قضايا

العلمانية ليست فكراً دينياً ولا سياسياً ولا اقتصادياً ولا اجتماعياً واحداً بل انها مشروع بناء ونهضة متكامل شقت طريقها لانقاذ الشعوب وتحرير المجتمعات من كل الايدلوجيات الدينيه المتطرفة والمتناحرة وتنتشلة من واقع عالمي ومحلي مليء بالتناقضات والتناحر والصراع الديني والسياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والعسكري الذي اسقط بضلاله وتاثيراته الكارثية على حياه الملايين من ابناء البشرية وفي الاخص شعوبنا العربية والافريقية والاسيوية بشكل عام فكان من نتائجة ضياع الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحرية الراي والتعبير وغابة العدالة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية بين ابناء البشرية او على مستوى الشعب الواحد والوطن الواحد وانتشر الفساد السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والقضائي والاعلامي وووالخ فمتهنت كرامات وشاع الجهل سواء كان على مستوى بنية الدول والانظمة السياسية القائمة او على مستوى الافراد والكيانات وانتشرت كل ما يهدم قيم الإنسانية من جرائم الانتهاكات الرهيبة لحقوق الانسان بكل اشكالها وصورها المختلفة ودمُرت مستقبل اجيال وامم باكملها واغرقت شعوب في مستنقعات متعدده اما في حروب نزاعات مدمره او في وحل الافكار والديولوجيات والمعتقدات الشيطانية والمتطرفة وحوربت كل قيم العلم والثقافة والتنوير والتنويريين بكل نخبهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية على المستوى الدولي او على مستوى الشعوب والاوطان لتحل محلها ثقافة الجهل واستجهال وتجهيل الشعوب من خلال فرض افكار ومعتقدات وايدلوجيات دينيه وجهوية وفئوية متطرفة اصبحت تتحكم بمصائر الشعوب والاوطان فاغرقت الاوطان والشعوب في ازمات وحروب طاحنة فكان من نتائجها تلك الاثار التي ما زالت شاهده الى اليوم في اكثر من بلد في العالم وان الواقع الكارثي الذي تعيشه معظم شعوبنا العربية والافريقية والاسيوية وشعوب العالم اليوم لم يكن الا امتداد لذلك الواقع الذي عاشته اوروبا في فتره حكم الكنيسه الدينيه الماضي التي اغرقتها في حروب ونزاعات طويله وتسببت بكوارث يندى لها جبين الإنسانية

وما ان بدات العلمانية وثورات التنوير تمد جسورها لعبور الشعوب والمجتمعات للخروج من ازماتها وصراعاتها ومشاكلها المختلفه والمتنوعة الى واقع اكثر امناً واستقراراً ونهوضاً وتقدماً وازدهاراً بفكرها المدني التنويري القائم على فكرة رفض الواقع ودعواتها للتغيير نحو بنائها وبناء دولها وانظمتها وحكومتها وافرادها ومجتمعاتها بناءاً سليماً للكل لا للجزء مستفيداً من تجارب واخطاء غيرها في الماضي بهدف عدم تكرارها في الحاضر والنظر للمستقبل بنظره واسعه ورؤية ثاقبة وسياسه ناجحة تبني لا تهدم بما يتلائم ويتوافق مع تطلعاتها وامالها ويخدم الانسان والوطن الواحد برؤية تنويريه وثقافيه علمية فقط لا مجال لتدخل الدين أو الفكر والمعتقد في سياسة وشؤون وقرارات الدولة إطلاقاً وفق اسس النظام والقانون واركان ومبادئ العدالة بين الكل واحترام حقوق الانسان وارساء قيم الحرية الفردية وتعميق منهج التعايش بين كل الاجناس والاديان والمذاهب والمعتقدات والافكار والافراد والكيانات وتكريس ثوابت الديمقراطية وتدعيم قيم الحرية وحق التعبير واحترام الراي والراي الاخر في الفكر والمعتقد وارساء دعائم البناء والاكتفاء الذاتي بجميع المجالات كخياراً عالمياً وشعبياً وخصوصاً مع بدايه صحوة الافراد والشعوب بكل نخبه و ومفكريه ومثقفيه وطلائعه الرافضة الواقع فبدات حملات شيطنتة العلمانية وتعالت الاصوات والصرخات وانشات مئات المواقع والصحف والمجلات الاخباريه وصرفت ملايين الدولارات لشراء الذمم لمحاربة العلمانية وقيمها النبيله وتشويهها فكتبت الاف الكتب والمجلدات التي حملت في طياتها ومعانيها كل ما يسي ويشوه العلمانية ويظهرها بمظهر القبح امام الشعوب والمجتمعات بهدف الكذب والتظليل على الناس بهدف ابقائها في واقعها الكارثي ومع ذلك فشلوا في الماضي وسيفشلوا في الحاضر والمستقبل في محاربتها .

وعلى الرغم ان الهجمات الاعلامية والدعائية وحملات الاساءه والتشوية ضد ثورة العلمانية والتنوير مستمرة الى عصرنا ويومنا هذا باصواتها المأزومة وابواقها المأجورة وخطاباتها الضاله وكلماتها الجاهله وكتاباتها التحريضية ضد العلمانية فهناك من يقول العلمانية الصهيونية واخر علمانية الحاد وكفر واخر علمانية لبرالية وغيرها من الاوصاف والاقوال اذا العلمانيه تحترم رأيك والراي الاخر ويبقى رايك وقولك وكتابتك تعبير عن وجهة نظرك انت لكني اتساءل هنا على اي استناد وعلى اي اساس قلت وحكمت ان العلمانية صهيونية وانها الحاد وكفر وليبرالية يا هذا أو ذاك؟؟ في الحقيقة لا يوجد هناك شيء اسمه علمانية صهيونية او علمانية لبرالية او علمانية الحاد وكفر او علمانية شرقية او غربية فالعلمانية قد تكون موجوده وفق المكان هنا وهناك وهذا شيء طبيعي لكنها تحكمها الاهداف النبيله والمبادئ الساميه الثابتة والموحدة فصل الدين عن الدولة ليس أنها ضد الاديان إطلاقاً ولكنها تحترم الدين اكثر من غيرها ولا تسمح باستغلاله والمتاجرة به ولماذا لا تفرق بين العلمانية والصهيونية؟ وهل تؤمن ان العلمانية فكر مدني وان الصهيونية فكر ديني نقيض للعلمانية؟ بكل تاكيد انما يقال من اقوال واوصاف واصوات وما كتب وكتابات وخطابات جائرة بحق العلمانية لا يمكن ان يقبلها عقل او يفسرها منطق وقد يكون ناتج عن جهل مركب او احكام طائشة وهامشية مسبقة او لتعصب مقيت او دليل على ازمة وعي أو افلاس معرفي أو فقر ثقافي بأصول وقيم العلمانية ورحها المدني وقيمها النبيله ورسالتها الانسانية.

وعلى الرغم ما قال ويقال بحق العلمانية لكنها حتماً ستنتصر للشعوب والمجتمعات.

***

د. فارس قائد الحداد - صحافي وحقوقي يمني

محاضر دولي في الاعلام والقانون الدولي

المقدمة: خط الزمن كبوصلة حياة

خط الزمن هو ذلك المسار الذي يربط بين ماض عشناه، حاضر نحياه، ومستقبل نطمح إليه. إنها البنية التي تشيد عليها تجارب الإنسان، المحطات التي شكلت هويته، والأحلام التي تلهمه للمضي قدماً. بالنسبة لأي فرد، فهم العلاقة بين هذه المراحل الثلاث هو مفتاح لتحقيق التوازن النفسي، والنمو الشخصي، وصناعة حياة مليئة بالمعنى والإبداع.

جمعتني جلسة في سبر لأغوار النفس البشرية من الأعماق الدفينة، والتحدث من القلب والفكر المستنير والواقعية في الحياة اليومية، وكيفية التعامل مع خط الزمن الذي يثقل كاهلنا ويجعلنا نتغبط وننزف ألماً قبل الدموع حسرة وآهاتاً ونتباكى على ماض ألم بها وشدنا لتاريخ وشواهد عشناها بين ثنايا الحياة وذكريات الماضي وجنباته. كان اللقاء مثمراً وسباقاً للتفكير المضيء والمشرق مع أحد الخبراء الذين لهم باع طويل وممارسات متميزة في تجربة الحياة والعمل وتجارب ثرية وغنية بالسفر والترحال والنهل من معين الحضارات الغربية والشرقية والعربية. في هذا المقال، سنغوص في تفاصيل خط الزمن، نستكشف كيف يؤثر الماضي في حاضرنا، وكيف يمكننا تسخير الحاضر لبناء مستقبل أفضل. كما سنناقش أهمية التسامح مع الذات، المرونة النفسية، والتعامل الإيجابي مع جوانب حياتنا المختلفة.

الماضي: مستودع الدروس والذكريات

الماضي هو حجر الأساس الذي يبنى عليه الحاضر والمستقبل. إنه مجموعة من التجارب التي عشناها، الأخطاء التي تعلمنا منها، والذكريات التي جعلتنا ما نحن عليه اليوم. البعض ينظر إلى الماضي كحمل ثقيل يعيق التقدم، بينما يراه آخرون كمصدر للقوة والإلهام. فالماضي جزء من الهوية الشخصية والجمعية التي لا يمكن للإنسان أن ينفصل ولا ينفك عنه، فهو جزء من تكوين شخصيته. إن محاولة إنكار الماضي أو التعامل معه كجثة تدفن لن يؤدي إلا إلى استمرار تأثيره السلبي. أما التسامح مع الماضي فيحدث تصالحاً مع الذات ومع الآخرين الذين كانوا جزءاً من الماضي، وهو مفتاح التحرر من آلامه ومنغصاته. فالتسامح لا يعني النسيان، بل يعني تقبل ما حدث، والتعلم منه دون السماح له بالتحكم في الحاضر وجرنا للوراء أو أن يجمدنا فيه ضعفاً وقلة حيلة وظلاماً دامساً، بل نوراً يهدينا سبل الرشاد والضوء الذي ينير مصابيح الدجى.

الإيجابيات المستخلصة من الماضي

تخيل معي مستوى التعلم والتطور من كل تجربة، سواء كانت إيجابية أو سلبية، تحمل درساً يمكننا استثماره في الحاضر. وعندما نحول الألم إلى قوة ومنعة تجعلنا نواجه التحديات التي حدثت في الماضي قد تكون هي الدافع للنمو والتطور والبناء الشخصي والجمعي والمهني الوظيفي. الماضي قد يكون وحشاً يلتهمنا إذا لم نعالجه، ولكنه يمكن أن يصبح نقطة قوة إذا أعدنا صياغته بشكل إيجابي.

فالحاضر هو المساحة الوحيدة للتحكم والتغيير، وهو اللحظة الوحيدة التي نملكها فعلياً. إنه الوقت الذي يمكننا فيه اتخاذ القرارات، العمل على تحقيق الأهداف، والتخطيط للمستقبل. التعامل بذكاء مع الحاضر هو المفتاح لبناء حياة متوازنة. وهو كذلك الحاضر كفرصة لتحقيق التوازن عندما نتعامل بمرونة ونعطي مساحة لإعادة ترتيب الأفكار، تفكيك المشكلات، وإعادة تركيبها بشكل مبتكر. إنه فرصة لتصفية الأمور العالقة من الماضي والاستعداد للمستقبل. ونتمكن من التخلص من الأعباء والتراكمات التي أحدثها شرخ الماضي وآلامه، فالجرأة على التخلص من الأشياء غير الضرورية، سواء كانت مادية أو معنوية، تمنحنا حرية أكبر للحركة والنمو. إن إدارة الحاضر بفعالية تمكننا من التعلم المستمر من خلال الوقت الذي يجعلنا فيه نوسع معرفتنا ونطور مهاراتنا. كل يوم هو فرصة جديدة لاكتساب شيء جديد. وأن التوازن بين العمل والحياة من خلال الحفاظ على نظام يومي متوازن بين العمل، العائلة، والهوايات يضمن العيش برفاه نفسي.

فالمستقبل آفاق مفتوحة وأحلام قيد التشكيل، فهو المساحة التي نرسم فيها طموحاتنا وأحلامنا. التخطيط له بحكمة دون الوقوع في فخ القلق والتوتر هو ما يضمن السير بخطى ثابتة نحو تحقيق الأهداف. وأن التخطيط الذهني للمستقبل يجعل رؤية واضحة ولكنها مرنة، فالعمل على التخطيط للمستقبل لا يعني حصر أنفسنا في أهداف جامدة، بل يعني وضع رؤية شاملة قابلة للتعديل حسب الظروف. وأن التعلم من الماضي والحاضر يبني المستقبل الذي يعتمد على استخدام الدروس المستخلصة من الماضي بالإضافة إلى الأدوات المتاحة في الحاضر. جميل أن نولي الاهتمام في التعامل مع القلق من المستقبل ونجعل تجاه المستقبل إيجابياً إذا تحول إلى دافع للعمل والتحضير، ولكنه يصبح سلبياً إذا تحول إلى خوف يعيق الحركة. وأن التركيز على الحاضر من أفضل طرق التعامل مع القلق من المستقبل، هو التركيز على الحاضر والعمل على تحسينه.

التوازن بين الماضي، الحاضر، والمستقبل

تحقيق التوازن بين هذه المراحل الثلاث هو مفتاح العيش بسلام داخلي. تقبل الماضي دون الإنكار أو التعلق، والعيش بوعي في الحاضر، والتخطيط المرن للمستقبل، والتسامح مع الذات والآخرين هي مفاتيح هذا التوازن. فالماضي جزء من تكويننا لكنه ليس قيداً، والحاضر هو المساحة الوحيدة التي نملكها فعلاً، والمستقبل يحتاج إلى رؤية تساعدنا على التحرك بثقة. والتسامح يعني التقدم دون قيود.

الخاتمة: خط الزمن كدورة دموية للحياة

خط الزمن ليس مجرد امتداد خطي للأحداث، بل هو أشبه بالدورة الدموية التي تغذي حياتنا. الماضي هو القلب الذي يضخ الدروس، الحاضر هو الشريان الذي يحمل الحياة، والمستقبل هو الهدف الذي نسعى إليه. فهم العلاقة بين هذه المراحل الثلاث، والعمل على تحقيق التوازن بينها، هو ما يمنحنا القدرة على العيش بسلام داخلي، مواجهة التحديات بثقة، وتحقيق أحلامنا بإبداع. خط الزمن ليس مجرد رحلة، بل هو فن نمارسه كل يوم.

***

بقلم: د. أكرم عثمان

الكلمات هي خيوط الشعراء السريّة لنسْج صورة العالم والوجود. لو تخيلنا الشاعر كائناً مختلفاً، لكان أحد مبدعي الحياة بملء المعنى. لا يتعامل مع القصائد كما يتعامل الحَطّاب مع الاشجار، لكنه يرعاها كما يرعى المزارع حقوله الغنّاء بذوراً ونباتاً. عَبر كلمات الشعراءِ، تتجلى آفاق الحقائق، الأوهام، الأخيلة، الأحاسيس. إنّها المادة الحيّة التي يشكلون بها أسرار الإنسانية. فلا تقف الصيغُ الشعرية لدى(الحياد المُعجمي)، ولكنها تتخلق من جديدٍ. تنتشي، تتقافز، تزهو، تتلون بشكل غرائبي حين يصُوغ الشعراءُ أطياف الأشياء. كان الشعرُ وما زال بمثابة الإبداع الذي يقيس قدرتنا على اختراع فنون العيش.

أنْ تكون شاعراً يعني أنّك تمتلك رصيداً لا ينفد من الخيال الخلاّق، أنْ تمتلك عجينة مختمرة بأسرار الحياة والعالم. ليس معنى الامتلاك هاهنا كأنّك تمتلك شيئاً مادياً، ولكنه تفاعُل خطير مع أحداث المجتمعات البشرية بخلاف أي كائن آخر. الشاعر هو من يقول لهذه المجتمعات: منْ تكون على وجه الحقيقة!! هو منْ يُسمي الأحداث راصداً التحولات كما لو لم تكن من قبل. من العراقي بدر شاكر السياب وأحمد مطر إلى المصري نجيب سرور وأحمد فؤاد نجم مروراً بالسوري نزار قباني ومحمد الماغوط والتونسي الصغير أولاد أحمد رُسمت جغرافية الوطن العربي.

من نافذة الشعراء، تأتي العواصف التي تحرك شراع الحياة حيث رياح الاختلاف والحركة. لا يقفون لدى اعتاب الظواهر، ولكنهم يُبحرون إلى المجهول. وليست عبارة (بحور الشعر) بعيدةً عن المشهد، فمن بإمكانة السيطرة فنيَّاَ على بحور الشعر باستطاعته خوض غمار الابحار في لجج الأحداث. وبالتأكيد سيُمثل الشاعر مصدرَ قلق لكل القوى المهيمنة في المجتمعات، وسيصبح محل استفهام حائر بين الإنكار والتوجُس.

أفعال اللغة

لأول وهلةٍ في عالم الشعراء، تمثل اللغةُ" لحمَ الحياةِ " flesh of life. فالأحاسيس تأتيهم لغةً، العشق يغمرهم لغةً، الحقائق تتجلى أمامهم لغةً، الواقع منحوت من جسم اللغة. إن العالم يتكون من كلماتٍ مُبدعةٍ هي القصائد قلّت أو كثُرت. وعبر صورها الشعرية، تمرُق الرغبات والأفعال لغوياً.

دلالة اللحم- فيما يرى الفيلسوف الفرنسي موريس ميرلوبونتي- هي استعارة وجود مشبع بمعانٍ حيةٍ، مترعة بالعطايا والملذات. وأيضاً ثمة معانٍ مشبعة بالآلام والشرور والخيبات والخطايا. ولا سبيل إلى صياغةِ المستويات الإنسانية بأشكال رمزية دون الكلمات كمادةٍ حيّةٍ للابداع الشعري. كأنَّ الشعراء يعيدون الانسانية إلى أزمنة اندماجها في الكون والطبيعة. هذه القوة الأوليّة الناميّة التي كانت منتشرةً في كافة مظاهر الحياة.

لعلّها المسحة الأسطورية للوجود إذْ تلف كائناته ظلال الغموض. فكانت عناصره تنسجم مع بعضها البعض، الأشياء تتبادل المواقع والأدوار. الحيوانات عبارة عن أشجارٍ، والأشجار تمثل جبالاً شاهقة. والصخور تذهب وتجيئ في إهاب نغم كوني عارم. على حد تعبير الفيلسوف اليوناني فيثاغورث العالم: (عدد ونغم). هذه المقولة الرياضية / الشعرية التي ولدت من روح الأسطورة والأحوال الكونية. وهي مقولة شعرية بالدرجة الأولى، لأن الفضاء العام للفكر آنذاك كانت مشبعاً بالأساطير والأشعار.

تعيش اللغة وترتع بالمزيد من التعبيرات الشعرية. وقد تمرض وتخبو وتتحول وترسم حالاً مختلفاً من المعاني. عندما يدرك الشعراء جوهرَ العالم، يعطونه نفَسَاً مجازياً من خيالهم الأثير. يتحدثون إليه ويهمسُ إليهم. يحاورونه بالأصالةِ عن ذاته ويَسِر إليهم بالألغاز. يستدرجونه إلى حيث يُبدعون، ولكنه يأخذهم نحو المفاجأة والإدهاشِ. يهبونه صيغاً هي الصيغ النابضة بأعماقه الحسية/ الشعرية في الوقت الذي يُخرجُ من يراعهم عالماً مذهلاً.

لم يكن الشعرُ في يومٍ من الأيام صيغاً مجردةً، ولكنه صيغ حسية تتجاوز فكرة التجريد. الشعر هو اللغة اللحمية بكل ما تؤكده من كثافةٍ وحضورٍ وحميمية. ولو كان هناك منْ يخلق الكلمات في شكل كائنات من لحم ودم، فهو الشاعر. عملية الخلق مرتبطة بالإله في تراث الأديان، ولكنها لصيقة الصلة بالابداع الشعري الذي يثري وجودنا الإنساني. إذا وصف الشاعر محبوبته، فهو وصف حي يكاد يتحرك لا أقل. ويدفعها لأنْ تمشي في الطرقات وتتضوّع عبيراً وعطراً. وإذا عبر شاعرٌ آخر عن مشهدٍ، فإنه يبث فيه روح الحياة، حتى يكاد يشعر بها الإنسان!! الشعر يخلقُ ما يقول، هذه السمة التي تجعله مُتميزاً عن باقي فنون القول.

لحم الشعراء

تاريخياً الأمر مختلف.." لحم الشعراء" تعبير لشارل بودلير في يومياته على النحو التالي: " لو طلب شاعرٌ من الدّولة الحقَّ في أنْ يضع بعض البرجوازيّين في إسطبلهِ، لأثار الاستِغراب، لكن لو طلب برجوازيٌّ قليلاً من لحم الشُّعَرَاءِ "مَشْوِيّاً"، لَبَدا ذلك أمراً طبيعيّاً جِدّاً! " (شارل بودلير، اليوميات، ترجمة آدم فتحي، منشورات الجمل، كولونيا- ألمانيا، الطبعة الأولى 1999، ص ص 75-76). اليوميات هي صفحات الحياة الهادرة بالتفاصيل إلى آفاق بعيدةٍ. لا يكتبها الشاعر اعتباطاً ولا يترك فرصة سرد الوقائع دون التعبير عن أصالته وقريحته العميقة.

مهمٌ أنْ تأتي مقولة لحم الشعراء- في هذا السياق- بكل غبارها وتعطنها. فاللحم موطئ الفيروسات والحشرات ومرتع الطفيليات الاجتماعية من كل حدبٍ وصوبٍ. لأنه يعكس نظام الغرائز باختلاف منطلقاتها وأغراضها. وهو أيضاَ دليل حي على الاندماج في متن العالم، نحن نندمج بلحمنا في إيقاع المعطيات الحسية. فالحس هو ما يجعلنا نشعر بنبض الأشياء وصدى الكائنات. أنت تحس عندما تكون قادراً على التماهي مع عالمك وقواه الخفية التي تشملنا جميعاً.

لقد استعمل شارل بودلير تعبير (لحم الشعراء) بطريقة ماكرة كمقابل لبراح الشعر تجاه المجتمعات الراهنة من ناحيةٍ، وبمصاحبة قدراته على توجيه لطمات ناعمة لثقافة البيع والشراء من ناحيةٍ أخرى. لحم الشعراء أُدرج على طاولة الاقتصاد كبضاعة متاحة لأصحاب السلطة والنفوذ. اللحم يعبر عن (اقتصاد سياسي) عاصف قد تتبدد خلاله لغة الشعراء من الأساس. فالشعراء أمام البرجوازيين يفضحون نهم الرأسمال الذي يلف المجتمعات بين راحتيه. ولذلك ليس أقل من أنْ ينادي أحد الشعراء الكبار (بودلير) لدولته بوضع البرجوازيين في اسطبلات ... وهنا سيثير المطلب استغراباً ولا يلقى استجابةً!! المطالبة بهكذا وضع من جنس العمل الخطير على رهافة العالم والحياة. أليس الشعر فضحاً لقبح العالم؟ وكأن بودلير - بطرف خفي- يزج بالقبح كي يكون موضوعاً للتعري والانكشاف.

بالمقابل: لو طلب برجوازي لحماً مشوياً من جسد الشعراء لبدا ذلك طبيعياً!! ولكن المفارقة المغفُول عنها: أنَّه إذا كان لحم الشعراء مُستباحاً بوصفه مادةً بشريةً، فالمجتمعات لا تدرك أنَّ لحم الشعراء "سامٌ وقاتل" من جانب كونه مُعجزاً وخالقاً. لم يتناوله أحدٌ أو نهشه إلاَّ ومات ميتة الجاهلية. ذلك لكونه (أي لحم الشعراء) لغةً تند عن الأشياء بمعناها المادي كما أنه متماهٍ مع العالم دون مبارحةٍ. فحينما سيأكل البرجوازي شيئاً من لحم الشعراء، فإنّه سيلقى موتاً يفضحه على الملأ كما نقل بودلير في الفقرة الواردة بالأعلى.

غدا وجود البرجوازي نفسه لغةً مكشوفةً أمام الذباب من كل مكانٍ، سلعة كاسدة أمام المارّة في ردهات التاريخ. البرجوازي لا يفهم سوى ألعاب الاقتصاد والاستغلال، بينما يحول الشعراء الحيل والألعاب إلى حقائق لغوية فوق مستوى الشبهات. يعرض الشعراء كل صاحب نزعة تجارية صرف إلى مادة للسخرية والتهكم في عصر يشتري ويبتاع كل شيء. إن اللغة- بقول مارتن هيدجر– هي أخطر النعم، لكونها تعرضنا للانكشاف والتعري. وهذا ما يحققه الشعر تجاه غرائز الأوغاد والحمقى. إن شعراً أصيلاً لا يخلو من أصداء سياسية بطريقةٍ أو أخرى.

عليكُّم معشر الشعراء أنْ تصنعوا العالم من لحوم قصائدكم، ولا تأبهوا بمن ينادي عليكم في دامس الظلام. هكذا تبدو صور الأشياء والأزمنة والفضاءات لحماً للشعراء كما تدلل تجربة المبدعين، إذْ يشعرون بتحولاتها البعيدة. إنَّ كيان الشعراء هو عوالم اللغة المدهشة، يتجرعون أنفاسها، يصوغون صورها وينزفون دماءها الساخنة رغم مرور القصائد والعبارات بحقب كثيرةٍ. ولئن كان ثمة ثوب مخِيط بالإحساس المرهف والقوي في الآن نفسه، فهو الكلمات الشاعرة. لا ينفصل الشاعر للحظةٍ عن فعلها الحي.

هبة الشعر

على هذا المنوال يُوهِب كلُّ شاعر حقيقي حباً للإنسانية من لحمه الرمزي. ينزع الكراهية من لحمه الرمزي. يُجسد الافكار من لحمه الرمزي. تبدو الأشياء منتميةً إليه لا العكس، الكائنات تتصل بأسباب وجوده العميق. أنفاسه يسكبها حيث الأخيلة والمجازات التي تصل إلينا بكل زخمٍ ممكن.

ولئن دلّ هذا على شيء، فإنما يدلُ على أنَّ اللغة تتماهى مع العالم والطبيعة والحياة والموت. ذلك العشق الذي يجعلنا نحن البشر معجماً لغوياً للكون. نحن نتاج الطبيعة ونفهم ذواتنا ككائنات في عنفوانها الحيوي. إذْ تنسجم عناصر الطبيعة في الأعماق، وتبدو الكلمات زهوراً والمعاني أوراقاُ وروائح فوّاحة بكل ما هو جميل واستثنائي. هذا الطابع الشعري الأسطوري الذي لم يذهب عن عوالم الإنسان منذ القدم.

لا تُشْبه لغة الشعر أيَّةَ لغةٍ سواها، ولن تكون إلاَّ نفسها. وليس ذلك التطابق من باب التقنيات الفنية والأوزان والأشكال الشعرية، بل لكونِّ الشعر عملاً وجودياً على الأصالة. عبارات الشعر هي آثار الإنسانية وأخيلتها الأولى وذاكرتها وإحساسها الخام. وهي أبرز العناصر الممتدة عبر الزمن، فمازال الشاعر مع تطور الحياة محتفظاً بأحلام الإنسانية الخاصة منذ آلاف السنوات. وهو امتداد طبيعي لكل التراكم الثري للإنسان كتجسيد للتاريخ والتراث.

إنَّ دلالة ابداع الشعر كامنةٌ (فيه) لا إزاءه ولا تقع خارجه بحالٍّ من الأحوال. الشعرُ يُقال لا ليوّصِّف الأشياء ولا ليُعبر عنها تعبيراً خارجياً، بل ليخلّق، ليُشكِّل جوانب العالم كأننا لا نعرفه من قبل. وتلك هي البصمة الفلسفية المُبكرة في عُرف الشعراء. كلُّ شاعرٍ حقيقي يدرك جيداً: كيف (يخبز) تراب الحياة وأسرارها القُصوى؟ القصيدة دفقات وراء دفقات، حيث تتجلي عبرها أحاسيس الشاعر وقدراته (البدائية جداً والراهنة جداً) على الخلق.

وكلمة (البدائية الواردة هنا) تقف بمعناها الحفري من وراء تراث الإنسانية البعيد. فالمشاعر سحيقة جداً والأسرار الوجودية غائرة الجذور إلى اقصى مدى. لقد ورثناها كما هي، وسنوصلها إلى آخرين عبر وجودنا مثلما كانت. تظهر المشاعر والأحاسيس في الجسد بوصفها (وثيقة أنطولوجية) كأنّها النقوش، حيث الحب والعواطف والكراهية والغرائز والرغبات والعلاقات والأهواء. وتلك الأشياء هي الموارد الطبيعية الأساسية لدينا جميعاً نحن بني الإنسان. أي هي مواردنا الخام التي نصطنع منها عالماً معقداً ورمزياً. وعبرها نتواصل ونصنع كلَّ ما نملك أمام الآخرين. يصنع الشاعر من اللغة (كوناً له ولها) في الوقت عينه. اللغة بمثابة جسده الرمزي الذي يشكل جسداً فاعلاً في الحياة.

لا يملك الشاعرُ غير أنطولوجيا الابداع التي هي اللغة، إنه يسكن الوجود مؤكداً على معانيه وتأويلاته وفقاً لرأي مارتن هيدجر. عندئذ لا تُراهن على مَنْ لا يملك شيئاً سوى الكلمات، فقد امتلك الخلود، أخذ مواقفه تعبيراً عن الزمن. حينما يعبر الشاعر المُبدع، فهو يحقق غاياته لكل الناس، يذهب بعيداً مخترقاً الحواجز والقيود. وحينما يُصور الأشياء، فهو ينحت أفكاره بأزميل لا يخيب. وحينما يرى الكائنات، فهو يُمثل رؤيته بجسد الكلمات الذي هو متن الابداع.

ما مِنْ أحدٍ يستطيع أنْ يأكل كيانه كما يريد البرجوازي أنْ يفعل. لأنَّ لحم الشعراء لحم نيئ على الدوام. يصعب طهيه إلى حد الاستحالة، نظراً لأصالته العصيّة على الاهدار. يستمد حقائقه من أصالة الطبيعة والإنسان والزمن. فكما يستحيل طهي الطبيعة ككل، فكذلك لا أمل هناك في طبخ لحم الشعراء. لقد خابَ ظن منْ يتطلع إلى مضغه في نظام اجتماعي أو سياسي أيّا كان.

***

د. سامي عبد العال – أستاذ فلسفة

الثقافة، والمعرفة، والوعي، عناوين لمواضيع مختلف بعضها عن بعض، لكنها متداخلة تداخلاً أدى إلى خلط معانيها، ومن ثم إعاقة النقاش السليم في كلٍّ منها. أتحدث هذا اليوم عن الأولى (الثقافة) مقارناً بين مفهومها العربي ونظيره الأوروبي؛ طمعاً في إيضاح واحد من أسباب تفارق الأفهام بين المتحدثين.

حين تقرأ في الأعمال المترجَمة لباحثين أوروبيين، تجدهم يتحدثون عن ثقافة المجتمعات التقليدية، وثقافة البدو والأرياف... إلخ. وحين تأتي إلى أحاديث العرب المعاصرين، تجدهم يطلقون وصف «المثقف» على نخبة المجتمع المتعلمة، بل ربما قَصَروها أحياناً على المشتغلين بالثقافة، أو الذين تتصل مهنتهم بالإنتاج الثقافي، من كتاب وأدباء وأمثالهم.

وتتساءل: هل ترى أن الجماعة الأمية، أي التي لا تكتب ولا تقرأ، لديها ثقافة؟ فيجيبك الباحث الأوروبي: نعم، ويجيبك القارئ العربي: لا.

وفقاً لمفهوم الثقافة المتعارف عليه في الغرب، فإن كل إنسان يحمل ثقافة المجتمع الذي ينتمي إليه، ويتلقاها منذ لحظة اتصاله بالمحيط الاجتماعي. الثقافة عنوان لمحتوى واسع النطاق، يشمل التقاليد التي ورثها المجتمع، أو طوَّرها من خلال احتكاكه بضرورات الحياة. كما يشمل الأخلاقيات والأعراف والفولكلور والأدب والحكايات الشعبية وأنماط المعيشة والتعامل، ومنظومات القيم الخاصة والمعتقدات وتطبيقاتها، وكل ما يشير إلى شخصية المجتمع وطريقة حياته. ولا يهم بعد ذلك أن يكون هذا المجتمع متعلماً (بمعنى أنه تلقَّى التعليم وفق النظم الحديثة) أو يكون أُمِّيّاً (بمعنى أن غالبية أعضائه لا يقرأون ولا يكتبون).

هذا يوضح أن مفهوم «ثقافة» عندنا مختلف عن نظيره الأوروبي. ومن هنا فإن الحديث عن الثقافة من زاوية علم الاجتماع، يستدعي بالضرورة المفهوم الأوروبي، لأن علم الاجتماع الذي نتداوله، نشأ وتطور هناك.

قلت إن وصف الثقافة والمثقف يشير، وفق المعنى الشائع في التداول العربي، إلى النخبة وأصحاب المهن الثقافية. وهو بعيد جداً عن المفهوم الغربي السابق الذكر.

يظهر أثر هذا المشكل حين تعالج -من زاوية علمية- المواضيع الاجتماعية المتصلة بالثقافة، كما فعلت في مقال الأسبوع الماضي، حين تحدثت عن الثقافة السياسية. فالواضح أن بعض القراء فهموا الثقافة في معنى نوعية المعرفة الجديدة المتاحة للمجتمع، ولذا نسبوا المشكلة إلى التأثير الآيديولوجي، وقرر آخرون أن المشكلة في التعليم. والحق أن العاملَين كليهما مؤثران إلى حد معين. لكنَّ جوهر المشكل في مكان آخر؛ هو التاريخ الثقافي (بالمفهوم الغربي للثقافة)، أي انعكاسات التجربة التاريخية على ذهنية المجتمع وذاكرته. ومثال ذلك المجتمعات التي تتعرض للقمع الشديد؛ فهي تميل إلى الارتياب في المستقبل، ولذا لا تخوض مغامرات مكلفة، وهذا يبرز خصوصاً في قلة الميل إلى الاستثمار الاقتصادي في المشاريع طويلة الأمد.

ويتحدث علماء الاجتماع أيضاً عن فروق سلوكية بين المجتمعات الزراعية وتلك الصناعية أو التجارية، بل حتى بين مجتمعات الريف والمدن.

بهذا المعنى فإن «الثقافة» هي عنوان لمحتويات الذهن والذاكرة، التي توجِّه السلوك العفويّ للفرد والجماعة، كما تؤثر بقوة على رؤيته لعالمه والناس والأشياء من حوله، فضلاً عن طريقة تعامله مع المستجدات والحوادث. لا يحتاج المرء إلى الكتاب أو المدرسة كي يحمل هذا النوع من الثقافة، بل يحتاج إلى التواصل مع المجتمع الذي ينتمي إليه، وسوف يأخذ نسخة من الذاكرة الاجتماعية خلال تعامله اليومي. وعندما يتقدم في العمر، سيجد أن ذهنه بات نسخة من العقل الجمعي، ولهذا فهو يحمل هوية الجماعة ويُمسي عضواً فيها.

نحن نمتص ذاكرة آبائنا ومجتمعنا بشكل تدريجي وعفوي، لا نشعر به وهو يحدث. لكن بعد مرور سنوات، سوف نتيقن ان تاريخنا الشخصي هو تاريخ الجماعة، وسنرى أن لهجتنا ومفرداتنا وفهمنا للعالم، هو الفهم ذاته السائد في الجماعة. هذه -ببساطة- طريقة انتقال الثقافة، وهذا هو معناها، أي الذهن والذاكرة التي تشير -غالباً- إلى الماضي.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

نميل، في حياتنا اليومية، إلى ربط “الحضور” بشيءٍ ملموس: أن يكون الآخر معنا في المكان ذاته، أو أن تصلنا منه كلمة مكتوبة أو صوت مسموع. بهذا المعنى السطحي، يصبح الحضور مجرد دليل فيزيائي على الوجود، أو رسالة تؤكد أننا لم نُنسَ بعد. لكن أي قراءةٍ أعمق للعلاقات الإنسانية، ولتجربة الكينونة نفسها، تكشف أن الحضور أوسع وأغنى من هذه الحدود؛ إنه ليس فقط مسافةً تُقطع أو رسالةً تُرسل، بل هو شكل من أشكال الوجود الذي يتجاوز الزمن والمكان، ويتغلغل في أعماق الذاكرة والوجدان.

الحضور بين الجسد والروح

منذ قرون، شغلت مسألة الحضور الفلاسفة واللاهوتيين والمفكرين. فعند الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار، على سبيل المثال، ليس المكان مجرد فضاء هندسي، بل هو بيت للوجود، حيث تتداخل المادة بالخيال، والحس بالذاكرة. وعند مارتن هايدغر، الحضور (Dasein) هو أساس وجود الإنسان ذاته: أن تكون حاضراً معناه أن تكون منفتحاً على العالم، مشاركاً فيه، حتى في صمتك أو في غيابك الجسدي. بهذا الفهم، يصبح الحضور ليس مجرد “تواجد” بل “انكشافاً” لما هو أعمق: علاقة، أثر، إمكانية.

إننا نحضر في حياة الآخرين بطرقٍ متعددة، بعضها لا يحتاج إلى كلمات. نظرة عابرة، ذكرى محفورة، موقف كريم لم يُنسَ. الحضور هنا لا يُختزل في الجسد أو الرسالة، بل في الأثر النفسي والمعنوي الذي يظل حيّاً، حتى حين يغيب الشكل الفيزيائي.

الغياب كأحد وجوه الحضور

المفارقة أن الغياب نفسه قد يكون أحياناً شكلاً من أشكال الحضور. ففي قصيدة الشاعر الألماني ريلكه، يُصوَّر الغياب بوصفه مساحة يفيض منها الآخر فينا، كأنه يترك فراغاً مشعاً يذكّر بامتلائه السابق. الغياب، إذن، ليس فراغاً محضاً، بل طاقة صامتة تدفعنا إلى إدراك قيمة من نفتقد. هنا، يُعاد تعريف “الهجران” أو “الترك”: فقد يكون الآخر غائباً جسداً، لكنه ما زال يحضر عبر أثره فينا، عبر صدى صوته الذي نسمعه في ذاكرتنا، أو في طريقة تصرف نتبناها من غير وعي.

هذا الإدراك يمكن أن يغير جذرياً نظرتنا إلى العلاقات. فكم من سوء فهم ينشأ لأننا نحصر الحضور في الرسالة السريعة أو المكالمة المنتظمة، فنعتبر الصمت “إهمالاً” والغياب “تركاً”. بينما قد يكون الصمت أحياناً أرقى أشكال الحضور، لأنه يترك للآخر مساحة كي يكتشف ذاته، ويمنحه ثقة بأن العلاقة لا تحتاج إلى إثبات يومي كي تظل قائمة.

الحضور في زمن الاتصالات

في عصرنا المهووس بالتواصل اللحظي، صارت قيمة الحضور تُقاس بعدد الإشعارات والردود السريعة. الرسائل المتواصلة توهمنا أننا حاضرون، لكن هل يكفي هذا؟ أليست هذه السرعة في التواصل نوعاً من “الحضور المزيف” الذي يخفي فراغاً عاطفياً؟ إن الحضور الأصيل لا يقاس بالكمّ، بل بالكيفية: كيف يظل الآخر ماثلاً في وعينا حتى حين تنطفئ الشاشة؟ كيف نشعر بطمأنينة في علاقته بنا، حتى وإن طال الغياب؟

الكاتب الياباني هاروكي موراكامي يصف هذا المعنى في إحدى رواياته حين يقول إن بعض الأشخاص يبقون معنا مثل “موسيقى داخلية”، لا نحتاج إلى سماعها بصوت عالٍ كي نطمئن أنها موجودة. هذا الحضور الهادئ، الخفي، هو ما يمنح العلاقات قوتها وعمقها.

إعادة تعريف “الهجران”

حين نفهم الحضور بهذا الشكل الوجودي، سنعيد النظر جذرياً في الكثير من التصرفات. لن نقرأ الصمت كإهمال بالضرورة، بل كخيار للحفاظ على مساحة مشتركة أعمق من الكلام. لن نرى الغياب الجسدي هجراناً، بل ربما وسيلة ليتحول الآخر إلى جزءٍ من ذاكرتنا الداخلية، حيث يستحيل فقده تماماً. وسيصبح السؤال الحقيقي ليس: “هل الآخر موجود معي الآن؟” بل: “كيف يسكنني أثره حتى في غيابه؟”.

بهذا المنظور، نفهم أن “الهجران” الحقيقي لا يحدث حين يغيب الجسد أو الكلمات، بل حين ينقطع الأثر، حين يتوقف الآخر عن العيش في وعينا وفي امتداد ذواتنا. أما ما دون ذلك، فهو اختلاف في أشكال الحضور، وليس انقطاعاً له.

نحو ثقافة جديدة للحضور

إن إعادة تعريف الحضور ليست مجرد ترف فلسفي، بل ضرورة إنسانية. ففي عالمٍ يتسارع إيقاعه حتى يوشك أن يبتلعنا، نحن في أمسّ الحاجة إلى أن نعيد الاعتبار لما هو أعمق من الرسائل والإشعارات. علينا أن نتعلم كيف نثق بحضور الآخر حتى في صمته، وكيف نمنح أنفسنا شجاعة الصبر على غيابه. عندها فقط، يمكن لعلاقاتنا أن تتحرر من التوتر وسوء الفهم، وأن تصبح أكثر رسوخاً وامتلاءً.

فالحضور، في جوهره، ليس “أن نكون معاً” فحسب، بل أن نكون في صميم حياة الآخر، بأثرٍ لا تمحوه المسافة ولا الغياب. إنه فعل وجودي، يتجاوز الفيزياء واللغة، ليصير شكلاً من أشكال العيش المشترك، حيث نصبح، في نهاية المطاف، أكثر من مجرد أجساد أو كلمات: نصبح حضوراً متبادلاً في الذاكرة والوجدان.

***

يونس الديدي - كاتب مغربي متخصص في الشؤون الاجتماعيّة والسياسية.

قراءة في سيرورات المدى (القصير) والمدى (الطويل)

من حسنات مدرسة الحوليات الفرنسية ذائعة الصيت، والتي استحالت لاحقا"الى مسمى آخر يدعى (التاريخ الجديد) على يد ثلة لامعة من مؤرخي تلك المدرسة العتيدة أمثال ؛ فرنان برودويل – تاريخ الحضارات، وجاك لوغوف - تاريخ القرون الوسطى، وميشيل فوفيل – تاريخ الأمد الطويل، وكريزيستوف بوميان - تاريخ البنى، وأنريه بورغيار - الانثروبولوجيا التاريخية، وفيليب إرياس – تاريخ الذهنيات، وجان – ماري بيسار – تاريخ الثقافة المادية، وجان لاكوتور – التاريخ الآني، وغي بوا – الماركسية والتاريخ الجديد، وجان كلود شميت – تاريخ المهمشين، وإفيلين باتلاجين – تاريخ المتخيل، وغيرهم . ليس فقط كونها أرخت سدولها على مجالات معرفية كانت غائبة أو مغيبة عن الحقل التاريخي، بحيث أضحى (التاريخ) بمثابة البؤرة التي تتقاطع داخلها غالبية العلوم الاجتماعية والإنسانية فحسب . وإنما أرست دعائم مقاربة جديدة لا تقتصر فقط على تحليل الظاهرة الاجتماعية المعنية من منظور منهجية واحدة، بقدر ما تضعها في بؤرة تقاطعات عديد من المنهجيات التي من شأنها (تعرية) الظاهرة المعنية من جميع الأغطية التي تحجب عن الباحث رؤية المصادر الخفية التي تكونت على أساسها، والكشف عن السياقات المهملة التي تمخضت عنها، وإماطة اللثام عن المئالات المتوقعة التي ستنتهي إليها .

ولعل من جملة الايجابيات والحسنات التي ابتدعتها هذه المدرسة العريقة في مجال تحليل السيرورات التاريخية المرتبطة بالظواهر الاجتماعية والإنسانية، هي اعتمادها عملية (التحقيب الافتراضي) لتلك السيرورات، وذلك بتقسيمها الى مديات زمنية مختلفة من حيث (السياقات) ومتعدد من حيث (الآماد) . بحيث لم تعد قراءة تاريخ الظاهرة المعنية منوطة بفترة زمنية يمكن الاستدلال عليها برقم زمني معين مثل (القرن الرابع عشر أو السادس عشر)، أو بتوصيف نوعي محدد (قديم – وسيط – حديث) كما كان يجري في المقاربات والقراءات التقليدية السابقة، وإنما بات التحقيب يتم على أساس ما تشتمل عليه الظاهرة قيد البحث أو الدراسة ذاتها من خصائص فريدة، فضلا"عن طبيعة ما تقيمه من علاقات، ومستوى ما يتخللها من تفاعلات مع بقية الظواهر الأخرى . وهو الأمر الذي أفضى الى أعادة النظر والتفكير بالكثير من المفاهيم والتصورات والاستنتاجات، التي سبق وإن جرى التواضع على معانيها والتوافق على دلالاتها بكيفيات لا تخلو من سلبيات (التفريط) في التقييم الموضوعي و(الإفراط) في التعميم الافتراضي  .

وهكذا فقد أتاحت لنا هذه المنهجية المبتكرة مقاربات مركبة ومعمقة تستهدف ؛ الكيانات الجغرافية، والسرديات التاريخية، والبنى الاجتماعية، والأنساق الثقافية، والأعماق السيكولوجية، والشيفرات الرمزية، بصورة تختلف جذريا"عما كانت المنهجيات السابقة (التقليدية) تتبناه وتمارسه أثناء تحليل الظواهر وتفسير المعطيات . إذ لم يعد يكفي – بموجب هذه المنهجية - النظر الى الظواهر الاجتماعية أو الأحداث السياسية أو التحولات الثقافية أو الانزياحات القيمية، باعتبارهما حصيلة أوضاع وظروف الواقع (المعيش) وما يكتنفه من خلافات سياسية، وانقسامات اجتماعية، وصراعات إيديولوجية، وإشكاليات تاريخية فحسب . وإنما يستلزم التعاطي معها من منطلق كونهما نتاج خلفيات تاريخية متقادمة، ومرجعيات حضارية متراكمة، وتشكيلات اقتصادية متناضدة، وأصوليات سوسيولوجية متداخلة . كما أن هذه المنهجية استوجبت مراعاة الفوارق النوعية ليس فقط بين البنى والأنساق والأنماط ذات (الأمد القصير) أو (الأمد المتوسط) أو (الأمد الطويل) فحسب، بل وكذلك مراعاة الاختلافات النوعية بين تلك البنى والأنساق والأنماط على صعيد (التسارع) أو (التباطؤ) في الديناميات والجدليات التي تتحكم في إيقاعات تطورها أو نكوصها .

وبضوء هذه المنهجية التاريخية المثمرة، لم يعد صعبا"على الباحث تفسير ظاهرة (الركود) الثقافي و(الجمود) المعرفي التي لا تبرح تستوطن المجتمع العراقي لتفاقم من مشاكله المستعرة، وتراكم من إشكالياته المستعصية . هذا على الرغم من خضوعه لعقود من التغييرات السياسية، والتحولات الاجتماعية، والتبدلات الاقتصادية التي تمخضت عن / وترتبت على تلك المشاكل والإشكاليات، وهو الأمر الذي وصم جماعاته ومكوناته بالتخلف الاجتماعي المزمن والانحطاط الحضاري المتوطن . ذلك لأن من طبيعة العامل السياسي وقوعه ضمن إطار زمنية (الأمد القصير) المتسارعة نسبيا" في حراكها وتطورها، إذا ما قورنت بالعوامل الاقتصادية والاجتماعية التي يمكن تصنيفها ضمن إطار زمنية (الأمد المتوسط)، والتي عادة ما تعكس عناصرها حراكا"(أبطأ) في تكوين تشكيلاتها وبناء علاقاتها وتفعيل مؤثراتها، مما يمكن ملاحظته في إطار الزمنية الأولى (القصيرة المدى) المتسارعة من جهة، ولكنها، من جهة أخرى، تبدو – إذا ما قورنت بالعامل الثقافي الذي يصنف ضمن إطار زمنية (الأمد الطويل) – أسرع في حراك عناصرها وانتشار تأثيرها . أي بمعنى ان عمليات التغير والتطور المتوقع حصولها ضمن إطار العامل (الثقافي) لا يمكن ملاحظتها أو الإحساس بها إلاّ عبر آماد زمنية متطاولة ربما تمتد على مساحة (قرون) متعددة، أما بالنسبة لعمليات التغير والتطور التي يتوقع حصولها ضمن إطار العوامل (الاجتماعية والاقتصادية)، فالمرجح أنه يمكن ملاحظتها أو الإحساس بها خلال عدة (عقود) . هذا في حين يمكن رصد الأحداث (السياسية) وتشخيص الوقائع المرتبطة بها، عبر عدد من (السنين) التي تتراوح ما بين العقد أو العقدين على أكثر تقدير .

ومن هذا المنطلق، يتوجب على الكتاب والباحثين والأكاديميين فهم وإدراك حجم الصعوبات والمعوقات والتحديات التي سيكون عليهم مواجهتها والانغمار في أتونها، في حال حملتهم (وطنيتهم – عراقيتهم) على تبني خيارات التغيير السياسي والتطوير الاجتماعي والتنوير الثقافي، التي ينشدون حصولها لهذا المجتمع المفكك والمتهالك الذي مزقته الحروب وفرقته الصراعات وذررته الكراهيات .

***

ثامر عباس – باحث عراقي

إن الحديث عن الثقافة حديث متشابك، كونها تتمازج مع كل معنى يتناوله أو يعرفه الإنسان، فالثقافة لا ترتبط بتحصيل المعرفة، بل بعملية استخدامها وكيفية توظيفها، ففي البحث عن هوية الثقافة لشعب أو مجتمع ما، يجب علينا معرفة طريقة عيشهم وميولهم إلى الموضوعات واستخدامهم للغة والدين، وطريقة تداولهم للمشاعر بينهم، فكل شعب يمتاز بعده مميزات، توجه تفكيره وتحدد مشاعره.

فكل متبنى فكري ثقافي هو نتيجة لفهم أعمق لعادات وتقاليد المجتمع ودينهم ومشاعرهم، وهذا هو ما يتميز به الادباء أنهم مميزون في توظيف وتفعيل ثقافة مجتعمهم بأسلوب جمالي تجعله ذات بُعد عالمي. 

فلكل ثقافة هوية خاصة بها تكتسي لوناً معيناً من التفكير وفهم الموضوعات، وينعكس ذلك على كل الطرق في المجتمع والدين والدولة. فالثقافة في جوهرها فعل تذوق وفهم وتأويل، وليست مجرد حفظ ونقل، فهي تنبض في الأسواق الشعبية كما تنبض في المعارض الفنية، وتتكلم بلسان الفلاح كما تتكلم بلسان الفيلسوف. إنها الجسر الذي يربط حكمة الأجداد وأسئلة الأبناء، وبين جماليات الفن وضروريات الحياة. لهذا فإن الحديث عن الثقافة لا يمكن عزله عن الجغرافيا التي تحتضنها، ولا عن التاريخ الذي يروي مسيرتها، ولا عن الدين الذي يلزم قيمتها، ولا عن المشاعر التي تحدد شكل تفاعل أفرادها.

لكن في زمن الصورة والتقنيات الرقمية حدث ما يمكن تسميته انكماش المسافة الثقافية، إذ لم تعد الجغرافيا تصنع الفوارق كما كانت من قبل. بل تحولت الثقافة إلى منتج قابل للتصدير عبر الإنترنت.

وهربارت ماركوز في مشروعة النقدي (الإنسان ذو البُعد الواحد) يرى إن الصراع بين الواقع الثقافي والواقع الاجتماعي قد أخذ اليوم بالتراخي، فالعناصر المعارضة، والمغتربة والمتعالية، التي كانت الثقافة الرفيعة تُشكل بفضلها بعدا آخر للواقع، هي في سبيلها إلى الزوال. وتصفية العناصر المعارضة التي تخلق التوتر لا تتم الآن عن طريق نفي القيم الثقافية وطرحها، بل تتم من خلال دمجها في النظام القائم، وعن طريق إعادة إنتاجها وتوزيعها على نطاق واسع.

واذا كانت وسائل الاتصال الجماهيري تخلط على نحو منسق ومموه في الغالب بين الفن والسياسة والدين والفلسفة والتجارة، والمبدع والمشهور، بين القارئ والمفكر، فإنها في الوقت نفسه، ترجع هذه المجالات الثقافية إلى قاسم مشترك، يطلق عليه ماركوز الشكل الانطباعي.

فتسليع الثقافة أصبح أمرا شائعا، لأنه تم سلخ المُثل الأعلى من مجاله السامي، والروحي للتعبير عنه بمعدلات علمية وتجارية وبسيطة وشائعة في المجتمع.

وحتى الكلمات الكبيرة مثل الحرية والامتلاء والكرامة التي يرددها الزعماء والسياسيون في حملاتهم على الشاشات والموجات وفوق المنابر، لا معنى لها إلا في سياق الدعاية والأعمال، وخارج هذا السياق تصبح أصواتاً لا دلالة لها.

ومع شيوع هذا النمط يصبح الخطر الأكبر هو انكماش المعنى الثقافي للمجتمع، فحين تختزل الثقافة إلى مجرد استهلاك سريع للصورة والأفكار الجاهزة، يضعف النقد ويتراجع الإبداع الخلاق. ويتحول الوعي إلى مرآة تعكس ما يُلقى عليها بدل أن تبتكر صورها الخاصة. وتتمثل هذه الثقافة عند أصحاب الوعي المخدر والمزيف، الذين يرون في تسليع الوعي والحصول على المكاسب تجارة ثقافية.

أما أصحاب الثقافة الحية فهم القادرون على مقاومة كل هذا الزيف الثقافي مهما اخذت حقوقهم وابتعدت امانيهم. فالمثقف الحق هو من يحمي مجتمعة من الذوبان في ثقافة الصورة، وأن يمنح الصورة بعدا يتجاوز لحظتها الخاطفة، وأن يعيد للكلمة سحرها وقوتها، وللنقد مكانه.

 واذا كانت وسائل الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي قد عمقت من هيمنة ثقافة الصورة، فإن دور المثقف والمبدع اليوم أكثر إلحاحاً، ليس فقط في إنتاج المحتوى، بل في إضافة المعنى.

وبهذا يمكن القول إن الثقافة ليست مجرد ادعاء، بل هي القوة التي تعيد تشكيل معنى الواقع بما يستحق، وهي مقاومة وتجاوز للوضع الراهن، فإن مسؤوليتنا الفلسفية والأدبية أن نستعيد للثقافة وظيفتها الأصلية، وان نفتح نوافذ جديدة للوعي، وان نجعل للإنسان القدرة على تقرير مصيره وصنع معناه.

***

كاظم لفتة جبر

بقلم: صوفيا روزليك -  Sophia Roselake

ترجمة: رزكار عقراوي

***

إن التطور السريع والاندماج المتزايد للذكاء الاصطناعي في مختلف مجالات الحياة قد أثارا نقاشات واسعة حول انعكاساته على المجتمع والاقتصاد والعلاقات الإنسانية. ويزداد القلق من أن المسار الحالي لتطوّر الذكاء الاصطناعي، الذي تقوده إلى حد كبير المصالح الشركاتية، قد يفاقم من عدم المساواة الاجتماعية القائمة ويقوّض القيم الديمقراطية.

ردًا على ذلك، بدأ يتبلور بديل يساري للذكاء الاصطناعي، يقوم على ضرورة أن تخدم التكنولوجيا مصالح المجتمع الأوسع، لا أن تكون وسيلة لتكديس الثروة في أيدي قلّة. هذا التوجه يدعو إلى تطوير أكثر شمولًا وعدالة وشفافية للذكاء الاصطناعي، يضمن أن تكون منافعه متاحة للجميع وأن يتم التخفيف من مخاطره.

جوهر هذا البديل يتمثل في فحص نقدي لبنى القوة والأنظمة الاقتصادية التي يقوم عليها المشهد الراهن للذكاء الاصطناعي. فهو يتحدى النموذج النيوليبرالي السائد الذي يعطي الأولوية للكفاءة والإنتاجية والربح على حساب الرفاه الإنساني والعدالة الاجتماعية. ويؤكد المدافعون عن البديل اليساري أن الذكاء الاصطناعي يجب أن يُطوَّر ويُستخدم بطرق تعزز الملكية الجماعية، والسيطرة الديمقراطية، والصالح العام. وقد يشمل ذلك مبادرات مجتمعية للذكاء الاصطناعي، ونماذج للملكية التعاونية، واستثمارات عامة في البحث والتطوير تضع الأهداف الاجتماعية والبيئية في المقدمة.

كما يتم التشديد على ضمان أن تكون أنظمة الذكاء الاصطناعي شفافة وخاضعة للمساءلة وخالية من التحيزات التي تعيد إنتاج التمييز واللامساواة. ويتطلب ذلك مقاربة متعددة الاختصاصات، لا تقتصر على خبراء التقنية، بل تشمل علماء الاجتماع والأخلاقيات وممثلي المجتمعات المحلية في تصميم وحوكمة هذه التقنيات.

يسلط البديل اليساري للذكاء الاصطناعي الضوء أيضًا على أهمية حماية حقوق العمال وتعزيزها في عصر الأتمتة. فمع إحلال الذكاء الاصطناعي والأتمتة محل بعض الوظائف، تبرز الحاجة إلى شبكة أمان اجتماعي قوية، وبرامج مستمرة للتعليم وإعادة التأهيل المهني، إضافة إلى ضمان الدخل الأساسي الشامل بما يكفل مستوى معيشيًا لائقًا للجميع.

ويتجاوز هذا المنظور النطاق المحلي ليطالب باستجابة عالمية لتحديات الذكاء الاصطناعي، إدراكًا بأن تأثيراته لا تقف عند حدود الدول. لذلك يصبح التعاون والاتفاقات الدولية أمرًا ضروريًا لوضع معايير وقواعد مشتركة لاستخدام وتطوير الذكاء الاصطناعي، لمنع سباق تنافسي مدمر وضمان أن يخدم الذكاء الاصطناعي البشرية جمعاء.

قد يرى منتقدو هذا البديل أن مثل هذا النهج قد يعرقل الابتكار أو يقلل من الفوائد المحتملة للذكاء الاصطناعي. لكن أنصار البديل يؤكدون أن بناء منظومة أكثر عدالة وديمقراطية يمكن أن يقود في المدى الطويل إلى تطورات تكنولوجية أكثر استدامة ونفعًا. فمن خلال إعطاء الأولوية للاحتياجات الإنسانية والعدالة الاجتماعية، يسعى البديل اليساري إلى خلق مستقبل تكون فيه التكنولوجيا أداة لتحسين جودة حياة الجميع، وليس امتيازًا محصورًا في قلة.

هذه الرؤية ليست خالية من التحديات، إذ تتطلب تحولات عميقة في طريقة تفكيرنا بالتكنولوجيا والاقتصاد والمجتمع. ومع ذلك، وأمام التداعيات العميقة للذكاء الاصطناعي، يقدم البديل اليساري منظورًا نقديًا وأملاً حقيقيًا في آن واحد، يفتح المجال لتصور مستقبل تُسخّر فيه التكنولوجيا للصالح العام.

إن تطوير هذا البديل عملية مستمرة تتطلب الحوار والتجريب والعمل الجماعي، ومشاركة طيف واسع من الأطراف الفاعلة: من صناع السياسات إلى التقنيين والناشطين وممثلي المجتمعات. ومن خلال هذا الجهد التشاركي، يمكن صياغة ذكاء اصطناعي يخدم البشرية بحق، ويعزز العدالة والمساواة والسلام.

ورغم أن الطريق نحو هذا الهدف سيكون معقدًا وشاقًا، إلا أن المكاسب المحتملة هائلة. فنحن اليوم نقف عند مفترق طرق بين التقدم التكنولوجي والتحولات الاجتماعية، حيث يشكل البديل اليساري للذكاء الاصطناعي منارة أمل لمستقبل أفضل. وهو يذكّرنا بأن الذكاء الاصطناعي ليس مسألة تقنية فحسب، بل قضية سياسية واجتماعية عميقة تتطلب فهمًا نقديًا لمفاهيم السلطة واللامساواة والعدالة. ومن خلال تبنّي هذا المنظور، يمكننا المضي نحو ذكاء اصطناعي يعزز الكرامة الإنسانية، ويدعم التضامن الاجتماعي، ويسهم في بناء عالم أكثر استدامة وعدالة.

في جوهره، يتمحور البديل اليساري للذكاء الاصطناعي حول إعادة تصور العلاقة بين التكنولوجيا والمجتمع والإنسانية، بهدف بناء مستقبل أكثر عدلًا وإنسانية وكرامة للجميع.

***

......................

* هذه المقالة كُتبت بالانكليزية في الأصل كتعقيب على أحد فصول كتاب رزكار عقراوي «الذكاء الاصطناعي الرأسمالي: تحديات اليسار والبدائل الممكنة» الذي نُشر في الموقع اليساري العالمي:

https://newpol.org/issue_post/the-leftist-alternative-to-artificial-intelligence/

وقد تضمّنت النسخة الإنكليزية رابطًا مباشرًا إلى أحد فصول الكتاب في نهاية النص. وتتناول المقالة بشكل مختصر القضايا التي طرحها الكتاب، وتشكل مساهمة قيمة في الحوار المستمر حول الرؤية اليسارية للذكاء الاصطناعي.

كما نُشرت أيضًا بشكل مستقل في موقع انكليزي يهتم بأهم الأخبار والأحداث والإصدارات في العالم:

https://e2e4.news/2025/08/07/revolutionizing-tech-the-leftist-alternative-to-artificial-intelligence/

من النشر إلى التجنيد

لم تعد وسائل التواصل الاجتماعي مجرد منصات للتعبير أو التواصل بين الأفراد في عصرنا الرقمي الراهن. بل أصبحت ساحة معارك غير مرئية، تُدار فيها الحروب الحديثة بادوات جديدة، وفي طليعتها ما يُعرف بالغزو السيبراني، ولم يعد هذا المصطلح محصوراً في آختراق الانظمة أو سرقة البيانات، بل تعداه ليشمل السيطرة على العقول، والتأثير على الوعي الجمعي، بل وحتى تجنيد الافراد في جماعات مسلحة أو متطرفة عبر أدوات النشر الرقمية.

سلاح ذو حدين من التأثير الى التجنيد

شكلت منصات فيسبوك و(X) وإنستغرام ويوتيوب وغيرها تأثيراً كبير، التي أحدثت ثورة غير مسبوقة في حرية التعبير وتبادل المعلومات، لكنها في الوقت ذاته، فتحت الباب واسعاً أمام قوى خفية لإطلاق حملات تضليلية، ونشر خطابات الكراهية، والتلاعب بالمشاعر الجماهيرية، بهدف خلق حالة من الفوضى أو الاستقطاب الحاد داخل المجتمعات. لقد شهدنا في العقود الاخيرة نماذج متعددة لما يُمكن تسميته ب(الغزو الناعم)، حيث تتحول هذه المنصات الى أدوات دعاية غير رسمية تنفذ أجندات دول أو جماعات إرهابية، دون إطلاق رصاصة واحدة، وإنما عبر تغريدة أو فديو أو رسالة عبر تطبيق مشفّر.

لعل أخطر ما يمكن الحديث عنه في هذا السياق هو تحول بعض منصات التواصل الى بوابة عبور نحو التجنيد، لاسيما من قبل الجماعات المتطرفة أو الارهابية، (كداعش) و(القاعدة) وسواها. فقد أظهرت تقارير آستخبارتية عديدة من دول العالم، أن آلاف الشباب تم تجنيدهم الكترونياً، دون أي تواصل مادي مع الجماعة، بل من خلال حملة متقنة من التلاعب النفسي، تستهدف الحالمين والغاضبين والمهمشين، أو حتى المغرر بهم بآسم الدين والعدالة أو نزع الحقوق التي سُلبت منهم..الخ.

تبدأ العملية غالباً بمحتوى يبدو للوهلة الاولى بريئاً أو مؤثراً يأخذ الجانب الانساني بأثارة العواطف لدى روح الشباب المندفعة، وذلك من خلال فيديو عاطفي عن معاناة المسلمين أو منشورات تتحدث عن الهوية أو انتقادات للفساد والظلم. ثم يُستدرج المتابع تدريجياً نحو غرف الدردشة الخاصة، أو تطبيقات منصات التواصل الاجتماعي بآختلاف أنواعها، حيثت بدأ مرحلة (غسل الادمغة) وتعزيز مشاعر الغنتماء، وصولاً الى التنفيذ أو السفر للمشاركة في الجهاد بآسم نصرة الدين، والدين منهم براء.

الحرب النفسية الاكترونية

 الخصوم اليوم لا يهاجمون الحدود، بل يهاجمون العقول. وهذا ما يُعرف بالحرب النفسية الالكترونية. الهدف ليس فقط التجنيد، بل زعزعة الاستقرار النفسي، وزرع الشكوك، وبث الفتن. ويمكن ملاحظة ذلك في الحملات المنظمة التي تُشن فجاة على مؤسسات أو شخصيات عامة، من خلال ما يُعرف بالجيوش الالكترونية أو ما يصطلح عليه بالذباب الالكترونين الذي يملأ الفضاء الرقمي برسائل مكررة، وتعليقات سامة، قد تؤدي الى نتائج واقعية مؤلمة. ولا تقتصر هذه الحرب على الأفراد، بل تطال حتى المؤسسات والدول، من خلال اختراق المنصات الرسمية، أو نشر إشاعات تمس الامن الوطني والقومي للبلاد، أو خلق أزمات دبلوماسية وهمية، كما حصل في عدة حوادث إقليمية في السنوات الماضية.

من يقف وراء الكواليس؟ ضعف الرقابة أم صعوبة المواجهة؟

قد يكون السؤال الأهم هو، من يدير هذه الحملات؟ هل هي دول؟ أم جماعات منظمة؟ أم أفراد؟ الحقيقة أن كل هذه الاحتمالات واردة، فبعض الدول وظّفت ميزانيات ضخمة لتأسيس وحدات الكترونية هدفها التلاعب بالرأي العام، داخلياً وخارجياً. وبعض الجماعات الارهابية طوّرت أدوات متقدمة لتجاوز الرقابة، وتجنيد مختصين بالتقنيات الرقمية ضمن صفوفها. بل إن بعض الهجمات السيبرانية قد تنطلق من غرف مغلقة يديرها مراهقون، تحركهم دوافع أيديولوجية أو حتى مالية. لذا ينبغي الحيطة والحذر، ووجود ثقافة أو أطلاع لدى المتصفح والمتابع لما يحيط العالم من تحديات جمة.

أحد التحديات الكبرى في هذا الميدان هو ضعف الرقابة الفعّالة على المحتوى المنشور عبر الانترنت، وصعوبة تتبع من يقف خلف الحسابات المجهولة أو المتخفية. فالتقنيات الحديثة تسمح بإخفاء الهوية، وتجاوز أنظمة الحجب بسهولة، ناهيك عن الاستخدام المتزايد للذكاء الاصطناعي في إنتاج محتوى مزيف يصعب تمييزه عن الحقيقة، مثل الفديوهات العميقة التي قد تُستخدم لتلفيق تصريحات مزورة أو أحداث غير حقيقة. ورغم الجهود التي تبذلها بعض المنصات الكبرى في تقنين المحتوى، إلا أن هذه الجهود غالباً ما تأتي متأخرة أو غير كافية، لأسباب قانونية أو تجارية أو حتى سياسية.

كيف نواجه هذا الغزو؟

المواجهة ليست تقنية فقط، بل تربوية وإعلامية وثقافية، ومن أبرز الخطوات التي يجب العمل عليها: 1/ رفع الوعي الرقمي، وذلك من خلال حملات تثقيفة تعلّم الناس كيفية التحقق من المعلومات، وعدم الانجرار خلف العناوين المضللة أو الحسابات الوهمية. 2/ إنشاء قوانين واضحة، فمن خلال مكافحة الجرائم الالكترونية، وتغليظ العقوبات على كل من يروّج للكراهية أو العنف الرقمي . 3/ تدريب الكوادر الامنية، على تقنيات الرصد والتحليل السيبراني، بالتعاون مع خبراء في الذكاء الاصطناعي وأكاديميين في علم النفس. 4/ تشجيع منصات التواصل على تبني سياسات صارمة تجاه الحسابات المشبوهة، مع شفافية في الابلاغ والرقابة. 5/ تطوير المحتوى البديل، ويكون عبر دعم الأصوات المعتدلة، وتشجيع الشباب على إنتاج محتوى هادف وجاذب يوازي المحتوى من حيث التاثير.

إن الغزو السيبراني لا يشبه الغزوات الكلاسيكية التي عرفناها في التأريخ، لكنه أكثر خطورة، لأنه لا يُرى بالعين، ولا يُسمع بالدبابات، بل يتسلل الى أذهان الناس وهم في غُرفهم، ويُعيد تشكيل وعيهم دون أن يشعروا. ومن هنا، فإن مسؤوليتنا اليوم كأفراد ومؤسسات ومجتمعات، هي بناء حصانة فكرية ومعرفية، لا تقل أهمية عن بناء جيوش تقليدية. قد لا نستطيع إغلاق الانترنت، لكن يمكننا أن نُسلّح الناس بالوعي، ليكونوا هم خط الدفاع الأول في وجه هذا النوع الجديد من الحروب.

لقد تغيّر شكل الحروب، وتحوّلت جبهاتها من الخنادق الى الشاشات، ومن الحدود الجغرافية الى الفضاء السيبراني اللامحدود. وما يجعل هذا التهديد أكثر خطورة هو أنه يتسلل الينا عبر أدوات نظن أنها مسالمة، مثل الهاتف الذكي أو تطبيق المراسلة أو منشور على صفحة ترفيهية. هذه الحرب لا تحتاج الى جنود، بل الى متابعين، والى من يشاركون المحتوى دون تفكير، ويمنحون الاعداء نافذة الى عقولهم دون أن يشعروا.

لهذا، فإن مسؤوليتنا المشتركة اليوم، أفراداً ومؤسسات، تكمن في الوعي أولاً، ثم الفعل. الوعي بأننا لسنا فقط متلقين، بل مشاركين في تشكيل الفضاء الرقمي. كل إعجاب، مشاركة، تعليق، أو إعادة نشر، قد تكون سهماً في معركة لا نعرف حتى أننا نخوضها. أما الفعل، فهو التزام أخلاقي ومعرفي بمراجعة ما نقرأ وننشر، وتشجيع خطاب عقلاني، وتقديم القدوة لأجيال تنشأ اليوم في بيئة رقمية مشبعة بالمعلومات، ولكنها عطشى للتمييز بين الصادق والزائف، بين الحرية والفوضى.

الغزو السيبراني لا يُهزم بالحُجب فقط، بل بالتفكير النقدي. والتجنيد لا يُمنع بالقوة وحدها، بل ببناء وعي يرفض الانزلاق الى متاهات الكراهية أو الوعود الكاذبة. وبين النشر والتجنيد، تبقى الكلمة المسؤولة، والمعلومة أمانة، ومنصات التواصل ميداناً علينا أن نُحسن آستخدامه، قبل أن يتحول الى أداة ضدنا.

***

د. عصام البرّام - القاهرة

عندما كانت أوروبا تتخبط في صراعاتها اللاهوتية، كان الشرق من الصين والهند الى بغداد ينتج المعرفة ويخاطب الكون. لم تنظر الحضارة العربية الى الكون كعدو يجب إخضاعه بل كصديق يجب الانصات اليه. لأن الشرقيين اعتبروا أنفسهم جزءا من نسيج الكون وأن الطبيعة تنبع من داخلنا، لم يكونوا بحاجة لقوانين تفسر الطبيعة من منظور محايد. وهنا أقصد أن الطبيعة لم تكن، بالنسبة للشرقيين، مسرحًا يكون فيه البشر مشاهدين، بل كانت تمثل وحدة بينهم وبين مكونات الكون.

إذن، لم ينتج الشرق نيوتن لأنه لم تكن يواجه مشكلة نيوتنية. والمقصد من نيوتن هو العلم التجريبي. في حين أراد العلماء والفلاسفة الشرقيون من دراساتهم الوصول الى كمال معرفي روحي ببعد ميتافيزيقي لا مادي بحت. فهل نيوتن هو هدف يجب على كل حضارة الوصول اليه؟

العلم كحكمة لا كأداة

اتخذت الطرق القديمة لجمع المعرفة من الفلسفة كمنهجها الأساسي. كان العلماء العرب كالفارابي وابن سينا بدراساتهم يحاولون فهم موقع الانسان في ترتيب اعلى. لم يهدفوا الى تسخير الطبيعة بالمفهوم المعاصر. انما حاولوا فهم العالم من وجهة نظر ميتافيزيقية تعتبر ان العالم نظام كلي متناسق نابع من عمل خالق متقن ومقتدر. هكذا تصبح الطبيعة تجليا الهيا لا موضوعا للغلبة. بهذا يكون كل اكتشاف علم مادي يساعدنا على فهم المهندس الأعلى، الاله. إضافة إلى ذلك، العالم أو الفيلسوف العربي كان يمتلك ما يشبه القواعد الأساسية القائمة على معتقداته الدينية والروحية وأخذ ينظر إلى الكون بناءً عليها.

الأمر شبيه نوعا ما للطاو الصيني. سعى الصينيون للتوحد مع الطبيعة واعتبروا إن المسار الى الكمال لا يكتمل إلّا بالاتحاد مع الطبيعة. اما الفلاسفة الهنود فقد فهموا الطبيعة على انها زمن دوري، يعاد ويعاد برعاية الالهة وصراعهم من اجل الخير. بذلك يصبح الانسان جزءا من هذه الدورة الأزلية.

فالشرق إذا آمن بمركزية الحكمة لا التجربة. اتجه الشرق نحو نظرة كلية شمولية لتفسير الكون، عكس التجزئة القائمة على دراسة وتنفيذ التجارب على الأجزاء لمعرفة الكليات في المفهوم الغربي. وهنا تكمن زبدة الفرق. يدرك أي عاقل اليوم أن أسلوب الشرق في النظرة الكلية قد فشل في دفع عجلة التقدم الحضاري، أي الاقتصادي والتكنولوجي. ولكن الأمر ذاته بدأ يظهر في الغرب حول التجزئة، حيث أن التجزئة تقف عاجزة أمام الكثير من المشاكل والأسئلة العالقة في الغرب. فهل يكون الحل في إيجاد مزيج بين الاثنين؟

هل فشل الشرق في إيجاد نيوتن؟

كان للشرق اليد العليا في مجال جمع المعرفة في المرحلة التي سبقت الثورة الفكرية والعلمية في أوروبا. ولكن، لماذا أفل نجم الشرق بشكل متسارع؟ هل فشل الشرق في إيجاد نيوتن؟ أم نيوتن الشرق قد خاف من تقديم نفسه للملأ خوفًا على حياته؟ الحقيقة أن الإجابة هي نعم بشكل جزئي للسؤالين الأخيرين.

أما السؤال الأول، لقد فشل الشرق في إيجاد نيوتن لأسباب تتعلق بعقليته. الجانب الأول هو ما ذكرناه أعلاه حول فكرة الاندماج مع الطبيعة. أما الجانب الآخر، فهو مبدأ امتلاك قواعد وخطوط حمراء لا يمكن تخطيها عند البحث عن إجابات. هذه العقلية تحد من التفكير النقدي -الذي هو لب العلم التجريبي- بسبب الهواجس الروحية الداخلية. وكي لا نستثني جوانب أخرى ذكرها المستشرقون حول طبيعة اللغات في الشرق وطبيعة البيئة الصعبة والمعقدة لا سيما البيئة الصحراوية عند العرب مثلا. غير أني أنظر لهذه الأفكار بتحفظ كبير. إن للغة دور كبير في تكوين الهوية، إلا أن هذا الدور يصبح أقل أهمية عندما يتعلق الأمر بالتفكير النقدي دون هواجس.

وفي مبحث السؤال الثاني، فإن خوف المفكرين الذين يخرجون عن عباءة الأفكار المهيمنة لمسألة إنسانية حصلت في الشرق كما في الغرب في العصور الوسطى. أما في الشرق فاستمرت ظاهرة اقصاء المفكرين بدءا من تكفيرهم الى حد قتلهم الى يومنا هذا، في مناطق عدة. فليس غريبًا إن كان على نيوتن الشرق ألا يظهر نفسه ويبقي أفكاره لنفسه.

فهل يجب على كل حضارة أن تصل إلى مرحلة نيوتن؟

هل يشكل نيوتن ضرورة حضارية على كل حضارة أن تصل اليه؟ ان النجاح الباهر الذي وصلت اليه العلوم التجريبية قد يوحي للعامة إن الإجابة هي نعم. أما الإجابة فهي أن الطريقين لهما ما لهما وعليهما ما عليهما. من الصحيح ان العلم التجريبي لا مفر منه لأي حضارة لتتسلق سلم التقدم المعرفي والحضاري الآن. فالعلم اليوم هو الذي يسهل حياة الانسان ويجيب عن العديد من الأسئلة الدائرة في ذهنه.

لكن نظرة الغرب التي تعتمد على فهم الجزء لفهم الكل عجزت عن وضع حلول لكثير من المشاكل في الغرب نفسه. تهدد هذه المشاكل اليوم الحضارة الغربية بأكملها كبناء نظام اجتماعي واقتصادي فعال، بعيدا عن الديموقراطية الرأسمالية، يضمن المساواة والعدل. إضافة الى انهيار المنظومات الأخلاقية تحت مظلة الحرية المطلقة. ومن هنا نرى أن هذا النيوتن هذا يحمل إيجابيات تجعله مرحلة أساسية في مسار تقدم أي حضارة مع الحذر من بعض الأعراض الجانبية التي يجب أخذها بعين الاعتبار.

فمن هنا فإن نيوتن ليس هدفا يجب الوصول إليه من قبل أي حضارة، بل مرحلة معرفية. يجب بعدها بناء هذه المعرفة وإنشاء نظام متكامل حولها. فإذا كان على الشرق إيجاد نيوتن اليوم، فعليه أن يدمجه في منظومته المعرفية، لا يستبدله بها. وسنناقش في مقال يلي هذا العلم في الغرب، إيجابيات وسلبيات، بشكل أعمق لنطرح بعدها ما يشبه خارطة الطريق لعلم تجريبي بنكهة شرقية.

***

فضل فقيه - باحث

............................

قراءات إضافية:

* سعيد، إدوارد. الاستشراق. ترجمة كمال أبو ديب. بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، 1981

 

كتب دون ديليلو في روايته ضوضاء الخلفية: "نقضي حياتنا كلها في تعلّم توديع الآخرين، ولسنا مستعدّين أبدًا لتوديع أنفسنا.".. عبارة تترك أثرًا مزدوجًا في النفس: تبدو للبعض عميقة كجرح مفتوح، وللآخرين سطحية كغبار خفيف على مرآة الوعي. لكن سواء نظرنا إليها كحكمة أم هراء، فهي تُسلّط الضوء على لحظة فارقة، لحظة المواجهة مع فكرة الفقد، لا كحدث خارجي، بل كزلزال داخلي يهزّ أعمدة الذات.

في ظاهر الأمر، يبدو أن الإنسان يعلم كيف يودّع أحباءه، أقرباءه، رفاقه، مدنه، وحتى ماضيه. ولكن الحقيقة أعمق وأكثر مراوغة. نحن لا نتعلّم شيئًا من هذا القبيل. نحن نُتقن فنّ التهرّب. نهرب من فكرة الموت، من فكرة النهايات، من هشاشة الوجود، ومن اللحظة التي يتعيّن علينا فيها أن نُسلّم بأن كل شيء مؤقت – نحن، والآخرون، وحتى هذا الحزن الذي نحمله على ظهورنا كظلٍّ ثقيل.

لقد أصبحت ثقافتنا الحديثة متخصصة في إخفاء الموت كما يُخفى الغبار تحت السجادة. المستشفيات – مع أنها أماكن توديع بامتياز – لا تملك غالبًا طقوسًا إنسانية تليق بلحظة الرحيل. وإذا كانت المؤسسة الطبية لا تعرف كيف تودّع، فكيف يكون حال الإنسان العادي؟ كيف لهذا المواطن المُثقل بالفواتير، والإعلانات، والإشعارات، وقلق المستقبل أن يفهم ما يعنيه أن تقول لشخص تحبه: وداعًا إلى الأبد؟

كتب مونتين في تأملاته: "أن نتعلم كيف نعيش، هو أن نتعلم كيف نموت." لكننا لم نتعلم لا هذا ولا ذاك. نحن لا نعيش، نحن نؤجّل. ولا نموت، بل نُخفي الموت في أركان الوعي، كضيف غير مرغوب فيه.

في زمن ما بعد الحداثة، أصبح الإنسان أشبه بمتسوّل أمام شاشة هاتفه: يشتهي الإلهاء، يطلب مهربًا من ذاته، من تأملاته، من تلك الأسئلة القديمة التي أرّقت سقراط: من أنا؟ وإلى أين أذهب؟ ولماذا هذا العناء؟ لكن لم يعد هناك سقراط ليُزعجنا، بل خوارزميات تصمّ الوعي وتصرفه عن نفسه.

الهروب من التفكير في الموت ليس امتيازًا معاصرًا، لكنه ازداد حدّة بفعل الهوس الجديد بالذات، تلك "الذات" التي تُربّى كما تُربّى نبتة نرجسية في أصيص من المرايا. أصبحت الذات مشروعًا مفتوحًا على تعديل مستمر، صفحة إنستغرامية تحتاج إلى فلاتر، وسيرة ذاتية تحتاج إلى تحديث يومي.

لكن المفارقة أن هذا الهوس بالذات لا يُقوّيها، بل يُنهكها. يقول كريستوفر لاش في كتابه ثقافة النرجسية: "في مجتمع يعاني من فراغ داخلي، تُصبح الذات صنمًا يُعبد." ونحن – دون أن نشعر – عبدنا هذا الصنم، وسمّيناه تنمية ذاتية.

يبدو أن "الوداع" الوحيد الذي يستحق أن نتعلّمه ليس وداع الآخرين، بل وداع تلك الذات المتضخّمة، المهووسة بعيوبها وتفوقها، بجمالها وانكسارها، بخوفها من الزوال وحبها للظهور. هذا هو الوداع الحقيقي، أن تودّع وهم السيطرة، وأن تعود لتكون كائنًا طبيعيًا، يأكل، يحب، يعمل، يحزن، ويموت، دون أن يحتاج كل ذلك إلى عرض مسرحي داخلي لا ينتهي.

يقول شوبنهاور: "الوعي الذاتي الزائد مرض من أمراض الحضارة." فكلما فكر الإنسان في نفسه أكثر، ازداد بعدًا عنها. يصبح وجوده شبيهًا بمن يراقب نفسه في المرآة وهو يحاول النوم. هذا هو ما يشلّ الحركة ويقتل العفوية ويحوّل الحياة إلى تجربة مختنقة.

في ضجيج ما بعد الحداثة، حيث كل شيء يُعلن عنه ويُصوَّر ويُشارَك، فإن أجمل شيء قد تفعله مع نفسك هو أن تتوقف عن مراقبتها. أن تُسلّم نفسك لما هو خارجها. أن تعيش، لا لتصنع هوية، بل لتكون جزءًا من نهر يتدفق دون أن يحتاج إلى تعريف.

وإذا كان لا بد من وداع، فليكن وداعًا لذلك الوعي الزائف الذي يجعلنا نرتجف أمام فكرة أننا لسنا مركز الكون. وداعًا لذلك الاجترار الداخلي الذي يجعل كل لحظة تحتاج إلى تحليل، وتفسير، وتبرير. وداعًا لتلك "الذات" التي لا تتركنا في سلام، بل تطاردنا كصوت خلفي في دوامة لا تنتهي.

كتب هايدغر أن: "الوجود الأصيل يبدأ عندما يواجه الإنسان موته." فربما علينا أن نكفّ عن تجنب هذا اللقاء، لا لنموت، بل لنبدأ حقًا في العيش.

***

الأستاذ محمد إبراهيم الزموري

عن الطبري إن الإمام الحسين بن علي(ع) لما كان في الطريق إلى كربلاء لقيه مجمع بن عبد الله العائذي- وكان مجمع وابنه جاءا مع عمرو بن خالد الصيداوي إلى الحسين (عليه السلام) ليكونا معه فمانعهم الحر لكن الحسين(ع) أخذهم منه.

قال أبو مخنف: لما مانع الحر مجمعا وابنه وعمرا وجنادة، ثم أخذهم الحسين (عليه السلام) ومنعهم من الحر، سألهم الحسين عن الناس بالكوفة فقال: " أخبروني خبر الناس وراءكم"؟

فقال له مجمع بن عبد الله: أما أشراف الناس فقد عظمت رشوتهم، وملئت غرائرهم، يستمال بذلك ودهم، وتستخلص به نصيحتهم، فهم ألب واحد عليك، وأما سائر الناس بعد، فإن أفئدتهم تهوي إليك، وسيوفهم غدا مشهورة عليك1.

فكان كل مثقفي الكوفة وسادتها بما فيهم قائد حركة التوابين سليمان بن صُرَد الخزاعي قد خذلوا الحسين أما طمعا وأما خوفا فأنطبق عليهم قول الشاعر عبيد بن الأبرص:

"لا أعرِفَنَّكَ بعد الموتِ تَندُبُني  وفي حياتيَ ما زَوَّدْتَني زادي".

لا ترتكز الخيانة أو العمالة كالأفعال العادية على الإغراء والإغواء والضعف البشري فحسب بل هي قبل أي شيء آخر علاقة (قوة) بين طرف يرى نفسه سامياً وآخر يرى نفسه دونياً.

وفي دراسة (الجذور التاريخية للعمالة) يلخص شيخي الطاهر هادي العلوي (طاب ثراه) جوهر العمالة في عنصرين: علاقة الفوقية والقوة بين بلد العميل والبلد الذي يُشَغّله وتلاقي المصالح أو الاستفادة المتبادلة بين الطرفين ولأن النخب هم أكثر الناس حساسية لعلاقات القوة والمصالح وأكثر من يحركه هم الطموح والتسلق وتحويل أزمات شعبه وكوارثه الى فرص له. فهم تاريخيا أكثر الناس استعدادا للعمالة.

يروي شيخي العلوي أن أول من مارس العمالة في تاريخ العرب المدون لم يكن «أبا رغال» الشهير بل النضيرة بنت الضيزن ابنة ملك الحضر المدينة الحصينة التي تقع آثارها اليوم قرب الموصل. حين حاصر الملك الساساني شاهبور الأول عاصمة الضيزن اتصلت به النضيرة سرا وعرضت أن تدله على مدخل للمدينة مقابل أن يتزوجها ويجعلها ملكة. قام شاهبور فعلا باقتحام الحضر مستعينا بإرشادات الأميرة وقتل أمراء المدينة ونبلاءها باستثناء النضيرة التي وفى بوعده لها وتزوجها. ولكن في يوم الزفاف في القصر الملكي اكتشف شاهبور مدى العطف والدلال اللذين حظيت بهما الأميرة من أهلها قبل أن تخونهم وتودي بهم الى الهلاك فغضب عليها غضبا شديدا حتى أمر بإعدامها.

بهذه المقاييس أيضا ميز العلوي بين صنفين من العمالة تاريخياً: "عمالة الأسياد" كحال الملوك الذين يُكرهون على التحول الى أتباع لدول أقوى فيرتضون بالموقع التابع مقابل الحفاظ على عرشهم وامتيازاتهم و"العميل المحلي" الذي يعيش في مجتمع ويعمل مع عدو خارجي ضده. في الحالة الأولى يوجد عنصر إكراه وإرغام واستسلام لمعادلات القوة وقد يحتفظ الملك التابع ونخبته بمشاعر قومية ويطمحون سرا الى انتزاع المزيد من السيادة على حساب "الامبراطورية" أو الانفكاك من طوق التبعية لو استطاعوا. ولكن في النموذج الثاني فإن "العميل المحلي" يمارس الخيانة بالتراضي الكامل مع مشغليه ومن دون إكراه بل هو يتماهى بالكامل مع سيده ومع مصالحه الشخصية. وتؤدي الرابطة المطواعة الى تفريغ شخصية التابع من نزعة التمرد والاستقلال.

وينصهر العميل كليا في شخصية السيد. بمعنى آخر يأتي "العميل المحلي" مع العقلية التي تؤمن بأن شعبه متخلف وتسلم بدونية ثقافته وتفوق أعدائه2.

المثقفون والعمالة:

يقول العلوي: "إنك لو نظرت في قوائم عملاء المخابرات الأميركية في بلادنا سيندر أن تجد بينهم فلاحا أو خبازا يعمل بيديه بل إن جلهم من المتعلمين الغرباويين.

الفارق هنا لا علاقة له بمستوى الثقافة أو الذكاء أو التعلم بل بأن الخباز يملك مهنة حقيقية تربطه بالأرض والمجتمع وحوله بنية تقليدية تزوده بهوية وموقع وموانع. من الصعب على إنسان كهذا أن تتناغم مصالحه الطبقية مع مصالح عدو خارجي ولن يكون من السهل عليه أن يلعب دور الخائن في مجتمعه ومحيطه. أما من يعمل في وكالة أجنبية أو يطمح الى راتب ومستوى حياة فاخرة ويريد أن يتمايز عن حظوظ مواطنيه فإنه من السهل له أن يجد مصالحه في تعارض مع مصالح غالبية المجتمع.

نعم المثقف ليس جيدا ولا هو سيئا بطبيعته المحضة المثقف هو ببساطة إنسان يحتاج الى راتب ومؤسسة ترعاه حتى يمارس حياته كباقي البشر ولو كانت هناك دولة وطنية تؤطر هذه الفئة و ترعاها وتضبطها فهي قد يتم استثمارها في خير المجتمع وتكون نخبة وطنية. ولكن حين تترك هذه النخب بلا رعاية سيسعى كل الى إيجاد ممول وراع عندها تتفعل الدونية كواقعة سايكولوجية تحت مبرر الأنانية والشعور الزائف بالفوقية وهنا بالضبط ينفصل المثقف عن مجتمعه. عندها من الممكن أن يصبح المثقف عميلا.

لكن يبقى مصطلح (عمالة أو خيانة) مصطلح إشكالي يحمل أحكاما قيمية قد تضيق أو تتسع بحسب السياقات التاريخية والسياسية لكن من الممكن حصرها في عدة موارد:

1. الانتهازية والمصالح الشخصية:

قلنا إن المثقف في النهاية هو إنسان يحتاج كل ما يحتاجه البشر من مسكن وملبس ومأكل لكنهم يتفاوتون في مدى الحرص منهم من تسمو نفسه وتعظم روحه فيكتفي بالقليل ومنهم من يقوده الجشع إلى السعي للسلطة أو المناصب أو المكاسب المادية فيستذئب في سببل الحصول على ذلك ثم يخون ضميره من خلال التكيف مع الأنظمة الاستبدادية للحفاظ على الامتيازات الخاصة به.

2. الخوف والقمع:

يتفاوت المثقفون أيضا في سجايا الشجاعة والجبن. منهم من يجبن ويقوده ذلك إلى التخلي عن المبادئ تحت تهديد السجن والتعذيب والقتل ومنهم يفضل الموت على حياة الذل والهوان. ومنهم من يعتزل أو يختار المنفى لتفادي العقاب.

هذا الانعزال عن الواقع يؤدي حتما إلى انفصال المثقف عن هموم المجتمع مما يُفقده بوصلة التغيير.

3. الأيديولوجيا والتعصب:

غالبا ما يقع المثقف في براثن تبني أيديولوجيات شمولية متطرفة قد تكون دينية أو قومية وحتى يسارية عندها يصبح المثقف مثقفا سلطويا يبرر الانحياز للسلطة ضد مصالح الشعب. فيستخدم خطابا فكريا تبريريا ليبرر فيه القمع أو التمييز ضد شعبه.

4. الاستقطاب الهوياتي:

بعض المثقفين لأسباب كثيرة ينجر إلى صراعات هوياتية دينية - طائفية أو قومية عرقية مما يوقعه في مستنقع الأنحياز وهذا يضعف موقفه النقدي ويعمي بصيرته الأدراكية.

5. الأزمة الأخلاقية:

قد يقع المثقف في تناقض بين الأمر الفكري وقاعدة السلوك أو بين الخطاب النظري والممارسة العملية فتراه يدعو للعدالة وهو يبرر الظلم أو يدعو للوطنية وهو مشارك في الفساد الطائفي ويدافع عن الفاسدين من طائفته.

أخيرا أقول: إن المسؤولية الأخلاقية للمثقف تكمن في نقده للسلطة الفاسدة وتعريتها أمام الشعب والدفاع عن الحقوق الإنسانية للخلق أجمعين والتحصن من إغراءات السلطة حتى لا يقع في معضلات وجودية تمس صميم ماهيته كمثقف وتحيله إلى مسخ دوني.

إنما خصصنا المثقف بهذا القول لأنه واعِ مدرك لمطلبه وعواقبه.

أما العامة فهؤلاء لا قول فيهم فهم ينقادون للعمالة دون وعي تحت أي عنوان ديني أو طائفي بأعتبار أن الدين أو الطائفة هي الأطار النهائي لوعيهم المتدني.

وخير وصف لهم هو قول الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام): بأنهم "همج رعاع، أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق" 3.

***

سليم جواد الفهد

..................

1. الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الطبري،ج3، ص306.

2. من دراسة هادي العلوي: “الجذور التاريخية للعمالة”، مجلة دراسات عربية، العدد 4، شباط 1980.

3. شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: الخطبة ١٢٩.

 

الموت، ذلك اليقين الوحيد في حياة الإنسان، يمثل ذروة الغياب، لكن الفلسفة لا ترى الموت مجرد نهاية بيولوجية، بل تتناوله كحدث وجودي يلقي بظلاله على كل الأبعاد الحياتية الاخرى. الموت هو الانقطاع التام عن العالم المادي، وهو غياب عن الوجود بكل صوره، إنه ليس مجرد انتقال من مكان إلى آخر، بل هو انتهاء للحضور الشخصي، هذا الغياب يخلق فراغًا لا يمكن ملؤه، سواء كان في حياة من يفقد أو في سجل التاريخ نفسه، عندما يموت شخص، يختفي وجوده بالكامل، لكنه يظل حاضرًا في ذاكرة أحبائه، في الصور، في القصص التي تُروى عنه، وفي الأثر الذي تركه. هذا الحضور هو ما يمكن أن نصفه (بـاللاموتية الرمزية)، أو الخلود الاجتماعي، إنه ليس حضورًا فعليًا، بل هو (حضور رمزي) يعتمد على الذاكرة البشرية كشكل من أشكال الحضور، يعتبر الاستدعاء الذهني هو شكل من أشكال الحضور، لكنه يظل باهتًا لأنه لا يمكن أن يتفاعل أو يشارك الحاضر، الأثر هو الدليل على ما كان موجود وتجعله حاضرًا بطريقة غير مباشرة.

اللاحضور كموت رمزي

يمكن أن نستخدم مصطلح "اللاحضور" لوصف حالة شخص حي، ولكنه معزول عن محيطه، أو لا يترك أي أثر حقيقي، هذا الشخص يكون موجودًا جسديًا، لكنه غائب روحيًا، هذا "الموت الرمزي" يحدث عندما يفقد الإنسان دوره، وتأثيره، أو قدرته على التواصل. يلعب الاغتراب الاجتماعي دورا مهما في هذا الانفصال مما يجعل الفرد في حالة لا حضور أو موت رمزي لا يعرف فيها الانسان كيف يبحث عن هويته أو غايته، يصبح مجرد جسد يتحرك بلا روح، هذا الشكل من أشكال الحضور او اللاحضور، يفقده وجوده ومعناه.

الفقدان الوجودي

عندما يغيب شخص يصبح وجوده غير محسوس، هذا الغياب يخلق فراغًا يشبه الفراغ الذي يتركه الموت، كلاهما ينهي العلاقة المباشرة والتفاعل مع العالم، وإن كان الموت حدث نهائي، فإن اللاحضور حدث مؤقت بشكل مجازي، اللاحضور يمكن أن يمثل "موتًا اجتماعيًا"، عندما يتوقف شخص ما عن المشاركة في الحياة الاجتماعية أو الثقافية، عندما تصبح الحياة الاجتماعية والثقافية مجرد عرض مسرحي سطحي، حيث يتم التركيز على المظاهر والتباهي بدلاً من الجوهر، فإن الشخص الذي يبحث عن مشاركات ذات معنى يشعر بخيبة أمل عميقة. هذا الشعور بفقدان القيمة يدفع الكثيرين إلى العزلة. يصبح وكأنه لم يعد موجودًا بالنسبة للمحيطين به. اسمه قد يختفي من المحادثات، وتأثيره يتلاشى. هذا النوع من الفقدان لا يقل ألمًا عن الموت الجسدي، لأنه يمحو الهوية الاجتماعية للفرد، الموت الرمزي يحدث أيضًا عندما يفقد شيء ما معناه أو وظيفته. على سبيل المثال، قد تختفي بعض العادات أو اللغات، مما يعني "موتها الرمزي". فبالرغم من أنها قد تكون موجودة في الكتب أو التاريخ، إلا أنها لم تعد حية ومؤثرة في الواقع اليومي. هذا الفقدان للمعنى يشبه موت الفكرة أو المبدأ الذي كانت تمثله.

الحضور الباهت كأثر

"جاك دريدا "يرى أن كل حضور يتضمن في جوهره غيابًا، وإن "الأثر" هو ما يترك بصمة الحضور في الغياب. هذا الأثر هو جوهر عملية الكتابة واللغة، فكل كلمة مكتوبة هي "أثر" ودلالة على صوت كان حاضرًا ، يمكن القول إن (الحضور الباهت) هو الآلية المعرفية التي تربط الحاضر بالماضي، وتمنح الوعي عمقًا زمنيًا وتراكمًا معرفيًا يتجاوز حدود اللحظة الراهنة ،العلاقة بين (الحضور الباهت )وقدرتنا على فهم العالم وبناء المعرفة هي علاقة جوهرية وأساسية لذا يمكن القول إن (الحضور الباهت) ليس مجرد ظاهرة ثانوية، بل هو آلية معرفية محورية تُمكِّن الوعي من تجاوز اللحظة الآنية وتكوين فهم متكامل للعالم، هو الجسر الذي يربط بين ما هو حاضر فعليًا وما هو غائب، مما يمنح معرفتنا عمقًا واتساعًا، الدور الأبرز للحضور الباهت يتجلى في قدرة الوعي على الاحتفاظ بآثار التجارب الماضية، كل ما نختبره يترك بصمة في الذاكرة، وهذه البصمة هي ما نسميه "الحضور الباهت"، هذا الحضور ليس استنساخًا كاملًا للحدث، بل هو تمثيل رمزي لفهم أي تجربة جديدة، لذا نحتاج إلى ربطها بجميع التجارب السابقة المشابهة. الحضور الباهت للتجارب السابقة هو الذي يوفر لنا السياق اللازم لتحليل وتفسير ما يحدث ،ان المفاهيم المجردة (مثل الجمال، الزمن) لا يمكن بناؤها من تجربة حسية واحدة، إنها تتشكل من خلال تجميع وتحليل الآثار الباهتة لعدد لا نهائي من الخبرات المتصلة، مما يسمح للوعي بتجريد الخصائص المشتركة وتكوين معنى أعمق، كما أن الحضور الباهت للماضي يسمح لنا بفهم الحاضر، ، كل توقع نقوم هو عملية استقراء سابقة في الحضور الباهت للتجربة، هذا لا يعتمد على للحضور الفعلي ، بل على الأثر الباهت في الذاكرة، القوانين العلمية هي في جوهرها نتائج لتجميع عدد هائل من الملاحظات والتجارب الماضية ،الحضور الباهت لهذه البيانات يتيح لنا استنتاج أنماط وقوانين تسمح لنا بتوقع ما سيحدث في ظروف معينة.

الحضور الباهت في اللغة

تمثل اللغة خير مثال على العلاقة بين الحضور الباهت والمعرفة. فالكلمات هي في حد ذاتها أصداء باهتة للأشياء التي تدل عليها، عندما نتحدث عن شيء غير موجود حاليًا فإننا لا نتعامل مع حضوره الفعلي، بل مع أثره الباهت في ذاكرتنا اللغوية والمعرفية. هذا الحضور الباهت هو ما يجعل التواصل ممكنًا حتى في ظل الغياب، الكثير من المفاهيم التي نؤمن بها لا وجود لها بشكل مادي، إنها مفاهيم مبنية على أثر رمزي و"حضور باهت" في وعينا الجماعي، وهذا الحضور هو ما يمنحها سلطة وقوة في بناء الواقع الاجتماعي.

الحضور الباهت في الفلسفة

التحليل الفلسفي للحضور الباهت يمكن أن يتجاوز كونه مجرد فكرة وجودية أو معرفية، ليصبح لبنة أساسية في بناء رؤية متكاملة عن الوعي نفسه. إذا كان الحضور الباهت هو ما تبقى من الماضي، فإن الرؤية المتقدة هي ما يُجب ان تبنى على هذا الماضي لفهم الحاضر وصناعة المستقبل ، وضع الحضور الباهت في سياق معرفي متكامل من خلال نموذج ثلاثي الأبعاد يوضح كيف يتم "تأجيج" (إيقاد) هذا الحضور الخافت ليتحول إلى إدراك عميق وفاعل من خلال الرؤية المتقدة، الرؤية المتقدة لا تنشأ من الإدراك الحسي السلبي، بل من الحوار المستمر بين ما هو حاضر أمام الحواس وما هو حاضر في الذاكرة ، المعطيات الحسية الخام (الحضور الباهت) التي يتلقاها الوعي، هي مجرد "شرارة" أولية (الحضور الباهت )هو الخلفية المعرفية والتجريبية التي تمنح الشرارة معناها. هو أثر التجارب الماضية، الذكريات، والمفاهيم المخزنة في الذاكرة، الرؤية المتقدة هي لحظة تداخل هذين الحضورين. هذا التفاعل هو ما يحول الإدراك من مجرد استقبال للمعلومات إلى فعل تأويلي ينتقل من تركيب الأثر إلى الفهم، هذه المعطيات معطيات ليست موجودة في الأشياء بذاتها، بل هي تركيب غالبا ما تنتج من الحضور الباهت بالحضور المباشر للأشياء التي هي مجرد رموز تحمل في طياتها حضورًا باهتًا لأشياء أخرى، ولكنها تحمل أثرًا باهتًا لتجارب ومواقف وقيم لا حصر لها، الرؤية المتقدة هي اللحظة التي يتم فيها إضاءة هذا الأثر الباهت، فيصبح الرمز فكرة حية، وتتحول التجربة الحسية إلى فهم عميق. إنها اللحظة التي "نرى" فيها المعنى خلف المظهر، ويصبح الحضور الباهت ليس فقط أداة للفهم، بل محركًا للفعل. الحضور الباهت للنجاحات والفشل هو ما يوجه اختياراتنا الحالية، الرؤية المتقدة تصبح حكمة عندما يصبح الوعي قادرًا على دمج الحضور الباهت مع متطلبات الحاضر، إنه ينتج فعلًا حكيمًا ومدركًا. هذا الفعل ليس مجرد رد فعل، بل هو تجسيد حي لرؤية متقدة لهذا العالم، يكون الحضور الباهت بمثابة "جمر" الماضي، الذي عندما يتم تهيئته بشكل واعٍ في سياق الحاضر، فإنه لا يمنحنا مجرد ذاكرة، بل يؤجج فينا رؤية متقدة تُفَسِّر وتُوجِّه وتُثري وجودنا.

***

غالب المسعودي

يرى المفكر محمد عابد الجابري، أن مهمة تغيير نظام الفكر السائد تقع أصالة على كاهل المثقفين، وأنه ما لم يكن هناك مشروع ثقافي يبشر به المثقفون وباستراتيجية ذكية تعطي الأولوية لما هو أساسي، وتقتنص الممكن القريب طلبا للممكن البعيد، فإنه لا يمكن تغيير نظام الفكر السائد، تغييرا يخدم الأهداف فيما يسميه ب"التقدم والوحدة".

وحرص الجابري، خلال جولته الفكرية العميقة، في طرح أهم إشكالات الفكر العربي المعاصر، على استدراج شرطيات إعادة بناء الذات العربية بالشكل الذي يضمن لها الاستقرار النفسي والأصالة القومية والاستقلال التاريخي، دون أن يتجاهل الحدود الدنيا من قيم الحرية الفكرية والتعبير والتسامح الديني والمذهبي، علاوة على الشجاعة والتضحية اللتان يطعمان الوظيفة الثقافية ويزكيان تأثيرها على المجتمع والحياة.

وساق الجابري، وفق هذا المسار التفكيكي للبنى الثقافية الوطنية (القومية)، مهمة مواجهة الغزو الإعلامي والثقافي عبر الأقمار الاصطناعية، متهما إدارة الدولة بالعجز عن القيام بذلك، ارتباطا بمنظومات قدوية بنائية، كالتعليم ونظام الفكر السائدين، الفاشلين في توفير الأسلحة الضرورية لمواجهة الأزمة.

نظرية الجابري في هذا الحقل الشائك كما هو معلوم، يروم قراءة المشروع الحضاري العربي، بتقاطعاته المعرفية وإشكالياته البنيوية، من منطلق مرجعيات ثلاث، الوحدة والتمدين والعقلنة. " تحقيق وحدة عربية حقيقية، اقتصادية وسياسية وثقافية" و" السير في طريق التمدين المجتمعي وتحويله إلى مجتمع مدني"، و "عقلنة الحياة العربية بمختلف مظاهرها". وكلها مقومات قائمة كنزوعات تستحث الفكر والعمل. ما يعني عند المفكر الجابري، أن العرب سيظلون مشروعا للمستقبل.

لكن اللافت، في نقدانية الجابري المدفوعة بتركيز عالي على سؤال التكنولوجيا وصناعة النهضة، أن الانفجار الإعلامي المتوحش، يتأثر سلبا بالإشكاليات المطروحة سلفا، مبديا قلقا استراتيجيا في ارتدادات الغزو وانتقالاته، وحدوث ارتكاسات على أعتابه، معيدا نفس استفهامات السابقين: " لماذا تأخرنا؟ ولماذا فشلنا في تحقيق نهضتنا؟".

إن التحولات الجديدة في أنماط التعامل مع مأزق الغزو الإعلامي والثقافي، تستعيد الصياغة المثلى لحقيقة التغلغل الكاسح الذي تطرحه متاهة "نقل التكنولوجيا"، في طبيعتها السياسية والثقافية الموجهة، على اعتبار أن دوافعها مرهونة بمستقبليها، قائمة أساسا على "السلع الاستهلاكية"، مع الحجب المباشر لكل ما يرقى لأن يكون فتحا علميا أو تخصصيا تقنويا أو فنيا أو تعليميا. وهو ما تنبه إليه الجابري، عند استدراكه، بالقول أن الأدبيات التكنولوجية العربية تهتم بإبراز دور الغرب، وبكيفية خاصة شركاته المتعددة الجنسية، في عرقلة عملية "النقل النزيه" للتكنولوجيا إلى البلاد النامية والحيلولة دون غرس جذورها فيها، .. بنفس القدر الذي تبرز فيه تلك المعوقات والعراقيل الداخلية التي تجعل عملية غرس التكنولوجيا في البلدان العربية تتطلب تحويلا شاملا للمجتمع وبنياته وتقاليده.

وبغض النظر عن توجهات أوطاننا العربية، في افتعال زخم التأثير "الإيجابي" لما تعبئه المسارات السياسية والثقافية والإعلامية، كأدوات للاستقبال وبناء العلاقات الدولية وحضور هاجس الاستقطابات والانسياق لفواعل الأنظمة الدولية ومصالحها المتشعبة، فإن عقلية الاسترخاص و"التبعية" وضعف حاجز الاستقلال والقرار السيادي، يضعان الهامش الثقافي والإعلامي ومشروعية سؤاله السيروري، في مؤخرة الأولويات وخارج الاعتبارات المكرسة لفهم الخطورة التي تشكلها حقيقة اختزالنا للوعي الحضاري والمدني، وتخلفنا عن إدراك جوهر رؤيتنا للموجهات الإعلامية والثقافية وتورطها في محو الهوية واللغة والاقتدار على تحريك السبل الكفيلة بقيام نهضة حقيقية وقادرة على الصمود وإبداع الأفكار والسمو بفكر التحديث والإصغاء لتجارب النجاح.

وفي حين يرى بعض المثقفين العرب، أن حال المثقف اليوم لا يكاد يفصل واقعه عن يوطوبياه المتخيلة، يأخذ وضعا تكريسيا لا ينماز عن أوهام الطبقية كهيكل اجتماعي وثقافي، تتداخل فيه نظم المجتمع والهوية وأنماط الحياة الأخرى، خصوصا بعد انكشاف غمة ما كان يسمى بثورات الربيع العربي، التي أودعته في الجانب المظلم من مخلفات الاستبداد، علاوة على تقييم أدائه الباهت تجاه السلطة، واستغلاله كآلية وظيفية مؤقتة. ولا يحول هذا السياق، عن تقليص فاعلية التأثير لدى هذا الكائن الحراكي "رأس المال الثقافي" كما يصفه بيير بورديو، في تحطيم نظرية "الفردانية/ الحرية" المحايثة لتعميق فجوة "التراصف الطبقي" بنظر روزماري كرومبتون، الذي هو أس ما أضحى يشكل صلب "النيوليبيرالية الفردانية"، التي تأكل من داخل طبقتها الاجتماعية، وتستنفذ حيويتها الذاتية، لتشرع بعد ذلك، في تشكيل حدود جديدة بحسب تغيرات متطلبات السوق وهيكله الوظيفي الاستتباعي.در

***

د. مصـطَـفَى غَلْمَان

ليس من السهل، بالنسبة لي على الأقل، الوقوف على الدوافع التي تجعل وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في العراق وللعام الثاني (2023 و2025)، تختار كتب مالك بن نبي لتكون مشروعًا رسميًا للقراءة. ولا ريب أنّ مالك بن نبي يعدّ أحد الأسماء المؤسسة في الفكر النهضوي العربي- الإسلامي، بما اكتنزه من أطروحات إشكالية حول الحضارة وشروط النهوض وطرق تجاوز مراوغات الاستعمار. غير أنّ الإلحاح على استحضار تجربته التي تحمل رهاناتها الجزائرية وتموضعاتها وحاجاتها وأسمائها يفتح الباب أمام تساؤلات جدّية حول طبيعة الرؤية المعرفية التي تتحكم في مثل هذه الاختيارات، ومدى انفتاحها على الحاجات الثقافية والفكرية الفعلية للواقع العراقي الراهن ودلالاته.

إنّ فعل القراءة في جوهره، لا يقوم على الاستهلاك الرمزي للنصوص ولا على تكرار النماذج الوافدة، وإنَّما يقوم على الحوار النقدي الخلاق مع الذات والتاريخ والمعاصرة. ومن ثَّم فإنّ الاقتصار على تجربة فكرية خارجية- مهما كانت قيمتها وعمقها- قد يؤدي إلى تجميد الأفق النقدي وتأملاته، وإلى تحويل القراءة إلى طقس مؤسساتي جاف فاقد للفاعلية، بدل أن تكون أداة لإعادة صياغة الوعي الفردي والجماعي.

العراق نفسه يزخر، في تاريخه القريب والمعاصر، بأسماء فكرية وفلسفية وعلمية مهمة، أنجزت مشاريع رصينة انبثقت من الطين العراقي، وتعاملت مباشرة مع أسئلته التاريخية والحضارية والاجتماعية والنفسية. ويكفي أنّ نشير، على سبيل المثال لا الحصر، إلى علي الوردي الذي أسّس لعلم اجتماع نقدي يقرأ بنية المجتمع العراقي في ضوء التوترات التاريخية والثقافية، ويحيى محمد الذي انشغل بإعادة مساءلة بنية العقل الديني ضمن مشروعه النقدي في نظم التراث وعلم الطريقة(النظام المعياري-النظام الوجودي- النظام الواقعي) إضافة إلى مقارباته الهامة في (صخرة الإيمان، أو جدليات نظرية التطور)، وعبد الجبار الرفاعي الذي يعمل على بلورة لاهوت إنساني يتجاوز الانغلاق المذهبي، وعبد الأمير زاهد الذي قدّم قراءات معمّقة في الفكر الديني والسياسي، وماجد الغرباوي الذي فتح آفاقًا نقدية صارمة وحرجة في حقل الدراسات الإسلامية وتطبيقاتها، وفالح عبد الجبار الذي أعاد بناء مقاربة سوسيولوجية متينة للمجتمع والدولة في العراق، وناجح المعموري الذي اشتغل على الأنثروبولوجيا الثقافية بوعي نقدي جديد.

إنّ إعادة الاعتبار لمثل هذه الأسماء ومشاريعها، بما تحمله من تأملات فكرية متنوّعة، لا تمثّل مجرّد فعل اعتراف محلي أو وفاء قومي، بل تؤشّر إلى ضرورة تأسيس مشروع قراءة حيّ يتغذّى من الداخل، ويعيد إلى الجيل الجديد علاقته العضوية بالمفكرين الذين يكتبون بلغته، ويتنفسون همومه، وينخرطون مباشرة في أسئلته التاريخية. ذلك أنّ الفكر ينمو في سياق تفاعل جدلي بين الذات وواقعها، بين النصوص وأسئلة التاريخ.

إنّ الجامعة العراقية، إذا أرادت أنَّ تكون فضاءً نقديًا ومعرفيًا فاعلًا، فإنَّها مطالبة بفتح أبوابها لهذه التجارب العراقية وارشيفاتها المتنوعة، وإعادة إدراجها في الذاكرة الفكرية للأجيال، بدل أنَّ تكتفي بإعادة تجارب الآخرين. فالسؤال الذي ينبغي أنَّ نضعه اليوم بإلحاح هو: أيّ قراءة نريد لشبابنا؟ قراءة تعيد إنتاج الرموز وتحوّلها إلى أيقونات جامدة، أم قراءة حية وفاعلة ونقدية، تفتح النصوص على أسئلة الذات والتاريخ والواقع والمستقبل؟

وهنا ينبغي لنا الإنصاف والإشادة الحقيقية بأصل المسألة أو بأصل الفكرة وهي خطوة القراءة وتشجيعها التي ترعاها وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، وترصد لها مبالغ مجزية تحفز الشباب العراقي على القراءة. بل إن بعض الجامعات، كجامعة بابل- مثلًا-، تكلف ضفيرة من خيرة أساتذتها من أجلّ شرح هذه الكتابات وتبسيطها للطلاب لدفعهم نحو المشاركة.

رؤيتنا بإيجاز تقول: إن الخيار في الكتب المستهدفة، أو المشاريع المستهدفة ينبغي أنَّ يصوب إلى الواقع العراقي ورجاله وعلمائه ومفكّريه، فهم الأقرب إلى العقل العراقي الشاب والأجدر بالتكريم.

***

أ. م. د. حيدر شوكان سعيد

قسم الفقه وأصوله- كلية العلوم الإسلاميَّة- جامعة بابل.

من المواضعات الفنية التي لها أصل فلسفي رصين مواضعة ” المونولوج ”، وهذه الكلمة في الوعي الجمعي العربي الشعبي أي بين عموم الناس يشير إلى فن فكاهي قصير عبارة عن مجموعة من الكلمات التي تعالج قضية مجتمعية كالطلاق أو الوظيفة الحكومية أو الاحتفال بالعيد متزامنة بالموسيقى الخفيفة ذات الإيقاع السريع، لكن الحقيقة أن كلمة مونولوج ليست كما هي في قرار هذا الوعي الجمعي الضارب في القدم، فهو يعني حديث النفس أو النّجوى، وهو حوار يوجد في الروايات، ويكون قائما ما بين الشخصية وذاتها أي ضميرها، بمعنى آخر هو الحوار مع النفس. ولقد ارتبط هذا المصطلح بالمسرح بل اقتصر في الارتباط عليه فقط، بحيث يكون المونولوج من منظور شخصية واحدة في المسرحية مركزًا على وجهة نظرها بحيث يكون له معنى وهدف ويتسم بسمات وخصال الشخصية.

ولقد حدد رواد المسرح هدف استعمال المونولوج فنيا إذ يعتمد عليه سياق المسرحية فيما بعد، فيجب أن تكشف شيء يصعب كشفه للجمهور عن طريق حديث الشخصيات أو محادثة ثنائية فقط من خلال المونولوج، و يمكن هنا أن تكشف قصة أو سر أو جواب لسؤال متداول في المسرحية أو تعبير عن مشاعر الشخصية المتكلمة. يجب أن يخدم المونولوج هدفًا معينًا ويبدو وكأنه وحي بالنسبة للشخصية المتكلمة.

ولقد حددت الهيئة العربية للمسرح توصيفا دقيقا للمونولوج معتمدة على طروحات فلسفية بأنه العنصر الذي يتيح للشخصية المسرحية ان تفصح عن دخيلة نفسها ,لتكشف عن مشاعرها الباطنية ,وافكارها ,وعواطفها وكأنها تفكر بصوت مسموع ,ويلجأ الكتاب المسرحيين الى هذه الطريقة في التشخيص بالمونولوج ,حينما تجد الشخصية نفسها تحت وطأة أنفعال جارف أو أزمة عنيفة ويحتل فكرها ووجدانها الى مسرح حافل بالأحداث ينبغي ان يطلع علية المتلقي ولعل من أشهر المونولوجات قاطبة مونولوج هاملت (أكون او لا أكون ,ذلك هو السؤال) وقد أزداد شيوع هذا العنصر المونولوجي في المسرح مع ظهور مدرسة التحليل النفسي لصاحبها المضطرب نسبيا سيجموند فرويد، التي أمدت الكتاب بمعلومات هائلة عن التركيب الشعوري واللاشعوري للشخصية الإنسانية , والتداعي الحر للهواجس والأحاسيس والرغبات المكبوتة ,وكانت الحركة التعبيرية من أبرز الحركات ,الى جانب السوريالية.

وفي ضوء هذا التوصيف الفلسفي للمفهوم فإنه من الجائز جعله ثنائيا لاسيما حينما يشرع المرء للحديث عن العلاقة بين الأنا والآخر ليس فقط من المنطوق الديني، بل العلاقات المتعددة اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا أيضا، ومشكلة المصطلحات قديمة كان سببها المطلق هو امتلاك البعض وأعني النخبة مفردات المصطلح، وهذا الأمر هو ما انفرد به المفكرون السياسيون، فرجال الفكر والفلسفة الملتحفين بأردية التوجه السياسي لهم اجتهاد خاص في وضع وتحديد المصطلح عامة و المصطلح السياسي بوجه خاص، وتكفي الإشارة إلى أن ما اتفق على تسميته بثورات الربيع العربي في مصر واليمن وتونس وليبيا ألجأت الكثيرين من الناس للتفتيش عن دلالات بعض المصطلحات السياسية التي ارتبطت بمشاهد الانتفاضات العربية ضد أنظمتها الحاكمة آنذاك وقت ما عرف إعلاميا بالربيع العربي، وكان من بين هذه المصطلحات الشائكة التوصيف مصطلحات مثل ائتلاف و دستوري، وحكومة تكنوقراطية، وراديكالية، وشرعنة السلطة .

ورغم أن هذه المصطلحات وغيرها من المصطلحات كانت متداولة إلا أن المواطن العربي العادي لم يكن مكترثاً وقتها بدلالة كل مصطلح، لكن بعد تفشي الثقافة السياسة في أرجاء الوطن العربي حتى كادت من أبرز سماتهم الحصرية بعد تلك الانتفاضات الشعبية بات من اليقين أن ينهض كل مواطن عربي للتنقيب عن دلالة المصطلحات من أجل تحقيق الكفاءة في استخدامها وسط الحديث اليومي له. وهذا أيضاً يشكل قلقاً لدى بعض السياسيين غير المخضرمين حيث إن قاموس المصطلحات لديهم يبدو عشوائياً رهن استخدامه بعض الوقت، بخلاف المفكر أو رجل الفلسفة الذي يسعى إلى ترتيب أولويات حديثه وتحديد المناطق التي ستناولها بالعرض والمناقشة واستخلاص النتائج، وهذا الامتلاك من شأنه أن يعطي الفيلسوف قدرة فائقة على توصيف المشهد.

وباختصار واختزال شديدين فإن الدول العربية تحديدا تمتلك ـ وحدها ـ الرصيد الأكبر من حوارات الأنا والآخر نتيجة التعدد الثقافي بين ربوعها العريضة، وهذا الامتلاك التاريخي ساعدها طيلة قرون مضت على إقامة علاقات طيبة ومتسامحة بين أصحاب الديانات المختلفة الأمر الذي يمكن رصده بسهولة ويسر في كافة الأزمات والمحن التي تعرضت لها هذه الشعوب العربية العظيمة سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو خلال فترة الحروب العظيمة التي خاضتها مصر .

ولست بمستغرب بهذا النموذج الإنساني المتحضر لعلاقة الأنا والآخر في مصر تحديدا، ذلك لأنني ممن يطالعون كتاب شخصية مصر للعبقري جمال حمدان الذي لا أمل من الحديث عنه أو عن موسوعته الثقافية المصرية عن هذا الوطن العظيم الذي كان ويظل نبراسا في الوسطية والاعتدال مكانا وتاريخا ضاربا في القدم، لكن المشكلة الحقيقية أننا حينما نتحدث عن علاقة المسلم بالمسيحي، ونهرع للترويج للعلاقة الذهبية بينهما نحترف في استدعاء نماذج وشخصيات كارتونية مقتبسة من حكايا المسلسلات المملة، وليست هؤلاء المحترفين أن يجتهدوا قليلا فيعقدوا مسابقة سريعة قبيل انعقاد المؤتمرات والمنتديات الوهمية عن الشراكة الوطنية وحقوق الآخر وهذا الكلام الكبير حجما أن يطلبوا من المواطنين الشرفاء طبعا أن يقصوا حكاياتهم وأسمارهم الحقيقية عن شركاء الوطن ومن ثم اختيار وتقديم صور حقيقية عن أبناء هذا الوطن العظيم .

وقد تعتري هذه العلاقة الطبية بين الأنا والآخر بعض الشوائب التي تقف في طريقها لاسيما في ظل تعدد المنابر والاجتياح الطوفاني لوسائط الاتصال الاجتماعي مثل فيسبوك وتويتر، والمشكلة الحقيقية في حوار الأنا والآخر ثمة إحداثيات نراها جميعا ضرورية منها أن الثقافة الراهنة تبدو أحيانا مضللة لأنها من زاوية واحدة دون أدنى اعتبار للآخر، وتبدو أيضا راشدة حينما يشترك فيها نسيج الوطن الواحد، وما أجملها حينما تصير بالفعل تنويرية أو موجهة للمجتمعات . والإحداثية الثانية هي أننا نحترف ممارسة إجراءات ثقافية غير مرئية بين بعضنا البعض مثل الإقصاء والتهميش والعزل المجتمعي وأخيرا الاستبعاد الاجتماعي .

ولن نصل إلى حوار حقيقي بناء وفعال إلا حينما نعتمد الثقافة سلوكا إنسانيا في مدارسنا وجامعاتنا وشوارعنا أيضا، وأن تتحول تلك الثقافة إلى مهارات معرفية التي سرعان ما تتحول لتستقر إلى هوية دائمة مستدامة . و باختصار شديد مصر عظيمة ثقافيا بالفعل، لكن في ظل هذا التسارع الرقمي وشيوع المنصات الافتراضية التي تكرس للتعصب والكراهية ونبذ قبول الآخر بات الأمر شديد الصعوبة في معالجته بصورة فطرية، وخصوصا أن هناك ثمة محاولات مستمرة لا تنتهي لتجريف الشخصية المصرية، وتعتمد هذه المحاولات على بعض المنابر الإعلامية السطحية طبعا التي تروج جاهدة للمفاهيم السطحية التي تنال من سمعة هذه الثقافة المصرية الأصيلة .

لكن في وسط عتمة المشهد الثقافي في قبول الآخر بعيدا عن الكتب المدرسية الكئيبة، تظل هناك صور عظيمة من المحبة والتسامح والمودة والرحمة بين شركاء الوطن الواحد، ليس بالضرورة في الحديث عن ملامح وسمات كل دين، إنما من خلال هذا السمت المصري الخالص ألا وهو الثقافة البعد الغائب عن حياتنا . وحينما نذكر الثقافة لا يمكننا الفكاك من أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء الدكتور زكي نجيب محمود، وخصوصا أن زكي نجيب محمود اهتم كثيرا بنقد الحياة الاجتماعية في العالم العربي بوجه عام من أجل استخلاص رؤية تنويرية للإصلاح لا مجرد النقد، وربما ينتابني الحزن المصاحب بالاكتئاب نظرا للإهمال الإعلامي المقصود صوب أديب الفلاسفة الدكتور زكي نجيب محمود وما قدمه من إسهامات فكرية رائعة وقابلة للتطبيق والتنفيذ والتجريب أيضا .

وإذا كان الحديث اليومي السائد آنيا في مصر لا يخرج عن فلك قضيتي التربية والتعليم، بوصفهما يمثلان عبئا وهما قائما بالفعل، فإن الثقافة هي الدرس الأول من كتاب التربية وليس في تنظيرات التربويين العقيمة، وأن الصين منذ عام 2017 اعتمدت الجانب الوجداني المتمثل في تعليم واكتساب القيم والفضائل والاتجاهات الوطنية جزءا أصيلا للمناهج المدرسية وليست الماديات وسطوتها هي التي تبني العقول والأمم .

***

د. بليغ حمدي إسماعيل

أستاذ المناهج وطرق التدريس – كلية التربية جامعة المنيا

ما برح المعنيون بدراسة القيم الأخلاقية يسألونني عن معيار جدة وطرافة الموضوعات التي ينبغي عليهم تناولها بالبحث (لنيل درجة الماجستير أو الدكتوراه) وهل موطن ابتكارها في حداثتها أم في بنيتها المعرفية ومنهجية معالجتها؟ واعتقد أن الأصالة والجدة والطرافة والابتكار تكمن جميعها في موضوعية تناولها ونسقية وتماسك أفكارها ووضوح مقصدها وأهمية طرحها في معالجة إحدى القضايا الفلسفية التطبيقية في المجتمع في ضوء ثقافة العصر المعيش.

فما أكثر الأبحاث التي تناولت ماهية القيم الأخلاقية ومصادرها وطبيعتها ووظائفها بيد أن ما يميزها عن بعضها ليس عنوان الدراسة بل ما انتهت إليه وما أضافته على سابقتها ومبلغ أثرها في اللحظة التي ظهرت فيها.

فعلى سبيل المثال فقد كتبت عدة مقالات عن فلسفة الكذب وشاركت في الكثير من الندوات التي عقدت حول هذا الموضوع وذلك في الفترة من 2013 إلى 2019 (على صفحات مجلة روز اليوسف والبوابة نيوز وأخبار اليوم ومهرجان جامعة أسيوط وندوات مكتبة الإسكندرية) ولم يكن هدفي من ذلك هو تذكير القراء بما كتبه الفلاسفة والمتفلسفون عن تقييمهم لرذيلة الكذب وخطورة تفشي هذه الظاهرة في السلوك الإنساني بل كان الهدف الحقيقي من إحياء هذا المبحث النقدي هو التصدي للأكاذيب التي أطلقتها الجماعات الضالة المضلة بإيعاز وتحريض من دوائر المخابرات المعادية والمتآمرة لزعزعة الأمن والاستقرار في بلادنا أي أنهم اتخذوا من الأكاذيب بكل أشكالها أسلحة لهدم دولتنا من الداخل لتفكيك قوة تماسكها وتشكيك الرأي العام في قياداتها ونشر جراثيم الفتن الطائفية والمذهبية بين طبقات المجتمع ليسهل عليهم هدمه وتحقيق مخططهم الاستعماري الجديد.

وها نحن نكتب اليوم ثانيةً لشرح ما أجملناه وتوضيح ما خفي على الرأي العام من وسائل وآليات صناع الأكاذيب في ضوء التقنيات الإلكترونية التي لم تقف عند الشائعات الإخبارية والأحداث الملفقة بل ذهبت إلى أبعد من ذلك حيث (التزييف والإيهام والخداع البصري والسمعي والارتياب المعرفي والتجهيل العلمي) والترغيب في مشاهدة المواقع الإلكترونية المفعمة بالمكائد غير المباشرة -كما بينا في المقالات السابقة-، ودفع الأذهان لإدمان الفوضى والكفر بالثوابت واعتناق العدمية المتهكمة على الصدق والجاحدة لليقين الذي تبنى عليه المحاسن والرذائل.    

***

فقد ذهب الفلاسفة إلى دراسة العادات والقيم الأخلاقية بغرابيل دقيقة لتفصل ذلك الخلط الذي يجمع بين المعيارية والنظرية في الكتابات الأخلاقية فقد ذهب الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي (لوسيان ليفي بريل) (1939:1857) في كتابه علم العادات الأخلاقية إلى أن علم الأخلاق يدرس القواعد الأخلاقية دراسة نظرية مجردة وفي الوقت نفسه يحدد القيم والغايات الأخلاقية من تلك القيم أو التصورات النظرية العقلية لما ينبغي أن يكون عليه السلوك الإنساني الفاضل ويصدر أحكامًا على الأفعال الإنسانية ويرتب الواجبات ويضع الحلول للمشاكل والأزمات التي يلقاها ضمير كل إنسان عاقل حر.

وانتهى إلى أن مصطلح (العلم المعياري للأخلاق) -الذي وضعه العقليون- يشكل دربً من اللغو الذي يصعب على الأذهان استيعابه لأن التصورات العلمية المجردة لا يمكن اتخاذها معيارًا للتطبيقات السلوكية التي تتحكم فيها العديد من العوامل التربوية والنفسية والاجتماعية والمعتقدات الدينية والمبادئ السياسية وغير ذلك من الأمور المتصلة اتصالًا مباشرًا بالأخلاق التطبيقية فاللذة والمنفعة والواجب والصدق والكذب لا يمكن أن تكون مفاهيم أو قيم نظرية مجردة تصدق في كل زمان ومكان في حين أن الواقع يشهد بأن تلك المفاهيم الأخلاقية تتبدل بموجب الثقافة التي تنشأ فيها وقد غاب عن أذهان المثاليين الداعيين (لما ينبغي أن يكون) بأنهم انطلقوا إلى هذا المفهوم من انتقاداتهم لسلبيات السلوك الأخلاقي في المجتمعات أي أن الواقع هو الذي دفعهم إلى تصور المثل العليا وليس العكس.

فكيف يمكن القول بوجود علم أخلاق نظري كما يزعم الفلاسفة إذا كان تطور الأخلاق العملية التطبيقية خلال العصور هي السبب في تطور المذاهب الخلقية.

أي أن الفيلسوف يقف أمام مرآة مشاعره الوجدانية وقناعته الذهنية وحدود أفعاله السلوكية ثم يضع تلك القناعات في نسق يجعل منه الأنموذج والمثل الأعلى للإنسان الكامل على مر العصور متجاهلًا سائر الأوضاع والعادات والتغيرات التي تمر بها الواقعات المعيشة لذلك الإنسان الفرد ويحدد بمقتضاه مفهوم الصدق ومعني الكذب. ومن ثم بات لزامًا على فلاسفة الأخلاق تحديث معاييرهم للفكر الأخلاقي مهنيًا كان أو تطبيقًا عام وذلك نحو عملي استقرائي يحتكم فيه إلى منطق الذرائع والمنفعة العامة وصالح الفرد والبيئة معًا ويترتب على ذلك انتهاجهم المنهج الاستقرائي وليس الاستنباط أو المحاكاة لتصورات مجردة.

في حين ينزع علماء الدين إلى نقد المحتكمين للضمير الإنساني للفرد، أو للظواهر الاجتماعية النسبية والتحولات الثقافية المتغيرة من عصر إلى عصر ، أو للمثل العقلية المستمدة من عالم المجردات أو المدن الفاضلة التي يتخيلونها أو نموذج الإنسان الكامل الذي رفعته الاستنارة العقلية وعشقه للذات الروحيّة عن كل شهوات المادة واللذات الجسدية ويؤكد المتدينون أن كل هذه المذاهب الأخلاقية (النفسي الجواني، الأنثربولوجي الظاهراتي الاستقرائي والعقلي المثالي، والروحي الوجداني) لم تستطع الوقوف على بنية جوهر الإنسان وذلك لأن مفاهيمهم على تعددها وتباينها لم تنفذ إلى حقيقة النفس البشرية المتمثلة في الفطرة التي نشأها الله عليها ومن ثم، فإن الأوامر الإلهية والنواهي الربانية المُوحى بها في الكتب المقدسة هي أوثق المعايير والضوابط للسلوك الإنساني سواء في ميدان التطبيق المهني أو السلوك العام أو في الواجب التربوي الذي ينبغي غرسه في تنشأة النشء وتهذيبه وذلك لأنها تجمع بين إيجابيات المثل واحتياجات الواقع المعيش. ويؤكد المجددون المتفقهون أن الأخلاق الإسلامية تحتكم إلى ثابت شرعي يمتاز بالمرونة والقدرة على التطور والتعايش مع مختلف المجتمعات والبيئات.

وعلى النقيض من تلك الآراء نجد النفعيون الماديون ينظرون إلى أن الأخلاق إحدى الآليات أو الطاقات الإنسانية الفاعلة التي تسعى إلى تحقيق أكبر قدر من السعادة وإشباع رغبات الفرد أو القوة المهيمنة التي تقود الحاضر إلى يوتوبيا واقعية يقودها العلم وتسيسها المنفعة العامة ويحكمها نصائح نيقولا مكيافيللى (1527:1469) ودستور تنين توماس هوبز (1679:1588) أو سوبر مان فريدريك نيتشه (1900:1844) -الذي يحتكم إلى قانون الصراع والبقاء والأصلح والمجد للأقوى.

وذلك فضلًا عن أهواء تحالف الماسونيين مع العصابات الصهيوأمريكية التي انتهت إلى أن خداع قيادات العالم وتزييف العقل الجمعي للشعوب باختراع الأكاذيب أيسر بكثير من الحروب التقليدية التي انتهجوها للتغيير في الحربين العالميتين في القرن العشرين.

***

ولما كان هدفنا هو التعرف على غرابيل الفلاسفة حيال قيمة الكذب الدنية ومكانة الصدق العليا فسوف نجد ثقوبها تتسع وتضيق وفق معايير المذاهب التي ينتمي إليها أصحابها عقلية كانت أو مستمدة من العادات والتقاليد والأعراف أو من الدين والكتب المقدسة؛ فجميع هذه الغرابيل يسعى إلى هدف واحد ألا وهو نقد الكذب وتحديد المواقف التي يجب علينا هدمه فيها وتخليص السلوك الإنساني من شروره وتعيين القدر المباح من بعض أشكاله التي تفرضه علينا الضرورة والمصلحة العامة وهو ما نطلق عليه اليوم في الفلسفة المعاصرة (عبقريّة الكذب) الذي جعله فرانسوا نودلمان الفيلسوف الفرنسي المعاصر (1958) عنوانًا لآخر مؤلفاته في هذا الموضوع. التي يستحيل الإفك فيه إلى موقف مغاير لطبيعته الآثمة القبيحة من وجهة نظر الفلاسفة الذين رفعوا لواء الصدق والحق على ما دونه في حين أن عدم التزامهم بنسقية أفكارهم أوقعتهم في العديد من المتناقضات التي كشفت عن ضعفهم الإنساني الذي لم يقاوم الأكاذيب التي اخترعوها لصناعة نظرياتهم.

وللحديث بقية عن الغرابيل الفلسفية التي أعدها قادة الفكر الإنساني لمكافحة مواطن الخداع ومزيفي العقول وهادمي الثوابت والقيم الأخلاقية والمبادئ العقديّة.    

***

بقلم: د. عصمت نصار

عندما يُستبعد نصٌ من السردية التاريخية أو الأدبية المقبولة، فإن هذا الاستبعاد غالبًا ما يكون نتيجة لعملية نقدية متعددة الاسباب يمكن أن تكون مرتبطة ارتباطًا مباشرًا بعدم وضوح النص، لغة النص غامضة جدًا، استخدم مصطلحات غير واضحا تقدم أحداثًا غير مترابطة، مما يجعل تفسيرها صعب للغاية وغير مُجدٍ .النص الذي لا يمكن دعمه بأي أدلة سواء كانت نصوصًا أخرى من نفس الحقبة أو أدلة أركيولوجية، يُنظر إليه بعين الشك خصوصا إذا كان النص يتعارض بشكل مباشر مع نصوص تاريخية أو أثرية أخرى موثوقة، إن هذا التناقض يُعد سببًا قويًا لاستبعاده، بعض النصوص. كما قد تُرفض بسبب خصائصها الكتابية غير المألوفة، مثل الأسلوب، أو عدم وجود بنية سردية منطقية، أو حتى شكل المخطوطة نفسها. المنهج العقلي يربط بين الكاتب والنص والسياق في منظومة متكاملة، النص الذي يبتعد عن سياق كاتبه، أو يُظهر عدم اتساق داخليًا، أو يتناقض مع أدلة أخرى، يكون من الصعب إدراجه ضمن السرديات المقبولة، ويعتبر استبعاده التاريخي دليلاً منطقيًا على وجود خلل أو عدم وضوح في النص الأصلي نفسه.

أمثلة على النصوص المطرودة تاريخيًا

الكتب المقدسة المحذوفة

الإنجيل الغنوصي، مثل إنجيل توما، الذي يعتبر نصًا غنوصيًا لم يتم تضمينه في الكتاب المقدس الرسمي. الإنجيل الغنوصي، مثل إنجيل توما

الأناجيل الغنوصية هي مجموعة من الكتابات التي ظهرت في القرون الأولى للمسيحية، وتتميز بتركيزها على المعرفة الروحية الباطنية ("غنوص") كوسيلة للخلاص. تختلف هذه الأناجيل عن الأناجيل القانونية في العهد الجديد

الفلسفة اليونانية

أعمال هيراقليطس، بعض النصوص التي كانت تُعتبر مهمة في الفلسفة لكنها فقدت أو لم تُحفظ بشكل جيد. هيراقليطس (حوالي 535 - 475 قبل الميلاد) كان فيلسوفًا يونانيًا قبل سقراط من أفسس في آسيا الصغرى. يُعرف بأسلوبه الغامض وكتاباته التي يغلب عليها طابع الحزن، ولهذا لُقب بالفيلسوف الباكي.

الأدب العربي

قصائد الجاهلية، هناك العديد من القصائد التي فقدت أو لم تُدوّن، مما يجعل من الصعب إعادة بناء الأدب الجاهلي بالكامل. أسباب فقدان الشعر الجاهلي

الرواية الشفوية: اعتمد الأدب الجاهلي بشكل كبير على الرواية الشفوية، حيث كان الشعراء يتناقلون القصائد والأخبار شفهيًا. هذا العرضة للتحريف والنسيان بمرور الوقت.

عدم التدوين المبكر: لم يبدأ تدوين الشعر الجاهلي إلا في فترة لاحقة، أي في العصر الإسلامي. هذا أدى إلى ضياع الكثير من الأشعار التي لم يتم تدوينها.

الظروف الاجتماعية والسياسية: الحروب والصراعات القبلية، بالإضافة إلى التغيرات الاجتماعية والسياسية التي حدثت مع ظهور الإسلام، ساهمت في فقدان بعض الأشعار.

انتقاء المدونات: عندما بدأ التدوين، كان يتم انتقاء الأشعار التي تُدوّن بناءً على معايير معينة، مثل الجودة أو الشهرة أو الفائدة اللغوية، هذا أدى إلى إهمال بعض الأشعار الأخرى.

التاريخ الإسلامي

مثل "تاريخ الطبري"، حيث توجد نصوص لم تُحفظ أو تم تحريفها عبر الزمن. تعتبر كتب التاريخ الإسلامي المبكر، مثل "تاريخ الرسل والملوك" للطبري، من أهم المصادر لفهم التاريخ الإسلامي، ولكنها لا تخلو من المشاكل المتعلقة بفقدان النصوص أو تحريفها عبر الزمن.

الأساطير

نصوص من الأساطير النوردية مثل بعض الملاحم التي فقدت أجزاء منها عبر الزمن، تعتبر الأساطير النوردية غنية بالقصص والملاحم التي تعود إلى العصور القديمة. إليك بعض النصوص الشهيرة والتي يُعتقد أن أجزاءً منها قد فقدت عبر الزمن:

إيدا الشعرية

إيدا النثرية أخرى قد تكون ضاعت

هذه النصوص تعكس كيف يمكن أن تتأثر المعلومات عبر الزمن، مما يؤدي إلى فقدان أو تحريف أجزاء منها.

النصوص واعادة الترميم

لا يعتبر هذا الأمر إعادة ترميم للنص بالمعنى الحرفي، ولا ينبغي أن يكون انحيازًا لتوجه جديد في التقييم. بل هو أقرب إلى إعادة قراءة نقدية أو تحقيق تاريخي. ترميم النص من ناحية متحفيه تعني التركيز على اعادةً إصلاح الأجزاء التالفة من المخطوطات أو استكمال الكلمات المفقودة لجعله قابلًا للقراءة. أما العملية المقصودة هنا، فهي تهدف إلى فهم سبب استبعاد النص تاريخيًا وتحليل أسباب عدم وضوحه من خلال السياق التاريخي والثقافي. هذا النوع من البحث هو جوهر النقد التاريخي، الذي يعيد النظر في النصوص المرفوضة أو المهمشة، إن فكرة أن النصوص قد تُرفض تاريخيًا بسبب تعارضها مع السلطة السياسية أو المرجعية الدينية السائدة، وهي فرضية مشروعة جدًا في البحث التاريخي. في هذه الحالات، لا يكون رفض النص بسبب عيوب داخلية (مثل التناقض أو عدم الوضوح) بل لأسباب خارجية مرتبطة بـ الأيديولوجيا السائدة، قد يتم تهميش نص لأنه يقدم وجهة نظر مخالفة للتيارات الفكرية أو العقائدية المهيمنة في عصره، المصالح السياسية يمكن أن تستبعد النصوص التي تنتقد الحكام أو النخبة الحاكمة، أو التي تدعو إلى تغييرات تهدد استقرار النظام السياسي، الخوف من التشويه، قد يُرفض النص ليس لأنه خاطئ، بل لأنه يمكن أن يُساء فهمه أو استخدامه بشكل يضر بالسلطة، الهدف من هذه المراجعة النقدية ليس تبرئة النص المرفوض، بل هو فهم تاريخي أعمق للسبب وراء رفضه. المنهج العلمي يتطلب من الباحث أن يكون موضوعيًا قدر الإمكان، وأن يميز بين عيوب النص الحقيقية (مثل التناقضات الداخلية) وبين الأسباب الخارجية التي أدت إلى إقصائه. هذا التمييز يساعد على إعادة بناء صورة أكثر دقة للماضي، وربما يكشف عن نصوص مهمة تم تجاهلها لأسباب غير علمية، خصوصا عندما لا تتوفر أدلة أركيولوجية لتأريخ نصٍ ما، يعتمد المنهج على مجموعة من الأدوات النقدية الداخلية التي تركز على النص نفسه وسياقه اللغوي والتاريخي.

النقد الداخلي

هو فحص دقيق لمحتوى النص لتحديد مدى صدقه واتساقه. يتم ذلك من خلال تحليل المفاهيم والمصطلحات، يتم فحص المفردات والمفاهيم المستخدمة في النص ومقارنتها بما هو معروف من نصوص أخرى من نفس الفترة أو الفترات المجاورة. مثلاً، استخدام مصطلحات حديثة في نص يُفترض أنه قديم يعد دليلاً قوياً على عدم أصالته، فحص المنطق الداخلي يبحث عن التناقضات في السرد أو الأفكار. هل الأحداث مترابطة منطقيًا؟ هل تتوافق الأوصاف مع الوقائع المعروفة عن تلك الفترة؟ النقد الخارجي يهدف إلى التحقق من مصدر النص وتاريخه من خلال الأدلة الخارجية المتاحة، حتى لو لم تكن أثرية. فحص السياق التاريخي للكاتب ومحاولة تحديد هوية الكاتب ومعرفة تفاصيل حياته وخلفيته الاجتماعية والثقافية. هل كان الكاتب معاصرًا للأحداث التي يصفها؟ هل كان لديه دافع لتزييف المعلومات؟ يتم مقارنة النص بالنصوص المعاصرة له أو التي تتحدث عن نفس الحقبة. هل هناك تشابه في الأسلوب أو الأفكار؟ هل يوجد إشارات إلى نفس الأحداث أو الشخصيات في نصوص موثوقة؟ هذا يساعد على وضع النص في إطاره الزمني الصحيح، التحليل اللغوي يركز على اللغة نفسها كأداة تأريخ. فلكل فترة تاريخية خصائص لغوية مميزة تتغير قواعد اللغة مع الزمن، لذا يمكن لمقارنة تراكيب الجمل وصيغ الكلمات أن يساعد في تحديد تاريخ تقريبي للنص، دراسة شكل الحروف والخط المستخدم، وهو ما يعرف بـ “علم الكتابة القديمة" أو "الباليوغرافيا". فكل فترة زمنية كان لها أسلوب خط مختلف، مزيج من هذه الأدوات التحليلية والنقدية التي تستخدم النص نفسه كـ “أثر" يُدرس، وتُقارن بأدلة نصية أخرى، مما يسمح للباحث بوضعه في سياقه التاريخي الأكثر ترجيحًا حتى في غياب الأدلة الأثرية المادية. في حالة عدم توفر نصوص موازية (سابقة أو لاحقة) للمقارنة، يصبح تأريخ النص تحديًا كبيرًا، لكنه ليس مستحيلاً. في هذه الحالة، يتحول التركيز بشكل كامل إلى تحليل النص ذاته وسياقه العام، معتمدين على منهج النقد اللغوي والتاريخي الداخلي، في حالة وجود تناقضات كبيرة بين سياق النص الأصلي والنصوص اللاحقة، لا يمكن اعتبار النص الأصلي "مشروعًا" ببساطة، بل يجب أن يخضع لدراسة نقدية دقيقة لفهم أسباب هذا التناقض. هذا التناقض ليس بالضرورة دليلاً على أن النص الأصلي غير صحيح، بل يمكن أن يكون مؤشرًا على عدة احتمالات مهمة في منهج البحث التاريخي، قد يكون النص الأصلي يعكس حقيقة تاريخية أو سياقًا اجتماعيًا لم يعد موجودًا في زمن كتابة النصوص اللاحقة. على سبيل المثال، قد يصف نص قديم نظامًا سياسيًا تغير لاحقًا، فتأتي النصوص التالية لتصف النظام الجديد، مما يُحدث تناقضًا ظاهريًا قد يكون النص الأصلي يعبر عن مرحلة سابقة من تطور فكري أو ديني، بينما تعكس النصوص اللاحقة تطورًا أو تغييرًا في تلك الأفكار. هذا يحدث كثيرًا في النصوص المقدسة أو الفلسفية، حيث يتم تعديل أو إعادة تفسير الأفكار الأصلية مع مرور الوقت، قد تكون النصوص اللاحقة قد خضعت لتعديل أو إعادة صياغة لتناسب مصالح السلطة السياسية أو الأيديولوجية السائدة. في هذه الحالة، يمكن أن يكون النص الأصلي هو الأكثر صدقًا، بينما النصوص اللاحقة هي نتاج لتغيير متعمد، قد يكون النص الأصلي نفسه يحتوي على أخطاء تاريخية أو يكون مزيفًا، مما يجعله يتناقض مع النصوص الموثوقة التي جاءت بعده.

الابداع في النصوص اللاحقة

تدعي بعض النصوص اللاحقة أن فيها إبداعًا أعلى من النص الأصلي، لذا يجب على الباحث أن يتعامل مع هذا الادعاء بحذر شديد، وألا يأخذه على أنه حقيقة مطلقة. فادعاء التفوق ليس دليلًا على صحته، بل هو جزء من النص اللاحق نفسه، يجب تحليله وفهم دوافعه في هذه الحالة، يتحول الاهتمام من مجرد مقارنة الجودة الفنية إلى دراسة السياق الأيديولوجي والفكري الذي دفع كتاب النصوص اللاحقة إلى الإدلاء بهذا الادعاء، يمكن أن يكون الادعاء بالتفوق الفني في النصوص اللاحقة نابعًا من عدة أسباب، لا علاقة لها بالضرورة بالجودة الفنية الفعلية للنص الأصلي، قد يكون الهدف من النص اللاحق هو إثبات أن له سلطة جديدة أو أنه يمثل مرحلة أعلى من الحقيقة أو الفهم. في هذه الحالة، يكون التقليل من شأن النص الأصلي أو وصفه بأنه "أقل تطورًا" وسيلة لترسيخ مكانة النص الجديد قد يكون المعيار الفني الذي يقيس به كتاب النصوص اللاحقة "التطور" يختلف كليًا عن المعايير التي كانت سائدة عند كتابة النص الأصلي. على سبيل المثال، قد يعتبر نص متأخر أن الوضوح والواقعية هي ذروة الفن، بينما كان النص الأصلي يركز على الرمزية والغموض، يكون هذا الادعاء محاولة لقطع الصلة مع التراث القديم وتأسيس هوية فنية أو فكرية مستقلة. هذا يحدث عادةً في فترات التجديد أو الانفصال عن التقليد القديم.

***

غالب المسعودي

 

المقدمة: في كل مرحلة من مراحل التاريخ، حين تواجه السلطة خطرًا على مشروعها أو شرعيتها، تجد في الدين ملاذًا جاهزًا لحمايتها، لا بوصفه منظومة أخلاقية أو وعظية، بل بوصفه جهازًا أيديولوجيًا قادراً على إنتاج الطاعة وتبرير القهر، عبر خطاب يتلبّس القداسة ويُغلِّف السياسة برداء الشرع. هنا، لا يقف رجال الدين في مقام النقد أو المواجهة، بل يتقدّم بعضهم الصفوف ليكونوا صوت الحاكم في محراب الله، و"وعّاظ السلاطين" الذين يُسهمون في شرعنة الطغيان، بل وتجميله باسم الدين.

تُطلّ هذه الظاهرة برأسها كلّما تمّ تحييد العقل النقدي، وتغليب فقه الطاعة على فقه العدل، وغالبًا ما تتكرّر في المجتمعات التي يُعاني فيها الدين من الاختطاف، إما على يد السلطان، أو على يد فقهاء جعلوا من أنفسهم حماةً للعرش أكثر من كونهم أمناء على الضمير الديني.

وإذا كانت عبارة "وعّاظ السلاطين" قد نالت شهرتها بفضل المفكر العراقي علي الوردي، فإن جوهرها أبعد من توصيف أخلاقي لفئة من رجال الدين، بل هي مفتاح لفهم علاقة ملتبسة بين السلطة والدين، حيث يتحوّل الدين من منظومة للتحرير إلى أداة للقمع، ومن خطاب للمستضعفين إلى خطاب لحماية المستبدين.

وما يعمّق خطورة هذه الظاهرة هو ما تمنحه من شرعية مزدوجة: شرعية دينية تكمّم الأفواه، وشرعية سياسية تبرّر البطش باسم المصلحة العامة أو وحدة الأمة.

في هذا المقال، نحاول تفكيك ظاهرة "وعاظ السلاطين" ليس بوصفها انحرافًا أخلاقيًا عابرًا، بل باعتبارها بنية متجذّرة في الفقه السياسي الإسلامي، تلبّست بلبوس النص، وتسربلت بتاريخ طويل من التواطؤ بين العمامة والعرش.

نحاول مساءلة هذه الظاهرة تاريخيًا، وفقهيًا، وسوسيولوجيًا، للوقوف على أسبابها، وأدواتها، وأثرها على العقل الديني، وكيف تكرّست في ذاكرة المسلمين، وما الذي يجعل نقدها ضرورة فكرية لا تقبل التأجيل.

الجذور التاريخية لظاهرة وعّاظ السلاطين

ظاهرة "وعّاظ السلاطين" ليست مجرد حالة طارئة أو انحراف فردي، بل هي ظاهرة معقدة ومتجذّرة في تاريخ الفكر السياسي والديني الإسلامي، حيث تتشابك السلطة الدينية والسياسية في علاقة جدلية أنتجت طبقة من الفقهاء والخطباء والمحدثين الذين وظّفوا الدين كأداة لتبرير استبداد الحاكم وتحويل طاعته إلى عبادة، وترويج سياساته باعتبارها "شرع الله".

هذا التشابك بين النص والسلطان، بين الشرع والسلطة، شكل الأساس الذي استُمدت منه قوة وعاظ السلاطين، الذين لم يكونوا مجرد واعظين، بل صُنّاع خطاب ديني سياسي يُشبع الحاجة السلطوية إلى مشروعية تبرر استبدادها.

1. الخلفية التكوينية: من النص إلى السلطان

بعد وفاة النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، دخل المجتمع الإسلامي مرحلة فراغ سياسي وديني، إذ لم يحدد القرآن الكريم آلية واضحة لاختيار الحاكم، مما فتح المجال واسعًا للاجتهادات والتفسيرات المتباينة. هذا الفراغ استغله من تولى السلطة عبر "السقيفة"، التي كانت فعلًا سياسيًا صارمًا لبسط نفوذ قريش على الخلافة، مُلبسًا إياه ثوبًا دينيًا شرعيًا.

ولدت هنا "الرواية السياسية" التي تربط بين السلطة والدين، والتي تبنّاها فقهاء صعدوا مع الدولة الوليدة ليؤسّسوا لشرعية الحاكم، ليست مجرد قائد سياسي، بل "سلطان شرعي" لا يجوز الطعن فيه.

وهكذا بدأ الخطاب الديني يتحول من منبر للوعي الديني المجتمعي إلى آلية تحكّم وإخضاع، أداة لضبط الذهنيات وترويض الإرادات. فالفقهاء والخطباء أصبحوا أدوات لإنتاج شرعية السلطة، عبر اختيار نصوص دينية تُفسّر بما يرضي الحاكم، وتُهمش ما يُعارضه.

2. الدولة الأموية: تأصيل الطاعة وترويض الوعي

مع قيام الدولة الأموية، التي شكلت أول نظام حكم وراثي استبدادي في التاريخ الإسلامي، اشتدت الحاجة إلى خطاب ديني قادر على تبرير هذه السلطة المتوارثة، ومواجهة الأصوات المعارضة التي حملها الحسين بن علي وطلبة الزهد والورع مثل سعيد بن جبير والحسن البصري.

دعم الأمويون روّاة أحاديث مثل الإمام الزهري، الذين كان لهم دور فعال في صياغة "فقه الطاعة" الذي يحول الطاعة إلى أمر مطلق غير مشروط، كما في أحاديث: "من أهان السلطان أهانه الله"، "أطع الأمير وإن جلد ظهرك".

رغم ضعف سند هذه النصوص، إلا أنها استُخدمت بذكاء سياسي لإضفاء القداسة على الحاكم، وتحويل معارضة الاستبداد إلى معصية دينية. هنا، لم يعد الواعظ مجرد ناقل أخلاقيات الدين، بل صار هو المحرض على الطاعة العمياء، متخليًا عن دوره في نقد السلطة.

3. العباسيون: فقه الطاعة في ثوب الثقافة

في العصر العباسي، تطورت هذه الظاهرة إلى مؤسسة معقّدة، حينما تبلورت طبقة من العلماء مرتبطين مباشرة بالدولة، وأصبحوا موظفين في ديوان الخلافة، على غرار الإمام الشافعي الذي رسخ قاعدة أن "من غلب فهو الخليفة، تجب بيعته"، مما يعني أن القوة السياسية تحل محل الشرعية الأخلاقية.

في هذا السياق، دخل علم الكلام في دائرة الصراعات السياسية، وأصبحت الخلافات العقائدية منبرا للحكم على الولاء أو المعارضة، كما ظهر في "محنة خلق القرآن" أيام الخليفة المأمون، حيث فرض الخليفة رأيه، بينما قاوم الإمام أحمد بن حنبل بصلابة.

في هذه الحقبة، بدأت تتبلور نظرية "السلطان ظل الله في الأرض"، وهو تعبير عن القداسة السياسية التي تمنع مساءلة الحاكم أو نقض قراراته، فصار رفض الحاكم كفرًا مبررًا للقمع، وهذا الخطاب ظل مستمرًا متجددًا عبر القرون.

4. العصر المملوكي والعثماني: تثبيت الطغيان باسم الشرع

في هذه العصور، صارت الدولة الأوتوقراطية تتحكم مباشرة بالفقهاء، فبرزت طبقة من "علماء البلاط" الذين فقدوا استقلاليتهم، واحتكروا الفتاوى التي تخدم السلطان، حتى ولو خالفت العقل والأخلاق. فقد صدرت فتاوى مثل جواز قتل السلطان سليم الأول لأقاربه حفاظًا على "مصلحة الدولة الإسلامية".

كما دعم العلماء الجهاد العثماني ضد الصفويين، ليس بدافع حرية دينية، بل بدوافع سياسية بحتة، فجاء الفقه مجرد "جهاز أيديولوجي" يسهل على السلطان التحكم بالجماهير، ويكرّس ألوهية الحاكم، ويغلق باب النقاش والتمرد.

5. محطة الصفويين: تجربة مفصلية في السياق الشيعي

تشكل المرحلة الصفوية (1501–1736) نقطة تحول مركزية لفهم تطور ظاهرة "وعاظ السلاطين" ضمن السياق الشيعي. إذ تحوّل التشيع من تيار نخبة معارضة إلى مذهب دولة رسمي، مدعوم بفقهاء بلاط استوردتهم السلطة الصفوية من جبل عامل، ومن أبرزهم العلامة الكركي، الذي أعلن بوضوح تفويض الفقيه للسلطان قائلاً: "أنا نائب الإمام المهدي في ما فُوّض إلي من الأمور الشرعية، وما أراه فهو حكم الله".

هذا التفويض الذي قدّم الفقيه كمصدر سلطة دينية يمنح الحاكم شرعيته، شكّل أساس "المرجعية السلطانية"، التي تؤسس لولاية الحاكم كمرجعية دينية لا تحتمل المعارضة. وأدى ذلك إلى تبرير قمع المخالفين (السنة، الصوفية، الخ...) عبر فتاوى شرعية، وفرض ممارسات دينية مثل مجالس اللطم والتعزية العاشورائية كأدوات سياسية للحشد، مما حول الدين إلى جهاز تحكّم ومظلّة لاستبداد الدولة.

المرحلة الصفوية مهدّت الطريق لتكريس العلاقة بين المرجع والسلطان، وظهور فقه يبرر الدولة ولا يراقبها، وولادة مفاهيم مثل "ولاية الفقيه العامة" التي تطورت لاحقًا في إيران الخميني، ما يجعل من هذه التجربة نموذجًا معاصرًا من "وعاظ السلاطين" في إطار شيعي.

6. العصر الحديث: خطاب المؤسسة الرسمية

في العصر الحديث، مع ظهور الدول الحديثة، برزت الظاهرة في صور متعددة، منها رجال دين تحولوا إلى أدوات بيد الأنظمة الحاكمة، يبررون سياساتها ويغلفونها بفتاوى شرعية. ففي السعودية، على سبيل المثال، استُخدم خطاب بعض أعضاء هيئة كبار العلماء في تبرير سياسات الدولة، وتحريم المظاهرات، وتجريم النقد العلني للحاكم، تحت شعار "سد الذرائع" و"درء الفتنة". وفي مصر، خلال عهد الرئيسين جمال عبد الناصر ثم أنور السادات، وُظِّف الأزهر وقياداته في إضفاء غطاء ديني على توجهات النظام، سواء في تعبئة الجماهير ضد الخصوم السياسيين أو في شرعنة اتفاقيات سياسية مثيرة للجدل. وفي بعض دول الخليج، استخدمت السلطات المؤسسة الدينية الرسمية لتكريس مبدأ الطاعة المطلقة، ووصم أي معارضة بأنها خروج على الجماعة أو افتئات على الشرع. وفي بعض الأنظمة العسكرية المعاصرة، وُظّفت الجماعات الدينية الموالية للسلطة كأذرع أيديولوجية، استُخدمت المساجد ووسائل الإعلام فيها لتكريس الخضوع وقمع أي دعوة للإصلاح أو المقاومة.

هكذا، يصبح "الخطاب الديني الرسمي" أداة لترويض المجتمعات، وتجفيف منابع النقد، وإنتاج ثقافة دينية تماهت مع السلطة على حساب وظيفتها الأخلاقية والاجتماعية.

الخلاصة

ظاهرة "وعاظ السلاطين" ليست مجرد خلل أخلاقي فردي، بل تكوين ثقافي وفقهي بنيوي تراكم عبر القرون، يجعل من الدين أداة طيّعة في يد الحاكم، ومن الفقيه كاهنًا للبلاط. بدأت هذه الظاهرة منذ اللحظة التي استُخدم فيها الحديث والفقه لتثبيت سلطة لا أخلاقية، وستستمر طالما بقي الدين خاضعًا للسلطة السياسية، لا العكس.

فقه الطاعة وفقه الاستبداد: التحليل الفقهي والسياسي لشرعية الطاعة المطلقة

تُعد مسألة الطاعة للحاكم من المحاور الفقهية والسياسية الأكثر تعقيدًا وإثارة للجدل في التراث الإسلامي. إذ ينشأ من هذه المسألة تصوّرٌ مركزي حول العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وتحديد حدود شرعية السلطة وواجبات الرعية تجاهها. ومع أن القرآن والسنة يحثان على العدل والإنصاف، إلا أن فقه الطاعة تعرّض لتحوّلات جذرية أدت إلى تأسيس مواقف متعددة بين المُلزم بالطاعة الكاملة، والمُجيز للمقاومة أو المعارضة.

1. جذور فقه الطاعة: من الحتمية إلى الاجتهاد

في السياق الإسلامي الأول، كان الحاكم يتلقى الطاعة كجزء من النظام السياسي الجديد، مع استثناءات واضحة للظلم والجور. غير أن النصوص التي تُروّج للطاعة المطلقة، سواء على مستوى الحديث أو الفقه، أخذت طابعًا تأويليًا فاعلًا لدعم الاستبداد، وصُيغت في أزمنة واجتماعات سياسية لم تكن منسجمة مع روح الدين الجامعة للعدل.

تُستغلّ نصوص مثل: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق"، ولكنها تُختزل في صيغة "أطع الأمير وإن جلد ظهرك"، لتصبح أداة فصل بين معارضة الاستبداد، وقبول الطاعة تحت أي ظرف. هذا التناقض يشير إلى التحول من فقه تأملي يبحث عن العدل إلى فقه مُستخدم لإضفاء القداسة على الحاكم، بل وتحويل نقد السلطة إلى جريمة عقائدية.

2. تصورات فقهية متباينة: بين الطاعة المشروطة وغير المشروطة

ظهر في التراث فقهاء أصروا على وجوب طاعة الحاكم ما لم يأمر بمعصية صريحة، معتبرين الطاعة ضمانة للنظام والاستقرار، ومنهم الأئمة الأربعة، الذين رغم الاختلافات الفقهية بينهم اتفقوا على فكرة ضرورة الطاعة لمن بيده السلطان.

على الجانب الآخر، برزت أصوات أخرى ترفض الطاعة المطلقة، وتجيز مقاومة الظلم، وتؤكد حق الأمة في إزاحة الحاكم الظالم، ومنهم الحسن البصري، والزهراء بنت النبي، وأئمة المعارضة كالزيديين، الذين اعتبروا أن الشرعية الحقيقية هي لمن يحقق العدل لا لمن فرض نفسه بالقوة.

هذا التعدد يشير إلى أن "فقه الطاعة" ليس نصًا جامدًا، بل مجالًا مفتوحًا للنقاش والاجتهاد، لكنه للأسف غالبًا ما يُغلق لصالح القوى السياسية السائدة.

3. فقه الطاعة كأداة للهيمنة السياسية

استُثمر فقه الطاعة بشكل مكثف من قبل الأنظمة السياسية عبر التاريخ الإسلامي ليصبح جهازًا أيديولوجيًا يشرعن القهر والظلم، ويجعل من المعارضة جريمة دينية.

إن جعل الحاكم "ظل الله في الأرض"، أو "نائب الله"، يحوّل أي نقد أو رفض له إلى مساس بالقداسة، ويُرسّخ ثقافة الخضوع واللامساءلة. هذه الثقافة تؤثر في النفوس بشكل عميق، فتُولد حالة من الاستسلام النفسي والاجتماعي، تترافق مع قمع الإرادات الفردية والجماعية.

وبالتالي، فإن "وعاظ السلاطين" لا يقومون بدور ديني توجيهي، بل يصبحون جُزءًا من منظومة القمع، يغذونها بخطاب ديني مغلوط، يُبعد الناس عن الوعي النقدي والحرية.

4. من فقه الطاعة إلى فقه المعارضة: إمكانات التحرر

بالرغم من كل ما سبق، شهدت التاريخ الإسلامي أصواتًا نقدية فقهية، نادت بضرورة إعادة قراءة النصوص في ضوء مقاصد الشريعة، وضرورة حماية الأمة من الطغيان.

فلسفة الإسلام السياسي الحقيقي، كما عبر عنها الإمام علي في نهجه، ترتكز على أن الحاكم خادم للأمة لا سيدها، وأن الطاعة مشروطة بالعدل والحق، وأن من واجب الأمة التصدي للظلم. هذا التوجه هو المفتاح لإعادة بناء خطاب ديني يحرر الدين من أسر "وعاظ السلاطين"، ويعيد للدين دوره كضامن للحرية والكرامة الإنسانية.

الخلاصة

فقه الطاعة وفقه الاستبداد ليسا مجرد اختيارات فقهية جامدة، بل تعبيرات عن طبيعة العلاقة بين المؤسسة الدينية والسلطة السياسية في كل زمن ومكان. كلما تماهى الفقيه مع الحاكم، صار الدين أداة بيد الجلاد لا أداة تحرير للمظلومين. لذا، يظل التحدي الأكبر هو تحرير الفقه من أسر الخضوع، واستعادة روح المقاومة التي تضمن مجتمعًا يعبر عن طموحات العدل والكرامة والحرية.

صناعة الفقيه السلطاني: كيف يتكوّن واعظ السلاطين؟

ليس فقيهُ السلطانِ نتاجَ انحرافٍ شخصيٍّ فحسب، بل هو حصيلةُ بيئةٍ معرفيّةٍ وثقافيّةٍ ومؤسّساتيّةٍ تكرّسُ الطاعة وتُقمعُ فيها ملكاتُ النقد والاستقلال. إنّنا لا نواجهُ فردًا متملقًا بقدر ما نواجه بنيةً تولِّدُ التملّق، وتُكافئُ الخضوع، وتُعاقبُ الخروج عن الإجماع المُفترض. في هذا السياق، يصبح الفقيهُ السلطانيُّ ضرورةً وظيفيّةً لسلطةٍ تبحثُ عن شرعيّة دينيّة، ومآلاً طبيعيًّا لمؤسسةٍ دينيّةٍ تؤدلجُ الطاعةَ باسم النصوص، وتُعيد إنتاج خطاب الخضوع بوصفه دينًا.

الفقيه السلطاني لا يُخلق فجأة، ولا يهبط على السلطة من خارجها، بل يتكوّن تدريجيًا عبر سلسلة من التنازلات الصغيرة، تبدأ من الصمت عن انحراف، وتصل إلى تسويغ الجريمة. وفي كلّ مرحلة، يعيد تشكيل ضميره ليوافق هوى الحاكم، حتى يغدو صوته الداخلي صوتَ السلطان لا صوتَ الله أو النص. السيكولوجيا هنا تلعب دورًا محوريًّا: فالفقيه السلطاني قد يخدع نفسه بأنه يخدم الدين من داخل السلطة، وأنَّ قربه من الطغيان هو لحماية "المصلحة الإسلامية"، لكنه في العمق يفتك بضميره ليحفظ امتيازاته.

من منظور سوسيولوجي، يتغذّى هذا النموذج على سلطة التقليد، وتقديس العمامة، وغياب الرقابة المجتمعية. ففي المجتمعات التي لا تفصل بين الدين والرمز الديني، يُصنَّف أي نقدٍ لواعظ السلطان كطعن في الدين نفسه. وهكذا، تُعطى للحاكم شرعيةٌ مزدوجة: سلطة السياسة، وسلطة الدين، بينما يُجرَّد المجتمع من قدرته على المحاسبة أو المساءلة.

وتلعب مؤسسات التعليم الديني دورًا محوريًّا في إعادة إنتاج هذا النموذج. فالمناهج التي تُقصي الفلسفة، وتهمّش العقل، وتُقدّم الطاعة على النقد، تُنتج بالضرورة عقلاً تقليديًا هشًّا، جاهزًا لتبرير كل ما يُطلب منه. لا عجب إذًا أن تتحوّل الحوزات والجامعات الدينية في بعض السياقات إلى مزارع لإنتاج وعّاظ السلاطين، لا مختبرات للبحث والتجديد.

إن الفقيه السلطاني ليس شاذًا عن بيئته، بل هو نتاجها الأوفى، وصورتها الصارخة. وإنّ مواجهته لا تكون بشتمه أو سبه، بل بتفكيك البيئة التي صنعتْه، ونقد الثقافة التي صمتت عنه، وإعادة الاعتبار لدينٍ ينحازُ للإنسان، لا للحاكم.

مثقفو التبرير وفقهاء النفاق: حين يتحول الفكر إلى أداة تطبيع مع الطغيان

لا تقتصر المخاطر التي تهدد أي مجتمع على وجود سلطة قمعية أو مؤسسة دينية متحالفة معها، بل تتعداها إلى بروز فئة ثالثة أشد خطورة، تتمثل في أولئك الذين يُفترض بهم أن يكونوا ضمير المجتمع وعقله النقدي: المثقفون. حين يتخلى بعضهم عن دوره التنويري، يتحول إلى "مثقف تبرير" لا "مثقف تغيير"، يمارس نوعًا من التجميل الأيديولوجي لقبح الاستبداد، ويقدّم خطابًا يقوم بتطبيع القمع وتخدير الوعي الجماهيري، تحت شعارات مراوغة كـ "درء الفتنة"، أو "حفظ النظام"، أو "تقديم المصلحة العليا".

في هذا السياق، تتقاطع ممارسات مثقفي التبرير مع خطاب "فقهاء النفاق"، وهم أولئك الذين يتزيّنون بلباس الفقه والعلم الشرعي، لكنهم يختزلون الدين في طاعة السلطان، ويختزلون الفقه في فتاوى تُفصّل على مقاس الحاكم. لا يقفون عند حد الصمت عن الظلم، بل يتجاوزونه إلى شرعنته وتبريره، بل وتخوين من يعترض عليه أو يفضحه.

والأخطر من كل ذلك، هو أنّ هؤلاء يُسهمون في تعطيل أدوات النقد والمساءلة داخل المجتمع. فهم لا يكتفون بتجميد العقل الفقهي، بل يشيطنون كل وعي بديل، ويصنّفون الأصوات الحرة بأنها ضالّة، مأجورة، أو خائنة. يتحول الفقه والدين والفكر إلى منظومة مسوّغة للقمع لا مقاومة له.

سيكولوجيًا، تنبع هذه الظاهرة من آليات الدفاع الجمعي عن المنظومة القائمة، والخوف من الاضطراب، إذ يفضل العقل المستكين أن يجد مسوغات دينية وثقافية لوضعه المزري بدل مواجهته. أما سوسيولوجيًا، فهي تنبع من تكلّس البنى الاجتماعية وعجز النخب عن ممارسة الاستقلالية، إما بسبب الخوف، أو الطموح في الحصول على فتات السلطة، أو التماهي اللاواعي مع السائد.

هكذا، يصبح الدين حارسًا للسلطة، والمثقف ناطقًا باسم الاستبداد، والعقل الجمعي ضحية هذا التحالف. وتغدو معركة تحرير الإنسان العربي معركة معقدة لا تستهدف الطاغية وحده، بل تشمل أدواته من وعّاظ ومثقفين ومروّجي خطاب الطاعة والخضوع.

في النهاية، لا يُهزم الطغيان بغياب الطاغية وحده، بل بانهيار شبكة المبرّرين والمطبلين التي تحرسه بلسان الدين أو باسم الفكر. ففقهاء النفاق ومثقفو التبرير ليسوا ظلال الاستبداد فحسب، بل هم جزء من جذره العميق، ومن دون اجتثاثهم سيبقى القمع يجد لنفسه ألف مبرر وألف منبر.

الوجه النفسي لظاهرة وعّاظ السلاطين: الحاجة إلى الحماية بدل الحرية

لا يمكن فهم سلوك وعّاظ السلاطين دون الغوص في الجذور النفسية التي تفسّر انجذاب بعض رجال الدين إلى السلطة، أو خضوع الجماهير لتبريراتهم. في عمق هذه العلاقة، يبرز ما يمكن تسميته بـ"عقدة الحماية"، حيث تحل الحاجة إلى الأمان محل نزعة التحرر. فبدل أن تكون الحرية غاية، تصبح عبئًا يثير القلق، ليغدو الاستقرار – ولو على حساب الحقوق – هو المطلب الأسمى.

يُظهر الخطاب الوعظي السلطوي وجهًا أبويًا صارمًا، يعد بالطاعة مقابل الحماية، وبالاستقرار مقابل القبول بالأمر الواقع. هذا النموذج، الذي يشبه ما وصفه إريك فروم في كتابه الخوف من الحرية بـ"السلطوية الأبوية"، يجد صداه في نفسية الجماهير التي تعيش حالة "الرضا الطفولي" بالحماية، حتى ولو كان ثمنها التنازل عن الكرامة والحقوق. وفي هذا السياق، يتحوّل الدين إلى أداة لتهدئة القلق الجمعي عبر تقديم الطغيان كـ"أهون الشرين" وكمصدر وحيد للأمان.

التاريخ الإسلامي يقدم أمثلة واضحة على هذا النمط: فقد روّج بعض وعّاظ الدولة الأموية لفكرة أن طاعة الخليفة – مهما كان ظالمًا – خير من الانزلاق في "فتنة" تطيح بوحدة الأمة، وهو خطاب أعاد الظهور في العصر العباسي بصيغة "الأمن أو الفوضى". وفي العصر الحديث، لا يختلف المنطق كثيرًا حين يوظَّف خطاب "حماية الدولة" أو "درء الفتنة" لتبرير القمع، مع استحضار صور انهيار الدول الأخرى كأدلة تخويفية.

الواعظ السلطوي نفسه لا يرى في دفاعه عن السلطة مجرد حماية للحاكم، بل يجد فيه وسيلة لتسكين قلقه من الحرية المجهولة، تمامًا كما وصف حنّة آرندت في تحليلها لجذور الطغيان: فبعض الأفراد – بمن فيهم النخب الدينية – يشعرون بالارتياح في ظل السلطة المركزية القوية، لما توفره من إحساس باليقين والنظام. وهكذا، يُعاد تشكيل الوعي العام وفق ثنائيات قاتلة: الأمن أو الفوضى، الطاعة أو الهلاك، النظام أو الانهيار.

هذه العلاقة النفسية المركبة بين القمع والرضا به تخلق حلقة مغلقة: القمع ينتج وعظًا يبرره، والوعظ يولد استكانة، والاستكانة تزيد الحاجة إلى مزيد من القمع. ومن هنا، فإن نقد ظاهرة وعّاظ السلاطين ليس مجرد موقف سياسي أو أخلاقي، بل هو دعوة إلى تحرير الإنسان من هذه البنية النفسية التي تستبدل الحرية بالأمان، وإعادة الاعتبار للحرية كقيمة نفسية واجتماعية، لا كترفٍ فلسفي أو رفاهية نخبوية.

آثار الظاهرة على الدين والمجتمع

إنّ لظاهرة "وعّاظ السلاطين" آثارًا بالغة العمق والخطورة، لا تقتصر على الشأن الديني وحده، بل تمتد إلى بنية الوعي الجمعي، والسيكولوجيا المجتمعية، والشرعية السياسية، ناهيك عن أثرها على مشروع الإصلاح الديني ومكانة المؤسسة الدينية ذاتها. ويمكن إجمال أبرز هذه الآثار فيما يلي:

1. تحويل الدين إلى أداة تبرير أهم الأضرار الناتجة عن هذه الظاهرة هو تحويل الدين من رسالة تحرير روحي وأخلاقي إلى خطاب شرعنة للطغيان والظلم. لم يعد الدين في هذه الحالة قوة أخلاقية ناقدة، بل أصبح مؤسسة رمزية للحراسة، تُمنح منابرها لتمجيد الحاكم وتفسير قراراته وفق تأويلات انتقائية تُقصي البعد القيمي والأخلاقي للنصوص. وفي ذلك ينهار جوهر الدين بوصفه "كلمة الله في وجه الجائر"، كما يختزل النص في إرادة السلطة لا في مقاصد الحق والعدل.

2. إضعاف الثقة بالدين ورجاله حين يرى العامة أن المؤسسة الدينية تصطف دائمًا إلى جانب الحاكم، وتدافع عن تجاوزاته، وتبرر حروبه وفساده، يفقد رجل الدين مكانته بوصفه ضميرًا أخلاقيًا أو مرجعًا نزيهًا. تبدأ هنا موجة النفور والشك في صدقية الخطاب الديني، وهو ما يؤدي غالبًا إلى الانفصال التدريجي بين الجمهور والدين، ليس كعقيدة روحية بل كمؤسسة مجتمعية، وقد يقود ذلك في بعض البيئات إلى الإلحاد أو العدمية أو الارتياب الجذري من كل ما هو ديني.

3. إفشال مشاريع الإصلاح يسهم وعاظ السلاطين في إفشال أي نهوض إصلاحي حقيقي، إذ سرعان ما يتحالفون مع السلطة ضد أي صوت نقدي، ويصدرون الفتاوى التي تُحرم التظاهر، وتُجرم العصيان، وتُدين المطالبات الشعبية باسم "درء الفتنة" أو "وحدة الأمة"، مما يعيق الإصلاح السياسي والاجتماعي، ويخنق الأصوات الحرة التي تنشد التغيير السلمي. وهكذا تتحول المؤسسة الدينية، في كثير من التجارب، إلى جزء من منظومة القمع لا من حركية التحرر.

4. خلق وعي ديني زائف لا يقتصر الأثر على مستوى السياسة، بل يمتد إلى بنية التفكير الديني نفسها. يُعاد تشكيل العقل الديني بما يتلاءم مع بنية السلطة، حيث تُنتج فتاوى وفق معايير الولاء لا الاجتهاد، ويُعاد تفسير مفاهيم الطاعة، والشورى، والفتنة، والجهاد، بما يخدم نظام الحكم القائم. وبهذا، تتشكل نسخة زائفة من الدين، تُربى الأجيال عليها، وتُستنسخ في المنابر التعليمية والإعلامية، ليُعاد إنتاج الاستبداد عبر الدين لا ضده.

5. تثبيت السيكولوجيا الاستسلامية على المستوى النفسي، تساهم هذه الظاهرة في بناء شخصية جماعية مستسلمة، ترى في الحاكم ظلّ الله على الأرض، وفي الطاعة المطلقة فضيلة، وفي الاعتراض خروجًا عن الملة أو سفكًا للدماء. وهو ما يعزز شعور العجز، ويُميت روح المقاومة، ويُطبع الوعي على القبول بالعنف والطغيان كأقدار لا كاختيارات بشرية يمكن نقدها أو تغييرها.

6. التواطؤ مع العنف في بعض السياقات، لا يكتفي وعاظ السلاطين بالتبرير، بل يُضفون القداسة على ممارسات العنف السلطوي، فيُشرعن القمع تحت غطاء الدين، وتُمنح الحرب صفة "الفتح"، ويُصور المعارضون كـ"خوارج العصر"، في حين يُكافأ القاتل بوصفه "مجاهدًا"، ويُمنح المجرم غفرانًا فوريًا باسم المذهب أو الوطن أو الدفاع عن العقيدة.

باختصار، إنّ ظاهرة "وعاظ السلاطين" لا تفسد السياسة فحسب، بل تفسد الدين ذاته، وتُهدر قيمة الإنسان، وتُكرس بنية طاعة عمياء تعطل العقل وتُحاصر الضمير. وهي، في المحصلة، واحدة من أبرز أسباب تأخر المجتمعات الإسلامية وتكلس نظمها، وفشلها في بناء دولة عادلة وحديثة، تليق بقيم الدين وتطلعات الإنسان في آنٍ واحد.

خاتمة

ظاهرة وعّاظ السلاطين ليست انحرافًا طارئًا في علاقة الدين بالسلطة فحسب، بل هي تراكم تاريخي عميق تجسّد في منظومة فقهية وسياسية واجتماعية، حوّلت الدين من منارة للعدل والرحمة إلى أداة تبرير للطغيان. عبر العصور، نشأت طبقة من الفقهاء والوعاظ جنّدوا خطاب الدين لخدمة مصالح السلطان، محولين معاني الطاعة والولاء إلى قيد كاسر للحريات، ومبررين الاستبداد بزخارف شرعية مزيفة.

هذا الواقع لا يُهدد فقط بنية الوعي الديني، بل يهدر كرامة الإنسان ويشل قدرته على المطالبة بحقوقه، ويجهض آمال المجتمعات في العدالة والكرامة. فالخضوع الذي يتغنّى به وعّاظ السلاطين، هو في جوهره موت تدريجي للضمير الوطني والديني، وتحول إلى قطيع يسير خلف قادة لا يُحاسبون.

ومع ذلك، يبقى الأمل قائمًا في استعادة الدين من قبضة السلطان إلى نصرة المظلوم، في إحياء فقه المقاومة والعدل الذي رفع لواءه الحسين بن علي، وزيد بن علي، وابو حنيفة النعمان، والعز بن عبد السلام، وغيرهم ممن قاوموا الظلم ورفعوا صوت الحق. إن تحرير الدين من سلطة الطغيان هو الشرط الأساسي لبناء مجتمعات حرة وواعية ومسؤولة، قادرة على مواجهة تحديات العصر بضمير حي وعقل ناقد.

وفي نهاية المطاف، يبقى السؤال الحارق: هل نريد دينًا يخنق أنفاسنا في زنزانة الطاعة العمياء، أم دينًا يحرر الروح ويحيي الأمل؟ قرارنا اليوم سيحدد مصيرنا غدًا.

***

محمد ساجت السليطي - كاتب وباحث عراقي

........................

المصادر والمراجع

1. إدوارد سعيد، المثقف والسلطة ، ترجمة د. محمد عناني، ط1 2006

2. ميشيل فوكو، المعرفة والسلطة، ترجمة عبد العزيز العيادي، ط1 1994

3. اريك فروم، الخوف من الحرية ، ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد، ط1 1972

4. برنار لويس، الدين والسياسة في الشرق الأوسط، ترجمة أشرف محمد كيلاني، ط1 2017

5. محمود محمد طه، الرسالة الثانية من الإسلام، ط3 1969

6. علي الوردي، وعاظ السلاطين ، ط1 1954

7. غوستاف لوبون، سيكولوجية الجماهير، ترجمة عادل زعيتر، طبعة دار هنداوي

8. صادق جلال العظم، نقد الفكر الديني، ط2 1970

9.  أبن خلدون، المقدمة، ط1 2004

10. محمد إقبال، تجديد الفكر الديني في الإسلام، ترجمه عباس محمود، 1955 ط1

11. محمود محمد طه، الرسالة الثانية من الاسلام، ط3 1969

 

من منطلق المنهج التحليلي السوبر خلاّق، النظام السياسي السوبر خلاّق = إنتاج الحضارة الكامنة في الإبداع الاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي والثقافي × إنتاج العدالة الكامنة في الحرية والمساواة والسلام والتطوّر المستمر. وهذا النظام السياسي سوبر خلاّق لأنه فعّال في إنتاج الحضارة والعدالة. وبما أنَّ هذا النظام السياسي مُنتِج للحضارة والعدالة بدلاً من أن يكون وارثاً لحضارة وعدالة مُحدَّدتيْن سلفاً، إذن هذا النظام السياسي السوبر خلاّق يُحرِّرنا من أيّة نماذج ماضوية للحضارة والعدالة مما يضمن حريتنا وفعّاليتنا في صياغة الحضارة والعدالة بدلاً من أن نكون مجرّد وارثين لعدالة الآخرين وحضارات الماضي. وفي هذا فضائل عديدة منها ضمان الحرية وفعّالية الحضور الإنساني مما يشير إلى أنَّ النظام السياسي السوبر خلاّق هو النظام السياسي الحق.

إن لم يكن النظام السياسي مُنتِجاً للحضارة الكامنة في الإبداع بأنواعه كافة كالإبداع الاجتماعي والثقافي، فحينها النظام السياسي سوف يُنتِج التخلف نقيض الحضارة والإبداع. لذلك النظام السياسي السوبر خلاّق قائم على إنتاج الحضارة الكامنة في الإبداع بأشكاله ومضامينه كافة. وإن لم يكن النظام السياسي مُنتِجاً للعدالة الكامنة في الحرية والمساواة والسلام والتطوّر المستمر، فعندئذٍ سوف يُنتِج النظام السياسي الظلم. لذلك النظام السياسي الحق قائم أيضاً على إنتاج العدالة الكامنة في الحرية والمساواة والسلام والتطوّر المستمر. كلّ هذا يرينا صدق المعادلة القائلة بأنَّ النظام السياسي السوبر خلاّق = إنتاج الحضارة الكامنة في الإبداع الاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي والثقافي × إنتاج العدالة الكامنة في الحرية والمساواة والسلام والتطوّر المستمر.

أما الانتخابات السياسية المتكرّرة وتداول السلطة والفصل بين السلطات وفصل الدين عن الدولة فليست سوى آليات لتعزيز حرية الأفراد. مثل ذلك أنَّ الفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية يؤدي إلى عدم حصر السلطة في فرد مما يجنبنا أن نقع في الديكتاتورية فيضمن بذلك سيادة الحرية. لكن النظام السياسي السوبر خلاّق يتكوّن من إنتاج العدالة الكامنة في الحرية بينما الحرية لا تتحقق بلا وجود الآليات السابقة كالانتخابات النيابية والرئاسية الدورية والفصل بين السلطات. بذلك النظام السياسي السوبر خلاّق يستلزم وجود تلك الآليات السابقة من أجل ضمان سيادة الحرية. هكذا ينجح النظام السياسي السوبر خلاّق في احتواء الآليات السابقة الهادفة إلى تعزيز الحرية مما يدلّ على أنه النظام السياسي الحق.

بالإضافة إلى ذلك، المساواة بأنواعها المختلفة كالمساواة أمام القانون والمساواة الاقتصادية والاجتماعية فضرورية في النظام السياسي السوبر خلاّق لأنه من دونها يفقد الفرد حريته. هذا لأنه بلا مساواة أمام القانون، يَسُود التمييز العنصري والطائفي بين الأفراد مما يُقيِّد حرياتهم. وبلا وجود مساواة اقتصادية واجتماعية، يفقد العديد من الأفراد حرياتهم من جراء قِلة ما يملكون من موارد. هكذا المساواة بأنواعها كافة ضرورية في النظام السياسي السوبر خلاّق تماماً كضرورة سيادة السلام والتطوّر المستمر. فإن لم يَسُد السلام، حينئذٍ تسود الصراعات والحروب المؤدية إلى عدم احترام حقوق الأفراد كحقهم في الحياة وحقهم في حرية التعبير والتنقل. وإن لم يتطوّر الفرد باستمرار، فحينها يغدو الفرد سجين ما هو عليه فيفقد حريته. من هنا، سيادة السلام والتطوّر المستمر بالإضافة إلى المساواة بمضامينها المتنوّعة ضرورية لتحقيق الحرية. لذلك النظام السياسي السوبر خلاّق قائم على إنتاج العدالة الكامنة في السلام والتطوّر المستمر والمساواة.

من فضائل النظام السياسي السوبر خلاّق أيضاً فضيلة خلقه للتعدّدية الاجتماعية والثقافية والأخلاقية. فبما أنَّ النظام السياسي السوبر خلاّق = إنتاج الحضارة الكامنة في الإبداع الاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي والثقافي × إنتاج العدالة الكامنة في الحرية والمساواة والسلام والتطوّر المستمر بينما الإبداع الاجتماعي والأخلاقي والثقافي يتمثل في إنتاج أنماط اجتماعية وأخلاقية وثقافية جديدة ومتنوّعة ومختلفة (علماً بأنَّ الإبداع يتصف بما هو جديد ومختلف)، إذن النظام السياسي السوبر خلاّق يتضمن إنتاج التعدّدية الاجتماعية والأخلاقية والثقافية مما يضمن حرية كلّ فرد في اختيار إنتمائه إلى نمط اجتماعي وأخلاقي وثقافي أو آخر ويضمن أيضاً حرية أيّ فرد في إنتاج نمطه الاجتماعي والأخلاقي والثقافي الخاص. هكذا النظام السياسي السوبر خلاّق مُنتِج للتعدّدية الاجتماعية والأخلاقية والثقافية. وهذه فضيلة كبرى دالة على أنه النظام السياسي الحق.

***

حسن عجمي

ما الوجود الجسدي أو الجسداني في منظومة فن الأيكيدو؟

لنبدأ بالقول: إنّ (الأيكيدوكا) إنسانٌ يشبه سائر الناس، لكنّه يقفز على النمطية بانخراطه في مجال رياضة الأيكيدو. وهو بهذا القفز يتحوّل إلى ممارس لوجودين: وجودٌ يحكمه التواصل اليومي عبر آلية اللغة العادية المتواضَعِ عليها في أفق التخاطب الاجتماعي، استجابةً لشرطه البشري. والثاني وجود فنّي تصمتُ فيه اللغة العادية لتتكلم فيه لغة الجسد، فيصبح (الأيكيدوكا) محاورا جيّدا للأجساد الغيرية الأخرى التي يتعامل معها سواءٌ على صفيح ركح التداريب الأسبوعية أو على صفيح الملتقيات الوطنية والدولية الموسّعة. وبعبارةٍ أخرى فإن (الأيكيدوكا) كائنٌ محظوظٌ تُتاح له إمكانياتٌ جديدةٌ عبر الفرص الحياتية الرحبة التي ينطلق فيها عجيبا في محاورات الجسد.

وهو في هذه المحاورة لا ينطلق من فلسفة أو مرجعية فكرية موغلة في التنظي، وإنما ينطلق من انسيابيةِ انخراطه التي تجعله محاورا جيّدا لجسده في علاقة مع الأجساد الأخرى، وفي هذا السياق لا يمكننا تصوّر ممارس الأيكيدو، حاملا لترسانة من المرجعيات النظرية الموغلة في التجريد، سواء تعلّق الأمر بالممارس المثقف، أو تعلّق الأمر بغير المثقف. والأمر في هذا المقام لا يغدو أن يكون ممارسة تنزل بأدبيات فلسفة الأيكيدو من أبراجها العلوية إلى إمكان تفعيلها على أرض الواقع. من هنا عمق هذه الرياضة وبساطتها في الآن نفسه، يعدّ هذا ازدواجيةً مطلوبةً في أجرأة الفعل الفلسفي لهذه المنظومة، ودعوته إلى مساجلة الذات الإنسانية في رغباتها ضدّ ومع الجسد في أفق تحويله من جسد مستهلِك إلى جسد منتج لمجموعة من القيم الإنسانية النبيلة.

لا يقف الجسد في هذه المنظومة عند حدّ الطقس الاحتفالي الذي يبدأ ببداية الحصّة التدريبية وينتهي بنهايتها، بمعنى أنه غير محكومٍ بحدود دائرة الطقس الإمتاعية والاستمتاعية، بل يتجاوزها إلى إمكان انفلات هذا الجسد من قبضة القوقعة التقنية التي تكتفي بعمليات الشحن لمجموعة من التقنيات الخاصّة بهذه الرياضة، إلى تمثل فن الأيكيدو كمنهج مرن وذكي في محاورة الجسد لكل أشكال الوجود المحيطة به. كيف يتمّ ذلك؟

نعلم أن رياضة الأيكيدو هي مجموعة من التقنيات الخاصة بالدفاع، وتعتمد على قوة الشريك كي تمارس حضورها كنقيضٍ للفعل الرياضي العنيف، لكن هذا غير كافٍ لصناعة الممارس المحاور، وإنما تكتفي التقنيات بإنتاج الممارس الآلي الذي يتقن الحركة ويقدّمها في صورتها المرجوّة من دوائر التوجيه الأستاذية. وهذا مطلبٌ مقبولٌ لكنه لا يصنع ممارسا حقيقيا، كما هو الشأن في تعليم الطفل قواعد الموسيقى بطريقة علمية، يحفظها عن ظهر قلب ثم يردّها بضاعةً كلّما طُلب منه ذلك. و(الأيكيدوكا) ليس ممارسا استرجاعيا، إنه ممارس مستقلّ في عمليات الاستقبال وفي عمليات الأداء، أي في المدخلات وفي المخرجات، أو هكذا ينبغي لنا أن نتصوّر هذا الممارس، حتى لا نكون أمام مشهدٍ تلقيني يقوم على ثقافة الشحن بدل ثقافة التفاعل.

من هنا، يكون لكل ممارس خصوصية التعلم وتفعيل مخرجات هذا التعلم، لأن الجسد غير الجسد والروح غير الروح، والاختلاف حاصلٌ ومطلوبٌ وواعد بالتنويع في هذا المجال.

تتجلى خصوصية الجسد في مجموعة من الأداءات، منها رقصة (التايسباكي) وهي رقصة على الرغم من نمطيتها فهي متعددة بتعدد الأجساد الراقصة. هناك رقصة واحدة للتايسباكي في العالم إذا حددنا الرقصة كنموذج يُنتج المفهوم ويتمّ الاتفاق عليه والتواضع على شكله. أما روحه فمتعددة، من هنا إمكان القول إن رقصة التايسباكي هي رقصات، تتعدد بتعدد الأجساد التي تمارسها، ويستحيل أن نتصور اتفاقا حول أداءٍ واحدٍ لأن ذلك يدخل في المستحيل ويفتك بخصوصية الممارسة. هكذا تخضع رقصة التايسباكي لطبيعة الجسد، سليماً كانَ أو ناقصا، وتخضع أيضاً لطبيعته في قدرته المختلفة على الحركة وتمثل هذه الحركة، فليس كل الناس يتحركون بأجسادهم بنفس الوتيرة ونفس الاستجابة ونفس المرونة.

ومنها أيضا، حركة الجسد في سياق التفاعل مع جسد الآخر الشريك، حيث تلتقي ثقافتان مختلفتان كما يلتقي تمثلان مختلفان أيضا. وهذا من شأنه أن يُغني الممارسة ويُثريها ويُخصِبها. خذ مثلاً تفاعلَ ممارس في عقده الخامس مع شريك في عقده الثاني، وكيف يمكن أن يكون اللقاء بين سمتِ الحركة الخمسينية مع عنفوان الحركة العشرينية… وخذ مثلا تفاعلَ ممارس ذكر مع شريكٍ أنثى، وانظر كيف يكون اللقاء بين فحولة الحركة وبين نعومتها… وخذ مثلا تفاعلَ ممارس في الدرجة الرابعة (4 eme Dan) مع شريك مبتدئ بحزامٍ أصفر، وانظر كيف يكون اللقاء توجيهيا أكثر مما يكون تنافسيا، ثم انظر كيف سيتفاعل الجسد العارف مع الجسد الطالب معرفةً… وخذ مثلا تفاعلَ ممارس من بيئةٍ مغربية مع ممارس من بيئة يابانية، وانظر كيف يكون اللقاءُ بين ثقافةٍ مؤسسة لهذه المنظومة وبين ثقافةٍ مُفعِّلة لهذه المنظومة… وهكذا، في أمثلةٍ كثيرة من شأنها أن تفصح أن طبيعة الجسد في فن الأيكيدو مجالٌ خصبٌ وغنيٌّ ومختلف أشدّ الاختلاف، وبعيدٌ كلّ البعد عن النمطية البليدة.

الجسد، إذن، صيرورةٌ بحرف الصاد، وتفيد التحول… كما أنه سيرورةٌ بحرف السين، وتفيد المسار والحركة… وبالتالي فنحن أمام جسد غير متخشّب وغير جامد وغير نمطي، بل هو تاريخ شخصيٌّ يتطوّر تباعاً وسِراعا، ويقدّم في كل تجلٍّ إدهاشاً يشي بخارقيةِ هذا الجسد وبمعجزته. وهو من هذا الاستنتاج، جسدٌ لا يقدّم طريقةً لمحاورة الأجساد الأخرى على صفيح الركح فحسبُ وإنما يقدّم طريقةً للوجود، تقوم على إدراك الصورة الفلسفية للجسد في الذاتِ وفي الآخر… وبتعبير هنري برغسون، فإن الجسد يقدّم في محاورته الدائمة للآخر رؤيةٌ خاصة للعالم عبر المعيش الجسداني انطلاقا من استقبال صورة الآخر فينا، واستقبال الآخر صورتنا فيه.

الجسد كينونة متناهية في بعدها الفيزيولوجي، لكنها مقولة غير متناهية في أبعادها الإنسانية القائمة على المحاورة الدائمة، من هنا فعل الصيرورة والسيرورة، وبالتالي، فكلّ جسدٍ هو كونٌ مستقل ووجودٌ قائمٌ، بذاتهِ أولا وبذواتٍ أخرى ثانيا، مما يُخصِبُ التجمع الجسداني على صفيح الركح في الممارسة (الأيكيدوكية) بحيث يتحوّل هذا التجمع البشري من حالاتٍ متنوعة لقابليات التعلم إلى حالاتٍ وجودية للحوار والمحاورة، في نسق معرفي غائب، ونقصد أن الممارس لا يستحضر تجريدَ هذا الحوار أو المحاورة بقدر ما يمارس حضوره التلقائي في حضرة أشكالٍ أخرى من الحضور، فيتمّ اللقاء عفويا وتنسجُ العلاقات ذاتَها في غير موقف علمي قصدي وإنما في انسيابية تعلّمية تستقبل المفاهيم الخاصة بفن الأيكيدو دون قصد ودون أن تُدرك ذاتها داخل المصطلح وإنما داخل الممارسة.

أعتبر هذا المنظور الممارس الواقعي، واقعا مشدوداً إلى النظر الفلسفي الثاوي خلف مرجعيات ثقافة آسيوية استنبتها الشيخ (أوشيبا) عبر تمثله العارف لتاريخ الجسد الأصفر، وهو ما يمكننا من القول إن الجسد داخل الركح لا يفيد حركةً تقنية فحسب، وإنما يفيد إنتاجا لقيمٍ إنسانية جديرة بالاعتبار، منها قيمة التعايش واحترام التعدد وتقدير الآخر في غيريته المتفردة، ومراعاة المختلف وتشييد الحوار على أساس قراءات واعية وغير واعية للجسد وتحركات هذا الجسد الذي لا يمكن قراءته مفصولا عن سياقاته الثقافية الصغرى (داخل الركح) والكبرى (داخل الواقع).

الجسد داخل منظومة الأيكيدو لغةٌ، لأنه يتحركُ وفق نظامٍ من المعارف الفنية والفلسفية التي تؤهل هذه الممارسة كي تكون متجذّرة في التأصيل وقابلة للامتداد الزمني، والامتداد المكاني، بحيث نستطيع استنباتها في أي بيئة شئنا لأنها تحمل في جيناتها القدرة على التكيف بحكم مرونة مبادئها المؤسسة، وبحكم انطوائها على منظومة القيم الإنسانية. من هنا حركات الجسد المفهومة داخل مفهوم النسق، سواء تعلّق الأمر بالذهن حيث تنرسم في وعي الممارس آليات الفعل ورد الفعل، أو تعلّق الأمر بالتفعيل حيث قدرة الممارس على إنزال هذا الوعي على صفيح الركح. وهو إنزال وتنزيل لا يرتبط بالتطبيق التقني النموذجي لأدبيات فن الأيكيدو فحسب وإنما وأيضا وأساسا يرتبط بتفعيل لغة جسدية مشبعة بالقيمة، حيث لا نتصور حوارا جسديا يقوم على العنف أو على رغبة الممارس في إيذاء الشريك المدعو خصما في نظام رياضات أخرى كالملاكمة والكاراتيه مثلا.

القيمة هي لبّ عملية الاستقبال في رياضة الأيكيدو، ولا قيمة لهذه الرياضة خارج منطق القيمة. وهي وجودٌ مثالي يسبق وجود الجسد المادي الواقعي، بل يؤطره، ويوجّهه ويشذب كل ما فيه من انزلاقات سلوكية عنيفة تشي بالكراهية أو الحقد أو الإقصاء أو أي سلوك مستنبت في حقول البغضاء والمشاحنة.

***

نورالدين حنيف أبوشامة\ المغرب

لنبدأ بالقول: إنّ (الأيكيدوكا) إنسانٌ يشبه سائر الناس، لكنّه يقفز على النمطية بانخراطه في مجال رياضة الأيكيدو. وهو بهذا القفز يتحوّل إلى ممارس لوجودين: وجودٌ يحكمه التواصل اليومي عبر آلية اللغة العادية المتواضَعِ عليها في أفق التخاطب الاجتماعي، استجابةً لشرطه البشري. والثاني وجود فنّي تصمتُ فيه اللغة العادية لتتكلم فيه لغة الجسد، فيصبح (الأيكيدوكا) محاورا جيّدا للأجساد الغيرية الأخرى التي يتعامل معها سواءٌ على صفيح ركح التداريب الأسبوعية أو على صفيح الملتقيات الوطنية والدولية الموسّعة. وبعبارةٍ أخرى فإن (الأيكيدوكا) كائنٌ محظوظٌ تُتاح له إمكانياتٌ جديدةٌ عبر الفرص الحياتية الرحبة التي ينطلق فيها عجيبا في محاورات الجسد.

وهو في هذه المحاورة لا ينطلق من فلسفة أو مرجعية فكرية موغلة في التنظي، وإنما ينطلق من انسيابيةِ انخراطه التي تجعله محاورا جيّدا لجسده في علاقة مع الأجساد الأخرى، وفي هذا السياق لا يمكننا تصوّر ممارس الأيكيدو، حاملا لترسانة من المرجعيات النظرية الموغلة في التجريد، سواء تعلّق الأمر بالممارس المثقف، أو تعلّق الأمر بغير المثقف. والأمر في هذا المقام لا يغدو أن يكون ممارسة تنزل بأدبيات فلسفة الأيكيدو من أبراجها العلوية إلى إمكان تفعيلها على أرض الواقع. من هنا عمق هذه الرياضة وبساطتها في الآن نفسه، يعدّ هذا ازدواجيةً مطلوبةً في أجرأة الفعل الفلسفي لهذه المنظومة، ودعوته إلى مساجلة الذات الإنسانية في رغباتها ضدّ ومع الجسد في أفق تحويله من جسد مستهلِك إلى جسد منتج لمجموعة من القيم الإنسانية النبيلة.

لا يقف الجسد في هذه المنظومة عند حدّ الطقس الاحتفالي الذي يبدأ ببداية الحصّة التدريبية وينتهي بنهايتها، بمعنى أنه غير محكومٍ بحدود دائرة الطقس الإمتاعية والاستمتاعية، بل يتجاوزها إلى إمكان انفلات هذا الجسد من قبضة القوقعة التقنية التي تكتفي بعمليات الشحن لمجموعة من التقنيات الخاصّة بهذه الرياضة، إلى تمثل فن الأيكيدو كمنهج مرن وذكي في محاورة الجسد لكل أشكال الوجود المحيطة به. كيف يتمّ ذلك؟

نعلم أن رياضة الأيكيدو هي مجموعة من التقنيات الخاصة بالدفاع، وتعتمد على قوة الشريك كي تمارس حضورها كنقيضٍ للفعل الرياضي العنيف، لكن هذا غير كافٍ لصناعة الممارس المحاور، وإنما تكتفي التقنيات بإنتاج الممارس الآلي الذي يتقن الحركة ويقدّمها في صورتها المرجوّة من دوائر التوجيه الأستاذية. وهذا مطلبٌ مقبولٌ لكنه لا يصنع ممارسا حقيقيا، كما هو الشأن في تعليم الطفل قواعد الموسيقى بطريقة علمية، يحفظها عن ظهر قلب ثم يردّها بضاعةً كلّما طُلب منه ذلك. و(الأيكيدوكا) ليس ممارسا استرجاعيا، إنه ممارس مستقلّ في عمليات الاستقبال وفي عمليات الأداء، أي في المدخلات وفي المخرجات، أو هكذا ينبغي لنا أن نتصوّر هذا الممارس، حتى لا نكون أمام مشهدٍ تلقيني يقوم على ثقافة الشحن بدل ثقافة التفاعل.

من هنا، يكون لكل ممارس خصوصية التعلم وتفعيل مخرجات هذا التعلم، لأن الجسد غير الجسد والروح غير الروح، والاختلاف حاصلٌ ومطلوبٌ وواعد بالتنويع في هذا المجال.

تتجلى خصوصية الجسد في مجموعة من الأداءات، منها رقصة (التايسباكي) وهي رقصة على الرغم من نمطيتها فهي متعددة بتعدد الأجساد الراقصة. هناك رقصة واحدة للتايسباكي في العالم إذا حددنا الرقصة كنموذج يُنتج المفهوم ويتمّ الاتفاق عليه والتواضع على شكله. أما روحه فمتعددة، من هنا إمكان القول إن رقصة التايسباكي هي رقصات، تتعدد بتعدد الأجساد التي تمارسها، ويستحيل أن نتصور اتفاقا حول أداءٍ واحدٍ لأن ذلك يدخل في المستحيل ويفتك بخصوصية الممارسة. هكذا تخضع رقصة التايسباكي لطبيعة الجسد، سليماً كانَ أو ناقصا، وتخضع أيضاً لطبيعته في قدرته المختلفة على الحركة وتمثل هذه الحركة، فليس كل الناس يتحركون بأجسادهم بنفس الوتيرة ونفس الاستجابة ونفس المرونة.

ومنها أيضا، حركة الجسد في سياق التفاعل مع جسد الآخر الشريك، حيث تلتقي ثقافتان مختلفتان كما يلتقي تمثلان مختلفان أيضا. وهذا من شأنه أن يُغني الممارسة ويُثريها ويُخصِبها. خذ مثلاً تفاعلَ ممارس في عقده الخامس مع شريك في عقده الثاني، وكيف يمكن أن يكون اللقاء بين سمتِ الحركة الخمسينية مع عنفوان الحركة العشرينية… وخذ مثلا تفاعلَ ممارس ذكر مع شريكٍ أنثى، وانظر كيف يكون اللقاء بين فحولة الحركة وبين نعومتها… وخذ مثلا تفاعلَ ممارس في الدرجة الرابعة (4 eme Dan) مع شريك مبتدئ بحزامٍ أصفر، وانظر كيف يكون اللقاء توجيهيا أكثر مما يكون تنافسيا، ثم انظر كيف سيتفاعل الجسد العارف مع الجسد الطالب معرفةً… وخذ مثلا تفاعلَ ممارس من بيئةٍ مغربية مع ممارس من بيئة يابانية، وانظر كيف يكون اللقاءُ بين ثقافةٍ مؤسسة لهذه المنظومة وبين ثقافةٍ مُفعِّلة لهذه المنظومة… وهكذا، في أمثلةٍ كثيرة من شأنها أن تفصح أن طبيعة الجسد في فن الأيكيدو مجالٌ خصبٌ وغنيٌّ ومختلف أشدّ الاختلاف، وبعيدٌ كلّ البعد عن النمطية البليدة.

الجسد، إذن، صيرورةٌ بحرف الصاد، وتفيد التحول… كما أنه سيرورةٌ بحرف السين، وتفيد المسار والحركة… وبالتالي فنحن أمام جسد غير متخشّب وغير جامد وغير نمطي، بل هو تاريخ شخصيٌّ يتطوّر تباعاً وسِراعا، ويقدّم في كل تجلٍّ إدهاشاً يشي بخارقيةِ هذا الجسد وبمعجزته. وهو من هذا الاستنتاج، جسدٌ لا يقدّم طريقةً لمحاورة الأجساد الأخرى على صفيح الركح فحسبُ وإنما يقدّم طريقةً للوجود، تقوم على إدراك الصورة الفلسفية للجسد في الذاتِ وفي الآخر… وبتعبير هنري برغسون، فإن الجسد يقدّم في محاورته الدائمة للآخر رؤيةٌ خاصة للعالم عبر المعيش الجسداني انطلاقا من استقبال صورة الآخر فينا، واستقبال الآخر صورتنا فيه.

الجسد كينونة متناهية في بعدها الفيزيولوجي، لكنها مقولة غير متناهية في أبعادها الإنسانية القائمة على المحاورة الدائمة، من هنا فعل الصيرورة والسيرورة، وبالتالي، فكلّ جسدٍ هو كونٌ مستقل ووجودٌ قائمٌ، بذاتهِ أولا وبذواتٍ أخرى ثانيا، مما يُخصِبُ التجمع الجسداني على صفيح الركح في الممارسة (الأيكيدوكية) بحيث يتحوّل هذا التجمع البشري من حالاتٍ متنوعة لقابليات التعلم إلى حالاتٍ وجودية للحوار والمحاورة، في نسق معرفي غائب، ونقصد أن الممارس لا يستحضر تجريدَ هذا الحوار أو المحاورة بقدر ما يمارس حضوره التلقائي في حضرة أشكالٍ أخرى من الحضور، فيتمّ اللقاء عفويا وتنسجُ العلاقات ذاتَها في غير موقف علمي قصدي وإنما في انسيابية تعلّمية تستقبل المفاهيم الخاصة بفن الأيكيدو دون قصد ودون أن تُدرك ذاتها داخل المصطلح وإنما داخل الممارسة.

أعتبر هذا المنظور الممارس الواقعي، واقعا مشدوداً إلى النظر الفلسفي الثاوي خلف مرجعيات ثقافة آسيوية استنبتها الشيخ (أوشيبا) عبر تمثله العارف لتاريخ الجسد الأصفر، وهو ما يمكننا من القول إن الجسد داخل الركح لا يفيد حركةً تقنية فحسب، وإنما يفيد إنتاجا لقيمٍ إنسانية جديرة بالاعتبار، منها قيمة التعايش واحترام التعدد وتقدير الآخر في غيريته المتفردة، ومراعاة المختلف وتشييد الحوار على أساس قراءات واعية وغير واعية للجسد وتحركات هذا الجسد الذي لا يمكن قراءته مفصولا عن سياقاته الثقافية الصغرى (داخل الركح) والكبرى (داخل الواقع).

الجسد داخل منظومة الأيكيدو لغةٌ، لأنه يتحركُ وفق نظامٍ من المعارف الفنية والفلسفية التي تؤهل هذه الممارسة كي تكون متجذّرة في التأصيل وقابلة للامتداد الزمني، والامتداد المكاني، بحيث نستطيع استنباتها في أي بيئة شئنا لأنها تحمل في جيناتها القدرة على التكيف بحكم مرونة مبادئها المؤسسة، وبحكم انطوائها على منظومة القيم الإنسانية. من هنا حركات الجسد المفهومة داخل مفهوم النسق، سواء تعلّق الأمر بالذهن حيث تنرسم في وعي الممارس آليات الفعل ورد الفعل، أو تعلّق الأمر بالتفعيل حيث قدرة الممارس على إنزال هذا الوعي على صفيح الركح. وهو إنزال وتنزيل لا يرتبط بالتطبيق التقني النموذجي لأدبيات فن الأيكيدو فحسب وإنما وأيضا وأساسا يرتبط بتفعيل لغة جسدية مشبعة بالقيمة، حيث لا نتصور حوارا جسديا يقوم على العنف أو على رغبة الممارس في إيذاء الشريك المدعو خصما في نظام رياضات أخرى كالملاكمة والكاراتيه مثلا.

القيمة هي لبّ عملية الاستقبال في رياضة الأيكيدو، ولا قيمة لهذه الرياضة خارج منطق القيمة. وهي وجودٌ مثالي يسبق وجود الجسد المادي الواقعي، بل يؤطره، ويوجّهه ويشذب كل ما فيه من انزلاقات سلوكية عنيفة تشي بالكراهية أو الحقد أو الإقصاء أو أي سلوك مستنبت في حقول البغضاء والمشاحنة.

***

نورالدين حنيف أبوشامة\ المغرب

 

«الثقافة السياسية» فرع من علم السياسة جديد نسبياً. وهو ينطلق من سؤال: كيف ينظر الجمهور إلى السلطة السياسية وكيف يفكر فيها ويتعامل معها؟ وبسبب حداثته، فهو لا يزال غير محدد الأطراف؛ إذ يتداخل مع علم الاجتماع في نواحٍ، ومع علم النفس في نواحٍ أخرى. وللسبب نفسه، فإن الباحثين الذين يشار إليهم بصفتهم مختصين في هذا الحقل بالمعنى الدقيق قلةٌ نادرة. وقد وجدت بعض الكتابات التي تخلط بينه وبين «الوعي السياسي»، أو بينه وبين «المعرفة السياسية» في معناها العام؛ الأمر الذي يجعله مشوشاً وقليل الجاذبية.

ما الذي يجعل هذا الحقل مثيراً للاهتمام؟

يرجع اهتمامي بهذا الموضوع إلى زمن بعيد، حين بدأتُ التفكير في الأسباب التي جعلت مجتمعات بعينها أفضلَ تقبلاً للآراء الجديدة، وأكبر ليناً في التعامل مع أصحابها حتى لو ذهبوا بعيداً جداً في اختلافهم مع التيار العام. كانت بداية تعليمي في مدارس دينية، فترسخ في ذهني أن العالم قِسمةٌ بين المؤمنين بالأديان والمعارضين لهم. خُيّل إليّ يومئذ أن كل خلاف على أمور الدنيا مرجعه اختلاف العقيدة. لكن سرعان ما اتضح لي أن الخلاف في العقيدة واحد من العوامل، وليس أقواها ولا أشدها تأثيراً. رأيت أشخاصاً مؤمنين بالماركسية وهم - في الوقت عينه - أصدقاء لرجال دين، ولطالما سمعتهم يخوضون نقاشات ساخنة من دون أن يفترقوا أو تذهب المودة من بينهم.

ثم لفت نظري أن مجتمعات مختلفة، تعتنق الدين والمذهب نفسه، لكنها تتعامل مع السياسة بطرق متباينة: هذه تتفاعل معها وتسعى لخلق نقاط اتصال مع رجال السياسة، وتلك تميل إلى اعتزالها وترتاب في من يطرق أبوابها أو يعمل في دوائرها.

في مطلع القرن العشرين، ساد اعتقاد بين دارسي نظرية التنمية فحواه أن كل مجتمع سيتقبل الحداثة فور تعرضه لتأثيرها. وتراوحت مبررات هذا الاعتقاد بين القول بعقلانية الإنسان وأنه يتقبل كل ما يراه نافعاً لحياته، والقول بأن المعتقدات التقليدية ليست قوية بما يكفي لإعاقة تقدم الحداثة. لكن التجربة الفعلية في بلدان كثيرة؛ من اليابان إلى الصين وإيران ومصر وتركيا وجنوب أوروبا... وصولاً إلى البرازيل، أظهرت أن كلاً من هذه المجتمعات، لديه فهمٌ متمايز لفكرة التقدم والتعامل مع الدولة والسياسة؛ فهمٌ يؤثر على موقفه من مشروع الحداثة وتطبيقاته.

تبعاً لتلك التجارب، توصل الباحثون إلى ما يشبه الإجماع على أن التفكير السياسي لكل مجتمع نتاجٌ لتجربته التاريخية، وأن طريقة التعبير عنه صنيعةٌ لواقعه الراهن، فقد يميل إلى الانفتاح، فيسمح بتعدد الآراء، أو يميل إلى الانغلاق والأحادية.

إنني أتأمل كل يوم تقريباً في ردود الفعل من قبل الجمهور العربي على الحوادث والأخبار؛ طمعاً في التوصل إلى فهم معياري للأرضية الثقافية التي تنبعث منها الأفعال والمواقف وردود الفعل عليها، وتفاعلها مع التحولات الجارية في المحيط، أي مدى تأثرها بتلك التحولات وتأثيرها فيها. ما يهمني في المقام الأول هو أفعال الناس وردود الفعل، وليس أفعال الدولة. وغايتي من هذا هي الإجابة عن السؤال المحوري في حقل «الثقافة السياسية»، أي مدى قابلية المجتمع العربي للمشاركة في الحياة السياسية.

ذكرت في مقالة سابقة أنني أميل إلى التقسيم الثلاثي لـ«الثقافة السياسية» بين: «انعزالية»، و«منفعلة»، و«مشاركة». والواضح أننا الآن في المرحلة الفاصلة بين «الانفعال» و«المشاركة». في مرحلة «الانفعال»، يشعر الجمهور بالتأثير الحاسم للسياسة على حياته، لكنه لا يرى نفسه قادراً على التأثير فيها، فيتلقى تأثيرها من دون رد فعل تقريباً. بينما في المرحلة الأخيرة، يعزز المجتمع وعيه بمستوى من الإيمان (والمعرفة أحياناً) بأن له دوراً يؤديه في الحياة السياسية، وأنه يمكن أن يكون مؤثراً؛ قليلاً أو كثيراً.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

في عالم السياسة، غالبًا ما يُنظر إلى الكذب على أنه أداة، وسلاح، بل وحتى استراتيجية لتحقيق الأهداف. لكن عندما يتجاوز الكذب كونه مجرد أداة ليصبح استثمارًا أساسيًا، وتصبح السياسة بدورها استثمارًا في الكذب، فإننا ندخل في دوامة خطيرة تهدد أسس المجتمعات ومصير الشعوب. عندما يصبح الكذب استثمارًا، فإنه يتحول من فعل عارض إلى استراتيجية ممنهجة ومحسوبة. يرى نيكولا ماكيافيلي في كتابه "الأمير" أن الحاكم يجب أن يكون قادرًا على استخدام الخداع والمراوغة لتحقيق مصلحة الدولة. لكن هذا المبدأ يمكن أن يتجاوز حدود الضرورة ليصبح أساس الحكم، يعتقد بعض السياسيين أن الكذب ضروري للحفاظ على السلطة، فهم قد يكذبون بشأن الأوضاع الاقتصادية، أو التهديدات الخارجية، أو حتى إنجازاتهم، من أجل إرضاء الجماهير وتجنب المساءلة، هذا الكذب يولد شعورًا زائفًا بالاستقرار والأمان، مما يتيح للحكام فرصة لترسيخ سلطتهم، الاستثمار في الكذب يولد أزمة ثقة عميقة، في البداية قد يصدق الناس الأكاذيب، لكن مع مرور الوقت، وتكرار التناقضات، تتآكل الثقة بين الشعب وحكامه، و يصبح المواطن في حالة من الشك الدائم، مما يولد حالة من اللامبالاة السياسية والانسحاب من الشأن العام.

السياسة كاستثمار في الكذب

في هذا السياق، لم يعد الكذب مجرد أداة في السياسة، بل أصبحت السياسة نفسها مبنية على الكذب. لم يعد الهدف من السياسة هو خدمة المصلحة العامة، بل هو إنتاج وتوزيع الأكاذيب التي تخدم مصالح فئة معينة، تُصاغ الأيديولوجيات السياسية على أسس كاذبة، مثل وعود بالرخاء لا يمكن تحقيقها، أو تهديدات وهمية تتطلب التضحية بالحرية. تصبح الخطابات السياسية مجرد مسرحية يتم فيها تبادل الأكاذيب، وتصبح وسائل الإعلام أدوات لترويج هذه الأكاذيب، عندما تصبح السياسة استثمارًا في الكذب، فإنها تحاول الالتفاف على الواقع بدلًا من مواجهته. حيث يتم تزييف الحقائق، وتشويه التاريخ، وتغييب الأصوات المعارضة. ويصبح الحوار السياسي مستحيلًا لأن جميع الاطراف لا تتشارك نفس الواقع.

سياسة الكذب وكذب السياسة ومصير الشعوب

عندما تتداخل هاتان الظاهرتان، يصبح مصير الشعوب المحكومة مأساويًا ومظلمًا. يمكننا أن نستلهم من أفلاطون وكهفه الشهير الوصف لهذا الوضع. في كهف أفلاطون، يعيش السجناء وهم يرون ظلالًا على الجدار ويعتقدون أنها الحقيقة. الكذب كاستثمار سياسي هو بمثابة صناعة هذه الظلال، بينما السياسة كاستثمار في الكذب هي بناء الكهف نفسه. الشعب المحكوم بهذه الطريقة هو كسجناء الكهف، يعيشون في عالم من الأوهام، افلاطون الفيلسوف الذي يرى الحقيقة خارج الكهف هو بمثابة صوت المعارضة أو الصحفي الشريف الذي يحاول كشف الحقيقة. لكن هذا الصوت غالبًا ما يواجه مقاومة عنيفة، ليس فقط من الحكام الذين يريدون الحفاظ على الكذب، بل وأيضًا من الشعب نفسه الذي اعتاد على الظلام ويخاف من الحقيقة.

العواقب على مصير الشعوب

عندما يصبح الكذب هو القاعدة، يفقد الناس قدرتهم على التفكير النقدي وتحليل الأوضاع. يصبحون عرضة للتلاعب والاستغلال ولا يمكن أن تتحقق العدالة في مجتمع قائم على الكذب. فالقوانين تُصاغ لتخدم مصالح الحكام، والحقيقة تُدفن لصالح الأكاذيب. عندما ينكشف الكذب فإن الثقة تنهار، ويشعر الشعب بالغضب والخيانة. هذا يؤدي إلى اضطرابات اجتماعية، وثورات، وصراعات. إن الكذب كاستثمار في السياسة والسياسة كاستثمار في الكذب هما وجهان لعملة واحدة. هذه الظاهرة ليست مجرد قضية أخلاقية، بل هي قضية وجودية تهدد أسس المجتمعات. مصير الشعوب المحكومة بهذه الطريقة هو الانغماس في وهم زائف، يؤدي في النهاية إلى تدمير الذات. الحل الواقعي لهذا الوضع يكمن في السعي المستمر للحقيقة، ومقاومة الأكاذيب، وإعادة بناء السياسة على أسس من الشفافية والمساءلة. إنه طريق شاق، لكنه الطريق الوحيد للخروج من كهف الظلال.

الكذب في السياسة وسيلة لتحقيق الاهداف

يُنظر إلى الكذب في السياسة على أنه وسيلة لتحقيق أهداف معينة، مما يثير تساؤلات حول الأخلاق السياسية. هل الغاية تبرر الوسيلة؟ الفلاسفة مثل أرسطو كانوا يؤكدون على أهمية الصدق كقيمة أساسية في السياسة. استخدم الكذب كأداة للتلاعب بالمعرفة والمعلومات، يعكس علاقة السلطة بالمعرفة. الوسيلة التي تُستخدم كوسيلة لتعزيز السيطرة تعتمد السياسة الكاذبة والتي تخلق واقع زائف، مما يثير تساؤلات حول ما يُعتبر معرفة وكيف يمكن تمييز الحقيقة. يستخدم الكذب جزءًا من الخطاب السياسي، لتوجيه الرأي العام وتحقيق التأييد. عند تحليل هذه الظاهرة من خلال نظرية الخطاب نجد ان الكذب يتضمن استغلال المشاعر الإنسانية، مما يُظهر كيف يمكن للسياسة أن تلعب على الأبعاد النفسية. الكذب الواسع في السياسة يمكن أن يؤثر على ثقة الجمهور في مؤسسات الدولة. هذا يطرح تساؤلات حول كيفية استعادة الثقة. الكذب يمكن أن يساهم في تشكيل ثقافة سياسية معينة، تؤدي إلى تغييرات في كيفية فهم الناس للسياسة دراسة وكيف أن الأكاذيب السياسية كانت جزءًا من أحداث تاريخية كبرى. مقارنة الشعوب التي تعاني من الكذب السياسي مع تلك التي تتمتع بالشفافية تظهر هذه المقارنات الواقعية كيف أن الكذب في السياسة ليس مجرد سلوك فردي، بل هو ظاهرة معقدة تعكس التفاعل بين الأخلاق، السلطة، المعرفة، والخطاب السياسي.

الفلاسفة الذين تناولوا أخلاقيات الكذب في السياسة

أرسطو: اعتبر أرسطو الصدق قيمة أخلاقية أساسية في السياسة، حيث أكد على أهمية الصدق في الخطاب السياسي لبناء الثقة.

ماكيافيلي: كتابه "الأمير"، يناقش ماكيافيلي استخدام الكذب كوسيلة لتحقيق أهداف سياسية، ويعتبر أن القادة قد يحتاجون إلى اتخاذ قرارات غير صادقة في بعض الأحيان.

كانط: كان رافضًا للكذب بشكل قاطع، حيث اعتبره انتهاكًا للأخلاق. وفقًا له، يجب على الأفراد الالتزام بالحقيقة في جميع الأوقات، حتى في السياسة.

هيجل: تناول هيجل العلاقة بين الحرية والصدق، حيث رأى أن الكذب يقوض الحرية الفردية ويؤثر سلبًا على العلاقات الاجتماعية.

جون ستيوارت ميل*: رأى ميل أن الكذب يمكن أن يكون مبررًا في بعض الحالات إذا كان يؤدي إلى نتائج إيجابية أكبر، مما يعكس فكرته عن النفعية.

فوكو: تناول فوكو الديناميات الاجتماعية للسلطة والمعرفة، مشيرًا إلى كيف يمكن للكذب أن يُستخدم كأداة للسيطرة والتحكم.

هانا أرندت*: ناقشت أرندت في أعمالها تأثير الأكاذيب على الحياة العامة وكيف يمكن أن تؤدي إلى تفكك المجتمع وفقدان الثقة في المؤسسات.

كذب في السياسة وسياسة الكذب في المرحلة الحالية

الكذب في السياسة هو قضية معقدة ومثيرة للجدل، الكذب السياسي ليس مجرد خطأ، بل هو تحريف متعمد للحقيقة أو إخفائها. قد يكون الكذب عن طريق التضليل والخداع والإيهام والغش، يستخدم السياسيون مجموعة متنوعة من الاستراتيجيات لخداع الجمهور، مثل تكرار الروايات الكاذبة، والتضليل الإعلامي، واستخدام الإحصائيات المضللة، ونشر نظريات المؤامرة، يرى البعض أن الكذب السياسي غير أخلاقي على الإطلاق، بينما يرى البعض الآخر أنه قد يكون مبررًا في بعض الحالات، مثل حماية المصلحة العامة، تلعب وسائل الإعلام دورًا حاسمًا في كشف الكذب السياسي ومحاسبة السياسيين ومع ذلك، يمكن أن تكون وسائل الإعلام أيضًا أداة للتضليل والدعاية في العصر الحالي، أصبح الكذب السياسي أكثر انتشارًا وتطورًا بسبب التقنيات الحديثة ووسائل الإعلام الاجتماعية وقد أدى ذلك إلى تراجع الثقة في السياسيين والمؤسسات السياسية، وزيادة الاستقطاب السياسي . هناك العديد من التحديات التي تواجه مكافحة الكذب السياسي في العصر الحالي، بما في ذلك صعوبة التحقق، وانتشار المعلومات المضللة عبر الإنترنت، واستقطاب وسائل الإعلام تتطلب الحاجة إلى مجموعة متنوعة من الاستراتيجيات لمكافحة الكذب السياسي، بما في ذلك تعزيز التثقيف الإعلامي، ودعم الصحافة المستقلة.

***

غالب المسعودي

..........................

* جون ستيوارت مل - ويكيبيديا

* انا أرندت (1906-1975) هي فيلسوفة وكاتبة سياسية ألمانية من أصل يهودي، تعتبر واحدة من أبرز المفكرين في القرن العشرين. عُرفت بأعمالها حول القضايا السياسية والفلسفية، وخاصة مفهوم السلطة والحرية

إن استقالة المثقف من هموم المجتمع وقضاياه ليست استقالةً من مهنة، بل هي استقالةٌ من الوجدان الجمعي، من الالتزام غير المكتوب بأن يكون الوعي حارسًا للأمل، وبأن تكون الكلمة سراجًا في ليالي العتمة. فالاستقالة هنا ليست ورقةً موقّعة تُقدَّم إلى أحد، بل هي انكسارٌ داخلي، تراجع إلى كهف الذات حيث يذوب الحلم في بركةٍ راكدة من المبرّرات والتأويلات المريحة.

المثقف المستقيل يشبه النهر الذي جفّت مياهه لكن ظلّت أمواجه مرسومة على الرمل، يشبه منارةً لا زيت في قنديلها، تظلّ قائمةً بلا ضوء، شاهدةً على زمنٍ كان فيه النور يسيل من حجارتها. كان يمكن له أن يكون جسرًا بين الوعي والفعل، لكنه صار حائطًا مائلًا، يستظلّ به الخائفون من الحرائق.

وفي كتاب التاريخ، سيخرج من المتن سيُقرأ اسمه على الهامش، لن يُذكر بين من وقفوا، ولا بين من سقطوا، بل بين من جلسوا على عتبة الزمن، يراقبون الجموع وهي تُساق إلى مصائرها، ويتذرّعون بالحكمة الزائفة، أن لا جدوى، أن السفينة مثقوبة، وأن البحر ملغوم.

الاستقالة، عند هؤلاء، تُغلف بعباراتٍ أنيقة، "الحياد"، "المسافة النقدية"، "الانصراف إلى الجماليات"، مع ان الجمال بلا عدالةٍ ما هو إلا قناعٌ من حرير يخفي وجه الجثة. فالجمال، في غياب الحق، يتحوّل إلى أفيونٍ للنظر، لا إلى ثورةٍ للبصيرة.

كم من مثقفٍ تحوّل إلى شاعرٍ للقصور لا شاعرٍ للشعوب، وإلى ناقدٍ للألوان في اللوحات بينما الدم ما زال طريًّا على أرصفة الوطن. وكم منهم ارتدى عباءة الفيلسوف ليختبئ من عيون الأطفال الذين يسألون: لماذا تركتمونا في العراء؟

ليس أخطر على الأمة من مثقفٍ كان يُمكنه أن يصرخ، فاختار أن يهمس. كان يستطيع أن يكتب، فآثر أن يصمت. كان قادرًا أن يكون المرآة، لكنه غطّاها بمنديل، كي لا يرى القبح ولا يراه الآخرون. فالاستقالة هنا ليست هروبًا فحسب، بل خيانةٌ رمزيةٌ للمعنى، إذ يتخلى صاحبها عن دوره بوصفه شاهدًا وشريكًا في صياغة المصير.

إن الأمة التي يتساقط مثقفوها في صمتٍ مرفّه، تتعرّى من بوصلة العقل. تتحوّل سفينتها إلى خشبٍ تائه، تمخر به الرياح نحو المجهول. وفي غياب المثقف الملتزم، يعلو صوت التافهين، ويصبح التاريخ ساحةً للغوغاء، والحقائق بضاعةً في سوق الكذب.

لقد قيل: "حين يصمت العقلاء، يتكلم المجانين." أما في زمننا، فالأدهى أن بعض العقلاء صاروا يكتبون للمجانين، ينسجون لهم الخطابات التي تُشرعن العبث، وتمنح الفوضى نياشين البلاغة.

والمثقف المستقيل لا يرحل جسدًا، بل يظلّ في المشهد كظلٍّ باهت، يكتب عن المطر ولا يذكر الغرقى، يغني للورد ولا يذكر الدم، يمدح الشفق ولا يتحدث عن الليل الطويل الذي يليه. إنّه بذلك يُعيد إنتاج الاستبداد في صيغٍ ناعمة، ويكرّس الهزيمة في نصوصٍ مُنمّقة.

لكن، رغم كل هذا، يبقى هناك سؤالٌ يتردّد في الأفق، هل يمكن للمثقف المستقيل أن يعود؟

التاريخ يقول نعم، لكن بشروطٍ قاسية، أن يحرق جدران صمته، أن يطهر قلمه في نهر الحقيقة، أن يعود إلى الناس من برجٍه العاجي، كشاهد وشريكًا في المعاناة. أن يفهم أن الالتزام ليس شعارًا، بل فعلًا يوميًا، وأن الكلمة لا تُنقذ أحدًا ما لم تُكتب بيدٍ مبللة بعرق الكدّ وألم الخسارة وأمل التغيير.

فالأمم لا تموت حين تخسر معاركها، بل حين يسلّم مثقفوها مفاتيح الوعي إلى النسيان. وحين يحدث ذلك، تصبح الكتب مقابر، والمكتبات أضرحة، والأفكار صدى باهتًا في وادٍ منسي.

إن المثقف الذي يختار الصمت أمام قضايا أمته، كالشاعر الذي يمزق القصيدة قبل أن تُقرأ، وكالفارس الذي يبيع سيفه في سوق الخردة. إنّ استقالته ليست فقط خيانةً لجماهيره، بل خيانةٌ لذاته، لقدرته على أن يكون أثرًا في العالم.

ولعلّ أفظع ما يمكن أن يكتبه التاريخ عنه،

"كان يمكن أن يكون، لكنه لم يكن."

***

مجيدة محمدي

كان السوفسطائيون في اليونان القديمة معلمين محترفينن ومثقفين. تعاليمهم أكدت على التحدث امام الجمهور وعلى السلوك الاخلاقي. ومع ان تعاليم السوفسطائين تطرقت الى مختلف الموضوعات لكن تأكيدهم كان على الخطاب العام والسلوك الاخلاقي في الحياة. كلمة "سوفسطائي" sophist مشتقة من كلمة سوفيا وتعني الحكمة او التعلّم. منذ زمن افلاطون (348 ق.م – 428) كانت كلمة سوفسطائي في الأصل تعني الحكيم "sage" او الخبير . وفي الاوقات المبكرة اثناء زمن هوميروس (بين القرنين الثامن والتاسع ق.م)، كانت كلمة سوفسطائي تُستعمل لتصف شخصا خبيرا في مهنته او فنه. لكن في القرن الخامس قبل الميلاد اتخذت السوفسطائية معنى جديدا. انها بدأت تشير الى حكمة عامة خصيصا تلك المتعلقة بالشؤون الانسانية كالسياسة والاخلاق.

القرن الخامس قبل الميلاد كان يمثل العصر الذهبي لأثينا ولعصر بريكلس وهي الفترة التي ازدهرت بها اثينا من حيث القوة السياسية والنمو الاقتصادي والانجازات الفكرية. في هذه الفترة ازداد الطلب على التعليم العالي الى ما وراء المواضيع التقليدية والأبجدية والرياضيات والموسيقى والتدريب البدني.

الأثنيون بدأوا التحقق في قضايا الطبيعة والقيم التقليدية والاخلاق واساليب الحياة والسياسة. اصبح السوفسطائيون مصرّين على المساهمة في تلك التحقيقات في تحدّي لطرق التفكير التقليدية. كانت مهنة السوفسطائيين فردية. انها ليست مدرسة في الفلسفة يؤمن اعضاءها بعقائد مشتركة. بل ان كل سوفسطائي له معتقداته الخاصة به واسلوبه في عمل الاشياء.

بروتاغوراس: أبرز سوفسطائي في اليونان القديمة

بروتاغوراس كان اقدم المعاصرين لسقراط واُعتبر واحدا من أبرز الممثلين لما سمي بالحركة السوفسطائية. كان اول فيلسوف في الغرب يدعو للذاتية، مجادلا ان تفسير أي تجربة او أي حدث مهما كان هو نسبي للفرد. بروتاغوراس هو صاحب القول الشهير: الانسان مقياس لكل الاشياء. بمعنى ان كل شيء هو نسبي خاضع لتفسير الفرد. هو كان اول من علّم الفلسفة النسبية في اليونان من خلال موقعه كسوفسطائي وكان من بين منْ يتقاضون أعلى الاجور في تعليم شباب الطبقة العليا. ولكي نفهم بشكل أفضل الفلسفة النسبية، دعونا نتصور رجلا يأتي من جو بارد في الخارج ليدخل غرفة دافئة بينما هناك شخص آخر موجود سلفا في نفس الغرفة ويشعر انها باردة.

طبقا لبروتاغوراس، كلا التفسيرين لدرجة الحرارة في الغرفة صحيحان في مثل هذا الموقف ومقبولان. وبالتالي، طبقا لبروتوغاروس، كلمة "صحيح" و "خطأ" هما وصفتان يستخدمهما الناس طبقا لتجاربهم وتفسيراتهم. وكذلك ينطبق نفس الشيء عندما نجد هناك مجتمعا معينا يعتقد في وجود الالهة بينما مجتمع اخر لايؤمن بذلك.

افلاطون هاجم بروتاغوراس والنسبية قائلا لابد هناك من وجود حقيقة نهائية. اذا كان معنى "صحيح" و "خطأ" فقط مسألة رأي عندئذ ستصبح القوانين والعادات الاجتماعية بلا معنى. كسوفسطائي، علّم بوتوغاروس الناس خصيصا الشباب افضل مسائل الثقافة وكيف يمكن التعبير بشكل صحيح عن افكارهم ويتصرفون طبقا لها. الكلمة الانجليزية "معقّد" sophisticated هي في الحقيقة مشتقة من السوفسطائي.

في ايام بروتوغاروس، كانت اليونان وبالذات اثينا تميل للمقاضاة لدرجة كانت المعرفة بفن الخطاب العام ذات قيمة عظيمة كوسيلة للدفاع عن المرء في المحكمة او تقديم شهادة ضد شخص آخر.

طالما لا وجود هناك لمحامين محترفين في اليونان القديمة، اضطر الناس في قضايا المحكمة للاستعانة بكتّاب محترفين بالكلام  لإعطاء كلام بليغ ومقنع في قاعة المحكمة.

طبقا للكتّاب القدماء، جعل بروتوغاروس رزقه الاساسي من تدريب الشباب الاثرياء على فن الخطابة لإستخدامه في قاعة المحكمة.

جادل بروتوغاراس بانه اذا عُرضت عليه دعوتان متضادتان  احداهما ضعيفة، هو لديه القدرة لإنتاج جدال مقنع بما يكفي لجعلها تبدو اقوى من الاخرى.

السوفسطائيون كأساتذة في كليات الحقوق

منح السوفسطائيون أهمية كبيرة للخطابة والقدرة على الاقناع والفوز في الجدال. كان هذا حتى لو تناقضت اسبابا وحججا معينة مع كل من الحقائق والقواعد الاخلاقية. وبصرف النظر عن الحالة، المتحدث العام الجيد لديه فرصة افضل لربح الدعوة، والسوفسطائيون كانوا افضل المعلمين في الخطابة. كان ايضا الطلب عليهم كبير.

اثناء زمن سقراط وافلاطون، علّم أحد السوفسطائيين البارزين واسمه جورجياس الاثنيين كيفية ربح الجدال عبر الاعتماد على الخطابة الجيدة والتلاعب بالقانون لصالح الشخص. افلاطون في احدى حواراته السقراطية - حوار جورجياس -، جعل جورجياس يعترف انه كان مهتما فقط في تعليم الطلاب ربح الجدال وان هدفه لم يكن الحصول على الحقيقة وانما النصر فقط. في الحوار، يكشف سقراط ان جورجياس يعلّم طلابه لإعطاء كلام حول السياسة. سقراط يرى انه لكي يعطي مثل هذا الكلام، يجب على المرء ان يفهم ايضا موضوع السياسة. السياسة حسب سقراط، فن انتاج العدالة. اذا كان جورجياس يعلّم الناس اعطاء كلام سياسي، هو ذاته يجب ان يفهم في البدء السياسة والعدالة.

عندما يعطي الطالب كلاما رائعا ويربح الجدال بدون اعطاء عدالة، عندئذ يُعتبر فعله غير عادل لأن الطالب سيستعمل مهارات الخطابة كوسيلة لغايات غير أخلاقية.

نوموس وفيزس

كان السوفسطائيون أول من أدخل الفرق بين نوموس Nomos (قوانين المجتمع) و فيزيس Physis (النظام الطبيعي). فمثلا، العدالة والعار مبادئ طبيعية لكنها تتجسد بشكل مختلف لدى مختلف المجتمعات. ما هو عار في مجتمع ربما هو مقبول في مجتمع آخر. كذلك، ما هو عادل في مجتمع ربما يُعتبر غير عادل في مجتمع آخر. لذلك، فان قانون المجتمع له أهميته رغم ان مصدره هو المبادئ العالمية الطبيعية لكل الناس. من جهة اخرى طلاب جورجياس رفضوا فكرة ان القانون ينبثق من الطبيعة كما اعتقد بروتوغاراس. هم جادلوا بان نوموس هي في تضاد مع فيزس. طلاب بروتوغاراس ادّعوا ان القانون الطبيعي الحقيقي يرتكز على القوة او الفكرة التي تصنع الصواب. من جهة اخرى، كاليكلس callicles ذهب أبعد من ذلك . هو كتب ان قانون المجتمع زائف لأنه يجبر الأقوى على التسامح مع الأضعف. مع ذلك، ليكوفرون – أحد طلاب جورجياس ادّعى ان عكس ذلك هو الصحيح، أي، ان كل الناس هم في الحقيقة متساوون في الطبيعة، وان القانون بالنهاية هو الذي يؤسس هرميات وأقسام.

***

حاتم حميد محسن

 

أحدثت العولمةُ تحولاتٍ عميقة في طرق تفاعل الثقافات وتطورها وتحديد هويتها. تشير الدراسات الفلسفية المعاصرة، إلى مطارحات جديدة حول المستجدات والرهانات المرتبطة بالتنوع الثقافي في عالم معولم. ضمن هذا الموضوع، أسعى في هذا المقال إلى مقاربة التطورات من خلال تقديم قراءة نقدية تستشرف مستقبل الثقافة في ظل العولمة، إذ نبدأ كيف أن التقاء الثقافات وتفاعلها لا ينحصر في مجرد اندماج سطحي، بل ينطوي على ضرورات واسهامات مستمرة، من أجل إعادة إنتاج للقيم والعادات والمعايير الثقافية بطريقة ديناميكية.

فالعولمة لم تعد مجرد نظام اقتصادي أو ثورة تقنية؛ وإنما هي بالأساس ظاهرة ثقافية عميقة تظهر في التداخل غير المسبوق بين الشعوب والمجتمعات والأفراد. حيث بات موضوع الثقافة في سياق العولمة من الموضوعات الأكثر إثارة للجدل في الأوساط الأكاديمية والفلسفية، إذ تتوالد إشكاليات جوهرية حول مستقبل التعايش والتسامح والاحترام والهويات الثقافية المحلية، وآفاق الانفتاح على قيم الآخر، ودور الوسائط الرقمية في صياغة أنماط التفاعل الثقافي، إلى جانب مسؤولية السياسات العامة في تعزيز الحوار الثقافي وحماية الخصوصيات.

بناءا على مراجعة أحدث الدراسات الفلسفية حول العولمة الثقافية، أستكمل في هذا الجزء من البحث، تعارضات هذا المسار بين توجه نحو الوحدة الثقافية بفعل انتشار النموذج الغربي وهيمنة وسائل الإعلام العالمية، وبين بروز رؤى تدعو إلى تعزيز التعددية الثقافية كمصدر إثراء وابتكار. كما أستعرض آليات جديدة تتشكل ضمن السياسات الثقافية لمواجهة تحديات العولمة، مثل دعم الصناعات الإبداعية المحلية، والتربية على الحوار بين الثقافات، ومأسسة حقوق الأقليات.

لا مناص أن اكتشاف الثقافة في سياق العولمة يتطلب مقاربة فلسفية نقدية تراعي تعقيد الظاهرة وطابعها المتغير وعدم قابليتها للانحصار في ثنائيات ضيقة، من قبيل الأصالة والمعاصرة أو المحلي والعالمي. سأحاول في هذا الجزء أن أعرض مقاربة كلية شاملة لمستقبل الثقافة في ظل العولمة،

الثقافة بين التنوع والتجانس:

تُبرز الدراسات الفلسفية المعاصرة وأهمها دراسة ماري كريستين ويتلي، "العولمة والثقافات المحلية: تعايش معقد" [1]، التوترات المعقدة التي تفرضها العولمة على المشهد الثقافي العالمي. فالعولمة من جهة تتيح فرصًا غير مسبوقة للتلاقي بين الثقافات المختلفة، وتُسرع من وتيرة تبادل الأفكار والممارسات، مما يساهم في إثراء الأطر الثقافية عبر خلق صور ثقافية هجينة جديدة، ولكن من جهة أخرى تفرز مخاطر حقيقية على التنوع الثقافي، إذ قد تؤدي إلى إضعاف وتهميش خصوصيات الثقافات المحلية، بل وتحويلها إلى صور نمطية أو حتى استيعابها في ثقافة موحدة قائمة على نموذج غربي مهيمن مركزي.

التعايش بين الثقافات:

يطلق مفهوم التعايش على ذلك التفاعل بين عدة ثقافات في بيئة إجتماعية واحدة أو مجتمع واحد، والذي يطُلق عليه أحياناً التعددية الثقافية، يعتمد على فكرة أن الثقافات المختلفة يمكن أن تعيش معاً مع الحفاظ على خصوصياتها. ويتطلب هذا إدارة دقيقة للاختلافات والتوترات التي قد تنشأ، لكن مخرجات العولمة ضمن الرؤية الحداثة الغربية ذات الثقافة الواحدة المطلقة شكلت تحديات عظمى أمام التعايش الثقافي، نذكر من بينها:

1.الصراعات على المصالح: في بعض الأحيان قد تتعارض قيم وممارسات بعض الثقافات مع قيم وممارسات مجموعات أخرى، على سبيل المثال: يمكن للاختلافات في القيم فيما يتصل بحقوق المرأة أو الممارسات الدينية أن تؤدي إلى التوترات.

2.التمييز وعدم المساواة: حتى في المجتمعات التي تدعي التعددية الثقافية، قد تتعرض مجموعات من الناس للتمييز بسبب ثقافتها أو عرقها أو أصلها كما نشهد ذلك في عدة دول. يحصل تهميش للأقليات، سواء في سوق العمل، أو في التعليم، أو في التفاعلات الاجتماعية اليومية.

3.التثاقف والاستيعاب: في بعض الحالات، قد يتم الضغط على الثقافات الأقلية للاندماج في المعايير السائدة من أجل قبولها. ويمكن النظر إلى هذه العملية باعتبارها شكلا من أشكال الاستيعاب أو إفقاد الهوية الثقافية.

رغم كل ذلك هناك بعد إيجابي مهم يؤتي ثمار التعايش الثقافي:

الإثراء الجماعي: يمكن للثقافات المختلفة أن تتبادل وتتقاسم المعرفة والعادات والفلسفات والممارسات التي تثري المجتمع ككل عبر منهج "الاعتراف والتعارف"[2].

الشبكات الاجتماعية والتضامن: يسمح التعايش المتناغم بإنشاء شبكات تضامن بين المجتمعات المختلفة، والتي يمكن أن تدعم بعضها البعض في جهودها لمكافحة عدم المساواة أو الظلم.

التسامح والاحترام المتبادل:

بحسب تعريف المفكر ماجد الغرباوي، "التسـامح قيمة حضــارية معرفية مطلقة وقد تصــدق نســبيته في الجانب الســلوكي. فلا يجامل نســـــــــــبية الحقيقة وتعدد الطرق إليها. ولا يؤمن بوجودها خارج خيال الإنســان وتختلف باختلاف قدرته على تصــورها ورســم ملامحها. التســــــامح الحقيقي يعتمد العقل فهم الحقيقة وطرق الوصول إليها، ويرفض الاســتســلام لأي معرفة لا تخضــع لمنهجه. فيســتبعد اللامعقول والخرافة والاوهام وكل ما لا يتعقله. التســــــامح ليس ردة فعل إنما موقف من الحياة والعالم"[3]. ويتضمن التسامح الاعتراف بالتنوع، مع قبول حقيقة أن الأفراد والمجموعات قد يكون لديهم قيم أو معتقدات أو ممارسات تختلف عن قيمنا أو معتقداتنا أو ممارساتنا، ولا يعني بالضرورة احتضان هذه الاختلافات، بل يعني القبول باحترام متبادل بيننا وبين الآخر المختلف.

و في إطار الثقافة، يتضمن هذا الاعتراف بأن كل الثقافات تتمتع بصلاحيتها وميزة التعايش الخاصة بها، حتى ولو كانت ممارساتها غريبة أو معارضة لقيمنا الخاصة.

الاحترام كثقافة:

إن الاحترام يتجاوز التسامح لأنه لا يتضمن فقط قبول الاختلافات، بل أيضاً تقديرها. إن احترام ثقافة ما، يعني الاعتراف بتاريخها وقيمها وممارساتها باعتبارها شرعية وتستحق التكريم. ويتضمن هذا أيضاً أمرين:

1/ احترام معرفي يستهدف التعارف الدائم،

2/ احترام حقوق الأفراد من الثقافات المختلفة في ممارسة ثقافتهم بحرية دون إكراه أو تمييز.

التوتر بين التسامح والاحترام:

على الرغم أنه ينُظر إلى التسامح في كثير من الأحيان باعتباره شرطا أًساسيا للتعايش السلمي، فإن التقدم الحقيقي يأتي من خلال الاحترام المتبادل. حيث التسامح دون احترام قد يؤدي إلى علاقات سطحية وهشة، في حين أن الاحترام يعزز بيئة أكثر تعاوناً وشمولاً وانفتاحاً.

كون مركب التسامح الحقيقي النابع من الاحترام معرفي وليس تكتيكي او شكلي كما يسميه المفكر الغرباوي، يدفعنا نحو إلى ما بين الثقافة والهوية الثقافية، وهذه الأخيرة تشكل نمط أو نهج إدراك الأفراد لأنفسهم وتفاعلهم في المجتمع.

كما لا نغفل على أن الهوية الثقافية تتأثر بالعوامل التاريخية والاجتماعية والأسرية التي تختزن حمولات متنوعة ومتعددة الأبعاد، ويمكن للهوية الثقافية أن تتطور من خلال التفاعل مع الثقافات الأخرى.

في ظل عالم معولم ومتنوع بشكل مطرد، صار التنوع والشمول مبادئ أساسية لضمان قدرة جميع الثقافات ليس فقط على الوجود، بل على الازدهار في مجتمعات عديدة.

و بالتالي التعايش بين الثقافات المتعددة يعتمد على قدرة المجتمعات على إدارة الاختلافات مع الحفاظ على الوحدة. ورغم ذلك، فإن هذا التعايش ليس متيسرا وبسيطا كما يتصور البعض: كونه يستدعي جهودا متواصلة للتغلب على الصراعات المحتملة وسياسات عدم المساواة والتمييز ومواجهة خطابات التطييف والعنصرية والتسقيط.

لذلك التسامح والاحترام هما جناحان أساسيان في أي مجتمع حتى تستطيع الثقافات ليس التعايش فقط بل وإثراء بعضها البعض والتعاون والتآلف والتقدم معا. وبعيدا عن التسامح (الذي قد يكون سلبيا)، فإن الاحترام النشط للاختلافات الثقافية هو الذي يسمح لنا ببناء مجتمع أكثر عدالة وانسجاماً، لأن النجاح الحقيقي يكمن في القدرة على الاستمتاع بالاختلافات مع تعزيز الشعور المشترك بالانتماء لوطن أو مجتمع أو أمة أو الإنسانية.

باختصار، يعتمد تطور المجتمع الحديث إلى حد كبير على قدرتنا على التوفيق بين الحفاظ على هويتنا الثقافية والانفتاح على الآخرين، في إطار من الاحترام والتسامح الحقيقي.

ج. بروتكول التجانس الثقافي

لا يمكننا فهم العولمة إلا من خلال تسليط الضوء على نظرية تعرف بالتجانس الثقافي، والتي تعتبر من الأساسيات فهم تأثير العولمة بما تحمله من هيمنة ثقافية، خاصة عبر ما يعرف بـ"الإمبريالية الثقافية". حيث يرى باحثون أن انتشار وسائل الإعلام العالمية، خاصة الغربية الأمريكية منها ووكلائها عبر القارات الخمس، وما يروج له من نماذج الاستهلاك الرأسمالي، يدفع نحو صهر الفوارق بين الثقافات في إطار واحد، مرجعيته المركزية هي الغرب بداية ونهاية سواء في القيم أو أنماط الحياة أو المنتجات والخدمات، ففي الدراسات الحديثة[4]، وسائل الإعلام العالمية، والسياحة، والاقتصاد التابعة للشركات متعددة الجنسيات تساهم بشكل كبير في دفع الثقافات نحو نمط واحد. هذه الظاهرة، التي تسمى بـ"تجانس الثقافة"، تمثل مهددا خطيرا على الهوية الثقافية للشعوب التي قد تجد نفسها في مواجهة عمليات تهميش لمظاهرها الفريدة، خصوصًا الثقافات التي ليست لديها القدرة على مقاومة التيارات العالمية أو التي تعاني من ضعف اقتصادي وسياسي.

كما أن انتشار اللغة الانجليزية والثقافة الغربية، من خلال الهيمنة الاقتصادية والسياسية، يشكل أحد أبرز مظاهر هذا التجانس، الأمر الذي يؤدي إلى تصغير حجم التنوع إثر تعزيز الثقافة الرأسمالية وعالمية الاستهلاك.

في مقابل التجانس العولمي، برزت أطروحات "التغاير الثقافي"[5] التي ترى أن العولمة توفر إمكانات لتلاقح الثقافات وإثرائها بطرق غير مسبوقة، فبدلاً من فقدان الخصوصية، هناك مجتمعات تنتج هويات وتقاليد جديدة تعكس التفاعل الخلاق بين المحلي والعالمي.

ولعل أبرز مؤشرات ذلك الانتشار العالمي لأنماط الطعام، والموضة، والموسيقى، مع المحافظة على لمسات محلية تضمن بقاء الطابع الخاص لكل ثقافة. وتبرز هنا نظرية "المرونة الثقافية[6]" (Cultural Resilience) والتي تدل على قدرة المجتمعات المحلية على امتصاص التأثيرات الخارجية دون خسارة الهوية الأصلية، بل بلورة هوية ديناميكية متجددة.

د. الثقافات بين التهجين والمقاومة:

مهما يكن، لا يُمكن اختزال العولمة في مجرد عملية تجانس أو محو، إذ تشير دراسة فلسفية معاصرة [7] إلى أن المجتمعات المحلية غالبًا ما تتفاعل مع هذه التغيرات بطرق مبتكرة، مما يؤدي إلى تكوين أشكال جديدة من الهجنة الثقافية[8] التي تجمع بين العوامل المحلية والتأثيرات الخارجية.

وظيفة هذه العملية تتمثل في إعادة صياغة الهوية بنمط ديناميكي، يسمح للحفاظ على جذور الثقافة المحلية، بينما يُوظف عناصر العولمة لخلق تركيبات جديدة تثري الحياة الثقافية.

على أساس ذلك، برز مفهوم "المرونة الثقافية" الذي يؤكد قدرة الثقافات على التجاوب مع المتغيرات دون أن تفقد ذواتها.

2. المقاربات الفلسفية الجديدة: "الهوية، التعددية الثقافية، والتداخل الثقافي"

عرفت الدراسات الفلسفية الحديثة مرتكزات نظرية عديدة، تستهدف فهم التغيرات التي تُحدثها العولمة في معالم الثقافة والهوية. هذه الأطر النظرية تساعد في تفسير :

كيف يمكن للمجتمعات والأفراد التفاعل بطريقة تؤمن احترام التنوع دون الانزلاق إلى صراعات أو فقدان ذات؟

أ. المنظور ما بعد الحداثي (Post-modernism)

يركز التيار ما بعد الحداثي على تفكيك الهويات الثابتة، إذ يعتبر أن العولمة تؤدي إلى تشظي وتفتت الهويات الثقافية المحلية، مع بروز تأثيرات تجعل الفرد يعيش داخل شبكات معقدة من الانتماءات المتعددة والمتداخلة. هذا التيار يسلط الضوء على العجز في استنبات مرجعية واحدة حصرية لكل فرد، مما يؤدي إلى صراعات داخلية قد تكون مرتبطة بالهوية بشتى تمثلاتها (العرقية، الدينية..إلخ) والجنسية والانتماءات الثقافية.

المواطنة العالمية: Cosmo-Citizen

يدعو تيار المواطنة العالمية إلى تبني هوية عالمية تفوق الحدود الوطنية والقومية، تُركز على الإنسان بوصفه كائنًا مشتركًا يتشارك في ثقافة إنسانية عامة. هذا التوجه يروّج لفكرة تجاوز الانقسامات الثقافية عبر التواصل والحوار بين الشعوب، مع التأكيد على قيم العدالة والاحترام المتبادل[9].

إلا أن الفلاسفة ينبهون إلى المخاطر المترتبة على سياسة التوحيد هذه، والتي قد تُفقد المجتمعات المحلية خصوصيتها الثقافية وتؤدي إلى ما يُعرف بـ"الاستعمار الثقافي "[10]

ج. التعددية الثقافية والتثاقف

في المقابل، تُعتبر التعددية الثقافية إطارًا فلسفيًا يُقر بشرعية التعايش بين ثقافات متعددة داخل مجتمعات واحدة، مع التشديد على حق كل مجموعة في التعبير عن هويتها الخاصة. كما يُعزز التثاقف هذه الفكرة من خلال دعوة إلى تفاعل حيوي ومثمر بين الثقافات، حيث لا تتنافس الهويات بل تتعارف وتتبادل وتتكامل[11]. هذه الرؤية الجديدة تحاول بناء جسر للتفاهم والحوار، وتُشجع على التعاون الاجتماعي والثقافي، مع توفير شروط للسلام الاجتماعي والتضامن.

3. الإعلام، التطور الرقمي والهوية الثقافية:

تشكل التحولات الرقمية والتقنية دافعاً أساسيًا في صياغة وتطوير الثقافة في عصر العولمة. حيث تعرف وسائل الإعلام الحديثة، خاصة الرقمية منها، بوصفها أدوات قوية من شأنها احداث تغييرات جذرية في كيفية بناء وتكامل الهويات الثقافية.

أ. صناعة الهوية العابرة للثقافات

في ظل تسونامي الرقميات، لم تعد الهوية تُحدد فقط من خلال الانتماءات الجغرافية أو الوطنية أو الدينية وما هنالك، بل صارت تتشكل عبر وتيرة تفاعلات وسائل التواصل الاجتماعي، والمنتديات الرقمية، والمنصات المفتوحة على التنوع الثقافي العالمي. إذ تسمح هذه الأدوات الرقمية للأفراد أن يختاروا ويتنقلوا بين هويات ثقافية متعددة، مكونين بذلك هويات "متعددة الثقافات" أو "عابرة للثقافات".

هذه الصناعة الجديدة للهوية تُبرز مرونة الإنسان في الزمن الحاضر وقدرته على التكيف مع الواقع المتغير، غير أنه يثير أيضًا تساؤلات حول عمق الترابط أو الثبات في الهوية الفردية والمجتمعية.

ب. مخاطر الفضاء الرقمي الثقافي

رغم الفوائد الهائلة التي توفرها التكنولوجيا الرقمية للقاء بين الثقافات[12]، إلا أن هناك مخاطر واضحة تتمثل في تحويل الثقافة إلى سلعة تُستهلك بغرابة أو بشكل سطحي، مما قد يؤدي إلى فقدان المعنى الحقيقي للقيم والممارسات الثقافية. تكمن المشكلة في أن بعض النقاط الهامة، كالخصوصية، والحقوق الثقافية، والحفاظ على التنوع الغني للمعرفة الفطرية، قد تُهمل في فضاء الإنترنت المفتوح، مما يعرّضها للاندثار ..

ج. دور التشريعات والمناهج التعليمية:

تؤكد الدراسات الحديثة على أن التوازن بين الاستخدام الإيجابي للتكنولوجيا الرقمية كمُعزز للحوار الثقافي وحماية التنوع والتقاليد، وأخطار التجزئة الثقافية رقميًا، يتطلب تنسيقًا سياسيًا فعالاً. فالمسؤولية تقع على كاهل الحكومات والمنظمات الدولية لتطوير أطر تشريعية وسياسات تعليمية تشجع الحوار المفتوح وتدعم الإنتاج الثقافي المحلي.[13]

4. تعزيز التنوع الثقافي

في مواجهة تحديات التجانس الثقافي التي تصاحب ظاهرة العولمة، برزت العديد من الاستراتيجيات والمبادرات[14] التي تهدف إلى صون ثراء وتعدد الثقافات في العالم المعاصر، وذلك من خلال مقاربات فلسفية وسياسية تعترف بأهمية التنوع كقيمة جوهرية للإنسانية.

أ. الحوار الثقافي والحكم الشامل

أكدت العديد من الدراسات الفلسفية الحديثة[15] على ضرورة إقامة حوار مستمر يقوم على الاحترام المتبادل والاعتراف بالآخر كشرط أساسي للحفاظ على السلم الاجتماعي واستدامة التعايش في المجتمعات متعددة الثقافات. كما تبرز أهمية تعزيز نظم حكم شاملة تستوعب مكونات المجتمع المختلفة وتمنحها حقوقًا متساوية في الممارسة الثقافية[16].

هذا النوع من الحوار ليس مجرّد تبادل للآراء، بل هو عملية ديناميكية تؤدي إلى تأطير فهم مشترك وإلى استحداث نماذج جديدة للتفاعل الاجتماعي تستند إلى تقبل التنوع وتثمينه.

ب. الفعالية المجتمعية والسياسات العامة

على المستوى العملي، تلعب النشاطات الثقافية المجتمعية دورًا حيويًا في الحفاظ على الهوية الثقافية، من خلال دعم الصناعات التقليدية والفنون المحلية، وتشجيع تعلم اللغات الأم، وتعزيز انتقال المعرفة والتقاليد بين الأجيال.

إضافة إلى ذلك، تعتبر السياسات العامة الثقافية أداة محورية في دعم التنوع الثقافي، حيث تعمل على توفير الدعم المالي والتنظيمي للمشاريع الثقافية المحلية وتشجيع التبادل الثقافي الدولي، مما يخلق بيئة داعمة لاستمرارية الثقافات المتنوعة.

ج. التكيف النقدي

تشير الفلسفة المعاصرة إلى ضرورة تبني المجتمعات موقفًا نقديًا إزاء العولمة، يقوم على التكيف مع المتغيرات العالمية بطريقة تحفظ الجوهر الثقافي وتمنع الانصهار الثقافي الكامل. وهذا يعني تطوير قدرة الأفراد والجماعات على امتصاص المؤثرات الخارجية بوعي وتحليلها واختيار ما يتناسب مع قيمهم الثقافية.

هذا التكيف النقدي يُعد طريقًا لتحصين الذاكرة الثقافية وفي نفس الوقت لاستثمار فرص النمو الثقافي المستند إلى الحوار والتفاعل العالمي.

العولمة، بعيدًا عن كونها مسارًا خطيًا، كونها ساحة تشهد توترات وتفاعلات وابتكارات غير مسبوقة في مجال الثقافة. تؤكد الفلسفة المعاصرة [17]على ضرورة الموازنة بين الحفاظ على التنوع الثقافي والانفتاح على التأثيرات الخارجية، معتبرة التعددية الثقافية والتداخل الثقافي بوصفهما مسالك متقدمة لمستقبل الثقافة في عالم معولم.

5. معوقات قبول الثقافات المتنوعة وتكاملها:

إن قبول الثقافات المتنوعة ودمجها في المجتمع ينطوي على العديد من التحديات والعقبات، سواء على المستوى الفردي أو المؤسسي. وقد تنشأ هذه العقبات من الأحكام المسبقة، أو سوء الفهم، أو السياسات الاجتماعية غير الملائمة، أو حتى المصالح الاقتصادية. وفيما يلي لمحة عامة عن العوائق الرئيسية أمام قبول الثقافات المتنوعة وتكاملها:

التحيزات والصور النمطية:

إن الصور النمطية هي عبارة عن تعميمات مبسطة، وخاطئة في كثير من الأحيان، تنُُسب إلى مجموعة ثقافية معينة. على سبيل المثال، يمكن أن تؤدي المفاهيم الخاطئة حول ثقافات معينة (مثل التصورات السلبية للمهاجرين، أو المعتقدات حول الممارسات الدينية أو الاجتماعية) إلى التمييز ومقاومة التكامل. كما أن الصور النمطية تغذي الخوف من الآخرين ويمكن أن تخلق حواجز غير مرئية بين المجتمعات.

مثال عن ذلك: قد تتفاقم الصور النمطية السلبية المرتبطة بمجتمعات معينة، مثل المهاجرين أو اللاجئين، بسبب وسائل الإعلام أو الخطاب السياسي. ويمكن أن يؤدي هذا إلى أشكال من العزلة الاجتماعية والنبذ، وخاصة في السياقات التي ينُُظر فيها إلى الأقليات على أنها تشكل تهديداً للثقافة السائدة وهذا لا نجده فقط في الدول النامية بل حتى في دول مثل كندا وأستراليا والولايات المتحدة الأمريكية بالرغم من السياسات العامة الصارمة والتشريعات المتطورة.

حيث كراهية الأجانب في العديد من المجتمعات هي الخوف أو العداء تجاه الأجانب أو الأشخاص الذين ينُظر إليهم على أنهم من بلدان أخرى. أما العنصرية، من ناحية أخرى، فهي شكل أعمق من أشكال التمييز على أساس العرق أو الدين أو البلد أو المذهب أو اللون.

وتشكل هذه المواقف عقبات رئيسية أمام قبول الثقافات الجديدة، لأنها تخلق انقسامات اجتماعية وتمنع التعايش المتناغم بين المجموعات المختلفة.

على سبيل المثال: في العديد من المجتمعات، قد تتعرض الشعوب ذات الأصول الأجنبية للوصم بسبب مظهرها الجسدي، أو لغتها، أو عاداتها المختلفة، كما حصل مع العرب والمسلمين بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001.ويمكن أن يؤدي هذا إلى الإقصاء الاجتماعي المنهجي، وخاصة في سوق العمل، وفي التعليم، وفي التفاعلات اليومية.

الاختلافات الثقافية وسوء الفهم:

إن إحدى العقبات الأكثر وضوحا أمام التكامل هي حاجز اللغة .قد يجد الأشخاص الذين يتحدثون لغة مختلفة عن لغة الأغلبية صعوبة في الاندماج الكامل في المجتمع، سواء في الحياة المهنية أو التعليمية أو الاجتماعية. ويمكن أن يؤدي هذا أيضاً إلى سوء الفهم والإحباط، سواء بالنسبة للأشخاص من ثقافات مختلفة أو بالنسبة لأولئك الذين ينتمون إلى الثقافة السائدة.

على سبيل المثال: قد يجد المهاجر الذي لا يتقن لغة البلد المضيف نفسه معزولاً، وغير قادر على المشاركة الكاملة في الحياة الاجتماعية، مما قد يحد من فرص عمله وقدرته على الوصول إلى الخدمات الصحية والتعليم وما إلى ذلك.

من جهة أخرى، للثقافات قيم ومعايير اجتماعية مختلفة جداً، مما قد يؤدي إلى سوء الفهم .على سبيل المثال، يمكن أن تكون الاختلافات في تصورات الوقت، أو العمل، أو الأسرة، أو العلاقات الاجتماعية، مصادر للتوتر، وهذا الأمر ذو أهمية خاصة في السياقات التي تختلف فيها القيم التقليدية للثقافة السائدة عن قيم المجتمعات الوافدة حديثاً، وبالفعل هذا ما سمعته من لدن العديد من العرب المهاجرين إلى ألمانيا، حيث اصطدموا بسياق ثقافي مغاير رغم سياسات الادماج المتقدمة في ألمانيا بالنظر لدول أوروبية أخرى مثل فرنسا وبريطانيا.

على سبيل المثال: في بعض الثقافات، قد تشغل المرأة أدواراً عائلية مختلفة تماماً عن الأدوار التي تشغلها في مجتمعات أخرى، مما قد يؤدي إلى سوء الفهم بشأن قضايا مثل المساواة بين الجنسين أو الأدوار داخل الأسرة، مما يخلق احتكاكاً بين المجموعات الثقافية.

التمييز الممنهج وعدم المساواة الاجتماعية:

يعد التفاوت الاقتصادي أحد العوائق الرئيسية أمام التكامل بين الثقافات في المجتمع الواحد، قد تواجه الأقليات الثقافية أو المهاجرون حواجز اقتصادية تحد من قدرتهم على الوصول إلى سوق العمل والتعليم والخدمات الأساسية مثل: الصحة والإسكان .وتؤدي هذه التفاوتات إلى تعزيز الإقصاء الاجتماعي وتعوق التكامل الثقافي.

على سبيل المثال: قد يواجه الأقليات العرقية أو المهاجرون صعوبات في الحصول على فرص عمل بسبب أصولهم أو مؤهلاتهم غير المعترف بها أو وضعهم المتعلق بالهجرة. ويمكن أن يؤدي هذا إلى خلق انقسام بين الفئات الاجتماعية، مما يدفع نحو تأجيج التوترات الثقافية وعدم المساواة في الثروة.

ويمكن أيضا أن يتم إضفاء الطابع المؤسسي على التمييز، أي أنه يصبح جزءا لا يتجزأ من القوانين أو السياسات أو الممارسات الاجتماعية، وبالتالي خلق نظام من الإقصاء لبعض المجموعات الثقافية، وقد يتجلى هذا من خلال التمييز في عمليات التوظيف، وفي الممارسات التعليمية، وفي إنفاذ القانون، وفي الوصول إلى الخدمات العامة.

مثال على ذلك: قد تتعرض الأقليات العرقية للتمييز في إجراءات التوظيف، حيث يؤثر التحيز العنصري على كيفية معالجة طلباتهم، على الرغم من حصولهم على نفس المؤهلات مثل المتقدمين الآخرين.

د. الخوف من التغيير ومقاومة التنوع:

لدى بعض المجتمعات أو المجموعات داخل المجتمعات وجهة نظر محافظة تجاه ثقافتها الخاصة وقد تنظر إلى وصول الثقافات الجديدة على أنه تهديد لتقاليدها أو أساليب حياتها. وقد تترجم هذه المقاومة للتغيير إلى رفض للقيم الثقافية الأجنبية والرغبة في الحفاظ على التجانس الاجتماعي.

على سبيل المثال: في المجتمعات التي تكون فيها التقاليد الدينية أو العائلية قوية بشكل خاص، قد ينُُظر إلى وجود ممارسات ثقافية أو دينية مختلفة على أنه يشكل تحدياً للنظام الاجتماعي القائم. وقد يؤدي هذا إلى خلق توتر بين المجموعات التي ترغب في الحفاظ على ثقافتها وأولئك الذين يصلون بممارسات ثقافية مميزة.

هنا تلعب الفعاليات الثقافية دورا أساسيا في تعزيز الهوية والتماسك الاجتماعي داخل المجتمعات، كونها توفر وسيلة للتعبير الجماعي الذي يقدر التاريخ المشترك والقيم والتقاليد والمعتقدات. حيث تعتبر الاحتفالات التي تمثل مراحل الحياة المهمة والمأكولات من الأمثلة الرئيسية، لأنها ترمز إلى لحظات الانتقال والتضامن والاحتفال، سوف أشير هنا إلى جوانب ثلاث:

الفعاليات الثقافية التي تعزز الهوية والمجتمع:

الأحداث الثقافية هي ممارسات أو أحداث جماعية تخلق شعوراً بالتضامن والمشاركة، في كثير من الأحيان تعكس التاريخ والقيم والتقاليد الخاصة بمجموعة ما، وتشارك بشكل فعال في بناء الهوية الجماعية.

هناك المهرجانات والمناسبات التقليدية[18]، مثل كرنفال ريو بالبرازيل، الذي يعد حدثاً مشهوراً عالمياً، وهو حدث ثقافي يجمع بين الرقص والموسيقى والأزياء والاستعراضات، يعكس الهوية البرازيلية، مع فرادة عنصر أفرو-برازيلي قوي، يعكس روح الفرح والوحدة.

الفلامنكو بإسبانيا، هذا النوع الموسيقي والرقصي، الذي نشأ في الأندلس، يجسد الهوية الإسبانية، وخاصة هوية الغجر، يتم ممارسته غالباً في الشوارع، وفي المهرجانات، وفي التجمعات المجتمعية. الريجي بجامايكا، موسيقى مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بتاريخ وهوية الشعب الجامايكي، وترمز إلى المقاومة والنضال من أجل العدالة الاجتماعية والفخر الثقافي. والعديد من الأحداث الثقافية التي تعكس الهويات الثقافية للشعوب عبر العالم.

هناك ممارسات صحية مثل أوراق كينتي بغانا في افريقيا هي ممارسة فنية تقليدية تعكس معتقدات وعادات وتاريخ شعب الأكانفي، حيث كل نمط في كينتي له معنى محدد، ويتم ارتداء ملابس كينتي خلال الأحداث الهامة.

فخار نافاجو بالولايات المتحدة الأمريكية، فخار خاص بشعب نافاجو وغيره من القبائل الأمريكية الأصلية ليس فناً فحسب، بل هو أيضاً وسيلة لنقل القصص الثقافية والروحية عبر الأجيال. هناك أيضا الاحتفالات التي تمثل طقوس رمزية خاصة بمراحل مهمة في حياة الأفراد والمجتمعات، مثل الميلاد والمراهقة والزواج والموت. إنها لحظات انتقالية تعمل على تعزيز الانتماء إلى المجتمع.

أمثلة:

حفل التسمية بغرب أفريقيا، أو ما يعرف عند المسلمين بالعقيقة، في العديد من الثقافات الأفريقية كذلك، تقام طقوس لتسمية الطفل. إن هذه المراسم مهمة لأنها ترمز إلى اندماج الطفل في المجتمع والعالم الروحي.

طقوس البدء بين الشعوب الأفريقية، في العديد من الثقافات الأفريقية، تقام طقوس البدء للإشارة إلى الانتقال من مرحلة الطفولة إلى مرحلة البلوغ، وقد تشمل هذه الطقوس مراسم الختان، أو اختبارات التحمل، أو التجارب الروحية.

حفلات الزفاف في الهند مع طقوس دينية ومهرجانات حيث تتجمع العائلات والمجتمع للاحتفال باتحاد شخصين. وتعتبر الاحتفالات (الخطوات السبع حول النار المقدسة)، كرمزية تدل على الالتزام العميق بالحياة المجتمعية. حفلات الزفاف الصينية التقليدية تتضمن طقوساً مثل تبادل الشاي بين العروس والعريس وعائلاتهم، مما يرمز إلى الاحترام والوحدة.

الموت والجنازات: كذلك فالجنازات المكسيكية Dia de los Muertos: في المكسيك، يوم الموتى هو احتفال بهيج حيث يقوم الأحياء بتكريم أسلافهم. يتم وضع القرابين على المذابح، بما في ذلك الصور، والزهور، والشموع، والأطعمة التي كان المتوفى يستمتع بها أثناء حياته. إنها فرصة للمجتمعات للالتقاء وتعزيز الروابط بين الأجيال.

الجنازات الإسلامية: تتبع الجنازات في الإسلام بروتوكولاً محدداً، بما في ذلك غسل الجثة، وصلاة الجنازة (صلاة الجنازة)، والدفن. وترمز هذه الطقوس إلى الانتقال إلى الحياة الآخرة وتعزيز الوحدة داخل المجتمع الإسلامي.

فن الطهو:

أصبح الطهو تعبير عن التاريخ والهوية الثقافية، لا يقتصر على الطعام فقط؛ إنها وسيلة أساسية للتعبير الثقافي. يحمل كل طبق أو وصفة أو مكون تاريخ شعب ما، وتأثيراته الجغرافية والاجتماعية والسياسية.

فالأطباق التقليدية كرموز للهوية:

-الكسكس طبق رمزي في بلدان المغرب العربي (الجزائر، المغرب، تونس)، هو رمز للضيافة والمرح. ويعد إعداده ومشاركته من الأفعال الثقافية العميقة، والتي ترتبط في كثير من الأحيان بالتجمعات العائلية أو المجتمعية والمناسبات الجماهيرية.

- البيتزا بإيطاليا: وخاصة البيتزا النابولية، هي مثال على كيفية تمثيل المطبخ الإقليمي في إيطاليا للتراث الثقافي العالمي. يعكس هذا الطبق التقليدي تاريخ نابولي وتطور تقنيات الطهي في إيطاليا.

- وجبات احتفالية:

عشاء عيد الشكر بالولايات المتحدة الأمريكية، تجمع هذه الوجبة التقليدية العائلات والأصدقاء حول أطباق مثل الديك الرومي والبطاطس المهروسة وفطيرة اليقطين. فهو مرتبط ارتباطاً وثيقاً بتاريخ المستوطنين الأوائل وفكرة الامتنان.

وجبات عيد الميلاد بأوروبا وخارجها، مع أطباق خاصة بكل بلد مثل شواء عيد الميلاد في إنجلترا، أو الديك الرومي في أمريكا، هي أوقات تنتقل فيها الثقافة من خلال المطبخ والتقاليد الذواقة.

الخاتمة:

في النهاية، يقتضي اكتشاف الثقافة في ظل تحديات ورهانات العولمة تأملاً أخلاقيًا وعمليًا يُراعي تعقيد الظاهرة وتنوعها، حيث يصاحب الاعتراف بالآخر الحفاظ على الذات، ويجب أن يترافق النهج الإنساني العالمي مع احترام حقيقي للتعددية الفعلية للهويات.

هذا التميز في فهم العلاقة بين الثقافة والعولمة يفتح آفاقًا جديدة للبحث والتطوير في مجالات الفلسفة، والعلوم الاجتماعية، والسياسات الثقافية في عالمنا العربي والاسلامي، ويعيد توجيه الاهتمام إلى كيفية بناء عالم يتمتع بالتنوع والعدالة الثقافية في آنٍ واحد.

ولقد أثبت مسار التاريخ الإنساني أن الثقافة ليست مجرد إرث من العادات والفنون، بل هي التجسيد الحي لروح الأمة وهويتها وعمقها الحضاري. وفي زمن العولمة، حيث تتقارب المسافات وتتسارع التبادلات، وتشتد محاولات توحيد الأنماط وإذابة الخصوصيات، يصبح لزامًا على الثقافات العريقة أن تُظهر قدرتها على المقاومة الإيجابية والإلهام المتجدِّد.

وفي عمق هذا المشهد المتشابك والمعقد، تبرز الثقافة العربية-الإسلامية كأيقونة حضارية متفرِّدة، تمتد جذورها من مكة والمدينة ومسقط إلى بغداد ودمشق ومصر والأندلس والمغرب العربي، حاملةً رسائل العدل والتسامح والتلاقي الإنساني. فالعدل في منظورها قيمة كونية، تنسجم مع ما قاله الإمام علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه): "الناس صنفان: إمّا أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق"، بما يلخّص فلسفة المساواة والاعتراف بإنسانية الآخر مهما اختلفت العقيدة أو اللسان.

أما التسامح، فقد عبّر عنه تراثها الفكري في صورة عملية وواقعية، وهو ما أشار إليه ابن رشد حين قال: "التفاهم بين الناس ضرورة عقلية وشرط للتمدّن، والحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له[19]". فالحوار عنده ليس ترفًا فكريًا، بل قاعدة لبناء مجتمع متماسك وحضارة مزدهرة.

وفي مقاربة فكرية معاصرة، يلخص مالك بن نبي هذه الرؤية بقوله: "لا تبنى الحضارة على القوة المادية وحدها، بل على الإرادة الأخلاقية التي تجعل الإنسان قادرًا على أن يعيش مع الآخر"، مبيّنًا أن مقاومة العولمة الموحِّدة لا تقوم فقط على الحفاظ الميكانيكي للتقاليد، بل على وعي أخلاقي حيّ يبني الجسور ويمنع القطيعة.

ولعلّ ما قاله الجاحظ يحمل بُعدًا فلسفيًا يتقاطع مع هذا المعنى: "الناس بخير ما تفاوتوا، فإذا تساووا هلكوا". فالاختلاف هنا ليس تهديدًا، بل هو مصدر غنى وتجديد، وضمانة لاستمرار الإبداع الإنساني في مواجهة النمطية.

ومن منظور حضاري شامل، يرى الشاعر والفيلسوف محمد إقبال أن: "الأمم لا تعيش إلا بروحها، وروح الأمة في ثقافتها وقيمها ومبادئها". وهنا تكمن قوة الثقافة العربية-الإسلامية في زمن العولمة: أنها قادرة على صون روحها، وفي الوقت ذاته مدّ العالم بتيارات فكرية وأخلاقية تعزز العدالة والتنوع والتعايش.

وعليه، فإن هذه الثقافة، إذا تمسّكت بجذورها وتفاعلت بوعي مع العالم، ستظل مشعلًا مضيئًا يهدي في عتمة التحديات، وجسرًا بين الشرق والغرب، ومصدرًا لإلهام ثقافات أخرى بروح العدالة ونبل التسامح، مسهمةً بذلك في رسم ملامح عالم أكثر عدلًا وإنسانية وتعدّدًا.

***

مراد غريبي – كاتب وباحث

........................

[1] Mary Christine Wheatley, « Globalization and Local Cultures: A Complex Coexistence » (2024)

[2] يمكن العودة لمؤلفات جوديث بتلر واكسل هونيث الخاصة بالاعتراف وكذا نظرية التعارف للدكتور زكي الميلاد المفكر السعودي.

[3] التسامح ومنابع اللاتسامح، ماجد الغرباوي ص 14-15، ط3.

[4] Kraidy M. Hybridity, or the Cultural Logic of Globalization. Temple University Press. 2006. and Sklair L. Sociology of the Global System. Johns Hopkins University Press. 1995.

[5] Appadurai A. Modernity at Large: Cultural Dimensions of Globalization. Minneapolis: University of Minnesota Press. 1996. and Nederveen Pieterse J. Globalization and Culture: Global Mélange. Rowman & Littlefield. 2009.

[6] Robertson R. Globalization: Social Theory and Global Culture. Sage. 1992. And Hannerz U. Transnational Connections: Culture, People, Places. Routledge. 1996.

[7] Alejandro Rojas, « Philosophical Reflection on Cultural Identity Formation in the Era of Globalization » (2024)

[8] تشير إلى ظاهرة اندماج عناصر من ثقافتين أو أكثر لتشكيل أنماط جديدة من التعبير الثقافي، سواء في اللغة أو الفنون أو الممارسات الاجتماعية أو القيم. وغالبًا ما تنتج عن الاتصال المستمر بين الشعوب، سواء بفعل الهجرة، أو التبادل التجاري، أو العولمة، أو وسائل الإعلام.

[9] م.س (7)

[10] Ecology & Society :volume 30, issue 01, Article 33(Confronting colonial history: toward healing, just, and equitable Indigenous conservation futures).

[11] Elwira Gross-Gołacka et Anna Martyniuk, « Globalisation and the Challenges of Managing Cultural Diversity » (2024)

[12] O’Brien M, Patel R. Digital diasporas: The role of media in migrant cultural expression. Cult Geogr. 2019;26(3):341–59.

[13] Eriksson M, Lindberg I. Education and cultural preservation in Scandinavia. Scand J Educ Res. 2024;58(1):77–93.

[14] Martinez S, Garcia R. UNESCO’s role in cultural heritage preservation. Int J Cult Heritage. 2023;18(2):156–72.

[15] Ogharanduku, V. I., & Tinuoye, A. T. (2020). Impacts of Culture and Cultural Differences on Conflict Prevention and Peacebuilding in Multicultural Societies. In Handbook of Research on the Impact of Culture in Conflict Prevention and

Peacebuilding (pp. 177-198). IGI Global.

[16] Si Shi & Zhuo Yang, « Philosophical Analysis of Cultural Diversity and Globalization » (2025)

[17] Alejandro Rojas, « Philosophical Reflection on Cultural Identity Formation in the Era of Globalization » (2024(

[18] International Journal of Frontiers in Sociology, 2023, 5(1 .(6

[19] فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال، لإبن رشد.

 

“اكتب يا هيبا، فمن يكتب لن يموت أبدًا.”هكذا يبدأ الهمس في أذن الراهب الحائر بين جدران ديره، وهكذا يبدأ أيضًا صراع كل كاتب يواجه سلطةٍ تحاول أن تحيله إلى صمت أبدي. في زمن هيبا، كانت جدران الكنيسة تزن الكلمة بميزان العقيدة. في زمننا، تتبدّل الجدران: قد تكون قاعة محكمة، أو شاشة إعلامية، أو ملفًا قضائيًا يُطوى فيه العمر على هامش تهمة.

اليوم، يواجه الدكتور الوليد مادبو حملة شعواء تسعى لمحاكمة نصوصه الكاشفة، وهي لا تحاكمه هو، بل تحاكم إمكانية أن توجد الحقيقة خارج أسوارهم البائسة. كما قال نيتشه: “كل حقيقة هي جيش من الاستعارات”، والاستعارة التي تنفلت من يد السلطة تتحول إلى تمرّد لا يمكن ضبطه.

فوكو، في تتبعه لمسارات السلطة، كان يدرك أن أخطر ما يهدد نظامًا ما ليس السلاح ولا العصيان المسلح، بل النص الذي يخلخل يقيناته، النص الذي يفضح اللغة التي تتخفّى بها السلطة وهي تعيد تشكيل الجسد والضمير على مقاسها. النص هنا ليس حبرًا على ورق أو شاشة هاتف، بل جسد متمرد، والكاتب ليس شخصًا، بل ساحة مفتوحة للصراع بكل أنواعه.

قرأتُ مقالات مادبو  التي تضمنتها "ثلاثية قرناص" كما لو كنتُ أطالع فصلًا مفقودًا من عزازيل. هناك، كان هيبا الراهب يدوّن يومياته في مواجهة مؤسسة تحاصره، لا خوفًا من زلة لسان، بل من أن تتحول كلماته إلى نبوءة بالحرية. كانت الكنيسة تحاكم الجسد الذي أحب، والفكر الذي تجرأ على النظر خارج المألوف، بالمنطق ذاته الذي تحاكم به سلطة اليوم الوليد مادبو، أو بالأحرى سلطة الأمر الواقع في بورتسودان: تحويل السؤال إلى تهمة، وجعل الحق في السرد جريمة مكتملة الأركان.

في عزازيل، كان هيبا ممزقًا بين لذّة الجسد وسوط العقيدة، بين حنينه إلى مريم وسقف الدير الذي يضيق كلما تنفست الحرية. وفي مقالة مادبو، بدت قرناص – لا كاسم، بل كأيقونة – تمثل الوجه الآخر لتلك السلطة التي أراد هيبا أن يتحرر منها: سلطة تجعل الأنوثة أداةً للتزيين السياسي، وتحيل الحب إلى وظيفة، وتحول الجمال إلى قسم العلاقات العامة للدولة، ومن ثم تُوزَّع كهبات وهدايا مغلفة في أوراق أنيقة تحمل عبارات وجملًا دينية.

لكن في سياق السودان، لهذا الوجه الآخر اسم وعنوان: الجبهة الإسلامية القومية. الجماعة التي زعمت أنها جاءت “لتطهّر” المجتمع، بينما كانت تزرع في جسده سرطان القمع والفساد. التي سنّت قوانين النظام العام لتجلد النساء في الأسواق، ومنحت الامتيازات لمن اختارتهم كواجهة “متدينة” لترويج مشروعها المزعوم. هي نفسها التي أرهبت الصحفيين والمفكرين، ومنعت الكتب، وأغلقت المنابر، ثم ابتسمت أمام الكاميرات وهي توزع صكوك الغفران السياسي.

السفيرة التي ترفع اليوم دعوى ضد الكاتب – والدعوى التي رفعها النظام باسمها – تكرر خطى أولئك الذين جرّوا محجوب شريف إلى المعتقل، وطاردوا حميد والدوش وغيرهم، ووضعوا أسماء الكتّاب على قوائم الممنوعين من السفر. ليست القضية فردية، بل امتداد لزمن كانت فيه الكلمة جريمة تستدعي العقاب.

فوكو كان سيقرأ ما حدث للوليد مادبو كتجسيد للسياسة الحيوية: كيف تدير السلطة حياة الأفراد وأجسادهم وسردياتهم، وكيف تجعل القانون أداة لإعادة إنتاج الطاعة. ويوسف زيدان كان سيرى في هذا الاستدعاء صدى لمحاكم التفتيش: المطلوب ليس إقناع المفكر بخطئه، بل إرغامه على قبول تعريف السلطة للصواب.

إنهم لا يحاكمون مادبو لأنه أساء لشخص – وهو لم يفعل – بل لأنه جرّد خطابهم من قماشه الرثّ، وواجههم بلغة لا يمكن وضعها في محاضر الاتهام دون أن يعترفوا بأنهم الطرف الآخر في الرواية. في ذلك، يضع الكاتب نفسه، عن وعي، في المسافة الحرجة التي وقف فيها هيبا: بين رغبة الاعتراف وخوفه، بين حق الجسد في أن يكون شاهدًا وحق الروح في أن تكون حرة.

ما فعله مادبو ليس هجومًا شخصيًا، بل مراوغة على طريقة الكبار: انزلاق بالكرة إلى قلب الشبكة التي تحرسها السلطة، لتكتشف متأخرة أن الملعب لم يكن لها أصلًا. ولهذا، فإن محاكمهم، مهما علت جدرانها، ستظل عاجزة عن محاكمة النص الذي خرج من سلطة اللحظة ودخل أرشيف الضمير.

التاريخ لا يحفظ أسماء القضاة ولا لوائح الاتهام، بل أسماء الذين قاوموا قبح السلطة بالكلمة. ستزول الجبهة الإسلامية كما زال كل طغيان، لكن وقائعها ستظل شاهدًا على سؤال بسيط: كيف تصنع سلطة عدوها من الشعراء والكتّاب؟ وحين تُفتح دفاتر المحاكم الحقيقية، لن يُسأل مادبو عمّا كتب، بل ستُسأل الجبهة عمّا فعلت، وحينها لن ينفعها وشاح دبلوماسي ولا بيان تبرير.

***

إبراهيم برسي

11/08/2025

الملخّص: يبحث هذا العمل في البنية المزدوجة التي تحكم مسار الوعي الإنساني، والمتمثلة في الصدفة التي تصوغ البدايات، والعادة التي تكرّس النهايات. ينطلق البحث من فرضية أساسية مفادها أن تحالف هذين العاملين يُسهم في تعطيل الفعل الإنساني الواعي، ويحول دون ممارسة الحرية الحقيقية. تتناول الدراسة، من خلال إطار فلسفي-اجتماعي، تعريف كل من الصدفة والعادة في ضوء التراث الفكري العراقي والعالمي، ثم تفحص آليات تداخلهما وتأثيرهما على أنماط التفكير والسلوك. وتعتمد المنهج التحليلي النقدي، ممزوجًا بالمنهج المقارن، لإظهار التباين والتقاطع بين رؤى فلاسفة عراقيين أمثال علي الوردي ومدني صالح، وفلاسفة عالميين مثل مارتن هايدغر وحَنّة أرندت وزيغمونت باومان. ويخلص البحث إلى أن تجاوز هذه البنية يتطلب مشروعًا معرفيًا مزدوجًا يقوم على تفكيك المسلّمات الموروثة، وكسر دورات التكرار التي تمنح الأمان الزائف، وصولًا إلى إعادة تعريف الحرية باعتبارها القدرة على الفعل المدروس المختار لا مجرّد التحرر من القيود الظاهرة.

المقدمة

ليست الصدفة في حياة الإنسان مجرّد حادثة عابرة تُسجّل في دفتر الأيام، ولا العادة مجرد تكرار رتيب للسلوك؛ بل هما، في العمق، قوتان متلازمتان، تعملان على رسم خريطة الوعي من أول منعطفاته حتى آخر محطاته. ففي حين تلقي الصدفة بالإنسان في بيئة وثقافة وزمن لم يخترها، تأتي العادة لتشيّد حوله أسوار المألوف، حتى يغدو حركته داخل دائرة مغلقة، يظنها أفقه الطبيعي. قال أحد المفكرين العراقيين: «ليست المصيبة أن تولد في بيئة لم تخترها، بل أن تموت وأنت لا تعرف أنك كنت سجينها». هذه الكلمة تختزل مأساة ملايين الأفراد الذين يعيشون حياتهم على إيقاع ما لم يختاروه، ثم يرحلون دون أن يمارسوا لحظةً واحدةً من الفعل الحرّ الذي يتجاوز شروط البداية ويكسر تكرار النهايات. تسعى هذه الدراسة إلى معالجة هذا الإشكال من خلال تحليل فلسفي واجتماعي معمّق لمفهوم الصدفة والعادة، واستكشاف كيف يتواطآن في تشكيل وعي الإنسان وتحديد مساره. ويتجاوز هذا البحث الطرح الأدبي المجرّد، لينخرط في قراءة نقدية مؤسّسة على مناهج الفكر الحديث، ويقارن بين التجربة الفكرية العراقية، التي انشغلت طويلاً بمسألة الموروث والعرف، وبين أطروحات الفلسفة الغربية المعاصرة التي تناولت قضايا البنية والحرية والفعل الإنساني.

إن الإلحاح على هذا الموضوع ينبع من الحاجة إلى إعادة النظر في معنى الحرية ذاتها. فليست الحرية، كما تذهب بعض التصورات الساذجة، مجرد تحرر من القيود الظاهرة، بل هي في جوهرها القدرة على نقد البدايات وفحصها، وكسر النهايات المكرورة التي تتحوّل بمرور الزمن إلى ما يشبه «القدر الاجتماعي». وهنا تكمن أهمية الفحص المزدوج: تفكيك ما جاءت به الصدفة من محددات أولى، ومساءلة ما فرضته العادة من تكرار. كما أن هذا البحث يهدف إلى تقديم تصور نظري قادر على صياغة استراتيجية للتحرر من أسر الصدفة والعادة، وذلك عبر بناء وعي نقدي، وخلق مساحات للفعل المقصود، حيث يصبح الإنسان فاعلاً في مسار حياته، لا مجرد مُساقٍ فيه. ولتحقيق هذا الغرض، سننطلق أولاً إلى تحديد المفاهيم، ثم تحليل آليات عملها، قبل الانتقال إلى المقارنة بين التجارب الفكرية المختلفة، وصولاً إلى طرح رؤية تتجاوز المأزق وتفتح أفقًا جديدًا للحرية والفعل.

الإطار النظري

أولًا: مفهوم الصدفة بين الفلسفة والمجتمع

منذ بدايات التفلسف الإنساني، ظلّت الصدفة مفهومًا ملتبسًا، يتأرجح بين كونها عاملًا عرضيًا خارج منظومة القوانين، وبين كونها أداة خفية في يد القدر. في الفكر اليوناني القديم، رآها أرسطو ضمن «العَرَض» الذي يقع خارج سلسلة العلل المنتظمة، لكنه لم ينكر أثرها في تحويل مجرى الأحداث. وفي المقابل، حاول الرواقيون ردّ كل ما يُسمّى بالصدفة إلى نظام كوني شامل، معتبرين أن ما يبدو لنا صدفة إنما هو جهل بترتيب الأسباب. أما في التصور الإسلامي الكلاسيكي، فقد نُظر إلى الصدفة باعتبارها وهمًا، لأن كل ما يقع إنما يقع بقضاء وقدر، لكن هذا لم يمنع من الاعتراف بوجود أحداث لا يتوقعها الإنسان، فتأخذ في وعيه شكل المفاجأة.

في السياق العراقي الحديث، تناول علي الوردي الصدفة في إطار تحليله للمجتمع التقليدي، فاعتبر أن نشأة الفرد في بيئة معينة «مقامرة وجودية» تحدد ملامح شخصيته، قبل أن يمتلك القدرة على الاختيار. وذهب مدني صالح إلى القول إن «أكبر صدفة في حياة الإنسان هي أن يولد»، مؤكدًا بذلك أن البداية ذاتها ليست من صنعه، بل تُفرض عليه فرضًا.

وهنا أقول: «الصدفة هي اليد التي تضعك على رقعة اللعب قبل أن تعرف شكل الرقعة أو قوانين اللعب، ثم تتركك لتظن أن وجودك هناك كان قرارك». هذا الاقتباس يوضح أن الصدفة ليست مجرد حادثة زمنية، بل هي بنية تأسيسية تحدد شروط الانطلاق، وتفرض على الإنسان مسارًا أوليًا قد يقضي حياته كلها داخله، ما لم يمتلك وعيًا ناقدًا لتفكيك تلك الشروط. من الناحية الاجتماعية، الصدفة هي المحدد الأكبر لما أسماه بيير بورديو بـ«الرأسمال الأولي»؛ فهي التي تمنح أو تحرم الإنسان من رأس المال الاجتماعي والثقافي منذ اللحظة الأولى. فالولادة في بيئة فقيرة أو غنية، في مجتمع متسامح أو متعصب، ليست سوى نتائج مباشرة لصدفة الميلاد، لكنها تُترجم سريعًا إلى فروقات هائلة في الفرص والخيارات. ولعل أخطر ما في الصدفة أنها كثيرًا ما تُموَّه في الوعي الجمعي تحت عناوين «القدر» أو «المشيئة» أو «الحظ»، بحيث يصبح نقدها ضربًا من التجديف أو الجحود. كما أقول: «أخطر الصدف هي التي تُعاش كأنها قدر مقدس، لا يقبل المساءلة ولا الفحص». هذا النوع من الصدفة هو الذي يغلق باب الفعل الإنساني الحر، لأنه يخلط بين ما فُرض على الإنسان قسرًا وبين ما يمكنه تغييره إذا امتلك الوعي والشجاعة. على المستوى الفلسفي المعاصر، يرى مارتن هايدغر أن الإنسان «مُلقى في العالم» (Geworfenheit)، أي أن وجوده يبدأ من نقطة لم يخترها، وعليه أن يتعامل مع المعطيات التي وجد نفسه فيها. هذا الإلقاء هو المعادل الوجودي لفكرة الصدفة، لكنه عند هايدغر لا يلغي إمكانية أن يتحرر الإنسان عبر ما يسميه «الوجود الأصيل»، الذي يقوم على مواجهة الذات للظروف وإعادة تعريفها. غير أن أغلب الأفراد لا يقطعون هذه المسافة، بل يعيشون كما يقول زيغمونت باومان في حالة «حياة سائلة»؛ حيث تتحدد مساراتهم بفعل قوى خارجية وظروف أولية، ويكتفون برد الفعل بدل صناعة الفعل. وهنا أقول: «الصدفة تكتب السطر الأول في كتاب حياتك، لكنك إذا لم تمسك القلم، فإنها ستكتب الفصول كلها».

إن فهم الصدفة، إذن، لا يقتصر على رصد لحظة الميلاد أو بداية الحدث، بل يتطلب تفكيك البنية الكاملة التي تنتجها، وفهم كيف تتداخل مع العادات لاحقًا لتشكل مصير الإنسان. وهذا يقودنا إلى المحور الثاني، حيث تتحول الصدفة إلى عادة، والعادة إلى قيد محكم.

ثانيًا: مفهوم العادة بين الفلسفة والمجتمع

العادة ليست مجرد تكرار آلي لسلوك أو تصرف، بل هي آلية ثابتة تحفظ التوازن الزمني للسلوك الإنساني، وتكرس ثقافة الأفعال، فتغدو من خلال ذلك عاملًا مؤثرًا في تشكيل الهوية والوعي. في الفكر الفلسفي، نظر إليها أرسطو على أنها ممارسة متكررة تؤدي إلى تكوين الفضيلة أو الرذيلة، أي أن العادة تبني الشخصية وتحدد مآلاتها. أما في الفلسفة الحديثة، فقد أعاد ديڤيد هيوم تعريف العادة باعتبارها القوة التي تربط بين الأفكار، وتشكل توقعاتنا للسلوك، لكن هيوم لم يتجاوز المنظور النفسي للفرد. في الفلسفة الاجتماعية، خاصة عند علماء الاجتماع، تنظر العادة إلى أنها مجموعة من الأنماط المستقرة، التي توارثتها المجتمعات لتضمن استمراريتها. وقد شدد علي الوردي، في تحليله للمجتمع العراقي، على أن «العادة تتجاوز كونها سلوكًا، لتصبح قانونًا غير مكتوب يتحكم في حياة الفرد، ويُعيق أي محاولة للخروج عن المألوف».

وهنا أقول: «العادة هي القيد المموّه الذي تلبسه الذات كدرعٍ يحميها من مواجهة اللايقين، لكنه في الوقت نفسه يحول دون حركتها الطبيعية». هذه العبارة تعكس الثنائية المأساوية للعادة، فهي من جهة تمنح شعورًا بالأمان والاستقرار، ومن جهة أخرى تمنع النمو والتغيير. على المستوى الاجتماعي، تُعتبر العادة مؤسّسة النظام القيمي، لكنها في كثير من الأحيان تتحول إلى آلة تُسقط كل محاولة للتمرد أو النقد. فالمجتمع الذي يعاني من عادات جامدة، كما قال مدني صالح، هو «مجتمع يعيش في زنزانة غير مرئية، حيث تصبح العادة حكمًا قضائيًا على كل جديد». في الفلسفة الوجودية، لاحظ سارتر أن الإنسان «محكوم بالحرية» ولكنه كثيرًا ما يهرب من هذه الحرية إلى العادات والتقاليد، لأنها توفر له ملاذًا آمنًا من قلق الاختيار والمسؤولية. وفي هذا الإطار، أقول: «العادة ليست فقط تكرارًا، بل هي استسلامٌ ضمنيٌّ لخطاب ما، ينتج طقوسًا وقوانين تلغي الفعل الحر، وتخنق الوعي تحت طبقات التكرار». عبر هذه المفاهيم، تتضح خطورة العادة كعامل يمنع الإنسان من إعادة قراءة الصدفة التي وُلد بها، ويُبقيه أسير تكرار موروثات لا يدرك أصلها ولا إمكانية تجاوزها.

وهكذا، يصبح فهم العادة ضرورة جوهرية لفك القيود التي تحيط بالإنسان، وهي الخطوة التي ستفتح الباب للتحليل الأعمق لتشابكها مع الصدفة، وكيف يؤثر هذا التزاوج على تعطيل الفعل الإنساني، وهو موضوع المحور التالي.

ثالثًا: التقاطع بين الصدفة والعادة وتعطيل الفعل الإنساني

إن العلاقة بين الصدفة والعادة ليست مجرد تتابع زمني، بل هي علاقة تشابك بنيوي ينتج حالة من الجمود المعرفي والسلوكي، تعيق الفعل الإنساني الحر، وتكرس حالة من «الوعي المعلّق» بين فرضيات لم تُسائل وأفعال لم تُختبر. فالصدفة، كما وضحنا، تمثل وضع الإنسان في نقطة بداية غير مختارة، تُحيط به شروط وأطر لا يد له في تحديدها. لكن ما إن تتلبّس هذه البداية بعباءة العادة، حتى تتحول إلى شبكة حديدية تحاصر الفكر والفعل. هذا التحالف الخفي يحول الحياة إلى دائرة مفرغة، حيث يُعيد الإنسان إنتاج ذاته وفق نمط محدد مسبقًا، تفرضه ثقافة صارت مألوفة. وقد عبر في أحد المقالات قائلاً: «أن تستسلم للمألوف، هو أن تضع نفسك في قبضة مزدوجة من الصدفة والعادة، لا حرية فيها ولا تحرر». هذه العبارة تلخص مصير كثيرين ممن يعيشون بلا نقد، بلا اختيار، بلا فعل مُنتج.

يضاف إلى ذلك أن هذا التعطيل لا يطال فقط الفرد، بل يمتد إلى البنى الاجتماعية، حيث تُكرّس المؤسسات التعليمية والدينية والسياسية هذه الثنائية، بحجة المحافظة على الاستقرار، وتجنب الفوضى. فتتحول الصدفة إلى «مقدس» لا يُمس، والعادة إلى قانون لا يُخالف. هذا السياق يجعل من الفعل الإنساني الفاعل حالة استثنائية، تُحسب لها ألف حساب، لأن تجاوز هذا الوضع يتطلب مواجهة مزدوجة: تفكيك إرث الصدفة، وكسر قيد العادة.

من هنا أقول: «الحرية ليست غيابًا عن الصدفة، ولا انفصالًا عن العادة، بل هي القدرة على أن تُعيد قراءة البداية، وأن تُعيد رسم المسار، فتصبح فاعلًا حقيقيًا في كتاب حياتك». هذه القدرة على الفعل الواعي هي جوهر النقد الفلسفي الحديث، كما عبرت عنه حنّة أرندت في مفهومها عن «الفعل» كخاصية إنسانية تميزه عن سائر الكائنات، ومن خلاله يُظهر الإنسان ذاته في العالم، ويخلق التاريخ. غير أن تحقيق هذا الفعل ليس ممكنًا إلا عبر وعي نقدي يُميز بين «الوجود المُلقى» والوجود المختار، بين ما وُضع عليه من شروط وما يمكنه تغييره. وهذا الوعي هو الذي يتحقق من خلال الأسئلة المستمرة، والمقاومة المدروسة للدوران في حلقة الصدفة والعادة.

وقد ورد في خطاب فلسفي: «حين تعيش حياتك كما رُسِمت لك، فإنك تموت قبل أن تعيش». هذه الجملة تلخص هشاشة الوعي المعلّق، الذي لم يجرؤ على كسر الدائرة، ولم يملك الشجاعة لمواجهة بداياته المفروضة. إن هذا التحليل يدفعنا للتساؤل عن آليات التحرر الممكنة، وكيف يمكن استنهاض الوعي ليُعيد صياغة العلاقة مع الصدفة والعادة، بحيث تتحول إلى أدوات للتجديد لا قيودًا للتكرار.

رابعًا: قراءة مقارنة بين الفلسفة العراقية والفلسفة العالمية

1. الرؤية العراقية

تناول الفلاسفة والمفكرون العراقيون قضية الصدفة والعادة من منطلق تأملي نقدي عميق في سياق المجتمع العراقي المركب بين التقاليد والعصرنة.

علي الوردي، في مؤلفاته الاجتماعية، أبرز كيف أن الفرد العراقي يولد في بيئة «مهيمنة بالصدفة الاجتماعية»، فالمولد في عائلة، طبقة، وبيئة ثقافية محددة لا يملك حيالها خيارًا، وأن هذه الصدفة تُشكّل «النشأة الاجتماعية» التي تحدد الكثير من توجهاته وسلوكياته. كما أكد الوردي أن العادة في المجتمع العراقي ليست مجرد سلوكيات متكررة، بل هي «آليات دفاعية ضد التغيير والاختلاف»، تجمّد العقل وتعيق الفعل الحر. مدني صالح، من جهته، ذهب إلى أن «الصدفة الاجتماعية، والارتباط بالعادة، يشكّلان في العراق منظومة ضاغطة تُقيّد إمكانيات التحرر الفردي والاجتماعي»، مبرزًا أن هذا الواقع ينجم عن تراكمات تاريخية وثقافية عميقة. وفي هذا الإطار، أقول: «الصدفة والعادة ليستا مجرد ظواهر، بل منظومة متكاملة من القيود النفسية والاجتماعية، التي تجعل من الإنسان سجينًا لظروفه، ما لم يملك وعيًا نقديًا لمواجهتها».

2. الرؤية العالمية

في المقابل، تناولت الفلسفة الغربية المعاصرة هذا الموضوع من منطلق وجودي نقدي وفلسفي واسع.

مارتن هايدغر، عبر مفهومه «الوجود الملقى» (Geworfenheit), أبرز أن الإنسان يبدأ حياته في ظروف مفروضة لا يمكن اختيارها، لكنه لا يزال يملك إمكانيات التحرر من خلال ما سماه «الوجود الأصيل»، الذي يقتضي وعيًا نقديًا وإرادة فعلية للخروج من العشوائية. حنّة أرندت، من جانبها، ركّزت على «الفعل» كشرط أساسي لإنسانية الإنسان، معتبرة أن الفعل الواعي والمقصود هو الذي يخلق التاريخ، ويحرر الإنسان من براثن «العادة» و«الروتين». زيغمونت باومان قدم تصورًا للمجتمعات «السائلة» حيث تغدو العلاقات والوعي مؤقتين ومتحولين، ما يجعل الصدفة والعادة عناصر أكثر تعقيدًا في تشكيل الوعي الحديث، ويدفع الإنسان إلى البحث المستمر عن معنى الحرية والفعل.

وبهذا، نجد أن الفلسفة العالمية تقدم أدوات تحليلية قوية لفهم وتجاوز الصدفة والعادة، من خلال التركيز على الوعي النقدي والفعل المقصود، وهو ما يفتح نافذة أمل للتحرر.

خامسًا: مقترح نظري للتجاوز: بناء وعي نقدي وفعل حر

في مواجهة ثنائية الصدفة والعادة، التي تقيد الفعل الإنساني وتجعله أسيرًا لأطر لم يختَرها، ينبثق الإشكال الفلسفي المركزي: كيف يمكن للإنسان أن يتحرر من هذا القيد المزدوج، ويستعيد قدرته على الفعل الواعي؟

يستند هذا المقترح النظري إلى مبدأين أساسيين:

1. تفكيك المسلّمات الموروثة

إن الخطوة الأولى في التحرر تبدأ بفعل نقدي حاد تجاه كل ما تلقاه الإنسان عبر الصدفة، فليس كل ما وُرِث صالحًا للبقاء، ولا كل ما رافق النشأة ضرورة لا يمكن تجاوزها. كما أقول:

ليس من حرية حقيقية أن تعيش في ظل افتراضات لم تُختبر، أو أن تمضي في حياة مُرسمة قبل أن تُفكر بها. ينبغي أن يتحول الإنسان إلى ناقد دائم للموروث الثقافي والاجتماعي، مفرّق بين ما يخدم حياته ووجوده، وما هو عبء يمنعه من النمو والتطور.

2. كسر دورات التكرار والروتين

العادة، التي تمثل الدوران في حلقة مفرغة من السلوك والتفكير، تحتاج إلى استراتيجية منهجية لكسرها، عبر ممارسة فعل واعٍ متكرر يقتحم هذا الروتين، ويمارس فيه حرية الاختيار لا الإجبار.

يُعدُّ إدخال الوعي النقدي في الحياة اليومية وتشكيل عادات جديدة قائمة على الفعل المقصود هو الطريق إلى التحرر. كما أكدت حنّة أرندت على أهمية الفعل في إحداث تغيير جوهري، حيث إن الفعل ليس مجرد حركة، بل هو إعلان وجود إنساني مميز.

3. إعادة تعريف الحرية

الحرية ليست غياب القيد فقط، بل هي القدرة على اتخاذ القرار الواعي المبني على الفهم الكامل للشروط المحيطة، وتحمل المسؤولية الكاملة عنه.

وهنا أقول: الحرية ليست فراغًا من القيود، بل هي ممارسة مستمرة لإعادة كتابة قواعد اللعبة التي وُضعت لك.

4. بناء وعي نقدي متعدد الأبعاد

ينبغي أن يتخطى الوعي النقدي حدود الذات الفردية إلى البنى الاجتماعية والثقافية والسياسية، فيكون نقدًا شاملًا يواجه الموروثات الاجتماعية التي تُكرس الصدفة والعادة.

5. الفعل الاجتماعي والتغيير المؤسساتي

التحرر الفردي لا يكفي، بل يجب أن يترافق مع فعل اجتماعي يغيّر الهياكل التي تكرّس الصدفة والعادة، سواء في التعليم، أو الثقافة، أو السياسة. هذا يتطلب وعيًا جماعيًا ومبادرات منظمة ومستمرة.

الخاتمة

إن البحث في ثنائية الصدفة والعادة يكشف عن عميق مأزق الوعي الإنساني بين فرضيات لا اختيار فيها وأفعال متكررة لا نقد لها. ففي الصدفة، يولد الإنسان داخل إطار لا يختاره، وفي العادة، يُكرّس هذا الإطار بأفعال مألوفة تعوق الحرية الحقيقية.

لقد بينّا من خلال الاستشهاد برؤى الفلاسفة العراقيين والعالميين أن هذه الثنائية ليست مجرد ظاهرة اجتماعية، بل هي بنية وجودية عميقة تُعطل الفعل الإنساني الواعي، وتجعل الإنسان أسيرًا لدائرة مفرغة من التكرار والجمود. لكن لا يعني هذا اليأس، بل على العكس، إنّ إدراك هذه الحقيقة هو الخطوة الأولى نحو التحرر. فالوعي النقدي، وممارسة الفعل الواعي، وإعادة تعريف الحرية، هي مفاتيح كسر القيد المزدوج، وبناء ذات حرة قادرة على صنع التاريخ بدلاً من أن تكون مجرد تابع له.

كما أقول: لا يكفي أن تُولد، بل يجب أن تعيش بإرادة، لا أن تموت وأنت نسخة من صدفة وعادة.

ولذلك، فإن الدعوة إلى إعادة قراءة البدايات، ومساءلة النهايات، ورفض الاستسلام للموروثات الجامدة، هي مشروع إنساني لا يقل أهمية عن أي مشروع تحرري آخر. في الختام، يظل الفعل الإنساني الحر أملًا متجدّدًا، يتطلب الشجاعة والإرادة، لكنه وحده الذي يُحرّر الإنسان من أسر الصدفة والعادة، ويفتح أمامه آفاقًا رحبة من الإمكانيات اللامحدودة

***

الكاتب: سجاد مصطفى حمود

 

دعائم لبناء الأمة والدولة

إنّ التسامح واللاعنف مفهومان أخلاقيان وإنسانيان عميقان، لا يمكن لأي مجتمع أن يبلغ رٌقيّه وآستقراره دون أن يجعلهما من أسسه الفكرية والسلوكية، وقد تجلى هذان المفهومان بوضوح في مسيرة عدد من الشخصيات التأريخية العظيمة، من بينهم السيد المسيح عليه السلام وعلي بن أبي طالب عليه السلام والمهاتما غاندي وغيرهم، الذين جعلوا من التسامح واللاعنف ليس فقط مباديء شخصية، بل أدوات للتغيير الاجتماعي والسياسي.

السيد المسيح.. التسامح جوهر الرسالة 

جاء السيد المسيح عليه السلام، برسالة محورها المحبة، فدعا الى التسامح حتى مع الأعداء، وقال عبارته المشهورة: (أحبوا أعدائكم، باركوا لا عنيكم). فلم يكن التسامح عند المسيح مجرد تغاض عن الأذى، بل كان موقفا واعيا يعكس قوة داخلية ترفض الرد على العنف بالعنف. وقد قدّم المسيح نموذجاً حيّاً حين سامح من أساؤوا إليه، حتى وهو على الصليب، فقال كما جاء في الكتاب المقدس:( ياأبتاه، إغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون) (أنجيل لوقا 23: 34). هذا النموذج من التسامح يُرسخ ثقافة السلام، ويمنح المجتمعات القدرة على تجاوز الكراهية والعنف والإنتقام، وهي عناصر مدمّرة لأية أمة ناشئة أو قائمة.

ففي قلب رسالة السيد المسيح كانت المحبة والتسامح، لا كدعوة نظرية بل كممارسة واقعية حتى في أحلك اللحظات. فقد واجه المسيح العنف بالمغفرة، وردَّ الإساءات بالدعاء للغفران، مُعلَّماً أتباعه أن العدواة لا تُقهر بالإنتقام، بل بالمحبة. حين قال:( أحبوا أعدائكم) (متي 5:44). كان يُرسّخ مبدأً قلبياً وإجتماعياً مضاداً لثقافة الثأروالرد بالمثل، ناهيك عن دعوته لعدم مقاومة الشر بالشر، بل قوله: (بأن يدير الإنسان خدهُ للآخر) ( متي 5:39). هذا الفكرلم يكن ضعفاً، بل قوة روحية وأخلاقية تدفع نحو تحوّل في السلوك الإجتماعي، وتعزيز قدرة المجتمعات على تجاوز الأحقاد وبناء سلام دائم.

الإمام علي بن أبي طالب .. العدالة والتسامح سلوك الحاكم والمواطن

يُعد الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام نموذجاً فريداً للتسامح والعدالة واللاعنف في الإسلام، ففي سيرته السياسية والاجتماعية، يتجلى منهج فريد يوازن بين العدل الصارم والرحمة الواسعة. رغم خوضه معارك فرضتها عليه الفتنة الداخلية بعد توليه الخلافة، فإن الإمام علي رفض آستخدام العنف كوسيلة للإستئصال، بل مراراً أكد على ضرورة إقامة الحجة أولاً، وإعطاء الفرص للتراجع والحوار، من كلماته المشهورة في وصف أهل البغي: (إخوانُنا بغوا علينا). فهو لم يخرج خصومه من دائرة الأخوة الإسلامية، رغم أنهم رفعوا السيف في وجهه.

كما كان الإمام علي، يوصي بعدم الإعتداء، حتى في لحظات الحرب، فقال: (لا تقتلوا مُدبراً، ولا تُجهزوا على جريح، ولا تهيجوا النساء، وإن شتمن أعراضكم وسببن أمراءكم). (خطب الإمام علي، نهج البلاغة، ج3).

ففي رسالته الشهيرة الى الوالي مالك الأشتر عندما ولّاه على مصر، رسم نموذجاً للحكم الإنساني العادل، مقولته المشهورة:( الناس صنفان؛ إما أخُ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق). بهذا المعنى، جعل الإمام علي، التسامح والعدل، ليس فقط مبدأً دينياً، بل أساساً لحكم الدولة وتنظيم المجتمع، مانعاً التحوّل الى سلطة قمعية أو إنتقامية، حتى مع المخالفين.

غاندي.. اللاعنف فلسفة التغيير ووسيلة للتحرر

في العصر الحديث، برز المهاتما غاندي كرمز عالمي لللاعنف (أهيمسا) (وتعني الرحمة وعدم الأذى في الهندوسية والبوذية)، مستلهماً أيضاً من تعاليم الديانات الكبرى، بما فيها اليهودية والمسيحية والإسلام، وبقية الديانات الاخرى. إذ رأى غاندي أن اللاعنف ليس ضعفاً، بل هو سلاح الأقوياء في وجه الظلم، فقاد حركة إستقلال الهند من الإستعمار البريطاني عبر المقاومة السلمية، مستخدماً العصيان المدني والاحتجاجات غير العنيفة. كان غاندي يؤمن بأن اللاعنف لا يُغيّر فقط مواقف الخصم، بل قلوب الناس ويُعيد تشكيل الوعي الجماعي نحو السلام والمصالحة. لقد أعاد تعريف النضال السياسي ليكون مبنياً على الأخلاق والكرامة الإنسانية. 

فضلاً عن، فقد أخذ المهاتما غاندي من تعاليم المسيحية والإسلام والهندوسية، كذلك من بعض الديانات الأخرى الكثير من القيم والتعاليم، وبلور فلسفة متكاملة تقوم على اللاعنف وقوة الروح في مواجهة الظلم، حيث رفض غاندي أن يتحول نضال الإستقلال الهندي الى عمل دموي، فأصر على المقاومة السلمية، مؤمناً بأن التغيير الحقيقي لا يكون من خلال السلاح، بل من خلال صبر الشعوب وإيمانها بالحق. ومقولته المشهورة:(اللاعنف هو أعظم قوة متوفرة للبشرية. إنه أقوى من أقوى سلاح دمار إخترعه الإنسان). لم يواجه غاندي الإستعمار فقط، بل واجه التحزّب الداخلي والطائفية، وسعى لبناء وطن يتسع للهندوس والمسلمين والمسيحيين معاً. فإن فكرته عن اللاعنف كانت شاملة، تمتد الى العلاقات بين الأفراد كما في السياسات بين الدول.

 التسامح واللاعنف لبناء الأمة والدولة

تأريخياً، لم تنهض أي دولة عظيمة إلا بعد أن آنتصرت على أزماتها الداخلية عبر التسامح والعدالة، لا بالبطش والقهر. ويمكن أن نشير الى عدد من الأفكار، التي تنهض بالأمة والدولة، ومنها: 1/تعزيز الإستقرار المجتمعي: فالمجتمعات المتسامحة أقل عرضة للإنتقام الطائفي أو العرقي، لأنها تقوم على آحترام الآخر والإعتراف بالتعددية. 2/ تمتين اللحمة الوطنية: فحين يسود التسامح، تنحسر الكراهية والإنتقام، ويتعزز الإنتماء الوطني على حساب الولاءات الضيقة. 3/ الإرتقاء بالخطاب السياسي: اللاعنف يُغيّر قواعد اللعبة السياسية، فيجعل من الحوار وسيلة لحل النزاعات بدلاً من العنف والإقتتال. 4/بناء مؤسسات عادلة: الأمم التي تتبنى اللاعنف تُنشيء مؤسسات قادرة على تطبيق القانون بعدالة، مما يعزز الثقة بين المواطن والدولة. 5/ تغذية ثقافة التنمية: إذ لا يمكن تحقيق تنمية مستدامة في بيئة يسودها العنف. السلام هو الشرط الاساسي لإزدهار الإقتصاد والتعليم والصحة والمرافق الاخرى. 6/التماسك الاجتماعي: فالتسامح يعيد لُحمة النسيج الاجتماعي، ويمنع تشظي المجتمع الى طوائف وفئات متناحرة. 7/ إرساء العدل والإنصاف: اللاعنف والتسامح يقودان الى إنشاء مؤسسات عدلية متوازنة ترفض التحيز، وتحترم الإنسان كقيمة. 8/ تقدُّم الثقافة السياسية: حين تصبح المعارضة والمخالفة مقبولة في إطار سلمي، تتطور الديمقراطية ويتعمّق الحوار. 9/ الاقتصاد والتعليم: المجتمعات المتصالحة تُركّز على البناء لا الصراع، ما يتيح لها التفرغ للتنمية والنمو. 10/ منع عودة الإستبداد: الأمم التي تؤمن بالعدالة والتسامح تُراقب السلطة وتمنعها من الإنزلاق الى التسلط.

 إن أثر ما تقدم يأتي في بناء الأمة والدولة عظيم، فممارسة التسامح واللاعنف داخل المجتمع يُفضي الى فوائد جوهرية كثيرة. إذ لا يكفي أن يبقى التسامح واللاعنف مجرد قيم روحية أو فلسفية، بل ينبغي أن تتحول الى سياسات تعليمية وتربوية، تُغرس في الأجيال منذ الصغر، وتُكرّس في الإعلام والقوانين والمناهج الدراسية.

إرث يتجدد

إنّ في كل حضارة أو نهضة إنسانية حقيقية، يقف مبدأآن كقواعد أخلاقية راسخة لبناء الأمم وتماسك المجتمعات، فالتسامح واللاعنف؛ هما ليسا مجرد فضيلتين أخلاقيتين، بل أداتان فعّالتان لإحداث تغيير إجتماعي، ونقل المجتمعات من دائرة الصراع الى رحاب التعايش، ومن فوضى العنف الى سلم البناء. وقد تجسدت هذه المباديء على ألسنة وسلوكيات شخصيات عظيمة في التأريخ، كما أشرنا، مثل السيد المسيح عليه السلام، والإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، والمهاتما غاندي، كلّ من زاويته الدينية والفكرية، لكن جميعهم آجتمعوا على نبذ العنف وتعزيز قيم العدالة والسلام.

لذا فالتسامح واللاعنف ليسا من بقايا التأريخ، بل إرث روحي وإنساني يتجدد في كل عصر. فمن السيد المسيح الذي غفر للكثير، الى الإمام علي الذي حكم فعدل وسامح، الى غاندي الذي قاوم بالسلام لا بالسلاح، نجد خيطاً أخلاقياً يريط هؤلاء الرموز، ويُعلّم البشرية كيف تبنى دولها وأممها بالرحمة والعدل لا بالكراهية والعنف.

ففي عصر تتزايد فيه النزاعات والهويات القاتلة، يصبح من الضروري العودة الى هذه القيم، لا كترف فلسفي، بل كخيار واقعي لا غنى عنه في سبيل السلام والنهضة. مما يتضح أن التسامح واللاعنف ليسا ضعفاً، بل قمة القوة والوعي، والأمم التي تريد أن تنهض من رماد الصراعات، وتبني دولة عادلة مزدهرة، لا غنى لها عن السير في هذا الطريق الأخلاقي العميق، الذي لا يُثمر إلا في بيئة تُقدّر الإنسان كقيمة عليا.

***

د. عصام البرّام

تكشف الارقام الاخيرة الصادرة عن وزارة التربية العراقية عن خلل هيكلي عميق في نظامنا التعليمي، حيث سجل 171 طالبا في الفرع العلمي معدل 100%، بينما حصل 1349 طالبا على معدل اكثر من 99% . هذه النتائج غير الطبيعية ليست مجرد ارقام، بل تعد مؤشرا صارخا على هيمنة ثقافة الحفظ والتلقين على حساب الفهم والتحليل النقدي، مما ينعكس سلبا على جودة التعليم ومخرجاته. 

هذه المعدلات المرتفعة بشكل لافت لا تعكس بالضرورة تميزا حقيقيا في الفهم او الابداع، بل تكشف عن خلل في نظام التقييم الذي يكافئ الحفظ الالي للمعلومات دون اختبار القدرة على التحليل او التطبيق العملي. والنتيجة؟ تعليم ينتج متعلمين سلبيين، يعتمدون على التكرار بدلا من التفكير، ويبرعون في استرجاع المعلومات دون تمكن حقيقي من توظيفها في حل المشكلات او الابتكار. 

هذه الظاهرة لا تقتصر اثارها على القطاع التعليمي فحسب، بل تمتد الى سوق العمل والمجتمع ككل، حيث يفتقد الخريجون المهارات الاساسية التي يحتاجها العصر، مثل التفكير النقدي، الابداع، والعمل الجماعي. فهل يمكن بناء مستقبل تنموي على اساس تعليم يعتمد على التلقين والحفظ؟ السؤال يبقى مطروحا، والاجابة تتطلب اصلاحا جذريا يبدا من مراجعة المناهج، طرق التدريس، وانظمة التقييم.

 كيف يحول التلقين الطلاب الى الات استظهار؟ 

يتجلى الفشل الذريع لمنهج التلقين في كل مناحي حياتنا، بدءا من ضعف الابداع وصولا الى العجز عن مواكبة العصر. فهل يعقل ان يظل طلابنا غرباء عن مفاهيم مثل العولمة، الثورة الرقمية، او حتى العمل الجماعي والبحث العلمي النزيه؟ الادهى من ذلك، ان الاساليب التعليمية السائدة لا تنتج سوى طلابا سلبيين، يعتمدون على الحفظ الاعمى، ويخضعون للافكار الجاهزة دون تمحيص، مما يجعلهم فريسة سهلة للتلاعب السياسي او الطائفي. 

لقد تحولت المناهج الدراسية الى مجرد حشو للمعلومات، دون مراعاة لسن الطلاب او اهداف التعلم الحقيقية. والمدرس، بدوره، لم يعد سوى ناقل للمعرفة، بينما تحول الطالب الى وعاء فارغ يملا بالحقائق (او الخرافات) دون فهم او تحليل. حتى الامتحانات صارت تقيس قدرة الاسترجاع، لا الفهم او الابداع، مما عزز ظاهرة "التفوق الوهمي" القائم على الحفظ المؤقت. 

هل الحفظ مرفوض تماما؟ 

لا ينكر احد اهمية حفظ بعض الاساسيات، كالقوانين العلمية او النصوص الادبية، لكن المشكلة تكمن في جعل الحفظ غاية لا وسيلة. ففي عصر غوغل والذكاء الاصطناعي، لم يعد تخزين المعلومات هو التحدي، بل تحليلها وتوظيفها. فالحاسوب يتفوق على الانسان في الحفظ، لكنه يعجز عن الابداع او النقد، وهنا تكمن قيمة التعليم الحقيقي. 

امتحانات بلا معنى عندما يصبح الـ 99% نقمة 

يعاني نظام القبول الجامعي من تشوهات كبيرة، حيث تحول الى سباق محموم نحو الدرجات، دون اعتبار للمهارات او الابداع. فكيف يمكن لفرق 1% ان يحدد مستقبل طالب بين الطب والهندسة؟ هذا النظام يفرز خريجين متشابهين في الحفظ، مختلفين في المواهب، مما يفاقم ازمة البطالة ويضعف سوق العمل. 

 بديل ممكن يعزز التفكير النقدي 

التفكير النقدي ليس ترفا، بل ضرورة لبناء مجتمع قادر على التطور. فهو يعني تحليل الافكار، ومساءلة المسلمات، واتخاذ القرارات بناء على الادلة، لا على التلقين. ولتحقيق ذلك، نحتاج الى: 

1. اعادة هيكلة المناهج: بحيث تركز على الفهم بدل الحفظ، وتدمج مهارات مثل التحليل والنقد. 

2. تغيير اساليب التقويم: باستبدال الاسئلة النمطية باخرى تحفز الابداع والتحليل. 

3. تمكين المعلمين: عبر تدريبهم على اساليب تعليمية تفاعلية، تشجع الحوار والنقاش. 

4. تقليل الاعتماد على الامتحانات: بادخال مشاريع عملية وتقويم مستمر. 

5. ربط التعليم بسوق العمل: من خلال التركيز على المهارات الحياتية والقدرات الابداعية. 

تعليم يبني عقولا، لا يخزن معلومات 

الارقام الصادرة عن وزارة التربية ليست مؤشر فخر، بل صفعة تستدعي الصحوة. فالتعليم ليس عملية نقل للمعرفة، بل اشعال لشعلة التفكير. والمسؤولية الان تقع على عاتق القائمين على المنظومة التعليمية لاحداث ثورة حقيقية، تنتقل بالعراق من دوامة التلقين الى فضاء الابداع والتحرر الفكري. فهل نستحق ان نحلم بمستقبل افضل؟ من اصرارنا على التعلم والتطور، ومن قدرتنا على تجاوز التحديات.

***

ا. د. محمد الربيعي

 

لطالما كان هناك اهتمامٌ في الثقافة الغربية بـ"الشخصيات الوطنية" "national characters". وكان هذا الاهتمام، في معظمه، جوهريًا، انطلاقًا من الاعتقاد بوجود ما يُسمى، موضوعيًا، بـ"الأمم"، وأنها منفصلة ومتميزة عن بعضها البعض، وأن كلًا منها يتميز بطابعه الخاص، وأن هذه الشخصية يمكن تحليلها من خلال النشاط الثقافي لتلك "الأمة" “nation’s”.

وخلال القرن العشرين، ترسخت مقاربةٌ نقديةٌ أكثر. ففي مجال الأدب المقارن تحديدًا، أصبح يُدرس الاختلاف الثقافي من حيث المواقف والتصورات لا من حيث الجوهر. ويُنظر إلى الجنسية و"الثقافات الوطنية" national cultures" الآن على أنها أنماطٌ للتعريف لا من حيث الهويات. لا شك أن هذه التصورات والتعريفات تؤثر تأثيرًا عميقًا على الممارسات الثقافية والاجتماعية، ولكن إذا أردنا تحليلها بروحٍ نقدية، فيجب اعتبارها مفاهيم ذاتية لا من حيث الجوهر الموضوعي.

نشأ التخصص في الأدب المقارن، الذي يدرس العلاقات بين الثقافات من حيث التصورات المتبادلة والصور والتصورات الذاتية، في فرنسا، حيث تبلورت منهجيته في خمسينيات القرن الماضي تحت اسم "علم الصورة" imagologie. وبينما قوبل هذا التخصص برفض من جانب نقاد الأدب ذوي التوجه الجمالي، لا سيما في الولايات المتحدة، إلا أنه حافظ على قاعدة راسخة من الأتباع في أوروبا، ولا سيما في ألمانيا (حيث اعتُبرت الدراسة النقدية للهوية الوطنية وتفكيك القومية مهمةً فرضتها أخطاء الماضي القريب). وقد لعب المقارن البلجيكي "هوغو دايسيرينك" Hugo Dyserinck الذي عمل في "جامعة "خن" university of Aachen دورًا رائدًا في هذا المجال.

وحظي علم الصورة  Imagology بدفعة إضافية من خلال بدء علماء الأنثروبولوجيا وعلماء النفس الاجتماعي، في تلك العقود نفسها، في انتقاد إرثهم العرقي والجوهري. فعلى سبيل المثال، قدمت مجلة "علم نفس الشعوب" psychologie des peuples تحليلات نقدية مثيرة للاهتمام للهوية الوطنية كصور ذاتية جماعية.

برزت دراسات الصورة في السنوات الأخيرة مع عودة ظهور القومية، وبشكل أعم، "سياسات الهوية" identity politics وفي ظل مناخ أكثر انفتاحاً على دراسة الطبيعة المُشكَّلة خطابياً للعديد من القيم الاجتماعية والثقافية.

هناك سلسلتان أكاديميتان مُخصصتان لعلم الصور: "Studia Imagologica" دراسة علم الصور. تحرير هوغو دايسيرينك ويوب ليرسن، ونشرتها دار بريل للنشر. Edited by Hugo Deiserink and Joop Leersen, published by Brill. و"Studien zur Komparatistischen Imagologie" دراسات في علم الصور المقارنة. تحرير إلكه مينرت وهوغو دايسيرينك، ونشرتها دار فرانك وتيمي Edited by Elke Meinert and Hugo Deiserink, published by Frank & Temi.

النظرية الكوزموبوليتانية

وفقاً لأستاذ الأدب المقارن الأمريكي "جوناثان كولر" Jonathan Culler تتضمن النظرية "علاقات معقدة من نوع منهجي" تتحدى التفكير وتُعيد توجيهه "في مجالات غير تلك التي تنتمي إليها ظاهرياً". ومن هنا جاء وجود أنواع مختلفة من النظريات في النقد الأدبي، ومن ثمّ استخدام النظرية الأدبية في مجالات أخرى، مثل تاريخ الفن. يمكن للحجج المستخدمة في النظريات المتعلقة بمجالات معينة أن تكون، وقد أثبتت ذلك، مُنيرة للذهن، وبالتالي مُثمرة لمن لا يدرسون تلك المجالات. يُعد مفهوم الفيلسوف واللغوي الروسي "ميخائيل باختين" Mikhail Bakhtin للكرونوتوب مثالًا معروفاً على هذا النقل:

سنُطلق اسم الكرونوتوب "الزمان والمكان" chronotopeعلى الترابط الجوهري للعلاقات الزمنية والمكانية المُعبَّر عنها فنياً في الأدب. يُستخدم هذا المصطلح "الزمكان" في الرياضيات، وقد أُدخل كجزء من نظرية النسبية لأينشتاين. أما معناه الخاص في نظرية النسبية، فليس مهمًا لأغراضنا؛ فنحن نستعيرها للنقد الأدبي كاستعارة تقريباً.

لقد قدّم العديد من المنظرين على مر الزمن أعمالًا محورية للباحثين الأدبيين: سواء كانوا فلاسفة، مثل "والتر بنيامين" Walter Benjamin أو "جوديث بتلر" Judith Butler أو محللين نفسيين، مثل "سيغموند فرويد" Sigmund Freud أو "جاك لاكان" Jacques Lacan أو علماء سيميائيين مثل "جوليا كريستيفا" Julia Kristeva أو "أمبرتو إيكو"  Umberto Eco أو علماء أنثروبولوجيا مثل "كلود ليفي شتراوس" Claude Lévi-Strauss أو "أرجون أبادوراي" Arjun Appadurai فقد كان لهم جميعاً تأثير كبير على الاتجاهات الجديدة والمتنوعة التي سلكها النقد الأدبي على مدى أجيال. وقد ساعد تفكيرهم تطور الآخرين على التقدم، مع أن منهجهم لم يكن بالضرورة أدبياً، لأنهم تحدوا المفاهيم الشائعة وركزوا على جوانب كانت قد أُهملت حتى سلّطوا الضوء عليها وتم اعتبارها ذات صلة بالتخصص.

تُمدّنا النظرية بالأدوات المفاهيمية التي نُنظّم بها أفكارنا حول المواضيع قيد البحث. فهي تُتيح فهماً مُعمّقاً للعناصر المُختلفة التي تُكوّن سرداً مُعيّناً، وتُوفّر منهجاً جدلياً. في الواقع، يرتبط تعريف المناهج بتحديد نظريات مُحدّدة تُساعد في تحديد الأهداف والمعايير. ولأنّ النظرية مُتعدّدة التخصصات، وتحليلية، واستكشافية، فإنّ لها آثاراً عملية، تُمكّننا، على وجه الخصوص، كمُقارنين، من مُقاربة المسائل الأدبية من منظورات جديدة، مُشكّكين في الافتراضات المُتعلّقة بالخطاب، والمعنى، والهوية، وغيرها، ومُستكشفين ظروف إنتاج النصوص. وكما هو مُعرّف تاريخياً، فإنّ النظرية تُؤثّر أيضاً على التطوّر الفكري في عصرها.

نشأت نظريات الأدب المُقارن من الاستجابات اللغوية والتخصصية للضغوط السياسية في القرن التاسع عشر، وتطورت فعلياً في القرن العشرين بعد أن اشتعلت الحروب ليس فقط بين الجيران الأوروبيين بشكل مُنتظم، بل على نطاق عالمي أيضاً. ثمّ أُجريت مُقارنات بين الآداب المُختلفة بروح من فهم الأمم لأنفسها بشكل أفضل واكتشاف الآخرين. وكانت أهدافها إنسانية.

وُلدت التصويرية من رحم هذه المساعي البناءة. وبتسليطها الضوء على الحاجة إلى فهم أعمق للديناميكيات بين الذات والآخر، أتاحت التصويرية إمكانيات جديدة للتعرف على مصادر وعواقب الأفكار المسبقة وضعف التواصل داخل الحدود وخارجها. وفي ظل السياق الحالي لتدفقات الهجرة والتغيرات المجتمعية، ومع تصاعد النزعات القومية مؤخراً والمطالبات العالمية من النساء والأقليات بالاحترام والعدالة، يبدو من المناسب دراسة النظريات التي تُغذي مجال علم الصور اليوم.

مبادئ علم الصور

يُحلل "علم الصور" imagology المعروف أيضاً بدراسات الصور، التمثيلات الثقافية العابرة لمختلف الأمم والجماعات في الأدب والسرد والبلاغة. ويُقدم تحليلاً نقدياً للصور والقوالب النمطية، المعروفة أيضاً في هذا المجال باسم الصور النمطية في الأدب وأشكال التمثيل الثقافي الأخرى. لطالما كان تصوير الآخر حاضراً في سرد القصص منذ العصور القديمة ولأغراض مختلفة. ويهدف علم الصور إلى استكشاف كيف يُمكن لجماعة ما، من خلال أفرادها عادةً، أن تُصوّر من تعتبرهم غرباء، وما يكشفه ذلك عن نظرة الجماعة لنفسها، ومصدر هذه الصور، وما إذا كانت تُستخدم بشكل متكرر (وربما يُساء استخدامها) ولأي تأثير.

يُعتبر الموقف السائد في التفاعل الثقافي هو التمركز العرقي، وتبدو الجوانب التي تختلف عن الأنماط المعروفة داخل وخارج النطاق المحلي غريبة بطبيعة الحال. وغالباً ما تُحفّز المفاهيم الخاطئة بشأن الاختلاف الثقافي الاعتقاد بأن للأمم والجماعات خصائصها الخاصة، وأنها ليست متساوية في قيمتها. ويهدف علم الصور إلى دراسة العمليات التي تُؤدي إلى بناء هذه الشخصيات. لدراسة كيفية إدراك الهويات الجماعية وإعادة صياغتها في مختلف الأنواع الأدبية، يتعمق علم الصور في نظريات مختلفة، مستعرضاً مفاهيم تتعلق بمجالات التاريخ، وعلم النفس، وعلم الاجتماع، والإثنولوجيا، واللغويات. ويُظهر كيف تُنشأ الصور النمطية من خلال صياغتها انطلاقاً من الأعراف والتصورات المرتبطة بالمجتمعات ولغاتها. ويُحلل علم الصور النمطية الذاتية الكامنة في جذورها، بالإضافة إلى تنوعها. يُعرّف المؤرخ الثقافي الهولندي "جويب ليرسن" Joep Leerssen الصور النمطية بأنها تشير إلى العقليات الجماعية التي تُهيئ مجتمعات معينة لأنماط سلوكية معينة.

بُنيت مبادئ علم التصوير بمرور الوقت على يد مفكرين من خلفيات ثقافية مختلفة، معظمهم من أوروبا. ولغاية النصف الثاني من القرن العشرين، ظلت المعتقدات التبسيطية في الشخصيات الوطنية منتشرة على نطاق واسع، على الرغم من وفرة كتابات الرحلات - وفي بعض الحالات، بسببها. لقد سيطرت على التمثيلات الأدبية للمجموعات الثقافية، التي تجسدها أحياناً شخصية واحدة. وقد تم التشكيك في هذه الممارسة المقبولة عموماً في بعض الأحيان، ولا سيما من قبل فلاسفة التنوير، وكان بعضهم أيضاً كتاباً مثل الفيلسوف والكاتب الفرنسي "جان جاك روسو" وأيضاً بمرور الوقت، من قبل شخصيات غير أدبية، مثل المراسل والكاتب الأمريكي "والتر ليبمان" Walter Lippman الذي حلل هذا الاتجاه في كتاب بعنوان "الرأي العام" Public Opinion, نُشر عام 1922، متسائلاً عن آثار التصورات التي تؤثر على السلوك الفردي بينما تمنع التماسك الاجتماعي الأمثل. وفي مجال النقد الأدبي، مهد بعض العلماء الطريق أيضاً لفهم عميق ومركب للشخصيات الوطنية. قبل صدور كتاب ليبمان مباشرة، أسس أستاذ الأدب المقارن الفرنسي "فرناند بالدنسبيرغر"  Fernand Baldenspergerو"بول فان تيغم" Paul Van Tieghemو"بول هازارد" Paul Hazard في فرنسا مجلة الأدب المقارن، وقدموا دراسات مرتبطة بتاريخ الأفكار، ركزت على الصور بين الثقافات.

الجوهرية القومية

ومع ذلك، لم يبدأ نبذ الجوهرية القومية بجدية إلا بعد الحرب العالمية الثانية. وقد أدى ذلك إلى تحليل تفكيكي لخطاب التوصيف الوطني كما هو موجود في النصوص الأدبية. منذ عام 1947 سلّطت دراسات أستاذ الأدب المقارن الفرنسي "جان ماري كاريه" Jean-Marie Carré للصور الأدبية للدول الأجنبية الضوء على التفاعلات الجوهرية بين السياسة والأدب. وتبعه زميله الفرنسي "ماريوس فرانسوا غويارد" Marius-François Guyard في مقاله "الغريب كما يراه" L’étranger tel qu’on le voit عام 1951 الذي أكد فيه على صور الأجانب كتصورات ذاتية متأثرة بسياقات تاريخية قابلة للتحديد. وبالاعتماد على مجالات أخرى لدراسة التمثيل الأدبي، تجاوز كاريه وغويارد معاً بشكل نقدي نقطة تحول نظرية.

وهكذا، منذ البداية، كانت دراسات الصورة في جوهرها متعددة التخصصات. وقد رُفض هذا النهج بسرعة وبقوة من قِبل شخصيات مرموقة مثل الناقد الأمريكي التشيكي "رينيه ويليك" René Wellek الذي استنكر وجهات النظر الاجتماعية التاريخية أو السياسية التي تُعتبر "دمجاً للثقافة الأدبية في علم النفس الاجتماعي والتاريخ الثقافي". وكان لهذا الخلاف دورٌ أساسي في الخلاف الذي نشأ بين باحثي الأدب المقارن في أوروبا والولايات المتحدة، حيث كانت هناك مقاومة شديدة لإدخال النظريات غير الأدبية في النقد الأدبي - وهو ما تغير بالطبع لاحقاً مع الدراسات الثقافية. في غضون ذلك، ازدادت أهمية التاريخ الثقافي وعلم النفس الاجتماعي في دراسات الصورة الأوروبية.

مع عمل هوغو دايسيرينك (ومدرسته في آخن للدراسات التصويرية، منذ أواخر الستينيات)، تم السعي بنشاط لتحقيق ما بدأه كاريه وغويير، وتطور علم التصوير نحو دراسة اجتماعية تاريخية للأبعاد الفكرية والسياسية والاجتماعية ذات الصلة بكيفية إبداع الأعمال الأدبية. وُجد أن الصور الوطنية تُعدّ بنيات خطابية تعكس الذاتيات السائدة في وقت معين - ذاتيات تُولّد التوترات الأخلاقية التي تتناولها الأعمال الأدبية. ومن المثير للاهتمام أن أول ظهور لمصطلح "علم الصور" imagology لم يكن في دراسة نظرية أدبية، بل في دورية علمية، وهي مجلة "المجلة الفرنسية لعلم النفس الشعبي" the French Revue de Psychologie des Peuples الفرنسية. ففي عدد صدر عام 1962، أعلن عالم النفس المجري "أوليفر براشفيلد" Oliver Brachfeld بعنوان "ملاحظة حول علم الصور العرقي"Note sur l’imagologie ethnique أن "علماً جديداً آخذ في الظهور هو: علم الصور" imagology. وفي عام 1964 بدأت المجلة بتقديم قسم بعنوان "علم الصور". في ذلك العام، قام المؤرخ الفلرنسي "بيير تشونو" Pierre Chaunu في كتابه "علم الصور: الأسطورة السوداء المناهضة للهسبانيين: من المارانو إلى عصر التنوير: من البحر الأبيض المتوسط إلى أمريكا" Imagologie : la légende noire antihispanique : des Marranes aux Lumières : de la Méditérranée à l'Amérique الذي نشره مركز البحوث والدراسات في علم نفس الشعوب وعلم الاجتماع الاقتصادي عام 2009، بدمج الأبعاد الجديدة والتأثير والخيال في مجال بحثه: علم النفس المعرقي.

أثبتت هذه الجوانب أهميتها البالغة لدى أحد أبرز علماء التصوير في ثمانينيات القرن العشرين الأستاذ الإسباني للأدب المقارن "دانيال هنري باغو" Daniel-Henri Pageaux الذي دعا إلى دراسة صورة الآخر تحديداً من خلال المخيال الاجتماعي، المُعرّف بأنه البعد الإبداعي والرمزي للعالم الاجتماعي، البُعد الذي يُنشئ من خلاله البشر أساليب عيشهم معًا وطرق تمثيل حياتهم الجماعية. ووفقاً لباجو تنشأ جميع الصور من وعي بذات واحدة في علاقة مع آخر، ووعي بـ"هنا" في علاقة مع "مكان آخر". تُظهر هذه الصور تبايناً كبيراً بين نوعين من الواقع الثقافي، ولذلك يُفترض أن الصور الثقافية تقوم على فرضية ثنائية القطب: الهوية مقابل الآخرية.

دافع باغو عن تاريخ الأفكار كأداة تُتيح إدراك كلٍّ من الآراء العامة، التي تُطوّر الصور وتُشرّع منها، ودورها في توجيه صداها العاطفي والأيديولوجي. لذا، فإن دراسة صورة ما تعني إثبات توافقها (أو عدم توافقها) مع نموذج قائم في ثقافة المجموعة التي تدرس صورة أخرى. كما أنها تتضمن فهم ما يجعلها مطابقة أو مختلفة عن الصور الأخرى للمجموعة نفسها. تؤدي هذه الخطوات إلى تحليل الخطاب حول الآخر، والذي يكشف في النهاية عن الذات. في الواقع، يتجلى نظام القيم في الثقافة التي تنبع منها الصورة من خلال اللغة المستخدمة للتحدث عن الآخر، كاشفاً عن موقف محدد تجاه العالم؛ إنها تُشكل "لغة ثانية" تتعايش مع اللغة المستخدمة لنقل تلك الصورة، معبرةً عن شيء مختلف عن التأكيد المقصود لأعضاء مجتمع يتشارك تلك اللغة "الأولى".

ويُضاف إلى ذلك اعتبارٌ آخر، وهو هوية القارئ، وأفق توقعاته، وردود أفعاله تجاه صور معينة. يقترح باغو أن يسأل علماء الصور أنفسهم عن هوية القراء المستهدفين لأعمال معينة، وما إذا كانت الصور قد أُدرجت فيها عمداً، ولأي غرض. إذن، ثمة علاقة مثلثية بين المرجع والصورة ومتلقيها، ويدرس علماء الصور كيفية كشف المرجع، من خلال حركة انعكاسية، عما تعكسه الصورة من استجابة المتلقي. لذا، تُقدم الجودة السيميائية للصور معانٍ مرجعية تُشير إلى لحظات تاريخية. يرى باغو أن الصور عناصر من لغة رمزية، ومن أهداف علم الصور دراسة هذا النظام الدلالي، أي الصور الثقافية.

وبهذا النهج، تُصبح القيمة الجمالية للنص ثانوية مقارنةً بالتأثير الأيديولوجي على جمهور محدد من القراء، ولإثبات هذا التأثير التاريخي، يقترح باغو أن يستند مخزون الصور إلى قوائم التكرارات المعجمية، وأن يُميز بين الكلمات المفتاحية وكلمات "الخيال" - وهي الأخيرة سمات افتراضية تُشغّل شكلاً رمزياً من التواصل، كما هو الحال في الأدب الغريب. يُحدد عدد هذه التكرارات الأفكارَ والصورَ النمطيةَ الشائعة، بما في ذلك أسماء الشخصيات المُكررة، والإشارات المكانية والزمانية التي تُحدد مواقع الصور. ويُوضّح أستاذ الأدب الألماني "مانفريد بيلر" والباحث الأدبي الهولندي "جوب ليرسن" Joep Leerssen هذا النهج على نطاق واسع في كتابهما الرائد "علم الصور: البناء الثقافي والتمثيل الأدبي للشخصيات الوطنية"

Imagology. The Cultural Construction and Literary Representation of National Characters

وعلى مستوى أكثر تركيزاً في كتاب اللغوي الأيرلندي "بادريك فريهان" Pádraic Frehan "التعليم والأسطورة السلتية: الصورة الذاتية الوطنية والكتب المدرسية في أيرلندا في القرن العشرين"

Education and Celtic Myth: National Self-Image and Schoolbooks in 20th-Century Ireland.

تاريخ علم الصور

ظهرت بانتظام منذ ثمانينيات القرن العشرين، العديد من المقالات ومجلدات المقالات، التي تُلخّص تاريخ علم الصور وفي مختلف الدول الأوروبية، وتُفضّل إما منهجية قائمة أو تقترح مناهج جديدة - مثل كتاب "إعادة النظر في علم الصور" Imagology Revisited للأكاديمي النمساوي "فالديمار زاكاراسيفيتش" Waldemar Zacharasiewicz  وكتاب "ملامح علم الصور: ديناميكيات الصور الوطنية في الأدب" Imagology Profiles: The Dynamics of National Imagery in Literature للأكاديمية الليتوانية "لورا لاوروشايتي" Laura Laurušaitė’ تُظهر هذه الأعمال اهتماماً مستمراً وتطوراً نظرياً في الدراسات التصويرية. غالبًاً ما تتضمن المجموعات الإنجليزية أعمالاً رائدة لجوب ليرسن. وقد ألهم منهجه البنائي بنجاح دراسة تمثيلات الشخصية الوطنية كموضوعات خطابية، ومجازات سردية، وشخصيات بلاغية، مؤكداً على ممارستها في الإنتاج الفني.

ولأن الصور النمطية ترتبط بمسائل الهوية، تُدرج نظريات جديدة بانتظام في التحليل التصويري. في هذا الصدد، يبرز لليرسن أيضاً، إلى جانب بارفوت وبيلر، اللذين ضمنت أعمالهما تطوير نطاق متعدد التخصصات في علم الصور، مرحبةً بأعمال علماء النفس الاجتماعي - مثل منظور عالم النفس الاجتماعي الإنجليزي "ماركو سينريلا" Marco Cinnirella للهوية الاجتماعية للصور النمطية العرقية، ودراسة عالم النفس الاجتماعي البولندي "هنري تاجفيل"    Henri   Tajfel للجوانب المعرفية للتحيز - مما ألهم الباحثين في دراسات ما بعد الاستعمار، مثل الأكاديمية الألمانية "مارغا مونكلت" Marga Munkelt والناقد الألماني "ماركوس شميتز" Markus Schmitz و أستاذ دراسات ما بعد الاستعمار الألماني "مارك شتاين"  Mark    Stein وأستاذة الأدب الإنجليزي الألمانية "سيلكه ستروه" Silke Stroh والأكاديمي السنغافوري البريطاني "ويليام تشيو" William Chew.

وفي الوقت نفسه، ظهر نقاد جدد، من بينهم أستاذة الأدب الإنجليزي الألمانية "إيمر أوسوليفان" Emer O’Sullivanالتي فتحت علم الصور والتصوير في مجال أدب الأطفال. على سبيل المثال، كتاب "الصديق والعدو: صورة ألمانيا والألمان في أدب الأطفال البريطاني من عام ١٨٧٠ إلى اليوم"

Friend and Foe: the Image of Germany and the Germans in British Children’s Literature from 1870 to the Present

وكتاب "تخيل التشابه والاختلاف في أدب الأطفال: من عصر التنوير إلى يومنا هذا"

Imagining Sameness and Difference in Children’s Literature: From the Enlightenment to the Present Day,

الذي شاركت في تحريره الأكاديمية الأمريكية "أندريا إميل" Andrea Immel

 ومقالها المؤثر "علم الصور يلتقي بأدب الأطفال" Imagology Meets Children’s Literature.

يشمل هذا النوع الأدبي عادةً كتب الصور، التي تنتمي إلى الفنون البصرية، وتُشكل مجالاً متميزاً لنشر الصور النمطية، وهي قيّمة بشكل خاص كاستراتيجيات خطابية. وقد خلق عمل أوسوليفان ديناميكية حقيقية في هذا المجال، وأضاف إليه آخرون رؤى جديدة، مثل الأكاديمية الفنلندية "ليديا كوكولا" Lydia Kokkola والأكاديمية الهولندية "سارة فان دن بوش" Sara Van den Bossche اللتين نشرتا دراسة حول المناهج المعرفية لأدب الأطفال، تقترح توسيع نطاق علم الصور من خلال العلوم المعرفية.

معجم علم الصور

إلى جانب ظهور المفاهيم وصقلها، ظهرت مع مرور الوقت مفردات متخصصة. لقد رأينا بالفعل مدى تعدد جوانب مصطلح "الصورة"؛ وبالمثل، أثبت "الصورة النمطية" أنها قضية متعددة الجوانب. فبينما يشير المصطلح عموماً إلى تصورات سلبية، تبدو الصور النمطية ضرورية للعديد من النقاد رغم محدوديتها ومخاطرها، لأنها تكشف عن قيم ومعتقدات المجموعتين، وعن العملية الأوسع التي تُفهم بها المجتمعات البشرية ذاتها من خلال التصنيف. تُقدم الصور النمطية بساطة خادعة تكشف، عند تحليلها، عن هياكل اجتماعية معقدة. يرى العالم الهندي البريطاني "هومي بابا"  Homi Bhabhaأن الصور النمطية "أنماط متناقضة من المعرفة والسلطة". وبالفعل، كما رأينا في أحداث واقعية مؤخرًا، فإنها قد تسمح بالتمييز بين المجموعات لضمان تأكيد الذات في مواجهة الآخر، مما يُشرعن الأفعال السلبية.

وبالتالي، ولإضفاء الدقة على هذه المفاهيم المحددة، تراكمت مفردات دقيقة بمرور الوقت. اقترح العالم الألماني "مانفريد فيشر" Manfred Fischer دمج مصطلحي "الصورة" و"النمطية" تحت المصطلح الأدبي "صورة النمط"، والذي ألهم لاحقاً مصطلح "الإثنوتايب"، الذي يصف تحديداً شخصية وطنية. أضاف العالم الإسباني "مانويل سانشيز روميرو" Manuel Sanchez Romero فكرة التحيز إلى تعريف "صورة النمط"، مؤكداً بذلك على أهمية الصور التي ترسخت بقوة من خلال التكرار في سياقات متنوعة. وظهرت مؤخراً مصطلحات ذات صلة، مثل "صورة النمط المرئي"، في إشارة إلى الإنتاجات التلفزيونية والأفلام.

تُوصف الصور الأدبية للفرد بأنها صور ذاتية (أو صور ذاتية وأنماط ذاتية)، بينما تُوصف صور الجماعات الأخرى بأنها صور غيرية (أو أنماط غيرية). ومع ذلك، فإن كون الصور "ذاتية" أو "غيرية" مسألة منظور، لذلك أُضيف مصطلحان آخران، وهما "المتوقع" للمجموعة الموصوفة، و"المتفرج" للمشاهد. عندما تُعرض الصفات والخصائص دون أي صلة بواقع ثقافي مُختبر، يُقال إنها مُتخيلة. تُعدّ الصور (وهي كلمة تجمع بين مفهومي "سيمات" و"ميم" و"صورة") عناصر تمثيلية متكررة، أشبه بالكليشيهات، يتجلى تواترها التناصي و"أقطابها الضمنية المركبة".

في الترجمات والاقتباسات. تعتمد هذه الصور على ما يُطلق عليه المجال خارج النص، أي التأثير المُتعمد للمؤلف على تصورات القراء، انعكاساً لبيئة أيديولوجية أو اجتماعية. أما في المجال داخل النص أو المجال الداخلي، فيُحلل التأثير الجمالي والبلاغي للصور وفقاً لموقف المؤلف، أي ما إذا كان يهدف إلى التوافق مع التوقعات أو مُعارضتها.

فيما يتعلق بموقف المؤلف، يقترح أستاذ الأدب المقارن الفرنسي "دانيال باجو" Daniel Pageaux ثلاثة مصطلحات: فيليا، وهي تتعلق بالصور الإيجابية غير المتحيزة ليس فقط لثقافة أو مجموعة أخرى، بل أيضاً لثقافة الفرد، مما يعكس كلاً من الاحترام المتبادل وتقدير الذات، بينما يتعلق الرهاب بدلاً من ذلك بالتصورات السلبية المتحيزة لثقافة أو مجموعة أخرى، ويشير الهوس إلى المبالغة في تقييم المؤلف لثقافة أو مجموعة أجنبية على حساب ثقافته، مما يحول الصورة التي يخلقها إلى سراب. واتباعاً لباجو، تقترح البرتغالية "ماريا جواو سيمويس" Maria Joao Simoes أستاذة الأدب البرتغالي المعاصر مفهوماً بين مفهومي فيليا وهوسها، وهو ما تسميه ألوفيليا. يمكن استخدامه، من ناحية، لدراسة الإلهام الإبداعي الذي يأتي إلى المؤلفين من إعجابهم بأسلاف محددين وثقافاتهم. من ناحية أخرى، يُساعد هذا على تحديد وتحليل ما تبقى من صورٍ مغايرةٍ ثقافيةٍ متوارثةٍ تاريخياً في مخيلة الأمة، وبالتالي إعادة النظر نقدياً في النصوص التي نقلت آراءً سلبيةً عن آخرٍ مُحدد، وذلك بهدف الوصول إلى رؤيةٍ مُحدثةٍ وأكثر عدلاً. ومثل أسلافها، تجاوزت سيمويس النظرية الأدبية لإيجاد مصطلحٍ يناسب غرضها. صاغ هذا المصطلح "تود بيتينسكي" Todd Pitinsky أستاذ علم النفس المُتخصص في السلوك التنظيمي. يصف هذا المصطلح موقفاً إيجابياً تجاه الجماعات الخارجية. ويُقصد به أن يكون نقيضاً للتحيز. في الوقت نفسه، يُضيف حبّ التماثل (allophilia) بُعداً جديداً لدراسة الصور المغايرة.

أساليب التحليل

وفقًا لدراسة المؤرخ الثقافي الهولندي "يوب ليرسن" Joep Leerssen "الغريب/أوروبا" Stranger/Europe فإن الهدف الرئيسي لعلم الصور هو ترسيخ التناص لتمثيل جماعة معينة كموضوع، وإثبات أن "تكوين الصورة هو، إذن، عملية إنتاج ثقافي ونقل وتبادل، وليس انعكاساً مباشراً للواقع الاجتماعي". يرى البرتغالي "ليونيل مورا" Lionel Moura في دراسة "علم الصور/الصور الاجتماعية"، أنه أثناء تحليل العناصر التي تُكوّن الصورة النمطية، تُحدد دراسات الصور ما ينتمي في جوهره إلى إبداع المؤلف. فعندما يُعيد الأدب إنتاج صور نمطية لأغراض أنانية أو حتى دعائية، على سبيل المثال، فإن عمل عالم الصور هو في غاية الأهمية التمييز بين الحقيقة والخيال لتحليل هذه الصور، والقيام بذلك بنزاهة. وبينما يُمكن استخدام تصوير جماعة لجماعة أخرى للحفاظ على تحيزاتها ونشرها، في المقابل، قد يُقوّض المؤلفون الصور التقليدية في أعمالهم بطرق مختلفة، والسخرية منها إحدى هذه الطرق.

في الوقت نفسه، تُبحث الصور النمطية بالتوازي مع سجلات الأفعال السياسية أو الأحداث التاريخية التي تشير إلى منشأ وانتشار و/أو التغيير المحتمل لمعتقدات الجماعات ومواقفها وعقلياتها - كما هو موضح، على سبيل المثال، في مقال الباحث الأمريكي "روبرت جافريك" Robert Gavrik "صورة الهند في الأدب السلوفاكي في القرن التاسع عشر" The image of India in 19th-century Slovak literature. تُظهر هذه السجلات أن الصور أصبحت مجازات مألوفة بسبب التكرار والتشابه بينها - وهي استراتيجية محاكاة تم توضيحها.

***

الدكتور حسن العاصي

أكاديمي وباحث في الأنثروبولوجيا

مفهوم الشخص أو المواطن يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالذات الواعية بفكرها، القادرة على تحمّل مسؤولياتها الأخلاقية والقانونية والمعرفية داخل حدود وطنها. وتحقيق هذا الوعي والانتماء لا يتحقق تلقائياً، بل هو ثمرة منظومة مؤسساتية تتولى الدولة رعايتها مباشرة، سواء نشأت هذه الدولة بإرادة شعبية أو تأسست بفعل ظروف تاريخية عززت مشروعيتها السياسية.

ومهما كانت ظروف النشأة، فإن بقاء الوطن وسيادته مرهونان بقدرة أفراده على بناء هوية جماعية أصيلة، وتطويرها بما يمنحها قابلية التغيير والتجدد والمنافسة في إنتاج القيم. وعندما تمتلك الدولة مؤسساتها وسلطتها، يصبح لزاماً عليها أن تتحول إلى وعاء ترابي ومؤسساتي يحتضن الجميع ويؤهلهم باستمرار. هذا النموذج التنظيمي وقفتُ على تجسيده بوضوح في التجربة الفرنسية منذ عقود.

لا يمكن بناء أمة قوية دون أسرة متماسكة ومدرسة فاعلة. فالأسرة هي "المؤسسة الأولى في المجتمع"، ودورها في التنشئة لا يقل أهمية عن دور الدولة، بل هو شريك حاسم في صياغة المستقبل، حتى في الدول غير الديمقراطية. وإذا كانت جهود الدولة المغربية في مجال البنية التحتية والمشاريع الإنتاجية تستحق التقدير، فإن الخلل الواضح يظل في الفضاء العام، حيث يغيب التناغم بين كفاءة الدولة وكفاءة الأسرة والمدرسة.

فالطمأنينة في الشارع العام، وحسن الجوار في الأحياء الحضرية والقروية، يعتمدان بشكل أساسي على جودة أداء هاتين المؤسستين. لكن الفوضى والعنف المنتشرين بين الأطفال، وضعف أو انعدام رعايتهم، يضعفان الانتماء الترابي، ويهددان النسيج الاجتماعي. نرى أطفالاً يطارد بعضهم بعضاً بعنف، أو يتعرضون للإهانة والاعتداء، ويعبثون بممتلكات الغير، فيما تنتشر الحيوانات الضالة بلا رقيب.

هذه الأوضاع تكشف غياب الإرادة الحقيقية لتعزيز المصلحة المشتركة، وفي ظل تراجع الأدوار التربوية للأسرة والمدرسة، تضيع قيم التضامن، وتتفشى الفردانية والنزاعات. النخب تنعزل في أحياء محروسة، والطبقة الوسطى تطمح للحاق بها، بينما تُترك الأحياء الشعبية للفوضى. أما المثقفون الذين يرفضون الانعزال، فيجدون أنفسهم مضطرين لإغلاق أبوابهم اتقاءً للأضرار.

إن العناية بالأسرة والمدرسة والشارع العام مسؤولية سيادية للدولة. وقد برهنت تجربة تدبير جائحة "كوفيد-19" على قدرة المغرب في فترات قصيرة على فرض النظام وضبط الفضاء العام بفعالية، كما حدث مع تعميم الالتزام بحزام السلامة المرورية. الأمثلة عديدة وتثبت أن الدولة قادرة على قيادة التغيير بحكمة إذا توافرت الإرادة.

في هذا الإطار، يمكن للمغرب أن يستفيد من التجارب الغربية الناجحة، خصوصاً التجربة الفرنسية، التي أثبتت أن الانضباط في الشارع ليس صدفة، بل نتيجة منظومة متكاملة من القوانين، والرقابة، والخدمات الاجتماعية، والتربية المجتمعية، تجعل من النادر رؤية طفل أو حيوان تائه في الفضاء العام.

فرنسا تعتمد الصرامة القانونية في حماية القاصرين، وتجرّم إهمالهم بعقوبات قد تصل إلى السجن وسحب الحضانة، مع شبكة متكاملة من العقوبات والآليات الرادعة. كما تمنع القوانين التخلي عن الحيوانات أو الإساءة إليها، وتفرض تسجيلها برقاقات إلكترونية تربطها بمالكها.

الشرطة البلدية متواجدة ميدانياً، وتتدخل فوراً عند ملاحظة أي طفل أو حيوان ضال، فيما تتولى خدمات الإنقاذ الاجتماعية (*ASE*) حماية الأطفال المهددين، وتتولى الشرطة البيئية والفرق البيطرية إيواء الحيوانات. إضافةً إلى ذلك، يُسجَّل كل طفل في النظامين التعليمي والصحي، مما يسهل التعرف عليه، وتُلزم الحيوانات الأليفة بوسائل تعريف دائمة.

منذ السنوات الأولى، يتعلم الأطفال في المدرسة والأسرة مخاطر التجوال وحدهم، وطرق طلب المساعدة. المجتمع نفسه متيقظ: أي مواطن يلاحظ حالة طارئة يبادر بالاتصال بالسلطات عبر أرقام مخصصة لذلك. لكل بلدية اتفاقات مع مراكز إيواء وجمعيات متخصصة، سواء للأطفال أو للحيوانات.

لقد ترسخ في الوعي الفرنسي، بفضل حضور الدولة القوي، أن ترك طفل أو حيوان بلا رعاية ليس فقط مخالفة للقانون، بل وصمة عار اجتماعية. وتدعمه حملات إعلامية وتوعوية وغرامات رادعة.

وخلاصة القول: المغرب يمتلك طاقات ونخباً قادرة على قيادة المجتمع المدني نحو انطلاقة جديدة. ويبقى على الدولة أن تحسم خيارها في ضبط المجتمع بما يخدم الوطن والمواطن، كما فعلت في محطات سابقة، لأن المستقبل يُصنع اليوم، في الشارع قبل المؤسسات.

***

الحسين بوخرطة

دبلوماسية روحية تصنع جسور المحبة

شكّلت الزوايا في المغرب إحدى أبرز الظواهر الدينية والاجتماعية التي وسمت التاريخ المغربي منذ العصور الوسطى. يذهب المؤرخ عبد الهادي التازي إلى أن الزوايا لم تكن مجرد أماكن للذكر أو الانعزال الروحي، بل مؤسسات تعليمية واجتماعية، لعبت دور "الجامعة الشعبية" التي تفتح أبوابها للجميع دون تمييز، حيث كان الفقراء والأغنياء يجلسون جنباً إلى جنب في حلقات العلم.

أما محمد حجي، في إطار دراسته عن “الحياة الفكرية بالمغرب”، فيرى أن الزوايا شكّلت شبكات اجتماعية معقّدة، لها أذرع تعليمية واقتصادية وسياسية، إذ كانت تملك أوقافاً تضمن استقلاليتها المالية، كما كانت تتمتع بقدرة على التوسط بين القبائل والسلطة المركزية، مستفيدة من الرأسمال الرمزي الذي يمنحه لها الانتماء إلى سلاسل صوفية معتبرة.

في هذا السياق، قدّم عبد الأحد السبتي تحليلاً معمقاً لدور الزوايا في فترات الأزمات، مؤكداً أنها شكّلت "ملاذاً اجتماعياً" عند انهيار مؤسسات الدولة أو ضعفها، كما في فترات الفتن أو التهديدات الخارجية. أما المستعرب الفرنسي هنري تيراس فقد ركّز في أبحاثه على دور الزوايا في تثبيت الشرعية السياسية، مشيراً إلى أن المخزن المغربي كان يحرص على نسج علاقات ودّ مع مشايخ الزوايا الكبرى لما لهم من تأثير في المجتمع.

من جانب آخر، أبرز إدمون دوتي أن الزوايا كانت أيضاً منصات لتعبئة الجهاد ضد القوى الاستعمارية، خصوصاً في القرن التاسع عشر، مستشهداً بحالات زوايا شمال المغرب التي لعبت أدواراً حاسمة في مقاومة التوسع الإسباني والفرنسي.

وتُعدّ الزاوية القادرية البوتشيشية، التي تأسست في القرن التاسع عشر على يد سيدي علي بن محمد البوتشيشي في منطقة مداغ بجهة الشرق، امتداداً للتيار القادري الذي أسسه عبد القادر الجيلاني في بغداد في القرن السادس الهجري. يوضح الباحث أحمد التوفيق أن البوتشيشية حافظت على جوهر المنهج القادري، لكنها أضفت عليه خصوصية مغربية تقوم على الجمع بين الالتزام بالشريعة والتدرج في التربية الروحية عبر "الصحبة" و"الذكر" و"خدمة الخلق".

يرى عبد المجيد بن جلون أن قوة البوتشيشية تكمن في خطابها المعتدل القادر على التكيّف مع مختلف الشرائح الاجتماعية والثقافية، وهو ما منحها امتداداً واسعاً خارج المغرب، لتصبح مركزاً دولياً يجذب مريدين من أوروبا وإفريقيا وآسيا.

كما لفت المستشرق ميشيل شوفالييه إلى أن البوتشيشية تبنت منذ عقود رؤية أممية، جعلتها تشارك في ملتقيات الحوار بين الأديان والثقافات، وتعرض التصوف المغربي باعتباره "رسالة أخلاقية عالمية" قائمة على المحبة والسلام. هذا البعد الأممي، حسب عبد السلام بلاجي، يعكس قدرة الزاوية على الجمع بين الأصالة التراثية والانفتاح على القضايا الكونية المعاصرة، مثل السلم، والتعايش، ومواجهة التطرف.

إضافة إلى بعدها الروحي، لعبت الزاوية القادرية البوتشيشية أدواراً اجتماعية وسياسية مهمة. وفقاً لتحليل محمد ضريف، فإنها ساهمت في نشر ثقافة السلم الأهلي في محيطها، وحاربت النزاعات القبلية، بل وحتى النزعات الانفصالية عبر تعزيز الانتماء الوطني. ويضيف ضريف أن مجالسها الروحية لم تكن مجرد حلقات ذكر، بل فضاءات لحل النزاعات بين الأفراد والجماعات، حيث كان الشيخ أو المقدم يقوم بدور الوسيط والمصلح، مستفيداً من الشرعية الدينية والاحترام الاجتماعي.

كما يشير إريك جوفروي، المتخصص في التصوف الإسلامي، إلى أن البوتشيشية تقدم نموذجاً لـ "التصوف الحي"، الذي لا يكتفي بالممارسة الروحية، بل ينخرط في قضايا التنمية البشرية وخدمة المجتمع. فقد أنشأت الزاوية، عبر شبكة مريديها، مبادرات لمحو الأمية، ودعم المشاريع الصغيرة، ورعاية الأيتام، والمساهمة في حملات الإغاثة خلال الكوارث الطبيعية، خصوصاً في المناطق الهشة اقتصادياً.

ويرى عبد السلام بلاجي أن الدور السياسي للزاوية البوتشيشية يتمثل في قدرتها على أن تكون جسراً بين السلطة والمجتمع، بعيداً عن الاصطفافات الحزبية، إذ تحافظ على مسافة واحدة من مختلف الفاعلين السياسيين، مما يمنحها مصداقية في أعين الجميع. هذا الحياد النشط مكنها من لعب أدوار هامة في فترات الأزمات، مثل التهدئة أثناء التوترات الاجتماعية، والمساهمة في تعبئة المواطنين خلال لحظات مفصلية في تاريخ المغرب المعاصر.

بينما تؤكد دراسات عبد الأحد السبتي أن حضور الزاوية في المشهد السياسي لا يتم عبر الخطاب المباشر، بل من خلال "التأثير الهادئ" القائم على بناء شبكات اجتماعية واسعة، تتجاوز الحدود الجغرافية للمغرب. هذا الامتداد الإقليمي والدولي جعلها قادرة على تقديم صورة إيجابية عن المغرب في المحافل الدولية، خاصة في مجال الحوار بين الأديان، وهو ما يتوافق مع رؤية المستشرق ميشيل شوفالييه الذي اعتبر البوتشيشية "سفيراً غير رسمي" للقيم المغربية في العالم.

وقد لعبت البوتشيشية، عبر عقود، دوراً في تعزيز الدبلوماسية الروحية، سواء من خلال استقبال شخصيات سياسية ودينية عالمية في مقرها بمداغ، أو عبر مشاركة ممثليها في مؤتمرات السلم الدولية، مما جعلها مكوناً من مكونات القوة الناعمة للمغرب، على حد تعبير الباحث الفرنسي جيل كيبيل.

وتُفسَّر الجاذبية العالمية للزاوية القادرية البوتشيشية بعدة عوامل متداخلة، دينية وثقافية واجتماعية. يشير إريك جوفروي إلى أن أهم هذه العوامل هو الخطاب الروحي المعتدل الذي يجمع بين أصالة التراث الصوفي القادري والقدرة على مخاطبة الإنسان المعاصر بلغته واهتماماته. فالزاوية لا تفرض على مريديها نمطاً ثقافياً واحداً، بل توفر إطاراً روحياً مرناً يمكن أن يتعايش مع تنوع الخلفيات الثقافية.

من جانب آخر، يرى ميشيل شوفالييه أن الانفتاح اللغوي والثقافي للزاوية لعب دوراً أساسياً في توسعها الأممي، إذ تعتمد في مجالسها ولقاءاتها على لغات متعددة كالفرنسية والإنجليزية والإسبانية، مما جعلها ميسورة الوصول للمريدين في أوروبا وأميركا وإفريقيا جنوب الصحراء.

كما يبرز الباحث المغربي محمد ضريف عاملاً آخر يتمثل في شبكة المريدين المنتشرة عالمياً، والتي تعمل كسفراء غير رسميين ينقلون التجربة الروحية البوتشيشية إلى بلدانهم، ويقيمون هناك لقاءات ومجالس ذكر، مما يخلق جسوراً متجددة للتواصل مع المركز في مداغ.

ويؤكد عبد السلام بلاجي أن إحدى نقاط القوة هي البعد الإنساني العابر للحدود في خطاب الزاوية، حيث تُقدّم قيم المحبة والسلام وخدمة الإنسان كمرتكزات أساسية، بعيداً عن أي خطاب إقصائي أو سياسي مباشر، مما يمنحها جاذبية لدى فئات واسعة تبحث عن الروحانية النقية في عالم مضطرب.

كما أن مشاركة الزاوية في المؤتمرات الدولية للحوار بين الأديان والثقافات، إلى جانب حضورها في مبادرات أممية حول السلم، جعلت صورتها أكثر إشعاعاً في الأوساط الأكاديمية والروحية العالمية، وهو ما يصفه جيل كيبيل بأنه "توظيف ذكي للدبلوماسية الروحية لخدمة الحضور المغربي في العالم".

***

د. هدى لحكيم بناني

تتكئ ثقافتنا المعاصرة على نحو العموم على التراث أكثر من اعتمادها على الواقع، ولذلك فأنها تقابل بشاعة الواقع وتجهمه وقساوته بالاستماع والانتشاء بجمال الصوت والتشبيه والاستعارة، وبذلك يتحول الابداع من كونه معالجا تشوهات الواقع الى تجميل الاساليب والصياغات، ويتحول هذا الخطاب وبلاغته من كونه اداة لطاقة عقلية خلاقة الى أداة لتخدير المجتمع، بمعنى انَّ الخطاب هنا ليس اداة للإقناع، وسعيا للتغيير، وتزويد المتلقي بالوعي، وانما يصبح ستارا ضبابيا مكثفا يحجب الواقع بكل ما يشتمل عليه من تناقضات، فانه يحجب بؤس الواقع وقسوته، وبشاعة استغلال الانسان لأخيه الانسان، واكثر من هذا انها قد تجمل القتل الوحشي بوصفه قضاء على الانحراف، وبداية لصياغة العقول بحسب معتقدات القاتل.

إنَّ بلاغة الخطاب تصبح أداة لتلميع الأردية البائسة والأقنعة الشريرة وتهدف الى تجميل الخواء، إنها بلاغة فارغة لأنها لا تشتمل على رؤية لتغيير الواقع واستشراف المستقبل، ولا تسهم في تحرير المجتمع بامتلاك أداة الوعي، كل ما في الأمر أنها تكتفي بجمالية التشبيه وبهاء الاستعارة وبراعة المقابلات والمطابقات في وشي البلاغة وزخرفها، ومن ثم فلا مضمون جديد يعتد به.

إنَّ المدهش حقا في مجتمعاتنا العربية الحديثة حالة استرخاء تام، وهي تبصر اتساع الهوة بين القول والفعل، ومن الملاحظ ان انتاج الثقافة والوعي سواء أكان في ثقافة السلطة الرسمية أم في غيرها، وحتى في ثقافة المعارضة، انما هو إعادة لذات الانتاج الانشائي الخاوي الذي لا يبصر الواقع ولا يعترف به، كما ان صدق الخطاب يتجلى هنا بزخرف القول وليس بالاعتراف بالواقع والبحث عن في ثناياه عن معضلاته وقراءتها نقديا، ولذا فان هذا اللون من الثقافة يعلي من شان مفردات : التاريخ المجيد، والبطولات المتوهمة، والعنتريات الزائفة، والمصير العظيم، لكنها لا تستطيع ـــ وهذا واجبها الأساس ـــ تقديم تصور عن سياسة تعليمية متطورة، او نظام صحي منصف صحيح، ولا تكشف عن علاقات تحفظ للإنسان كرامته.

وليس هناك اخطر من اللغة وبلاغتها حين تستعمل لتخدير الشعوب بدلا من تنبيهها، وتتحول بلاغة اللغة الى مجرد بلاغة فارغة ممجوجة، تهدف الى تسكين الازمات، وتهدئة المتناقضات، وترحيل الأزمات، وتمييع المسؤوليات، وبذلك تصبح البلاغة لونا ثابتا من المضامين تتكرر في أثواب قشيبة متعددة، إذ تتكرر الصيغ الجمالية الجاهزة، ويتضخم الاعلاء من شان التمجيد والتبجيل، وتتحول الهزائم الى انتصارات، في حين يكون الواقع غارقا في الانكسار والفساد والتهميش.

إنَّ أغلب الصياغات التي توظفها السلطة الرسمية تتجلى فيها بوضوح ما يمكن ان نطلق عليه ـــ التورم البلاغي ـــ لان الصياغات، والحالة هذه، تخضع لسيطرة الزخارف البلاغية، إذ تضيع الفكرة تحت وطأة افياء تشبيهاتها واستعاراتها وتحت وطأة ايقاعها.

إنَّ الخطاب الرسمي السياسي والديني والتربوي انما يكتبه انصاره لمجرد ان يقال، وليس من اجل ان يفعل، ويستعمل ليس للنقاش، وانما كي يبهر السامع ولا يغيره.

اننا في ضوء هذا لا ندعو الى محاربة البلاغة كما عرفناها في تراثنا، سواء اتفقنا او اختلفنا مع جابر عصفور حين قسم البلاغة الى بلاغة السلطة، بلاغة القامعين، وهي بلاغة الوضوح، او بلاغة المعارضة، وهي بلاغة المقموعين، وهي بلاغة الرمز والاشارة، اقول لا ادعو الى محاربة البلاغة بهذا الشكل وطردها خارج اطار الابداع، وانما نسعى الى تحرير البلاغة من التهويمات الفنية المبالغ فيها، ولكن البلاغة حين تكون نابعة عن رؤية حقيقية، وتشتمل على قيم أخلاقية، وتطمح الى التغيير الإيجابي، تصبح بهذا، ليست اداة اظلام، وانما اداة تنوير، ولكنها حين تفقد بوصلتها الحقيقية وتصبح غايتها التأثير، ليس غير، من اجل اقتناص اللحظة والانفعال الزائف، فأنها تتواطأ مع الاستبداد وتخدم التخلف وتزين للناس الفساد والهزائم .

إنَّ الخطاب التغيري ينبغي له ان تستفيد فيه اللغة من شرف المعنى ونبل الغاية، وليس بهرجة الالوان وجلجلة الصوت، وندعو هنا الى تفكيك الموالاة بين انصار هذا الخطاب واصحاب السلطة القمعية، أي كسر التواطؤ بين السياسي والمنبر الثقافي، وتهشم تبعيه المستمع للواعظ، وتزيح سلطه الكاتب المدجن، وخصوصا الإعلامي المدجن، عن القارئ، اننا نريد للكلمات ان تسهم بالفعل، وللشعارات ان تحدث التغيير، فالكلمة اذا لم تؤدِ الى معرفه، ولا تقترن بالتزام ومسؤوليه، تبقى مجرد كلمات فارغه لا قيمه لها، مهما كان رنينها جميلا.

اضحى من الواجب اليوم اعاده التفكير بالوظيفة الاجتماعية للغة وبلاغتها، وان تتوقف الخطابات التي تعالج اعراض الامراض وليس اسبابها الحقيقية، وان تتوقف تماما عن البلاغة التي تبهر الاسماع، وتسكن الجراح بدلا من معالجتها، وان تستعيد البلاغة عافيتها وشجاعتها الاخلاقية والمهنية والإنسانية، وليس بهرجتها اللونية والصوتية، في وقت يهان فيه الانسان باسم القيم، وتبرر فيه السلطة باسم الله، لا يكفي ان نقول كلاما جميلا، فلابد ان نقول كلاما مسؤولا يعري الزيف، ويوقظ الوعي، ويمهد للتغيير، لا يسكن في افياء اللغة وبهرجها اللفظي، بل يتخطاها نحو صنع الحياة.

***

د. كريم الوائلي

قال ان حياته اتسمت بالهدوء والخجل من الآخرين، لكنه ما أن يطلب منه الكلمة في مؤتمر أو حلقة دراسية حتى تتجه الانظار اليه ويسود الصمت، فالرجل الأنيق في مظهره، صاحب الشعر الابيض المنكوش، أنيق ايضا في اختيار عباراته، بعكس المقالات التي يكتبها والتي دائما ما تثير الضجيج والتساؤل. يقول أن القدر خدمه كثيراً: " أن يكون المرء غريباً هو وضع متميز "، يردد دائماً ان الحياة لا يمكن أن تكون إلا عملا فنياً: " إذا كانت الحياة بشرية، حياة كائن يتمتع بالارادة وحرية الاختيار. إذ تترك الإرادة والاختيار بصماتها على شكل الحياة " – باومان فن الحياة ترجمة محمود احمد -. وصِف بأنه: " أحد المعلقين الاكثر اهتماماً والاكثر تاثيراً على حالتنا الإنسانية، وان كتبه ومقالاته هي واحدة من اكثر الاعمال اهمية لفهم طبيعة العالم الذي نعيش فيه ".

أن تكون فرداً، معناها أن تكون مسؤولاً عن اختيارك للحياة، وهذا الأمر ليس بحد ذاته مسألة اختيار، بل هو قرار مصيري يتعلق بحريتك: " الحرية تعني القدرة على تحقيق رغبات المرء وأهدافه"، إلا ان زيغمونت باومان يرى أن فن العيش الاستهلاكي في عصر الحداثة السائلة يَعِدُ بهذه الحرية، لكنه يفشل في الوفاء بوعده. قال انه في شبابه، تأثركثيراً بفكرة سارتر "مشروع الحياة". اصنع مشروعك الخاص للحياة، وامضِ قدماً نحو هذا الهدف، سالكاً أقصر الطرق وأكثرها مباشرة. حدد أي نوع من الأشخاص تريد أن تكون، وعندها ستكون لديك الصيغة اللازمة لتصبح هذا الشخص. لكل نوع من الحياة قواعد محددة، وسمات يجب أن نكتسبها. من البداية إلى النهاية، كما تصور سارتر، تسير الحياة خطوة بخطوة على طريق محدد تماماً حتى قبل أن نبدأ الرحلة.

صاغ باومان مصطلح "الحداثة السائلة"، الذي يشير إلى الوضع الراهن لمجتمعنا وما يشهده من تحولات غير مسبوقة في جميع جوانب الحياة - الحب، والعمل، والمجتمع، والسياسة، والسلطة-، وقد غطّى طيفاً واسعاً من المواضيع، من الحرب إلى العولمة، ومن تلفزيون الواقع إلى العنف، ومن الاستهلاك إلى المجتمع، متجاوزاً مجال تخصصه الأساسي ليشمل مجالات الفلسفة وعلم النفس. يصف حياته بانها مثل الانتقال من شريطي قضبان الى آخر، كل واحد منهما يذهب إلى مكان ما.

الطفل المولود في التاسع عشر من تشرين الثاني عام 1925 في مدينة بوزنان غرب بولندا لعائلة فقيرة، كان الاب قارئاً نهماً، اثر كثيرا على ابنه الذي وجد نفسه منذ الصبا غارقا في كتب الادب والفلسفة، إلا ان هذه الحياة لم تستمر طويلا فما أن بلغ الرابعة عشر من عمره، حتى وجد نفسه مهاجرا مع عائلته صوب الاتحاد السوفيتي، خوفا من ملاحقات الجيش النازي الذي احتل بولندا عام 1939، في السادسة عشر من عمره يعمل مجنداً في الجيش الاحمر، بعدها يرقى الى رتبة ضابط في الجيش البولندي، بعد نهاية الحرب تعود العائلة الى بلادها، يقدم للجامعة فيرفض طلبه، ولأن العائلة لا تملك المال لم يستطع الدراسة في الخارج. كان يحلم بدراسة الفيزياء، لم يفكر آنذاك بعلم الاجتماع، كانت الحرب قد دمرت بلاده: " كنت شاب في التاسعة عشر من عمره عاد للتو من الغابة وخط المواجهة لاهثاً، هل ينبغي اضاعة الوقت في فهم اسرار الانفجارات الكبيرة والثقوب السود ؟ دع الثقوب السود الأخرى تحتفظ بأسرارها لبعض الوقت. أولاً جئت لبلادي وهي في حالة خراب وانفجار كبير من قيامتها " – هكذا تكلم زيغمونت باومان ترجمة محمد احمد -.

يعترف انه كان شيوعياً ملتزما أثناء الحرب العالمية الثانية، فقد كانت الماركسية بالنسبة الية طريقاً للحرية، لكن بعد احداث 68 في بولندا اخذ يردد ان الالتزام الحزبي " طريق مختصر الى مقبرة الحريات "، درس علم الاجتماع في أكاديمية وارسو للعلوم السياسية والاجتماعية، أكمل الماجستير وفي عام 1954 أصبح محاضرا في جامعة وارسو، حيث ظل هناك حتى عام 1968.كتب عن الحركة الاشتراكية البريطانية صدر اول كتبه عام 1959، بعدها نشر كتاب " علم الاجتماع اليومي " واستمر في نشر الكتب التي وجدت استجابة من القراء في بولندا.

تاثر بافكار الايطالي أنطونيو غرامشي، واخذ يوجه النقد الى الحكومة الشيوعية، مما ادى عدم منحه درجة الاستاذية في الجامعة، تعرض الى ضغوط من الامن، شملته حملة التطهير السياسي التي بلغت ذروتها بعد احداث اذار 1968، ليفقد وظيفته، فقرر ان يتخلى عن جنسيته البولونية من اجل السماح له بالسفر. امضى عامين في اسرائيل حيث كانت تعيش اعائلته، لكنه سرعان ما وجه الانتقاد الى عنصرية الحركة الصهيونية، عام 1970 تم تعينه رئيسا لقسم الاجتماع في جامعة ليدزالبريطانية، اخذ ينشر كتاباته باللغة الانكليزية. انتقد باومان الصهيونية وإسرائيل، قائلاً إن إسرائيل ليست مهتمة بالسلام وإنها "تستغل الهولوكوست لإضفاء الشرعية على الأعمال غير المعقولة".

عندما هاجر باومان الى الغرب تمسك بالتزامه بهدف تحقيق الاشتراكية، موجها النقد الى الانظمة البيروقراطية غير المستنيرة، كان هدف باومان هو خلق وجود اجتماعي يُمكن العقلانيين والمتحررين من ممارسة حريتهم بطريقة خلاقة، وقد رأى ان ازدياد انعدام الأمن الجماعي، وحالة الاضطراب التي تمر بها المجتمعات الغربية، يدفع الناس لتقبل سياسات سطحية بحثا عن راحة البال.

انصبت جهود باومان على تتبع مفهوم " السيولة " الذي استحدثه في كتابه " الحداثة السائلة " الصادر عام 2000، وقد وصف الكتاب بأنه محاولة تسعى الى فهم زمن متغير. المجتمع السائل على حد قول باومان هو حالة حضور في العالم تعارض حالة المجتمع الصلب القديم الذي كانت فيه الحياة الاجتماعية والمؤسسات ومكانة كل فرد مُحددة سلفاً بطابعها الجماعي. في حين ان العلاقات الإنسانية في المجتمع السائل قد فقدت ديمومتها وصار كل شيء مرناً وقابلاً للتخلي عنه والتخلص منه، على غرار العمل والحب والاسرة، ويؤكد باومان ان: " ما يميز ابناء المجتمع السائل هو دخولهم في حالة صراع متواصل مع ذواتهم لتحقيق اقصى درجات سعادتهم الفردية دونما كبير اهتمام بواقع مجتهاتهم وشروطها القيمية "- سامية شرف الدين ابناء المجتمع السائل مجلة الدوحة تشرين الثاني 2018 –

 ظل باومان ملتزماً بشكل من أشكال الاشتراكية التي ظلت مناهضة للثقافة السائدة،. كان يؤمن بأن المجتمع الصالح حقًا هو المجتمع الذي لا يرضى أبدا بأنه جيد بما فيه الكفاية. بينما يختار الناس إدارة شؤونهم الفردية كمستهلكين، أملاً في إيجاد حلول لمشاكلهم الخاصة من خلال التسوق، فقد توقفوا إلى حد كبير عن التصرف جماعياً كمواطنين يتشاركون قضايا عامة مشتركة. يقول: "هل يمكن لمفاهيم المساواة والديمقراطية وتقرير المصير أن تستمر عندما يُنظر إلى المجتمع بشكل أقل فأكثر على أنه نتاج عمل مشترك وقيم مشتركة، وبصورة أدق كمجرد حاوية للسلع والخدمات تتنافس عليها أيادٍ فردية؟"

يوصف باومان بأنه كاتب غزير الإنتاج ومنضبط، يبدأ الكتابة قبل شروق الشمس. وقد استمر في الكتابة والنشر حتى الايام الاخيرة من حياته، في سنواته الاخيرة حذر من صعود الشعبوية اليمينية في أوروبا والولايات المتحدة، واصفاً إياها بـ"أزمة إنسانية". كان الوعد بأوروبا تقدمية اجتماعياً يعني له الكثير. كان يؤمن إيمانًا راسخًا بأن الاتحاد الأوروبي يُمثل ضمانة للحقوق التي حُصل عليها بشق الأنفس، وللحماية المشتركة من الحرب وانعدام الأمن الاجتماعي.

تذكرنا اعماله بأن عالمنا من صنع أيدي البشر، وبالتالي يُمكنهم إعادة تشكيله أيضاً. ورغم شغفه وتشاؤمه، كتب إيمانًا منه بإمكانية مواجهة هذا التحدي، بل وضرورة مواجهته.

توفي زيغمونت باومان، في التاسع من كانون الثاني عام 2017.

كان باومان يردد إن ما يعوز مجتمعاتنا اليوم هو توقفها عن مساءلة نفسها.وقد سعى الى تشجيع عملية الحوار داخل المجتمع المدني، فكان أمله ان يعمل المثقفون على تشجيع الافراد العاديين للقيام بمشاركة قوية ونشطة في جعل المجتمع اكثر حرية وأكثر مساواة وأكثر عدالة، وقد واصل باومان تمسكه برؤيته التي تقول ان الثقافة تمثل المجال الرئيس الذي يتجدد في أطاره بناء المجتمع، كما كان لديه اعتقاد راسخ بأن المثقفين سيبقون قريبين من الناس العاديين، ويقدمون وجهة نظر حول الأمور المشتركة المثيرة للنقاش.

في الفصل الاول من كتابه " فن الحياة " يطرح باومان هذا السؤال: ما الخطأ في السعادة ؟، لقد كان كانط يقول إن الإنسان لا يمكنه أن يقصد مباشرة نموذجاً تاماً للسعادة، ولكن يمكنه على الأقل، ان يجعل نفسه جديراً بالسعادة، فيما يرى باومان اننا سعداء، طالما لم نفقد الأمل في السعادة، نحن في مأمن من التعاسة طالما ما يزال الأمل يدقُ أبوابنا وبالتالي فأن مفتاح السعادة وترياق البؤس هو الحفاظ على الأمل في السعادة حياً باقياً.

بدأ باومان رحلته الشخصية كعالم اجتماع يتبع شعار غوته الشهير: السعادة تتلخص في التغلب على التعاسة يوماً بعد يوم. سُئل غوته ذات يوم إن كانت حياته سعيدة، فأجاب: "نعم، لقد عشت حياة سعيدة للغاية، لكن لا أستطيع تذكر أسبوع واحد سعيد"يرى باومان ان هذه إجابة حكيمة للغاية. السعادة ليست بديلاً عن الصراعات والصعوبات في الحياة. البديل لذلك هو الملل. إذا لم تكن هناك مشاكل يجب حلها، ولا تحديات يجب مواجهتها والتي تتجاوز أحيانًا قدراتنا، فإننا نشعر بالملل. والملل هو أحد أكثر الأمراض البشرية شيوعا. السعادة ليست حالة بل لحظة، لحظة. نشعر بالسعادة عندما نتغلب على الشدائد والمصائب. نخلع زوجًا من الأحذية الضيقة التي تضغط على أقدامنا ونشعر بالسعادة والراحة. السعادة المستمرة مروعة، كابوس.

يرى باومان ان مجتمعاتنا اسلكت مساراً متنامياً، متقناً، ومتماسكاً. يكسب المرء فيه الأمان والقدرة على التنبؤ، لكنه يفقد الاستقلالية والحرية، إلا ان هذه المجتمعات وبدءاً من فترة ما بعد الحرب، غيّرت مسارها واصبحت سمتها الرئيسية " سيولة " متزايدة، تتكون من خيارات عابرة وآفاق جديدة. دون التقيد بمكانة محددة، كل شيء قابل للتغيير في أي وقت، ولهذا على الإنسان ان يدرك ان الرغبة في السعادة رفيقة ابدية للوجود البشري: " السعي وراء السعادة محرك رئيس للفكر والعمل البشري " – فن الحياة ترجمة احمد عبد الله -.

من اجل العيش بسعادة فان باومان يؤكد على اهمية الروابط الاجتماعية، فهذه يمكن ان تكون منبعاً للسعادة. إن الحياة المدنية تقتضي مواطنين حقيقييين، قادرين على التفكير بانفسهم، واغنياء بانسانية متحررة.

يشير باومان الى ما يسميه " مفارقة السعادة. من حهة ندرك ان الحياة صعبة، وان المعاناة في هذا العالم لا تغيب، ومن جهة أخرى، تسعدنا حقيقة كوننا احياء، في مواجهة الضرر، الألم، معاناة الوجود، باستطاعتنا في الحقيقة استقبال السعادة او رفضها، نحتار ان نكون سعداء أو تعساء، وقد اشار في كتابه " فن الحياة " الى نيتشه ومفهومه للسعادة، حيت اعتبر ان السعادة تصاحب حب الحياة، وقبول المصير على نحو تام، لن نجد السعادة من خلال رفض ضروب المعاناة في الحياة. ان الحياة يجب ان تكون صلبة مبنيةٌ على آفاقٍ مرنةٍ ومساحةٍ مشتركةٍ أوسع. فيها، تجد الطموحاتُ والرغبات التي نسعى إليها، والأحلامُ والواقعُ مكانَها. وكذلك الحريةُ والسعادة.

في كتابه " الحداثة السائلة"، يعتبر باومان مجتمع ما بعد الحداثة مجتمع صيدٍ، الكل يصطاد فيه الكل: " المسكوت عنه في مجتمعنا الحاضر، مجتمع الصيادين، هو أن باستطاعت المرء أن يكون الصياد والطريدة في الوقت نفسه، فهو يقوم في أغلب الأحيان بمطاردة الآخرين من البشر ليبقى وحد في ميدان السباق. علاوة على ذلك، فإن فكرة إنهاء الصيد، في مجتمع الصياديين، ليست نمغرية بل هي مرعبة، لان هذه النهخاية لا يمكن الآن إلا شكل هزيمة شخصية " – الحداثة السائلة ترجمة حجاج ابو جبر -.

***

علي حسين – رئيس تحرير جريدة المدى البغدادية

 

الفلسفة، كأي نشاط فكري، تتأثر بالمشتتات المحيطة، الافتراضات المسبقة أو النظريات غير المدعومة. مما يؤدي إلى تشظيها في عدة اتجاهات. تتشظى الفلسفة مع ظهور مدارس فلسفية جديدة، عندها تتباين الآراء والمفاهيم، مما يؤدي إلى انقسام الفلاسفة بين تيارات مختلفة. التقدم في العلوم الطبيعية والاجتماعية يطرح تحديات جديدة على الفلاسفة، مما يدفع لتطوير أفكار جديدة أو إعادة التفكير في التقليدية منها، انتشار الأفكار الفلسفية عبر الثقافات المختلفة يعزز من تنوع الآراء، مما يجعل من الصعب الوصول إلى توافق حول قضايا فلسفية معينة. في عصر المعلومات تتزايد المشتتات مثل وسائل التواصل الاجتماعي المحتوى الرقمي، مما يمكن أن يؤثر سلبًا على عمق التفكير الفلسفي، الأحداث العالمية والتغيرات الثقافية يمكن أن تؤدي إلى ظهور قضايا جديدة تحتاج إلى معالجة فلسفية، مما يزيد من تعقيد النقاشات، بذلك تتشظى الفلسفة في سياق التغيرات المستمرة، مما يجعلها مجالًا ديناميكيًا متعدد الأبعاد.

القضايا الفلسفية الجديدة

في السنوات الأخيرة، ظهرت العديد من القضايا الفلسفية الجديدة نتيجة للتغيرات الاجتماعية والتكنولوجية ،مع تزايد استخدام الذكاء الاصطناعي، برزت تساؤلات حول المسؤولية الأخلاقية، تثير هذه تساؤلات فلسفية حول الذات، الانتماء، وحقوق الأفراد في التعبير عن هويتهم .مع انتشار المعلومات الرقمية، تطرح قضايا حول معنى المعرفة وتأثير المعلومات على التفكير البشري، هذه القضايا متعلقة حول كيفية تأثير العالم الرقمي على التجربة الإنسانية والهوية، بما في ذلك الافتراضات حول الوجود والعلاقات والنقاشات حول الفوارق الاجتماعية والاقتصادية كما تثير قضايا فلسفية حول العدالة، المساواة، وحقوق الإنسان. في سياق عالمي متغير تعكس هذه التحديات المواجهة الجديدة مع الفلاسفة في عالم متغير.

الوجودية الرقمية والوجودية التقليدية

الوجودية الرقمية تختلف عن الوجودية التقليدية في عدة جوانب رئيسية ،الوجودية التقليدية  نشأت في سياقات تاريخية واجتماعية مختلفة، مثل الحربين العالميتين، حيث كان التركيز على الأزمات الوجودية الفردية والمعاناة البشرية ،الوجودية الرقمية  تتعامل مع القضايا المرتبطة بالعصر الرقمي، مثل تأثير التكنولوجيا على الهوية والعلاقات الإنسانية ، الوجودية التقليدية تركز على مفهوم الهوية الفردية كشيء ثابت أو متجذر في التجربة الإنسانية ،الوجودية الرقمية  تنظر إلى الهوية كشيء متغير، يتعلق بالتواجد على الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، حيث يمكن أن تتفكك  التجربة الإنسانية الى خوارزميات برامجية ،الوجودية التقليدية تركز على العلاقات الإنسانية الواقعية والتجارب المباشرة والمواجهات، الوجودية الرقمية تتناول كيف تؤثر العلاقات الافتراضية والرقمية على التجارب الإنسانية، بما في ذلك العزلة والاتصال. الوجودية التقليدية تسعى للبحث عن المعنى في الحياة من خلال التجربة الفردية والحرية، الوجودية الرقمية تستكشف كيف يمكن أن يتأثر البحث عن المعنى والهدف من خلال الانغماس في العالم الرقمي، حيث يؤدي الإغراق في المعلومات الى فقدان الإحساس بالمعنى، الوجودية التقليدية ترتبط بالأزمات الشخصية، مثل الموت، الحرية، والعبثية، الوجودية الرقمية تتضمن أزمات مرتبطة بالتكنولوجيا، مثل القلق من فقدان الخصوصية، الإدمان على الإنترنت، وتأثير المحتوى الرقمي على الصحة النفسية. بذلك تقدم الوجودية الرقمية نمطا سطحيا لفهم التحديات الجديدة التي طرأت على الوجود الإنساني في عصر التكنولوجيا.

الوجودية الرقمية ومفهوم الحرية

في العالم الرقمي، تتاح للأفراد خيارات غير محدودة تقريبًا، مما يعزز الشعور بالحرية. مع ذلك، يمكن أن تؤدي هذه الخيارات إلى الشعور بالارتباك أو القلق، مما يجعل الاختيار نفسه تحديًا تكنولوجيا، المعلومات تتيح للأفراد حرية التعبير، لكنها أيضًا تعرضهم لمراقبة مستمرة من قبل الحكومات والشركات. هذا الرقابة تقيد حرية التعبير وتؤثر على كيفية تصرف الأفراد في العالم الرقمي، لذا يحاول الأفراد إعادة تشكيل هوياتهم بطرق جديدة، يمكن أن يعزز الشعور بالحرية، لكنه يؤدي أيضًا إلى صراعات داخلية حول الهوية الحقيقية مقابل الهوية الافتراضية، توفر التكنولوجيا وسائل جديدة للتواصل، مما يعزز الحرية في بناء العلاقات، لكن يمكن أن تؤدي هذه الوسائل أيضًا إلى تآكل العلاقات التقليدية، مما يخلق شعورًا بالعزلة، الاستخدام المفرط للتكنولوجيا يمكن أن يقيد الحرية من خلال الإدمان، حيث يشعر الأفراد بأنهم مضطرون للتفاعل مع الأجهزة بدلاً من ممارسة خياراتهم بشكل انساني ومباشر ، في عصر المعلومات يتحول التركيز من البحث عن المعنى الحقيقي إلى التفاعل مع المحتوى السطحي، مما يقلل من الإحساس بالحرية الحقيقية في اتخاذ القرارات، بذلك تقدم الوجودية الرقمية رؤية مفككة للحرية، حيث تتداخل الفرص مع القيود، مما يستدعي إعادة التفكير في كيفية فهمنا للحرية في عصر التكنولوجيا.

الوجودية الرقمية والتشظي الفلسفي المعاصر

في العالم الرقمي، يمكن للأفراد تشكيل هويات متعددة ومتغيرة، مما يؤدي إلى تباين في الآراء والمفاهيم. هذا التنوع يمكن أن يؤدي إلى انقسام في الفلسفات حول مفهوم الهوية، تطرح الوجودية الرقمية تساؤلات جديدة حول معنى الوجود الإنساني في عصر التكنولوجيا، مما يؤدي إلى ظهور مدارس فلسفية جديدة تتناول هذه القضايا، مما يزيد من التشظي، التفاعلات الافتراضية التي تؤثر على كيفية تجربة الأفراد للعالم، مما يخلق مفاهيم جديدة حول الوجود والعلاقات الإنسانية. هذا التغيير يؤدي إلى تباين في الآراء حول القيم والأخلاق، مع ظهور قضايا جديدة مثل الخصوصية، حقوق البيانات، وأخلاقيات الذكاء الاصطناعي، تتشكل فلسفات جديدة، مما يزيد من تعقيد النقاشات ،ويؤدي إلى تشظي الفلسفة .الإغراق بالمعلومات والبيانات يؤدي إلى صعوبة في التوصل والتوافق حول القضايا الفلسفية، مما يزيد من الانقسام بين الفلاسفة، الشعور بالقلق والاغتراب الناتج عن التواجد الدائم في العالم الرقمي يمكن أن يؤدي إلى إعادة تقييم المفاهيم التقليدية، مما يزيد من التشظي في الفلسفة ، تسهم الوجودية الرقمية في خلق نقاشات فلسفية عبر الفضاء الافتراضي لتبقى افتراضية بحتة.

ازدواجية المعرفة وتشظي الفلسفات

تُعبر فكرة ازدواجية المعرفة وتشظي الفلسفات عن حالة معقدة في العالم المعاصر، حيث تتداخل الفلسفات وتتنافس في تقديم تفسيرات مختلفة للوجود والمعرفة، حضور مجموعة من الأنظمة المعرفية المتنوعة، منها العقلانية، التفسيرية، والتقنية، يؤدي إلى تباين في كيفية فهم العالم، حيث يمكن أن يتبنى الأفراد وجهات نظر مختلفة بناءً على خلفياتهم الثقافية والاجتماعية، تساهم وسائل الإعلام الرقمية الحديثة في نشر معلومات متباينة، مما يزيد الفوضى المعرفية، التي تؤدي إلى تشويش في الفهم الاجتماعي للأحداث والقضايا. نظام التفاهة، كما وصفه بعض المفكرين، يشير إلى التركيز على المحتوى السطحي والمشوش بدلاً من الأفكار العميقة، يمكن أن يؤدي إلى تقليل الاهتمام بالقضايا الفلسفية المعقدة، كما ان تشجيع الثقافة الاستهلاكية في نظام التفاهة يساهم في تعزيز ثقافة الاستهلاك السريع، حيث يُفضل المحتوى السهل والسريع على التفكير العميق والمناقشات الفلسفية ، يمكن أن يؤدي إلى فقدان الثقة في المؤسسات التقليدية، بما في ذلك العلم والفلسفة، زيادة الانقسام تؤدي إلى انقسام اجتماعي، حيث يميل الأفراد إلى التمركز حول مجموعاتهم الخاصة الاثنية، الطائفية والقبلية، مما يعزز العزلة الفكرية .تُظهر هذه الديناميكيات كيف أن العالم المعاصر يعاني من ازدواجية معرفية وتشظي فلسفي، حيث تسهم  الوجودية الرقمية ونظام التفاهة في تكريس هذا الوضع، مما يُعقد من القدرة على التوصل إلى فهم مشترك للواقع، ويستدعي الحاجة إلى إعادة تقييم التفكير النقدي وتعزيز الحوار الفلسفي العميق كما تشكل الوجودية الرقمية، جنبًا إلى جنب مع ازدواجية المعرفة وتشظي الفلسفة، تحديات جديدة للفهم الإنساني. تتطلب هذه التحديات نهجًا نقديًا ومرنًا يجمع بين مختلف المعارف والآراء.

***

غالب المسعودي

في عالمٍ تتسارع فيه وتيرة الحياة، وتتزاحم فيه المصالح وتتدافع، وتتبدل فيه منظومة القيم، تبقى الإنسانية عنواناً عريضاً لا يخفت وهجه، ولا تتساقط أوراقه، ولا تذبل ثماره، لأنها منبثقة من ضمير حي يقظ، وصاحب مواقف عظيمة.

ليست الإنسانية مجرد شعارات ترفع، أو عاطفة عابرة ما تلبث أن تنطفئ شمعتها، بل هي منظومة متكاملة تنبض في القلب، وتستنير بالعقل، وتترسخ في الوعي، وتوجه البصيرة نحو الخير والرحمة والعدل.

الإنسانية الحقيقية تنبع من قلب حي نابض، يحسن الشعور بما حوله، ويتفاعل مع آلام الناس وأحلامهم وآمالهم. قلب لا يعتاد القسوة، ولا يبرر اللامبالاة أو التبلد الذي يسيطر على كثير من الناس تجاه من حولهم من بشر يستحقون الالتفات والحضور. بل هو قلب ينبض بإحساس عميق، يترجم إلى رحمة وتعاطف، ودعم وسخاء في العطاء، دون انتظار مقابل أو ثمن لقاء خدمة أو إعانة أو جهد يبذل.

أما الفكر الإنساني، فهو فكر متوقد واع، لا يعيش على هامش الأحداث، بل يتأمل ويتفاعل ويدرك أن لكل فعل صدى، ولكل موقف أثر. إنه فكر يعي أن الإنسان لا يقاس بما يملك، بل بما يقدم ويبذل، وبما يتركه من أثر في نفوس من حوله.

ثم تأتي البصيرة النافذة، التي تمنح صاحبها رؤية تتجاوز اللحظة الراهنة، وتتخطى مظاهر الأشياء. بصيرة ترى ما لا تراه العيون، وتقرأ ما بين السطور، وتتأمل في المآلات لا المظاهر. فالبصير هو من يزن الأمور بميزان الحكمة، ويدرك أن لكل قرار مسؤولية، ولكل كلمة وقعًا، ولكل موقف قيمة.

ويتوج ذلك بالعقل الراجح، الذي يتحلى برجاحة فكر، وحسن تقدير، وبعد نظر. عقل لا تسيره الأهواء، ولا تستعبده المصالح الآنية، بل يزن الأمور بميزان المبدأ، وينطلق من قيم ثابتة تضع رضا الله، وسعادة الناس، واستقرار النفس فوق كل اعتبار.

الإنسان الحق لا يرى في الفوز مجرد تفوق فردي أو مكسب شخصي، بل يفهم أن النجاح الحقيقي هو ذاك الذي يثمر جماعياً، وينعكس على من حوله طمأنينة وراحة واستقراراً. هو من يجعل من محيطه بيئة أكثر أمانًا، وعدلاً، وإنسانية.

الإنسانية ليست كلمات منمقة، ولا خطَباً براقة، بل هي سلوك يومي بسيط يبدأ بابتسامة صادقة، ويتجسد في يدٍ تمتد للعون، وقلب يتسع للناس، وعقل يُنصف الآخر، ويحتوي الاختلاف، ويمنح من حوله فرصة لحياة كريمة.

كن إنساناً يرى في من حوله بشراً لا أرقاماً، وأرواحاً لا أدوات، ورفاقاً في درب الحياة لا منافسين على غنيمة.

كن من أولئك الذين تتجلى فيهم الإنسانية فعلاً لا قولاً، حضورًا لا شعاراً، تأثيراً لا استعراضاً

فالعالم لا يحتاج إلى مزيد من المتحدثين عن الإنسانية، بل يحتاج إلى مزيد من الذين يعيشونها واقعاً ملموساً، تترجم فيه معانيها ومفرداتها وجملها.

فالأمثلة تتوالى وتتكاثر في بيئة العمل، فهذا المدير الذي يقدر موظفيه ويحترمهم، يمنحهم إجازات طارئة دون تردد أو تلكؤ، لا سيما حين يمر أحدهم بظرف إنساني طارئ، كالمشكلات الأسرية، أو الضائقة المالية، أو الحوادث، أو مرض أو وفاة أحد أفراد الأسرة. يبادر بالدعم والمساندة دون مماطلة أو ضغط، واضعاً إنسانيته فوق القوانين الجامدة التي يصر البعض على جعلها عنواناً للنجاح المهني. ولا ننسى زميل العمل الذي يمد يد العون لإنجاز مهمة ثقيلة دون أن يطلب منه ذلك؛ يلاحظ تأخر زميله في إنهاء تقرير ما، فيعرض عليه المساعدة تطوعاً وعوناً، دون أن ينتظر شكراً أو مكافأة.

ورب العمل الذي يراعي الظروف المالية لبعض موظفيه، يبادر بتقديم سلفة دون من أو تفضل، أو يؤجل اقتطاع مبلغ معين من الراتب، أو حتى يساعد في تسديد أقساط دراسية أو جامعية لأبنائهم. وكذلك حسن الترحيب بالعاملين الجدد ومساعدتهم على الاندماج والانسجام، بدلاً من معاملتهم بجفاء أو تنافسية؛ حيث يتم استقبالهم بود، وتوجيههم، ومرافقتهم، حتى يشعروا بالأمان والانتماء.

وفي الحياة اليومية، مواقف تنضح بالإنسانية والأخلاق، كأن تساعد عجوزاً في عبور الشارع أو في حمل أغراضه، دون انتظار مقابل أو حتى شكر، بدافع المسؤولية تجاه الآخر فقط. أو تفتح باب الحوار مع شخص يعاني من التوتر، أو العزلة، أو الإحباط؛ مجرد الجلوس معه والإنصات لمشكلاته قد يكون طوق نجاة ويداً تمتد في الوقت المناسب. أو تتبرع بالدم، أو تشارك في حملات خيرية، دون انتظار عائد مادي أو معنوي. أو تتنازل عن مكانك في طابور طويل لإنسان مرهق أو لامرأة حامل، في موقف بسيط، لكنه يجسد رُقيّاً إنسانياً عظيماً. أو تترك طعاماً أو ماء للقطط والكلاب في الحي، أو تساعد في علاج حيوان جريح.

في الختام: إنسانيتك هي الأثر الذي تتركه، والقيمة التي تعيش بها، والدرب الذي تسلكه، والرسالة التي تنقلها. فبقدر ما تمنح من إنسانيتك، تدب الحياة فيك، وتحيي بها من حولك، ويجزى لك بالعطاء والخير والبركة: نجاحاً، وألفة، ومحبة، وسعادة غامرة تضفيها على حياتك وحياة غيرك.

أولئك الذين غيرت فيهم وأضفت لهم معاني كانت قد فقدت من حياتهم، وبلغ بهم السيل الزبى إحباطاً وضعفاً وقلة حيلة، فكنت منقذاً ورباناً لسفينتهم التي كادت أن تغرق، لولا تدخلك. رفعت شراعها، ليستمر إبحارها، وتعلو ناصيتها، وتسير نحو أهدافها ومراميها ومبتغاها. فالإنسانية ليست حكراً على العطاء المادي،

بل تكمن في كل تصرّف يتضمّن احتراماً للآخر، وتقديراً لمعاناته، وسعياً لمساعدته، ولو بكلمة طيبة.

***

بقلم: د. أكرم عثمان

7-8-2025

في زمنٍ تتزايد فيه الصراعات باسم الدين، وتتوالد فيه الانقسامات من بطون النصوص المقدسة، وتُرتكب فيه الجرائم تحت راية العقيدة، لم يعد السؤال عن "الدين" ترفًا فكريًا أو شأنًا خاصًا، بل أصبح سؤالًا وجوديًا يمسّ جوهر الإنسان والمجتمع، ويحدد مصير الأوطان والثقافات.

ليس الدين ـ كما يُتوهّم ـ هو أصل المشكلة، بل مشكلتنا تكمن في كيفية فهمنا له، وطريقة توظيفه، والعدسة التي نقرأه من خلالها: هل نقرأه بعين الوعي، أم بعين التلقين؟ هل نتعامل معه كوسيلة تحرير، أم كأداة سيطرة؟ هل نراه طريقًا إلى الله، أم جدارًا عازلًا بين الناس والله؟

لقد تحوّل الدين، في كثير من واقعنا، من دعوة إلى الرحمة والعدالة إلى خطاب للفرز والإقصاء، ومن تجربة روحية إلى صراع هويات، ومن مشروع أخلاقي إلى وسيلة تبرير للسلطة. والمؤسف أن كثيرًا من هذا التشويه يتم باسم "الدفاع عن الدين"، في حين أن ما يُدافَع عنه غالبًا ليس الدين في جوهره، بل سلطة من يتحدث باسمه، أو مصالح من يحتكر تأويله.

إننا بحاجة ملحّة لإعادة طرح السؤال الكبير: كيف نفهم الدين؟ لا لنهاجمه أو ندافع عنه، بل لنفهمه أولًا، ونحرره من التكلّس، ونحرر أنفسنا من عبوديّة الفهم الجامد له. هذا الفهم لا يبدأ من التقديس الأعمى، ولا من الشك العدمي، بل من رحلة وعي، تُعيد وصل النص بالتجربة، والتاريخ بالعقل، والروح بالأخلاق.

من هنا، ينفتح هذا المقال على ستة محاور، تحاول أن تُقارب الدين لا كقضية إيمان فقط، بل كمسألة إنسانية وثقافية وتاريخية، تحتاج إلى تأمل نقدي وتفكير شجاع..

الدين كنص مفتوح على التأويل

النص الديني ليس مجرد كلمات ثابتة وحروف جامدة، بل هو خطاب حي يتفاعل مع المتلقّي عبر العصور والثقافات. لفهم هذا، علينا العودة إلى الأصول التي تأسست عليها العلوم الإسلامية، حيث نشأت مدارس متعددة للفهم والتأويل، مثل مدرسة المحدثين، مدرسة المعتزلة، وأهل الظاهر وأهل الباطن. هذه المدارس لم تكن متعارضة فقط بل كانت تعبيرًا عن ديناميكية فكرية.

في العصر الذهبي للحضارة الإسلامية، كان العلماء يقرؤون النصوص الدينية بعين متفتحة، يسألون كيف يمكن أن تتجدد المفاهيم لتلائم واقع الناس دون الإخلال بمقاصد الشريعة. فمثلاً، تعدد المذاهب الفقهية كالحنفي، المالكي، الشافعي، والحنبلي، ليس ضعفًا بل دليل ثراء فكري يسمح بالتنوع والاجتهاد.

لكن مع مرور الزمن، تحولت التأويلات إلى حدود صارمة أُغلقت الأبواب أمام الاجتهاد، وأصبح الخطاب الديني يكرّس نمطًا واحدًا يُفرض على الجميع، حتى بات بعض القراءات مجرد تكرار نصوص مغلقة لا تسمح بالحوار ولا بالتغيير. وهذا أدى إلى جمود فكر الدين، وتحوله إلى أداة في يد من يسيطرون على مفاتيح السلطة.

هنا يظهر الفرق الجوهري بين قراءة النص كـ"حقيقة مطلقة" وثابتة لا تقبل المناقشة، وبين فهمه كـ"نص حي" يتفاعل مع سياقات جديدة. التأويل إذًا ليس تحريفًا أو تخريبًا للنص، بل هو تجديد مستمر يهدف إلى استخراج الروح الأخلاقية والإنسانية التي لا تتغير.

الدين كتجربة روحية لا كهوية صراعية

الدين، في جوهره، هو علاقة روحية عميقة بين الإنسان وربه، تبدأ من داخل النفس، من عمق الشعور بالخضوع، والتوق إلى المطلق، والبحث عن السلام الداخلي. هذه التجربة الروحية تسبق أي تصنيفات اجتماعية أو سياسية، وهي ما يعطي الدين بريقه وصدقه.

في التاريخ، نجد عبر عصور عديدة كيف تحولت الروحانية إلى متنفس للإنسان المتعب من صراعات الدنيا، فقد ارتبطت الصلوات، والتأمل، والزهد، والذكر بسكون القلب وطمأنينة النفس. ومن هنا، تعلّم الإنسان التواضع والرحمة والاحترام للآخرين، بما في ذلك المختلفين عنه في الدين أو المذهب.

لكن المؤسف أن الدين في كثير من الأحيان صار مُختزلًا في هوية تعرّف الإنسان ضمن حدود طائفية أو مذهبية ضيقة، تحولت معها العلاقة الشخصية مع الله إلى معارك بين جماعات، تُستخدم لتبرير العداوة والكراهية.

ينتج عن هذا الانغلاق الفكري والعاطفي تهميش الروحانية الحقيقية، ويحل محلها تعصب متصلب، يجعل من الدين علامة تمييز لا وسيلة وفاق. المؤمن الحقيقي، الذي يعايش تجربة الإيمان الحقيقية، هو من ينبذ الغلو والتعصب، ويحتضن الآخر، ولا يرى الإيمان مجرد شعار بل ممارسة تفيض محبة وسلامًا.

لذلك، إعادة اكتشاف الدين كتجربة روحية فردية وجماعية يجب أن تكون أولوية، لفصل الإيمان الصادق عن النزاعات المذهبية، وللتمهيد لطريق يعيد للدين بريقه كمنبع للسلام الداخلي والتعايش بين الناس.

الدين كتاريخ بشري لا كقداسة مطلقة

حين نتحدث عن الدين، لا بد من التمييز الواضح بين "الرسالة الإلهية" التي هي نقية وعالمية، وبين "التدين البشري" الذي يمثل تطبيقات وممارسات بشرية متأثرة بالسياقات التاريخية والثقافية والسياسية.

التاريخ الإسلامي، مثل غيره من التواريخ الدينية، شهد صراعات وتطورات، وتداخلًا بين الدين والسلطة، ما أدى أحيانًا إلى تحوّل مؤسسات دينية إلى أدوات تحكم، وأصبح بعض العلماء والفقهاء ممارسين للسلطة السياسية بلباس ديني.

إن تمجيد تراث بعينه واعتباره مقدسًا، سواء كان فقهًا أو ممارسات، يعطّل القدرة على النقد والتجديد، ويغلق الباب أمام الاجتهاد الذي هو روح الدين الحي. فالفقه الذي وُضع في ظل ظروف معينة، قد لا يكون قابلًا للتطبيق حرفيًا في زمن مختلف تمامًا.

لا يعني هذا التقليل من قدسية الدين، بل هو دعوة لفهمه كرسالة متجددة، تتجاوز زمن النبي والمؤسسين لتلائم واقع الإنسان المعاصر. التاريخ الديني يحوي أخطاء وانحرافات وقراءات مغلوطة يجب التعرف عليها ونقدها، لكي يُستعاد جوهر الدين كمنارة هداية.

بفهم الدين كتاريخ بشري، نصبح قادرين على تحريره من أساطير العصمة المزعومة التي حصرته في كتابات وأقوال ماضية، مما يمكّننا من استثمار قيمه الإنسانية والأخلاقية بوعي متجدد يعزز السلام والعدل بدلاً من الصراع.

الدين كمشروع أخلاقي لا كمنظومة أوامر

الدين لم يُبعث ليكون مجرد مجموعة من الأوامر والنواهي، أو قائمة طقوس تُؤدى دون أثر، بل هو مشروع لصناعة الإنسان الأخلاقي، الإنسان الذي لا تقتصر علاقته بالله على العبادات، بل تنعكس هذه العلاقة في سلوكه مع الناس، في عدله، وصدقه، ورحمته، ونزاهته.

لقد وقع كثير من الخطاب الديني في فخ الشكلانية، حين ربط التدين بالمظاهر والالتزام الحرفي بالشعائر، واعتبر أن الالتزام بالأوامر كافٍ لقياس الإيمان، متناسيًا أن جوهر الدين هو الأخلاق. كيف يُفهم الدين حين يتحول إلى منظومة سلوكية تفتقر إلى الرحمة والإنصاف؟ كيف نصلي، ونصوم، ونحج، ونشهد في الوقت نفسه الظلم، والكذب، والفساد ولا نستنكره؟

الأخلاق ليست أمرًا ثانويًا في الدين، بل هي لبّه. فقد جاء عن النبي محمد: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، وجاء عن الإمام جعفر الصادق: "كونوا دعاةً لنا بغير ألسنتكم" أي بسلوككم لا بشعاراتكم.

حين يتحول الدين إلى سلّم للنفوذ، أو وسيلة لإقصاء المختلف، أو وسيلة للتمييز بين الناس باسم "الصلاح الظاهري"، يفقد معناه ويُصبح عبئًا ثقيلًا على الناس. نحن بحاجة إلى دين يُقاس بأثره في المعاملات، لا بكثرة خطبته أو طول لحيته. بحاجة إلى فهم يعيد مركزية الأخلاق في الدين، ويربط بين التعبّد والسلوك، بين الصلاة والعدل، بين الصيام والرحمة، بين العقيدة والضمير. بهذا المعنى، يصبح الدين قوة بناء لا أداة تزكية مزيفة.

الدين والعقل... تكامل لا تصادم

من أوضح ما تميزت به الرسالة القرآنية أنها لم ترفض العقل، بل خاطبته، وراهنَت عليه. فجاءت عشرات الآيات تبدأ بـ"أفلا تعقلون"، "أفلا تتفكرون"، "لعلهم يتفكرون"، في تأكيد واضح على أن الدين لا يكتمل بدون التفكير، ولا يستقيم بدون الفهم.

العقل في جوهره هو أداة التمييز، والبحث، والفهم. وبدونه يصبح الإيمان مجرد تكرار لما يُلقّن، لا قناعة حقيقية. ولهذا، فإن أعظم الإيمان ليس ما يُؤخذ عن تقليد أعمى، بل ما يُبنى على تأمل وتساؤل وتجربة ذاتية.

التاريخ الإسلامي ذاته عرف لحظات ذهبية حين ازدهرت الفلسفة، والمنطق، والكلام، جنبًا إلى جنب مع الفقه والحديث. فابن رشد، والفارابي، والكندي، وابن سينا، والغزالي، وغيرهم، سعوا إلى الجمع بين العقل والنقل، واعتبروا أن الوحي لا يتناقض مع العقل، بل يكمله.

لكن مع صعود تيارات فكرية أغلقت باب الاجتهاد، وجرّمت السؤال، وتحاشت النقاش، بدأ الدين يتحول إلى منظومة مغلقة تخاف من كل ما هو جديد. فأصبح العقل متّهَمًا، والسؤال مذمومًا، وكأن التساؤل يهدد الإيمان، لا يُعزّزه.

هذا التصادم المفتعل بين الدين والعقل، ليس نابعًا من النصوص الدينية ذاتها، بل من تحوّل الخطاب الديني إلى أداة سلطة تريد الطاعة العمياء، وتخشى كل ما يوقظ الوعي.

إن الإيمان القوي لا يخاف من العقل، بل يتغذى عليه. والإيمان الحقيقي لا يُطلب بالقهر أو القطيعة مع الفكر، بل بالحوار، والوعي، والانفتاح. والشك هنا لا يعني الإلحاد، بل يعني الحفر في المعنى، واختبار القناعة، وبناء الإيمان على أساس متين.

فالدين بلا عقل يتحوّل إلى طقوس جوفاء، والعقل بلا قيم روحية قد يسقط في العبث. والإنسان لا يكتمل إلا بهما معًا.

الدين في زمننا.. مسؤولية لا ميراث

في عالم سريع التحول، تتداخل فيه الثقافات وتتشابك فيه القيم، لم يعد كافيًا أن نُورّث الدين كما نُورّث أسماء العوائل أو عادات القبيلة. فالدين ليس عباءة تُسلَّم من جيل إلى جيل، بل مسؤولية تُحمَل بوعي، وتُجدد بفهم، وتُفعَّل بضمير حي.

الخطورة في التعامل الوراثي مع الدين أنه يجعل التدين طقسًا شكليًا، لا علاقة له بالوعي أو السلوك أو الموقف من الظلم. فيصبح الانتماء الديني تقليدًا لا سؤالًا، ويغدو الدفاع عن "الدين" دفاعًا عن الهوية الجمعية، لا عن القيم الأخلاقية التي جاء بها الوحي.

في زمن الانكشاف الإعلامي، واحتكاك الأديان، وصعود الإلحاد واللادينية، لم يعد ممكنًا الاستمرار في تقديم الدين كما قُدِّم قبل قرون، بل يجب إعادة التفكير فيه، لا من باب "تغيير الدين"، بل من باب تحريره من الكسل الذهني، ومن سلطة التكرار. التديُّن المعاصر يجب أن يكون مسؤولًا:

- مسؤولًا أمام ضمير الإنسان، لا فقط أمام سلطة المؤسسة.

- مسؤولًا في مواجهة الظلم، لا متواطئًا معه.

- مسؤولًا في إنتاج الخطاب، لا مستهلكًا لنصوص ماضوية.

نحن بحاجة إلى دين يتحدث بلغة الإنسان، لا بلغة التحذير والتكفير. دين يوسّع الأفق، لا يُغلقه. دين يُربّي على النقد والبصيرة، لا على التبعية والخوف.

إن مسؤولية المؤمن اليوم هي أن يُحرّر الدين من برودة الوراثة، ويبعث فيه دفء المعنى. أن يتعامل معه كقضية حيّة، متجددة، لا كحقيبة مغلقة، ولا كصندوق أسرار لا يُفتح. ففي عصرنا، لا يُقاس صدق الإيمان بكثرة الخطب أو عدد المساجد، بل بقدرة الدين على أن يكون صوتًا للمظلوم، وعدلًا في وجه الطغيان، وجسرًا للسلام بين البشر.

خاتمة: نحو فهم ينقذ الدين من أتباعه ... ويعيده إلى روحه

لقد آن الأوان لأن نتوقف عن التعامل مع الدين كقالب جاهز، أو تركة لا تُمس، أو سلطة لا تُسائل. الدين ليس جدارًا نحتمي خلفه لنُهاجم الآخرين، ولا بطاقة عضوية في جماعة ما، ولا ذخيرة أيديولوجية نخوض بها حروبنا النفسية والسياسية.

الدين، في جوهره، رحلة وجودية تبدأ من التساؤل لا من الحفظ، ومن التواضع لا من التسلط، ومن اختبار الذات لا مراقبة الآخرين. هو مشروع تحرر، لا مشروع تقييد. مشروع إنساني قبل أن يكون شعائري. أخلاقي قبل أن يكون سلطويًا.

إن إعادة فهم الدين لا تعني هدمه، بل إحياءه. لا تعني نزع القداسة عنه، بل تحريرها من الاستغلال. نحن لا نُشكك في جوهر الدين، بل نُشكك في الطرق المتحجرة التي يُفهم ويُطبَّق بها، وفي أولئك الذين اختزلوا الدين في طقوس ظاهرية، أو استخدموه كواجهة لسلطة ظالمة أو تجارة مقدسة.

لسنا بحاجة إلى المزيد من المتدينين الصاخبين، بل إلى مؤمنين صامتين يغيّرون العالم بسلوكهم. لسنا بحاجة إلى أصوات ترفع الشعارات، بل إلى ضمائر تعيش القيم. ولسنا بحاجة إلى اجترار الموروث، بل إلى عقل نقدي يُعيد تأويله، ويُحسن الإنصات لما فيه من جوهر حيّ، ويطرح عنه ما علق به من تشوّهات الزمن وسلطة الإنسان على المعنى.

نحن بحاجة إلى شجاعة عقلية وروحية، تضع اليد على مواطن الخلل، وتفتح النوافذ نحو أفقٍ دينيٍّ جديد:

- دين لا يُختصر في المظاهر، ولا يُختزل في التاريخ، ولا يُؤدلَج في السياسة.

- دين يتنفس عبر القلب والعقل معًا، وينبض في سلوك الإنسان لا في صراخ المنابر.

إن لم نمتلك هذه الشجاعة، سيظل الدين ضحية أتباعه، وسيرث أبناؤنا عبئًا لا نورًا، وسيُنظر إليه كمشكلة لا كحل، وكعائق لا كجسر عبور نحو إنسانية أسمى.

***

محمد ساجت السليطي - كاتب وباحث عراقي

........................

المراجع والمصادر:

1. أبن رشد، تهافت التهافت.

2. أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين.

3. الجاحظ، البيان والتبيين.

4. زكي نجيب محمود، تجديد الفكر العربي.

5. عبد الله العروي، السنة والإصلاح.

6. عبد الجبار الرفاعي، الدين والظمأ الأنطولوجي.

7. علي شريعتي، النباهة والاستحمار.

8. فؤاد زكريا، التفكير العلمي.

9. محمد أركون، الفكر الإسلامي: قراءة علمية.

10. محمد إقبال، تجديد التفكير الديني في الإسلام.

11. محمد شحرور، الكتاب والقرآن: قراءة معاصرة.

12. ماجد الغرباوي، مدارات عقائدية ساخنة.

13. نصر حامد أبو زيد، النص، السلطة، الحقيقة.

14. هشام جعيط، الفتنة: جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر.

15. عبد المجيد الشرفي، الإسلام والحداثة.

16. يوسف الصديق، هل قرأنا القرآن؟.

المقدمة: تظل ظاهرة الشذوذ الجنسي في المجتمعات التقليدية إحدى أكثر القضايا إثارة للجدل والنقاش، إذ تُقرأ غالبًا على أنها خروج عن الفطرة واعتداء على النظام الطبيعي للأمور. لكن المعاينة الدقيقة تكشف أن هذه الظاهرة ليست سوى انعكاس لخلل اجتماعي وفكري أعمق، يتغلغل في بنية المجتمع ذاته. فالشذوذ، في جوهره، ليس فعلًا فطريًا فحسب، ولا مجرد انحراف فردي، بل هو مرآة تتكسر عليها تناقضات المجتمع ذاته، ومحاولة يائسة لتجاوز الحدود المفروضة على التعبير عن الذات والهوية. تسعى هذه الدراسة إلى تفكيك مصطلحات الفطرة والشذوذ في إطار التحليل الاجتماعي والفلسفي، مستندة إلى مفاهيم فلاسفة كبار مثل ميشيل فوكو، ابن عربي، وهربرت ماركوز، مع تسليط الضوء على دور الدين والإعلام في تعميق أو تخفيف حدة الإشكال، وصولًا إلى طرح سؤال محوري: من شذّ أولًا؟ الفرد أم المجتمع؟

الفطرة والهوية: بين القمع والنفي

منذ ولادتنا، لا نُمنح الفرصة للتعبير عن هويتنا الحقيقية، بل يُفرض علينا نمط اجتماعي وثقافي يحدد مَن يجب أن نكون. يوضح ميشيل فوكو في كتابه الاهتمام بالذات أن الهوية ليست طبيعة ثابتة، بل هي إنتاج اجتماعي يُعاد تشكيله باستمرار (فوكو، 1984). تُكبت الفطرة الحقيقية بفعل القوالب الصارمة للمجتمع التي تحصر الفروق والاختلافات ضمن نطاق ضيق، فتولد حالة من الصراع والتمزق الداخلي. ينبغي التساؤل: هل الشذوذ هو خروج عن الفطرة أم أنه نتاج قمع الفطرة وتكبيلها؟ هل نحن أمام حالة فردية أم ظاهرة اجتماعية تنتجها بنى ثقافية تُفرض على الأفراد؟ هكذا، تصبح الفطرة ذاتها مشروخة، متكسرة في مرآة التقاليد والنصوص التي تحكم المجتمع.

الجسد كضحية وأداة احتجاج

يؤكد هربرت ماركوز في رجل واحد، عقل واحد أن الجسد هو ميدان الصراع السياسي والاجتماعي، فهو آخر منبر يستطيع الإنسان من خلاله التعبير عن ذاته حين تغلق الأبواب الأخرى (ماركوز، 1966). حين تُقمع اللغة، يصبح الجسد هو الصرخة الأخيرة. في المجتمعات التي تُجمد النقاشات حول الهوية الجنسية وتمنع التعبير الحر، يتحول السلوك الجنسي خارج الإطار المقبول إلى احتجاج صامت. هذا السلوك لا يعبّر فقط عن شهوة، بل عن رفض لقمع الحرية والتعريف الضيق للفطرة. يتجلى ذلك في ازدواجية المجتمع الذي يخاف من الجسد لكنه يراقبه ويُدين صاحبه.

الدين بين الحقّ والمزايدة

يحتل الدين موقعًا مركزيًا في تشكيل مفهوم الشذوذ. فالشرائع الدينية، ومنها الإسلام، تحرّم الممارسات الجنسية خارج الأطر الشرعية. لكن ابن عربي، في الفتوحات المكية، يذكر: الحق لا يُطلب منه أن يقمع الإنسان، بل ليهديه إلى ذاته (ابن عربي، 1911). هذا التصور يفتح المجال أمام قراءة مختلفة؛ إذ يتحول الدين في بعض الحالات إلى أداة مزايدة أخلاقية تُستخدم لإدانة الآخر وتكريس الحكم، لا كمرآة للحق وللفهم العميق للإنسان. في هذه الحالة، يتماهى الدين مع المواقف الاجتماعية المحافظة التي تكرّس حالة الإنكار والقمع.

الإعلام كمرآة مشوهة وحجة سهلة

تؤكد دراسات بول هاريسون على دور الإعلام في تشكيل الرأي العام، لكنها تُبيّن أيضًا أن الإعلام يتجه أحيانًا إلى تبسيط الظواهر وتعطيل التحليل النقدي (هاريسون، 2002). ينسب كثيرون ظاهرة الشذوذ إلى الغرب عبر خطاب استيراد القيم والثقافات، وهذا تحميل للآخر مسؤولية ما هو نتاج تربة محلية. الإعلام بذلك يُستخدم كأداة لتبرير المواقف التقليدية وتكريسها، مع تجاهل الأسباب العميقة والمتجذرة في داخل المجتمعات نفسها.

علاج الظاهرة أم علاج المجتمع؟

يرى جون لوك أن المجتمع الذي لا يتيح لأفراده التعبير عن ذواتهم بحرية سيُجبرهم على البحث عن بدائل غير مباشرة لإعلان وجودهم (لوك، 1689). بناء عليه، لا يكمن الحل في محاربة السلوكيات الظاهرة فقط، بل في تفكيك البنى الاجتماعية التي تكرّس القمع والإنكار. يستلزم ذلك بناء ثقافة حوارية تُعلي من قيمة الاعتراف بالذات، وتحترم التنوع في الهويات الجنسية، وتتعامل مع الأفراد كشركاء في صناعة المجتمع، لا كأعداء يجب استئصالهم.

الهوية الجنسية بين الذات والمجتمع

الهوية الجنسية ليست مجرد مسألة بيولوجية أو فطرية وحسب، بل هي أيضًا بناء اجتماعي وثقافي. بيير بورديو يشير إلى أن الهوية هي نتيجة لعلاقات القوة التي تُمارس داخل الحقل الاجتماعي (بورديو، 1990). بناءً على ذلك، يُفرض على الأفراد قبول أو رفض هويات معينة بحسب مواقعهم في هذه العلاقات. في المجتمعات المحافظة، تُختزل الهوية الجنسية ضمن إطار ضيق جداً، ما يخلق فجوة بين الذات الحقيقية والمُتوقع اجتماعيًا. يترتب على ذلك شعور متواصل بالاغتراب وعدم الانتماء، وهذا بدوره يُفضي إلى البحث عن مساحات بديلة تعبر فيها الذات عن حقيقتها، وإن لم تكن مقبولة رسميًا.

الاستلاب الاجتماعي والتمرد الفردي

تحدث كارل ماركس عن الاستلاب عندما يصبح الإنسان غريبًا عن ذاته بسبب أنظمة اجتماعية واقتصادية تضغط عليه (ماركس، 1844). يمكننا أن نرى في ظاهرة الشذوذ إحدى صور الاستلاب، حيث يُجبر الفرد على الانفصال عن فطرته أو هويته الحقيقية، ويصبح جسده وميوله نقطة تمرد على هذا القمع. الشذوذ إذًا ليس فقط مسألة شخصية، بل فعل احتجاج اجتماعي مكبوت، يعبّر عن رفض للقواعد التي تفرض الهوية وتقمع الاختلاف.

النصوص الدينية بين التحرير والتقييد

تُشير الدراسات الحديثة إلى أن النصوص الدينية، رغم صلابتها الظاهرة، تحمل في طياتها إمكانات للتأويل والتحرير. يذكر توماس ميلر أن القراءات الحصرية للنصوص تعزز من حالة القمع، بينما القراءات النقدية تفتح باب التفاهم والقبول (ميلر، 2010). في هذا السياق، ينبغي أن نعيد النظر في الخطاب الديني الرسمي الذي يُستخدم لتبرير الإدانة، مقابل روح الدين التي تدعو إلى الرحمة والعدل، وتفهم الطبيعة الإنسانية بكل تعقيداتها.

الإعلام والتحولات الثقافية

الإعلام ليس فقط ناقلًا للرسائل، بل صانع لها. في زمن العولمة، تنتقل القيم الثقافية وتختلط، لكن الإعلام في كثير من الأحيان يعكس أو يحرف هذه القيم بما يخدم مصالح معينة. من هنا، يتزايد حجم الجدل حول ظاهرة الشذوذ باعتبارها تصديرًا ثقافيًا. يجب أن ندرك أن هذا التصدير هو في الأصل انعكاس لصراعات داخلية، وأن محاربة الظاهرة بإلقاء اللوم على الخارج تغفل عن مسؤولية المجتمع في فهم ذاته وتطوير خطاب داخلي متوازن.

المجتمع والشفاء: نحو حوار إنساني

التعامل مع ظاهرة الشذوذ يتطلب إعادة بناء العلاقة بين الفرد والمجتمع على أسس جديدة. هذا لا يعني التسامح فقط، بل يتطلب إنشاء فضاءات للحوار الصريح، تشجيع ثقافة الاعتراف بالذات، ورفض منطق القهر والإنكار. فالحوار هو الطريق الوحيد لشفاء المجتمع، لأن محاربة الأعراض دون معالجة الأسباب لن تؤدي إلا إلى تعميق الانقسامات وتكريس الانعزال.

العنف الرمزي بين التنشئة الاجتماعية والهوية

بيير بورديو يعرّف العنف الرمزي بأنه القوة التي تُمارس خفية، عبر التنشئة الثقافية والاجتماعية، لتكريس نظام الهيمنة (بورديو، 1991). في المجتمعات التي تُدين الشذوذ، يُمارس هذا العنف عبر التنشئة التي تُلزم الأفراد بقوالب محددة للهوية والجنس والسلوك. هذه القوالب تقمع الاختلاف، وتحول الانحراف الظاهر إلى جريمة اجتماعية لا تُغتفر. العنف الرمزي لا يقل خطورة عن العنف الجسدي، فهو يشكل آلية أساسية في تكرار الهيمنة الاجتماعية، ويخلق حالة من الصراع النفسي المزمن لدى الأفراد الذين يرفضون القوالب المسبقة.

الصمت والتمييز: عبء الرفض

يؤدي هذا العنف الرمزي إلى خلق مناخ من الصمت حول قضايا الهوية الجنسية، حيث يُنكر المجتمع وجودها أو يُخفيها تحت وطأة العار واللوم. يشير إرفينغ غوفمان إلى مفهوم الوصمة التي تلاحق الأفراد المختلفين، وتُقيد حريتهم الاجتماعية (غوفمان، 1963). هذا الصمت يجعل الأفراد أكثر عُرضة للتمييز والإقصاء، مما يفاقم معاناتهم النفسية والاجتماعية، ويعزلهم داخل دوائر الانعزال والرفض.

نقد مفهوم الشذوذ: إعادة النظر في اللغة

مصطلح الشذوذ ذاته يحمل دلالات سلبية قوية، ويُستخدم لتعميق الهوة بين المقبول والمنبوذ. يقترح بعض الباحثين استبدال هذا المصطلح بمفاهيم أكثر حيادية، مثل الاختلاف الجنسي أو التنوع الجنسي، لتخفيف حدة الإدانة وتعزيز الفهم. هذه اللغة الجديدة ليست مجرد تغيير في الكلمات، بل تعكس تحولًا فكريًا واجتماعيًا نحو قبول الآخر والاعتراف بتعددية التجارب الإنسانية.

المجتمع والسياسة: القوانين والحقوق

القوانين التي تُجرّم الشذوذ تعكس سيطرة القيم التقليدية، لكنها في الوقت نفسه تُنتج مشاكل قانونية واجتماعية معقدة. تشير تجارب عدة دول إلى أن التشريع الذي يقمع الحرية الجنسية يعمق الانقسامات، ويزيد من حالات العنف والاضطهاد (الأمم المتحدة، 2019). الحوار السياسي حول الحقوق الجنسية يجب أن يُبنى على أساس احترام كرامة الإنسان وحقوقه، وليس على أساس المحرمات التقليدية فقط.

المستقبل: نحو مجتمع أكثر انفتاحًا

مع تصاعد حركة حقوق الإنسان وانتشار ثقافة التنوع، بدأت العديد من المجتمعات تعيد النظر في مواقفها تجاه الهوية الجنسية. لا يعني هذا تقبلًا أعمى، بل خطوة نحو فهم أعمق، وإنشاء مجتمعات أكثر عدالة وإنسانية. يبقى الطريق طويلاً، لكنه يبدأ بالاعتراف بالاختلاف وعدم التنكر له، وبتبني خطاب حوار يوازن بين التقاليد وحقوق الإنسان

الاستراتيجيات النفسية لمواجهة الرفض

في مواجهة القمع الاجتماعي والوصمة، يلجأ الأفراد إلى استراتيجيات نفسية متعددة للحفاظ على توازنهم، من بينها الإنكار، التبرير، أو التمرد الصامت. فرويد يشير إلى أن الكبت النفسي يؤدي إلى تشوهات في السلوك تُفسّر على أنها انحراف (فرويد، 1915). لكن هذه الظواهر ليست أمراضًا نفسية بالمعنى التقليدي، بل استجابات طبيعية لضغوط اجتماعية غير قابلة للتغيير أو الفهم.

الهوة بين الفرد والمجتمع: التوتر المستمر

التوتر بين الفرد والمجتمع ينبع من تناقض بين تطلعات الحرية الفردية ومتطلبات الانسجام الاجتماعي. إيميل دوركهايم يوضح أن الهوية الفردية تتشكل ضمن الإطار الاجتماعي لكنها ليست مرهونة به بالكامل (دوركهايم، 1897). هذا التوتر يؤدي إلى صراعات داخلية وخارجية، تعكس مدى تعقيد عملية بناء الذات والهويّة ضمن حدود اجتماعية ضيقة.

إعادة تأهيل الخطاب الثقافي

لتحقيق فهم أفضل، يجب إعادة تأهيل الخطاب الثقافي المحيط بقضايا الهوية الجنسية. لا بد من تفكيك الصور النمطية والأحكام المسبقة التي تروجها وسائل الإعلام والمؤسسات الدينية والتعليمية. هذا يتطلب برامج توعية وتعليمية ترتكز على الحوار وقبول التنوع، لا على الإدانة والوصم.

دور القانون في حماية الحقوق وتعزيز التعايش

القانون ليس فقط أداة للضبط، بل يجب أن يكون ركيزة للحماية والعدالة. تشريعات تحترم حقوق الإنسان، وتكفل حرية التعبير عن الهوية الجنسية، تساهم في بناء مجتمع أكثر صحة وانسجامًا. وعلى الرغم من المقاومة المجتمعية، تظهر تجارب دول عديدة أن حماية الحقوق تعزز من استقرار المجتمع وتقلل من حالات التمييز والعنف.

استشراف المستقبل: التحديات والفرص

المستقبل يحمل تحديات كبيرة أمام المجتمعات التي ما زالت تراوح في مكانها في التعامل مع قضايا الهوية الجنسية. إلا أن التطور الثقافي، وظهور منظمات حقوق الإنسان، وانتشار التعليم، كلها عوامل قد تؤدي إلى تحول جذري. يبقى الأمل معقودًا على قدرة المجتمعات على التفاعل مع هذه التغيرات بوعي ومرونة، وتحويلها إلى فرص للنمو والتقدم.

الخاتمة والنتائج

إن قراءة ظاهرة الشذوذ من منظار الفطرة والمجتمع تكشف عن تعقيدات كبيرة ومتناقضة، تحتم علينا تجاوز الأحكام الجاهزة والمواقف السطحية. المجتمعات التي ترفض فهم هذا الواقع وتتعامل معه بالعنف الرمزي والقمع تحكم على نفسها بالعزلة والانغلاق، وتعمّق الانقسامات والانعزال. في مواجهة هذه الظاهرة، لا تكمن الحكمة في تبرير الشذوذ أو الدعوة إليه، بل في فهمه في سياقه الاجتماعي والنفسي، وبعيدًا عن الإدانة الجاهزة. الشذوذ ليس مجرد سلوك منفصل عن الذات، بل هو تعبير عن معاناة مجتمع كامل يعاني من قمع الفطرة وتعقيدات نفسية واجتماعية. لذا، يجب أن نتوقف عن لوم الفرد فقط ونتساءل بصدق عن دورنا في صنع هذه الظاهرة، ونعيد النظر في مفاهيم الفطرة والهوية والدين، جنبًا إلى جنب مع نقد دور الإعلام في تشكيل الخطاب العام. فهذا ليس أمرًا سهلاً، لكنه ضروري، لأن المجتمع الذي يغلق على ذاته لا يستطيع أن ينمو ولا أن يشفي جراحه. ينبغي أن نبني ثقافة حوارية تُعلي من قيمة الاعتراف بالذات، وتحترم التنوع في الهويات الجنسية، وتُعامل الأفراد كشركاء في صناعة المجتمع لا كأعداء يجب استئصالهم. فالحوار الصريح، ورفض منطق القهر والإنكار، هما الطريق الوحيد لشفاء المجتمع وتحقيق انسجامه. كما أن إعادة تأهيل الخطاب الثقافي حول الهوية الجنسية، وتطوير برامج توعية تعتمد على الحوار والقبول، مع ضمان حماية الحقوق من خلال قوانين عادلة، تشكل خطوات جوهرية نحو مجتمع أكثر صحة وعدالة. يبقى السؤال الأساسي مطروحًا وبقوة: من الذي شذّ أولًا؟ الفرد أم المجتمع؟ هذا السؤال ليس دعوة للخضوع، بل بداية لفهم أعمق وأكثر مسؤولية تجاه أنفسنا ومجتمعاتنا، ولبناء مستقبل يمكن فيه للجميع العيش بحرية وكرامة.

***

الكاتب سجاد مصطفى حمود

منذ أن خطت أول قدم بشرية على تراب الأرض، لم يكن القبح مجرد تشوه في الخَلق أو خلل في التناسق، بل كان يُتمًا وجوديًا، يصرخ بين طبقات النفس، ويُنذر بانكسار في الميزان الأخلاقي. القبح ليس نقيض الجمال فحسب، بل هو ظاهرة بشرية تحمل في طياتها فلسفةً مغايرة، ومأساةً قديمة، وأحيانًا، تمردًا على ما يُظن أنه حسن.

وهنا هل بالإمكان ان نسأل القبح هل انت وليد ام انت صاحب هوية؟:

الإنسان لم يولد حاملاً القبح؛ بل وُلد حاملاً القابلية له، كما وُلد حاملاً القابلية للخير والشر. القبح ليس جينًا وراثيًا، ولا لعنة بيولوجية، انما انعكاس لتشوّهات داخلية قد تنشأ من التربية الفاسدة، من بيئة لا ترحم، من مجتمع يُقصي، أو من عقيدة تُشوّه لا تُطهّر.

ونرجع لمثالنا وهو؟

حين قتَل قابيل أخاه، لم يكن قبح الفعل في الدم المسفوك، بل في الدافع: الغيرة، الحسد، غياب الإدراك. ومنذ تلك اللحظة، انقسم الإنسان إلى وجوه متباينة، بعضها يُضيء، وبعضها يعبس في وجه الحياة.

إذا هل للقبح ملامح: من هيئة إلى سلوك؟

القبح لا يستقر في الأنف أو العين أو الثياب الرثة، بل يسكن في الكلمة الجارحة، في النظرة المتعالية، في الفعل الجائر. هو طيف واسع يلبس قناعًا تارة، ويكشف وجهه دون خجل تارة أخرى. هو فردٌ يستضعف الآخر، هو سلطة تبتلع الحقوق، هو صمتٌ في وجه الظلم.

وهنا يطرح العقل أسئلته: هل للتربية دور؟ بالتأكيد. فكلما شُوّهت القيم، كلما تجرأ القبح على الهيمنة. هل للمعتقد أثر؟ نعم، حين يُحرّف الدين عن مقصده الروحي، يُنتج تديّنًا مشوهًا يخلط الجمال بالقبح دون تفرقة.

حين يصبح القبح ردًا... لا اختيارًا

هناك لحظات يُضطر فيها الإنسان ليقترف القبح، لا لأنه يرغبه، بل لأنه يُجبر عليه ليحمي حقه، ليصرخ، ليقاوم، ليُسمع. القبح هنا ليس فضيلة، لكنه صيحة وعي مكسور، حين تعجز أدوات الجمال عن استرداد العدالة.

لكن القبح قد يُغري أيضًا: حين يُستسهل، حين يتحول من رد فعل إلى عادة، من موقف إلى هوية، يصبح قناعًا دائمًا لا يُخلع. واليك أمثلة عن القبح عبر العصور: من الملوك إلى المفكرين، من نيرون الذي أضرم النيران في روما وهو يعزف، إلى ليوبولد البلجيكي الذي حصد أرواح الكونغوليين دون رحمة، ومن فرعون الذي قال "أنا ربكم الأعلى"، إلى هتلر الذي جسّد القبح في قالب عنصري دموي... تتعدد ملامح القبح، لكنها كلها تتغذى من الإفراط في الأنا وغياب الضمير.

أما الفلاسفة، فقد قاربوه كلٌ بطريقته:

أفلاطون اعتبره انحرافًا عن المثال الأعلى.

أرسطو رأى أنه اختلال في الاتساق الطبيعي.

نيتشه دافع عنه حين قال إن الحقيقة غالبًا ما تكون قبيحة والجمال يخفيها.

الصينيون فسّروه كتوازن مفقود في الروح، وليس في الشكل.

في الدين: أين يقف القبح؟

جاء الإسلام بمنظومة تُفرّق بين القبح الخارجي والقبح الباطني، وكان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم رفيقًا بالخلق، حتى قال: "إذا ضرب أحدكم فليتجنب الوجه..."، رفضًا لربط القبح بخلقة الله. الإمام علي عليه السلام نثر حكمًا تلخص الفكرة كلها: "أكبر العيب أن تعيب ما فيك مثله"، إدانة لقبح النفاق، لقبح الازدواجية، لقبح الذين يرون أنفسهم فوق النقد. الدين لا يُجرّم القبح الشكلي، بل يرفض القبح الأخلاقي؛ وبهذا أُعليت قيمة النية والعدل والرحمة على أي مظهر أو هيئة.

القبح الفني: جمال من نوعٍ آخر

لوحات "غويا"، قصائد "بودلير"، روايات "دوستويفسكي"، كلها وظّفت القبح لا لتمجيده، بل لكشف الحقيقة وفضح الزيف. هنا يصبح القبح أداة جمالية، لكنه لا يتخلّى عن دوره النقدي، ولا عن وظيفته التحريضية.

القبح كمأساة إنسانية مستمرة

في مجتمعاتنا اليوم، ما زال القبح يُنتج ضحاياه بصمت: يُحتقر الفقير، يُهمّش المختلف، يُقصى ذو الإعاقة، ويُكرّم المتغطرس. القبح لم يمت، بل تطوّر، واكتسى ثوبًا مؤسسيًا يُشرعن التمييز.

خاتمة السرد: القبح ككاشف، لا كمشين

القبح، في النهاية، ليس شيئًا يُقصى فقط، بل يُفهم، يُواجه، يُكشف. هو مرآة للزيف، منبهٌ للضمير، وصفعة للذين اعتادوا النوم على وسائد الجمال المصطنع. ولعل أجمل ما يمكن أن يُقال عنه: أن القبح لا يخدع، وأن الاعتراف به أول خطوات التحرر.

***

بقلم: د. محمد صبي الخالدي - الكوفة

في المثقف اليوم