وتقدمه طوال العام الدراسي، بدلا من التركيز على الامتحانات النهائية كمعيار وحيد للتقييم. يهدف هذا النهج الى توفير تغذية راجعة مستمرة للطالب حول نقاط قوته وضعفه، وتوجيهه بشكل فعال نحو تحسين ادائه وتطوير مهاراته. يساعد التقييم المستمر المعلمين على فهم احتياجات الطلاب الفردية وتقديم الدعم اللازم لهم في الوقت المناسب. كما يشجع الطلاب على التعلم المستمر وعدم تأجيل الدراسة الى ما قبل الامتحانات، مما يساهم في تحقيق نتائج افضل على المدى الطويل. يقلل هذا النظام من الضغط النفسي على الطلاب المرتبط بالامتحانات النهائية، ويركز على عملية التعلم نفسها كهدف اساسي.

التعليم العالي (الجامعي):

الاستقلالية والمسؤولية: يتميز نظام التعليم العالي في السويد بالتركيز على الاستقلالية والمسؤولية، حيث يشجع الطلاب على تولي زمام تعلمهم واتخاذ قراراتهم بانفسهم. يعتبر العمل المستقل والدراسة الذاتية جزءا لا يتجزا من العملية التعليمية، ما يكسب الطلاب مهارات البحث والتفكير النقدي وحل المشكلات. يتوقع من الطلاب ادارة وقتهم ومواردهم بفعالية، والمساهمة بفاعلية في المناقشات الصفية والمشاريع الجماعية. هذه البيئة التعليمية تعد الخريجين ليصبحوا متعلمين مدى الحياة وقادرين على التكيف مع متطلبات سوق العمل المتغيرة. كما تساهم هذه الاستقلالية في تعزيز الثقة بالنفس والاعتماد على الذات لدى الطلاب، ما يمكنهم من تحقيق اهدافهم الاكاديمية والمهنية بنجاح.

التركيز على البحث العلمي: يعد التركيز على البحث العلمي من الركائز الاساسية في نظام التعليم العالي في السويد. تولي الجامعات السويدية اهتماما بالغا للبحث العلمي وتشجع الطلاب على الانخراط فيه، ايمانا منها باهمية البحث في تطوير المعرفة وايجاد حلول للتحديات المجتمعية المتنوعة. كما تشدد الجامعات على اهمية النزاهة والامانة العلمية في جميع مراحل البحث، من جمع البيانات وتحليلها الى كتابة التقارير والنشر المسؤول للنتائج. يهدف هذا النهج الى تخريج باحثين مؤهلين قادرين على المساهمة في دفع عجلة التقدم العلمي والتكنولوجي، بالاضافة الى تعزيز ثقافة البحث العلمي بين الطلاب وتنمية مهاراتهم في التفكير النقدي وحل المشكلات. هذا وتوفر الجامعات السويدية بيئة بحثية محفزة ومجهزة باحدث التقنيات والموارد، ما يساعد الطلاب والباحثين على تحقيق اقصى استفادة من امكاناتهم..

التعاون مع سوق العمل: يعد التعاون الوثيق مع سوق العمل سمة مميزة للتعليم العالي في السويد حيث تحرص الجامعات السويدية على بناء شراكات فعالة مع الشركات والمؤسسات في مختلف القطاعات، بهدف توفير فرص تدريب عملي قيمة للطلاب. تساعد هذه الشراكات الطلاب على اكتساب خبرة عملية حقيقية وتطبيق ما تعلموه في بيئة عمل فعلية، ما يساهم في تعزيز فرص توظيفهم بعد التخرج. بالاضافة الى ذلك، يشارك ممثلو سوق العمل في تطوير المناهج والبرامج الدراسية، لضمان مواءمتها مع الاحتياجات المتغيرة لسوق العمل وتزويد الطلاب بالمهارات والكفاءات المطلوبة. هذا النهج يساهم في سد الفجوة بين التعليم الاكاديمي ومتطلبات سوق العمل، ويعد الخريجين بشكل افضل لمواجهة تحديات سوق العمل المعاصر. كما تشجع بعض الجامعات على انشاء مشاريع مشتركة بين الطلاب والشركات، ما يساهم في خلق بيئة ابتكارية تفيد كلا الطرفين.

التدويل والانفتاح: يتميز نظام التعليم العالي في السويد بروح التدويل والانفتاح على العالم، حيث ترحب الجامعات السويدية بالطلاب الدوليين من جميع انحاء العالم، وتقدم لهم العديد من البرامج الدراسية المتنوعة باللغة الانجليزية، مما يسهل عليهم الدراسة في السويد. يساهم هذا التنوع في خلق بيئة تعليمية دولية غنية ومحفزة، حيث يلتقي الطلاب من خلفيات ثقافية مختلفة، ويتبادلون الافكار والخبرات، ما يثري تجربتهم التعليمية ويوسع افاقهم. ويتجسد هذا التدويل في عدة جوانب، منها: ابرام اتفاقيات التبادل الطلابي مع جامعات عالمية مرموقة، مثل برنامج "ايراسموس+" مع دول الاتحاد الاوروبي، الذي يتيح للطلاب الدراسة في الخارج واكتساب خبرات دولية. كما تشارك الجامعات السويدية في مشاريع بحثية دولية واسعة النطاق، مثل المشاركة في ابحاث الاتحاد الاوروبي المتعلقة بالمناخ والطاقة، ما يساهم في تبادل المعرفة وتطوير البحث العلمي. بالاضافة الى ذلك، تنظم الجامعات مؤتمرات دولية تستضيف خبراء وباحثين من جميع انحاء العالم لمناقشة قضايا عالمية ملحة. ولا يقتصر الدعم على ذلك، بل تقدم الجامعات السويدية ايضا خدمات دعم مخصصة للطلاب الدوليين، مثل توفير معلومات عن السكن والتاشيرات والتامين الصحي، وتنظيم فعاليات تعريفية لمساعدتهم على الاندماج في المجتمع السويدي.

الجودة العالية: يعتبر التعليم العالي في السويد من اعلى المستويات عالميا، حيث تقدم الجامعات برامج دراسية متطورة في مختلف المجالات. وبسبب تركيز التجربة السويدية على البحث العلمي والابتكار، فأن تطوير المناهج الدراسية يتم بشكل مستمر لتلبية متطلبات سوق العمل. كما تعتمد الجامعات السويدية على اساليب تدريس حديثة تشجع التفكير النقدي والتعاون بين الطلاب، إضافة إلى توفير بيئة تعليمية محفزة تشجع على الابداع والتميز. هذا الاهتمام بالجودة ينعكس على الخريجين الذين يتمتعون بمهارات عالية تؤهلهم للمنافسة في سوق العمل العالمي.

التدريب على المهارات والوظائف وحاجة المجتمع وسوق العمل:

المهارات الحياتية: يولي النظام التعليمي السويدي، بما في ذلك التعليم العالي، اهتماما كبيرا بتطوير المهارات الحياتية الاساسية التي تعد الطلاب لمواجهة تحديات الحياة والعمل بنجاح. يركز النظام على تعزيز مهارات التواصل الفعال، سواء الكتابي او الشفوي، من خلال المناقشات الصفية والعروض التقديمية والمشاريع الجماعية. كما يشجع الطلاب على تطوير مهارات حل المشكلات من خلال دراسة الحالات الواقعية والمشاريع البحثية التي تتطلب تحليلا نقديا وايجاد حلول مبتكرة. يعتبر التفكير النقدي والابداع من المهارات الاساسية التي تنمى من خلال تشجيع الطلاب على التساؤل والبحث والتحليل والتفكير خارج الصندوق. بالاضافة الى ذلك، يركز النظام على تعزيز العمل الجماعي من خلال المشاريع الجماعية التي تكسب الطلاب مهارات التعاون والتواصل وادارة الوقت وحل النزاعات. هذه المهارات ضرورية للنجاح في اي مجال عمل وفي الحياة بشكل عام.

المهارات المهنية: تقدم الجامعات السويدية مجموعة واسعة من البرامج الدراسية التي تركز على تطوير المهارات المهنية المطلوبة في سوق العمل. وتقدم الكليات التقنية (Yrkeshögskolan) برامج تدريبية مهنية مكثفة تركز على الجانب العملي والتطبيقي، وتعد الخريجين لدخول سوق العمل مباشرة في مجالات مثل تكنولوجيا المعلومات والهندسة والرعاية الصحية. اما الجامعات التقليدية، فتقدم برامج اكاديمية تدمج الجانب النظري مع التدريب العملي من خلال فترات التدريب (Internship) او المشاريع العملية بالتعاون مع الشركات. على سبيل المثال، تقدم برامج الهندسة في الجامعات السويدية تدريبا عمليا في شركات هندسية رائدة، ما يكسب الطلاب خبرة عملية قيمة تعزز فرص توظيفهم. كما تقدم بعض الجامعات برامج ماجستير مخصصة تركز على تطوير مهارات القيادة والادارة والتسويق، ما يؤهل الخريجين لشغل مناصب ادارية في الشركات والمؤسسات.

التواصل مع سوق العمل: تقيم الجامعات السويدية شراكات وثيقة مع الشركات والمؤسسات في مختلف القطاعات الاقتصادية، بهدف توفير فرص تدريب عملي للطلاب وتطوير برامج دراسية تلبي احتياجات سوق العمل المتغيرة. تشارك الشركات في تصميم المناهج الدراسية، وتقديم المحاضرات وورش العمل، واستضافة الطلاب في فترات التدريب العملي. على سبيل المثال، تقيم الجامعات التقنية شراكات مع شركات تكنولوجيا المعلومات لتوفير فرص تدريب للطلاب في مجال تطوير البرمجيات وتحليل البيانات. كما تنظم الجامعات معارض التوظيف وفعاليات التواصل بين الطلاب والخريجين وممثلي الشركات، ما يساعد الطلاب على بناء شبكة علاقات مهنية والتواصل مع اصحاب العمل المحتملين. تساهم هذه الشراكات في سد الفجوة بين التعليم الاكاديمي ومتطلبات سوق العمل، وتعد الخريجين بشكل افضل لمواجهة تحديات سوق العمل المعاصر.

الاستجابة لحاجة المجتمع: يساهم البحث العلمي في الجامعات السويدية بشكل كبير في ايجاد حلول للتحديات المجتمعية المختلفة. تجري الجامعات ابحاثا متقدمة في مجالات مثل التغير المناخي والطاقة المتجددة والصحة والتكنولوجيا. على سبيل المثال، تجري جامعة اوبسالا ابحاثا رائدة في مجال تطوير تقنيات الطاقة الشمسية، بينما تركز جامعة كارولينسكا على الابحاث الطبية المتعلقة بامراض السرطان والقلب والاوعية الدموية. تساهم هذه الابحاث في تطوير حلول مبتكرة للتحديات المجتمعية، مثل تطوير تقنيات جديدة لانتاج الطاقة النظيفة، وتحسين طرق تشخيص وعلاج الامراض، وتطوير تطبيقات تكنولوجية تساهم في تحسين جودة الحياة. كما تشجع الجامعات على تحويل نتائج الابحاث الى منتجات وخدمات تفيد المجتمع والاقتصاد.

الخلاصة:

يتميز التعليم العالي في السويد بالتركيز على البحث العلمي وتشجيع الطلاب على المشاركة الفعالة فيه، مع التاكيد على النزاهة العلمية والاخلاق البحثية. يولي النظام اهتماما خاصا للتعاون الوثيق مع سوق العمل، وذلك لتوفير فرص التدريب العملي القيمة للطلاب وتطوير البرامج الدراسية لتلبية الاحتياجات المتغيرة لسوق العمل. كما يتميز النظام بروح التدويل والانفتاح على العالم، حيث يرحب بالطلاب الدوليين من جميع انحاء العالم ويقدم لهم العديد من البرامج الدراسية المتنوعة باللغة الانجليزية. يساهم البحث العلمي في الجامعات السويدية بشكل فعال في ايجاد حلول للتحديات المجتمعية المختلفة، مثل التغير المناخي والصحة والتكنولوجيا، ما يعكس التزام النظام التعليمي بخدمة المجتمع وتطويره. هذا التكامل بين البحث والتدريس والتعاون مع المجتمع يجعل من التعليم العالي في السويد نظاما متميزا وفعالا.

نشرت ضمن هذه السلسلة تجارب التعليم في بريطانيا والصين وسنغافورة وكوريا الجنوبية وهولندة وفنلندة وكوبا وايرلندة واليابان والمانيا والولايات المتحدة الامريكية.

***

ا. د. محمد الربيعي

بروفسور في الهندسة البيوكيميائية ومستشار مهتم بالتربية والتعليم. جامعة دبلن

 

كنت حريصا على ان اتابع ما حصل للثقافة في العراق بعد 2003 لغاية الان. فبعد سقوط النظام الدكتاتوري الذي اعتمد ثقافة الحاكم الواحد والحزب الواحد، حصل اول تحول سيكولوجي بظهور (ثقافة الضحية) التي صنفت العراقيين الى ضحيتين (الشيعة والكورد) وان على الضحية المظلومة ان تقتص من الجلاد الظالم (السنّة).

ومن أول سنة تغيير (2003) تراجعت (ثقافة المواطنة) يوم سدد لها بريمر ضربة (ثقافة التثليث.. شيعة، سنة، كورد).

بعدها بسنة ظهرت (ثقافة الأحتماء).. فبعد ان تعطل القانون وصارت الحياة فوضى والسلطة لمن هو اقوى في الشارع.. اضطر البغداديون بشكل خاص الى ان يغادروا بغداد ليحتموا اما بالعشيرة او المدينة التي ينتمي لها.. كأن يذهب الراوي الى راوه مثلا.

بعدها بسنتين شاعت وتعمقت (ثقافة الولاءات المتعددة) التي تفرّق لتصل الى ابشع حال في احتراب (الهويات القاتلة) لسنتين كارثية (2006-2008)، ورفع من صار رئيس وزراء في حينه شعار (صارت عدنه وما ننطيها). وتراجعت ثقافة التسامح وثقافة الحوار، لتظهر ثقافات متعددة الأسماء: ثقافة التحرير، ثقافة الغزو، ثقافة العمالة، ثقافة الارهاب، ثقافة المقاومة، وثقافة كاتم الصوت. وكان اقبحها هي (ثقافة الطائفية) التي وزعت العراقيين الى جماعات تفرقها ثقافة التعصب وتجمعها ثقافة الكراهية.

المثقف.. بعد التغيير

من عادتي ان استطلع الرأي العام حين اريد توثيق ظاهرة اجتماعية او ثقافية، وقد فعلت ذلك بخصوص حال المثقف العراقي بعد التغيير في (2017)، اليكم نماذج من اجاباتهم:

- المثقف العراقي يواجه ثقافة دينية طائفية عشائرية مدججة بالسلاح والمال والنفوذ، لكنه رغم ذلك يعمل ويبدع ويقاوم.

- المثقفون لا يملكون قوة المال ولا غاز مسيل للدموع، والهجمة الان ضخمة وقوية.

- بدون زعل، لانهم لم يسمعوا كلام غادة السمان فهاجروا ثم ذبلت ازهارهم هناك ولم يدركوا ان الاشجار لا تهاجر.

- المثقفون.. منهم من وجد ذاته بعيدا وغادر الوطن ولم يتذكره، والموجودون في واد والجماهير في واد اخر، ومنهم من انساق وراء مغريات السلطة للاسف.

- لا يوجد تاثير للمثقف على سواد الناس الذين يمثلون قاعدة الجهل العريضة ويتاثرون بخزعبلات الملّا والمشعوذ، والبعض منهم يعتبر المثقف بانه ينشر الكفر بين الناس.

وبعد ست سنواتٍ وفي العام (2023) أعدنا الاستطلاع ذاته، إليكم نماذجَ من إجابات حرصنا أنْ تحملَ أفكاراً مختلفة:

* حسب رأي غرامشي: الأكثريَّة في المجتمع هم مثقفون لكنْ بثلاثة أصناف: التقليدي المهني مثل الموظف والمعلم، والثاني الذين يعرفون الأخطاء ويقبلون بها طمعاً بعطاءٍ من السلطة وهم الأغلبيَّة في العراق من كتاب وفنانيين وآخرين، والثالث هم الذين يشخصّون الأخطاء ويعملون على تصحيحها ويدافعون عن التغيير نحو الأفضل.

* المثقف العراقي الحقيقي غائبٌ أو مغيبٌ في وسط هذا التزاحم والفوضى وقلة الوعي وانتشار الخرافة والتدين الزائف والجهل المدقع والتدليس والأمية بكل أنواعها. هناك مثقفٌ اجتماعيٌّ يحملُ همومَ الناسِ ويسعى إلى تغيير الواقع، وآخر لا يهمه سوى منجزه الأدبي. أما الانتهازيون والمتكسبون فهم الفئة الأكبر الآن، وهؤلاء يلعقون ما ترميه لهم السلطة ويعتاشون على فتاتها.

ويرى آخرون أن المثقفين بعد التغيير قليلون جداً، والسبب هو تغليب النزوات والغرائز على العقل بسبب ظروف الحرب وقساوة الحياة وتدمير عقل الإنسان، وأن الكم الهائل من ثقافة العصر جعلت من الصعب على المثقف الحفاظ على موقعه، وأن المثقف العراقي إنسانٌ أولاً، منهم النرجسي والموضوعي والذاتي والمتواضع والمتكبر الذي لا تغير ثقافته من طبعه، وليس مطلوبا منه أنْ يطلبَ من الآخرين جلد ذواتهم، وهو الأمر الذي يحدث لدينا ولا يحدث في العالم المتقدم الذي يعدُّ المشاركة الثقافيَّة فخراً لصاحبها.. كما يضيفون.

ثلاث اشكاليات

نقصد بالمثقف هنا الذي يمتلك نزعة انسانية ورؤية شاملة وضميرا اخلاقيا ومعارضة موضوعية لواقع لا يليق بحرية الانسان وكرامته.. هذا المثقف بالتحديد يعيش اكثر من اشكالية:

الأولى سيكولوجية.. يشعر فيها بالتهميش فيعاني بسببها الاغتراب وفقدان المعنى من وجوده في الحياة.

الثانية.. فجوة كبيرة بينه وبين المجتمع.. خلاصتها انه يرى المجتمع قد وصل الى حالة (بعد ما تصير له جاره).

الثالثة الأخطر.. اشكاليته مع السلطة..، فهو ناقد بطبيعته للجوانب السلبية، فيما السلطة بطبيعتها لا تحب من ينقدها، وادراكه بان الصورة التي تحملها السلطة عنه بأنه (عدو) وانها تخشاه لانه اقرب منها نفسيا للناس، والأصعب.. أن السلطة تشعر بالنقص الثقافي امام المثقف، فتتولد لدى كليهما عقدتان سيكولوجيتان متناقضتان: شعور السياسي بالنقص وشعور المثقف بالاستعلاء.

العراق.. خامسا

توثق شبكة الساعة وشفق نيوز بالاسماء مقتل (نحو 300) صحفيا ومثففا في العراق بعد 2003، فيما اشار تقرير (للجزيرة) ان العراق (حلّ بالمرتبة الخامسة على مستوى العالم في مؤشر افلات قتل الصحفيين والمثقفين من العقاب بالرغم من وجود قوانين تعنى بحماية الصحفيين).

والأسوأ.. ان تعرض المثقفين والصحفيين الى القتل.. ازداد الآن بعد سيطرة المليشيات على الشارع العراقي، واوصلت المثقفين الى ان يعيشوا واحدة من أسوا المحن التي مرّت بهم.. فتوزعوا بين من غادر الوطن مضطرا، وبين من وجد ان لا معنى للحياة دون حرية قلمه فدخل حالة الاغتراب النفسي، وبين من هادن السلطة والتحق بهذا الحزب او ذاك لتامين لقمة العيش لعائلته، وبين من وضع كفنه على راحة يديه.. ويعلم أنه مقتول مقتول.

بقي علينا ان يكون لدينا فهم مشترك بأن الثقافة تعني.. نوعية الأفكار والمعتقدات والأخلاق التي نحملها بخصوص انفسنا والآخرين والعالم، وأنه لهذا السبب جرى الأعتراف بها دوليا في الاعلان العالمي لحقوق الانسان الصادر بقرار الجمعية العامة عام 1984الذي أكد على أن (لكل شخص الحق في ان يسهم بحرية في الحياة الثقافية للجماعة، وفي ان يتمتع بالفنون، و يشارك في مختلف انواع التقدم العلمي وفي الفوائد الناجمة عنها).

وعراقيا، انشغل جيل الشباب "بثقافة " الفيسبوك و و.. وما عاد يعرف حتى رموز الثقافة في وطنه.. وبينهم من لا يعرف حتى الجواهري ومظفر النواب. (سألت شابين كانا معي في الطائرة.. هل تعرفان الجواهري؟ اجابا: لا، هل تعرفان مظفر النواب، اجابا: ما نعرفه!)

وكثير من العراقيين يغفلون دوره الثقافة، ولا يدركون ان ما نحمله من قيم وأخلاق.. هي من صنع الثقافة. والأكثر من ذلك ان الثقافة هي التي تتحكم بسلوكنا، وانها هي السبب في اختلاف سلوك رجل الدين عن سلوك الإرهابي، وسلوكك عن سلوك الآخر.. ولك ان تتذكر كيف كان سلوك العراقي في ثلاثة أزمان: الملكي والجمهوري والديمقراطي بعد التغيير. ولك ان تعرف ايضا ان تضاعف حالات الطلاق والانتحار وتحول الفساد من فعل كان يعدّ خزيا في قيمنا العراقية الى شطارة وانتهاز فرصة.. سببه الرئيس شيوع ثقافة الخرافة والنفاق والدجل وتوظيف الدين لخدمة الحاكم الفاسد.. وتلك هي الإشكالية التي يعيشها المثقف العراقي الحقيقي و محنته في الزمن الديمقراطي.. التي غاب فرجها باغتيال ثورة تشرين!

***

ا. د. قاسم حسين صالح

 

بين النَّثر الأدبيِّ في صَدْر الإسلام والشَّريف الرَّضِي (5)

إنَّ حافز الأَشياع لضَمِّ خُطَبٍ منسوبةٍ إلى (عليِّ بن أبي طالب، رضي الله عنه) إلى مشروع (الشَّريف الرَّضِي، -406هـ= 1015م)، وعدم الاكتفاء بـ«الكلام القصير في المواعظ والحِكم والأمثال(1) والآداب»، إلى جانب الدافع الدِّينيِّ والعائليِّ لدَى الشَّريف نفسه- وذلك لما طمع إليه من «عظيم النفع، ومنشور الذِّكر، ومذخور الأجر»- مضافًا إليه الحافز الطائفي؛ كي يُبين «عن عظيم قَدر أمير المؤمنين، عليه السلام، في هذه الفضيلة، مضافة إلى المحاسن الدَّثِرَة، والفضائل الجمَّة»، إنَّ ذلك كلَّه كان كافيًا لاستجازة الشَّريف نِسبة ما نسبَ إلى (عليٍّ) من المطوَّلات، والفلسفيَّات، والخطابات المتمنطقة، والطبيعيَّات، والبديعيَّات، ما دام لا يخرج بذلك عن مأثور أخبار عليٍّ الشَّعبيَّة، ولا عن نواميس نَهْجه في الأفعال والأقوال، وإنْ بحسب مرويَّات القوم وتصوُّراتهم. 

هكذا أمسك بخناقي (ذو القُروح)، كمعتاد أفعاله. فقلتُ له:

ـ لكن هذا شيء، وتصديق أنَّ تلك الخُطَب الطِّوال جاءت بنَصِّها وفَصِّها على لسان (ابن أبي طالب)، وأنها ظلَّت محفوظة متناقلة لنحو ثلاثة قرون، حتى قُيِّض لها من صَبَّها للناس صَبًّا في كتاب، شيء آخر. 

ـ فإذا أضيف إلى ما سبقَ الدافعُ العِرْقيُّ، من المفاخرة، والمنافرة، والمكاثرة، وَفق «نَهْج البلاغة» القَبَليِّ الأَبَويِّ المتوارث، الذي أوشك أن يحوِّل النبوَّةَ من اصطفاءٍ فرديٍّ إلى نَسَبٍ عائلي، والشَّرَفَ من قيمةٍ مكتسبةٍ بالسُّلوك والعمل إلى دَمٍ نبويٍّ، وَفق ثقافة العَرَب الجاهليَّة، وكما تجلَّت بَعد الإسلام في مناقضات (الفرزدق) و(جرير)- على سبيل القِيَم الجاهليَّة المؤسلَمة- إذا لوحظت تلك العوامل استحكمَ في مِرْجَلِها الباعثُ الحماسيُّ، وسيطرت الحميَّةُ العَلويَّة، واختمر المزاجُ العائليُّ، الذي عَبَّر عنه (الشَّريف) بقوله: «وأردتُ أن يسوغ لي التمثُّل في الافتخار به، عليه السلام، بقول الفرزدق:

أولئك أبائي، فجئني بمِثلهمْ   :::   إذا جمعَتْنا، يا جريرُ، المجامعُ!»(2)

ـ لقد كان غرض (الشَّريف الرَّضِيِّ) في تأليف «النَّهْج» شريفًا، فيما رأى، أو فيما حاول أن يُقنِع به نفسه، عبر مستويات متدرِّجة من أدوات الإقناع. ولم يكن الرجل ذلك الأكاديميَّ الذي تؤرِّقة الأمانة العِلميَّة.

ـ أتفقُ معك. لكنَّه لم يكتف بذلك، بل جعل لعمله هدفًا آخَر أشرف، تربويًّا، وتعليميًّا، وبلاغيًّا، جلَّاه في تسمية الكتاب بـ« نَهْج البلاغة»؛ وكأنما هو كتابٌ مدرسيٌّ لمَن أراد معرفة أصول البلاغة وأساليبها وأعراف طرقها؛ فهذا الكتاب هو «نَهْج»، أي طريق، ومنهاجُ تعلُّم «البلاغة»، والدُّربة عليها. 

ـ ولا تنس أن ذلك حدثَ في تلك القرون التي أخذ النحويُّون يشقِّقون لنا تشقيقات أخرى، سَمَّوها (عِلم البلاغة)، بعد تشقيقاتهم النحويَّة العتيقة المعقَّدة المستهلَكة، التي سَمَّوها (عِلم النحو).

ـ وبذا أحسنوا وأساؤوا، وتمنطقوا وخالفوا المنطق، وبالغوا في بلاغيَّاتهم، كي يستولدوا عِلمًا مبتدَعًا، لا يقلُّ في بعض أوجهه استغلاقًا وإلباسًا من بعض أوجه (النَّحو). حتى لقد عَدُّوا- على سبيل الشاهد- الآية: «يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ»، والآية: «جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ»، من ذلك الباب المخترَع الذي أسموه (المجاز المرسَل)، قائلين: إنَّ المذكورِين في الآيتين إنَّما كانوا يجعلون بَنانهم في آذانهم، ولا يُدخلون أصابعهم كلَّها! فلا تظنوا غير هذا، يا قَوم!

ـ يا لهم من فُطَناء نُبَهاء حقًّا! وأنا الذي كنتُ أتصوَّر أنَّ المقصود أنَّ قوم (نُوح) كان أحدهم يُدخِل إصبعه بطولها في أُذنه، لولا هذا التنبيه المجازيِّ المرسَل الحصيف، الذي كشف الغمَّة عن الأفهام المدلهمَّة!

ـ بالفعل، هذا التفاتٌ بلاغيٌّ طريفٌ حقًّا! مع أنَّ كلَّ عامِّيٍّ- أمس أو اليوم وإلى قيام الساعة- لا يحتاج إلى مثل تلك البلاغة السكَّاكيَّة؛ لأنه ما زال يُعَبَّر بالإصبع في مثل هذا السياق، في الفصحى والعامِّيَّة، عن مثل ما عبَّر عنه «القرآن»، لا يُبتغَى فيه مجاز ولا تخييل، بل هو تعبيرٌ حقيقي؛ من حيث إنَّ الإصبع، مهما طالت، قد تُطلَق على طَرَفها، أو ما يُسمَّى منها (البَنان)، وقد تُطلَق على كُلِّها، كما هو الحال في التعبير بـ(اليَد)، وليس الناس في حاجةٍ إلى «عِلْمٍ»، إذن، ليُدرِكوا ذلك.

ـ وما دام العَرَبيُّ ما انفكَّ يستعمل هذا، منذ نعومة لُغته، فأين المجاز؟

ـ لا مجاز تحت الشمس! إنَّما المجاز انحرافٌ أسلوبيٌّ عن مألوف القول، لغايةٍ فنِّـيَّةٍ متوخَّاة. أمَّا حين يغدو الكلام من قبيل مألوف القول عبر العصور، فقد غَبَرَ حقيقةً، لم تَعُد فيه من المجاز رائحة، لا مرسلة ولا مقيَّدة! ومهما يكن من شيء، فتلك قضيَّةٌ أخرى، إنَّما ضربناها مَثَلًا على مقدار ذلك الهَوَس الذي اعترى الطبقة العالمة بما يُسَمَّى «بلاغة»، خلال تلك القرون التي ظهر فيها «نَهْج البلاغة». وقد ظلَّ «نَهْج البلاغة» كتابًا مَدرسيًّا بالفعل، منذ كتبه (الشَّريف)- الرَّضِيُّ أو المرتضَى أو كلاهما- وصولًا إلى طبعته الحديثة، بضبط (الشيخ محمَّد عبده) وشَرْحه. أي منذ كتبَ الشَّريف في تقديم «النَّهْج»: «ورأيتُ من بَعدُ تسميةَ هذا الكتاب بـ»نَهْج البلاغة»؛ إذ كان يَفتح للناظر فيه أبوابها، ويُقرِّب عليه طِلابها، وفيه حاجة العالِـم والمتعلِّم، وبُغية البليغ والزاهد، ويَمضي في أثنائه من عجيب الكلام في التوحيد والعدل، وتنزيه الله، سبحانه وتعالى، عن شَبَهِ الخَلْق، ما هو بِلال كُلِّ غُلَّة، وشِفاء كُلِّ عِلَّة، وجلاء كُلِّ شُبهة.»(3)

ـ تلك، إذن، هي أسباب تأليف الكتاب، ومسوِّغات نَسْجه، وأهداف وَضْعه.

ـ ومنها «جلاء كُلِّ شُبْهة (معتزليَّة)»، كما أوضحتُ في حوارٍ سابق، لـ«تنزيه الله، سبحانه وتعالى، عن شَبَهِ الخَلْق». وليس من بين الأهداف التحقيق، ولا من الغاية التوثيق الجازم، ولا التأريخ الممحَّص. ثُمَّ ثَمَةَ نكتةٌ أخرى.

ـ هاتِ، نَكِّتْ، رعاك الله!

ـ أسلوب «النَّهْج» في معظمه أسلوبٌ كتابيٌّ لا شفاهي. لا لما حُمِّل إيَّاه من أوزار السَّجع والبديع فحسب- وهو ما كان القرن الرابع الهجري، لا الأوَّل الهجري، مسرحه الذهبي- ولكن أيضًا لأنَّه أسلوب كاتبٍ، متأمِّلٍ، موجَّهٌ إلى قارئٍ مستقرئ، وليس بأسلوب خطيبٍ، يُلقِي كلمته فوق منبرٍ على جمهرةٍ من السامعين، ومعظمهم من الأعراب، وسُوقة الناس، وربما بعضهم من غير العَرَب، فلا قِبَل لهم إجمالًا بمثل ذلك التحذلق في المباني والمعاني، إنْ وُجِدت لدَى صاحب المنبر، افتراضًا. ذاك شأن الخطيب، وإلَّا عُدَّ فاشِلًا في (فنِّ الخطابة)، لعدم مراعاته مقتضى الحال والتلقِّي. وللخطابة، ومشافهة الجماهير، أساليبهما المباينة نوعيًّا لأساليب الكُتَّاب إلى القُرَّاء، التي يعرفها الخطيب المِصْقَع والشَّحْشَح، ولا ينبغي له أن يزيغ عنها، وإلَّا كان قارئَ نشرات أخبار لا خطيبًا! والكتابيَّة خاصيَّةٌ ظاهرةٌ في «النَّهْج»، ولا تُناسب مقتضى الحالات التي زُعِم أنَّ نصوص «النَّهْج» قيلت في سياقاتها. 

ـ وبهذا النقد الداخلي للنصوص ينكشف عِلميًّا أمر ذلك الكتاب الذي فيه رَيب!

ـ أمَّا بالعودة إلى أسلوب «نَهْج البلاغة»- وهو أسلوب القرن الرابع الهجري، وأسلوب (الشَّريف) عينه، كما تفضحه مقدمة «النَّهْج»، وكما يعرفه القارئ في كتابات الشَّريف الأخرى، نثرًا وشِعرًا، وليست بأسلوب صَدْر الإسلام قطعًا، ولا بطابع الخطابة في القرن الأوَّل من الهجرة، ولا حتى القرن الثاني- أمَّا ذلك الأسلوب، فأيُّ حلاوةٍ فيه لدَى من لا تعجبه ترديدات الببغاوات؟ وأيُّ طلاوةٍ في تلك الأنساق الرياضيَّة، المرصوصة من الجُمل المكرَّرة، والسَّجع المطَّرِد، والتزويقات الصوتيَّة المُمِلَّة؟! 

ـ وكيف يقارَن هذا بالنسيج القرآني؟!

ـ تلك سقطة (أحمد القبَّانجي) السحيقة، وهي أسخف من أن تُناقش! فـ(القرآن) بالغ التأثير في المتلقِّي، ببنيتَيه الصوتيَّة والدلاليَّة معًا. يأسر الألباب، وإنْ لم تكن من ألباب المؤمنين به.  أمَّا مَن لم يُؤْتَ نصيبًا من ذوقٍ أدبيٍّ، ولا حِسٍّ جماليٍّ، ولا تمييزٍ لُغويٍّ، ولا إدراكٍ لجماليَّات البلاغة والأساليب، والتفريق بين مستوياتها وأطوارها، وتاريخ ترقِّيها، ثمَّ هو فوق ذلك مزورُّ النفس لهوًى مخامر، ولعُقَد قاهرة، مطموس العقل لاعتقادٍ مضادٍّ؛ أمَّا من تلك حاله، فمرفوعٌ عنه القَلَم، منزوعُ الصلاحيَّة للنظر في هذه الشؤون، عاجزُ التأهيل أساسًا عن مقاربتها، فضلًا عن مقارنتها.

ـ أجل، لقد يأتيك من عجائب المخلوقات من لا يعترف لـ(المتنبِّي)، مثلًا، بشِعريَّته، أو لـ(طه حسين) بأسلوبيَّته، فماذا تملك لمثل هذا الكائن، الذي نزع الله عنه الحِسَّ الأدبيَّ السليم؟!

ـ والأدهى حين ينصِّب هذا نفسه ناقدًا أدبيًّا، وهو عَيِيُّ اللِّسان، بَليد الفِطرة، أعجميُّ المزاج، مَلْخُوْم الحواسِّ، دَعِيٌّ في هذا الميدان! ولو كانت به مسكة من عقلٍ أصلًا، ما تقحَّم بافتئات في غير ما يُحسِن. أو لو بقيت به نُخالةٌ من حياء، ما خاض فيما لا يعرف. وهذا وأمثاله، أيًّا ما كان دِينه أو دَيدنه، أو كانت هويَّته، ليس مخاطَبًا بالإعجاز البلاغي أصلًا؛ لأنه من المرفوع عنهم التحدِّي لمخمصته المشار إليها. ولقد عبَّر عن هذا (الوليد بن المغيرة)- المشرِك المعاند، المطاول ببيانه «القرآن»- فانقلب حين سمعه إلى قومه وهو يقول: «سمعتُ منه كلامًا ليس من كلام الجن، ولا من كلام الإنس، واللهِ إنَّ له لحلاوة، وإنَّ عليه لطَلاوة، وإنَّ أعلاه لمُونق، وإنَّ أسفله لمُغدِق، وإنَّه ليعلو ولا يُعلى عليه.» وبقطع النظر عن صِحَّة هذه الرواية، فذلك ما يجدر بشهادة عَرَبيٍّ صادقٍ، غير مكابر، بَيْدَ أنها غير متوقَّعة أبدًا من مغوليٍّ، مثلًا، أو من تركماني، أو حتى من عَرَبيٍّ ممسوخ اللِّسان. وهل تنتظر من مثل هذا أن يفقه ما الحلاوة؟ أو ما الطلاة؟ وأين مواطن الإيناق؟ وأين منابع الإغداق؟! لأنَّ فاقد الشيء لا يعطيه! وذلك كذلك ما شَهِد به منصفو الكافرين قبل المؤمنين، عن نَصٍّ لا بالشِّعر هو، ولا بالنثر، ولا بالنَّظم، ولا بالترسُّل، ولا بالسَّرد، ولا بالأمثال والمقولات الحِكميَّة، ولا بالمتكلَّف، ولا بعفو القول الساذج؛ سهلٌ في امتناع، منيعٌ في سهولة، يستعصي على التصنيف الأجناسي بين النصوص. جامعًا من سِحر البيان ما في فنون القول المتباينة كافَّة. وهذا هو الجمال الأدبي، ومناط الإعجاز البلاغي، لدَى مَن فَقِه اللُّغة، وعايش فنون الخطاب، لا تلك المعادلات الذِّهنيَّة، والتلاعبات اللفظيَّة، التي دبَّجها (الشَّريف الرَّضِيُّ/ المرتضَى) على صحائف كتابٍ وَسَمَه بـ«نَهْج البلاغة». 

[وللحديث بقايا].

***

أ. د.عبد الله بن أحمد الفَيفي

........................

(1) كذا! وما في « نَهْج البلاغة» حِكَم، لا أمثال. ذلك أنَّ المَثَل مأثورٌ شَعبيٌّ، وليس بقولٍ حكيمٍ فرديٍّ، وإنْ كان أصله كذلك. وهو يَرِد في موقفٍ قَصصيٍّ، ويُحفَظ كما سُمِع، بلا تغيير، وإنْ تضمَّن أخطاء لُغويَّة، أو نحويَّة. ولذا فقد أخطأ (أحمد السِّباعي، رحمه الله)، في كتابه «الأمثال الشَّعبيَّة في مُدُن الحِجاز»، في إعراب بعض تلك الأمثال؛ والأمثال الشَّعبيَّة إذا غُيِّرت لم تعد أمثالًا. ومن ذلك تغييره المَثَل الشَّعبي المعروف الذي يقول: «احييني اليوم وموِّتني بُكرة»، فغيَّر هنا كلمة «بُكرة» إلى «غدًا». (تُنظَر طبعة: (جُدَّة: تِهامة، 1981)، ص16). وهذا يُعَدُّ تحريفًا في الجنس الأدبيِّ للأمثال. وكذا قوله، على سبيل الشاهد: «اعطيني عُمْرًا وارميني في البحر»؛ فالمثل المعروف: «أعطيني عُمُر وارميني في البَحَر». ثمَّ إنَّ هذا المَثَل مبنيٌّ على السجع بين كلمتي «عُمُر» و«بَحَر»؛ فذهب تغييرُه بالبناء النَّحوي والبناء البديعي معًا. هذا مع عدم النَّجاة من الوقوع في خطأين نحويَّين؛ حيث أصلح المفعول به ونسي أنَّ الفعل فعل أمر! فإذا كان سيقوِّم المَثَل نحويًّا، فكان الصواب أن يقول: «أعطني... وارمني». (يُنظَر: م.ن، 12).

(2) (1990)، نَهْج البلاغة، شرح: محمَّد عبده، (بيروت: مؤسَّسة المعارف)، 79.

(3) م.ن، 81.

 

نهج البلاغة كتاب شامل تفوق اهميته كتاب جمهورية افلاطون في مجتمعاتنا العربية الاسلامية، لأنه يشير الى التنظير والتأسيس والبلاغة والمعرفة والحكمة، ولانه قاد الى تاسيس اجتماعي وفكري مهم في المجتمع العربي الاسلامي .

لقد قسم الرضي النهج إلى ثلاث أبواب الأول تضمن الخطب الطويلة والقصيرة والباب الثاني في الرسائل والثالث حول الحكم المفردة، وقد جمع الرضي محتويات كتاب نهج البلاغة خلال سبعة عشر عاما، من سنة 382هـإلى 400هـ، ويحتوي الكتاب على 242خطبة وكلاما و78 رسالة و498 حكمة مفردة.

ويشير اقدم مصدر للشريف الرضي وهو النجاشي(ت450 هـ) والثعالبي(ت429هـ) إلى أن النهج من مؤلفات الشريف الرضي. وهذا ما قاله ابن شهراشوب في المناقب.

لقد شككوا بكتاب نهج البلاغة وهوجم الرضي في محاولة لإسقاطه فيسقط معه النهج فكان تارة يتهم بأنه كان زيديا أو انه كان يحضر مجالس المجون كما أورد الحصري وهذا كله بدافع اختلاف العقيدة .

وكانت أول ترجمة للنهج حصلت في القرن العاشر من الفارسية ثم التركية ثم الهندية –الاوردية- ثم الإنكليزية والألمانية، وتشعبت المباحث والتصنيفات فينهج البلاغة فشرح شعرا منظوما او نظم على شكل شعر، او شرحت كلماته بالشعر، وصنف للنهج فيما يتعلق بالأمثال والحكم المستخرجة من نهج البلاغة، وأيضا كتب حول الأعلام في النهج، ومفردات نهج البلاغة .

ويجب ملاحظة ان خصائص النهج فيها كثير من خصائص القران مثل السجع والتشبيه والاستعارة وتكرار المعاني والإيجاز وطرح الأمثال وأنباء الغيب والقصص والعلوم الإلهية والاجتماعية والأخلاقية والسياسية.

ويمكن القول ان أسلوبه في النهج وغيره يتسلسل بشكل منطقي وتتماسك الفكرة حتى تكون كل منها نتيجة طبيعية وعلة لما بعدها

وفي الخطب إيجاز شديد بقوة متدافعة وحدة منفعلة وهي زاخرة بالاستعارات مع الاستئنافات الكثيرة، والتلويح بالأمثال الموجزة والتي بلغت اكثر من مائتي مثل في النهج.

ويمتاز النهج بالشمولية والبلاغة والهندسة البلاغية العامة، وبأسلوب منطقي، ومثال ذلك انه توجد ثلاثة أنواع من الاثنينيات الشفعية تتواجد فيكل النهج من الخطب والأوامر والكتب والرسائل والحكم والمواعظ الأولى، وتعد هذه العملية احدى الادوات التشفيرية التي يستخدمها الامام علي بالإضافة الى العبارة البلاغية والمعلومة المعرفية والنسيج المنطقي وتتمثل هذه الخريطة الهندسية البلاغية ب :

1- ثنائية تواجهية: مثالها (نور لا نور)و(ظلام لا ظلام)

2- الثنائية العكسية: ومثالها (نور/ظلام-ولا نور لا ظلام)

3-الثنائية الترادفية: بطريقة (نور لا ظلام-لا نور لا ظلام) وبعض من هذا يمكننا ان نراه مثلا في مقولة الامام علي (انزل الكتاب نورا لا تطفا مصابيحه، وسراجا لا يخبو توقده، وبحرا لا يدرك قعره) ويجب القول ان الجهد الهندسي المنطقي في النهج يجب ان يدرس بشكل مستقل وواف .

ومن مميزات النهج الأخرى وهو ما يتصل بالأسلوب التشفيري الذي جعل من نهج البلاغة مصفوفة يصعب اختراقها، على مر الزمن، وهذا يعني اسلوب الامام علي الذي يتسم بالخيال الواسع الأخاذ والعاطفة النبيلة والفكر، والأسلوب الصادق غير المراقب او الخائف من المراقبة البلاغية أو العلمية وحتى التاريخية، والأسلوب يدل على صاحبه فنرى النهج يشتد ويلين حسب الموقف ويستخدم صاحب النهج ( الأنا) بكثرة ولكنها في الموقع الصحيح وهي أنا واقعية متعقلة لا يمكن نقدها لأنها تحسن في سيرها البلاغة والتقسيم المنطقي واستخراج النتائج وتستخدم تركيبا دقيقا يعتمد الإيجاز مع الإطناب وبسجعات ضرورية فريدة لا يمكن اعتبارها حتى يومنا هذا اوغدا نشازا في اللغة العربية.

ويستخدم الإمام علي أيضا المحسنات البديعة من جناس إلى طباق وبجرس موسيقي وإيقاع جميل متنوع، وأسلوبه وألفاظه ثروة عربية، ولهذه المقدرة قال الإمام (وانا لأمراء الكلام وعلينا تهدلت غصونه وفينا تنشبت عروقه).

ويضاف لكل هذا ان نهج البلاغة مصدر لأحاديث الرسول(ص) وأيضا لأدعية الإمام علي ففيه (13) دعاء و(400) آية قرآنية و(15) بيتا من الشعر.

وهو أيضا مصدر لأخبار الامم السابقة والأنبياء وعلى هذا يعتبر الإمام أولمن أرخ، ونهج البلاغة أيضا كتاب يتحدث عن الإلهيات في العدل والتوحيد والكائنات سواء أكانت في السماء أم الأرض او ما يخص الإنسان.

***

ا.د. رحيم محمد الساعدي

المال هو إحدى أكثر الاختراعات البشرية إبهارًا، بسحر غموضه الذي لا يمكن اختراقه، يساعدنا ويقصينا في آنٍ واحد. يحقق قدرتنا على العدّ، والقياس، والتراكم، ويجعلنا نراه دون أن يَظهر. لقد أدرك القديس أوغسطين هذا منذ زمن بعيد ذلك بقوله: "المال عاشق متقلب ولا يرحم."

الملكة "بكونيا" التي تحدث عنها هوراس، والتي اكتسبت مع جوفينال ملامح الإلهة، تحكم علينا جميعًا بتعاليها، تسهر على خيالنا، وتبتسم بخفة إزاء إصرارنا العنيد على قياس كل شيء. كم تساوي قيمتك؟ سواء كان الحديث عن عاطفة، أو ثقة، أو سعر سلعة، فإننا لا نميز كثيرًا بين هذه المعاني لغويًا.

مع المال، كما نعلم جيدًا، تجاوزنا منذ زمن طويل التمييز بين الوسائل والغايات. بل، وبما أن المال هو وسيلة الوسائل، فلا يمكن إلا أن يكون غاية لكل وسيلة.

وعندما يصبح المال مجرد غاية، وهو ما مررنا به كتجربة مريرة، فإنه يتحول إلى أداة مدمرة قوية للغاية، تؤدي إلى الموت والدمار. الأمل في قدرة المال على التكاثر الذاتي يصبح نذيرًا مظلمًا يشعل دوافع تدميرية قاتلة.

"بالله نثق" هذه العبارة التي تتصدر كل دولار أمريكي. لكن، فيمن أو في ماذا نضع ثقتنا حقًا؟

حتى وقت قريب، كنا نثق في المؤسسات التي تكفل التحول من المال إلى النقد. كنا نثق في البنوك المركزية، التي تعدّ التعبير الأقوى والأكثر "اعتمادًا" للسلطة الوطنية. بعد الحرب العالمية الثانية، أصبح الورق الأخضر (الدولار) هو عملة العملات، معيار المعايير، الوسيلة العالمية للتبادل. وحتى اليوم، لا يزال الدولار الأمريكي العملة التي يتم من خلالها تداول أهم السلع الأساسية، وعلى رأسها النفط، بالإضافة إلى القهوة، والكاكاو، والذهب، وغيرها.

صندوق النقد الدولي درس بالفعل العواقب المحتملة لعملية "الدولرة الكاملة" في ندوة تاريخية نظّمها في بداية الألفية الجديدة. كان ذلك حلمًا بالاستقرار والتبادل العالمي الذي بدا وكأنه قد يتحقق... لكن في الواقع، فإن عمليات الدولرة التي اجتاحت العديد من الدول، خاصة في أمريكا اللاتينية، أفضت إلى تداعيات مالية ثقيلة. إذا أخذنا مثال الأرجنتين، ففي الفترة بين عامي 1999 و2001 لم يعد هناك تداول للدولار الأمريكي فحسب، بل حتى البيزو الأرجنتيني توقف عن التداول. ومع ذلك، لم تتوقف التبادلات تمامًا، فقد اخترعت المجتمعات المحلية عملات أخرى وأدوات بديلة سمحت لها بتلبية احتياجاتها رغم ندرة السيولة.

فهل صحيح، كما يُروى في الملخصات البسيطة، أن هناك عصرًا للبَدل (المقايضة) تبعته مباشرةً مرحلة النقود؟ علم الآثار لا يدعم هذه الفكرة، فقد عاش نظام المقايضة والنقود جنبًا إلى جنب لقرون، مقسمين المهام وفقًا للظروف: معاملات معينة كانت تُنظم بالنقود، وأخرى بالسلع، حسب السياق.

ذلك لأن عالمنا يعشق التعددية ويخشى الأحادية، وتطوّر العملات مثال واضح على ذلك. إذا نظرنا إلى التاريخ، نجد عددًا لا يُحصى من الابتكارات النقدية التي أوجدت أنظمة ودوائر متعددة يمكنها تعزيز التدفقات والتبادلات والعلاقات. ففي إيطاليا، خلال العصور الوسطى وعصر النهضة، جرى التفاوض على الاتفاقيات التجارية باستخدام عملات خيالية، هذا إلى جانب التجارب المختلفة لمعادلة المال بالوقت، بدءًا من متجر الوقت الخاص "بجوزايا وارن" وصولاً إلى ساعات "إيثاكا" التي يتم تداولها اليوم في نيويورك.

النقود في الماضي كانت غالبًا جزئية، لم تؤدِّ جميع الوظائف. فقد كانت هناك عملات اقتصرت على كونها وحدة حساب فقط، دون أن يتم سكّها فعليًا. أطلق عليها اسم "العملات الوهمية"، على سبيل المثال، الليرة التي أدخلها شارلمان في نهاية القرن الثامن لم تُسكّ أبدًا، كانت مجرد عملة حساب. كان الناس يحسبون الأسعار بالليرة ولكنهم كانوا يستخدمون الدنانير الفضية في الدفع، وفقًا لنسبة 1 ليرة = 240 دينار.

مثال آخر هو الثيران في ملحمة هوميروس. ظهرت الثيران في الإلياذة كوحدة لقياس قيمة السلع، ولكن لأسباب واضحة، لم تكن المعاملات تُجرى باستخدام الثيران، بل كانوا يستخدمون أشياء متنوعة ذات قيمة.

اليوم، العملات التي نحملها في جيوبنا، تقوم بثلاث وظائف. الوظيفة الأولى هي كونها وحدة حساب: تُعبر أسعار السلع بالعملة. على سبيل المثال، يكلف كيلوغرام من الكمثرى اثنين يورو، وسعر سيارة صغيرة يقارب 10,000 يورو. نستخدم النقود لمقارنة أسعار السلع ولإجراء الحسابات.

الوظيفة الثانية للنقود هي كونها وسيلة للتبادل: أعطي بائع الفاكهة اثنين يورو وأحصل في المقابل على الكمثرى.

أما الوظيفة الثالثة للنقود فهي كونها مخزنًا للقيمة: يمكنني أن أقرر عدم شراء الكمثرى لمدة خمسة أيام، وبالتالي أوفر 10 يورو.

النقاشات حول الوظائف الجزئية للنقود ليست أمرًا من الماضي، من يستثمر اليوم في البيتكوين أو الأصول المشفرة الأخرى التي تختلف تمامًا عن العملات القانونية لا يفكر في استخدامها كوحدة حساب أو لشراء الكمثرى: بل يراهن على مخزون للقيمة، وهو رهان محفوف بالمخاطر نظرًا لتقلبها الشديد.

إن حالة الانتشاء التي تصاحب فترات التوسع الرأسمالي لا يمكن أن تكون إلا متبوعة بالشعور بالوحدة وبمرارة الإدراك بأننا قد نسينا أهمية العلاقة كجوهر لوجودنا ذاته، وهو ما ذكره مارتن بوبر في كتاباته.

خلال الأزمات القاسية والشرسة، مثل تلك التي نعيشها منذ عام 2007، تظهر أفكار وأدوات جديدة، ولكن الأهم من ذلك، تتولد "قيم علائقية"، وهذا هو دور العملات المكملة تحديدًا: فهي تهدف إلى إعادة دمج الاقتصاد في المجتمع، واستعادة الجذور الأنثروبولوجية لعلاقة الدين والائتمان، التي تشكل الأساس لإمكانية الحياة المجتمعية. 

وقد وُلدت تجربة  Sardex.net في هذا السياق، من منطقة مجروحة شعرت بأنها متروكة من قبل المؤسسات، منطقة ذات روابط تاريخية وبيوجغرافية قوية لكنها كانت تتفكك تدريجيًا وتفقد الثقة. ومع ذلك، اختارت هذه المنطقة أن تراهن على قدرتها على الرد واستعادة معنى العمل، وإبراز مهارة ريادة الأعمال، والاعتماد على الإبداع الذي يولّد التفاعل الاجتماعي والعلاقات.

نشأ نظام Sardex.net من فكرة ثلاثة شباب ساردينيين، اجتمعوا بعد انتهاء الجامعة وقالوا: "نحن جميعًا في نفس القارب ونتجه نحو الهاوية، فلنبدأ بالتجديف معًا في الاتجاه المعاكس. أو على الأقل لنحاول."  وبهذه الروح بدأوا في طرح الأسئلة والتفكير في العلاقة بين الهوية والنقود، وبين الهوية والمجتمع.

بدلاً من الاستسلام ومغادرة سردينيا، كما فعل معظم أقرانهم، قرروا الدراسة والتشكيك في المسلّمات. لم يقتصروا على أنفسهم، بل جذبوا إخوتهم الأكبر سنًا الذين تأثروا بحماسهم الواقعي وشاركوا في تحويل فكرتهم إلى مشروع واقعي: نظام مالي تكميلي قادر على خلق التبادلات والعلاقات، وتعزيز المعرفة، وإحياء الرغبة في الاستثمار من جديد والإيمان بالمهارات المهنية الخاصة بهم.

لم تكن الأمثلة من جميع أنحاء العالم غائبة، فبنك Wir في بازل، الذي تأسس في ثلاثينيات القرن الماضي، ويضم الآن أكثر من 65,000 شركة متعاونة تتبادل السلع والخدمات باستخدام عملة wir، التي تعني "نحن" باللغة الألمانية. وكذلك اقتراح جون ماينارد كينز في مؤتمر بريتون وودز لعملة عالمية تُعرف باسم Bancor، وهي نوع من العملات العالمية التي لا تحل محل العملات الوطنية، بل تعمل كغرفة تسوية للفروقات والتقلبات النقدية.

في غضون سنوات قليلة، أصبح نظام Sardex.net التجاري أداة تجميع بين الشركات، حيث يعتمد بشكل أساسي على دور الوسطاء (البروكرز) الذين يُعتبرون وسطاء فعليين للعلاقات، فإلى جانب ربط العرض والطلب للسلع والخدمات بين الشركات المشاركة، يساهمون أيضًا في بناء الثقة، حيث يوفر الإنترنت بنية تحتية قادرة على إدارة الحسابات وجعل التدفقات شفافة، ولكن الأشخاص هم من يبنون التبادل والروابط الاجتماعية الناتجة عنه.

وبالتالي، يبدو نظام Sardex.net مثالًا مولدًا للابتكار الاجتماعي، حيث تصبح العلاقة الواقعية أداة للمعرفة والتضامن الاجتماعي، مما يعزز الروابط الاقتصادية والاجتماعية بشكل ملموس، تصبح معه ثيران هوميروس والبتكوين مجرد أدوات.

***

الأستاذ محمد إبراهيم الزموري

بَادِئَ ذِي بَدْءٍ، لعله من الخطأ أن نصف المتعلمين بالمثقفين، ولو كانوا من "الانتلجنسيا"، حيث تمثل نخبة متعلمي المجتمع. فهناك فارق واضح بين المثقف، الذي يقرأ كثيرًا بحسن اختيار ودراية وتمعن، ثم يكتب لتوعية القراء بما قرأ وحلل واستنبط، وبين المتعلم الذي قد يفتقر إلى هذه السمات. إذ نجد أن أساس التقهقر الثقافي في المجتمع العربي عامة، والعراقي خاصة، يمكن أن يُعزى إلى "أمية المتعلمين". ونقصد بهؤلاء من حصلوا على تعليم عالٍ، وامتلكوا شهادات، ومن بينها شهادات "عليا"، بل وربما أصبحوا أكاديميين.

هنا، لا تعني الأمية عدم معرفة القراءة والكتابة بالمعنى التقليدي، بل تعني غياب الاستمرارية في قراءة الكتب والمجلات والصحف، وحضور الندوات والورش والحلقات النقاشية العلمية، ومن ثم التوجه إلى الكتابة لتنوير المجتمع وتثقيف أبنائه. فلا بد من تفكيك المفاهيم الخاطئة في مجتمعنا؛ فليس كل متعلم مثقفًا، ولكن كل مثقف متعلم.

نُسب إلى وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق "موشى ديّان" قوله: "إن العرب لا يقرأون، وإذا قرأوا لا يفهمون، وإذا فهموا لا يستوعبون، وإذا استوعبوا لا يطبقون". وهنا، أرى أنه لا ضير في أن نستمع إلى عدونا لنفهم نظرته إلينا ونكتشف أخطاءنا، عسى أن نعالجها.

وفي السياق ذاته، ردد دافيد بن غوريون، أوّل رئيس وزراء لإسرائيل، بعد الانتقادات التي وُجهت إليه في أعقاب نشره أسرارًا عن حرب عام 1967: "دعونا نعمل ما نريد. حتى إذا نُشر في وسائل الإعلام عن مبتغانا، فإن العرب لا يقرأون ولا يهتمون بالعلم والثقافة، وإن قرأوا فهم جهلاء ولا يفقهون شيئًا". هكذا هي النظرة إلى أمة "اقرأ"، للأسف الشديد، على لسان أشد أعدائها.

ومن بين أهم مجالات القراءة المطلوبة، المجال التاريخي، حيث يتعين علينا الرجوع إلى عبره وعظاته ودروسه المستنبطة، لنأخذ منها إيجابياتنا ونتجنب سلبياتنا. ومع ذلك، يقول الفيلسوف الألماني فريدريش هيغل: "نتعلم من التاريخ أن أحدًا لا يتعلم من التاريخ".

في ختام هذه المقالة القصيرة، لا بد من توجيه رسالة إلى كل متعلم، مفادها: "عليك أن تقرأ وتكتب وتُفعل عقلك، لتُوصف بالمثقف، وليس بالمتعلم فحسب. فبذلك، تشارك في تنوير المجتمع وتوعيته. وهذا واجب عليك، وليس خيارًا تركن إليه إذا شئت وتهجره إذا أبيت".

***

د. وليد كاصد الزيدي

يعود أصل كلمة تابع بالإنكليزية Subaltern إلى القرن السادس عشر وتعني العريف في الجيش البريطاني وهي الرتبة الأقل مباشرة من رتبة الضابط، وهو من يتبع الأوامر وفق سلم التراتبية العسكرية.

"أنطونيو غرامشي" الفليسوف الإيطالي استخدم هذا المصطلح "التابع"، في كتاباته السياسية وذلك للإشارة إلى الفئات الأقل مكانة في المجتمع، غير القادرة على التعبير عن حاجاتها أو تطلعاتها أي الفئات المهمشة.

نشأت دراسات التابع في مطلع الثمانينات بفضل مجموعة من الباحثين الهنود سعوا إلى قراءة نقدية للتاريخ الهندي من خلال دراسة أوضاع المهمشين أو التابعين. هم يرون أن التاريخ في الهند كتب من منظار النخبة التي تخرجت من النظام التعليمي البريطاني.

وللتذكير احتلت بريطانيا الهند سنة 1758 ودام الاحتلال قرابة 200 عام حيث استقلت الهند سنة 1947 بعد سنوات من المقاومة اللاعنفية للحكم البريطاني، بقيادة "المهاتما غاندي و"جواهر لال نهرو".

المفكر الهندي "غوها" هو الأب المؤسس لدراسات التابع، حيث قام بوضع أسس هذا المجال.

في منتصف التسعينات بدأت دراسات التابع تستعمل في مختلف المجالات مما جعل منها مقاربة للتاريخ قائمة بحد ذاتها لا تقتصر على منطقة جغرافية أو مجال محدد.

انتقد باحثو دراسات التابع التحليل الماركسي للتاريخ الهندي الذي ركز على دور النخبة المثقفة في تطوير الوعي السياسي لدى الشعب في مواجهة الاستعمار البريطاني. في مقابل ذلك هم يركزون على دور الهامشيين في عملية التغيير السياسي والاجتماعي في الهند. فالتاريخ لا يمكن أن يكون وفق رواية واحدة موحدة بل هو عبارة عن مجموعة من الروايات التي تجتمع لتعطي صورة أشمل عن مجرياته. لقد قلبت دراسات التابع موازين القراءة التقليدية للتاريخ.

المفكرة الهندية الأمريكية «غياتري سبيفاك» قامت بتوظيف مقاربة التابع ضمن قضايا الجندر وتناولت بالبحث نمطًا مخصوصا من التبعية، ومن الوصاية على الذات والوعي والجسد كابدتها المرأة ولا تزال.

تحدثت "سبيفاك" عن طقس حرق النساء الأرامل لأتفسهن بعد موت أزواجهن، المعروف بـ"ساتي" في الهند.

 المرأة في هذا الطقس تبرز كإنسان مغيب الإرادة والوعي. فهي لا تملك من أمرها شيئًا.. هي مجرد تابع للرجل، لا تملك حق الاستفسار ولا الاعتراض، بل إنها مدفوعة، بثقل التقاليد وبسطوة النصوص الدينية وعنفها الرمزي وبطريقة غير واعية خاضعة للقولبة، إلى الوفاء لزوجها الميت بإضرام النار في جسدها.

فكيف يمكن استعادة وعي التابع؟

يثمن "ڨرامشي" دور المثقف ويرى أن الثقافة هي محرك الإنسان، وليس كما ذهب كارل ماركس، بأن الاقتصاد هو المحرك للإنسان في مسيرته الطويلة عبر التاريخ. فالثقافة تذكي روح الحرية، وتجعل الإنسان يفكر ويخرج عن الدوائر المغلقة.

إن المرأة التي وجدت في فكرة الحرق تعبيرا عن الوفاء، صوتها مخنوق، صامت، محكوم بقوة المتبوعين، بهيمنة الثقافة السائدة. وهذا ما يمنعها من أن تعي بذاتها.

إن هذا الصوت المكتوم يجب أن يجد من بين الطليعة المثقفة، ومن بين الطليعة النسوية المثقفة بالذات، من ينوب عنه ويتحدث بلسانه إلى حين استعادته لعافيته واستغنائه عن تمثيله.

صدق الشاعر اللبناني وديع سعادة عندما قال:

"لمسه العالم، ولم تخرج منه أيَّة قوَّة.

لم يكن هو السيّد.. كان المرتجفَ مثلهم في الريح.. وبالكاد خرج منه صوت...

الذي لم يكن سيّدا، وبلا اسم ولا صوت، كان يتحدَّث فقط في قلبه."

خلاص "التابع" لا يكون إلا حين يخرج عن صمته ويكف عن حديث نفسه إلى نفسه ويسلك طريق النضال من أجل الاعتراف به ككائن له إرادة وحضور فاعل.. هذا الطريق لا يمر إلا عبر معاضدة المثقفين العضويين المؤمنين بثقافة الانحياز إلى الطبقة التي ينتمي إليها كل في مجاله.. الاستاذ في القسم والعامل في المصنع والفلاح في الحقل والمحامي في المحكمة والطبيب في المستشفى.. كل من موقعه يسعى إلى خلق طرائق جديدة للتفكير ترتقي بالإنسان نحو ما هو أفضل وأكرم لإنسانيته.

***

درصاف بندحر - تونس

 

لغتنا العربية في عالم متغير

تحتل اللغة العربية مكانة بارزة في العالم اليوم، من الناحية الثقافية والسياسية، وكذلك في سياق الحوارات العالمية، كما تكمن أهميتها أيضاً، من خلال عدة نواحي، ففي المجال الثقافي؛ تعد الوعاء للثقافة العربية والاسلامية، وحاملة للتراث والحضارة، وتحمل إرثاً غنياً من الأدب والفنون والشعر والفلسفة، كما تضم نصوصاً أساسية وهو كتاب الله القرآن الكريم، الذي يعد مصدر إلهام لملايين البشر. فاللغة العربية جسراً للتواصل الثقافي، ووسيلة لفهم ثقافات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، مما يعزز التفاهم الثقافي بين الشعوب، كما تعد مصدراً للإبداع في الأدب والشعر، فهي لغة إبداع أدبي، حيث تُعد من أكثر اللغات بلاغة، التي أثّرت في الأدب العالمي، لتمثل عنصراً وعاملاً رئيساً في بناء الهوية الوطنية والقومية لدى المتحدثين فيها.

أما من الناحية السياسية؛ فتعد اللغة العربية واحدة من اللغات الرسمية الست في الأمم المتحدة، مما يجعلها جزءاً أساسياً من الدبلوماسية العالمية، فالدول العربية تستخدمها كأداة للتأثير السياسي، وكوسيلة لإيصال رؤيتها ومواقفها في المنتديات الدولية، مما يزيد من قوتها الناعمة، فضلاً عن دورها في بناء التحالفات، فهية تعزز التفاهم بين الدول العربية وتدعم العمل المشترك في الجامعة العربية، كذلك المنظمات الدولية، منها الحكومية وغير الحكومية.

أما في الحوارات العالمية، فاللغة العربية تُسهم في تعزيز الحوار بين الحضارات المختلفة، خاصة بين العالم الإسلامي والغرب، فاللغة تعد وسيلة لنشر قيم التسامح وثقافة السلام واللاعنف، وذلك من خلال دورها في الأدب والفن والدين والإعلام والسياسة، كونها أداة أساسية للتواصل مع الملايين من الناطقين بها، مما يفتح أفقاً أوسع لفهم تطلعاتهم وقضاياهم، فضلاً عن التواصل مع الجاليات المتعددة في العالم.

إن تزايد الاهتمام العالمي بالشرق الأوسط، واكتساب الدول العربية أدواراً مؤثرة في الاقتصاد والسياسة الدولية، تزداد أهمية اللغة العربية كلغة للتواصل وفهم العالم العربي، وللحفاظ على اللغة العربية يتطلب الإجابة عن سؤالين مهمين؛ كيف، ولماذا نحافظ عليها؟ وللبحث عن الكيفية، فأن التريية والتعليم تأتي بمقدمتهما، حيث تعُدان الأساس للحفاظ على اللغة العربية، وذلك من خلال تدريسها بشكل جاد وإعطاءها الأهمية في المناهج الدراسية منذ الصغر، مع تشجيع وتعزيز الإستخدام اليومي في القراءة عليها؛ من خلال القصص والكتب الممتعة الخاصة للأطفال، وجعلها محببة اليهم من وقت مبكر. كما ينبغي إستخدام اللغة في الحياة اليومية، سواء في الحديث أو الكتابة أو الإعلام أوالحوارات الأخرى، كذلك تنمية الإحساس بالفخر بالهوية الثقافية من خلال تعزيز دور الأدب العربي والشعر والتراث الثقافي في المناهج وفي الحياة العامة. ومما لاشك فيه، فأن الإحتفاء باليوم العالمي للغة العربية، فرصة مناسبة وكبيرة في أستثمارها من خلال إقامة الأنشطة الثقافية، وتكريم مبدعيها والإحتفاء بهم، ودعم الكتابة الإبداعية والنشر في مجالات الأدب والصحافة والإذاعة والتلفزيون، وإنشاء محتوى إعلامي وبرامج ترفيهية تستهدف الأجيال الجديدة وما تواكب من تطورات حضارية، في التكنولوجيا والمحتوى الرقمي، حيث ينبغي تطوير أدوات تقنية لدعم اللغة العربية، مثل تطبيقات الترجمة العلمية، وكسب غير الناطقين بها، بتشجيعهم على تعلم لغة العرب وبيان دورها عبر العصور وما حملت من نتاج فكري وعلمي وأثّرت الحضارة الإنسانية. فضلاً عن تشجيع البحث العلمي فيها، وتقييم الباحثين الذين يقدمون نتاجاً يرتقي الى مرحلة العصر.

أما الاستفهام الثاني، لماذا نحافظ على اللغة العربية؟

فاللغة العربية تمثل الهوية الثقافية والدينية والتأريخية، وهي جزء لا يتجزأ من هوية الشعوب العربية والإسلامية، حتى غير المسلمين الذين يعيشون على أرض العرب منذ الأزل. كما أنها تعد لغة العرب، فهية تحمل تأريخاً غنياً وتراثاً أدبياً وفكرياً أغنى تراث الإنسانية، ووسيلة للتواصل بين سكان يمثلون أكثر من سدس شعوب العالم، لذا هي تعزز الوحدة الثقافية والاجتماعية والروابط التأريخية، وكما أشرنا الى إنها إحدى اللغات الرسمية في الأمم المتحدة، لما لها من دور عالمي، ففي مجالي الإبداع والتفكير، فأن اللغة العربية تتيح مرونة فريدة في التعبير والإبداع، مما يجعلها قادرة على مواكبة العصر، أي تعتبر من اللغات الحيّة والنابضة من بين أكثر اللغات بالعالم.

كما تلعب دوراً محورياً في الحفاظ على التراث الثقافي العربي والإسلامي عبر الأجيال، وذلك من خلال مجموعة من الجوانب المهمة؛  فهي الركيزة الأساسية لحفظ هوية الشعوب العربية الثقافية، والوسيلة التي من خلالها يتم توارث القيم والتقاليد والعادات بكل فروعها وأشكالها، ولها دوراً في توثيق الأحداث والمعارف الإنسانية، فمن خلالها يتم توثيق الآداب والفنون والعلوم والمخطوطات، التي تشهد بذلك كمرجع أساسي لفهم التراث الإنساني، أضافة الى دورها في نقل الدين الإسلامي، فكتاب الله القرآن الكريم، كُتب باللغة العربية، ولغة الحديث النبوي الشريف، مما يجعلها وسيلة لنقل التعاليم الدينية وحفظها.

فضلاً عن حفاظها على الأرث العربي، فالأدب العربي بما في ذلك الشعر الجاهلي والمعلقات والقصص والروايات والتراث الشعبي، ما هو إلا تعبير عن تجربة الإنسان العربي وثقافته عبر العصور. فاللغة كانت هي الأداة التي حملت هذه الأعمال وجعلتها خالدة، وعززت التواصل بين الأجيال، ومن خلالها تنتقل القصص الشعبية والأمثال والحكم والترابط الثقافي بين الأجيال، وساهمت في فهم مشترك للهوية الوطنية، فضلاً عن لعبها في إحياء الاحتفالات والمناسبات الدينية والثقافية خاصة في شهر رمضان، والعيدين الفطر والأضحى، حيث تعتمد هذه المناسابات بشكل كبير على النصوص العربية، وما يُكتب من سيّر وحكايات.

التحديات التي تواجه اللغة العربية

تعد العولمة من أهم التحديات التي تواجه لغتنا العربية، ففي خضم التطورات الإتصالية الرقمية، التي تقف على رأسها منصات التواصل الاجتماعي، أدى الى تراجع الكثير من الأجيال الحالية بعدم آستخدام العربية في الحياة اليومية؛ (عقدة الخواجة) والتحاور إما بالمفردات الانجليزية أو أو باللهجة الدارجة في الحوارات من خلال ما يعرف بمصطلح (الجات) التي غزت مواقع التواصل الاجتماعي بشكل غير طبيعي، مما قاد ذلك الى التهاون بالعربية، ناهيك عن ضعف الإهتام بالتعليم باللغة العربية في الكثير من دولنا العربية في بثها للبرامج الإذاعية والتلفزيونية، التي تخاطب فيها برامج الأطفال والشباب، فكل دولة تخاطب أجيالها بلهجتها العامية، وكان من المفترض على القائمين المسؤولين والعاملين في هذا المجال، التركيز على اللغة وأعطاءها أهميتها ودورها الواسع، بتشجيع جيل الشباب عليها، من خلال إقامة المهرجانات الشعرية أو الخطابية وبكل ما يتعلق بالعربية وآدابها، ومنحها أهمية تعلمها في المدارس، وتشجيع إنتاج محتوى إعلامي وثقافي جذاب بالعربية، فضلاً عن دعم المبادرات التي تروج لقراءة الأدب العربي وحفظ المخطوطات؛  لتظل اللغة العربية جسراً يعبّر من خلاله عن التراث نحو المستقبل.

كما ينبغي الأخذ بنظر الإعتبار، تأثير اللغات الاجنبية على اللغة العربية، الذي يعد جزءاً من التفاعل الثقافي واللغوي بين الشعوب، فهذا التأثير يمكن أن يكون إيجابياً أو سلبياً، إذ يعتمد على السياق وطريقة تعامل المجتمعات معه، فهنالك وجهان أو نوعان من التأثير، منها تأثيرات إيجابية أو سلبية، أما الإيجابية؛ التي تثري المفردات بكلمات أجنبية الى اللغة العربية؛ لتلبية الحاجة الى مفردات تعبّر عن مفاهيم جديدة أو تقنيات حديثة،  كذلك نتيجة لتطور المجالات العلمية والتقنية المعاصرة، من خلال إستخدام المصطلحات الأجنبية في الأبحاث العلمية والجامعات، حيث يساعد في تعلم اللغات الأجنبية ودخول مفرداتها على توسيع آفاق التواصل الثقافي والإنفتاح على العالم.

أما في الجانب السلبي، فيؤدي إستخدام كلمات أجنبية بدلاً من الكلمات العربية المتاحة، مما يقود الى إضعاف اللغة العربية وإهمال مفرداتها،  وما يعرف بالإقتراظ المفرط للمفردة الاجنبية، فالاستخدام العشوائي للكلمات الأجنبية يؤدي الى تشويه الهوية اللغوية، وطمس معالم الهوية الثقافية العربية، خاصة لدى الأجيال الشابة والمعاصرة، فضلاً عن التبعية اللغوية التي تأتي من الإعتماد المفرط على المصطلحات الأجنبية، مما يؤدي الى فقدان اللغة العربية هيبتها وقدرتها على التعبيرعن المفاهيم الحديثة، الذي يولّد الشعور بأحساسنا بالتبعية.

وبغية مواجهة التأثير السلبي، ينبغي تعريب المصطلحات من خلال آستخدام مفردات عربية مقابلة للكلمات الأجنبية، تعريباً لا حرفياً، وهنا يأتي دور وسعي جهود مجاميع اللغة العربية، مع منح التعليم باللغة العربية بتشجيع إستخدامها في كافة المراحل الدراسية والعلمية، ورفع قيمتها والوعي الثقافي فيها، بنشر أهميتها ودورها في الحفاظ على الهوية الثقافية، كما ينبغي تشجيع الإبداع اللغوي بدعم الأدباء والمبدعين لتعزيز استخدام اللغة العربية في جميع المجالات. إن تأثير اللغات الاجنبية على العربية يمكن أن يكون فرصة لتطوير اللغة لا العكس، إذا تم التعامل معها بشكل واعي وعلمي ومدروس، بدلاً من أن يكون تهديداً للهوية الثقافية أو الانتقاص من اللغة العربية الأم.

ويبقى الحفاظ على اللغة العربية، هو مسؤولية فردية وجماعية تقف ورائها مؤسسات رسمية وغير رسمية، تتطلب تظافر الجهود من الأفراد والمؤسسات؛ لتحقيق هذا الهدف النبيل، التي قد تتعرض لهجمات وتحديات واسعة ومختلفة في المستقبل.

***

د. عصام البرّام - القاهرة

إذا كان بإمكانك تصورها، فيمكنك تحقيقها

يؤثر التحول التكنولوجي السريع على مستويات معيشة البشر؛ حيث تتغير الطريقة التي نعمل بها ونتفاعل ونعيش بها بشكل كبير. تم تقدير أن التكنولوجيا ستحقق الاستقلال التام بحلول عام 2050. إن التنبؤ بالثورة وكيف ستتحول أمر غير مؤكد، ولكن هناك شيء واحد مؤكد: سيكون عالمنا عالماً متعدد التخصصات سيتم تنسيقه من خلال إشراك جميع اللاعبين في النظام السياسي العالمي، من الحكومة والأعمال إلى الأوساط الأكاديمية والمجتمع المدني. يكشف التحليل المقارن للثورة الصناعية عن صورة واضحة للتقدم التكنولوجي والعملي والنظامي. تعد أنظمة الواقع الافتراضي، والذكاء الاصطناعي، وإنترنت الأشياء (IoT) والأمن السيبراني من بين المجالات الناشئة المستخدمة لوصف الثورة الصناعية السادسة.

كانت الثورة الصناعية هي أهم تحول في مجموعة تجارب البشرية، حيث تؤثر على الروتين المنتظم للأفراد وتساعدهم على تسهيل عملهم. في القرن الثامن عشر، تم تقديم تعبير موجز لتصوير التحول الحديث في بريطانيا العظمى، حيث تسارعت وتيرة النمو. وقد أدت التطورات المتخصصة إلى زيادة السرعة من خلال إطلاق أجهزة وآلات جديدة. ووفقاً لهذه النتائج، فإن تكنولوجيا الروبوتات سيكون لها تأثير كبير على حياة البشر.

سوف يتم إجراء المزيد من الأبحاث حول دمج الروبوتات في العديد من جوانب حياة الإنسان. سيكون دمج الروبوتات في المنظمات محوراً مهماً للبحث التاريخي على المدى الطويل، حيث واجهنا سلسلة من التغييرات التنموية الصغيرة، والتي دفعت إلى الرقمنة الشاملة للاقتصاد والمجتمع. أحدثت الثورة الرقمية طفرة هائلة، إلا أن الحالة الفنية المبتكرة للنظرة العالمية التكنولوجية النقدية هي التي دفعت إلى تحسين أجهزة الحاسوب وأدوات التحكم المتقدمة والبرمجة واستخدام الدوائر المتكاملة في مجموعة واسعة من المنتجات والخدمات الإبداعية. ومع ذلك كانت الاضطرابات المتقدمة تتصاعد في ظل العصر الذهبي لصناعة السيارات والتصنيع على نطاق واسع. احترم الناس السيارة وجميع ميزات المشتري التي رافقتها خلال الستينيات.

علاوة على ذلك، عرفنا عن الصناعي الأمريكي "هنري فورد" Henry Ford معرض رائع يجسد الثورة الميكانيكية الرابعة ومختبر إديسون. كان الكشف عن الأنبوب المفرغ كمفتاح تشغيل وإيقاف في عام 1935 متوقعاً للاضطرابات الرقمية. في وقت لاحق، دفعت الاستكشافات التي أجراها عالم الرياضيات الإنجليزي "آلان تورينج"  Alan Turingوعالم الحاسوب الأمريكي "كلود شانون" Claude Shannon والفيزيائي الأمريكي "هوارد آيكين" Howard Aiken وعالم الرياضيات الأمريكي "جون فون نيومان" John von Neumann إلى إنشاء أشباه الموصلات في ديسمبر 1947، عندما كشف الباحثون عن معزز أشباه الموصلات الأساسي لنقطة الاتصال. وعلى مدار العشرين عاماً التالية، رعت مختبرات "بيل" Bell بعض الأنواع المختلفة من أشباه الموصلات، بما في ذلك أشباه الموصلات المصنوعة من السيليكون وأشباه الموصلات المصنوعة من مادة MOS.

أشارت مرحلة إنشاء منشأة بحثية شملت العديد من النماذج والتراخيص والتطبيقات المبكرة إلى بداية الاضطرابات الناشئة، والتي بدأت في مختبرات بيل ولكنها وجدت الآن داخل مجموعة أجهزة ديناميكية في وادي سانتا كلارا (السيليكون). أعلنت شركة "إنتل" Intelعن أول شريحة دقيقة عملية مالياً (4004) في نوفمبر 1971، وهو العام نفسه الذي قدمت فيه وزارة الدفاع الأمريكية أجهزة الحاسوب الرئيسية على شبكة "أربانت" ARPANET (التي تحولت لاحقاً إلى الإنترنت). جعلت هذه الشريحة الدقيقة من الممكن دمج جميع عناصر وحدة المعالجة المركزية (CPU) في دائرة مدمجة واحدة. كان حاسوب Apollo Guidance هو الحاسوب الرئيسي القائم على الدوائر المدمجة بالسيليكون. ثم في تلك المرحلة، طغت الأخبار حول مهمة الصاروخ الفضائي Apollo 11 تماماً على إعلان شركة Intel.

ما هي الثورة الصناعية الخامسة؟

بعد مرور حوالي عشر سنوات على المرحلة الصناعية الرابعة توقع الخبراء الكثير من الثورة الصناعية الخامسة. إذا كان الاضطراب الحالي يركز على تحويل المصانع إلى مكاتب مضيئة مدعومة بإنترنت الأشياء والتي تستخدم التسجيل المعرفي والربط من خلال موظفي السحابة، فإن الجيل الخامس مهيأ للتركيز على دمج الأيدي والعقول البشرية في الهيكل الميكانيكي. إن إنترنت الأشياء (IoT) هو عامل تمكين مهم وحاسم لتكنولوجيا الذكاء المحيط لأنه يوفر البنية الأساسية. وعلاوة على ذلك، يعمل نموذج الذكاء المحيط على تحسين وظائف أجهزة إنترنت الأشياء وقابليتها للاستخدام. ونتيجة لذلك، يتعين على الشركات التي ترغب في الاستفادة من هذا النموذج الجديد والتقنيات المرتبطة به أن تستثمر في البنية التحتية اللازمة لإنترنت الأشياء.

ستؤثر حسابات الحدود في سياق إدارة البيانات من إنترنت الأشياء على جميع الشركات تقريباً في الاقتصاد والقطاع العام. ستغطي مجموعة واسعة من المهام، من أتمتة التحكم في الإنتاجية واكتساب البيانات حول جودة المنتج إلى مراقبة حركة المركبات وأتمتة المصانع.

لقد أثارت الثورة الصناعية الرابعة الكثير من الاهتمام منذ ظهورها لأول مرة في عام 2011. وقد أنتجت مجموعة كبيرة من مشاريع البحث والمؤتمرات. وعلاوة على ذلك، بدأ بعض الأكاديميين والمستقبليين بالفعل في استكشاف المرحلة الصناعية الخامسة. وقد قدموا مجموعة متنوعة من وجهات النظر للجيل الخامس. ويعد التعاون بين الإنسان والروبوت قضية ناشئة للصناعة في الجيل الخامس.

المرحلة الصناعية الخامسة هي الاضطراب الذي يستوعب فيه الإنسان والآلة ويكتشفان طرقاً للتعاون للعمل على وسائل وكفاءة الإنتاج. ومن المضحك أن الاضطراب الخامس قد يكون جارياً بالفعل بين المنظمات التي تتبنى معايير الصناعية للجيل الرابع مؤخراً. على أي حال، عندما يبدأ المصنعون في استخدام التقنيات الحديثة، فإنهم لا ينهون على الفور مناطق هائلة من قوتهم العاملة ويصبحون آليين تماماً. يُظهر الفحص الدقيق لأنظمة إدارة الابتكار الحالية أن الصناعة يجب أن تكون جاهزة للمستقبل وتوفر بيئة مناسبة للشركة التي تدعمها ظاهرة إنترنت الأشياء والجيل الخامس (من عام 2000 حتى الآن، والتي تم تعريفه من خلال إنترنت الأشياء، والبيانات الضخمة، والسيارات الكهربائية، والطباعة ثلاثية الأبعاد، والحوسبة السحابية، والذكاء الاصطناعي) هي نتيجة للنمو الهائل في مجال إنترنت الأشياء.

أهداف نموذج الجيل الخامس للصناعة

التعايش - الإنسان والآلة المبدعة المشتركة المرنة والمستدامة. أنظمة سيبرانية فيزيائية للتخصيص الشامل. أنظمة سيبرانية فيزيائية للتخصيص الشامل التي تتميز بالإبداع المشترك والمرونة والاستدامة (الجيل الرابع المرن إلى الجيل الخامس الرشيق). ينصب التركيز الرئيسي على الإنسان والاستدامة. التركيز الرئيسي على الاستدامة البيئية. التركيز على إعادة التصنيع واستخدام المنتج بعد انتهاء عمره الإنتاجي. الحد من النفايات والتحكم في الانبعاثات. الاقتصاد الدائري. السلع والخدمات الذكية التي تعتمد على البرمجيات. المنتجات التي تعتمد على الذكاء والتي تتضمن تطبيقات برمجية. منتجات وخدمات مبتكرة أو محسنة للعملاء. تجربة أفضل للمنتج والخدمة أدت إلى تحسين تجربة العملاء.

لقد اتخذ المثقفين خطوة متواضعة إلى الأمام، وأدركوا أنه مقارنة بالمخلوقات المحيطة بهم، فإن قوة الإنسان وسرعته كانتا صغيرتين. كان تدجين العديد من الأنواع التي يمكن أن تحسن القدرات البشرية أمراً حيوياً لبقائنا. تم استخدام الذئاب كرفاق للصيد وأنظمة إنذار مبكر لأن حواس الشم والسمع لديهم كانت متفوقة بكثير على حواسنا. كانت الماشية تستخدم لأغراض زراعية، في حين ساعدتنا الخيول في استيطان أراضٍ جديدة وحماية أنفسنا لمسافات طويلة لم نتمكن نحن البشر من عبورها. كانت قوتها وسرعتها ويقظتها من بين "الأدوات" الأولى التي ساعدت البشر على البقاء وتحقيق نتائج أكبر في العمل. ومن هناك، كان الأمر مجرد مسألة منطقية للاعتراف بأن الطاقة الطبيعية (الخطوة الأولى)، مثل الرياح والمياه، يمكن استخدامها لتعزيز إمكاناتنا لتطوير وتوفير السلع والخدمات لمجتمعاتنا.

الآن كل شيء هو التكنولوجيا التي تجعل ذلك يحدث. للبدء، يتم توفير رسم تخطيطي بسيط للجيل الرابع في حين أنه بداية ممتازة ويوفر أساساً قوياً لفهم عمليات التصنيع. إنه يفشل في تفسير الماضي، وهو ما لا يزال مطلوباً لتقدير عمليات التصنيع، ويفتقر إلى القدرة على الافتراس.

إن تكنولوجيا المعلومات والاتصالات هي التي تحدد إلى أين ستذهب في المستقبل. ومن الأهمية بمكان أن نتذكر أن المراحل المختلفة للتصنيع لا تحدث كلها في وقت واحد، وأن الثقافات المختلفة تفسرها وتستخدمها بشكل مختلف في أوقات مختلفة، وغالباً بطرق غير متوقعة، تماماً مثل أي تقنية جديدة.

الجيل الخامس والسادس للصناعة

من الممكن استقراء أين سنكون في المستقبل بناءً على الاتجاهات الحالية. ففي العلاقات بين الإنسان والآلة، والذكاء الاصطناعي، وعلم الوراثة، هناك بالفعل أدلة على ما سيأتي. وينبغي أن نكون قادرين على تجميع المراحل التالية من التصنيع باستخدام المعلومات من هذه المصادر وغيرها. وأنا أتوقف عند المرحلة السادسة لأنني لا أعتقد أننا سنحتاج إلى التحرك إلى أبعد من ذلك بكثير حتى نخلق قدرات ومتطلبات جديدة كنوع لن نحتاج إليها. وسواء كانت الصناعة في الجيل الخامس تتعلق بالتعاون بين الإنسان والروبوت أم لا، فإنها ستظل تشكل تطوراً مهماً للشركات. في الواقع، فإن وجود الروبوتات في حياتنا سيمثل بالتأكيد تحولاً كبيراً للبشرية.

نتيجة لذلك، بعد أن نكسر شفرة الاتصال المباشر بالدماغ، ستظهر الثورة التالية. وسوف تتولى مهام مثل - إذا كان بإمكانك تصورها، فيمكنك تحقيقها. ستكون المرحلة التالية من الذكاء مدفوعة بالذكاء الاصطناعي والطباعة ثلاثية الأبعاد، مع الغرسات السيبرانية يمكن استخدام الواقع الافتراضي للمساعدة في واجهة الدماغ والآلة. من المؤكد تقريباً أن الغرسات السيبرانية ستتم زراعتها أو تعديلها وراثياً عند الولادة. في المراحل المبكرة من هذا العصر، يمكن أن تكون المعدات البسيطة، مثل Google Glass، حلاً للتطوير الإبداعي الذي يمكن تنفيذه تقنياً. في هذه المرحلة، أعتقد أن الابتكار والإبداع والبصيرة ستأخذ الأسبقية على الإجراء والتفكير الأكثر عقلانية. يجب أن يجعلك البحث في الأفكار التقنية "الجديدة" وغير المكتشفة أكثر إنتاجية على المدى الطويل.

ستتولى الروبوتات وأجهزة الحاسوب التفكير في هذا الأمر حيث يمكن تقليص التدخلات البشرية إلى روتين "من النقطة أ إلى النقطة ب". تتوفر الروبوتات لمجموعة متنوعة من الوظائف الآن في السوق بأسعار معقولة. لن يمر وقت طويل قبل أن تلعب الروبوتات دوراً متزايداً الأهمية في حياتنا اليومية وصناعاتنا. بالنسبة لتطبيقات الروبوتات أو الذكاء الاصطناعي، توفر العديد من الشركات سجلات الموظفين. ستتأثر العديد من التخصصات المهنية، ونحن لا نعتقد أن التقنيات العقلانية ستكون قادرة على التعويض. ومن الأمثلة الجيدة على هذا الاتجاه القادم اختبار السيارات ذاتية القيادة في حركة المرور. تم ملاحظة تأثيراً سلوكياً قوياً على إكمال المهمة بالإضافة إلى المقاييس الذاتية مثل مدى شعور المستجيبين بالراحة عند توجيه الروبوت لإنهاء المهمة.

نحن نحقق فيما إذا كان هناك رابط بين الوكالة الظاهرة للروبوت وحساسية الأفراد للصراع الروبوتي. كما نناقش العواقب الأخلاقية المحتملة لاستخدام العروض الروبوتية للتأثير على السلوك البشري. ومن المتوقع أن تحل مجموعات البرامج / الروبوتات محل خبراء الصحة والنقل والزراعة والتأمين والقانون والاقتصاد خلال السنوات السبعين القادمة.

الثورة الصناعية السادسة

سوف يبدأ رؤسائنا الرؤيويون والمتخصصون والباحثون الذين يحددون فترة الاضطرابات التجارية في الجيل السادس من عام 2050 حيث سيتم ربط البصيرة البشرية (HI) والمنطق من صنع الإنسان (الذكاء الاصطناعي) والطاقة السحابية التي لا تنضب وطباعة الطائرات بدون طيار ثلاثية الأبعاد بالعمل والتجميع والإجراء على معظم الكواكب (مثل القمر والشمس وما إلى ذلك) من خلال توحيد ربط السحابة بالبصيرة البشرية والوعي من صنع الإنسان وطباعة الطائرات بدون طيار ثلاثية الأبعاد باليد اليمنى للأقمار الصناعية والروبوت الصناعي. في هذه المفاجأة، سنكون قادرين على إدارة حركة الصناعة الميكانيكية الأوتوماتيكية (ARI) في السماء باستخدام التحكم بالرادار الكمومي، على غرار الطريقة التي تكتسب بها الطائرات الآن مزيجاً من مصادر الطاقة المستدامة مثل الطاقة الكمومية والطاقة الشمسية وطاقة السحابة والطاقة النووية الكوكبية وما إلى ذلك.

مع تحسن العلم والمعرفة البشرية (HI) والمنطق المحوسب (AI) ومصادر الطاقة السحابية التي لا تنضب وخطة الأقمار الصناعية والجودة وتوقع روبوتات خط الإنتاج أن تكون أكثر شبهاً بالإنسان، فإن التعاون بين الطاقة السحابية المستدامة والأقمار الصناعية وأجهزة الحاسوب والروبوتات والذكاء البشري سوف يتبين في النهاية أنه أكثر أهمية، فضلاً عن ذلك، فإنه سوف يعمل على بناء الكون القابل للإدارة. سوف نخفف من عبء الأصول على كوكب واحد فقط، وسوف نصبح قادرين على استخدام أصول الكوكب بأكمله، والتي وجدناها وذكاؤنا البشري (HI) باستمرار المزيد من الأصول الكوكبية للاستفادة من الأصول غير النشطة للكون من أجل حياة عظيمة للإنسان والطبيعة. ومع تزايد تكامل الروبوتات في المجتمع، سيكون من الأهمية بمكان

فهم كيفية تفاعل الناس مع الآلات التي تتخذ القرارات وتتصرف كسلطات، كما هو الحال في الجيش أو الحكومة أو السياقات الطبية. هناك قضية خطيرة يجب على مجتمع HRI مواجهتها، حيث توضح الأبحاث (مثل تجارب سجن ميلجرام وستانفورد) كيف قد يمتثل الأفراد العاديون لإجراء أنشطة تتعارض مع مبادئهم.

أهداف نموذج الصناعة الرائد للجيل السادس هي التصنيع المضاد للهشاشة الافتراضي الذي يقوده العميل. التصنيع الافتراضي والضعيف بناءً على احتياجات العميل. تتدفق البيانات عبر العديد من مجالات الإدارة في الصناعات شديدة الترابط سلاسل التوريد الصناعية متعددة الأوجه والمعقدة والديناميكية. إعادة التكوين والتكيف المستقل. تغير دور القوى العاملة في الإنتاج بشكل كبير. تعزز الحوسبة الكمومية فعالية وإنتاجية نماذج الذكاء الاصطناعي الحالية مع تمكين إنشاء نماذج جديدة تماماً. تتم مراقبة إنتاج المصنع وتخزينه في خادم سحابي يمكن بيعه مباشرة على أمازون. يمكن تحقيق الحد الأدنى لحجم الدفعة كحجم دفعة قابل للتطبيق اقتصادياً. يمكن تمديد التركيز على الاستدامة من حماية البيئة إلى التنمية المستدامة الكاملة. يمكن تحقيق الشفافية بنسبة مئة بالمائة على جميع مستويات الإنتاج.

يسعى روادنا الرؤيويون إلى نقل مركز الكواكب إلى الاستخدام القائم على التصويت في المرحلة الثانية من الثورة الصناعية السادسة. بدءًا من عام 2070 ستكون أبحاثنا واختراعاتنا قادرة على التحقق من وإدارة حركة الكواكب، وكذلك المحامل. ستكون هذه فترة مذهلة حيث يمكن للناس الوصول بفعالية إلى غالبية كواكب الكون. نحن ندرك أن هذه ستكون لحظة صعبة وتنافسية للمهندسين، وكذلك الباحثين، لكنها لن تكون مفاجئة لنا.

وفقاً للمسار التراجعي الذي يؤدي إليه، ستكون الروبوتات المتعايشة هي القاعدة الصناعية بحلول نهاية الثورة الصناعية القادمة. إن دور الإنتاج المتجانسة هي النتيجة الأكثر ترجيحاً للثورات السابقة التي تركز على الأتمتة التقنية والتصنيع المخصص، بمعنى أن الآلات متصلة بالعديد من خوارزميات الذكاء الاصطناعي الخاصة بالمهام والتي تعمل جنباً إلى جنب لإنتاج على أساس متطلبات المستهلك. ستستفيد الثورة السادسة من التقنيات التالية من أجل تحسين العديد من جوانب التصنيع وجودة الحياة بشكل عام: الروبوتات الطبية مع الطباعة متعددة الأبعاد. الروبوتات المساعدة للمنزل. البديل للطاقة التراكمية. الغوص العميق في تخطيط كهربية الدماغ.

ستجلب خبرة الطباعة ثلاثية الأبعاد المستقبلية لأنظمة الطباعة الخماسية الأبعاد الحالية درجات أكبر من الحرية، مما يمكن المستخدمين من الطباعة بمجموعة أوسع من المواد الكيميائية والمواد في التصنيع الإضافي، بالإضافة إلى مواد أخرى مثل الأدوية التي يتم التحكم فيها بدقة. الطب الدقيق الذي يذوب في مناطق مستهدفة محددة من الجهاز الهضمي. كما تدعم منطقة الروبوتات والروبوتات الميدانية علاج الطب العام باستخدام البيانات الإحصائية والذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي والأجهزة الميكاترونية للقضاء على اللمسة البشرية في سيناريو العيادات الخارجية.

يساعد هذا في تقليل صعوبة الإنسان ويقلل من خطر انتقال الجراثيم، إن لم يكن القضاء عليها تماماً. فكر في السيناريو الحالي لجائحة كوفيد-19. هذه جائحة ثنائية الطور، حيث يمكن لتطبيق الروبوتات وأجهزة الاستشعار في العلاج الطبي ضمان العلاجات غير التلامسية للمريض. كما يضمن إمكانية إجراء التلاعب التشريحي المهني من خلال القضاء على خطر انتقال الفيروس إلى الممارس.

منذ إنشاء شركة "واكامارو" Wakamaru التابعة لشركة "ميتسوبيشي" Mitsubishi في عام 2005، كانت صناعة الروبوتات تتخيل دمج الروبوتات في المنزل. مع تطور الروبوتات، تدعم هذه الصناعة كل مجال من مجالات الحياة البشرية. لقد بدأت تطبيقات أكثر تنوعاً خاصة باحتياجات البشرية؛ يمكنها دعم الطفل إلى الإنسان المسن في حياتهم اليومية. ومن المتوقع أن يكون نظام الروبوتات المساعد المنزلي جزءًا مهماً في الثورة السادسة. فكر في مجموعة أجهزة استشعار لاسلكية تم تطويرها مؤخراً مع نظام محرك جلب المقالات بمساعدة لوحة القيادة عبر الإنترنت. يمكن أيضاً استخدام أجهزة الاستشعار التي يتم ارتداؤها للتحكم في هذه الأنظمة عن طريق نقل المعلومات من الجهاز القابل للارتداء إلى المساعد المنزلي عبر نطاق معين.

مع وصول المركبات الكهربائية إلى السوق العالمية، والذي طال انتظاره، فإن الاتجاه الحالي نحو مركزية الطاقة سوف يتسارع بشكل كبير. وسوف يتم استبدال توليد الكهرباء التقليدي بمرافق الطاقة الشمسية. وهذا يؤدي إلى حل مستدام للطاقة وسوف يصبح أكثر تكاملاً في النهاية الخلفية. إن هذه المسؤولية عن تركيب الألواح والبطاريات في المنازل الفردية هي مسؤولية مشتركة.

إن تحسين الإنتاجية أمر ضروري للمنظمات التي تزود العملاء بالكهرباء. وفي القرن الحادي والعشرين، يمكن للصناعات تحسين الإنتاجية من خلال الجمع بين الاستراتيجيات المبتكرة. ويعد الغاز الطبيعي والكتلة الحيوية والنفايات والطاقة النووية وطاقة الرياح والطاقة الشمسية من بين مصادر الطاقة البديلة المستخدمة في الصناعة، بترتيب تنازلي للاستهلاك. ولا تسمح التكنولوجيا الحالية إلا بالتحكم المحدود في الأطراف الاصطناعية عند استخدام تخطيط كهربية الدماغ العميق. يمكن تضمين مستقبلات الألم الاصطناعية في تكنولوجيا الأطراف الاصطناعية التي يتم التحكم فيها بواسطة تخطيط كهربية الدماغ في المستقبل، مما يسمح بتطعيم الجلد بشكل واقعي باستخدام مواد اصطناعية.

الاستنتاج:

وفقاً للاتجاهات المستقبلية، سيكون التركيز الأساسي للثورة الصناعية السادسة على التكنولوجيا الطبية، مع الطب متعدد الأبعاد المطبوع والمتحكم فيه والتشخيصات الطبية الآلية بالكامل، مما يزيل أي عبء إضافي عن الممارسين ويسمح لهم بالتركيز على الحالات الحرجة. وهناك طريقة أخرى حاسمة لتوليد رأس المال الآلي من خلال التصنيع الآلي، والتي تم تصورها في الثورة الرابعة، ولكن لم يكن من الممكن تحقيقه على نطاق واسع بسبب استحالة الإنتاج الضخم. ومن المرجح أن تكون الروبوتات المخصصة للتنظيف وغيرها من المهام هي الخطوة التالية في الروبوتات المحلية. وستلعب مصادر الطاقة البديلة دوراً مهماً، حيث تحل في النهاية محل الوقود الأحفوري حتى يتم تشغيل جميع الموارد المستهلكة للوقت بواسطة مصادر الطاقة المتجددة.

إن المسرع الأساسي للنمو للشركات هو اندماج الأفكار، والذي سيعيد تعريف حدود السوق من خلال تحويل التركيز حول قيم الأعمال الرقمية من سلعة إلى أخرى. من ناحية أخرى، قد يكون التقارب محفوفاً بالمخاطر نظراً لأن الشركات الأخرى قد تتدخل في العمليات الأساسية من أجل تحقيق طموحات التقارب الخاصة بها.

***

الدكتور حسن العاصي

أكاديمي وباحث فلسطيني مقيم في الدنمارك

يعجب كل العجب كل متدبر لحال اغلب المسلمين اليوم، بالرغم من تكرارهم اليومي لاروع مدرسة روحية في تاريخ البشرية، مدرسة خاتم الانبياء الذي ارسل رحمة للعالمين لانه كان ولا يزال منذ آدم عليه السلام والى يوم القيامة مفتاحا للخير مغلاقا للشر، لانه كان ولا يزال مكتوبا على قوائم العرش لا اله الا الله محمد رسول الله، لمن فتحت بصيرته ليشهدها قلبيا بعد ان شهدها في بداية اسلامه لسانا.

آدم عليه السلام في الحديث ليس فردا واحدا وانما هو رمز لكل انسان اخطأ فهبط بانسانيته لدركات الفعال الغرائزية الممنوعة عن سماوات رقي جنات المعارف التي بقتطف ثمارها تأملا، كما قال ابن النحوي في قصيدة المنفرجة التي غناها المطرب المغربي الشهير عبد الهادي بلخياط عن فضل تأمل آيات الله في كتابيه المنظور والمسطور

و تأملها ومعانيها*** تأتي الفردوس وتبتهج

بمعنى ان من مفاتيح الغيب التي يهبها الله لمن يشاء من عباده فتعرج بهم من الزخارف الى جنات المعارف.

 مفتاح التفكر الذي فهمه الغرب فهما عميقا من تدبرهم الفلسفي للقرآن الكريم فتحدثوا عن مفاتيح النجاح les clés de réussite

ولم يذكروا ان الفكرة ممن ارسل تيسيرا للعالمين ورحمة لهم مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم. مفاتيح النجاح ألف فيها الغرب بعد ان عرفوا من فلسفة الاسلام ان هناك مفاتيح غيبت عنهم ينبغي اسكشافها واستمطارها من اكرم الكرماء الذي يكرم المسلم وغير المسلم المهم والاهم ان يتخذ الاسباب فألفوا في مفاتيح النجاح مثلا:

كتاب: فكر تصبح غنياً - نابليون هيل

أو كتاب: العادات السبع للناس الأكثر فعالية - ستيفن كوفي

أو حتى كتاب: قوة التفكير الإيجابي - نورمان فينسنت بيل

يمكن ان نذكر ايضا كتاب: أيقظ العملاق بداخلك - أنتوني روبنز واللائحة طويلة.

تحدثنا من خلال هاته الكتب عن مفتاح واحد يمكن ان يدخل في قوله تعالى: وعنده مفاتح الغيب لا يعملها الا هو، وهو مفتاح النجاح.

قد يحجب قليل الفهم عن البحث العميق في كنوز هاته الآية التي هي بئر عميق مليئ باللآلئ التي يعثر عليها كل متدبر بصدق، ذلك ان الذي لا يمكن أن يحيط به العبد هو جميع انواع المفاتيح باطلاقيتها التي يملكها الله عز وجل، اما من يتخذ الاسباب بالتوسل اليها  عن طريق آليتي التدبر والتفكر كمفتاحين للعثور على مفاتيح أخر غير مفاتيح النجاح يمكن ان نذكر مفاتح الابداع مثلا الفت فيها ايضا مجموعة من المؤلفات الرائدة ككتاب: سر الإبداع - ديفيد إدواردز

و كتاب: العقل الإبداعي - مايكل ميهالكو ثم كتاب:  الإبداع في العمل - تيريزا أمابيل

و لم لا ؟ نذكر ايضا كتاب الإبداع: تدفق وعلم الاكتشاف - ميهالي تشيكسنتميهالي، وكتاب الإبداع: علم العبقرية - دين كيث سيمونتون .

من مفاتيح الغيب التي لا يعلم اطلاقيتها الا الله لكنه سبحانه وتعالى تنعم على من تدبرها من عباده من فلسفة القرآن الكريم العميقة ولم ينسبها اليه وترك المسلمين يتوهمون انهم لا يمكن أن يعلموها وان كان الحق سبحانه يشير إلى أنه كريم كرما الاهيا لا تنفذ خزائنه وان تكرم على العبد بملايين المفاتيح، يمكن ان نذكر مفاتيح العلاقات الاجتماعية، نذكر من الكتب الهامة في هذا المضمار: لغات الحب الخمس - غاري تشابمان وكتاب كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في الناس - ديل كارنيجي، وكتاب الحدود في العلاقات - هنري كلاود وجون تاونسند وكتاب التواصل في العلاقات- فيرجينيا ساتير ولم لا؟ كتاب العلاقات العاطفية الناجحة - هيلين فيشر

من مفاتيح الغيب التي انعم الله بها على عباده المتدبرين وان لم يكونوا يظهروا ايمانهم بتفوق القرآن الكريم في سبقه للانهائية مفاتح الغيب: مفاتيح الإستدامة البيئية ويقصدون بذلك تحقيق التوازن بين احتياجات البشر والحفاظ على الموارد الطبيعية للأجيال القادمة

صمت الربيع - راشيل كارسون وكتاب الاستدامة في المدن" - بيتر نيومان وتيموثي بيتلي وكتاب الاستدامة في الزراعة - جويل سالاتين

وختاما وللبرهنة على على أن مفاتح الغيب في اطلاقيتها لا يعملها الا الله الا انه يمتن ببعضها على كل متفكر متدبر مستخدما لعقله الذي به كرم الله الانسان فصار اسطرلاب الحق على الكرة الأرضية او الآلة الإنسانية المستكشفة يمكن ان نذكر على سبيل المثال لا الحصر بعضا من الحقول المعرفية: مفاتيح التميز الاكاديمي ، مفاتيح الصحة النفسية مفاتيح المعرا وعنج الروحي ، مفاتيح التميز الرياضي ، مفاتيح العمل الجماعي ، مفاتيح السلام الداخلي مفاتيح الاستواء الروحي مفاتيح الاعتدال في التصرفات واغلب كتب التصوف الاسلامي الراقي تتمحور حولها كاحياء علوم الدين للغزالي وقوت القلوب لابي طالب مكي وفيه ما فيه لفريد الدين العطار أو كتاب الطريق إلى الصحوة الروحية" - أندريان شاندرا "الاستواء الروحي" - جيمس ريدفيلد، والغريب أن الامام ينادي المسلمين عند كل صلاة استووا واعتدلوا فتراهم منهمكين في استواء صفوفهم الظاهرية في الصلاة ونسوا بواطنهم مختلفة فعجبا كل العجب.

***

د محمد غاني ـ المغرب

(الدعوة الى قراءة مغايرة للقران الكريم)

ان غايتي في هذا المقال هو التاكيد على شمولية القران الكريم، فهو جامع للمعرفة والعلوم والاسماء، والافكار، بدلالة القول الكريم (وعلم ادم الاسماء كلها)، و(ما فرطنا في الكتاب من شيء)، او بدلالة ما سيؤول له التقدم العلمي بعد زمن طويل، والذي سوف يلتقي مع اللغة العالية المقام في ابجديات القران الكريم، وهنا يصح القول،  هل يمكننا تصنيع التقارب بين القرآن الكريم والبرمجة في الحاسوب، فلعلنا نصل الى فهم اسرار المخرجات القرانية، وفق لغته العالية على افاهيم البشر، ولعل المقارنة بين البرمجة والاكواد والخوارزميات الحاسوبية وغيرها وبين القران الكريم وتنوعاته هنا تصح.

وعند الحديث عن أقسام لغات البرمجة يمكن الاشارة الى لغة برمجية عالية او اخرى منخفضة او الحديث عن البرمجة الوظيفية ومهمتها وصف طريقة الحل بدلا من كتابة الخطوات للحل، كما ان هناك لغة برمجة نصية تعتمد الاوامر مثل جافا سكريبت او لغة البرمجة المنطقية ويعتمدها اليوم الذكاء الاصطناعي مثل لغة داتالوك وبرولوك وايضا لغة البرمجة المرئية وهي لغات برمجة لا تعتمد على أسلوب كتابة البرمجيات بل تعتمد على الرسومات والصور مثل فيجوال بيسك.

اما مفهوم الخوارزمية فهي مجموعة من الخطوات الرياضية والمنطقية والمتسلسلة اللازمة لحل مسألة ما. وسميت الخوارزمية بهذا الاسم نسبة إلى العالم أبو جعفر محمد بن موسى الخوارزمي الذي ابتكرها في القرن التاسع الميلادي. والكلمة المنتشرة في اللغات العالمية اللاتينية والأوروبية، وفي الأصل كان معناها يقتصر على خوارزمية لتراكيب ثلاثة فقط وهي: التسلسل والاختيار والتكرار)

والحديث عن مفهوم البرمجة يشير الى انه وسيلة للتواصل بين البشر (المبرمج) والآلة (والتي تتمثل في أي جهاز قابل للبرمجة)، اذ يستخدم الانسان اللغات المختلفة مثل اللغة العربية أو الإنجليزية للتواصل فيما بينهم، وابتكرت اللغات الأخرى (لغات البرمجة) للتواصل بين البشر والآلة، وكما هو الحال بين البشر اللذين يتحدثون بلغات مختلفة حيث يتم إستخدام المترجم ليتمكن البشر من فهم اللغات المختلفة، يتم ذلك أيضا بين البشر والآلة حيث يتم ترجمة لغة البرمجة (التي يفهمها البشر) إلى لغة الآلة والتي تتمثل في الصفر والواحد أو كما تعرف بـ النظام الثنائي وهي اللغة التي تفهمها الآلة عن طريق إستخدام برامج مخصصة المترجم او المفسر. وهذه مجموعة من الاشارات التي يمكن تطويرها مستقبلا.واجزم ان عناية طلبة العلم ببرمجة افكار وتراكيب القران الكريم سيكون لها الشان المهم في المستقبل القريب.

١- ان روح هذا المقال يثبت ان هناك تقابلا بين البرمجة والقران، فالكود او الاكواد يقابلها الاية او الآيات، والكود البرمجي هو مجموعة من الأوامر والتعليمات المكتوبة بلغة معينة لتنفيذ مهمة معينة، ومخرجات هذه المهمة تتحول الى منظومة ومنهج مترابط يقود الى تشكيل عيني او مادي، مثال ذلك البرمجة التي يخطط لها لتصنيع وادارة منظومة الكهرباء، والتي تتحول الى منظم لواقع مادي يعمل على تشغيل المعامل والبيوت والمؤسات المختلفة، فالبرمجة والتي هي مجموعة رموز غير مادية قادت الى تشغيل الماديات واحياء المجتمع.

٢- يبرز في القران الآيات القرآنية والتي هي نصوص إلهية محكمة، مترابطة ودقيقة، تهدف إلى تحقيق غاية واضحة اساسها هداية الإنسان وتنظيم شؤونه الدينية والدنيوية.

٣- وعلى هذا فان المقاربة تشير الى أن الكود البرمجي يُبنى بمنطق مترابط ودقيق لتنفيذ مهمة محددة، وايضا فالآيات القرآنية كذلك مترابطة وتهدف الى تحقيق غايات محددة، او شاملة.وهنا يتحتم فهم لغة البرمجة المتداخلة للخروج بنتائج مبهرة.

خذ مثلا السنن القرانية التي توصف بالشرطية (لا يغير الله ما بقوم حتى…/ان تنصروا الله… /وهي عديدة ومتناثرة في برزخ القران، هذه الجمل المعرفية ترتبط وتبوب الحوادث، المختلفة بمستويات الفكرة ونتائجها المتصلة بسلوك الانسان من جهة، وعلاقته بالمجتمع من جهة اخرى، وايضا ترتبط بنظام هندسة الحروف الذي يعد النواة الاولى للفكر البرمجي للقران الكريم.

٤- من زاوية المخرجات، فان الاكواد الخاطئة في البرمجة تقود الى خطا، والعكس صحيح، ولكن التعثر والخطا في خطوات برمجة الحاسوب لا يقود الى بناء متوالي ومستمر يوصف بالصحة لان نتائجه لا تثمر، وهذا ينطبق تماما على كلمات القران التي تشير اولا الى ان أوامر القرآن عندما تطبق بدقة وبشكل منطقي، ستكون النتيجة سعادة دنيوية وأخروية. وثانيا الى ان قواعد الفكر والحكمة والدقة والعلم في القران، لا تسمح بايراد الاكواد الخاطئة، لانها سوف تقودنا الى نتائج خاطئة، وكذلك الخطأ في فهم أو تطبيق القرآن قد يؤدي إلى نتائج غير مرغوبة.

٥- ان من اهم امتيازات القران انه ينشر تنوعاته الفكرية او القواعد العلمية باماكن متفرقة، فقد تكمل سورة في اخر القران ما طرحته سورة في بدايته، وهذا هو سر الاكواد او الخوارزميات القرانية العظيمة.

٦- يبرز مفهوم الصياغة الدقيقة في البرمجة ويقابله الإعجاز اللفظي والدقة التشريعية

فالبرمجة لها لغتها وقواعدها الصارمة التي يجب الالتزام بها، وخلافها يقود الى خطأ في التنفيذ، اما في القرآن فيتميز بإعجاز لغوي وبلاغي وتشريعي دقيق، حيث لا توجد كلمة أو حرف في غير موضعه، وهنا تقول المقاربة،  اذا كان الخطأ في بناء الكود يُفسد البرنامج، فإن أي تحريف أو تغيير في القرآن يخلّ بالمعنى والغاية الخاصة بكلمات القران، وايضا مسالة اخرى تشير الى ان عدم معرفة البرمجة العالية المقام والدقيقة المعرفة سوف تقود الى جهل بابجدية القران البرمجية، فلا يمكن لنا الاستماع الى لغة المراهقة الفكرية القائلة بان هذا الكتاب، هو نسبي يمكن ثلم قدسيته.

٧- كما يبرز لنا الغاية او الهدف من كل من منهجية القران والبرمجة لان البرمجة تهدف بشكلها النهائي لحل مشكلة أو تسهيل مهمة، في المجتمع، وهذا ما يفعله القران بالتاكيد، والذي يهدف الى تذليل العقبات واسعاد الانسان، فمع اختلاف طبيعة الهدف فان الغاية واحدة.

٨- توجد نقطة مهمة تتعلق بالتاويل او التفسير الخاص باكواد القران، فاذا استخدمت البرمجة مفهوم المترجم أو المترجم البرمجي لتحويل الكود إلى لغة تفهمها الآلة، فان القران يحتاج إلى علماء متخصصين في علوم التفسير واللغة والفقه لفهم الرسائل العميقة والتطبيق الصحيح للأحكام، وتقول هذه المقاربة، كما أن المترجم البرمجي يحوّل الأوامر إلى لغة تفهمها الآلة، فإن المفسّر يساعد في توضيح معاني القرآن بلغة يفهمها الناس.

٩- اذا كانت البرامج تحتاج إلى تصحيح أخطاء، وتحديثات مستمرة لتواكب التطور.

فان القرآن لا يتغير، لكنه مرن ويتسع لاجتهادات العلماء لفهمه بما يناسب العصر دون الإخلال بالنصوص القطعية، فياتي الفهم والاجتهاد متناسبا باختلاف الزمان والمكان. مع بروز بعض الاكواد بكونها اعلى من سقف الزمن النسبي.

١٠- ومن المسائل المهمة نجد الوثائق المرجعية، والتي تقابل مفهوم السنة النبوية وكتب التفسير لان التوثيق الجيد) يشرح كيفية عمل الكود ويُسهل على الآخرين فهمه.

بينما تبرز هنا السنة النبوية وكتب التفسير وهي مراجع تساعد المسلمين على فهم النصوص القرآنية.

١١- من زاوية المنهجية نلاحظ ان القرآن يتميز بالمنهجية والترتيب. فهو يقدم تعليمات واضحة تنظم حياة الإنسان في مختلف المجالات (العبادات، المعاملات، الأخلاق).

فيما تعتمد البرمجة الدقة والترتيب المنطقي لتحقيق هدف معين فالكود المنظم والمرتب يسهل فهمه وتنفيذه دون أخطاء.

١٢- وحتى الأوامر والتعليمات في القرآن مثل “أقيموا الصلاة”، “ولا تقربوا الزنا”، “وأمر بالمعروف”.

فانه في البرمجة: يتبع المبرمج نفس المبدأ، حيث يكتب أوامر وتعليمات يفهمها الحاسوب مثل if-else, for, while.

١٣- وعند مناقشتنا المدخلات والمخرجات في القرآن سيتضح ان الأفعال والسلوكيات (المدخلات) تؤدي إلى نتائج (المخرجات). على سبيل المثال: “من عمل صالحًا فلنفسه”.

ويقابلها في البرمجة من ان البرنامج يعتمد على المدخلات للحصول على مخرجات. مثلًا، في برنامج آلة حاسبة، إذا أدخلت 2+2 (المدخلات)، ستكون النتيجة 4 (المخرجات).

١٤- لا يمكن اغفال مفهوم التكرار بكل من القران والبرمجة فيشمل التكرار في كلا المجالين فالتكرار في القرآن يكون في الآيات لتعزيز المعنى وتثبيته، مثل تكرار آية: {فبأي آلاء ربكما تكذبان} في سورة الرحمن. فيما تنتقي البرمجة الحلقات التكرارية (مثل for وwhile) لتكرار أوامر معينة بهدف تحقيق نتيجة محددة.

١٥- وما يتعلق المتغيرات فان في القرآن مرونة في الأحكام تبعًا للحالات والظروف (مثل أحكام الصيام للمريض والمسافر)، يرافق ذلك في البرمجة حيث نجد استخدام المتغيرات لتخزين القيم التي قد تتغير أثناء تشغيل البرنامج وهذا يعني القدرة على التكيف مع الظروف المختلفة سواء في القرآن ام في البرمجة.

١٦- ان القران يستعرض الأخطاء الخاصة بالانسان والمجتمع والكائنات الاخرى مثل الشيطان ومن تبعه، واخطاء الامم والمجتمعات، وحتى امم الحيوانات ويقدم التصحيح الخاص بها، مركزا على تصحيح الأخطاء البشرية والتوبة والرجوع إلى الله.

وغاية هذا التصحيح هو تقويم السلوك الانساني، فالقرآن ليس مجرد برمجة عابرة بل هو وحي إلهي يشمل أبعادًا روحية وأخلاقية ومعرفية، بينما البرمجة هي أداة تقنية تُستخدم لتحقيق وظائف عملية. لكن كلاهما يتشاركان مبادئ مثل النظام، الأوامر الواضحة، المدخلات والمخرجات، تصحيح الأخطاء، والغاية النهائية.

وسوف يتبع هذا الموضوع مواضيع اخرى ان شاء الله لا تتعلق بالبرمجة العصبية او مشجرات القران بقدر تعلقها بفهم منظومة معلومات القران الكريم وكيف تتداخل وتنتج المختلف من العلوم والافكار.

***

ا. د. رحيم محمد الساعدي

أقدمت سلطات الأمر الواقع السلفية الجهادية في سوريا على اتخاذ قرارات، وقامت بممارسات عملية عديدة في سياق ترسيخ سلطتها وتوجهاتها السلفية المحافظة في مجالات عديدة منها التعليم. ولكنها استمرت بتوخي الحذر وتغليب الطابع العصري في ما يتعلق بهندام قادتها، والابتعاد عن الصورة النمطية للمقاتل السلفي الانتحاري وتفادي نشر الصور والفيديوات عن عمليات القمع والتصفيات الجسدية الثأرية ضد أعدائهم.

تَدْمر وزنوبيا من "داعش" إلى "تحرير الشام"

حرصت هذه الجماعات المسلحة التي يقودها الجولاني، الذي أصبح اسمه بعد دخوله دمشق "أحمد الشرع"، على مغادرة مربع الفظاظة الدموية الداعشية، والأخذ بالطرق والأساليب الإدارية. آخذةً العبرة من الماضي أحياناً، ومنصاعةً لتوجيهات الحليف التركي والممول القطري أحياناً أخرى، فلم تكرر محاولة داعش إلغاء الماضي الحضاري السوري والعراقي بالعنف من خلال تدمير آثار معابد وتماثيل وشواخص مدينتي الحضر قرب الموصل سنة 2015 وتدمر سنة 2018 حين أقدمت على ارتكاب جريمة ذبح أحد علماء الآثار السوريين ومدير آثار تدمر، الرجل المسن خالد الأسعد (82 عاما) في 18 آب 2015 وعلقت جثته على عمود كهربائي في مدينة تدمر الآثارية، بل أصدرت -السلطات الجديدة- قرارات فوقية تدخلت فيها بمواد المناهج التدريسية المقررة حذفاً وتعديلاً وإضافة.

وإذا كان بالإمكان تفهم قرار هذه السلطات في حذف ما يتعلق برموز وزعامات نظام الحكم السابق، وكتبه التعليمية الأيديولوجية ككتاب "التربية الوطنية"، رغم أن هذا ليس أمراً ملحاً واستثنائياً، ولا هو من صلاحياتها كسلطة أمر واقع، ولكن يبقى مستهجناً تدخلها في مادة التاريخ العام نفسها ومن قبل أشخاص لا علاقة لهم بهذا الميدان العلمي الحساس والدقيق قرروا بجرة قلم، وعلى طريقة خصومهم الأيديولوجيين الاستبداديين، حذف شخصيتي ملكة تدمر زنوبيا وخولة بنت الأزور من العهد الراشدي بحجة أنهما شخصيتان خياليتان وغير تأريخيتين/ الفقرة 19 من تعميم وزاري بهذا الخصوص.

استبدال العلمي بالأيديولوجي

سنتوقف في هذا النص عند شخصية الملكة زنوبيا لتفنيد هذه الحجة، بما يتوفر من أدلة، مسجلين أن البحث والنقاشات والسِّجلات في هذا الموضوع التأريخي البحت هو شأن علمي في الدرجة الأولى، ولا يمكن تسيسه وأدلجته.

إن القصد من هذه المادة هو التعريف بهذه الملكة وبما ورد حولها في المصادر الرومانية والإغريقية والعربية وليس الرد على السلفيين المتعصبين السائرين على خطى الدكتاتوريين العرب الذين حاول بعضهم أيضاً وبقوة القبعة الجنرالية كتابة التأريخ وفق مزاجه وهواه فاخترع شعوباً وقبائل وأسماء دول وشخصيات ونفى وجود أخرى من دون حجج علمية تخصصية أو منطق سليم!

إن نفي وجود شخصيات تأريخية دينية وغير دينية ليس جديداً في عالم البحث، وقد ألفت كتب كثيرة تشكك بوجود أنبياء التوراة لانعدام أي أثر مادي أركيولوجي في المحيط الذي عاشت ونشطت فيه يدل على وجودهم، أو بسبب وجود تضارب وتناقض بين الحيثيات التأريخية وزمان حدوثها، وأثارت تلك الكتب جدلا واسعا لم تنتهِ تداعياته حتى يوم الناس هذا. ولعل من أهم وأشهر تلك الكتب كتاب "التوراة اليهودية مكشوفة على حقيقيها" للثنائي فنكلستاين وسيلبرمان.

 سأركز هنا على شخصية زنوبيا وهي من الشخصيات التي ثبت وجودها بالدليل الأركيولوجي "الآثاري" القاطع، أما خولة بنت الأزور فأمرها مختلف، ويمكن أخذ التشكيك في تأريخيتها وكونها شخصية خيالية على محمل الجد؛ إذ لا وجود لأي أثر أركيولوجي باسمها، ولم تُذكر إلا في كتاب واحد هو "فتوح الشام" المنسوب زورا للواقدي (ت 823) كما قال أحد الباحثين، وبعض الكتب المتأخرة التي أخذت عنه كأعلام الزركلي (ت 1976)، ومع ذلك لا يمكن التعامل مع هذا الأمر بخفة وطيش وينبغي ترك الحسم فيه للباحثين المتخصصين.

دينار زنوبيا وأدلة أخرى

من الأدلة الإركيولوجية القوية التي تؤكد الوجود التأريخي للملكة زنوبيا ما عُرف بين الآثاريين بدينار زنوبيا. وتعرفه موسوعة تاريخ العالم (World History Encyclopedia) وفي مادة كتبها (Joshua J. Mark) وترجمها إلى العربية سامي الأطرش بالقول:

دينار زنوبيا التدمرية: يسمى أحيانا (تترادراخما)، هي عملة نقدية تنسب إلى ملكة تدمر زنوبيا وتذكر اسمها وصفتها أوغستا (ومن معاني هذه الكلمة في اللاتينية صاحبة الجلالة ورفيعة الشأن ومهيبة). ويظهر لها تمثال نصفي على أحد وجهي الدينار. يحمل مَنْشَأَهُ وهو دار سك النقود الثامنة في أنطاكية - الإصدار الثاني، آذار مارس-أيار مايو 272 م. زنوبيا. والتمثال النصفي ملفوف على اليمين ومغطى بتاج على شكل هلال. وعلى الوجه الآخر للقطعة تظهر شخصية واقفة هي إيفنو ريجينا - ملكة الآلهة الإسطورية الموقرة حامية الإمبراطورات النساء تظهر على العُملات كنوع من التكريم- وهي تحمل باتيرا (طاسة القرابين) في يدها اليمنى، وصولجان في يدها اليسرى، وطاووس عند قدميها، ونجمة لامعة على اليمين. تاريخ العملة يعود إلى 271-272 م. وإلى جانب هذا الدينار سكَّت مملكة زنوبيا عملات أخرى ذهبية وفضية ونحاسية وبرونزية، حمل بعضها صورة ابنها وهب اللات (وهبلاتوس).

أعتقد أن هذا الدينار ومع هذه التفاصيل عليه يضع النقاط على الحروف ويؤكد بالدليل القاطع تأريخية وحقيقية هذه الشخصية المهمة وسيكون من قبيل الفضيحة العلمية تكرار هذه المزاعم المليشياوية والتشكيك بوجودها.

- كما ورد ذكر الملكة - الإمبراطورة زنوبيا (بالتدمرية: اسم زنوبيا مكتوب باللغة التدمرية وتُلفظ: بات زباي)، عُرفت باللاتينية باسم جوليا أوريليا زنوبيا (Julia Aurelia Zenobia) وباليونانية سبتيما زنوبيا، كما عرفها العرب باسم زينب. وتختلف المصادر التأريخية الأجنبية في تفاصيل سيرتها ومن ذلك:

- وورد ذكرها في كتاب العالم والخيمياوي الإغريقي زوسيموس والذي عاش في قرن زنوبيا نفسه، الثالث الميلادي، وحتى بدايات الرابع. وفي كتاب المؤرخ واللاهوتي البيزنطي زوناراس الذي عاش في القسطنطينية من القرن الثاني عشر الميلادي. وكلا الكتابين يوصف بالموثوقية.

- كما ورد ذكر زنوبيا في موسوعة (Historia Augusta) وتترجم أحيانا بـ (تأريخ الأباطرة) وهي مجموعة من السير الذاتية الرومانية المتأخرة، المكتوبة باللغة اللاتينية، للإمبراطور الروماني، وزملائه الصغار، والورثة المعينين والمغتصبين للتاج من عام 117 إلى 284. وهي تقدم نفسها كمجموعة من أعمال ستة مؤلفين مختلفين. ولا توصف هذه الموسوعة بالدقة ويشكك كثيرون في تفاصيلها.

خلافات في التفاصيل واتفاق على الوجود

- في المصادر العربية ورد ذكر زنوبيا في تاريخ الطبري (عاش 839-923 م). ومن المرجح أن الطبري اعتمد في قصته رواية عدي بن زيد (عاش في القرن 6 م). واللافت أن الطبري والمؤرخين العرب الآخرين لم يأتوا على ذكر صراع زنوبيا وتحديها لروما ومعركتها مع الإمبراطور أورليان، بل ركزوا في رواياتهم على علاقاتها وصراعاتها مع القبائل المجاورة لها، وعلى حيثيات شخصية ذات طابع نمطي من قبيل إنها كانت بارعة في ركوب الخيل ولها قدرة هائلة على التحمل فكانت تسير على قدميها مع قواتها لمسافاتٍ طويلة، وتصطاد لتتغذى كأي رجل، وتشرب خمرا أكثر من أي شخص. كما ذكروا أنها كانت عفيفة لا تجامع زوجها إلا لغرض الإنجاب. ويروي الطبري ومؤرخون عرب متأخرون أخذوا عنه أنها قتلت زعيما قبلياً يدعى جُذيمة في ليلة زفافهما، وسعى ابن أخيه إلى الانتقام فلاحقها إلى تدمر حيث هربت على جمل ثم عبرت الفرات نحو الشرق حتى تم القبض عليها وقتلها.

ومن المرجح أن هذه الحيثيات - الطبرية - التي تعتمد الرواية الشفهية كما وصلت إلى عصر الطبري أي بعد أكثر من ستة قرون على عهد زنوبيا هي التي استمد منها السلفيون المعاصرون حججهم حين قرروا نفي وجودها وشطبوا على كل ما ورد من أدلة تأريخية وآثارية "أركيولوجية" - لو كانوا يعلمون أصلا بوجودها - في المصادر الأجنبية المعاصرة لزنوبيا وفضلوا عليها الروايات الشفاهية الأساس والمضطربة المحتوى كرواية الطبري.

- يبقى الخلاف في التفاصيل في هذه المصادر القديمة كبير، ولكن أحدا من القدماء المعاصرين لزنوبيا لم يجرؤ على التشكيك بوجودها وكونها شخصية تأريخية وحقيقية. ولكن بعض تفاصيل حياتها مختلطة ومتعارضة وقد تمت أَسْطَرَةُ بعضها بمرور الأزمان فدخلت في مجال الأساطير ولكن كأحداث وصفات وكشخصية تأريخية أيضا. وبهذا فزنوبيا تشبه في هذا المآل ملك (أوروك) الرافداني جلجامش والذي أصبح بطلا لملحمة تحمل اسمه وشخصية أسطورية إلى جانب كونه ملكا حقيقيا عثر على أسمه ضمن ثَبْتِ وقوائم أسماء الملوك السومريين.  ومما اختلف فيه المؤرخون هو شكل علاقة زنوبيا بالحكم الروماني حيث يذهب جُلُّ المؤرخين الرومان والإغريق إلى أن زنوبيا لم تتمرد أو تثُر ضد روما وهيمنتها العالمية آنذاك بل تحدتها في عهد ضعفها وحاولت أن تقيم إمبراطورية شرقية آرامية مستقلة ونجحت إلى حد كبير، ولكن نجاحها شكل خطر على روما وعلى فارس أيضا بعد أن كان أذينة زوج زنوبيا قد هزم الفرس هزيمة قاسية وردعهم عن التقدم غربا قبل اغتياله.

ومع ذلك، تؤكد كل هذه المصادر أن الملكة زنوبيا ملكة تدمر تحدت سلطة روما، إلا أن أيّاً منها لا يصف أفعالها بأنها تمرد صريح أو ثورة ناجزة ضد الإمبراطورية الرومانية. وبطبيعة الحال، تعتمد هذه النظرة على التعريف المراد بـ "التمرد" و "الثورة" حسب موقع المؤرخ. وتقف وراء هذه الفكرة النافية لتمرد زنوبيا على روما قناعة استعلائية غربية ماتزال متفشية في الفكر الأورومركزي المعاصر ومفاده أنهم لا يريدون أن تصدق الناس أن هناك مَن تمرد وثار في أطراف العالم على طغيان روما الإمبراطورية القديمة ولكنه يمكن أن يكون قد تحداها ذات مرة فدفع ثمن تحديه!

ومع ذلك، يمكن أن نتساءل هنا؛ أليس صحيحاً اعتبار المعركة الأخيرة "معركة إيماي- إنطاكية" في عام 272 ميلادية، والتي هُزمت فيها زنوبيا أمام جيش الإمبراطور أورليان تأكيداً لهذا التمرد والثورة الطرفية على المركز الإمبراطوري الروماني؟

بل قد يكون من المغري أن نتمادى في التساؤل فنقول؛ ألم يشكل الاجتياح التحريري العربي الإسلامي وذروته في معركة اليرموك سنة (636م) والتي جاءت بعد بضعة قرون على تجربة زنوبيا الفاشلة في تحدي روما، ونجاح العرب المسلمين في عهد الخليفة الراشدي الثاني عمر بن الخطاب في طرد الاحتلال الروماني البيزنطي وتحرير بلاد الشام ومصر من هيمنتها إلى الأبد، ألم يشكل هذا الاجتياح أضخم عملية استكمال وثأر جيوسياسي وحضاري في التأريخ القديم لمنطقتنا؟ ألا يَعْتَبِرُ رجال المليشيات السلفيين المعاصرين الذين ينسبون أنفسهم إلى السردية السلفية الإسلامية بمغزى هذه الحيثيات وعمقها الحضاري ليخففوا من غلوائهم وعماهم الحضاري ضد تراث الأمة القديم بحجة أنه وثني؟ ترى ألم يكن هذا التراث والأثار والأهرامات والتماثيل موجودة في عصر صدر الإسلام وامتدادا حتى عصرنا الحاضر بما في ذلك في قلب الجزيرة العربية والشام والعراق ومصر، فلماذا لم يقرر المسلمون آنذاك تحطيمها وإزالتها من الوجود؟

أدلة آثارية أخرى محتملة

إلى جانب الدليل الأركيولوجي الذي ذكرناه كدليل قاطع على تأريخيتها أي دينار زنوبيا، هناك بعض التماثيل المنسوبة لزنوبيا أو لزوجها أذينة (أوديناثوس) أو لابنها الوحيد وهب اللات (وهبلاتوس) ومرافقيهم ومجايليهم من دون أن تذكر أسماؤهم عليها ولكنها من الجغرافيا التأريخية التي وجدوا ونشطوا فيها، ومنها:

- تمثال قديم وينسب إلى زوج زنوبيا أُذينة "أوديناثوس" وهو محفوظ في متحف ني كارلسبرغ غليبتوتيك في الدنمارك.

- نقش بارز من معبد جاد في دورا أوروبوس قرب دير الزور يصور الإله "جاد" من دورا (الوسط)، والملك سلوقس الأول نيكاتور (يمين) وحيران بن ماليكو بن نصر، وهو قريب محتمل لأوديناثوس (يسار).

- قطعة فسيفسائية من الطين تحمل تصويرا محتملا لأُذينة وهو يرتدي تاجاً مدبباً خشناً، ملتحياً، وبتسريحة شعر على شكل كرة كبيرة على مؤخرة العنق ربما كان لأذينة.

- عُملة أنطاكية تعود إلى الإمبراطور غالينوس بن فاليريان حوالي عام 264-265، تصور الأسرى على أحد وجهيها. ربما تم سكها احتفالاً بانتصارات أذينة في بلاد فارس بعد انتصاره على الفرس الذين كانوا قبلها قد هَزموا وأسروا فاليريان ثم قتلوه.

-هناك تمثال رخامي شهير لزنوبيا وهو من الأعمال الفنية الحديثة ومن تصميم النحات هارييت هوزمر سنة 1859 ميلادي، وهو معروض الآن في مكتبة هنتنغتون، سان مارينو، كاليفورنيا. وهذا التمثال لا قيمة أركيولوجية أو تأريخية له فهو عمل فني حديث من القرن التاسع عشر.

***

بقلم: علاء اللامي - كاتب عراقي

 

مطالعة النظريات السياسية ليست هواية رائجة في العالم العربي، حتى بين نخبة البلد، فضلاً عن عامة القراء. لذا سأنتهز الفرصة السانحة للتشجيع على هذه الهواية النافعة. الفرصة التي أعنيها هي التحول الجاري في سوريا، حيث تتكشف المسافة بين النظرية وتطبيقاتها الممكنة، في مختلف جوانب الميدان السياسي: الدولة والسلطة السياسية، إلى سلوك الفاعلين السياسيين وموقف الجمهور، فضلاً عن العوامل المادية، لا سيما الاقتصادية والعسكرية، التي تسهم في صنع أو توجيه الحدث السياسي.

من ذلك مثلاً مفهوم «العدالة الاجتماعية» الذي أجده غائباً عن النقاشات العامة بين العرب. هذا الادعاء ليس كلاماً يُلقى على عواهنه، ولا هو جلد للذات. وإن أردت التحقق من صحته، فابحث عن تلك العبارة في الصحف الصادرة اليوم، أو يوم أمس، وسترى بنفسك حجم الحضور اليومي لهذا المبدأ الذي نحتاج إليه جميعاً، الآن وغداً وفي كل وقت.

اهتمامي بالعدالة الاجتماعية خصوصاً نابع من كونها جوهر عمل الدولة، إضافة إلى أن غيابها هو أبرز أسباب انهيار الحكم السوري السابق. أستذكر في هذه اللحظة رؤية المفكر المعاصر ديفيد ميلر، الذي رأى أن إدراك حقيقة «العدالة الاجتماعية» مهمة بسيطة لمن أراد التأمل في معناها. يقول في هذا الصدد: «افترض أنك مكلف بوضع قانون للبلد، وأمامك سؤال يتعلق بحقوق الشرائح الضعيفة (الأقليات في المعنى السياسي)، وبعض هؤلاء يخالفونك في الدين أو الثقافة أو الجنس أو العرق أو العقيدة السياسية... إلخ، فكيف ستعاملهم؟ هل ستعطيهم حقوقاً تساوي ما أخذته لنفسك أم تقرر أن الأكثرية تأخذ الأكثر والأقلية تأخذ الأقل؟

الواقع أن هذه فكرة شائعة بين جمهور الناس، لا سيما الذين يمسكون بمصادر القوة، أو ينتمون إلى الجهة الأقوى (الأكثرية في المعنى السياسي)، فهؤلاء جميعاً يرون أن للأكثرية حق الانفراد بالقرار، وعلى الأقلية أن تسمع وتطيع. يقول ديفيد ميلر إن هذا خداع للذات، وإن علاجه بسيط: «تخيل أن ظروفك انقلبت، فأمسيت في مكان الأقلية، في بلدك أو في بلد غريب، فهل سترضى بالمعاملة التي كنت تميل إليها سابقاً أم ستراها غير عادلة؟ أظن أن كثيراً من أنصار الحكم السابق في سوريا سيكتشفون اليوم هذه النقطة بالذات. ترى ألم يكن الأفضل لهم أن يقيموا سياسات البلد على أصل المساواة والعدالة؛ أي مساواة الشرائح الضعيفة بنظيرتها القوية، كي يكونوا في الجانب الآمن هذا اليوم؟

هذا السؤال بذاته يوجه لمن يملكون اليوم مقاليد السلطة ومصادر القوة، في سوريا والسودان وليبيا واليمن والصومال، وغيرها من الدول التي انهارت حكوماتها: أيهما خير لهم... أن يقيموا سياسات البلد على قاعدة المساواة والعدالة وعدم إقصاء أي شريك وطني، مهما خالفهم سياسياً أو آيديولوجياً أو عرقياً أو غيره، أو أن يواصلوا سياسات من كان قبلهم ممن استأثر بمصادر القوة واعتبر الدولة غنيمة له ولأهل عصبيته؟

أما النقطة الثانية التي تثير اهتمامي في المشهد السوري فهي الحاجة إلى ترتيب أولويات العمل السياسي. ثمة من ينادي اليوم بتطبيق الشريعة الإسلامية، وفهمه للشريعة لا يتجاوز الجوانب المظهرية والشعائرية. وثمة من يطالب بإقرار فوري للحكم اللامركزي، وذهب أحدهم إلى إنكار سيادة لبنان، واعتبر أن ضمه إلى سوريا واجب وطني. فهذه الدعوات وأمثالها تنم عن حالة انفعالية، ينبغي للفاعلين السياسيين وأصحاب القرار أن يتجنبوا الانسياق إليها. إن أهم أولويات النظام السوري الجديد - في رأيي - هي ضمان الأمن للجميع، حتى المجرمين والسفلة، فضلاً عن عامة الناس. هذا سيجعل الدولة الواحدة مرجعاً للجميع وملجأ للجميع، ويقي البلد من دعوات الفتنة والتفكيك والتسلط، ويقطع الطريق على الانتهازيين والشعبويين الذين يصطادون في مياه الفتنة.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

بين النَّثر الأدبيِّ في صَدْر الإسلام والشَّريف الرَّضِي (4)

لئن كان (الشَّريف الرَّضِي، -406هـ= 1015م)- أو أخوه (الشَّريف المرتضَى، -436هـ= 1044م)- قد نَسبَ «نَهْج البلاغة» إلى (عَليِّ بن أبي طالب، كرَّم الله وجهه)- على ما لا يخلو «النَّهْج» منه من مباينةٍ أسلوبيَّةٍ ظاهرةٍ لما كان عليه عليٌّ، وكانت عليه أساليب عصره، وكانت عليه طبائع جيله- فإنَّ تفسير هذه المفارقة لا يخلو من أحد احتمالين، أو من كليهما:

1- أنَّ ذلك الكلام المنسوب إلى (عَليٍّ) كان تراثًا شَعبيًّا عَلَويًّا، صقلتْه العقود والقرون، بوصفه أدبًا ملحميًّا شَعبيًّا، صيغ في ثنايا القصص، على نَهْج القُصَّاص، الذين ازدهر سوقهم منذ العصر الأُموي. وكان أولئك القُصَّاص ينسبون إلى أبطال قصصهم من الخُطب والشِّعر ما تحلو به مجالس القصص، منذ حكاية (الزير سالم) إلى (عنترة) إلى سِواهم من الأبطال التاريخيِّين. وبنحوٍ من هذا تطوَّر النصُّ عبر السنين في عملٍ جماعيٍّ، يُضاف إليه، ويُنقَص منه، ويُنقَّح فيه، على طريقة الراوي الشَّعبيِّ في ما يصنع بكلام الأعلام، بل بشخصيَّاتهم وسِيَرهم. واستمرَّ هذا حتى صِيغ «نَهْج البلاغة» صياغته الختاميَّة في القرن الرابع الهجري. فهو، إذن، نتاجٌ جماعيٌّ، لا يَبعد أن سَلَفَتْ لبعضه أصولٌ ما، بَيْدَ أنَّ بناءه الكُلِّي إنَّما عَمِلتْ فيه التداوليَّة ما عَمِلتْ، حتى استقام على سُوقه بقلم الأخوَين الشَّريفَين، الرَّضِي والمرتضَى. ومن شواهد ذلك، مثلًا، ما رُوِي في «النَّهْج» من حكاية «موعظة همَّام»(1) التي قَتَلَتْه! إنَّها القَصص وما تقتضيه فيها المبالغاتُ والتجاوزاتُ الخياليَّة. ومن اللَّافت كذلك في «النَّهْج» ما نُسِب إلى (عليٍّ) من القول إنَّ الرسول مات على صدره هو، وكأنَّ ذلك في ردٍّ على الرواية السُّنِّيَّة التي تذكر أن الرسول مات على صدر (عائشة، رضي الله عنها)؛ وبلفظها: «بين نَحْري وسَحْري»(2). إنَّها المنافسات المذهبيَّة بين طرفَين، وكلٌّ يجذب الرسول إلى صدره!

2- بما أنَّنا لا نعلم روايةً أخرى لكثيرٍ من تلك المجموعة التي ضمَّها (الشَّريف) تحت عنوان «نَهْج البلاغة»، جاءتنا بأسانيد صحيحة أو غير صحيحة، على منهاج تصحيح الحديث النبوي، وبما أنَّه لا يُتصوَّر أنَّ الشَّريف قد تفرَّد بما لم يُحِط به غيره من المسلمين خُبْرًا- على الرغم ممَّا كان لمثل ذلك التراث من قيمةٍ حِزبيَّةٍ، ومكانةٍ رمزيَّةٍ، وقاعديَّةٍ أيديولوجيَّة، وما يعنيه بالجُملة من عِلْقٍ ثمينٍ لدَى القوم، وهو ما يُفترَض إتيانه من طُرقٍ متعدِّدة- فإنَّ أرجح احتمال هو أنَّ الشَّريف إنَّما عمَدَ في تأليف «النَّهْج» إلى ضربٍ من الأدب، مسوَّغٍ فنِّـيًّا، وهو أن يضع من النصوص ما ينسبه إلى بطلٍ ملحمي، على سبيل القِناع الفنِّي، لا على سبيل الرواية التاريخيَّة، متوخِّيًا بذلك الإبداع الأدبيَّ من جهة، ومن جهةٍ أخرى الوعظ والتوجيه والإفضاء بمضامين سياسيَّة أو اجتماعيَّة أو مذهبيَّة، يودُّ الإفضاء بها على لسان عَلَمٍ ذي مصداقيَّة جماهيريَّة. وما على الأديب من بأسٍ في ذلك، لولا الزعم أنَّه ينقل وثيقةً أدبيَّةً تاريخيَّةً على وجه التوثيق. وقد أورد الشَّريفُ قِصَّة تأليف «النَّهْج» بما يشي بأنه خليطٌ من أصولٍ مرويَّةٍ وغير مرويَّة، وُظِّفت لهدفٍ بلاغيٍّ تربويٍّ تعليميٍّ مرسوم، وهو أن يفتح الكتاب للناظر في البلاغة أبوابها، «ويقرِّب عليه طِلابها، وفيه حاجة العالِـم والمتعلِّم، وبغية البليغ والزاهد.» وتأمَّل قوله، لتستشفَّ منه نحوًا ممَّا قلناه:

«فإنِّي كنتُ في عنفوان السِّن، وغضاضة الغُصن، ابتدأتُ بتأليف كتابٍ في خصائص الأئمة، عليهم السلام: يشتمل على محاسن أخبارهم، وجواهر كلامهم، حداني عليه غَرَضٌ ذكرتُه في صدر الكتاب، وجعلته أمام الكلام. وفرغتُ من الخصائص التي تخصُّ أمير المؤمنين عليًّا، عليه السلام، وعاقت عن إتمام بقيَّة الكتاب محاجزات الأيام، ومماطلات الزمان. وكنتُ قد بوَّبتُ ما خرج من ذلك أبوابًا، وفصَّلته فصولًا، فجاء في آخرها فصلٌ يتضمَّن محاسن ما نُقل عنه، عليه السلام، من الكلام القصير في المواعظ والحِكَم والأمثال والآداب، دون الخُطب الطويلة، والكتب المبسوطة. فاستحسن جماعةٌ من الأصدقاء ما اشتمل عليه الفصل المقدَّم ذِكره، معجَبين ببدائعه، ومتعجِّبين من نواصعه، وسألوني عند ذلك أن أبتدئ بتأليف كتابٍ يحتوي على مختار كلام مولانا أمير المؤمنين، عليه السلام، في جميع فنونه، ومتشعِّبات غصونه: من خُطب، وكُتب، ومواعظ وأدب.»(3)

ـ قلت: يا (ذا القُروح)، قرَّح الله عدوَّك! هنا نسأل: إذا كانت الخُطب العَلَويَّة بين يدَي هذا الشَّريف أو ذاك ابتداءً، فلِمَ قدَّم عليها «الكلام القصير في المواعظ والحِكَم والأمثال والآداب»؟!

ـ ألا يدلُّ كلامه على أنه: لمَّا رأى شغف الناس بتلك النُّتَف، أحبَّ التوسُّع؟

ـ إذا كانت الخُطب المطوَّلة لديه، فلِمَ لَم يهتمَّ بها حتى دُفِع إلى ذلك دفعًا؟

ـ ربما لأنها غير محقَّقة النِّسبة إلى (عَليٍّ)، لكنَّه لما رأى التشجيع على ضمِّها، تحمَّس لذلك، ففعل بعد أن صاغها بلسان عصره وبيانه.

ـ ثُمَّ إذا كان هذا تُراثًا متداولًا معروفًا، فكيف انتظر الناسُ (الشَّريف الرَّضِي)، أو أخاه، حتى يتفضَّل عليهم بجمعه وإخراجه ذلك المُخرَج الفريد؟!

ـ بل قل: في ذلك الزمن المتأخِّر جِدًّا، بعد زهاء 300 سنة؟! ثمَّ اقرأ ماذا قال (الشَّريف):

«عِلمًا أنَّ ذلك يتضمَّن من عجائب البلاغة، وغرائب الفصاحة، وجواهر العَرَبيَّة، وثواقب الكَلِم الدِّينيَّة والدُّنيويَّة، ما لا يوجد مجتمِعًا في كلام، ولا مجموعَ الأطراف في كتاب؛ إذ كان أمير المؤمنين، عليه السلام، مَشْرَعَ الفصاحة ومَوردها، ومَنشأ البلاغة ومَولدها، ومنه، عليه السلام، ظهر مكنونها، وعنه أُخِذت قوانينُها، وعلى أمثلته حذا كلُّ قائلٍ خطيب، وبكلامه استعان كلُّ واعظٍ بليغ. ومع ذلك فقد سبقَ وقصَّروا، وتقدَّم وتأخَّروا، لأنَّ كلامه، عليه السلام، الكلامُ الذي عليه مسحَة من العِلم الإلاهي، وفيه عَبْقَة من الكلام النَّبوي. فأجبتُهم إلى الابتداء بذلك، عالمًا بما فيه من عظيم النفع، ومنشور الذِّكر، ومذخور الأجر. واعتمدتُ به أن أُبين عن عظيم قَدر أمير المؤمنين، عليه السلام، في هذه الفضيلة، مضافة إلى المحاسن الدَّثِرَة، والفضائل الجمَّة. وأنه، عليه السلام، انفردَ ببلوغ غايتها عن جميع السَّلَف الأوَّلين، الذين إنَّما يُؤْثَر عنهم منها القليلُ النادر، والشاذُّ الشارد. فأمَّا كلامه، عليه السلام، فهو البحر الذي لا يُساجَل، والجمُّ الذي لا يحافَل.»(4)

ـ واضحٌ من هذا أنَّ الرجل لم يَعْمَد في تأليف «النَّهْج» إلى قِناعٍ فنِّي، كما رجَّحتَ أنت، بل هو مؤمنٌ بأنَّ ما يورده وثيقةٌ تاريخيَّةٌ عن (ابن أبي طالب). لكن لماذا انفرد عليٌّ «عن جميع السَّلَف الأوَّلين، الذين إنَّما يُؤْثَر عنهم القليلُ النادر، والشاذُّ الشارد»؟

ـ ليس إلَّا لسببَين:

1- أنَّ كلام العَرَب كان يميل إلى الإيجاز؛ فالإيجاز هو البلاغة، لا الخُطب المطوَّلة.

2- لأنَّ حِفظ النثر لا يتأتَّى بغير الكتابة، مهما بلغتْ قيمته، باستثناء الأمثال، لسيرورتها على ألسنة الناس جميعًا، وسهولة حِفظها، وارتباطها بمواقف الحياة اليوميَّة.

ـ إذن، لم يكن (عَليٌّ) ليمتاز على السَّلَف الأوَّلين، لولا شيعته الذين حفظوا مآثره، ثمَّ أضافوا إليها، كما أضافوا إلى شخص عَليٍّ نفسه، من ألوان الغُلُوِّ التي لا تخفَى.

ـ وأضفْ إلى هذا، أنهم إذا كانوا قد أضافوا إليه من الأخبار، وأضافوا إليه من المواقف، وأضافوا إليه من الصفات، وأضافوا إليه من الحيثيَّات والمقامات، ما بلغَ به لدَى غُلاتهم ما لم يبلغه بَشَر، فكيف يتورَّعون عن أن ينحلوه من الأقوال ما يتناسب مع ما نحلوه من الأفعال، ومن الخُطب ما يضاهي بعض ما نعتوه به من الصفات، أو رفعوه إليه من المراتب؟! هذا أيسر من ذاك، وأقرب منه مأتًى، وأشيع منه لدَى جميع الأحزاب والشِّيَع، وإنْ تواضَع شأنها وشأن من شايعتْ، فكيف وشأنها عظيم، وشأن من شايعتْ أعظم؟!

ـ غير أنَّ هذه ليست بالحالة الفريدة. فصَوْغ الخُطب بصِيَغ مختلفة عن الأصل أمرٌ مألوفٌ في التُّراث.

ـ أجل. فأنت واجد، مثلًا، للخُطَب المتبادلة بين المهاجرين والأنصار في (سقيفة بني ساعدة)، وفي طليعتها خُطبة (أبي بكر الصدِّيق)، روايات متباينة كثيرًا.(5) كيف لا، وقد كان النظر في ذلك إلى المعنى العام، لا إلى الألفاظ التي تَلفَّظ بها الخطيب أو الصِّيَغ التي استعملها، والتي يتصرَّف فيها الراوي، ويفتنُّ فيها ما شاء له الافتنان، ما دام في حدود المعنى والسياق. وهذا ما يظهر أن (الشَّريف) قد نَهَجَه. ولقد حدثَ ذلك حتى في بعض الحديث النبوي، الذي كان يُروى بالمعنى. وإذا كان التغيير يقع في الشِّعر- مع أن الأوزان والقوافي تحكم بناءه، وتيسِّر استظهاره وتداوله، وتحميه عبر توارثه في الثقافات الشفاهيَّة من التغيير- فكيف بالخُطَب؟!

[للحديث بقايا].

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

.......................

(1) يُنظَر: (1990)، نَهْج البلاغة، شرح: محمَّد عبده، (بيروت: مؤسَّسة المعارف)، 472- 476.

(2) يُنظَر: البُخاري، (1981)، صحيح البُخاري، ضبط وتعليق: مصطفى ديب البُغا، (دمشق، بيروت: دار القلم)، (الحديث 1323، 2933)، 1: 468، 2: 1129.

(3) النَّهْج، 77- 78.

(4) م.ن، 78- 79.

(5) وقد أورد (صفوت، أحمد زكي، (1933)، جمهرة خُطب العَرَب في عصور العَرَبيَّة الزاهرة، (مِصْر: مصطفى البابي الحلبي وأولاده)، 1: 62- 63) خطبة (أبي بكر) برواية (الطَّبَري) ثمَّ برواية «العقد الفريد» و«عيون الأخبار» و«البيان والتبيين»، وبين الروايتين اختلافٌ كبير. بل تبدوان روايتَين لخُطبتَين، لا لخُطبةٍ واحدة.

في الترقيات العلمية في الجامعات العراقية

يستخدم مؤشر اتش (H-index) على نطاق واسع كأحد المقاييس لتقييم اداء الباحثين وانتاجيتهم وتاثيرهم في مجالهم، ويعتبر مؤشرا سهلا ومباشرا نسبيا. فهو يعكس العلاقة بين عدد الابحاث المنشورة وعدد الاقتباسات التي حصلت عليها. ومع ذلك، فان الاعتماد المطلق عليه كمعيار اساسي للترقيات العلمية في الجامعات العراقية، في ظل الظروف الحالية، يعتبر خطا منهجيا وله اثار سلبية عديدة. ومن هذه الآثار السلبية أنه لا يجوز مقارنة باحثين في مجالات بحثية مختلفة اعتمادا على مؤشر اتش وحده، نظرا لاختلاف طبيعة هذه المجالات من حيث معدل النشر وعدد الاقتباسات. فبعض المجالات تشهد نشرا غزيرا واقتباسات متزايدة، بينما يشهد البعض الآخر نشرا أقل واقتباسات محدودة.  كما أن مؤشر اتش لا يأخذ في الاعتبار جودة الاقتباسات، حيث يحتسب الاقتباس السلبي كأي اقتباس آخر، مما قد يعطي صورة غير دقيقة عن تأثير البحث.  بالاضافة الى ذلك، هناك امكانية للتلاعب بالمؤشر من خلال الاقتباس الذاتي او الاقتباس المتبادل بين مجموعة من الباحثين، مما يقلل من مصداقيته كمعيار تقييم موضوعي.  لذا، عند تقييم الباحثين، يجب مراعاة طبيعة المجال البحثي وعدم إجراء مقارنات مجحفة بين مجالات مختلفة.

المشكلة الاساسية: غياب البيئة الداعمة للبحث العلمي الاصيل

يكمن جوهر المشكلة في ان استخدام مؤشر اتش كمعيار للترقية يتطلب وجود بيئة بحثية صحية وسليمة، وهو ما تفتقر اليه الجامعات العراقية بشكل عام. من ابرز جوانب هذا الخلل:

- نقص التمويل المخصص للبحث العلمي: يعتبر التمويل حجر الزاوية في اجراء البحوث العلمية الاصيلة. فبدون ميزانية كافية، يصعب على الباحثين اجراء تجارب مختبرية، وشراء مواد، وحضور مؤتمرات، ونشر ابحاثهم في مجلات مرموقة (التي تتطلب رسوم نشر). هذا النقص يدفع البعض الى البحث عن بدائل غير اخلاقية.

- انتشار "مصانع الاوراق" وشراء الابحاث: في ظل غياب التمويل وضغوط النشر للترقية، يلجا بعض التدريسيين الى شراء ابحاث جاهزة من "مصانع الاوراق" او دفع مبالغ مالية لادراج اسمائهم كمؤلفين في ابحاث مفترسة. هذه الممارسات تشوه العملية البحثية وتفرغ مؤشر اتش من معناه الحقيقي، حيث يصبح مجرد رقم لا يعكس اي جهد او اسهام علمي حقيقي.

- شراء الاقتباسات: بالاضافة الى شراء الابحاث، يلجا البعض الى شراء الاقتباسات لابحاثهم المنشورة، ما يضخم مؤشر اتش بشكل مصطنع. هذه الممارسة تعد نوعا من الاحتيال الاكاديمي وتقلل من مصداقية التقييم العلمي.

- التركيز الكمي على حساب الجودة: بسبب التركيز على مؤشر اتش، قد يركز الباحثون على نشر اكبر عدد ممكن من الابحاث بغض النظر عن جودتها او اهميتها العلمية. هذا يؤدي الى تدهور جودة البحث العلمي بشكل عام.

لماذا يعتبر هذا خطا في السياق العراقي؟

في البيئات البحثية المتطورة، يعتبر مؤشر اتش مؤشرا من بين مؤشرات اخرى تستخدم لتقييم الباحث. ولكن في السياق العراقي، حيث توجد هذه المشاكل الهيكلية، يصبح الاعتماد المطلق عليه مضللا وغير عادل. فهو يكافئ من يمتلك القدرة المالية على شراء الابحاث والاقتباسات، بدلا من مكافاة الباحثين المخلصين الذين يجرون بحوثا اصيلة في ظل ظروف صعبة.

الحلول المقترحة:

لتجاوز هذه المشكلة، لا بد من اتخاذ اجراءات شاملة، منها:

1. تطوير معايير تقييم بديلة: يجب تطوير معايير تقييم شاملة تركز على جودة البحث واصالته وتاثيره الحقيقي، بدلا من التركيز الكمي على عدد المنشورات والاقتباسات. يجب ان تشمل هذه المعايير:

- تقييم الاقران (Peer Review) من قبل باحثين متخصصين.

- اهمية البحث واثره في حل مشاكل المجتمع.

- المساهمة في تطوير المعرفة في مجال التخصص.

- المشاركة في المؤتمرات والندوات العلمية.

2- تتم المقارنة بين باحثين يعملون في نفس المجال أو مجالات متقاربة، وليس بين مجالات لها مؤشر اتش عالي كالعلوم الطبية والصحية وعلوم الكيمياء والفيزياء والاحياء والهندسة وعلوم الحاسوب التطبيقية، ومجالات لها مؤشر اتش منخفض كالعلوم الاجتماعية والانسانيات والفنون واللغات وعلوم الارض وبعض فروع العلوم الزراعية وعلوم الرياضيات والحاسوب النظرية.

3.  زيادة التمويل المخصص للبحث العلمي: يجب على الجامعات والحكومة زيادة الميزانية المخصصة للبحث العلمي، وتوفير منح بحثية للباحثين.

4.  تشديد الرقابة على المجلات العلمية: يجب وضع معايير صارمة لاعتماد المجلات العلمية، ومكافحة المجلات المفترسة.

5.  نشر ثقافة النزاهة الاكاديمية: يجب على الجامعات تعزيز ثقافة النزاهة الاكاديمية ومكافحة الممارسات غير الاخلاقية في البحث العلمي.

باختصار، مؤشر اتش اداة مفيدة في ظروف معينة، ولكن استخدامه كمعيار للترقية في الجامعات العراقية يعتبر خطا فادحا في ظل الظروف الحالية. يجب معالجة المشاكل الهيكلية في البيئة البحثية وتطوير معايير تقييم شاملة لضمان عدالة وشفافية الترقيات العلمية وتشجيع البحث العلمي الاصيل.

***

ا. د. محمد الربيعي

 بروفسور متمرس ومستشار علمي، جامعة دبلن

 

على مر التاريخ، لعب الفن دورًا كبيرًا في توثيق الثقافة ونقلها عبر الأجيال، فاللوحات والتماثيل، على سبيل المثال، ليست مجرد أعمال فنية؛ بل هي شهادات حية على طبيعة الحياة والقيم والمعتقدات في فترات زمنية مختلفة، وفيما يخص العلاقة بين الثقافة والفن، هناك نظرة تقول: بأن الثقافة تُعتبر الحاضنة الأساسية للفن، فهي التي تُلهم الفنانين ليُعبروا عن رؤاهم وتجاربهم بأساليب مُختلفة مثل الموسيقى، الرسم، المسرح، والسينما. الفن بدوره يُعيد تشكيل الثقافة من خلال تقديم رؤى جديدة وأفكار مبتكرة تُحفز على الحوار المجتمعي والتطور الفكري.

الثقافة والفنون - وجهان لعملة واحدة تُعبر عن هوية الشعوب وتعكس تطورها الحضاري، فالثقافة تُشكل الإطار الذي يُحدد أسلوب حياة المجتمع، بينما الفن هو الوسيلة التي تُعبر عن هذه الثقافة بأساليب إبداعية تلمس القلوب وتُلهم العقول، حيث إن التراث والعادات والتقاليد هما الآخران يمثلان ثقافة وفنون الشعوب التي تقدم من خلالها نفسها للآخر، أو تروج وتعرف بنفسها عبرهما

ولا بد أن ندرك هنا أن الثقافة والفن ليسا مجرد عناصر ترفيهية، بل هما أدوات قوة ناعمة تُعزز من مكانة الاوطان وتُسهم في بناء جسور التفاهم بين الشعوب، الفن يعتبر اداه من ادوات تطبيق الثقافة في جميع النواحي وتساهم الثقافة في تنمية مدارک الانسان وخلق انواع جديدة من الفنون، وهذا يؤکد علي الارتباط الوثيق بين الفن والثقافة. وبذلك يمکن القول بأنه لاتوجد فنون دون ثقافة ولا توجد ثقافة دون فنون، لذلك نجد في اتحادهما انتاج ابداعي متميز

حقيقة الثقافة والفن في بلدنا فقد شعروا بالاهمال المتعمد والتهميش، حال دون أن يأخذوا فرصتهم الحقيقية في الحياة طيلة السنوات العجاف التي مر بها البلد، وبقي المثقف والفنان أسير هذه الضوابط والتعليمات منقادا بسلوكيات وسيطرة الأحزاب وبالتالي حرمتنا المتعة وصور الأبداع على المستويين العام والخاص إلا ماندر، فلو كانت تعرف ان الثقافة عنصر مهم من عناصر المعرفة الشخصية والإبداعية تمكن صاحبها من التناغم والتحاور مع العالم الاخر بشكل علمي عبر بواباته المختلفة الادبية والعلمية و جسرا مع العالم في تبادل المعرفة والتواصل لتطوير البلد والمعرفة الشخصية لما وقفت موقف المتفرج من هذا المفهوم.

نظرة بسيطة في سنواتنا القليلة الحديثة نرى ذلك بوضوح فلا مسرح جاد ولا أغنية تطرب ولا ثقافة تغني ولا موسيقى تشنف الاسماع ولا دراما،، وزارة الثقافة المفرغة من محتواها تتحمل الجزء الكبير في هذا الجانب بعد ان وقفت موقف المتفرج من عدم رعاية المواهب ودعم المبدعين وخلق الفرص من اهتماماتها لهم، وتركت منارات التميز بلا رعاية واهتمام كقاعات مسرح الفن الحديث ومسرح الرشيد وقاعات اخرى كثيرة مهملة في عالم النسيان، إبراز تاريخنا الحديث والاهتمام بأصحاب المواهب بحاجة لرعاية ودعم سوآءا على مستوى الدولة أو القطاع الخاص والسعي لخلق حالة التنافس بين الاخرين من خلال برامج وخطط معدة سلفا نكون قد ساهمنا ولو بشكل يسير لدعم المسيرة الثقافية والفنية بالبلد بعد هذا السبات المتعمد.

***

نهاد الحديثي

 

مفتتح: أصبحت مسألة التراث والموروث الثقافي، موضة كل المنتديات واللقاءات الفكرية والكتابات الثقافية فكثيرة جدا الكتب والمطبوعات التي تصدر والندوات واللقاءات التي تعقد في مختلف أنحاء العالم لتدارس هذه المسألة والقضية، وتسعى هذه الكتابات والندوات إلى تحديد نوعية العلاقة التي يجب أن تربط الأمة وموروثها الثقافي.

بالطبع فإن هذا التوجه نحو الماضي والتراث بشكل عام يستجيب لذلك الإحساس الذي تستشعره الأمة العربية والإسلامية في حاضرها، وهو ضرورة العودة إلى تاريخها وأصالتها والإستمداد منه لتكوين الوجود الثقافي والحضاري بعيدا عن الإستنساخ الحرفي لحضارة الغرب ونمط عيشه وحياته. 

انهيارات الواقع 

ولا شك أن توجه الأمم والشعوب نحو تاريخها وموروثها الثقافي تشرطه دوافع الحاضر ومتطلباته وتؤثر فيه إلى حد بعيد. والذي يراجع التاريخ يكتشف أن الشعوب تزداد إشغالا بتاريخها وماضيها حيث يكون حاضرها مأزوما ويعيش القهقري، فكيف يمكن إغفال حالة التزامن في ظهور تاريخ الطبري وفتنة القرامطة.

إن الأزمات الكبرى التي تطال حاضر الإنسان دائما تدفع به إلى استعادة تاريخه والإنشداد إلى ماضيه المجيد،  ولذا ليس من الصدف والعبثية أن يطغى على الخطاب العربي بعد حرب 1967م انشغال عميق بدراسة التراث وإعادة قراءته، والواقع أن عودة الأمم إلى تاريخها حين تأزم حاضرها هو نوع من الإدراك الطبيعي والإيجابي الذي تتمتع به الأمة، حيث غبية تلك الأمة التي تحاول تبديل حاضرها المأزوم من دون استعادة ماضيها وموروثها الثقافي والعقدي. 

وغبية تلك الأمة التي تستغني عن تجاربها التاريخية وتنطلق من الصفر، فلا يبتدئ من الصفر إلا الصفر نفسه!  (والمجتمعات المأزومة، كما يعلمنا التاريخ، هي أكثر المجتمعات عناية بماضيها، بإعادة الانتباه إليه، وإعادة التفكير فيه وقراءته، عساها تعثر في خبرته التاريخية عن أجوبة ناجزة أو خدمات قابلة لتصنيع أجوبة، عن مشكلات حاضرها. وقد تأخذ الأزمة في هذه الحال، شكل انقسام ثقافي واجتماعي داخلي، حول تصور المستقبل، بين قوى مهيمنة، تفرض هيمنتها باسم ماض تخلع عليه أردية من التقديس، وقوى جديدة صاعدة، تحاول أن تعيد قراءة ذلك الماضي في ضوء مصالحها الجديدة. كما قد تأخذ الأزمة شكل خوف على الهوية مما يتهددها من أخطار المحو، أو التلاشي، أو التهميش، على نحو ماعرفت ذلك مجتمعات تعرضت للاحتلال الأجنبي. وهي ربما أخذت أشكالا أخرى مختلفة تبعا لنوع الشروط التاريخية والبيئات الاجتماعية التي نشأت فيها)

ولكن هذا التوجه إلى التراث ومتعلقاته الذي نشهده حاليا في حياتنا الثقافية والفكرية العربية والإسلامية، لا زال محتاجا إلى كثير تقويم ودراسة، فلا يخلو من سلبيات متعددة، وأول هذه السلبيات وأخطرها، أن أغلب الدراسات والقراءات المتواجدة حاليا تنطلق من مفاهيم ومنهجيات غربية، فتكون إمكانية الرؤية والإبصار تتحكم فيها مناهج الغرب وتطوراته، والمنهج بطبيعة الحال ليس أداة صامتة سالبة، وإنما هو وساطة تنهض بمسؤولية خطيرة، وهي تقل الموضوع إلى الذات , ولذا فالوساطة المنهجية الغربية حين  تتصادم بتراثنا وتاريخنا لا تنقل إلينا منه إلا ما يتوافق مع مسلماتها العقدية والفلسفية، وهكذا لا تعجب حين تنقل إلينا الوساطة المنهجية مكونات هامشية من تاريخنا وتغفل أو تتجاوز المكونات الحقيقية لتاريخنا وماضينا.

كيف نقرأ التراث؟

سعت مختلف المدارس الفكرية والسياسية ف المجال العربي إلى الاستفادة من التراث في تدعيم أيدولوجياتها وتسويغ خياراتها وأنها الامتداد الفكري والثقافي لتلك المدرسة أو الفئة في التاريخ والتراث.. فتحول من جراء ذلك التراث إلى فضاء للتوظيف بكل ما للكلمة من معنى.. فالتيارات العقلانية والمادية، عملت على إبراز هذه الجوانب من التراث، وكتبت في سبيل ذلك الكثير من الأبحاث والدراسات، التي توضح النزعات المادية والعقلانية في التراث.. كما أن التيارات النقلية والنصية عملت على إبراز هذا الجانب من التراث العربي والإسلامي.. فعمل كل طرف على إبراز رموزه من التراث، وانتصر للبعض على حساب البعض الآخر.. وكل طرف يدعي أن هذه الشخصية أو تلك الفئة هي الجانب الناصع الذي ينبغي إبرازه من تراثنا.. 

فعمل الجميع ومن مواقعهم الأيدلوجية والسياسية المختلفة على إعادة صوغ الماضي والتراث بما يتناسب ورؤى ومواقف هذه المجموعات من الراهن. فأصبح الموقف من التراث، هو انعكاس طبيعي لمستوى التباين الأيدلوجي والسياسي الحالي.. فيتم الصراع بأدوات وموضوعات وشخصيات تراثية.

ولعل من أهم الأسباب التي ساهمت بشكل أو بآخر في تشويه التراث أو عدم فهمه ومعرفته حق المعرفة، هو حالة التوظيف والتعسف الأيدلوجي في التعامل مع التراث. فكل الأطراف تعاملت مع التراث، تعاملا انتقائيا وسياسيا.. فالذي يتبنى المقولات العقلانية فضل المعتزلة على غيرهم، واعتبرهم هم رموز الإسلام والتراث وتغافل أو تجاهل عن ما ارتكبوه من قمع فكري وعمليات إقصاء وتهميش حقيقيين لكل مخالفيهم في أيام المحنة. والذي تبنى المنهج الفلسفي رفع من شأن ابن رشد وذم غيره، واعتبر أن متطلبات النهوض المعاصر، بحاجة إلى إحياء تراث ابن رشد. ومن موقع آخر ولاعتبارات فلسفية وعرفانية، هناك من أبرز مساهمات ابن سينا وعده هو فيلسوف الإسلام الأول.. وهكذا تم التعامل مع التراث بكل مقولاته ورموزه بانتقائية فجة وتوظيف متعسف، لا يعتني بحقائق التراث ومعارفه، بل يعمل على تكريس خياراته ومتبنياته الراهنة. وهكذا تصر النخبة على حد تعبير (الفضل شلق) لدينا على التواصل مع التراث وعلى الانقطاع عن التاريخ كما مع العالم الخارجي الراهن، للتأكيد على أن إنجازاتها يجب أن لا تقاس بعظمة إنجازات الماضي ولا بالمقاييس العالمية الراهنة، بل على أساس معايير تصاغ داخليا، على أساس معايير تضع هي شروطها ومواصفاتها. فهي تشيد لنفسها، عن طريق مقولة التراث، مكانا تختبئ فيه، فلا تظهر عيوبها.. فالممارسة الفكرية والنظرية التي تقرأ التراث بعيون أيدلوجية معاصرة، هي ممارسة انتقائية، وتستهدف بالدرجة الأولى تعزيز المواقع الأيدلوجية وتوظيف التراث بكل دلالاته وشحناته المعنوية لخدمة بعض الأغراض السياسية والأيدلوجية المعاصرة.. لذلك فإننا نعتقد أن كل القراءات الأيدلوجية للتراث، هي قراءات انتقائية وليست أمينة للتراث، إذ تجاهلت جوانب عديدة منه، وتغافلت عن بعض أحداثه وشخصياته. من هنا نحن بحاجة اليوم إلى إعادة قراءة التراث قراءة جديدة نتجاوز من خلالها كل التحيزات الأيدلوجية التي مورست بحق التراث.. وفي تقديرنا أن من أهم مواصفات القراءة الموضوعية للتراث هي النقاط التالية : 

1. أن تكون القراءة تحليلية، وتبتعد عن كل القراءات التبجيلية للتراث. نحن بحاجة أن نتعرف على هذا التراث بوصفه تجربة إنسانية – تاريخية , تحتضن الغث والسمين، وفيها المواقف الشجاعة كما فيها المواقف الانهزامية، وفيها الشخصيات العملاقة في علمها وعملها والتزامها، كما فيها الشخصيات الوصولية والانتهازية التي كان همها الأساسي هي مصالحها الآنية والضيقة.. لذلك فإننا بحاجة إلى قراءة تحليلية للتراث ترصد المتغيرات وتبحث عن أسبابها، وتتعامل مع التراث بوصفه تجربة إنسانية عميقة، تحتضن العناصر الخيرة والشريرة معا.. ومهمتنا هي قراءة التراث بموضوعية وبعيدا عن التحيزات الأيدلوجية أو المواقف المسبقة.. 

2. إن التراث كتجربة إنسانية لا قدسية لها، لذلك من المهم أن نقرأ هذه التجربة بروح علمية رصينة وبعيدا عن الانتماءات الضيقة.. فالمطلوب هو التحرر من الرؤى الضيقة التي تعمل بشكل أو بآخر لتوظيف التراث لمصالح فئوية ضيقة. فالقراءة المطلوبة للتراث، هي التي تتحلى بالعلمية حي التعاطي والتعامل مع مختلف أحداثه وشخصياته. وهنا من الضروري التفريق بين التراث والنص الديني. إذ أن التراث هو جملة المنجزات التاريخية الإنسانية في قطاعات الحياة المختلفة. وبالتالي فإن المقصود بالتراث هو مجموع اجتهادات وكسب الإنسان المسلم عبر التاريخ. بينما النص هو الوحي الإلهي الذي لا يأتيه الباطل ولا يعتوره التغيير.

3. التراث في أي أمة، يتحول إلى مؤثر حقيقي وفاعل، حينما تتحرك الأمة باتجاه صناعة راهنها وفق نسقها الحضاري. أما السكون والجمود وتضخم عقلية ليس بالإمكان أبدع مما كان، فإنه يحول التراث إلى عبء يزيد من عوامل الإحباط في جسم الأمة. فالأمة المتحركة والفاعلة والحية هي وحدها التي تستفيد من تراثها الخاص وتراث الإنسانية أيضا.. 

والتراث في زمن الجمود والتقهقر الحضاري، يتحول إلى بديل عن الراهن. بمعنى أن المجتمع الجامد والمنهزم لا يستطيع أن يواجه واقعه بشجاعة، ويلجأ إلى تراثه، للعيش على أمجاده، ولكي يجبر نقصه الحالي.. لذلك فإن الاهتمام والاستغراق في التراث في زمن الهزائم، قد يكون هروبا من الحاضر واستقالة عن مسؤوليات المرحلة. فالتراث بعناوين متعددة حاضر بيننا، ولكن ينبغي أن لا نعتقد أنه بديلا عنا، أو يقف موقفا مضادا من كسبنا في مختلف مجالات الحياة الإنسانية.. لذلك كله لا يمكن أن نقرأ التراث قراءة حضارية ونحن نعيش السكون والجمود.. فالواقع الجامد لا يخلق إلا قراءة تبريرية وجامدة للتراث.. من هنا فإن من الشروط الأساسية لقراءة التراث قراءة صحيحة وسليمة هو فعالية المجتمع وحيويته وديناميته. فالجمود يحول التراث إلى وسيلة للهروب من تحديات وآفاق الراهن. كما أن السكون يحول التراث بكل مضامينه ورموزه إلى عبء حقيقي على الحاضر. فالحضور والحيوية والفعالية الاجتماعية، هي وحدها التي تفضي إلى قراءة حضارية للتراث. وبكلمة فإن النهضة الاجتماعية والثقافية، هي التي تجعل بتأثيراتها ومتوالياتها المجتمع يقوم بقراءة جديدة لتراثه، تحوله لمحفز ومحرض للمزيد من العمل والبناء.. لذلك فإن مهمة قراءة التراث، تتعدى مسألة طباعة الكتب التراثية والانكفاء على قضاياه أو همومه، وإحياء كل أشكال الفلكلور الشعبي، وتصل إلى مستوى التجاوز بالمعنى الفلسفي والمعرفي. بمعنى أن مهمة قراءة التراث، تتطلب الفعل الراهن والشهود الحضاري والحيوية الاجتماعية، حتى يتواصل الفعل الإنساني المبدع عبر التاريخ. والحفاظ الحقيقي على التراث، يتطلب العمل على البناء والإبداع.. فلا معنى لحفظ التراث ونحن نعيش الجمود والتراجع، إن الوسيلة الحقيقية لحفظ التراث، هي حيويتنا وأعمالنا النوعية التي تتجه صوب الفرادة والإنجاز.. 

فالقراءة الحية للتراث، تتطلب قاعدة اجتماعية نهضوية تستوعب حقائق التراث دون التيبس عندها، وتنطلق بوعي عميق نحو التطوير وخلق حقائق التقدم في الفضاء الاجتماعي.. فالجمود لا يفضي إلا إلى قراءة متخشبة وتبريرية للتراث، ولا يمكن الاستفادة من دروس التاريخ وعبر الماضي وحقائق التراث إلا بوعي ثقافي واجتماعي جديد، يزيل عن عقولنا كل أشكال الزيف ويطرد من فضائنا كل أشكال الترهل، ويعمل على التحرر من كل الأعباء والاحباطات التاريخية والاجتماعية. 

وإن هويتنا الاجتماعية والثقافية، هي في صيرورة مستمرة، لا بمعنى أنها سيالة ورخوة، وإنما بمعنى أنها متجددة ولا يمكن أن تكون ثابتة حتى الجمود. وإن كل نقد للتراث وقراءة جديدة له، هي مساهمة في صيرورة الهوية وتجددها.

 وإن المرحلة الراهنة بكل تحدياتها وصعوباتها وآفاقها وفرصها، تتطلب منا قراءة نهضوية وحضارية لتراثنا حتى نستمد منه عنفوانا وشهودا وحيوية، ونضيف إليه من جهدنا وسعينا الحثيث نحو صناعة المنجز وتحقيق التطلعات والطموحات العامة..

***

أ. محمد محفوظ – باحث سعودي

"يبدأ ضوء الفجر في تسليط شعاعه على جزيرة "شيريا"، حيث تنبثق أرض الفياكينج بجمالها المذهل، ويكتشف أوديسيوس، المنهك جراء تحطم سفينته، هذا المشهد الطبيعي الخلاب. مصب النهر الذي تحيط به المساحات الخضراء، والمياه المتدفقة بغزارة وانسيابية، يمثل خلفية مكانية لظهور مجموعة من الفتيات بجانب عربة تجرها البغال، وهنّ يغسلن ملابسهن بفرح عارم. في هذا المشهد، حيث يلتقي أوديسيوس مع ناوسيكا، التي اختارتها الإلهة أثينا، تكمن العناصر الأساسية التي تحدد التجربة الجمالية التي نقلها الفن عبر العصور." فالرسوم المنقوشة على "الأمفورا الحمراء" التي ترجع إلى حوالي عام 440 قبل الميلاد، والتي تم العثور عليها في منطقة " فولسي" وحفظت في متحف بميونيخ، تجسد بشكل رمزي هذه التجربة الجمالية، حيث يُستحضر الفعل الفني المتجسد في القصة التي يرويها الفن، فينشأ تفاعل مع المشاهد الذي يفتح آفاق الدهشة والتأمل.

التجربة الجمالية، في جوهرها، ليست مجرد رؤية عابرة أو استمتاع سطحي بالجمال، بل هي عملية اجتماعية عميقة، تنبع من تفاعل الذات الإنسانية مع العالم والآخرين. إن هذه التجربة تنفتح على غموض الأشياء، وتكسر رتابة العادات التي غالباً ما تخفي الأعماق المخبأة في تفاصيل حياتنا والعالم المحيط بنا. ومن هنا، يمكن فهم العلاقة بين الفنان والمجنون، وبين الفن والجنون، فكل منهما يمتلك القدرة على دفع الإنسان ليشعر ويتفاعل مع العالم بطريقة غير مألوفة، ليكشف عن أجزاء من الذات البشرية التي لا يمكن الوصول إليها إلا عبر تلك التجارب الاستثنائية.

الدهشة، التي لا تقتصر على كشف أمر جديد، بل تكشف عن أبعاد لم تكن في حساباتنا من قبل، هي المحرك الذي يكسر القيود التي يفرضها العقل في العادة. هنا، يكمن الرابط العميق بين الفن والجنون، وبين الإبداع والخروج عن المألوف. القدرة على رؤية العالم من زوايا غير تقليدية، هي التي تفتح الأبواب أمام إمكانيات لا محدودة للفهم والتحول. على هذا النحو، يمكن للفن، بكل تنوعاته، أن يكون المصدر الذي يعيد تشكيل الإنسان، ليجعله أكثر وعياً بحساسياته، وأكثر استعداداً للانفتاح على عوالم جديدة من الفهم والاكتشاف.

عندما يتحدث "جوزيف برودسكي" في خطابه بمناسبة حصوله على جائزة نوبل عن ارتباط الجمال بالأخلاق، فإنه يشير إلى العلاقة الجوهرية بين الفنون والفهم الأخلاقي، حيث يرى أن الجمال في أساسه هو مرشد للخير والشر، وأن التجربة الجمالية تسبق المفاهيم الأخلاقية بل تتفاعل معها وتوجهها. لا يختلف "لامبرتو مافي" في رؤيته، حيث يربط بين الفن والجنون بشكل يبرز القدرة على تجاوز القيود التقليدية التي تُصنف الناس والمفاهيم. هذه الرؤية تستدعي التفكير في أولئك الذين يستطيعون "تغيير العالم" رغم أنهم لا يسيرون في المسارات المألوفة، فإذا كان الجمال ليس هو السبيل الوحيد للإنقاذ، فإنه بالقطع يمكن أن يكون دافعاً للتغيير عبر أولئك الذين يجرؤون على الخروج عن المألوف، حتى لو كانوا "مجانين" أو مختلفين عن المعايير الاجتماعية السائدة.

منذ العصور القديمة، كان الفكر الإبداعي مرتبطاً بمفهوم الجنون. يقدم "سقراط"، الذي دفع حياته ثمنًا لإبداعه الفكري، مثالاً على هذا الارتباط بين الجنون والإبداع، وهو ما يتكرر في أعمال الأدباء والفنانين الذين يعبرون عن هذه الفكرة بشكل لا لبس فيه. يقال إن الجنون ليس مجرد حالة عقلية غير مستقرة، بل هو حالة إنسانية معقدة، تتسم بالتغير المستمر في حدودها وتعريفاتها عبر التاريخ.

كما أكدّا كل من "فوكو" و"باساليا" على أن الجنون ليس مجرد اضطراب نفسي، بل هو سمة إنسانية تطورت عبر الزمن، وتستمر في التأثير على كيفية فهمنا لأنفسنا. من خلال تأمل علاقة الفن بالجنون، يبدو أن هذه العلاقة تتجاوز حدود الفهم العقلاني المألوف، لتفتح أفقًا لإدراك أعمق لما يعنيه أن تكون إنسانًا. الفن لا يتعلق فقط بالتمثيل الواقعي، بل بإعادة تشكيل الواقع نفسه، والتفاعل معه بطرق مبتكرة.

فالجنون يمكن أن يكون مصدرًا للإبداع والتغيير، بعيدًا عن الحتمية العصبية أو الجينية التي قد تحدد مسار الإنسان. فكما أن الحياة قد تكون محدودة بنظامها الاجتماعي أو البيولوجي، إلا أن هناك دائمًا مساحة للتغيير والانفصال عن القيود، سواء من خلال الفن أو من خلال الجنون. الأفق الذي يفتحه الجنون والإبداع لا يمكن تفسيره بأدوات العقلانية التقليدية، بل يتطلب فكرًا حرًا قادرًا على النظر إلى ما وراء الظواهر المألوفة.

ليظل الجنون بمثابة مسار غير مألوف للحقيقة، يمكّن الإنسان من إعادة تشكيل نفسه والواقع من حوله. ولكن هذا يتطلب قدرة على الخروج عن المعتاد، والتخلي عن الراحة التي توفرها العادات والأفكار التقليدية. قد يكون العالم في حاجة إلى أولئك الذين يجرؤون على "الجنون" ليغيروه، كما في قول لامبرتو ما في: "الحمقى فقط من سيغيرون العالم".

***

الأستاذ محمد إبراهيم الزموري

في خضم التحديات التي تواجه وطننا، يظل التعليم العالي منارة الامل وشعلة التغيير. ففي عام 2024، شهد العالم نقلة نوعية في مناهج التعليم واساليب البحث، شكلت منعطفا هاما في مسيرة التعليم العالي، حيث شهد تحولات جذرية في المناهج الدراسية واساليب التدريس والبحث العلمي، بما يتماشى مع متطلبات العصر واحتياجات سوق العمل المتغيرة. من هنا، تبرز اهمية التعرف على هذه التطورات بالنسبة لوطننا، اذ يعد تطوير منظومة التعليم العالي في الدول العربية وبالخصوص العراق ضرورة لمواكبة هذه التطورات العالمية وتحقيق التنمية المستدامة. يشمل ذلك الاطلاع على احدث المناهج والبرامج التعليمية في الجامعات العالمية لتطوير المناهج العربية وتخريج كفاءات قادرة على المنافسة عالميا. كما يعد تعزيز البحث العلمي والابتكار اساسا للتنمية، من خلال الاطلاع على احدث التطورات وتشجيع الابتكار لا يجاد حلول للتحديات. ويتحقق التطوير ايضا بتحسين جودة التعليم عبر الاطلاع على افضل الممارسات وتوفير بيئة تعليمية محفزة.

بناء على نتائج البحث، تميز عام 2024 بعدة جوانب مهمة في مجال الجامعات والتعليم العالي على مستوى العالم، والتي سنتناولها بالتفصيل في هذا العرض. باعتقادي ان فهم هذه الجوانب وتحليلها هو خطوة اساسية نحو وضع استراتيجيات فعالة لتطوير التعليم العالي وتحقيق التنمية الشاملة. من ضمن هذه الجوانب:

تطوير المناهج الدراسية:

تجلى التوجه في تطوير المناهج من خلال عدة جوانب متكاملة، حيث لم يعد التعليم مجرد تلقين نظري بل اصبح يركز بشكل كبير على اكتساب الطلاب مهارات عملية قابلة للتطبيق في سوق العمل، وذلك عبر دمج التدريب العملي والمشاريع الواقعية في المناهج الدراسية واشراكهم في حل مشكلات حقيقية تواجه الشركات والمؤسسات. كما ازداد التركيز على تطوير المناهج متعددة التخصصات لتلبية حاجة سوق العمل للخريجين الذين يمتلكون معرفة ومهارات في مجالات متنوعة، مثل البرامج التي تجمع بين الهندسة والادارة او علوم الحاسوب والاقتصاد، بهدف تخريج كوادر قادرة على التعامل مع التحديات المعقدة. ويعتبر الاهتمام بالتكنولوجيا والابتكار من المحركات الرئيسية لهذا التغيير، حيث اولت الجامعات اهمية كبيرة لتضمينها في مناهجها من خلال تدريس احدث التقنيات واساليب البحث العلمي وتشجيع ريادة الاعمال وتطوير المشاريع الخاصة. اضافة الى ذلك، عززت الجامعات مهارات التعلم الذاتي والتفكير النقدي لدى الطلاب لمساعدتهم على مواجهة التحديات المتجددة في سوق العمل والتكيف مع التغييرات المستمرة، وذلك عبر تشجيع البحث والاستقصاء والتفكير النقدي وحل المشكلات بشكل ابداعي. وجسدت جامعات عالمية رائدة هذا التوجه بشكل واضح، فمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) عزز من مشاريعه في تشجيع الطلاب على المشاركة في مشاريع بحثية متقدمة وتطوير تقنيات جديدة، كما قدم برامج دراسية متعددة التخصصات تجمع بين الهندسة وعلوم الحاسوب والادارة. وبالمثل، وفرت جامعة ستانفورد برامج تدريبية وورش عمل لمساعدة الطلاب على تاسيس شركاتهم الخاصة، مع التركيز على تطوير مهارات التفكير النقدي وحل المشكلات. اما جامعة كامبريدج فتميزت بتقديم برامج دراسية متنوعة تغطي مختلف المجالات، مع تشجيع المشاركة في الانشطة اللامنهجية لتطوير المهارات الشخصية. وفي اليابان، اولت جامعة طوكيو اهتماما كبيرا بتطوير التكنولوجيا والابتكار واجراء ابحاث متقدمة في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي والروبوتات، مع التركيز على تعليم القيم الاخلاقية والمسؤولية الاجتماعية.

الاهتمام بالبحث العلمي والابتكار:

شهد عام 2024 اهتماما متصاعدا بالبحث العلمي والابتكار، تجسد في تعزيز التعاون بين المؤسسات الاكاديمية والجهات البحثية والهيئات الصناعية، بهدف تحويل نتائج الابحاث العلمية الى تطبيقات عملية تساهم في دفع عجلة التنمية. لم يعد البحث العلمي مجرد نشاط اكاديمي منعزل، بل اصبح محركا اساسيا للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، من خلال التركيز على دعم وتمويل البحث العلمي والابتكار، وتشجيع الطلاب والباحثين على الانخراط الفعال في هذا المجال. يتجلى هذا الاهتمام في جوانب متكاملة، منها التركيز على البحوث متعددة التخصصات التي تساهم في ايجاد حلول شاملة للمشكلات المعقدة التي تواجه الصناعة والمجتمع، ودعم البحوث التطبيقية التي تؤدي الى تطبيقات عملية قابلة للتسويق والاستخدام، وتشجيع ريادة الاعمال القائمة على المعرفة من خلال تحويل نتائج الابحاث الى شركات ناشئة، وتعزيز التعاون الدولي في مجال البحث العلمي لتبادل المعرفة وتسريع وتيرة الاكتشافات. وتجسد جامعات عالمية هذا التوجه من خلال تمويل ودعم بحوث ضخمة، فجامعة كاليفورنيا، بيركلي، تعرف بابحاثها المتقدمة في مجال الطاقة المتجددة، حيث قادت مبادرة "معهد الطاقة الحيوية" الذي يهدف الى تطوير وقود حيوي مستدام من مصادر غير غذائية. كما تشتهر جامعة تورنتو في كندا بابحاثها الرائدة في مجال الذكاء الاصطناعي، حيث ساهم باحثوها في تطوير تقنيات التعلم العميق التي تستخدم اليوم في مختلف التطبيقات. وفي سويسرا، تعتبر جامعة زيورخ مركزا رائدا للابحاث في مجال علم الاعصاب، حيث تجري ابحاثا متقدمة لفهم وعلاج الامراض العصبية مثل الزهايمر وباركنسون. اما في اسيا، تولي جامعة سنغافورة الوطنية اهتماما كبيرا بابحاث الاستدامة والتنمية الحضرية، حيث تجري ابحاثا متطورة لايجاد حلول لمشاكل الازدحام والتلوث وتغير المناخ في المدن الكبيرة. هذه الامثلة تؤكد على الاهمية المتزايدة للبحث العلمي والابتكار في مواجهة تحديات العصر وتحقيق التنمية المستدامة.

تحسين جودة التعليم:

شهد عام 2024 جهودا متزايدة لتحسين جودة التعليم العالي وتوفير بيئة تعليمية محفزة على الابداع والابتكار، وذلك من خلال التركيز على تطوير البنية التحتية والتجهيزات، وتحسين وضعية اساتذة التعليم العالي، واعتماد ابتكارات تربوية حديثة. لم يقتصر التطوير على جانب واحد بل شمل جوانب متعددة ومتكاملة. ففي مجال البنية التحتية، شهد التعليم العالي تطوير المكتبات الرقمية لتوفير مصادر المعلومات الالكترونية، وانشاء فضاءات للابتكار وريادة الاعمال. اما فيما يتعلق بتحسين وضعية اساتذة التعليم العالي، فقد تم التركيز على رفع مستوى الرواتب والحوافز، وتوفير فرص التطوير المهني والتدريب المستمر، وتوفير بيئة عمل محفزة على البحث العلمي والابتكار. والاهم من ذلك، تمت زيادة كبيرة في الاعتماد على الابتكارات التربوية الحديثة التي تركز على التفاعل والمشاركة، مثل اسلوب "التعلم القائم على المشاريع" حيث يكلف الطلاب بانجاز مشاريع واقعية تمكنهم من تطبيق المعرفة النظرية، واطلاق برامج جديدة متخصصة في المجالات الناشئة كبرامج الماجستير في الذكاء الاصطناعي، وتوسيع نطاق التعاون الدولي وتبادل الطلاب والاساتذة لتبادل الخبرات، وانشاء مراكز للتميز في مجالات محددة كمركز للتميز في الطاقة المتجددة، ورقمنة الخدمات الجامعية لتسهيل الاجراءات الادارية. ومن الامثلة الملموسة على هذه الابتكارات، نجد جامعات بدات في استخدام تقنيات الواقع الافتراضي والمعزز في التدريس لزيادة التفاعل وجعل المفاهيم اكثر وضوحا، كما بدات جامعات اخرى في اعتماد نظام التعليم الهجين الذي يجمع بين التعليم وجها لوجه والتعليم عن بعد، مما يتيح مرونة اكبر للطلاب. بالاضافة الى ذلك، تم التركيز على تطوير مهارات القرن الحادي والعشرين لدى الطلاب، مثل مهارات التفكير النقدي وحل المشكلات والعمل الجماعي والتواصل الفعال، من خلال ورش العمل والانشطة اللامنهجية. تؤكد هذه الجهود على التزام الجامعات بتحسين جودة التعليم العالي وتوفير بيئة تعليمية محفزة على الابداع والابتكار، مما يساهم في تخريج كوادر مؤهلة قادرة على المساهمة في بناء مستقبل مزدهر.

دمج المؤسسات التعليمية والكليات:

شهد عام 2024 توجها متصاعدا نحو دمج الجامعات والكليات في مؤسسات تعليمية اكبر، بهدف تحقيق ادارة اكثر فعالية، وترشيد استخدام الموارد، وتحسين جودة التعليم. يعتبر هذا الدمج استراتيجية تهدف الى تعزيز الكفاءة والفعالية في قطاع التعليم العالي من خلال تجميع الموارد والخبرات تحت مظلة واحدة. من الاسباب الرئيسية لهذا التوجه، تحسين الادارة والحوكمة من خلال انشاء هيكل اداري اكثر مركزية وفعالية، وترشيد الامكانيات والموارد عن طريق تجميع الموارد المالية والبشرية والمادية لتقليل الهدر، وتحسين جودة التعليم بتوفير برامج دراسية اكثر تنوعا وشمولية، وزيادة القدرة التنافسية للجامعات على المستويات المحلية والاقليمية والدولية. وقد تجسد هذا التوجه في عمليات دمج مختلفة حول العالم، فمثلا، شهدنا دمج كليات الهندسة المختلفة في جامعة واحدة شاملة لتوفير موارد مشتركة للمختبرات وورش العمل وتطوير برامج دراسية متداخلة، كما تم دمج كليات العلوم الانسانية والاجتماعية لانشاء برامج دراسية تجمع بين تخصصات مختلفة مثل علم الاجتماع وعلم النفس والتاريخ، ودمج كليات التربية مع كليات اخرى لتعزيز التكامل بين الجوانب النظرية والتطبيقية في اعداد المعلمين.

الابتكارات التربوية والتعليمية

في عام 2024، شهدت الجامعات العالمية العديد من الابتكارات التربوية والتعليمية التي تهدف الى تحسين التعليم وتوفير تجارب تعليمية اكثر فعالية ومتقدمة. من بين هذه الابتكارات، تبرز استخدام تقنيات الواقع الافتراضي لتقديم تجارب تعليمية ثلاثية الابعاد، مما يساعد الطلاب على فهم المفاهيم العلمية والهندسية بشكل اكثر واقعية. كذلك، يتم استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي لتقديم توصيات تخصيصية للطلاب بناء على ادائهم واحتياجاتهم التعليمية. بالاضافة الى ذلك، يجمع نموذج التعليم الجماعي المتعدد الجانب (HyFlex) بين التعليم الشخصي والتعليم الافتراضي، مما يتيح للطلاب اختيار الطريقة التي تناسبهم بشكل افضل. ولم تغفل الجامعات عن استخدام تقنيات تحليل البيانات لتحليل اداء الطلاب وتقديم توصيات لتحسين التعليم والتعلم، فيما يركز نهج التعليم الشامل للمهارات (WIL) على تطبيق المعرفة الاكاديمية في سياقات عملية، مما يساعد الطلاب على تطوير مهاراتهم العملية والمهنية.

التصنيفات العالمية للجامعات:

في عام 2024، شهدت الساحة الاكاديمية تراجعا ملحوظا في اهتمام الجامعات بالتصنيفات العالمية، وهو توجه متزايد نابع من الاعتراف بان هذه التصنيفات قد لا تعكس بالضرورة جودة التعليم والتعلم الفعلي داخل المؤسسات. فبينما تستمر الجامعات الرائدة في استخدام هذه التصنيفات كوسيلة لجذب الطلاب وتحسين سمعتها الاكاديمية، تبتعد العديد من المؤسسات الاخرى عنها لاسباب متعددة، من اهمها التركيز الكبير على معايير قد لا تكون دائما ذات صلة بجودة التعليم، واعتمادها الزائد على المعايير الكمية والبيانات التي قد لا تكون شاملة او دقيقة بشكل كاف واحيانا كاذبة، مما قد يؤدي الى تاثيرات سلبية على عملية تطوير التعليم وتحسين الجودة. هذا التاثير السلبي بدا اكثر وضوحا في الدول النامية، حيث تركز الجامعات احيانا على تحسين مراكزها في التصنيفات بدلا من التركيز على جوهر تحسين جودة التعليم والتعلم.

تعكس التصنيفات الدولية في الغالب منظورا غربيا للتعليم، حيث تعطى الاولوية لمعايير كالبحث العلمي المنشور في مجلات غربية والتعاون مع مؤسسات غربية، مما يهمش مساهمات الجامعات التي تخدم مجتمعاتها المحلية او تجري ابحاثا ذات صلة بتحديات اقليمية. هذا يشجع على تبني نموذج غربي قد لا يتناسب مع السياق المحلي. كما تشجع هذه التصنيفات على التنافسية السلبية بدلا من التعاون، حيث يسعى كل منها لتحقيق مراكز متقدمة بغض النظر عن جودة التعليم، مما قد يدفع الجامعات الى اتخاذ اجراءات شكلية كزيادة المنشورات (بغض النظر عن جودتها) او التركيز على جذب الطلاب مهما كانت مستوياتهم. تركز التصنيفات ايضا على المعايير الكمية كعدد الطلاب والميزانية، مهمشة الجوانب النوعية كجودة التدريس وتفاعل الطلاب. يضاف الى ذلك التكلفة العالية للاشتراك فيها، وعدد الجامعات المشاركة المحدود (حوالي 2000 من اصل 24000)، مما يقلل من مصداقيتها. باختصار، يعكس تراجع الاهتمام بالتصنيفات رغبة في اعادة التفكير في مفهوم جودة التعليم ووضع معايير اكثر شمولية تراعي السياقات المحلية وتشجع التعاون.

بشكل عام، يمكن القول ان عام 2024 يشهد تطورات ايجابية في مجال الجامعات والتعليم العالي على مستوى العالم، مع التركيز على تحسين الجودة وتطوير المناهج ودعم البحث العلمي والابتكار وتلبية احتياجات سوق العمل. هذه التطورات تشمل تحولات جذرية في المناهج الدراسية نحو التركيز على المهارات العملية والتخصصات المتداخلة، واهتمام متزايد بالبحث العلمي التطبيقي وخدمة المجتمع وريادة الاعمال القائمة على المعرفة، وجهود مستمرة لتحسين جودة التعليم عبر تطوير البنية التحتية والابتكارات التربوية. ان مواكبة هذه التطورات والاستفادة منها يتطلب من المؤسسات التعليمية في العالم العربي، وخاصة في العراق، وضع استراتيجيات فعالة تهدف الى بناء انظمة تعليمية عالية الجودة تساهم في تحقيق التنمية المستدامة وخدمة المجتمع.

***

ا. د. محمد الربيعي

بروفسور متمرس ومستشار علمي

 

لا مفر من أن بعض الكلمات عن الذكريات، بدلا من أن تكون توضيحية لجمهور قارئ محتمل، تهدف إلى نوع من فهم الذات. في بعض اًلأحيان لا يكتب المرء ليفهم الآخرين، بل ليفهم نفسه. ربما هذه واحدة من تلك الحالات، في هذه المرحلة من وجودنا كعرب ومسلمين، لدينا بعض الذكريات التي تتكرر وتظهر عندما نفكر في القضايا المرتبطة بأصولنا الثقافية. نشعر أن جذورنا (إذا أردنا إعادة إنشاء مصطلح نباتي) لا ترتبط فقط بآفاق العروبة والإسلام والحضارات الأولى، وهو شيء نتقاسمه من طنجة إلى مسقط، ولكنه يتكون من مصفوفات ثقافية أخرى من تمازج الأجناس العميق والعشوائي عبر محطات تاريخية مضت.

مشهد الذكريات هذا له علاقة بتعليمنا. كل منا أتمم جزءاً من دراسته الابتدائية في مدرسة صغيرة في منطقة في جغرافيا العرب والمسلمين، وسط مجتمع بدوي أو شبه متحضر في المشرق أو المغرب. أعتقد أنه منذ ذلك الوقت فهم بقوة معنى الانتماء والهوية. لقد درسنا بين سكان أوطاننا، وجميعنا أبناء أفراد مجتمعنا العربي، والعديد منا أبناء عمومة أو قرابة بمعنى وبآخر؛ أي أننا درسنا مع عائلتنا. اللغة العربية كانت ولاتزال لغتنا الأم، لقد نسيناها لكننا لم نفقدها كلية. أو بالأحرى جعلونا ننساها. لأن الغازي يقمع ما استعمره. ومع ذلك، فإن لغتنا العربية بقيت في ذاكراتنا، بين القمم والآفاق الطويلة، بما في ذلك الشعر والأدب، كل منا نال وقتا للقراءة المستمرة والحياة الطبيعية بنكهة عربية ولهجة عربية، كان ذلك أمراً أساسياً بالنسبة لكل واحد منا. تطوير لاحق أو أمل منتظر. إذا كان بإمكان المرء العربي أن يحاول تعريف السعادة بلغته الحية الرافضة للموت، فلابد أن ذلك كان من نصيبنا كل على شاكلته. إنها جنتنا الخاصة العربية. لدينا جميعا واحدة لا نستوعب الجنة إلا بلغة سورة الرحمن وآي القرآن الكريم.

إننا نعود إلى اللغة العربية كما نعود للأرض الأم، أجدادنا وأصالتنا وعاداتنا وموسيقانا لا نستذكرها إلا بتعبير عربي بديع، بالفعل. علاوة على ذلك، فإن جزءاً من مجتمعنا العربي العتيق لا ينقرض؛ إنه جزء منا يختفي ويظهر. ولهذا السبب فإن عشق اللغة شكل من أشكال التكريم لها، لاستعادتها، وعدم نسيانها. الذاكرة المثبتة عبر الأجيال من طنجة إلى صلالة كدليل على الدوام.

ومن الذاكرة الحديثة أريد أن أشكر الأصدقاء والمفكرين، الذين لولاهم لكانت هذه المحاولة النصية قد وضعت على الرف. إلى علامة الجزائر العالم الجليل المصلح الكبير الشيخ محمد البشير الإبراهيمي رحمه الله، وللمفكر الإسلامي الحر الشيخ محمد الغزالي رحمه الله ، والمفكر الكبير الدكتور علي الوردي رحمه الله ، ثم إلى المفكر والمؤرخ السعودي الدكتور زيد علي الفضيل، وكذلك أحد عمالقة أرض الكنانة الدكتور صلاح شفيع بمطارحاته ومقارباته للدور الحضاري للغة العربية في علومها وفي آفاق القرآن الكريم، دون أن أنسى الدكتور علي القاسمي على محبته الدائمة وإشتغالاته بالبلاغة وكرمه اللامحدود تجاه استذكار الروعة في اللغة العربية؛ وطبعا الدكتور عبد الله إبراهيم وموسوعته عن السرد العربي في تسع مجلدات، وختاما إلى اتحاد المجامع اللغوية العلمية العربية.

وغني عن القول أن الممارسة اللغوية تصل إلى مستوى دينامي عبر الممارسة الاجتماعية المتطورة لهذه اللغة وعندما نقارب اللغة العربية نحن نقترب من صياغة الهوية الثقافية لمجتمعاتنا مما يفرض علينا حفر عميق في مكونات الذاكرة اللغوية وأسس بناء الفعالية الحضارية لهذه اللغة وليس فقط الاستغراق في المصداقية التي لا يختلف عليها اثنان من المنصفين، هناك وعي بمصداقية اللغة العربية لكنه وعي متفرج غير فعال أو متحسر.

 في عالمنا المعاصر اللّغة العلميّة تلك اللّغة الّتي تعمل على نقل معلومات علمية متخصّصة خاصة بقطاع أو مجال علمي محدّد لهوياتها الثقافية والمثيرة للوعي اللغوي الاجتماعي والنهوض الاقتصادي لأنها كالنقد في التعاملات الاقتصادية والتبادل التجاري، هي كذلك تفتح الآفاق في تبادل السلع والأصول الفكرية والثقافية وأهم مجال يكشف لنا عن حيوية لغة هو الترجمة العلمية والتقنية للمنتجات العلمية والتكنولوجية، مثلا مؤخرا بالشارقة مجمع اللغة العربية أنتج المعجم التاريخي للغة العربية وهو منجز مهم بالنسبة للترجمة العلمية ويوحي بضرورة الاهتمام بموضوع الفعالية الإستراتيجية للغة العربية في مستقبل العلوم والاقتصادات المعرفية، عموما ثقوب الذاكرة ليست نهاية اللغة والاحتفاء لربما يكون حفظا لماء الوجه في ظل أعطاب تواصل اللسان العربي في راهننا، لكن لابد من نظم أمور اللغة العربية كممارسة اجتماعية فعالة وليس كفانتازيا ثقافية... ونأمل أن نتفاعل مع لغتنا التفاعل البناء والحيوي الحضاري... بوصفها وسيلة تعبير اجتماعي، علمي، سياسي واقتصادي، ممّا يحتّم دراسة التفكير في إستراتيجية العبور من المعجمية العربية نحو الاستعمالات السوسيوثقافية المختلفة للغة العربية في أوطاننا ومؤسساتنا واتصالاتنا وشبكات تواصلنا من خلال الوعي العملي لآثار البُنى الاجتماعية في الممارسات اللغوية العربية في ظل رهانات التدفق الهائل للمعلومات والتداول السريع للمعارف في زمن الذكاء الاصطناعي ومناهج تكنولوجيات النانو...

***

ا. مراد غريبي

 

انتشرت قصص ميلاد الأنبياء والملوك والزعماء في شرق الأرض وغربها وهي تحمل جوانب عديدة منها الجوانب الحقيقية التي تعكس كون هؤلاء هم بشر يولدون ويموتون مثل بقية البشر وجانب اسطوري اضفى عليهم هاله من التقديس وجعل منهم شخصيات (كارزمية) تستحق التقديس والعبادة لان لهم صفات خارقة فهم يختلفون عن بقية البشر وقد نجح كتاب سير (بوذا)و(زرادشيت)و(كورش)و(هرقل)و(شمشون) في ابراز مميزات هذه الشخصيات وجعلوا منهم اساطير تتغنى بها شعوبهم عبر الاف من السنين الى يومنا هذا

قصة خلق ادم

عندما أراد الله ان يخلق ادم قال (وإذ قال ربك للملائكة اني خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون فاذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين فسجد الملائكة كلهم اجمعون الا ابليس ابى ان يكون من الساجدين) الحجر (28-41)

وجاء في تفسير الطبري (ان الله عندما أراد ان يخلق ادم بعث جبريل ثم ميخائيل ثم بعث ملك الموت فاخذ من وجه الأرض وخلط ولم يأخذ من مكان واحد واخذ من تربة حمراء وبيضاء وسوداء فلذالك خرج بني ادم مختلفين

قصة ميلاد سرجون الاكدي

اعترف سرجون الاكدي (2361-2279) قبل الميلاد وهو مؤسس الإمبراطورية الاكدية قائلا (انا سرجون الاكدي الملك القوي ملك اكد كانت امي من عذارى ملك المعبد لم اعرف ابي حبلت بي امي وولدتني سرا ووضعتني في سلة وسدت فتحتاها وتركتني للتيار حيث لم اغرق وحملني التيار الى (اكي) وانتشلني (اكي) الطيب القلب من المياه ورباني وكانني ابنه وصرت بستانيا مال قلب (عشتار) الي فاصبحت ملكا وحكمت طوال 45 عاما)

فرويد موسى والتوحيد

ويقارن العالم فرويد بين اسطورة ميلاد سرجون الاكدي وبين قصة النبي موسى فيرى ان هنالك تشابها واضحا مع بعض الاختلافات فموسى القي به في نهر النيل وسرجون في نهر الفرات ووضع كلاهما في سلة احكمت فتحاتها وتربى سرجون الاكدي في بيت بستاني بينما تربى موسى في بيت ملكي واصبح سرجون ملكا بينما اصبح موسى نبيا

اسطورة ميلاد زرادشيت

تروي الاساطير الفارسية قصة ميلاد زراد شيت (573-660) قبل الميلاد بالشكل التالي ان روح القدس قد حلت في جسر ام زرادشيت التي قدر لها ان تكون اما لهذا النبي فخاف عليها ابوها من السحرة فارسلها الى قرية بعيدة وهنالك تزوجت من راع يعود نسبه الى اسرة عريقة وبينما كان هذا الراعي يرعى مواشيه ظهر له شبحان نوريان وقدما اليه غصنا من نبات (الهوما) المقدس وامرأه بان يعطي هذا الغصن الى زوجته لان هذا الغصن يحمل كيان الطفل النوراني فاخذه الى زوجته ومزجه باللبن فشرب هو وزوجته فصار نطفة ثم مضغة في رحم امه وهكذا حملت بزرادشت ثم وضعته ولما ولد أحاط بالدار الذي يسكن فيه نور وهاج ثم هبط من السماء نجم عظيم وقد فرحت الأرض والسماء ولكن عالم الشياطين قد اصابهم الخوف وكان ملك الفرس يومن بالسحر وقد اخبره المنجمون ان نبيا سيظهر يتم على يده ابطال السحر فطلب احضار الطفل زرادشيت وامر بالقاءه في النار ولكنه لم يمت وانما نام وسط الرماد حتى جاءت امه واخذته وهكذا كبر هذا الوليد واصبح نبيا من انبياء فارس

اسطورة ميلاد بوذا

في اقصى شمال الهند ولد بوذا (480-560) قبل الميلاد تقول الأسطورة الهندية ان بوذا هو ابن الله وهو المخلص للبشرية من الامها وان ولادته كانت عبر طريق حلول الروح القدس على العذراء (مايا) وعند ولادته ظهر نجم كبير في السماء وان الملائكة قد فرحت ورتلت الأناشيد وانه تكلم الى امه في اليوم الذي ولد فيه كما رافق ولادته معجزات مثل استعادة العميان نظرهم والبكم سمعهم وتحرر السجناء من سجونهم ومشى الاعرج وصدحت الموسيقى السماوية وفرحت الملائكة وشفي المرضى من مرضهم وخمدت النيران في كل جحيم وصهلت الخيول وطبلت الفيلة وعزفت الآلات الموسيقية بدون عازف انغاما سماوية واصبح ماء المحيطات عذبا

وتستطرد الأسطورة في وصفها فتقول ان بوذا الطفل وجه انظاره الى الشرق واستعرض الكون كله ثم خطا سبع خطوات واعلن عن نفسه في صوت نبيل (انه اله الخلق) وتذكر لنا الكتب البوذية المقدسة علما بانه في نفس الذي ولد فيه بوذا جاءت الى الوجود شجرة التين التي كان عليها ان تقوم بدور هام جدا في حياة بوذا

ويعتقد البوذيون ان بوذا عندما مات صعد بجسده الى السماء بعد ان اكمل مهماته على الأرض.

***

غريب دوحي

 

كرَّس د. محمد عابد الجابري (1935-2010) جانباً مهماً من أبحاثه لدراسة الفارق بين الذهنية العربية ونظيرتها الغربية. ومِثل سائر الذين درسوا تاريخ المعرفة، يعتقد الجابري أن كلاً من العقلين العربي والغربي تشكَّل في سياق تجربة تاريخية طويلة، أعطت كلاً منهما بنيته الخاصة المتمايزة عن غيره.

نعرف أن بعض الباحثين حاول النظر في فوارق بيولوجية بين الأعراق والأقوام تؤثر على حجم الدماغ وطريقة عمله، بل إن بعض قدامى الكُتاب المسلمين اعتقد أن المناخ، ولا سيما مدة الليل والنهار ودرجة الحرارة، يؤثر هو الآخر على القابليات العقلية. ومن هذا القبيل ما ذكره المسعودي في «التنبيه والإشراف» من أن أفهام الأوروبيين بليدة، بسبب شدة البرد عندهم، فكلما اتجهنا شمالاً؛ حيث البرد أشدّ، وجدنا سكانه أكثر غباء وجفوة. وأرى أن قول المسعودي - ومثله ابن خلدون وآخرون - منقول عن آخرين، أو هو كلام سائر في المجتمع، وليس نتيجة ملاحظة مباشرة أو دراسة ميدانية.

وعلى أي حال، فهذه التقديرات لم تثبت قط، رغم أنها كانت تبرز بين حين وآخر، ولا سيما في ظروف الأزمة، ولهذا فليست ذات شأن أو تأثير. أما الرأي المرجَّح في الوسط العلمي فهو الأول الذي يَنسب تشكل الذهنية الخاصة للمجتمع؛ أي ما يسمى «العقل الجمعي»، إلى التجربة التاريخية لهذا المجتمع. وهذا أيضاً سبب التمايز بين المجتمعات التي تتفق في الذهنية العامة، لكنها تختلف في بعض التفاصيل؛ مثل اختلاف المجتمعات العربية في طرق العيش والتعبير عن الذات، رغم أنها جميعاً تتفق في الخطوط العامة للثقافة والتفكير ومعايير السلوك.

تحدَّث الجابري عن ثلاثة أركان أسهمت في صنع العقل العربي هي العقيدة والقبيلة والغنيمة. وأريد التركيز في هذه السطور على الركن الثاني (القبيلة) الذي يرمز لمعنى يتجاوز وصف القبيلة، السائد اليوم، فهو يشير، في الجوهر، إلى معنى الجماعة المترابطة، ذات الهيكلية الهرمية / الأبوية، التي يشد أجزاءها تصور عن الذات المشتركة والتاريخ المشترك، وليس بالضرورة عن التوافق الفكري أو الأهداف، إنها إذن أقرب إلى نظام بيولوجي (عائلات متحدة) وليس شرائح أو أطيافاً متوافقة.

النظر من هذه الزاوية ربما يُسهل فهم السر وراء صرف معنى «العقل»، عند علماء اللغة العرب، إلى الربط والعقد، وليس التفكيك وإعادة التركيب، كما هو المتبادر من معنى التفكير. وهي، إضافةً لذلك، تكشف عن سبب الحساسية الشديدة التي تُظهرها الذهنية العربية إزاء مخالفة التيار العام أو التمرد على التوافقات الاجتماعية. بعبارة أخرى، فإن هذه الذهنية مشغولة، في المقام الأول، بالمحافظة على الوحدة والانسجام، وليس بصناعة الفكرة الجديدة، التي ينبغي أن تنطوي، بالضرورة، على تعارض مع السائد والمتعارف.

الجماعة والمحافظة على وجودها هما محور التفكير العربي في الذات. الذات هنا لا تتجلى إلا بوصفها ذاتاً جمعية. وبهذا المضمون فإن الرابطة التي تجمع أعضاءها إلى بعضهم، تشكلت في الماضي، وهم حريصون على عدم مساءلتها أو تحدِّيها؛ لأنهم بهذا يهددون وحدتهم والرابطة التي تجمع بينهم. من هنا نعرف لماذا لا يتقبل المجتمع العربي الأفراد المستقلين والأفكار المعارضة للقيم السائدة والموروثة، ولماذا يُتهم الذين يخالفون أعراف المجتمع وقناعاته بأنهم معقَّدون أو مرضى نفسيون أو عملاء للأجانب أو ساعون للشهرة، ولماذا يتقبل عامة الناس هذه الاتهامات ولا يستنكرونها، رغم أنها قد تطولهم بالسوء إذا تجرأوا على الاختلاف.

حسناً... هل هذا أمر طيب أم سيئ؟

أظن أن الجواب يبدأ بتحديد الأولويات؛ أي ما الذي نريده أولاً: وحدة الجماعة وراحة بالها، أم استنهاض العقول وتجديد الفكر والحياة. ربما نقول إن لكل من الخيارين زمنه، لكن المؤكد أن جمعهما مستحيل. اختيار العقل يعني اختيار الفرقة، واختيار الوحدة يعني تقبُّل الجمود.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

يسلم كل احد منا بعد تطور العلم طبعا، لا قبل ذلك، ان من المخلوقات التي لا حصر لها جنت عن العين في حين أن اخرى وهي أيضا لا يمكن تعدادها ظهرت العيان.

الأشعة الكهرومغناطيسية، الأشعة السينية ، الموجات فوق الصوتية، الواي فاي، الالكترونات، النواة... وغيرها كثير مما يثبت العلم انها تتحرك في الاكوان وتكون بدورها مكونات اكبر او تتخللها عناصر أصغر  لها حركية كالافكار التي تدور بخلد كل منا كتصورات ونيات يمكن اما ان تقبر كما قبرت مجموعة من الابداعات التي لم تخرج الوجود وبقيت دفينة عقول اصحابها لانهم لم يجرؤوا على تحويلها لانتاجات تمدد من شخصياتهم في الزمكان، كما فعل اغلب العلماء الذين تجاوزوا الفراميل الوهمية، ليخرجوا افكارهم للوجود لتكون امتدادات لاعمارهم بعد موتهم.

وكما ذكرت سابقا على مقال سابق بجريدة القدس العربي، "فليست مقبرة هايغيت وحدها ذات الأهمية التاريخية العالمية لاحتوائها على الشخصيات الأكبر ذات الأهمية التاريخية ثقافيا، لكونهم أعلام ميدانهم كالمؤرخ إيريك هوكسباوم أو مؤسس الحركة التعاونية البريطانية جورج هوليك أو المفكر كارل ماركس أو المغني جورج مايكل وعالم التشريح هنري غراي أو عالم البيولوجيا التطورية هربرت سبنسر وغيرهم، بل في الحقيقة إن تأملنا بعمق فدائرة عدد الإنسانية ذات الأفكار الخلاقة هي أكثر اتساعا مما نعرف" انتهى الاستشهاد من المقال.

الافكار كمخلوقات جنت عن العين، يمكن تقسيمها إلى افكار سلبية واخرى ايجابية، او قل افكار نورانية وتلك الظلمانية، أو قل افكار تقرب من الفطرة واخرى تبعد عنها، او قل افكار متفائلة وتلك اليائسة، او قل افكار شيطانية وافكار ملائكية.

جاء في الحديث الشريف عن صفية بنت حيي رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معتكفا، فأتيته أزوره ليلا فحدثته، ثم قمت فانقلبت، فقام معي ليقلبني -وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد رضي الله عنهما-، فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي -صلى الله عليه وسلم- أسرعا، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (على رسلكما، إنها صفية بنت حيي)، فقالا: سبحان الله يا رسول الله!، فقال: (إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما سوءا -أو قال شيئا-) ".  حديث متفق عليه.

معنى الشيطان لغة المبعد، فكل ما يبعد عن الله فهو شيطان.

لنتخيل ان مخرجا سينمائيا التقيته ولاقيته بمنتج ليمول فيلما سينمائيا يصور هاته الافكار المقصودة في هذا المقال، فلا مراء ان المخرج السينمائي ان اقتنع بالمبلغ المالي الذي يمكن أن يكون قد عرضه المنتج فانه بطبيعة الحال سيكون من السهل عليه ان يعرض الفيلم بعد اتمامه بداخل قاعة مظلمة يخرج من كوة متخصصة نورانية الآلة السينمائية التي تظهر الافكار المبثوثة السيناريو متحركة على شاشة السينما اما عن طريق التمثيل او كرسوم متحركة، المهم ان الانسان كعبد ضعيف استطاع تصوير الافكار وجعلها تتحرك وترسل الرسالة المقصودة.

فإذا قلنا مثلا ان اول فكرة اخرجت آدم عليه السلام هي الشيطان الأول الذي يجري من ابن آدم مجرى الدم، فإنه والعكس بالعكس كانت فكرة نورانية اولى داخل الجنة الهمته التسبيح ليتوب الله عليه.فإذا سلمنا ان العبد يمكن ان يصور الفكرة فيلما يمكن ان يرى ويرسل الرسائل، فلم يصعب علينا أن نسلم ام الله عز وجل وهو على كل شيء قدير ان يجعل الافكار النورانية ملائكة تتكلم مع سيدنا ابراهيم لتبشره او وسوسة شيطانية مشخصة كما  كما تشخص القرين لمولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ففي الصحيحين عن أبي هريرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "إن عفريتا من الجن تفلت علي البارحة ليقطع علي الصلاة، وإن الله أمكنني منه فذعته (خنقته) فلقد هممت أن أربطه إلى جنب سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا تنظرون إليه أجمعون أو كلكم، ثم ذكرت قول أخي سليمان: (رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي) فرده الله خاسئا".

لا ينكر اي كاتب توالد الافكار في دماغه، وهكذا ان تدبر اي منا هذا الامر فسيستنتج تلقائيا ان تلاقح الافكار اما ان يكون عقيما ان كانت الافكار غير ذات خصوبة او أنها ستتوالد وتتوالد حتى تؤلف سطورا وكتبا تقتات منها عقول شرهة مثل عقول قرائنا الاعزاء فيشعرون بلذة الوجبات الفكرية التي ان كانت معدة بمطبخ فكري متميز وطباخ ذو مهارات خاصة في انتاج السندويشات الفكرية يستبشر بها مستقبلوها استبشارا.

وتحسب أنك جـِرمٌ صغير  *** وفيك انطوى العالم الأكبر

 داؤك منك ومـــــا تبصر  ***  دواؤك فيك ومــــا تشعر

تحسب أنك جـــرم صغير  *** وفيك انطوى العالم الأكبر"

ابيات شعرية عميقة تعبر بجدارة عما نرومه في هذا المقال منهم من ينسبها لابن عربي الحاتمي وآخرون للخليفة الرابع سيدنا علي بن ابي طالب رضي الله عنه ، لكن الذي يهمنا ان الانسان عوالم من المخلوقات الحسية كالخلايا والالكترونات والكروموسومات والكريات البيضاء وتلك الحمراء، ومخلوقات معنوية كالملائكة والشياطين والوساوس والهلاوس وغيرها مما لا نعلم سواء في الاتجاه الايجابي او السلبي وكلها يمتطيها الحكيم ليصل إلى الحق اما بالاقدام او الإحجام بحسب فهمه للنصوص وكيفية تنزيلها في واقعه اليومي ومن أوتي الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وصلى الله وسلم على سيدنا محمد مداد الحق عز وجل على لوح الأزل وعلى آله وصحبه وسلم.

***

د محمد غاني - المغرب

في المثقف اليوم