قضايا

مفارقة البغل هي مثال فلسفي يُستخدم لتوضيح الصعوبات التي يمكن أن تواجهها في اتخاذ القرارات أو تحديد الخيار الأفضل. استخدام مفارقة البغل كمثال في السياسة قد يبدو مجحفًا، لأن البغل كحيوان لا يمتلك القدرة على التفكير المعقد أو اتخاذ القرارات ، الجهات الفاعلة تمتلك قدرات فكرية واستراتيجيات معقدة، مما يجعل وضعها مختلفًا عن حالة البغل انهم  يتعاملون مع ضغوط داخلية وخارجية معقدة، مما يؤثر على قدرتهم على اتخاذ القرارات بشكل فعال، القضايا السياسية تتعلق بحياة الناس ومعاناتهم، لذا فإن المقاربة التي تستخدم حيوانات كمثال قد لا تعكس الأبعاد الإنسانية والأخلاقية لهذه القضايا، بينما يمكن لمفارقة البغل أن تبرز بعض الجوانب من حالة عدم القدرة على اتخاذ القرار، فإنها لا تعكس تعقيدات السياسة وتحدياتها بشكل كامل من الأفضل التفكير في هذه الديناميات ضمن سياقها الإنساني والسياسي الأوسع.

عوامل تجعل اتخاذ القرارات معقدًة في الشرق الأوسط

المنطقة تضم مجموعة متنوعة من الثقافات والأديان، مما يزيد من التعقيدات الاجتماعية والسياسية. التوترات بين الجماعات يمكن أن تؤثر على القرارات السياسية والنزاعات التاريخية وتخلق بيئة من عدم الثقة وتزيد من صعوبة التوصل إلى حلول ،القوى الدولية والإقليمية تتدخل في الشؤون الداخلية للدول، مما يؤثر على السياسات المحلية ويزيد من الانقسام، الفساد المستشري في بعض الحكومات يؤدي إلى ضعف الثقة في القيادة ويعقد عملية اتخاذ القرار، الأزمات الاقتصادية يمكن أن تؤدي إلى تغييرات مفاجئة في السياسات، مما يجعل التخطيط طويل الأمد صعبًا مع وجود الجماعات المسلحة والتهديدات الإرهابية يجعل الحكومات مضطرة للتركيز على الأمن بدلاً من القضايا التنموية، الحركات الاحتجاجية والمطالب الشعبية تضغط على الحكومات، مما يجعل اتخاذ القرارات صعبًا في ظل الحاجة للتوازن بين المطالب الشعبية والمصالح السياسية ،التحالفات بين الدول والجماعات تتغير بسرعة، مما يجعل فهم المشهد السياسي أمرًا صعبًا ويعقد اتخاذ القرارات الاستراتيجية، تتداخل هذه العوامل بشكل معقد، مما يجعل اتخاذ القرارات السياسية في الشرق الأوسط عملية صعبة تتطلب التوازن بين مصالح متعددة وتحديات متنوعة ،عندما تكون الخيارات صعبة ومتساوية ،تشير المفارقتان إلى قضايا أعمق حول معنى الوجود والاختيار هل يعني ذلك أن جميع الخيارات المتساوية يمكن أن تعكس المفارقتان ؟  ان طبيعة البشر في مواجهة القرارات، ويمكن أن يؤدي التردد إلى نتائج سلبية مثل عدم القدرة على اتخاذ أي خطوة إلى الأمام تُعتبر نقطة انطلاق لمناقشات أعمق حول مفهوم الحرية، والمسؤولية، واتخاذ القرار. في السياقات الفلسفية تحديات مهمة لفهم الواقع تساعد في استكشاف حدود التفكير المنطقي.

المفارقات المنطقية والتطبيقات العملية

تساعد المفارقات في استكشاف قضايا الحقيقة، المعرفة، والوجود. تؤدي إلى تطوير نظريات فلسفية جديدة حول طبيعة اللغة والمعنى هذه المفارقات تسلط الضوء على كيفية تأثير السلوكيات الحيوانية على التفكير البشري وتساعد في فهم بعض القضايا الفلسفية والاجتماعية، تتناول المفارقتان فكرة حرية الإرادة وكيف يمكن أن تؤثر الخيارات المتساوية على القدرة في اتخاذ القرار. إذا كان لدى الحمار خياران متساويان، هل يعني ذلك أنه يملك حرية الاختيار؟ تسلط المفارقة الضوء على مشكلة التردد، حيث يمكن أن يؤدي التفكير المفرط في الخيارات المتاحة إلى عدم اتخاذ أي قرار. كيف يمكن للإنسان التغلب على التردد في مواقف مشابهة؟ تتعلق المفارقة بكيفية تقييم الخيارات. إذا كانت الخيارات متساوية في القيمة، كيف يمكن للفرد تحديد ما هو الأفضل؟ هذه القضية تتناول مسألة التفضيل الشخصي، كما تثير المفارقة تساؤلات حول معنى الوجود والاختيار. إذا كان الحمار غير قادر على اتخاذ قرار، هل يعني ذلك أن وجوده بلا معنى؟ تُظهر المفارقة كيف يمكن أن تؤدي العوامل العقلانية والعاطفية إلى صراع عند اتخاذ القرارات وكيف يمكن تحقيق التوازن بين التفكير العقلاني والعواطف في مواقف مماثلة؟ تثير المفارقة قضايا حول كيفية استخدام اللغة والمنطق في التعبير عن الخيارات. كيف يمكن أن تساهم هذه القضايا في توسيع فهمنا للقرار، الحرية، والوجود؟ مما يجعل مفارقة الحمار موضوعًا غنيًا للنقاش الفلسفي.

دور العوامل الداخلية في عملية اتخاذ القرار

مزاج الكائن يمكن أن يؤثر على قراراته. إذا كان الحمار يشعر بالتوتر أو القلق، قد يتردد أكثر في اتخاذ القرار الدوافع الداخلية مثل الجوع أو الرغبة في الاستكشاف يمكن أن تؤثر على الخيار الذي سيتخذه. إذا كان جائعًا وعطشانا، قد يميل لاختيار أحد الاتجاهين بشكل أسرع، التجارب السابقة تلعب دورًا كبيرًا، إذا كان الحمار قد تعلم من تجاربه السابقة أن كومة القش أفضل، فإنه يفضلها بناءً على تلك المعرفة ،مستوى الإدراك والفهم يؤثران على كيفية معالجة الخيارات، إذا كان الحمار قادرًا على تقييم الخيارات بشكل أفضل، فقد يتخذ قرارًا أكثر وعيًا .يمكن أن يكون لدى الكائنات تفضيلات شخصية تؤثر على اختياراتها، مثلًا، إذا كان الحمار يميل إلى نوع معين من التبن، فقد يفضل الكومة التي تحتوي عليه، الخوف من العواقب المحتملة لاختيار معين يمكن أن يؤدي إلى التردد، إذا كان الحمار يخشى من عدم الحصول على الطعام الكافي، فقد يؤثر ذلك على قراره، تُظهر هذه العوامل كيف يمكن أن تؤثر العوامل الداخلية بشكل كبير على عملية اتخاذ القرار، مما يجعلها معقدة ومتعددة الأبعاد، المعتقدات الشخصية والقيم الأخلاقية يمكن أن تؤثر على الخيارات، إذا كان الحمار يعتقد أن أحد الخيارات ليس جيدًا قد يتجنبه ،عندما يكون الكائن مرهقًا عقليًا، يكون أقل قدرة على اتخاذ قرارات جيدة، الإرهاق يمكن أن يؤدي إلى اختيارات غير مدروسة. القدرة على التفكير النقدي والتحليلي تؤثر على كيفية تقييم الخيارات، إذا كان الحمار قادرًا على تحليل الموقف بشكل أفضل، فقد يتخذ قرارًا أكثر وعياً التفكير. إذا كان الحمار يتوقع أن أحد الاتجاهين سيؤدي إلى نتائج أفضل، هذا التحفيز يمكن أن يكون دافعًا قويًا، العواطف مثل الخوف أو الفرح يمكن أن تلعب دورًا في اتخاذ القرار.. إذا كان الحمار مرنًا في تفكيره، قد يكون أكثر قدرة على تغيير رأيه بناءً على الظروف. تُظهر هذه العوامل أن عملية اتخاذ القرار ليست بسيطة، بل تتأثر بمجموعة من العوامل الداخلية التي تتفاعل مع بعضها البعض.

تفاعل العوامل الداخلية مع العوامل الخارجية

تتفاعل العوامل الداخلية مع العوامل الخارجية بطرق معقدة تؤثر على عملية اتخاذ القرار. العوامل الخارجية مثل البيئة أو المحفزات يمكن أن تؤثر على الحالة النفسية أو الدوافع الداخلية. على سبيل المثال، يمكن أن يؤدي وجود غذاء شهي إلى زيادة الدافع الداخلي للحمار لاختيار كومة معينة، العوامل الداخلية مثل القيم أو المعتقدات يمكن أن تؤثر على كيفية تفسير العوامل الخارجية. إذا كانت هناك كومة من التبن تبدو غير جذابة، قد يتجاهلها الحمار بناءً على قيمه أو تفضيلاته، العوامل الداخلية مثل المرونة العقلية تساعد الكائنات على التكيف مع العوامل الخارجية. إذا تغيرت الظروف، قد يغير الحمار طريقة تفكيره بناءً على ما يراه أو يشعر به. العوامل الخارجية مثل وجود حيوانات أخرى قد تؤثر على القرارات بناءً على العوامل الداخلية مثل القلق أو الثقة بالنفس، يشجع الضغط الاجتماعي الحمار على اتخاذ قرار مختلف عما كان سيفعله بمفرده في التجارب السابقة. إذا كان الحمار قد تعلم أن اتجاها معينا أفضل، قد يتفاعل بشكل مختلف عند مواجهتها مرة أخرى.

*مفارقة الحمار ومفارقة البغل هما مثالان على مشكلات فلسفية تتعلق بالاختيار والقرار.

مفارقة الحمار (حمار بوريدان)

تتعلق هذه المفارقة بحمار وجد نفسه بين كومة قش ودلو ماء الحمار لا يستطيع اتخاذ قرار بشأن أي اتجاه يذهب إليها لأنه لا يوجد سبب مميز في وعيه للاختيار. بسبب هذا التردد، ينتهي به المطاف بالموت جوعًا، مما يسلط الضوء على مشكلة اتخاذ القرار في ظروف مماثلة.

مفارقة البغل

تتعلق بمفهوم الهوية والتعريف، حيث يُعتبر البغل (نتاج تزاوج الحمار والفرس) مثالًا على الكائن الذي لا يمكن تصنيفه بشكل دقيق ضمن الفئات التقليدية. فهو ليس حمارًا ولا فرسًا، مما يثير تساؤلات حول طبيعة الهوية. إذا كان البغل لا يمكنه اتخاذ قرار بشأن الاتجاه الذي يجب أن يسلكه، فإن هذه المفارقة تُظهر كيف يمكن أن يؤدي عدم القدرة على اتخاذ القرار إلى شلل. كلا المفارقتين تطرحان أسئلة حول الإرادة الحرة والاختيار، لكن كل واحدة منهما تعالج جوانب مختلفة من هذه القضية.

***

غالب المسعودي

الحرية السوبر خلاّقة = إنتاج أفعالنا وهوياتنا وماهياتنا على ضوء رغباتنا ومعتقداتنا × إنتاج مسؤوليتنا وإبداعنا وتطوّرنا المستمر. وهذه الحرية سوبر خلاّقة لأنها فعّالة كفعّاليتها في إنتاج ماهياتنا وتطوّرنا. أما رغباتنا ومعتقداتنا التي من خلالها نغدو أحراراً فهي تلك التي ننتجها على أساس تفكيرنا المنطقي والموضوعي والعلمي لكي تحقق منفعتنا ومنفعة كلّ فرد. وبذلك الرغبات والمعتقدات الداعية إلى الصراعات والحروب غير مُعبِّرة عن أيّة حرية لأنها مضرة للذات والآخرين بضرر أيّ صراع و أيّة حروب. من هنا، معادلة الحرية السوبر خلاّقة تتضمن أيضاً أنَّ الحرية الحقة تكمن في إنتاج النافع والمفيد للذات والآخرين، وبذلك هي حرية أخلاقية بامتياز.

إن لم ننتج أفعالنا على ضوء رغباتنا ومعتقداتنا، فحينئذٍ أفعالنا نتائج رغبات ومعتقدات الآخرين وبذلك نكون سجناء الآخرين ورغباتهم ومعتقداتهم فنفقد حريتنا. لذلك الحرية كامنة في إنتاج أفعالنا على ضوء رغباتنا ومعتقداتنا تماماً كما تؤكِّد على ذلك معادلة الحرية السوبر خلاّقة القائلة بأنَّ الحرية = إنتاج أفعالنا وهوياتنا وماهياتنا على ضوء رغباتنا ومعتقداتنا × إنتاج مسؤوليتنا وإبداعنا وتطوّرنا المستمر. من المنطلق نفسه، إن لم ننتج هوياتنا وماهياتنا، نغدو حينئذٍ سجناء هويات وماهيات مُحدَّدة لنا من قِبَل الآخرين فنخسر حريتنا. لذلك الحرية كامنة أيضاً في إنتاج هوياتنا وماهياتنا كما تقول معادلة الحرية السوبر خلاّقة.

بالإضافة إلى ذلك، إن كنا أحراراً، فحينها نحن مَن ننتج أفعالنا وبذلك نصبح مسؤولين عن أفعالنا. من هنا، الحرية تتضمن بالضرورة المسؤولية. لذلك الحرية إنتاج المسؤولية كما تؤكِّد معادلة الحرية السوبر خلاّقة القائلة بأنَّ الحرية = إنتاج أفعالنا وهوياتنا وماهياتنا على ضوء رغباتنا ومعتقداتنا × إنتاج مسؤوليتنا وإبداعنا وتطوّرنا المستمر. تكمن الحرية أيضاً في الإبداع لأنَّ الإبداع إنتاج ما هو جديد ومغاير مما يحرِّرنا من التقاليد والنماذج الفكرية والسلوكية الماضوية. على هذا الأساس، الحرية إنتاج الإبداع كما تقول معادلة الحرية السوبر خلاّقة.

تكمن الحرية أيضاً في التطوّر المستمر. فإن كنا لا نتطوّر اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً باستمرار، فحينئذٍ نحن سجناء ما نحن عليه حالياً مما يتضمن خسران الحرية. لذلك الحرية كامنة أيضاً في إنتاج تطوّرنا المستمر تماماً كما تؤكِّد على ذلك معادلة الحرية السوبر خلاّقة. وكلّ البراهين السابقة تدلّ على مقبولية معادلة الحرية السوبر خلاّقة وصدقها.

***

حسن عجمي

في ظل المجتمعات المتعددة والمتنوعة، يرتكب خطأ استراتيجي، حينما يوجه الخطاب حين التوتر أو الأزمة إلى عقلاء الطوائف، بدل أن يتوجه الخطاب إلى عقلاء الوطن والأمة.. لأنه مهما كانت الظروف والأحوال، من الخطأ العميق   توجيه الخطاب إلى فئة من المواطنين، لأنه لا يؤسس إلى حالة أن كل طرف أو مكون يوجه خطابه إلى المكون الآخر.. فتضيع المسؤولية بين الخطاب والخطاب المتبادل.. 

والأجدى على المستوى الوطني توجيه الخطاب إلى عقلاء الوطن والأمة، لأنه هو الذي يحافظ على وحدة المجتمع بكل تعدده وتنوعه، والجميع يتحمل مسؤوليته الوطنية في كل القضايا الوطنية المطروحة.. فلا يوجد شيء خاص بعقلاء الطائفة السنية ويقابله أمر خاص بالطائفة الشيعية.. كل القضايا من اختصاص جميع المواطنين.. ويرتكب خطأ عميق بحق الوطن، حينما يوجه الخطاب والكلام إلى فئة خاصة من فئات وشرائح الوطن والمجتمع.. 

لأن الخطابات الخاصة تدشن لحالة وكأن الوطن منقسم على نفسه.. فكل قضايا الوطن تهم جميع المواطنين.. وليس ثمة قضية خاصة بمكون من مكونات الوطن دون بقية المواطنين.. 

أحسب أن الخطاب الشامل للجميع أجدى وأنفع للوطن والمواطنين على كل الصعد والمستويات.. 

وحين يصاب الوطن بأزمة ومشكلة، جميع المواطنين يتحملون مسؤولية العمل للخروج من هذه الأزمة والمشكلة.. فالمواطن بصرف النظر عن مذهبه أو منطقته أو قبيلته، يتحمل مسؤولية مباشرة عن كل القضايا التي تصيب الوطن.. ولا ريب أن الخطابات الفئوية غير لائقة وطنياً، كما أنها تقدم رسالة خاطئة لبقية المواطنين. ووجود قصور في ثقافة الناس على هذا الصعيد، ينبغي أن يعالج بالإصرار الدائم على أن كل قضايا الوطن هي من اختصاص واهتمام جميع المواطنين.. 

لأن المساهمة في تطييف قضايا الوطن وتوزيع هذه القضايا على عقلاء كل مكون، لا ينسجم ونظام الوحدة الوطنية.. إن الوطن واحد وإن تعدد وتنوع أهل هذا الوطن. 

وما دام الإنسان يحمل صفة أنه مواطن، فهو يتحمل مسؤولية وطنية مباشرة عن كل أمور وقضايا الوطن والمواطنين.. 

وهذه المسؤولية الوطنية التي يتحملها تترجم عبر مختلف الآليات الوطنية.. وما يخصنا في سياق هذا الموضوع أنه لا توجد قضايا وطنية خاصة بالطائفة الشيعية وقضايا أخرى خاصة بالطائفة السنية.. وإنما كل القضايا خاصة لجميع المواطنين. والخطاب الذي يوجه ينبغي أن يوجه للجميع بصرف النظر عن مذاهبهم ومدارسهم الفقهية والعقدية.. 

فالوطن أوسع من الطوائف، وليس من الحكمة الوطنية تقسيم المواطنين تبعاً لانتماءاتهم العقدية والمذهبية.. لأن هذا يؤدي إلى خلق حالة التحاجز النفسي والاجتماعي بين مختلف الأطياف والمكونات.. 

ومن الأجدى في كل الظروف والأحوال، تذويب كل الحواجز التي تمنع أبناء الوطن من التفاعل والتعاون بين بعضهم البعض.. فليس اختصاص أي مواطن أن يدافع عن مواطن دون آخر أو عن مكون دون بقية المكونات.. فكل مواطن معني بالدفاع عن كل المواطنين.. فلا نريد لوطننا الواحد أن يعيش حالة التحاجز بين أبناءه أو مكوناته.. وعلى ضوء هذه الاعتبارات، فإن توجيه الخطاب الإعلامي أو السياسي إلى مكون دون بقية المكونات يضر بمفهوم الوحدة الوطنية، ويرسل رسالة خاطئة لجميع المواطنين مفادها أن هناك قضايا في هذا الوطن من اختصاص هذه الفئة دون بقية الفئات، وأن هذه المسألة يتحمل مسؤوليتها هذا المكون دون بقية المكونات.. 

وعليه لا يوجد خطاب لعقلاء هذه الطائفة أو تلك، وإنما يوجد خطاب وطني لجميع المواطنين.. 

ووجود قضايا إدارية أو تدبيرية خاصة بهذا المكون أو ذاك، لا يشرع بناء خطاب خاص لهذه الفئة أو تلك.. ومن مصلحتنا جميعاً أن نعمل على سد كل الثغرات التي يتسرب منها نزعات التفريق بين المواطنين على أساس مذهبي أو قبلي أو مناطقي. من مصلحتنا جميعاً أن يكون خطاب الجميع لكل المواطنين، وأن تكون كل قضايا الوطن لكل أهل الوطن.. وأن نعمل معاً لطرد كل الخطابات والممارسات التي تفرق بين المواطنين لاعتبارات مذهبية أو قبلية أو مناطقية.. 

فالوطن لنا جميعاً، ومن واجبنا أن نعمل على حمايته وتطوير نظام العيش المشترك فيه.. 

ولا نريد لهذا الوطن أن يعيش حالة من الحروب المذهبية بين مكوناته وشرائحه. نريده وطناً لجميع المواطنين، والجميع يعيش فيه بعدالة ومساواة.. 

ووفق هذه الآلية نصون الوطن من كل المخاطر والتحديات، ونحميه من كل الآفات التي قد تصيب بعض المجتمعات التي تعمل على بث الكراهية بين المواطنين لاعتبارات دينية أو مذهبية أو قبلية.. 

ونرى أن الجميع يتحمل مسؤولية تطهير المناخ الوطني والاجتماعي من كل الميكروبات التي تضر العلاقة بين مكونات الوطن الواحد.. 

ويبدو من مختلف التطورات والتحولات التي تجري في أكثر من بلد، أن هذه المسألة ليست حالة ترفيه لصيانة أمن الوطن والمجتمع.. وإنما هي من ضرورات الأمن الاجتماعي والسياسي.. وإن التساهل في هذا الأمر، سينعكس سلباً على أمن الجميع.. 

وفي هذا السياق ندعو جميع المواطنين إلى الالتفات إلى النقاط التالية:  

1.  ضرورة العمل ومن قبل جميع مكونات الوطن، لتطوير نظام التعارف المتبادل بين جميع المواطنين.. لأننا نعتقد أن الجهل المتبادل بين المواطنين يؤسس لحالة من الجفاء والابتعاد عن بعضنا البعض.. آن الأوان أن يعمل الجميع لتطوير نظام التعارف بين المواطنين.. 

2.  مؤسسات الدولة التعليمية والإعلامية، تتحمل مسؤولية حماية نظام التعايش السلمي بين مختلف المواطنين.. وتجريح أية ممارسة يقوم بها أي مواطن تضر بحالة العيش المشترك بين المواطنين.. 

3.  إشاعة ثقافة الحوار والتسامح بين المواطنين، وتفكيك كل الثقافات العنفية التي يعيشها هذا المواطن أو ذاك.. لأن الأمن الاجتماعي والوطني، بحاجة إلى ثقافة التسامح والبعد عن كل عوامل التشنج التي تصيب بعض المجتمعات وتنقل مزاج المجتمع من حالة الاعتدال إلى حالة التطرّف والاقتراب من ظاهرة العنف.. 

***

محمد محفوظ

كرسي كرونوس هو مفهوم رمزي يعكس علاقة الإنسان بالزمان وكيفية تأثيره على حياتنا. يأتي اسم "كرونوس" من الأسطورة اليونانية، حيث كان يُعتبر إله الزمن. (“غالب المسعودي - كرسي كرونوس وثقافة الزمن”) في هذا السياق، يمكننا استكشاف عدة جوانب تتعلق بالزمن:

الزمن كعنصر حاسم في الحياة

الزمن هو المورد الوحيد الذي لا يمكن استرجاعه. كل لحظة تمر لا يمكن استعادتها، مما يزيد من أهمية كيفية استخدامنا له.

ثقافة السرعة

في العصر الحديث، أصبحت ثقافة السرعة تهيمن على حياتنا. يتوقع من الأفراد إنجاز المهام بسرعة، مما يؤدي إلى الشعور بالضغط والتوتر.

التأمل والتفكير العميق

على الرغم من ضغوط الزمن، فإن تخصيص وقت للتأمل والتفكير في اللحظة الحالية يمكن أن يمنحنا شعوراً بالراحة ويساعدنا على تقدير ما لدينا.

الزمن الاجتماعي

يختلف مفهوم الزمن من ثقافة لأخرى. في بعض الثقافات، يُعتبر الوقت خطياً، بينما يُنظر إليه في ثقافات أخرى على أنه دائري، مما يؤثر على كيفية تنظيم الحياة اليومية.

التكنولوجيا والزمن

التكنولوجيا غيرت بشكل جذري كيف نعيش ونتفاعل مع الزمن. من الجدول الزمني للمواعيد إلى التفاعلات السريعة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أصبحت حياتنا مرتبطة بشكل وثيق بالتكنولوجيا.

فلسفة الزمن

تناول الفلاسفة مفهوم الزمن من زوايا متعددة، مثل الزمن كحقيقة موضوعية أو كإدراك شخصي. هذه المناقشات تعكس عمق التفكير البشري حول طبيعة وجودنا.

الاستدامة والوقت

التفكير في الزمن يمتد إلى قضايا الاستدامة، حيث نحتاج إلى إعادة التفكير في علاقتنا بالموارد الطبيعية وكيفية تأثير أفعالنا على المستقبل.

"الجلوس على كرسي كرونوس يتيح لنا فرصة للتأمل في علاقتنا بالزمن وكيف يمكن أن نعيش حياة أكثر معنى وتوازنًا." (“كرسي كرونوس وثقافة الزمن - الحوار المتمدن” -غالب المسعودي) من خلال الفهم العميق للزمن وثقافته، يمكننا أن نعيد ترتيب أولوياتنا ونعيش بوعي أعلى.

تأثير التكنولوجيا على فهم الزمن في المجتمعات المتخلفة

تؤثر التكنولوجيا بشكل كبير على كيفية فهم الزمن وإدارته في المجتمعات المتخلفة:

تسريع التغيير

انتشار الهواتف الذكية والإنترنت ساهم في تسريع الوصول إلى المعلومات، مما يجعل الأفراد أكثر وعياً بالتغيرات العالمية ويعزز من توقعاتهم الزمنية. توفر الدورات التفاعلية عبر الإنترنت أو البرامج التعليمية يسهم في تحسين المهارات في وقت أقل، مما يعيد تشكيل مفهوم الوقت كمورد للتعلم.

تغير الأولويات

تكنولوجيا الإنتاج مثل الأتمتة تعزز من أهمية الكفاءة والسرعة، مما يغير طريقة تفكير الأفراد حول الزمن كعامل حاسم في النجاح الاقتصادي. قد تؤدي التكنولوجيا إلى زيادة الشعور بالضغط لإنجاز المهام بسرعة، مما يعكس ثقافة الوقت.

الزمن الاجتماعي

تتيح التكنولوجيا تواصلًا فوريًا، مما يعيد تشكيل العلاقات الاجتماعية ويدفع نحو مفهوم الوقت اللحظي، حيث تصبح اللحظة الحالية محورية. التقنيات الحديثة قد تؤدي إلى تباعد الأسر، حيث يقضي الأفراد وقتًا أطول على الأجهزة بدلاً من التواصل المباشر.

المفاهيم التقليدية للزمن

في المجتمعات المتخلفة، قد يتعارض المفهوم التقليدي للزمن (مثل الزمن الدائري) مع المفاهيم الحديثة (مثل الزمن الخطي)، مما يخلق توترات ثقافية. قد تؤدي التكنولوجيا إلى تغييرات في العادات اليومية، مثل كيفية تنظيم المواعيد أو الاحتفال بالتراث الثقافي.

فرص جديدة

تكنولوجيا مثل الزراعة الذكية أو التجارة الإلكترونية توفر فرصًا جديدة لتحسين مستويات المعيشة، مما يدفع الأفراد لإعادة التفكير في كيفية استخدام الزمن لتحقيق هذه الفرص التكنولوجيا في المجال الصحي قد تعزز من الوعي الصحي وتغير الأساليب التقليدية للرعاية، مما يؤثر على كيفية تقدير الزمن في سياق الصحة العامة. تؤثر التكنولوجيا بشكل عميق على فهم الزمن في المجتمعات المتخلفة، مما يعيد تشكيل القيم والعادات والتفاعلات الاجتماعية. من المهم أن يتم التعامل مع هذا التأثير بحذر لضمان الاستفادة من الفرص التي توفرها التكنولوجيا دون فقدان الهوية الثقافية أو القيم التقليدية.

مفهوم كرونوس وهوية المثقف الشرق أوسطي

كرونوس كما هو معروف إله الزمن في الأساطير اليونانية، ويرمز إلى الزمن الخطي الذي يسير في اتجاه واحد. يعكس هذا المفهوم كيف أن الزمن يُعتبر قوة حاسمة تؤثر على الحياة الإنسانية والتاريخ. (“غالب المسعودي - كرسي كرونوس وثقافة الزمن”) يُعتبر كرونوس أيضًا رمزًا للتغير المستمر، حيث يُظهر أن الزمن لا يمكن إيقافه أو التراجع عنه، مما يدفع الأفراد إلى التفكير في كيفية عيش حياتهم في ظل هذا الزمن المتواصل.

الهوية للمثقف الشرق أوسطي

المثقف الشرق أوسطي يعيش في منطقة غنية بالتنوع الثقافي والديني، مما يؤثر على هويته. يتفاعل مع مجموعة واسعة من الأفكار والتقاليد. تاريخ المنطقة مليء بالأحداث الهامة، من الاستعمار إلى الحروب الأهلية، مما يساهم في تشكيل الهوية للمثقف ويجعله يواجه تحديات الزمن.

التحديات المعاصرة

يعيش المثقف الشرق أوسطي في صراع دائم بين الحفاظ على التراث الثقافي والانفتاح على الحداثة. هذا التوتر ينعكس في أعمالهم وأفكارهم. مع دخول التكنولوجيا الحديثة، يتغير مفهوم الزمن وكيفية التفاعل مع العالم. يساهم ذلك في تشكيل هوية جديدة تعكس التحديات والفرص المعاصرة.

الزمن والذاكرة

المثقف الشرق أوسطي غالبًا ما يستند إلى الذاكرة الجماعية لتاريخ المنطقة، مما يؤثر على فهمه للزمن. يُعتبر الزمن ليس فقط خطيًا، بل أيضًا دائريًا يتكرر فيه الأحداث والمآسي. يتداخل الزمن الشخصي مع الزمن الجماعي، حيث يسعى المثقف إلى فهم هويته من خلال تجربته الفردية والمجتمعية.

التفكير النقدي

المثقف الشرق أوسطي يميل إلى التفكير النقدي، حيث يسترجع الأحداث التاريخية والنماذج الثقافية لفهم الزمن وتأثيره على الهوية يسعى المثقفون إلى إحداث تغيير إيجابي في مجتمعاتهم من خلال التعليم والنقاشات الفكرية، مما يعكس رغبتهم في إعادة تعريف الزمن وهويتهم الثقافية. مفهوم كرونوس يساهم في تشكيل هوية المثقف الشرق أوسطي، حيث يتفاعل مع الزمن من خلال تجربته الثقافية والتاريخية. هذا التفاعل يعكس التحديات والفرص التي تواجهها المنطقة، مما يجعل المثقف عنصرًا محوريًا في فهم الزمن وتطوير الهوية الثقافية في سياق عالمي متغير.

التحديات الرئيسية

التأثيرات العالمية قد تؤدي إلى تآكل الهويات الثقافية المحلية، حيث تتراجع الفنون والتقاليد التقليدية أمام الثقافات السائدة. المثقفون قد يشعرون بضغط للتكيف مع المعايير العالمية، مما يؤدي إلى فقدان الأصالة. صعوبة المنافسة مع الإنتاج الثقافي الضخم الذي تقدمه الشركات العالمية، مما يجعل الوصول إلى الجمهور المحلي تحديًا. الانجذاب إلى المحتوى الترفيهي العالمي قد يحد من الاهتمام بالمحتوى الثقافي المحلي. الانفجار الهائل في المعلومات الرقمية يجعل من الصعب تحديد المصادر الموثوقة والتمييز بين الحقائق والأكاذيب. التأثيرات السلبية للوسائل الرقمية على التركيز قد تؤثر على قدرة المثقفين على إنتاج محتوى عميق وذو معنى. في بعض الدول، تواجه الأفكار النقدية والآراء المختلفة رقابة شديدة، مما يعوق حرية التعبير. النزاعات السياسية والاجتماعية قد تعرقل المناقشات الثقافية وتؤدي إلى انقسامات داخل المجتمع. قد يواجه المثقفون صعوبة في الحصول على التمويل والدعم لمشاريعهم الثقافية، مما يؤثر على قدرتهم على الابتكار والإنتاج. تراجع الاستثمارات في الثقافة والفنون يحد من الفرص المتاحة للمثقفين. ثقافة الردود الفورية والتفاعل السريع تؤثر على جودة النقاشات الثقافية وتعمق الأفكار. المثقفون قد يشعرون بالضغط لتبني آراء شائعة أو شعبية على حساب آرائهم الشخصية. الأجيال الشابة قد تفضل الثقافات العالمية على حساب التراث الثقافي المحلي، مما يؤثر على استمرارية الهوية الثقافية. قلة الوعي بأهمية الثقافة والتراث قد تؤدي إلى تراجع مشاركة الشباب في الفعاليات الثقافية.

من هو كرونوس؟

كرونوس (Cronus) هو إله في الأساطير اليونانية، ويعتبر واحداً من تيتان. وُلد كرونوس من الجيل الثاني من الآلهة، وهو ابن أورانوس (السماء) وجيا (الأرض). يُعرف كرونوس بأنه كان حاكم الزمن، وغالباً ما يُصوَّر وهو يحمل منجلاً.

أبرز النقاط حول كرونوس

الأسطورة: في الأسطورة، قام كرونوس بإسقاط والده أورانوس، وأخذ مكانه كملك للآلهة.

الزواج والأبناء: تزوج من ريا، وأنجب منها العديد من الآلهة، بما في ذلك زيوس، هيرميس، وأثينا.

الخوف من النبوءة: كان كرونوس خائفًا من نبوءة تقول إنه سيتم الإطاحة به من قبل أحد أبنائه، فكان يأكل كل طفل يولد له حتى لا يواجه هذا المصير.

السقوط: تم الإطاحة به في النهاية من قبل زيوس، الذي أنقذ إخوته من بطن والدهم.

كرونوس يمثل فكرة الزمن والدورات الطبيعية في الحياة، وقد ارتبط اسمه أيضاً بكلمة "كرونولوجيا"، التي تعني دراسة الوقت.

***

غالب المسعودي

قراءة ثانية في واقع ما بعد السابع من أكتوبر

كتب الدكتور زكرياء سعيدي قائلا "معظم الكتابات التي نقدت العقل العربي وحللت بنيته ومكوناته تنتمي إلى فترة النكبة الأولى والثانية للهزيمة العربية ضد الكيان السرطاني.... واليوم أمام الفضيحة العربية المخزية تجاه ما يجري لإخواننا في غزة لم تعد تجدي تلك التحليلات شيئا ولم يعد لها قيمة معرفية، اليوم يجب الحفر أعمق في بنية العقل العقيم، هذا العقل المستقيل من أسباب بقائه الحقيقية" الوحي"، هذا العقل المتورط في محرقة القرن"، وبحكم تفاعلنا مع ما كتب فإننا نوسع الأطروحة لتشمل تشريح بنية العقل الإنساني جمعاء، فبعد أزمة كورونا والحرب -الروسية الأوكرانية- صار الحديث عن مصير إنساني مشترك أمرا مطروحا في الساحات الفكرية والثقافية.

وفي ظل ما يعيشه العالم اليوم من توجيه الحديث حول القضية الفلسطينية، وبما أن محورية التقييم اليوم ومعيار الحكم على العقل الإنساني، أصبحت في التعامل مع ما يجري في غزة، يمكننا أن نقول أننا بحاجة لقراءة ثانية لواقع العقل الإنساني، أو الحديث عن تقسيم عام للعقل البشري.

ولا أستثني في هاته التقسيمات عربي أو أوربي، مسلم أو غير مسلم ، أو كل ما يدعي أنه إنساني ، ولعل هذا ما رسينا عليه في أخر تصريح للفيلسوف الفرنسي إدغار موران الذي جاء فيه " صمتت العالم، صمتت الولايات المتحدة الحامية لإسرائيل، صمتت الدول العربية، صمتت الدول الأوروبية التي تدعي أنها تدافع عن الثقافة الإنسانية وحقوق الإنسان ، أعتقد أننا نعيش مأساة مروعة لأننا أيضا عاجزون، أنا مذهول، ومستاء من حقيقة أن الذين يمثلون أحفاد شعب تعرض للاضطهاد لقرون بسبب أسباب دينية أو عرقية أن الأحفاد من هذا الشعب الذين هم اليوم، صناع القرار في دولة إسرائيل، أنهم يمكنهم ليس فقط استعمار شعب كامل وطرده جزئيا من أرضه ورغبتهم في طرده بشكل نهائي من أرضهم، ولكن بالإضافة إلى ذلك بعد مجزرة 7 أكتوبر  انغمسوا في مقاتل هائلة حقيقية على سكان غزة وما زالو يستمرون بلا توقف ويستهدفون المدنيين والأطفال والنساء ، وأرى أن صمت العالم، وصمت الولايات المتحدة الحامية لإسرائيل، وصمت الدول العربية، وصمت الدول الأوربية التي تدعي أنها تدافع عن ثقافة الإنسانية وحقوق الإنسان، أعتقد أننا نعيش مأساة مروعة لأننا أيضا عاجزون أمام هذا الشيء الذي يتفشى وعلى الأقل شهادة ، الشيء الوحيد الذي يبقى إذا لا يمكننا المقاومة بشكل ملموس، فلنقاوم في أذهانناـ لا تدعوا أنفسكم يتم خداعها، ..... ".

وقد ارتأيت من قراءتي للواقع و متاباعاتي أن يكون كالآتي:

1-العقل التدميري: هو الذي يدمر غزة الأن وتمثله القوى الوحشية الكبرى: إسرائيل وداعمتها أمريكا.

2-العقل الاتكالي: وهو العقل الذي يعول على غيره في تحرير غزة وسكانها، ويناشد بهذا دوما.

3-العقل المستقيل: وهو العقل الذي اختار أن يواصل حياته كما هي غير أبه بما يحدث في قطاع غزة من قتل وتجويع، وتدمير، وإبادة ممنهجة، وتطهير عرقي...

4-العقل الحقير: وهو العقل الذي اختار بيع اخوانه تطبيعا من داخل الدول الإسلامية) وبيع الإنسانية الغزاوية (تمويلا بالسلاح وكل ما يحتاجه الكيان الصهيوني لإبادة الشعب الفلسطيني).

وقد أضاف لنا الدكتور زكرياء سعيدي بتفاعله نوع خامس وهو:

5-العقل المقاوم: وهو عقل ملحمي يصنع بطولات هذا الزمن ويعيد كتابة التاريخ ...وهو فيص التفرقة بين الحق والصهيونية.

وهو العقل الذي يعول عليه الأن في إحداث نهضة تغييرية لمصير الأمة الإسلامية ومصير الإنسانية جمعاء.

*** 

هاجر فرزولي

مسارات لا شعورية نحو النور الخفي

خدعة الإيمان: من المسلّمات إلى المساءلة

الإيمان ليس فعلًا حرًّا كما يُصوَّر، بل نتيجة تلقّي طويل، يجري في مستوى اللاوعي تحت تأثير البيئة التي نشأنا فيها. نحن لا نختار ما نؤمن به. نحن نُبرمج عليه، ثم نُقنع أنفسنا لاحقًا بأننا اخترناه. المشكلة ليست في الفكرة، بل في الطريقة التي تسرّبت بها إلى وعينا. الفرد لا يولد حاملًا لأي معتقد. كل ما يعتقده لاحقًا هو نتاج تراكم: أسرة، تعليم، إعلام، محيط، سلطة. إنه ينتمي قبل أن يختار، ويصدّق قبل أن يسأل، ويدافع قبل أن يفهم.

محور أوّل: الإيمان كتشكيل لاواعي

 السؤال الجوهري الذي يجب أن يُطرح على كل ما نؤمن به هو:هل هذه القناعة هي ثمرة تفكير واعٍ؟ أم أنها جزء من تشكيل ذهني سبق حريتنا في التفكير أصلًا؟ ثقافتنا لا تسمح للوعي بأن ينمو في بيئة نقدية، بل تُنشئه في سياق يُعيد إنتاج نفسه:

ما تعتقده الأسرة يصبح ما تؤمن به المدرسة. وما تصوغه المدرسة يصبح ما يُكرَّر على المنبر. وفي نهاية المطاف، يصبح "الإجماع" هو معيار الصحة. هكذا تتحول الثقافة إلى نظام مغلق يحرس نفسه من الداخل. كل انحراف عن هذا النظام يُوصف بالضلال، أو الشذوذ، أو الجهل. ولذلك يندر أن يسأل الناس أنفسهم: لماذا نعتقد ما نعتقده أصلًا؟ لأن السؤال ذاته صار محرّمًا.

محور ثانٍ: وهم اليقين وحقيقة التلقين

إنّ أخطر ما تصنعه الثقافة المهيمنة، أنها تمنحك شعورًا باليقين دون أن تمرّ بعملية التفكير. فتعيش الوهم مرتين:

1. بأن ما تؤمن به هو الحقيقة. 2. بأنك وصلت إليه بإرادتك. بهذا المعنى، ما نؤمن به ليس ضرورةً عقلية، بل نتيجة لاصطفاف قسري داخل معايير المجتمع. تسمّيها الجماعة "هوية"، لكنها في حقيقتها مجرد مجموعة قناعات غير مفحوصة، تم تلقينها مبكرًا.

 أخطر أنواع الإيمان هو الإيمان الذي لا نعرف كيف بدأ. لأن كل قناعة لا نستطيع تتبّع أصولها، لا يمكن الوثوق بها. وأي اعتقاد لا يُحتمل زعزعته، ليس جديرًا بالبقاء. إذا لم نسأل أنفسنا: هل اخترنا هذا الإيمان؟، فسنستمر في إعادة إنتاجه جيلًا بعد جيل، ونمنحه قداسة ليست له، ثم نقمع به غيرنا، ونكبت به شكوكنا.

خاتمة أولى: لحظة المساءلة

ما نؤمن به اليوم ليس دائمًا انعكاسًا لحقيقتنا، بل كثيرًا ما يكون بقايا تشكيلٍ لم نختره. التحرر لا يبدأ بإضافة أفكار جديدة، بل بإخضاع الأفكار الموروثة للمساءلة. فالمشكلة ليست في أن نؤمن... بل في أن نؤمن دون أن نعرف: لِمَ آمنّا؟ وكيف؟ ومتى؟

محور ثالث: التفكيك كشرط أولي للفهم

الوعي الحقيقي لا يبدأ من تراكم المعلومات، بل من القدرة على تفكيك المسلّمات. ذلك أن القناعة غير المفحوصة تمثّل عبئًا معرفيًا، لا ميزة فكرية. التفكير النقدي لا يتطلب عداءً مع البيئة، بل موقفًا مستقلًا عنها. والتفكيك لا يعني العدوان، بل تحرير الفكرة من شروطها المسبقة. حين تسأل: لماذا أؤمن بهذا؟ فأنت تمارس تفكيرًا غير اعتيادي. لأن السؤال يُهدّد البُنى الراسخة، ويكشف أن كثيرًا من معتقداتك ليست حقائق، بل نتائج تَطبيع ثقافي طويل.

محور رابع: لا تُقاس القناعة باليقين

اليقين شعور... وليس حجة. أن تشعر بأنك على حق لا يعني أنك كذلك. التاريخ مليء بيقينيات قادت شعوبًا بأكملها نحو الهاوية. فلا تجعل من شعورك بالأمان دليلاً على صحّة الفكرة. فأكثر الأفكار خطورة هي تلك التي تُشعرك بالأمان المطلق، وتمنعك من أن تسأل أصلها. إنّ وجود آلاف الناس الذين يشاركونك نفس الإيمان، لا يعني شيئًا سوى أن المنظومة التي صنعتهم، هي ذاتها التي صنعتك. التكرار لا يصنع الحقيقة... بل يُخدّر بها الوعي.

محور خامس: الحريّة لا تبدأ من الخارج

 لن يتحرر الإنسان، قبل أن يتحرر وعيه من شبكة المسلّمات التي زرعتها ثقافته فيه. فأنت لن تكون حرًّا، حتى لو سقطت كل السلطات من حولك، ما دمتَ خاضعًا للسلطة التي تعيش في داخلك. تلك التي جعلتك تؤمن بشيء دون أن تفكر فيه، وتدافع عنه دون أن تفهمه.

محور سادس: من الإيمان الموروث إلى الفهم المكتسب

إذا كان التفكيك هو الشرط الأولي للتحرّر، فإن إعادة بناء الذات لا تقل صعوبة عنه. الشكّ وحده لا يكفي. لا يُطلب من الإنسان أن يهدم فقط، بل أن يُعيد بناء وعيه على أساسٍ جديد، لا يقوم على الوراثة، بل على الفهم. كل فكرة تُبنى بعد التفكيك، يجب أن تمرّ باختبارين صارمين:1. هل اخترتها بحرّية؟2. هل تفهمها بعمق؟أي معتقد، قيمة، أو موقف، لا يمرّ بهذين الشرطين، يُعدّ استمرارًا للخداع الثقافي، مهما بدا مقبولًا. المسألة لا تتعلق بصواب الفكرة، بل بشرعية الطريق الذي وصلت به إليها. ليس المهم أن تصل إلى الحق، بل أن تصل إليه كحقّ، لا كإرث. الانتقال من الإيمان الموروث إلى الفهم المكتسب، يعني أن تبدأ من اللايقين المدروس لا من اليقين المحفوظ. أن تبني موقفك بعد الفحص، لا أن تردّده لأنه مألوف. وأن تختبر علاقتك بأفكارك، لا أن تنصاع لعلاقتك بمُلقنيك.

محور سابع: بناء الذات واسترداد العقل

 لا تُبنى الذات الحرة عبر الإجماع، بل عبر المواجهة. لن تتطور شخصيتك المعرفية إذا بقيت تبحث عن مَن يُوافقك، بدل أن تبحث عمّا يُوقظك. كل من يعيش داخل منطقة الأمان الفكري، سيظل يدور حول نفسه، ظانًا أنه يمشي للأمام. أنت لم تُخلق لتوافق، بل لتفهم. ولا قيمة لأي إيمان، إذا لم يكن مسبوقًا بفحص، ومحمولًا على فهم، ومفتوحًا على المراجعة. الوعي لا يُقاس بكثرة المعلومات، بل بقدرتك على رفض ما لم تفكر فيه بحرية. والفهم لا يعني أن تؤمن بشيء…بل أن تعرف لماذا لا تؤمن بغيره.

خاتمة المقال: ما بعد الصدمة

إن ما تؤمن به ليس دائمًا نتاجك، بل نتاج من سبقك. ما لم تتوقف لتُعيد تقييم هذا الإيمان، ستظل تعيش داخل وعي غيرك، باسم قناعتك أنت. نقطة البداية هي الشك، ونقطة التحوّل هي التفكيك، ونقطة النضج هي الفهم الذي تصل إليه بقرارك، لا بوصاية المجتمع. لا تورِّث أبناءك أفكارك. ورِّثهم الشجاعة ليسألوا إن كانت تستحق أن تبقى.

***

الكاتب: سجاد مصطفى حمود

 

أثينا مسقط رأس الفلسفة ومنتجع العلم وملهمة العالم حضارة راقية شعت بأنوارها شرقاً وغرباً. والفلسفة من حيث معناها اللغوي حب الحكمة واصطلاحاً البحث عن الحقيقة والوجود المطلق. (والحقيقة) هذه الكلمة التي دوخت الأنبياء والفلاسفة والمصلحين والقادة والأحزاب ليس الوصول إليها سهلاً وقلة هم الذين يبحثون عنها في نزاهة وتجرد من الأهواء سواء كانت قومية أو دينية أو مصلحية ولم ينحصر البحث عنها في شخص واحد أو في عصر من العصور فكل مراحل التاريخ كانت مفتوحة للبحث عنها وكل مكان في الأرض كان مسرحاً لتسليط الأضواء عليها وهكذا ظهرت الأديان من أجل إجلاء معالمها فكانت الأديان الوضعية (الأرضية) والتي كانت في الواقع وأكثر التصاقا به من الأديان التي نشأت بعدها والتي سميت (الأديان السماوية) لأن مشاكل الأرض لا تحل من السماء بل من الأرض فزادت الأديان السماوية الأمر تعقيداً والغموض غموضاً لأن هذه الأديان متناقضة إلى حد التقاطع ومتصارعة إلى حد الاقتتال بالسيف وهكذا عانت البشرية الشيء الكثير من الاضطهاد والاستعباد رغم أن هذه الأديان أخذت تمني الإنسان المحروم بما يعوضه في حياة أخرى موهومة ينعم فيها بحياة هانئة، انها مجرد وعود تخديرية ليس إلا.

أعود مرة أخرى للبحث عن الحقيقة فقد حاول بوذا حيث ترك حياة الملوكية والبذخ والعيش الهانيء وراح يجوب القفار والغابات للبحث عنها وكذا فعل سقراط وإفلاطون وأرسطو وابن رشد ثم ظهر ديكارت صاحب نظرية (الشك) وبعده فرنسيس بيكون الذي حدد العقبات التي تقف بوجه الإنسان للوصول غلى الحقائق بما أسماه بالأوثان الأربعة وهي: القبيلة والكهف والسوق والمسرح. فلم تستطع كل فلسفات العالم وأديانه وأحزابه الوصول إلى الحقيقة فما أصعبها.

وديوجنيس هذا فيلسوف يوناني عاش في الفترة بين (404 – 323 ق.م) وقيل أنه كان يسكن في برميل خمر ويتجول نهاراً في شوارع أثينا وبيده مصباح موقد وحين يسأله الناس عن جدوى هذا المصباح في وضح النهار وضوء الشمس الساطعة يكون جوابه: أنا أبحث عن الحقيقة.

ديوجنيس رفض كل شيء عن الواقع المحسوس وأنكر تعدد الآلهة وجميع العبادات الدينية وقال عنها أنها مخترعات بشرية محضة زائدة عن الحاجة (كما أنه وجماعته من المدرسة الفلسفية التي ينتمون إليها احتقروا الغنى وزهدوا في اللذائذ واعتبروا العمل الشاق المؤلم أمور نافعة للإنسان تساعده على تحقيق الفضيلة ولم يحترموا القوانين والأعراف التي درج عليها أبناء زمانهم وكانوا يرتكبون ما يتحرج الناس من فعله من غير خشية ولا احتشام وكانوا في ذلك كالكلاب فأطلق عليهم أهل زمانهم أسم الكلبيين) مباديء الفلسفة – زايوبرت، ترجمة أحمد أمين، ص94، الهامش.

فإذا كانت الحقيقة لا تدرك بسهولة ويسر وعجز عن ذلك فلاسفة وأديان فليس من حق يونانيين آخرين أن يضحكوا أو يبكوا على الحالة التي وصلت إليها الإنسانية في تخبطها وفي عبثها اللامجدي عن الحقائق الضائعة فالفيلسوف اليوناني ديموقريطس (460 – 370 ق. م) اعتبر الحالة البشرية مضحكة باطلة فما ظهر بين الناس يوماً إلا وضحك والسخرية ملء وجهه فسمي بذلك الفيلسوف الضاحك.

إما الفيلسوف اليوناني هرقليطس (540 – 480 ق. م) فقد أشفق على الحالة البشرية وعطف عليها فما انقشع الأسى عن وجهه يوماً وما خلت عيناه من الدموع فاستحق لذلك أن يسمى الفيلسوف الباكي.

وأخيراً فإن الحقيقة لا تدرك بالوحي والإلهام وإنما تدرك بالعقل فالحقيقة موجودة ولكنها غائبة وراء الكواليس ولو اجتمعت كل فوانيس العالم للبحث عنها.

***

غريب دوحي

مقدّمة: إنّ العلاقة بين الدّين والعصر علاقة معقّدة وديناميكيّة، تتأثّر بعوامل تاريخيّة واجتماعيّة وثقافيّة متعدّدة، حيث يمثّل الدّين، بقيمه وتشريعاته، إطارا مرجعيّا للإنسان المسلم المعاصر، بينما يمثّل العصر بكلّ ما فيه من تطوّرات علميّة وتقنيّة وحضاريّة، تحدّيا يفرض على الدّين التّجديد والاجتهاد في الفهم والتّطبيق، فالتّقدم العلمي والتّكنولوجي الكبير في مجالات حسّاسة مثل علم الأحياء والفيزياء الفلكيّة يقدم تفسيرات للعالم تختلف عن تلك التّي تقدمها التّفسيرات التّقليديّة للنّصوص الدّينية، ومن جهة أخرى فالعولمة وتزايد التّواصل بين الثّقافات المختلفة تُفضي إلى ظهور وجهات نظر متعدّدة ومتنوعة حول القضايا الأخلاقيّة والدّينيّة، ممّا قد يُثير التّساؤلات حول صحّة المعتقدات الرّاسخة، إضافة إلى ذلك، تُثير قضايا مثل الحقوق المدنيّة، وحقوق المرأة، والمساواة الاجتماعيّة نقاشات حادة حول تفسير النّصوص الدّينية وتطبيقها في سياقات عصريّة.

ويرى البعض تضاربا حتميّا بين القيم الدّينية الثّابتة ومتغيّرات العصر السّريعة، وفي المقابل يؤكد البعض الآخر على إمكانيّة التّكامل والانسجام بينهما، فهل نحن أمام صراع لا مفر منه، أم أنّ التوفيق بين الدّين والعصر ممكن بل وضروري لبناء مستقبل أفضل؟

- الدّين والتّحدّيات:

يواجه الدّين في العصر الحديث تحدّيات كبيرة، أبرزها:

- العلمانيّة:

صعود العلمانيّة وتأثيرها على المجتمعات، ممّا أدى إلى فصل الدّين عن الدّولة في العديد من البلدان، وتقليص دور الدّين في الحياة العامّة.

- الحداثة:

 ارتبطت الحداثة بتغيّرات اجتماعيّة واقتصاديّة وثقافيّة كبيرة، مثل الثّورة السّياسيّة والعلميّة والصّناعيّة خاصّة التّي أدّت إلى التّطوّرات العلميّة والتّكنولوجيّة التّي غيّرت نظرة الإنسان إلى العالم، وأثارت تساؤلات حول العلاقة بين الدّين والعلم.

- العولمة:

حيث يشهد العالم انفتاحا غير مسبوق على العديد من الثّقافات الأخرى، هذا الانفتاح يطرح تساؤلات حول قدرة الثّقافة العربيّة على الحفاظ على هويّتها الثّقافية في مواجهة المد العولمي المتدفّق، الذّي يسعى إلى إذابة الفوارق الثّقافية في قالب واحد.

- التّطرّف:

 ظهور حركات متطرّفة تستغل الدّين لتبرير العنف والإرهاب، ممّا أدّى إلى تشويه صورة الإسلام، فالتّطرّف الدّيني هو ظاهرة معقّدة ومتعدّدة الأوجه، تتجلّى في تبني أفكار وسلوكيّات متطرّفة مرتبطة بالدّين، ممّا يؤدي إلى العنف والإرهاب.

في المقابل، يوفّر العصر الحديث فرصًا للدّين، منها:

- التّواصل:

سهولة التّواصل عبر الإنترنت ووسائل الإعلام، ممّا يتيح للدّين الانتشار والتّأثير في المجتمعات.

- الحوار:

إمكانية الحوار والتّفاعل مع الثّقافات والأديان الأخرى، ممّا يعزز التّفاهم والتّعايش السلمي.

- التّجديد:

الحاجة إلى تجديد الفكر الدّيني والاجتهاد في فهم النّصوص وتطبيقها على الواقع المعاصر.

- الإصلاح:

 فرصة لإصلاح المجتمعات الإسلاميّة وتطويرها، من خلال تطبيق قيم الإسلام في مجالات الحياة المختلفة.

- التّجديد والاجتهاد

 التّجديد والاجتهاد هما مفتاحان أساسيّان لفهم العلاقة بين الدّين والعصر، فالتّجديد ليس مجرد تغيير في الأساليب والوسائل، بل هو تجديد في الرؤى والاستيعابات الدّينية، بحيث يهدف إلى تجاوز الأنماط التّفسيرية التّي تبعد الإنسان عن الالتزام بقيم الدّين وتشريعاته، والاجتهاد هو بذل الجهد في استنباط الأحكام الشّرعية من مصادرها الأصليّة، مع مراعاة الواقع المعاصر ومتطلباته.

الإسلام دين ودولة؟

شعار "الإسلام دين ودولة" أثار جدلا واسعا، ويرى البعض أن هذا الشّعار حديث، نشأ مع تجربة التّحديث والاندماج في النّظام العالمي الحديث، ويرتبط بالإسلام السياسي، بينما يرى آخرون خاصة من التّيّار الإسلامي السّياسي، أنّ هذا الشّعار أصيل، وأنّ الجديد هو في المنطوق فقط .

- دور الدّين في الحياة:

يلبيّ الدّين حاجات المجتمع العاطفيّة والفكريّة والماديّة، ويجيب عن أسئلة العصر من جهة أخرى، ففي ظلّ التّقدم السّريع والتّحولات الاجتماعيّة المتسارعة، يُمكن للدّين أن يُوفر إطارا أخلاقيّا قويّا، يُساعد الأفراد على مواجهة الضّغوط النّفسيّة والاجتماعيّة، ويُشجعهم على التّضامن والتّعاون، كما يُمكن له أن يُسهم في تعزيز القيم الإنسانيّة الأساسيّة، مثل العدالة والرّحمة والتّسامح، مما يُساعد على بناء مجتمعاتٍ أكثر تماسكا.

 أضف إلى ذلك، أنّ التّفسيرات الحديثة للنّصوص الدّينية تُحاول التّوفيق بين القيم الدّينيّة الثّابتة ومتطلّبات العصر، من خلال التّأكيد على جوهر الرّسالة الدّينية وتكييف تطبيقها مع السّياقات المفروضة.

- تحقيق التّوازن بين الدّين والعصر:

وذلك يتطلّب:

- الفهم الصّحيح للدّين: أي فهم جوهر الدّين وروحه، والتّمييز بين الثّوابت والمتغيّرات وذلك بالرّجوع إلى المصادر الإسلاميّة الأصيلة لفهم جوهره الذّي يتشكّل منه الإسلام ونموذجه المعرفي.

- الوعي بالواقع: من خلال إدراك التّطورات والتّغيرات التّي يشهدها العالم، والتّفاعل معها بإيجابية، مع الحفاظ على الهويّة.

- التّجديد والاجتهاد: وذلك من خلال تجديد الفكر الدّيني والاجتهاد في فهم النّصوص وتطبيقها على الواقع.

- الوسطيّة والاعتدال: بتجنب الغلوّ والتّطرف، والتّمسك بالوسطيّة والاعتدال، فأساس الإسلام الوسطيّة والتّي تعني العدل والخيريّة، قال تعالى (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ) (البقرة 143).

- التّواصل والحوار: من خلال الانفتاح على الآخرين، والحوار معهم، وتعزيز الّتفاهم والتّعايش السلمي.

غير أنّ التّوفيق بين الدّين والعصر أمرا سهلا في ظاهره صعبا تطبيقيّا، حيث يتطلب حوارا مستمرّا وعميقا بين رجال الدّين والعلماء والمفكرين، مع مراعاة السّياقات الثّقافيّة والاجتماعيّة المختلفة، فالتّعصب الأعمى وغياب الحكمة لأيّ منهما يُؤدي إلى نتائج سلبيّة.

الخلاصة:

إنّ العلاقة بين الدّين والعصر علاقة مستمرة ومتجدّدة، حيث يوفر الدّين للإنسان إطارا مرجعيّا للعيش في الحياة، بينما يمثل العصر تحدّيا يتطلّب التّجديد والاجتهاد في الفهم والتّطبيق، وتحقيق التّوازن بين الدّين والعصر يتطلب فهما صحيحا للدّين ووعيا بالواقع، وتجديدا واجتهادا، ووسطيّة واعتدالا، وتواصلا وحوارا.

***

د. سلوى بن أحمد - تونس

"النجاح ليس في ألا تخطئ، بل في ألا تكرر نفس الخطأ مرتين." جورج برنارد شو

مفتتح: عندما نناقش حال الثقافة العربية راهنا، نحن في الحقيقة نلاحق واقع المثقف، أو أولئك الذين يعيشون تأنيب الضمير أحيانا والنكوص أحيانا أخرى أو الانفصام الجزئي او التام عن ماهية الثقافة في شخصياتهم...في مجتمعاتنا العربية المعاصرة، ظل المثقف محط الاستهزاء، وأحياناً محطّ نقد حاد، ليس فقط بسبب محتوى فكره وأطروحاته وتقلباته التي لا تنتهي بين فصول الواقع، وإنما بسبب "العورات" الفاضحة في واقع معاصر يعصف بالقيم والتقاليد والمفاهيم. هذه العورات ليست مجرد نواقص سطحية أو زلات سلوكية أو نزوات ما بعد الثلاثينيات، بل تشكل عقداً مركبة من التصدعات البنيوية في رمزية المثقف التي تحبس المثقف في دائرة مغلقة من التبعية، الانعزال، التجزئة، فقدان المصداقية والنكوص، مع إغراءات عابرة للسطحية والابتذال.

لذا خصصت هذه السطور لمقاربة قراءة عابرة تكتشف جذور هذه العورات التي جعلت المثقف وهما في مخيال الإنسان العربي، مع محاولة تقديم تصور استراتيجي لإنقاذ المثقف العربي من سوءاته ونكساته ورهاناته النابعة من نرجسيته المرضية، حتى يستعيد قوته لإحداث نقلة حضارية حقيقية، عبر خطاب ثقافي منفتح على الواقع ومدرك لحيثياته ومتطلع لمستقبل مشرق للإنسان العربي المتعطش للكرامة والعدالة.

أولى عورات المثقف في المجال العربي، هي التبعية التي لطالما غذت تقوقع المثقف في أطر صلبة لا تسمح له بالتحرر بنفسه من رهانات السلطات المستحكمة في واقع مجتمعه وعالمه الكوني، مما أثر على استقلالية آرائه، حيث يتجنب المثقف الاصطدام مع الخطوط الحمراء حفاظًا على مصالح شخصية أو مركز اجتماعي. هذا التواطؤ أنتج خطابات عقيمة بعيدة عن النقد البنّاء.. تحكمها علاقات معقدة بمراكز النفوذ، حيث يتنازل المثقف عن استقلالية فكره مقابل حماية مصالحه الشخصية أو مكانته الاجتماعية، لذلك المدخل هنا هو التحرر الداخلي الذي لا يكون إلا استناداً إلى قوة من الداخل، قوة تمثل التزاماً حقيقياً بالقيم والمعايير الفكرية التي يؤمن بها، وليس التي يتاجر بها. المثقف العربي اليوم مطالب بأن يعيد تأسيس مركز ثقته الذاتية بعيداً عن حسابات التفاهة والهشّاشة التي تتقلب بتقلب الأهواء الأيديولوجية وهذا ما نجده في تمثلات المثقف عند ادوارد سعيد و"المثقف والسلطة" عند كل من ماكس فيبر وميشال فوكو أو كما يرى أنطونيو غرامشي، بأن خطورة المثقف تكمن حين يكون أداة في يد الطبقات المهيمنة لتثبيت أيديولوجيتها و"الهيمنة" عبر التعليم، الإعلام، والدين، وليس فقط عبر السياسة المباشرة. المثقف العضوي في المقابل، هو الذي يرتبط بحركة اجتماعية تغييرية ويناضل من داخل المجتمع لبلورة فكر نقدي يُحدث قطيعة مع "الحس المشترك" الساذج والمتناقض، ويعيد للمجتمع وعيه الموحد"1.

تصوف المثقف:

كلما انعزل المثقف عن مجتمعه، وانسحب نحو صومعته الزجاجية لا يمكن له أن يؤثر في حلحلة هموم الواقع المعاش. هذه العزلة هي التي أنتجت في سبعينيات القرن الماضي خطابا نخبويا منفعل نرجسي ولا تزال تعيد انتاجه الى يومنا هذا، مما اوقعها في مأزق سوء الفهم وعدم القدرة على التواصل مع الجماهير على طول العالم العربي خصوصا مع شباب مفعم بالسرعة والنقد والنانو واقعية، فأصبحت أفكار المثقف كرسائل في زجاجة في بحر واسع لا تُلتقط إلا نادراً وبعد فوات الاوان. لذلك على المثقف أن يخطو خطوات مباشرة نحو الناس، أن ينفتح على تجربتهم، يستوعب لغتهم، ويجعل من فكره جسراً حياً يربط النظرية بالتطبيق والخطاب بجدليات الواقع والوعي بالمستقبل والرؤية بالقيم، وتجديد نظراته الأكاديمية لتقترب من هموم الناس وتفكك شفرات الأزمات، لابد للمثقف أن ينعزل عن أبواق الأيديولوجيات، سواء كانت يسارية أو يمينية أو دينية أو ليبرالية وليس عن مجتمعه وطبقاته الهشة ثقافيا وسياسيا واقتصاديا، لان الاستغراق في اروقة الادلجة يفقد المثقف موضوعيته وقدرته على إنتاج خطاب نقدي مستقل، وينشغل في معارك اصطفاف أيديولوجي بدل خوض المواجهات الفلسفية والفكرية الهادئة والخلاقة للمعنى الحضاري. المثقف المتصوِّف الذي يلوذ بالعزلة—زاهدًا في الواقع، عازفًا عن التجديد—يترك جماهيره تتخبط في العتمة بلا دليل. وإذا ما جمد تفكيره النقدي، وأغلق نوافذ روحه على رياح العصر ومتغيراته، صار خطابه طقسًا باهتًا في معبد مهجور. تصوف المثقف إذًا ليس صفاءً، بل انسحابٌ عقيم من معركة الوعي، وحرمان المجتمع من بوصلة كان يؤمل أن تهديه إلى حقه في الفهم والمعرفة، وتجدد حياته في لحظة عطش لمياه الكرامة والعدالة.

عليه ان ينزل من صومعته ليسترجع دوره كمرآة تفضح الأخطاء وتتبنى الإصلاح دون الوقوع في مطبات النضال الأيديولوجي وصراعاته الوهمية. لأن النقد الحقيقي لا يأتي من خلف خطوط الانتماءات المغلقة، بل من مواقف إنسانية وفكرية رصينة.

العُجب الإعلامي للمثقف

بورصة الإعلام المعاصر تتغذى على إدمان الشهرة كمخدر للوعي والأدوار والإصلاحات، لأن معظمه مؤدلج، المثقف هو الهدف الأول بالنسبة لوسائل الاعلام كسلطة عبر الرأي العام، حيث تحولت القضية الفكرية للمثقف عبر العالم العربي إلى ميدان صراع للحصول على التريندات والمتابعات والاعجابات، فاستصغرت الأفكار عميقة المحتوى أمام بريق السطحية والاستعراض والتفاهة. هذا ما حمل المثقف على التخلي عن عمقه وموثوقيته مقابل إشباع رغبة نفسية عابرة في التقدير الاجتماعي الفوري كراقصة أفكار في ملهى سفهاء القوم. هكذا في ظل هيمنة وسائل التواصل الاجتماعي، طغى الاستعراض على العمق، وأصبح المثقف أسير للرغبة في الشهرة والترند، وصارت كتابات وخطابات أشباه المثقف سلعة سريعة الاستهلاك تفتقد الأصالة والتحليل المعمق، وقايض المثقف جرأته مقابل إعجابات أو متابعات، لقد تم استغواء المثقف لينزلق في مستنقع الشهرة السطحية والعجب المميت وحتى يستعيد هيبته الفلسفية وحجمه التأثيري ومناعته القيمية عليه أن يتجاوز نرجسيته ويتخلص من أغلال العجب الإشهاري لوسائل الاعلام ليتمكن من فك التناقضات التي اوقعته في أوحال الزعم بلا أثر..

مأزق التجديد عند المثقف

المثقف عندنا أصبح عصابي أسير عوراته التي جعلته حبيس الصدمة (كما يعبر بعضهم عن نكسة 1968م بينما النكسة تعود لما بعد الموحدين أو قبل ذلك بكثير)، في قلب هذه العورات تكمن قضية عبر عنها شارل بيبان في كتابه الأخير بعنوان " العيش مع ماضينا"2 أنه بإمكاننا أن نقيم علاقة حرة وخلاقة مع موروثنا، بدلا من الحداد المرضي البارز في ازدواجية الفكر والممارسة، حيث يرى المجتمع تناقضات صارخة بين دعوات المثقف القيمية وممارساته التي غالباً ما تكون نقيضة لها تماما، مما أفقده كرامته ومصداقيته وجعله حبيس أعراضه النفسية والاجتماعية التي عطلت مسار حياته الذاتي والوظيفي كمؤثر في حاضر مجتمعه ومستقبله. هذا المثقف الذي يظل أسير مقولات آبائه الفكريين أو لخطابات تقليدية عفا عنها الزمن، ولا يواكب التحولات المذهلة الاجتماعية والاقتصادية والتكنولوجية الرقمية، ليس بمقدوره مخاطبة الأجيال الجديدة بلغة مفهومة أو حلول عملية، فالواقع العربي لا يمكنه أن يتجدد ما لم يبدأ المثقف بالتجديد بنفسه قبل مخاطبة الآخرين، يحتكم للفعل قبل القول، فتصير كلماته جسوراً لا نيازك قادمة من ماضيه الفكري لتهدم لا لتطور او تجدد الرؤية والمنهج والآفاق.

فقدان القدرة على التنوير نابعة من جمود التجديد في حقبة زمنية من الفكر الإنساني، فالخطابات الفكرية بعمومها لدى المثقف العربي، ظلت سجينة لنماذج وأفكار سابقة تفتقد إلى المرونة التي تسمح بمواكبة التحولات الاجتماعية والتكنولوجية والثقافية الراهنة. الخطاب الثقافي للمثقف لا يمكنه التألق والحضور الفعلي ما لم يعكس استشراف المستقبل بفهم شامل للواقع ومخاطبة حقيقية لاحتياجات الإنسان العربي المتجددة، كما عبر عنها مالك بن نبي في كتابته النقدية بخصوص مشكلة الثقافة وأيضا البروفسور مهدي منجرة والدكتور عبد الوهاب المسيري... وغيرهم من العرب الذين لم يتوقفوا عن التحذير من انفلات الصدمة واغتراب المثقف عن دوره في كل زمن قادم..

عورات المثقف في ذاته هي أساس الإصلاح والتجديد، باعتراف المثقف بهذه العورات المخزية، والعمل على مراجعة الذات، وتجديد روح النقد واستقلال الموقف وصدق الفعل ليستعيد المثقف مكانته كضمير للمجتمع الحي وناقدًا يُصلح لا يُبرر، وإلا سيفقد المثقف مسؤوليته الحضارية وكرامته وعدالته الاجتماعية للأبد، ويدفع الناس للتشكيك بدور الثقافة في الإصلاح الاجتماعي والتنوير الفكري.. وعليه لإرساء قواعد ثقافة ومشروع خطاب جديد يتجاوز هذه العورات، لا بد من تبني النقاط الآتية:

- استعادة المثقف لطبيعته المستقلة: عبر تأسيس مؤسسات ثقافية وأكاديمية مستقلة تحمي الحرية الفكرية وتدعم البحث النقدي المستقل بعيداً عن الضغوط السياسية والاقتصادية.

- خلق فضاءات تواصل مع المجتمع: بإعتماد أساليب تواصل حديثة وجذرية بين المثقف والفئات الشعبية، من خلال تعليم الثقافة اللغوية والرقمية والمدنية، وإشراك المثقف في مشاريع مجتمع مدني تلامس الواقع.

- هجران الأيديولوجيات المستبدة: تشجيع حوار تعددي بين مختلف الاتجاهات الفكرية، بعيدا عن تبنّي أصطفافات جامدة، مع التركيز على القضايا الإنسانية الكبرى التي تجمع دون تفرقة.

- ضبط الاسهام الإعلامي: بدعم مبادرات إعلامية ثقافية تقدم محتوى معمق وموضوعي دون الانزلاق للسوقية والبحث عن الشهرة الزائفة.

- تفعيل مبدأ الإحسان ودور الابداع: عبر برامج ممارسات التفكير النقدي للمثقف حول إيجاد أوجه القصور في سلوكه.

- تجديد التفكير النقدي المستدام: على المثقف العربي الاعتراف بأنه عبر التحول المتسارع في استخدام الأدوات الرقمية، أصبح الوعي الإنساني مترابطا بشكل غير مسبوق مع العالم التكنولوجي، حيث أثرت الأجهزة الذكية، والإنترنت، ووسائل التواصل الاجتماعي على طريقة تفكيرنا وتفاعلنا مع العالم من حولنا. يمكن تقسيم تأثير التكنولوجيا على الوعي إلى مستويين: مستوى الوعي الفردي ومستوى الوعي الجماعي3. مما يستدعي تجديد يواكب تسارع التحولات والرهانات بخصوص دور ومسؤولية المثقف كمفكر ناقد بشكل دينامي مستدام..

هذه النقاط بمثابة دعوة للمثقف العربي نحو سبيل إنعاش الوعي الثقافي العربي وترك بصمة تنويرية تليق بتاريخنا وحاضرنا ومستقبلنا. سبيل الارتقاء يبدأ عبر تحرير المثقف من عوراته الذاتية والتاريخية، ليكون أداة فعالة في بناء مجتمع عربي يحترم التعدد الثقافي، يضمن الكرامة لكل أفراده، ويحتضن الأمل في غدٍ أفضل من خلال خطاب ثقافي واقعي وحيوي ينبض بالكرامة والعدالة.

***

مراد غريبي

.................

1- من مقال "المثقفون" لأنطونيو غرامشي .

2- ترجمة الدكتور مصطفى حجازي، الصادر عن المركز الثقافي العربي سنة 2024م.

3- الوعي في العصر الرقمي، البروفسور فارس البياتي، ص59، سنة 2024م

على نظريات العلماء في الحقبة المعاصرة، دراسة مقارنة بين العلم والفلسفة

مقدمة: في الحقبة المعاصرة، تتسم العلاقة بين العلم والفلسفة بديناميكية معقدة، حيث تتفاعل التطورات العلمية السريعة مع التأملات الفلسفية العميقة حول طبيعة المعرفة، الأخلاق، والهوية البشرية. يقرأ العلماء أنساق الفلاسفة لفهم الأسس النظرية والأخلاقية لأبحاثهم، بينما يعلق الفلاسفة على النظريات العلمية لاستكشاف دلالاتها الوجودية والاجتماعية. تُبرز هذه العلاقة التوتر بين العلم، بوصفه منهجًا تجريبيًا يركز على القياس والتنبؤ، والفلسفة، بوصفها تأملًا نقديًا يسعى إلى فهم السياقات والمعاني. تهدف هذه الدراسة إلى تحليل هذا التفاعل في الحقبة المعاصرة من خلال مقاربة مقارنة، تركز على أمثلة محددة من العلوم (مثل الفيزياء، علم الأحياء، والذكاء الاصطناعي) وتعليقات الفلاسفة المعاصرين عليها، مع الإشارة إلى كيفية استلهام العلماء من الأنساق الفلسفية واستلهام الفلاسفة من النظريات العلمية. تسعى الدراسة للإجابة عن السؤال: كيف يُشكل التفاعل بين العلم والفلسفة في الحقبة المعاصرة فهمنا للمعرفة ومستقبل الإنسان؟

1.قراءة العلماء لأنساق الفلاسفة في الحقبة المعاصرة

السياق التاريخي والمعاصر

في الحقبة المعاصرة، يتزايد اعتماد العلماء على الأنساق الفلسفية لفهم الأسس النظرية والأخلاقية لأبحاثهم، خاصة في مجالات مثل الفيزياء النظرية، علم الأحياء، والذكاء الاصطناعي. على سبيل المثال، يستلهم الفيزيائيون النظريون مثل ستيفن هوكينغ وماكس تيغمارك من الفلسفة الوضعية المنطقية وأعمال كارل بوبر لتطوير مناهج التفسير العلمي. كما أن علماء الأحياء، مثل ريتشارد دوكينز، يتفاعلون مع الأنساق الفلسفية المتعلقة بالتطور والأخلاق لفهم دلالات نظرية التطور.

أمثلة معاصرة

الفيزياء النظرية وفلسفة العلم:

يستلهم الفيزيائيون مثل شون كارول من أعمال توماس كون حول "التغيرات النموذجية" لفهم التحولات في النظريات الفيزيائية، مثل الانتقال من ميكانيكا نيوتن إلى ميكانيكا الكم. كما يتفاعلون مع فلسفة عمانويل كانط لمناقشة طبيعة الواقع وحدود المعرفة العلمية، خاصة في قضايا مثل تفسير "الكون المتعدد".

علم الأحياء والأخلاق: يستلهم علماء الأحياء من أعمال فلاسفة مثل بيتر سنغر لمناقشة القضايا الأخلاقية المتعلقة بالهندسة الوراثية وتحرير الجينوم. على سبيل المثال، يُثير تطوير تقنية تهذيب الطبع البشري تساؤلات فلسفية حول حدود التدخل في الطبيعة البشرية.

الذكاء الاصطناعي والوجودية: يقرأ علماء الذكاء الاصطناعي، مثل نيك بوستروم، أعمال فلاسفة مثل مارتن هيدجر وجون سيرل لفهم طبيعة الوعي والذكاء. يستخدم بوستروم مفهوم "المحاكاة" لمناقشة إمكانية أن تكون الواقعية نفسها بناءً فلسفيًا.

تأثير الأنساق الفلسفية

تُساعد الأنساق الفلسفية العلماء على:

توجيه البحث العلمي: توفر الفلسفة أطرًا لتحديد الأسئلة الكبرى، مثل "ما هو الواقع؟" أو "ما هي حدود المعرفة؟".

نقد المناهج: تُساهم فلسفة العلم، كما عند بوبر وكون، في تقييم صحة النظريات العلمية وتجنب الدوغمائية.

الأخلاقيات: تُوجه الفلسفة الأخلاقية العلماء في التعامل مع قضايا مثل التجارب على البشر أو تأثير التكنولوجيا على المجتمع.

2. تعليق الفلاسفة على نظريات العلماء في الحقبة المعاصرة

دور الفلسفة في تفسير العلم

الفلاسفة المعاصرون يعلقون على النظريات العلمية لفهم دلالاتها الوجودية، الاجتماعية، والأخلاقية. يركزون على تفكيك الافتراضات الكامنة في العلم ووضعها في سياقات أوسع. على سبيل المثال، ينتقد يورغن هابرماس الاستخدام التقني للعلم دون مراعاة البعد الأخلاقي، مشيرًا إلى أن العلم قد يُصبح أداة للهيمنة إذا لم يُوجه بقيم إنسانية.

أمثلة معاصرة

الفيزياء وفلسفة الواقع: يعلق فلاسفة مثل ديفيد ألبرت على نظريات ميكانيكا الكم، متسائلين عن طبيعة الواقع والقياس. على سبيل المثال، يناقش ألبرت تفسير "العوالم المتعددة" من منظور فلسفي، مشيرًا إلى أنها تثير تساؤلات حول الحتمية والحرية.

علم الأحياء والهوية البشرية: يناقش فلاسفة مثل دونا هاراواي تأثير التكنولوجيا الحيوية على مفهوم الإنسان، حيث تُقدم فكرة الروبوت من خلال مفهوم "السايبورغ" (cyborg) كطريقة لتفكيك الحدود بين الإنسان والآلة، مستجيبة لتطورات علم الأحياء.

الذكاء الاصطناعي والوعي: يعلق فلاسفة مثل دانيال دينيت على نظريات الذكاء الاصطناعي، مشيرين إلى أن فكرة الوعي الاصطناعي تتطلب إعادة تعريف فلسفي لمفهوم الذكاء. ينتقد دينيت الافتراضات المادية في علوم الحاسوب، داعيًا إلى مقاربة وظيفية للوعي.

تأثير التعليقات الفلسفية

تُسهم تعليقات الفلاسفة في:

توسيع السياق: وضع النظريات العلمية في سياقات فلسفية وثقافية أوسع.

نقد الافتراضات: كشف الافتراضات غير المعلنة في العلم، مثل النزعة المادية أو الحتمية.

توجيه الأخلاقيات: توفير إطار أخلاقي لتقييم تأثير العلم على المجتمع، كما في قضايا الهندسة الوراثية أو الذكاء الاصطناعي.

3. مقاربة مقارنة: العلم والفلسفة في الحقبة المعاصرة

المناهج والأهداف

العلم: يعتمد على المنهج التجريبي، يركز على القياس، التنبؤ، والتحكم في الظواهر. في الحقبة المعاصرة، يهيمن العلم على مجالات مثل الفيزياء الكمومية، التكنولوجيا الحيوية، والذكاء الاصطناعي.

الفلسفة: تعتمد على التأمل النقدي والتحليل الهرمينوطيقي، تسعى إلى فهم المعنى، السياق، والحدود الأخلاقية. في الحقبة المعاصرة، تُركز الفلسفة على قضايا مثل الواقع، الهوية، والأخلاق التكنولوجية.

التفاعل بين العلم والفلسفة

من العلم إلى الفلسفة: يستلهم العلماء من الفلسفة لتوجيه أبحاثهم وفهم السياقات الأخلاقية. على سبيل المثال، يستخدم علماء الذكاء الاصطناعي أفكار جون سيرل حول "الغرفة الصينية" لمناقشة حدود الذكاء الاصطناعي.

من الفلسفة إلى العلم: يعلق الفلاسفة على النظريات العلمية لتفسير دلالاتها. على سبيل المثال، يناقش فلاسفة مثل برونو لاتور العلم كممارسة اجتماعية، مشيرين إلى أن الاكتشافات العلمية تتشكل من خلال السياقات الثقافية والسياسية.

التناقضات: بينما يسعى العلم إلى الحقيقة الموضوعية، تُشكك الفلسفة في إمكانية الموضوعية المطلقة. على سبيل المثال، ينتقد لاتور فكرة العلم كنشاط محايد، بينما يدافع علماء مثل دوكينز عن الموضوعية العلمية.

دراسات حالة معاصرة

ميكانيكا الكم: يستلهم الفيزيائيون من فلسفة كون لفهم التحولات النموذجية، بينما يعلق فلاسفة مثل ألبرت على تفسيرات الكم لمناقشة طبيعة الواقع.

الهندسة الوراثية: يستلهم علماء الأحياء من أخلاقيات سنغر، بينما يناقش فلاسفة مثل هاراواي دلالات تحرير الجينوم على الهوية البشرية.

الذكاء الاصطناعي: يستخدم علماء مثل بوستروم أفكار سيرل ودينيت، بينما ينتقد فلاسفة مثل هابرماس التأثيرات الاجتماعية للذكاء الاصطناعي.

4. تحديات وآفاق التفاعل في الحقبة المعاصرة

التحديات

التخصص المفرط: يعاني العلم والفلسفة من التخصص الضيق، مما يُقلل من فرص الحوار البيني.

النزعة المادية: تهيمن النزعة المادية على العلم، مما يُقلل من أهمية التأملات الفلسفية حول المعنى والأخلاق.

الأخلاقيات: تثير التطورات العلمية، مثل الذكاء الاصطناعي والهندسة الوراثية، تحديات أخلاقية تتطلب حوارًا مستمرًا مع الفلسفة.

الآفاق التكامل البيني:

يمكن للحوار بين العلم والفلسفة أن يُنتج معرفة أكثر شمولية، كما في مجال الأخلاقيات الحيوية.

النقد الفلسفي: يُساعد الفلاسفة في نقد الافتراضات العلمية، مما يعزز المسؤولية الاجتماعية للعلم.

التعليم متعدد التخصصات: تعزيز التعليم البيني يمكن أن يُشجع العلماء والفلاسفة على التفاعل بشكل أكثر إنتاجية.

خاتمة

تُظهر هذه الدراسة أن التفاعل بين العلم والفلسفة في الحقبة المعاصرة يُشكل فهمنا للمعرفة ومستقبل الإنسان. يقرأ العلماء أنساق الفلاسفة لتوجيه أبحاثهم وفهم السياقات الأخلاقية، بينما يعلق الفلاسفة على النظريات العلمية لتفسير دلالاتها وحدودها. من خلال مقاربة مقارنة، تُبرز الدراسة أن هذا التفاعل يُنتج حوارًا غنيًا يجمع بين المنهج التجريبي والتأمل النقدي. في عالم يواجه تحديات معقدة مثل التكنولوجيا الحيوية والذكاء الاصطناعي، يتطلب التفاعل بين العلم والفلسفة تعزيز الحوار البيني والتعليم متعدد التخصصات لضمان أن تُسهم التطورات العلمية في تعزيز الإنسانية بدلاً من تهديدها. فمتى نرى علما فلسفيا وفلسفة علمية؟

***

د. زهير الخويلدي

كاتب فلسفي

 

هناك تداخل كبير بين منهجي "التاريخ من أسفل" و"التاريخ السفلي"، حيث يتشاركان في بعض المبادئ الأساسية، كلا المنهجين يسعيان إلى إبراز الأصوات والتجارب التي غالبًا ما تُهمل في السرد التاريخي التقليدي،  يستخدم كلاهما مصادر غير تقليدية، مثل الشهادات الشخصية، اليوميات، والمقالات الصحفية، لفهم التجارب الحياتية، يسعى كل من المنهجين إلى إعادة تشكيل السرد التاريخي ليكون أكثر شمولية ودقة من خلال دمج وجهات نظر متعددة ،كلاهما يعترف بتأثير الفئات الشعبية على الأحداث التاريخية الكبرى وكيف يمكن أن تؤثر هذه الأحداث على حياة الأفراد، "التاريخ من أسفل" يركز أكثر على الأفراد وتجاربهم، بينما "التاريخ السفلي" يهتم بكيفية تأثير هذه التجارب على الأحداث الكبرى، يمكن القول إن المنهجين يكملان بعضهما البعض، حيث يعززان الفهم الشامل للتاريخ من خلال التركيز على التجارب الشعبية والأصوات المهمشة.

الإعلام المعاصر مزيج من الإعلام السفلي والإعلام من أسفل

وسائل الإعلام المعاصرة مثل وسائل التواصل الاجتماعي تُظهر كيف يمكن للأصوات الفردية أن تتجمع وتؤثر على السرد العام، الإعلام المعاصر يعكس الأحداث الكبرى ويشكلها من خلال تغطية فورية وشاملة، مما يتيح للأفراد التأثير على مجرى الأحداث ،الإعلام من أسفل يسعى إلى إبراز تجارب الفئات المهمشة والمجتمعات التي لا تُسمع بشكل كافٍ، من خلال المدونات والفيديوهات المستقلة التي تعطي صوتًا لأولئك الذين غالبًا ما يُغفل عنهم ،يعتمد إنتاج المحتوى على الأفراد، يحاول ان يعكس تجاربهم الحياتية وآرائهم بشكل مباشر، يمكن القول إن الإعلام المعاصر هو مزيج من الإعلام السفلي والإعلام من أسفل. فهو يعكس تأثير الفئات الشعبية على السرد التاريخي، بينما يسلط الضوء على الأصوات والتجارب التي غالبًا ما تُهمل. هذا يجعل الإعلام المعاصر أداة قوية للتغيير الاجتماعي والتعبير عن التنوع.

الإعلام وتعزيز الوعي التاريخي

التوثيق والتحقيق عبر إنتاج أفلام وثائقية تسلط الضوء على أحداث تاريخية مهمة، يمكن للإعلام تقديم سرد شامل وموثوق الذي يمكن الصحفيين التحقيق في الأحداث التاريخية المثيرة للجدل، مما يساعد على كشف الحقائق المظلمة، السرد المتوازن في تناول الأحداث التاريخية من زوايا مختلفة، يساعد على تطوير فهم شامل ،كما ان الالتزام بالموضوعية في عرض التاريخ، يعزز مصداقية المحتوى والربط بين الماضي والحاضر من خلال دراسة الأحداث التاريخية وربطها بالأحداث الراهنة لتوضيح تأثير الماضي على الحاضر، من خلال هذه الأساليب، يمكن للإعلام أن يلعب دورًا حيويًا في تعزيز الوعي التاريخي، ويسهم في بناء مجتمع مدرك لتاريخه وثقافته.

الاعلام والتاريخ من الاسفل

التاريخ من الأسفل والإعلام من الأسفل مفهومان مترابطان ،التاريخ من الأسفل يشير إلى دراسة تاريخ الطبقات المسحوقة والمهمشة، مثل الفقراء، العمال، والنساء، بدلاً من التركيز فقط على الأحداث والسياسات التي تتعلق بالطبقات الحاكمة ،يكشف هذا النوع من التاريخ عن تجارب ومعاناة الناس العاديين، مما يعزز الفهم الشامل للتاريخ ويعطي صوتًا لمن لم تُروى قصصهم، الإعلام من الأسفل يركز على الأصوات والأخبار التي تأتي من المجتمع المحلي أو الطبقات المهمشة، بدلاً من السرد السائد الذي تروج له وسائل الإعلام التقليدية كما يعزز التنوع في الروايات الإعلامية ويتيح للناس التعبير عن قضاياهم واهتماماتهم، مما يمكّنهم من المشاركة الفعالة في النقاشات العامة. كلا المفهومين يسعى لإبراز قصص وتجارب الأفراد والمجموعات التي غالبًا ما تُغفل أو تُهمش في السرد التقليدي، التاريخ من الأسفل والإعلام من الأسفل يتحديان الروايات الرسمية التي تركز على النخب، مما يساهم في تشكيل روايات أكثر شمولية ويسلط الضوء على ضرورة أن تكون وسائل الإعلام مسؤولة تجاه القضايا الاجتماعية، الاقتصادية والسياسية التي تؤثر على الطبقات المسحوقة، التاريخ والإعلام من الأسفل يمثلان أداتين حيويتين لفهم المجتمع بشكل أعمق، ويعزز الوعي بالقضايا الاجتماعية كما يساهم في تحقيق العدالة الاجتماعية.

التاريخ من الأسفل والتاريخ التقليدي

التاريخ التقليدي يركز على الأحداث الكبرى والشخصيات البارزة مثل الملوك، القادة، والحروب، يميل إلى تقديم سرد مركزي يركز على النخب ،التاريخ من الأسفل يعتمد على مصادر غير تقليدية مثل الشهادات الشخصية، الأدب الشعبي، والمصادر الشفوية، يستخدم منهجيات متعددة مثل الأنثروبولوجيا ودراسات الهوية، التاريخ التقليدي يعتمد غالبًا على الوثائق الرسمية، السجلات الحكومية، والتواريخ المكتوبة التي تركز على الأحداث الكبرى ويتبع منهجيات تاريخية تقليدية تعتمد على التحليل الأركيولوجي  للنصوص، التاريخ من الأسفل يوفر منظورًا مغايرًا يساهم في تشكيل فهم أعمق للتاريخ ويعزز تمثيل أصوات المهمشين، بينما التاريخ التقليدي يركز على السرد الرسمي للأحداث الكبرى والشخصيات البارزة في حين يركز الإعلام من الأسفل على تقديم الأخبار والقصص من منظور محلي ويعزز التفاعل كما ان التاريخ من الأسفل يركز على دراسة تجارب المهمشين في سياق تاريخي.

التحديات التي تواجه التاريخ والإعلام: السفلي والأسفل

يواجه الإعلام السفلي ومن الأسفل صعوبة في تأمين مصداقية المعلومات، حيث يمكن أن تتعرض الأخبار للتشويه أو التلاعب، نقص الموارد المالية والقدرة على الوصول إلى التكنولوجيا اللازمة لنشر المحتوى يمكن أن يحد من فعالية هذا الإعلام ، يتعرض الإعلام من الأسفل للانتقادات بسبب تقديم وجهات نظر معينة دون غيرها، مما يمكن أن يؤدي إلى تحيز في التغطية، يمكن أن يتعرض الصحفيون والإعلاميون للرقابة أو القمع من قبل السلطات، مما يحد من قدرتهم على العمل بحرية، كذلك التحديات التي تواجه التاريخ من الأسفل اذ يكون من الصعب العثور على مصادر موثوقة حول تجارب الطبقات المهمشة، مما يؤثر على دقة البحث ،غالبًا ما يتم التقليل من قيمة التاريخ من الأسفل في الأوساط الأكاديمية، حيث تُفضل الدراسات التي تركز على الشخصيات والأحداث الكبرى كما  يمكن أن يتأثر المؤرخون بوجهات نظرهم الشخصية، مما قد يؤدي إلى تحيز في تفسير الأحداث التاريخية، توثيق تجارب الأفراد والمجموعات المهمشة يمكن أن يكون تحديًا، خاصة عندما تكون تلك التجارب غير موثقة رسميًا ،كلا من الإعلام من الأسفل والتاريخ من الأسفل يواجهان تحديات فريدة تعيق قدرتهما على تقديم روايات دقيقة وشاملة. بينما يسعى الإعلام إلى إبلاغ الجمهور بالحقائق، يسعى التاريخ إلى تفسير تلك الحقائق في سياقاتها الاقتصادية، الاجتماعية والثقافية. تقوم السلطات غالبًا بفرض رقابة على المعلومات، مما يؤدي إلى تهميش الروايات التي لا تتماشى مع السرد الرسمي. هذا يمكن أن يعوق قدرة الإعلام من الأسفل على الوصول إلى الجمهور، تميل السلطات إلى التركيز على الروايات التي تعزز من صورتها، مما يؤدي إلى تهميش تجارب الأفراد والمجموعات المناهضة، هذا يساهم في طمس تاريخهم وتجاربهم، يمكن للسلطات أن تعمل على إعادة كتابة التاريخ بما يتماشى مع مصالحها، مما يؤدي إلى تحريف الحقائق وتغييب الأحداث المهمة التي تعكس تجارب الفئات المجتمعية المختلفة، الإعلام التقليدي، الذي غالبًا ما يتلقى دعماً من السلطة، يمكن أن يعزز الروايات الرسمية على حساب الروايات البديلة، مما يؤدي إلى طمس المعلومات الهامة.

السرديات التاريخية والتهميش

السرديات التاريخية تنشئها السلطات أو المؤسسات الرسمية، مما يؤدي إلى تعزيز وجهة نظر معينة وتهميش الروايات البديلة كما تُغفل تجارب المجتمعات المهمشة والأفراد الذين لا تتناسب قصصهم مع السرد السائد، تحدد السرديات التاريخية ما يُعتبر مهمًا وما يُعتبر غير مهم، مما يؤدي إلى إقصاء الأحداث والتجارب التي تعكس وجهات نظر متنوعة، تُدرّس الروايات التاريخية الرسمية في المدارس، مما يُعزز من تصديق السرديات السائدة ويقلل من أهمية السرديات البديلة ،يساهم الإعلام التقليدي في نشر الروايات الرسمية ويعزز من تصديقها، مما يعوق انتشار السرديات من أسفل، تعمل السرديات التاريخية على إعادة كتابة الأحداث بطريقة تخدم مصالح معينة، مما يؤدي إلى طمس الحقائق وتجارب الفئات المهمشة، كما تؤثر السرديات التاريخية على تشكيل الهوية الثقافية، حيث تُعزز من سرديات معينة على حساب أخرى، مما يؤدي إلى فقدان الارتباط بالتاريخ المحلي، تساهم السرديات التاريخية في تهميش التاريخ من أسفل من خلال الهيمنة على السرد، وتحديد المعايير، وتأثير التعليم والإعلام. يتطلب الأمر جهودًا لاستعادة الأصوات المهمشة وتعزيز السرديات المتنوعة لتقديم صورة أكثر شمولية للتاريخ.

***

غالب المسعودي – باحث عراقي

إنَّ المعنى – كما ذهب إلى ذلك فلاسفة اللغة ومفكِّرو العلامة – ليس حكراً على اللغة وحدها، بل يتعدّاها إلى كل ما يصدر عن الفكر البشري من رموز وإشارات وأفعال. فكما أنّ للألفاظ معنى، فإنّ للأشكال معنى، وللحركات معنى، وللأصوات والصور والطقوس معنى، بل يمكن القول مع الفيلسوف الفرنسي رولان بارت إنَّ "كلّ ما يمكن أن يُقرأ يمكن أن يُؤوَّل"، أي أنَّ كل ظاهرة بشرية هي نصّ مفتوح على التأويل.

من هنا جاءت السيميائيّة (Semiotics) كعلم يعنى بدراسة العلامات ودلالاتها، بوصفها وسيطاً حيويّاً لفهم العلاقات بين الفكر واللغة والوجود الاجتماعي. ولعلَّ ما يجعل السيميائيّة حقلًا معرفيّاً متفرّداً هو قدرتها على النفاذ إلى البنية العميقة للظواهر، وكشف الطبقات الدلاليّة التي تختزنها، سواء أكانت لغويّة أم غير لغويّة. فهي لم تكتفِ بتفسير المعنى في النصوص الأدبية فحسب، بل خاضت – كما يذكر يوري لوتمان – في دراسة الأساطير، والعادات، والممارسات اليومية، والفنون بمختلف أشكالها، وفي مقدّمتها الفن التشكيلي الذي يعدّ أحد أوسع حقول العلامة وأغناها.

لقد كان الفيلسوف تشارلز ساندرس بيرس من أوائل من صاغوا رؤية فلسفية شاملة للعلامة، حيث اعتبرها "واسطة ثلاثية" تتكون من الدال (العلامة)، والمدلول (الموضوع)، والتأويل (الفهم البشري للعلامة). فيما ركّز فرديناند دو سوسير على ثنائية الدال والمدلول، ورأى في اللغة "نظاماً من العلامات التي تعبّر عن الأفكار"، مؤسِّساً بذلك للمنظور البنيوي الذي غيّر جذريّاً فهمنا لطبيعة المعنى. وتوسّع أومبرتو إيكو لاحقاً في تحديد وظيفة العلامة، مؤكّداً أن المعنى ليس معطىً جاهزاً، بل يُبنى عبر التفاعل بين النصّ والمتلقّي، وهو ما يُعرف بـ"التأويل المفتوح".

إنَّ جوهر السيميائيّة يكمن في تفكيك هذا التداخل بين العلامات والمعاني والسياقات. فالأشكال الهندسية في اللوحة التشكيلية مثلًا ليست خطوطاً وألواناً فحسب، بل هي رموز تختزن دلالات ثقافية وتاريخية ونفسية، قد تتجاوز قصد الفنان ذاته. وكذلك الإيماءات في الطقوس الاجتماعية أو الحركات في المسرح أو حتى الأزياء في الموضة، كلها نصوص سيميائية قابلة للقراءة والتأويل. ولهذا أكّد جاك دريدا أن "النصّ يتجاوز الكتابة ليشمل كل نظام دلالي يمكن تفكيكه".

أولًا: السيميائيّة في الشعر العربي الحديث

حين نقرأ قصيدة مثل: "أنشودة المطر" لبدر شاكر السيّاب نجد أن المطر ليس مجرد ظاهرة طبيعية، بل يتحول إلى علامة ذات حمولة دلالية كثيفة:

 "عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعةَ السحرْ

أو شُرفتانِ راحَ ينأى عنهما القمرْ"

المطر هنا يرمز إلى الخصب والحياة والانبعاث، لكنه يتداخل مع دلالة الحزن والانكسار الجمعي في سياق سياسي واجتماعي مأزوم. وهذا ما يسميه بارت "المعنى الثاني" أو المستوى الإيحائي للعلامة، حيث ينفتح النص على تأويلات متعدّدة تتجاوز دلالة المفردات المباشرة.

ثانياً: السيميائيّة في الفن التشكيلي

في لوحة "غيرنيكا" لبيكاسو، نجد أن الخيول الممزقة، والأم الثكلى، والظلال الحادّة ليست عناصر تصويرية عشوائية، بل علامات دلالية مكثفة تجسّد فظائع الحرب الإسبانية. هنا تتحول الأشكال إلى لغة بصرية تتجاوز الكلمات، وهو ما يجعل اللوحة نصًّا سيميائيّاً بامتياز، يمكن قراءته على ضوء السياق التاريخي والسياسي والنفسي.

أما في أعمال شاكر حسن آل سعيد، فإنّ التشكيلات الخطّية المستوحاة من الحروف العربية ليست مجرد تجريد بصري، بل هي علامات روحية تحيل إلى فلسفة الصوفيّة وفكرة الاتحاد بالمطلق، حيث يصبح النص التشكيلي فضاءً للتأمل والمعنى المتعالي.

نحو فهم جديد للمعنى

يمكننا القول – في ضوء هذه الأمثلة – إنّ السيميائيّة لم تعد علمًا وصفيّاً فحسب، بل صارت أفقاً معرفيّاً لفهم الإنسان والعالم، لأنها تكشف لنا أن كلّ فعل بشري، مهما بدا بسيطاً، هو رسالة تنتظر قارئاً يفكّ شيفرتها. وهذا ما يجعلها علماً يتجاوز الحدود التقليدية للغة ليُعيد صياغة علاقتنا بالمعنى في أوسع صوره.

***

عماد خالد رحمة - برلين

 

تصطادنا في نسغ الحياة اليومية مقولات عدمية تقول بأن الفساد أكبر من أن يصلحه عطّارو هذا الزمن. وأن الخواء استشرى حتى تقزّم العمارُ وانتفى.

ونحن حينَ ننساب في هذه الشباك العدمية نكون قد استجبنا لشرطين: الأول هو شرط العدمية الرخيصة المتأتية من قناعات شخصية دبّت إلى حيواتنا دبيب النمل الخفي على الصخر الأملس في الليل الأدمس... والثاني هو شرط العدمية المدروسة والممنهجة والمُبيّتة والبانية تسرّبها الخفيّ على مرجعية غيرية تروم اقتلاعَنا من جذورنا المتفائلة ديناً وفطرةً، انطلاقاً من قناعة هذه الغيرية باندحار مشروعها الحضاري في مقابل انبعاث الذات الإسلامية بفلسفتها القويّة والعاملة على عمارة الأرض حتى آخر رمق. (عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا تَقوم حتى يَغرِسَها، فليَغرِسْها)1.

هي إذن تلكمُ الفلسفة المحمدية القاضية بعمارة الأرض حتّى النزع الأخير في البشرية، تأسيساً لمفهوم حضاري لا يرى في الوجود وجوداً مأزوما على الدوام، ولا يرى فيه وجوداً متروكاً للصدفة الفاسدة والمفسدة، تعيث فيه ما شاءت وكيف شاءت، ولا ترى فيه وجوداً قلقاً ينتحر في كل مرة يفشل فيها في استيعاب المعنى خارج الله.

 إنها – وأقصد الفلسفة المحمدية - نظامٌ على منهج يفتحان في وجه الأزمة، وإن شئنا تعبيراً غير مستورد، نقول في وجه الابتلاء كل الإمكان البشري لتجاوز لحظاتها العصيبة في غير جنوح مرَضِيّ وفي غيرِ نزوع انتكاسي يعطّل في الإنسان حاسة البياض الجميل والمتفائل.

إن ما يوجّه الإنسان المسلم داخل هذا المتاه، مقروءٌ في كتاب الله، باعتباره المصدر العلوي الذي يقرأ الإنسان والكون قراءة متعالية فوقية عارفة لا بحاجات هذا الإنسان وهذا الكون، وحسب، بل هي عارفة بأسرارهما وبتحولاتهما الظاهرة والباطنة والراهنة والاستشرافية، بشكلٍ يحسم في بناء القناعات الإيمانية بناء صارما وقوياً ومفتوحاً على الإعجاز الخارق. إلا أن هذه القناعات الصارمة يقرؤها المتعالمون والميالون إلى التفسير المادي، قراءة عرجاء وهوجاء تلهج بأن هذه القناعات الاعتقادية الخارجة من مشكاة الله (تعالى شأنه) هي ثوابت جامدة تحول دون حرية الإنسان، ومن ثمة فهي في نظرهم القاصر، معيقات للنفس البشرية الباحثة عن استوائها الممكن.

والاستواء في المنظور الإسلامي هو الاعتقاد بالامتلاء وبالعمار، وليس الاعتقاد بالخواء والعدم الذي يؤطر الرؤية الفردية والجمعية في حال وقوع الأزمة والابتلاء، وفي حال تمادي هذه الأزمة وذاك الابتلاء. إن الاعتقاد بلاجدوى القيم والأخلاق والمعتقدات هو صميم الهزيمة النفسية المؤدية إلى الهزيمة في شموليتها وارتداد الإنسان إلى القناعة الخاوية أن هذا الوجود لا معنى له وليس له فائدة. وهو صلب الرؤية العدمية المثبّتة للفساد والمشجعة لابتزازه كل الطاقات الممكنة في تفاؤل الإنسان بالقضاء عليه أو على بعضه، أو على أقل تقدير، إخراجه من حالة الشرعية المزوّرة إلى حالة التجريم.

***

نورالدين حنيف أبوشامة

..................

1- مسند الإمام أحمد 3 / 183، 184، 191 مسند الطيالسي 2068، البخاري في الأدب المفرد رقم: 479

 

تُعتبر (الزوفوبيا) السياسية والزوتوبيا* الاجتماعية من الظواهر المعقدة التي تعكس التحديات الاجتماعية والسياسية في العصر الحديث، (الزوفوبيا السياسية) تتعلق بالخوف أو النفور من الأفراد أو الجماعات بناءً على آرائهم السياسية أو انتماءاتهم. يمكن أن تتجلى هذه الظاهرة في استبعاد الأفراد من المناصب أو الفرص بناءً على آرائهم السياسية واستخدام لغة عدائية أو تحريضية ضد مجموعات معينة بسبب ميولها السياسية، كما يتعرض الأفراد أو الجماعات للعنف أو التهديد بسبب معتقداتهم السياسية ووصمهم بمختلف الاوصاف السلبية بسبب انتمائهم السياسي، مما يؤدي إلى العزلة الاجتماعية. تؤدي (الزوفوبيا) السياسية إلى تقليل فرص الحوار البناء بين الأفراد من خلفيات سياسية مختلفة وتعزز الفجوة بين الجماعات السياسية، مما يؤدي إلى انقسام المجتمع ويمكن أن تؤثر على المشاركة السياسية، حيث يشعر الأفراد بالخوف من التعبير عن آرائهم. (الزوفوبيا) السياسية تعد تحديًا كبيرًا للمجتمعات الديمقراطية، وتتطلب جهودًا لتعزيز الحوار والتفاهم بين مختلف الفئات السياسية.

انتشار (الزوفوبيا) السياسية

تساهم عدة عوامل في انتشار (الزوفوبيا) السياسية، ومنها التغطية الإعلامية السلبية أو المبالغ فيها للأحزاب أو الجماعات السياسية التي يمكن أن تعزز الصور النمطية والخوف، تزايد الانقسامات بين الأحزاب السياسية يؤدي إلى تعزيز المشاعر السلبية تجاه المعارضين كما ان غياب ثقافة الحوار والتفاهم بين مختلف الآراء السياسية يمكن أن يزيد من حدة (الزوفوبيا)، استخدام الخطاب التحريضي من قبل القادة السياسيين أو الأحزاب يمكن أن يزيد من التوترات والخوف، كذلك تجارب الأفراد السلبية مع أشخاص من جماعات سياسية مختلفة تعزز مشاعر النفور، يلعب ضعف الوعي أو الفهم للمعتقدات السياسية المختلفة دورا مهما في تشكيل آراء سلبية وضغوط من المجتمع أو الأقران ،بالتالي يؤدي الى تبني آراء متطرفة أو سلبية تجاه الآخرين، فهم هذه العوامل يمكن أن يساعد المجتمعات في تطوير استراتيجيات للتقليل من (الزوفوبيا) السياسية وتعزيز الحوار والاحترام المتبادل.

(الزوفوبيا) نتيجة حتمية للنظرة الاستعمارية

يمكن اعتبار (الزوفوبيا) نتيجة حتمية للنظرة الاستعمارية المعاصرة للشعوب وكذلك التأثيرات التاريخية للاستعمار، حيث يتم استغلال الموارد والثقافات، التي تركت آثارًا نفسية وثقافية أدت إلى الخوف من الآخر، الإعلام في كثير من الأحيان ينقل صورًا نمطية سلبية عن الشعوب المستقلة ، مما يعزز (الزوفوبيا) ويزرع الخوف وعدم الثقة ،في حقيقة الامر ان الاستعمار انشا التفاوتات الاقتصادية والسياسية بين الدول المتقدمة والنامية وعزز من مشاعر الخوف من المهاجرين واللاجئين، حيث يُنظر إليهم كتهديدات للموارد والفرص، مع التغيرات السريعة في المجتمعات، يشعر البعض بتهديدات جدية لهويتهم الثقافية، مما يؤدي إلى ردود فعل سلبية ،تعتبر هذه العوامل مجتمعة جزءًا من ديناميكية معقدة تسهم في تعزيز (الزوفوبيا) كاستجابة للنظرة الاستعمارية المعاصرة.

أشكال الزوفوبيا المختلفة

يمكن أن تؤدي هذه العوامل إلى أشكال مختلفة من (الزوفوبيا)، ومن أبرزها (زوفوبيا) عرقية وهي الخوف أو الكراهية تجاه أفراد عرقيين معينين، وغالبًا ما تكون مدعومة بالصور النمطية السلبية، كذلك (زوفوبيا) ثقافية، الخوف من الثقافات المختلفة، مما يؤدي إلى رفض العادات والتقاليد والتوجهات الثقافية المختلفة، كما ان هناك (زوفوبيا) اقتصادية وهي القلق من تأثير المهاجرين على فرص العمل والموارد الاقتصادية، مما يعزز مشاعر التهديد كما تؤدي الظروف انفة الذكر الى(زوفوبيا) دينية وهي الخوف من الأديان أو الممارسات الدينية المختلفة الذي يؤدي إلى التمييز ضد الأفراد بناءً على معتقداتهم. كل شكل من هذه الأشكال يتأثر بالعوامل السياقية، الاجتماعية، الاقتصادية والسياسية، وقد تتجلى في ممارسات تمييزية أو عنصرية، تتداخل هذه الأنواع المختلفة من (الزوفوبيا) مع بعضها البعض بشكل كبير، هذه التداخلات تؤدي إلى تعزيز المواقف السلبية والخوف من الأخر، يتعزز هذا الحال عندما يكون الأمر من خلال مزيج من العوامل العرقية والثقافية، مما يؤدي إلى مواقف أكثر تطرفًا، حيث يعتقد أن الأخرين ينافسونهم على الموارد والفرص. المجتمعات التي تعاني من (زوفوبيا سياسية) تكون أكثر عرضة لظهور (زوفوبيا) دينية، حيث يتم رفض الممارسات الجديدة والمختلفة، (الزوفوبيا) السياسية والعرقية يمكن أن تؤدي إلى سياسات تمييزية تؤدي الى زيادة العنف ضد المجموعات المستهدفة.

(الزوفوبيا) السياسية و(الزوتوبيا)

هناك دور تتكامل فيه (الزوفوبيا) السياسية و(الزوتوبيا) في الانظمة السياسية، لذا من الضروري أولاً تحديد مفهوم (الزوتوبيا) السياسية، غالبًا ما تستخدم (الزوتوبيا) السياسية كأداة لاستكشاف قضايا مثل المساواة والعدالة الاجتماعية والتعايش السلمي بين المجموعات المختلفة في سياق سياسي، بينما يمكن أن تتجلى (الزوفوبيا) في شكل قوانين وسياسات تمييزية تستهدف مجموعات معينة على أساس عرقهم أو أصلهم أو جنسيتهم يمكن استخدام (الزوتوبيا) السياسية كأداة نقدية لفضح أوجه القصور والعيوب في الأنظمة السياسية القائمة. من خلال مقارنة الواقع السياسي الحالي بالمجتمع المثالي الذي تمثله (الزوتوبيا)، ويمكن تسليط الضوء على مظاهر الظلم والتمييز وعدم المساواة، ويمكن استخدام (الزوتوبيا) السياسية كنموذج لاستكشاف التحديات التي تواجه المجتمعات المتنوعة التي تسعى إلى تحقيق التعايش السلمي والعدالة الاجتماعية. يمكن أن تساعد دراسة ديناميكيات السلطة والعلاقات بين المكونات المختلفة في (الزوتوبيا) في فهم أفضل للتحديات المماثلة التي تواجه المجتمعات البشرية المتنوعة، ويمكن استخدامها كإطار تحليلي لفهم دور الخوف والكراهية في السياسة. من خلال دراسة كيف يمكن استخدام (الزوفوبيا) لتبرير التمييز والعنف ضد مجموعات معينة، يمكن تطوير استراتيجيات لمكافحة هذه الظاهرة وتعزيز التسامح والتعايش ويمكن استخدام (الزوتوبيا) السياسية كمصدر إلهام لتصميم أنظمة حكم أكثر عدلاً ومساواة. من خلال دراسة المبادئ والقيم التي تقوم عليها (الزوتوبيا)، كما يمكن تطوير نماذج جديدة للحكم تعزز المساواة والعدالة الاجتماعية والتعايش السلمي بين جميع أفراد المجتمع. من خلال دراسة هذه المفاهيم معًا، يمكن فهم أفضل لدور الخوف والكراهية في السياسة وكيف يمكن مكافحة هذه الظواهر لتعزيز التسامح والتعايش السلمي.

(الزوفوبيا) الاجتماعية

هي الخوف من التفاعل الاجتماعي، هي حالة نفسية تتسم بالقلق الشديد أو الخوف من المواقف الاجتماعية. يعاني الأشخاص المصابون بها من صعوبة في التفاعل مع الآخرين، مما قد يؤثر على حياتهم اليومية وعلاقاتهم الاجتماعية.

تأثيرات (الزوفوبيا الاجتماعية)

 (الزوفوبيا) الاجتماعية تؤدي الى تقليل فرص التفاعل بين الأفراد، مما يعزز تراجع الروابط الاجتماعية والمعروف ان نقص التعاون يمكن أن يؤثر سلبًا على الابتكار، حيث الأفكار الجديدة. انتشار (الزوفوبيا) الاجتماعية يمكن أن يزيد من معدلات الاكتئاب والقلق، مما يؤثر على الإنتاجية العامة ويساهم الخوف من الآخرين الى تهميش بعض الفئات، مما يؤدي إلى فقدان التنوع الثقافي والتجارب المختلفة، الذين يعانون من (الزوفوبيا الاجتماعية) يواجهون صعوبات في التفاعل في البيئات التعليمية، مما يؤثر على تعليمهم وتطورهم الشخصي، فهم (الزوفوبيا) الاجتماعية والتعامل معها يمكن أن يسهم في بناء مجتمع أكثر صحة وتواصلًا.

(الزوفوبيا) الاجتماعية والتنمية الاقتصادية

يمكن أن تؤثر (الزوفوبيا) الاجتماعية بشكل ملحوظ على التنمية الاقتصادية. الأفراد الذين يعانون من (الزوفوبيا) يكونون أقل قدرة على المشاركة في القوى العاملة، مما يؤدي إلى نقص في الإنتاجية والتفاعل الاجتماعي. الخوف من المواقف الاجتماعية يمكن أن يعوق تبادل الأفكار، مما يؤثر سلبًا على الإبداع، المجتمعات التي تعاني من انعدام الثقة أو القلق الاجتماعي تكون أقل جذبًا للاستثمارات، مما يعوق التنمية الاقتصادية، (الزوفوبيا) تؤدي إلى ارتفاع معدلات القلق والاكتئاب، مما يزيد من تكاليف الرعاية الصحية ويؤثر على الاقتصاد ويمكن أن تؤدي (الزوفوبيا) الاجتماعية إلى عواقب اقتصادية سلبية، مما يستدعي الحاجة إلى استراتيجيات الدعم وتعزيز التفاعل الاجتماعي.

***

غالب المسعودي – باحث عراقي

....................

:1https://academic.oup.com/screen/article/60/4/567/5673450

:2https://www.quora.com/What-exactly-was-the-intention-of-the-social-commentary-in-Zootopia

:3https://www.quora.com/What-exactly-was-the-intention-of-the-social-commentary-in-Zootopia

:4https://www.quora.com/Does-the-politics-and-symbolism-in-the-movie-Zootopia-have-parallels-to-the-real-world

مقدمة: لطالما اعتُبر الأدب مرآةً صقيلة تعكس الواقع الإنساني بأبعاده المتعددة: التاريخية، الاجتماعية، النفسية، والرمزية. ومن بين أبرز الإشكالات التي شغلت النقّاد والمفكرين عبر العصور سؤالٌ جوهريٌّ مفاده: إلى أي مدى يُعدّ الأديب ابنًا لبيئته؟ وهل بمقدوره التمرّد على محدداتها، أم أن البيئة تظلّ نسغه البنيويّ ولبنته الأساس؟

هذا السؤال لا يستدعي إجابة ثنائية مغلقة بقدر ما يفتح أفقًا للتفكير في طبيعة العلاقة بين الأديب والسياقات التي تشكّله، ويضعنا أمام خيوط معقّدة تتداخل فيها الفلسفة مع النقد، والذات مع الجماعة، والواقع مع الخيال.

يهدف هذا البحث إلى معالجة هذا الإشكال من زاوية نظرية وتطبيقية، من خلال تحليل مفاهيمي، وتفكيك النظريات المهتمة بتأثير البيئة في الأدب، مع عرض دراسات تطبيقية لأدباء عرب وغربيين جسّدوا بطرق مختلفة هذه العلاقة الإشكالية، وصولًا إلى تأملات نقدية حول إمكانية تجاوز الأديب لبيئته دون القطيعة معها.

أولًا: التأطير المفاهيمي

1- مفهوم البيئة

يُقصد بالبيئة في هذا السياق المفهوم الواسع الذي يتجاوز الدلالة الجغرافية أو الطبيعية، ليشمل:

البيئة الثقافية: كمنظومة قيمية تتضمن الدين، اللغة، الموروث، الطقوس، الرمز، والإنتاج الرمزي.

البيئة الاجتماعية والسياسية: بما تحويه من بنى السلطة، الطبقات، أنماط العلاقات، النظم الاقتصادية.

البيئة النفسية: التي تتشكل في الطفولة وتمتدّ في اللاوعي، بما تحمله من تجارب شخصية وجراح حميمة.

البيئة التاريخية: بما تفرضه من ذاكرة جمعية وصراعات وطنية وأحداث مفصلية.

2 - من هو الأديب؟

لا يُختزل الأديب في كونه ناقلًا للواقع أو راوياً للأحداث، بل هو ذات مبدعة تُعيد تشكيل العالم بواسطة الأدوات الجمالية. هو كائن يتوسّل الفن ليعيد ترتيب الفوضى، ويحوّل الواقع المعيش إلى نصّ متخيّل يفيض دلالاتٍ. الأديب بهذا المعنى ليس ابن بيئته بالولادة فقط، بل بالحفر فيها أو الحفر ضدّها.

ثانيًا: النظريات النقدية حول تأثير البيئة في الأدب

1 - الواقعية الاجتماعية:

تُعدّ الواقعية الاجتماعية من أبرز المدارس التي تؤمن بأن الأديب يتشكّل ضمن شروط واقعه الاجتماعي. فبحسب جورج لوكاتش، "الرواية هي مرآة تسير على جانب الطريق"، أي أنها تعكس الصراع الطبقي، والتحوّلات السياسية، والانقسام الاجتماعي. فالأدب في هذا الإطار وثيقة مشبعة بديناميات الواقع لا يمكن فصلها عن السياق (Lukács, 1963).

2 - النقد الثقافي:

يمثل النقد الثقافي، كما نظّر له إدوارد سعيد وريـموند ويليامز، مقاربة ترى الأدب كموقع لصراع الخطابات، وكمنتَج محكوم بقوى الهيمنة الثقافية والسياسية. من هذا المنظور، لا يُمكن للكاتب أن يكون "خارج" بيئته، لأن اللغة ذاتها محمّلة بإرث السلطة والمركز، بل حتى محاولة التمرّد على البيئة تستبطن وجودها كسلطة يجب مقاومتها (Said, 1978؛ Williams, 1958).

3 - نظرية التلقي

تذهب نظرية التلقي، كما طوّرها هانز روبرت ياوس وولفغانغ إيزر، إلى أنّ المعنى لا يُنتج من النص فقط، بل من علاقة النص بالقارئ الذي يستقبله. هذا القارئ نفسه ابن بيئةٍ ثقافية واجتماعية، وبالتالي يعيد إنتاج البيئة حتى في فعل القراءة والتأويل (Jauss, 1982).

ثالثًا: دراسات تطبيقية – الأدباء العرب كنماذج

1 نجيب محفوظ: تأريخ الحارة والمجتمع المصري

في الثلاثية وزقاق المدق، تظهر الحارة القاهرية كمسرح مركزي تتحرك فيه الشخصيات. البيئة هنا ليست خلفية، بل هي بطل خفيّ يتحكم بمصائر الشخصيات. من السلطة الأبوية إلى صعود الوعي السياسي، فنرى نجيب محفوظ يشتبك مع بيئته لا بوصفها قدرًا بل بوصفها مادة جمالية يعيد إنتاجها (محفوظ، دار الشروق).

2 - الطيب صالح: الهجنة والصراع الهوياتي

في موسم الهجرة إلى الشمال، نشهد تماهيًا وصراعًا بين بيئتين: سودانية تقليدية، وأوروبية حداثية. مصطفى سعيد ليس مجرد مهاجر، بل جسد ممزّق بين مرجعيتين. البيئة هنا تظهر كعامل نفسي وهوياتي يُفرز أزمته ويغذي خيباته (الطيب صالح، دار العودة).

3 - محمد شكري: الهامش كبيئة روحية

في الخبز الحافي، يتكشّف الهامش الطنجاوي بكل بؤسه وحرمانه. البيئة ليست فقط حكاية بل أسلوب: لغة فجة، توتر نحوي، وقسوة سردية. إنها كتابة من العراء، حيث البيئة تحضر كألم لا كمشهد (شكري، دار الساقي).

4 - محمود درويش: المنفى كبيئة رمزية

درويش يحوّل فلسطين من جغرافيا إلى استعارة. في قصيدته "بطاقة هوية"، وفي دواوينه الكبرى كـ أثر الفراشة وسرير الغريبة، نجد أن البيئة ليست محض مكان، بل رمز للانتماء والضياع والهوية. الشعر عنده يُحوّل البيئة إلى ما يشبه النشيد الوجودي (درويش، دار العودة).

5 - محمود المسعدي: حين يتجلّى المجتمع في مرايا الذات المفكرة.

محمود المسعدي المفكر والروائي التونسي مشروع ثقافي وفلسفي كامل، ينهل من التراث كما يغترف من أسئلة الحداثة. إنّ ما يميّز كتاباته، على قلتها، هو أنّها تكتبُ المجتمع من زوايا غير مباشرة، وتنفذ إليه عبر التجريد، والرمز، والسؤال الوجودي. فالمجتمع عند المسعدي ليس جموعًا تتحرك في الشوارع، بل هو كائن ميتافيزيقي، يتلبّس الفرد ويشكّل وعيه، ثم يتجلّى من خلاله في النصّ.

في أعماله الكبرى، مثل حدث أبو هريرة قال... والسد وتأصيلاً على البداوة...، لا نجد وصفًا اجتماعيًا واقعيًا مباشرًا كما في الرواية الكلاسيكية، بل نقرأ مجازًا رمزيًا كثيفًا، فيه أصداء من القرآن الكريم، ومن الفلسفة الوجودية، ومن الأساطير، كلها تتعانق لتصنع رؤية للمجتمع لا تصفه بل تسائله.

رابعًا: هل توجد استثناءات؟

1 - أدباء المهجر

جبران خليل جبران: رغم مغادرته الجغرافيا العربية، ظل يحمل الشرق في لغته ورموزه وتجلياته الصوفية، حتى في كتابه الأشهر النبي، المكتوب بالإنجليزية (جبران، الهيئة المصرية العامة).

أمين معلوف: يكتب بالفرنسية عن شخصيات عربية، مما يدل على أن البيئة ليست حاضرة بمكانها بل بحمولتها الرمزية والنفسية.

2 - كتّاب الفانتازيا والرمز

فرانز كافكا: رغم الطبيعة العبثية لنصوصه، فإن بيئة براغ اليهودية والنظام البيروقراطي تظهر في كوابيسه الوجودية كظل كثيف (كافكا، دار المدى).

إيتالو كالفينو: نصوصه مثل مدن غير مرئية تبدو عابرة للبيئات، لكنها تستبطن تحولات ما بعد الحرب في إيطاليا، وقلق الحداثة الأوروبي.

خامسًا: البيئة كمحفّز لا كقيد

لا ينبغي النظر إلى البيئة باعتبارها سلطة قمعية فقط، بل بوصفها محفّزًا للخلق الفني. الأديب يكتب من داخل البيئة أو ضدّها، لكنه لا يكتب خارجها تمامًا. حتى التمرّد يفترض وجود سياق يُتمرَّد عليه. إن الإبداع في جوهره ليس فعل مطابقة للبيئة، بل فعل جدل معها، وتحويل لها عبر الرمز، والخيال، والتقنية.

سادسًا: العولمة وتحوّلات العلاقة بين الأديب وبيئته

1 - مفهوم العولمة وتحول المرجعيات

مع مطلع القرن الحادي والعشرين، أصبح من الصعب الحديث عن بيئة "محلية" بمعزل عن التأثيرات العابرة للحدود. لقد مزّقت العولمة الجدران التقليدية التي كانت تفصل بين الثقافات، وأفرزت فضاءً رقميًا-رمزيًا جديدًا يتقاطع فيه المحلي والعالمي، الفردي والجمعي، الواقعي والافتراضي.

وفي هذا السياق، لم يعد الأديب مجرد ابن حارته أو أمّته، بل أصبح أيضًا ابن شاشة، وابن خريطة ثقافية متشظّية، يتنقّل فيها بين مرجعيات متعددة: الأدب العالمي، السينما، الموسيقى، وسائل التواصل، الفلسفة الرقمية.

يقول زيغمونت باومان في الحداثة السائلة: "أصبح الانتماء اختيارًا، والهوية بناءً متحركًا لا قالبًا ثابتًا".

2 - الأديب بين التجذّر والانخلاع

في ظل العولمة، يواجه الأديب تحدّيًا مزدوجًا:

من جهة أولى: تمارس العولمة نوعًا من التوحيد الثقافي، حيث تُغرق الأدب في نموذج السوق العالمي، وتدفع الكاتب أحيانًا إلى "تسليع" تجربته كي تُقرأ وتُترجم وتُباع.

من جهة ثانية: تمنح العولمة للأديب إمكانيات كبرى للتفاعل مع قضايا كونية: المناخ، الهجرة، الذكاء الاصطناعي، الفقر العالمي، الهويّات المركّبة.

هذا الوضع يفرض على الأديب المعاصر أن يختبر ذاته ككائن "هجيني"، يعيد التفكير في بيئته لا بوصفها وطنًا ضيّقًا، بل كبنية دلالية قابلة للتأويل والانفتاح.

3- نماذج أدبية من زمن العولمة

إليف شافاق (تركيا): تكتب بالإنجليزية عن قضايا الهوية، التعدد، والجندر في بيئة شرقية وغربية في آن. تقول: "اللغة ليست جغرافيا، إنها انتماء داخلي".

ربيعة ريّان (المغرب/فرنسا): توظّف الهجرة والهوية المزدوجة كمرآة لقراءة العالم، حيث لا تعود البيئة وطنًا بيولوجيًا بل سؤالًا فلسفيًا.

واسيني الأعرج (الجزائر): في رواياته الأخيرة، يحوّل المنفى والذاكرة والتاريخ إلى فضاء روائي عابر للحدود، حيث تلتحم بيئات متعددة في سردية مركّبة: عربية، أندلسية، فرنسية.

4 - الرقمنة والأدب

العولمة الرقمية، خاصة عبر وسائل التواصل الاجتماعي والنشر الإلكتروني، منحت الأديب قدرة أكبر على الوصول، لكنها حملت في ذات الوقت خطر التسطّح والتشظّي. صار الأدب أحيانًا يُكتب بوعي "الجمهور العالمي"، ما قد يؤدي إلى نوع من الاستلاب الرمزي، أو إلى "التطويع الذاتي" للغة والأسلوب كي يتلاءم مع توقعات السوق العالمية.

5 - من ابن البيئة إلى ابن العالَم؟

ليس المقصود هنا إعلان قطيعة مع البيئة الأصلية، بل الانتباه إلى أن الأديب المعاصر لم يعد يكتب من جغرافيا واحدة، بل من جغرافيا مركبة: جغرافيا الذات، وجغرافيا الذاكرة، وجغرافيا الشاشة.

وبذلك، لم تعد البيئة مفهومًا ضيقًا محصورًا في الإطار المحلي، بل أصبحت بنية سائلة، تتداخل فيها الهويات والمراجع والتجارب. البيئة اليوم لم تعد فقط "ما نُولد فيه"، بل أيضًا "ما نستهلكه"، و"ما نحلم به"، و"ما نتفاعل معه" حتى وإن لم نعشه جسديًا.

خاتمة

في ضوء ما تقدّم، يمكن القول إن الأديب لا يُولد في فراغ، ولا يكتب في العدم. البيئة تمنحه مادته الخام، لكنها لا تحدد بالضرورة مصيره الجمالي، بل تمنحه تحدّيًا وجوديًّا وفنيًّا في آنٍ معًا. التفاعل مع البيئة قد يأخذ شكل الاحتضان أو الرفض، وقد يتحول إلى لعبة تأويلية معقدة بين الذات والمجتمع، بين الداخل المتخم بالحلم، والخارج المثقل بالتاريخ والقيود. إن عبقرية الأديب لا تكمن فقط في تصوير الواقع أو التعبير عنه، بل في كيفية تحويل المحدّد إلى إمكان، والشرط إلى فضاء للتجاوز، والمعطى إلى أفق منفتح على التجديد والإبداع.

فالبيئة، بما تحمله من رموز وصراعات وتحولات، ليست سجنًا مغلقًا ولا قدَرًا محتومًا، بل نهرًا يمكن السباحة فيه، أو حتى السباحة ضده، بجرأة من يُدرك أنّ الحرية الأدبية لا تُمنح بل تُنتزع. وإنّ الأديب الحقّ، حين يتجاوز سلطة الانتماء الضيق، ويعيد تشكيل العالم بلغته ورؤيته، يصبح فاعلًا لا مفعولًا به، ومُشكِّلًا لا مُشكَّلًا فقط. هكذا، تتجلّى الأدبية كفعل مقاومة ضدّ التلقين، وكفنٍّ للانعتاق من أسر الجغرافيا والتاريخ، حيث لا تكون البيئة نهاية المطاف، بل نقطة انطلاق نحو ما هو أكثر رحابة وعمقًا وإنسانية.

***

مجيدة محمدي – تونس

..........................

المراجع

محفوظ، نجيب. الثلاثية. القاهرة: دار الشروق.

الطيب صالح. موسم الهجرة إلى الشمال. بيروت: دار العودة.

شكري، محمد. الخبز الحافي. بيروت: دار الساقي.

درويش، محمود. أثر الفراشة. بيروت: دار العودة.

سعيد، إدوارد. الاستشراق. بيروت: دار الآداب، 1978.

كليطو، عبد الفتاح. الكتابة والتناسخ. الدار البيضاء: دار توبقال.

ويليامز، ريموند. الثقافة و المجتمع  .

 

من بقايا الطفولة البعيدة، أستعيد مشهدًا غائرًا في الطين العائلي، إذ تجتمع الطقوس والمفارقات على مائدة واحدة. كان ذلك في يوم زفاف أحد أبناء عمي، وكنت بعدُ فتىً غضًّا في أولى سنوات المتوسطة، أُساهم مع أترابي في تمزيق الأرغفة ونثرها فوق الصحون، استعدادًا لمأدبة الغداء، وفق العادة المتوارثة في مناسباتنا. كنّا "جنود الظل" الذين لا يُذكرون، نعد الصحون لتُملأ بالتشريب والتمن واللحم، بينما الوجهاء والشباب الأقوياء ينهضون بتوزيع الوليمة، بوصفهم "المعازيب" الذين يحفظون النظام ويرعون الضيافة.

لكن الزحام اشتد وتكاثرت الأجساد، وانبعث القلق والخشية ألّا يكون التوزيع بأتَمَّ حال. وهنا تقدّمت امرأة من أقاربي– تلك المرأة "كبيرة الشأن"، وهي إن تكلّمت، أصغت لها العقول–  لتصرخ بعبارة صارت فيما بعد رمزًا لكل ما هو عبثي حين الهلع في قناعتي:

"فوتوا وهدموا السياج!"

كانت تقصد سياج الدار– ذاك الحاجز الذي يفصل الداخل عن الخارج، والذي يشبه حدود الدولة، أو ما تبقّى من الهيبة الرمزية للمكان. صُدمتُ، ليس لأنَّ السياج عزيز، بل لأنَّ الفكرة نفسها مستحيلة ومربكة: كيف لعقل راجح، في مقام عائلي، أنّ يقترح هدم الجدار لتجاوز زحام لن يدوم أكثر من دقائق؟! من الذي سيهدم؟ وماذا سيقول عمي حين يرى داره وقد فُتح جدارها على المجهول من أجل "غداء"؟! هل سيحزن؟ هل سيعذر؟ وهل سيتناول ضيوفه اللقمة على أنقاض الجدار وكأنّ شيئًا لم يكن؟!

في وقتها، بدت لي الحادثة نكتةً أو سوء تقدير لحظي. لكن، بعد أنّ انخرطتُ في مسرح الحياة ومفارقاتها، وأخذت أراقب الإنسان وهو يدير شؤونه، فهمت أنّ هذا الموقف الصغير كان تمثيلًا رمزيًا مكثفًا لما يحدث في مستويات أعلى.

فكم من موقف هدمنا فيه أسيجةً شخصية واجتماعية من أجل دفع احتشاد هنا أو ضغط هناك؟! وكم من سياجات للصداقة والقرابة تهافتت من أجل تخفيف ضيق عابر؟! وكم من علاقات ومبادئ ومؤسساتٍ، تهاوت تحت ضغط لحظة، أو من أجل امتصاص غضب طارئ؟!

لقد أدركت أنَّ هذا الموقف الصغير لم يكن إِلَّا انعكاسًا دقيقًا لمشهد أوسع. كم من السياسات، وكم من المشاريع، وكم من الزعامات، رفعت شعار "هدم السياج" باسم الخدمة أو التطوير أو تسهيل المرور؟!

إنّه منطق المفارقة: أن تُهدم البنى التحتية– المادية والرمزية– باسم الاستعجال، أو الطوارئ، أو الرغبة في الإرضاء. كأننا أمام طبقة من "العمّات السياسية" في كل بلد، تصرخ في وجه الأزمة: "اهدموا السياج!" غير آبهين لما يعنيه ذلك من خرق للحصانة، وتهشيم لأسس المكان والدولة، وإهانة للعقل. وهكذا، تتحوّل الطوارئ من أحداث عابرة إلى مبررات دائمة للعبث، حين نُخضع المبادئ لمنطق الاستثناء.

ليس كل ما يُقترح قابلًا للتطبيق، وليس كل ما يُقال في ساعة احتشاد يمكن أنّ يمرّ دون نقد. فالمفارقة، حين تصبح أسلوب حكم، تتحوّل من طرافة فردية إلى كارثة جماعية.

إنّ في كل سياج نهدمه نعترف ضمنيًا بعجزنا عن التنظيم والتدبير، ونلوذ بالفوضى كحلّ سهل للهروب من التعقيد. لكن الهدم، مهما بدا حاسمًا في ساعته، هو فعلٌ ضد الزمن، ضد الذاكرة، وضد المعنى الذي راكمته الأشياء.

فالبُنى، سواء كانت جدرانًا أو أعرافًا أو مبادئ، لا تنهار دون أنّ تخلّف في الوعي شرخًا يصعب رتقه. والعقل، حين يبرر الانفعال باسم الضرورة، يُسلم زمامه للعبث ويتنازل عن شرطه الإنساني. وهكذا، لا ينهار السياج فقط، بل تنهار معه تلك المسافة الرمزية بين النظام والغرائز الأولى.

***

د. حيدر شوكان سعيد

جامعة بابل/ قسم الفقه وأصوله.

في ضوء أطروحات حسن حنفي وصادق جلال العظم

في مجتمعنا، وفي المجتمعات العربية، كثيراً ما نسمع مصطلح "الفهلوي" في السياقات العربية الشعبية والثقافية لوصف شخص بارع في الخداع، وماهر في المراوغة، ويتصرف بمكر، يمزج بين الذكاء والانتهازية. في الوعي العربي الجمعي، الفهلوي هو من "يعرف من أين يستخرج أفضل ما لديك"، لكن لا يمكن الاعتماد عليه في المواقف الحرجة التي تتطلب ثباتاً أخلاقياً أو التزاماً مبدئياً. وقد ترسخ هذا النموذج كمرادف لـ"البطولة الزائفة"، التي تختبئ بالمكر في وجه واقع لا يكافئ الصدق، بل يشجع على المراوغة.

حيث يرى حنفي أن أزمة الذات العربية تكمن في تمزّقها بين التراث من جهة، والحداثة الغربية من جهة أخرى. وقد أدت محاولات التوفيق غير النقدي بين هذين القطبين إلى ظهور نوع من "الوعي المزدوج"، وعي لا ينتمي كليًا إلى الماضي ولا إلى الحاضر، بل يتأرجح بينهما بصعوبة. يقول حنفي في مقدمة كتابه "التراث والتجديد": "نحن لا نعيش في واقعنا، بل نرتدي أقنعة متعددة. ظاهريًا نقف مع الحداثة، بينما باطنينا مرتبطة بالماضي، ونفتقر إلى مشروع متماسك للتحرر" (حنفي، ١٩٨١، ص ٢٢).

من هذا المنظور يُعتبر الفهلوي ابن هذا الوعي المنقسم، يعيش بوجهين: وجه يُظهر التدين أو الالتزام الأخلاقي، وآخر براغماتي، بارع في التلاعب بالمواقف والرموز والمصالح. إنه نسخة فردية من معضلة جماعية تتمثل في عجز الثقافة العربية عن بناء علاقة نقدية مع تراثها من جهة، ومع الحداثة من جهة أخرى. ولأن الحنفي يُصر على ضرورة "تثوير التراث من الداخل"، تُمثل الفهلوية انحرافًا عن هذه الثورة، إذ تُبقي التراث في موضع استعباد واستغلال، بدلًا من أن يكون فعالًا ومبادرًا. من هذا المنظور، تُقوّض الفهلوية العلاقة الصادقة مع التراث، إذ لا تتعامل معه كمشروع تجديد، بل كمستودع للاستخدام الانتقائي. إنه شكل من أشكال "الاغتراب الثقافي الداخلي"، حيث يُصبح الانتماء إلى التراث مجرد شعار يخدم السلطة أو المصلحة الذاتية، بدلًا من أن يكون مساحة للالتزام الأخلاقي أو التحرر.

مع ذلك، يرى صادق جلال العظم أن من مظاهر التخلف الثقافي في العالم العربي غياب الانسجام بين الخطاب والممارسة، بين ما يُعلن في النصوص وما يُمارس فعليًا. ويرى العظم أن هذا التناقض يُنتج شخصية "زائفة" تميل إلى التظاهر لا إلى تمثيل حقيقي للقيم. ولذلك، يقول في نقده للفكر الديني: "إن استبداد الخطاب الدعوي الخالي من الفعل جعل من التدين قناعًا اجتماعيًا لا تجربة وجودية" (العظم، ١٩٦٩، ص ٤٥).

وفي هذا الإطار فإن الفهلوية هي الشخصية التي تتقن تقمّص الأقنعة، وتلعب على تناقضات الخطابات الرسمية، وتستغل المناطق الرمادية في القوانين، وهي – بتعبير العظم – نتاج مباشر "لثقافة التحريم" التي تمنع النقد وتكافئ التملق. فالفهلوي ليس مناهضًا للنظام، بل هو نتاجه الأصيل؛ فهو بارع في التكيف؛ متلون في المواقف، ويعيش وفق منطق "الضرورة السياسية" و"المصلحة الاجتماعية".

وفي كتابه ذهنية التحريم، يحلل العظم هذه الذهنية بوصفها معادية للعقل النقدي، وتقوم على القمع الرمزي. وهنا تظهر الفهلوية كاستراتيجية دفاعية للفرد في بيئة لا تمنح فرصًا متكافئة، بل تفتح المجال أمام الانتهازيين الذين يحسنون "اللعب تحت الطاولة". الشخصية الفهلوية، إذن، هي الشكل الفردي لثقافة القهر الجماعي.

وهنا يمكن الاستفادة من مفاهيم علم الاجتماع النقدي، كما طرحها بيير بورديو، خصوصًا في حديثه عن "العنف الرمزي" و"الهابيتوس". فالفهلوية ليست خيارًا فرديًا واعيًا بالضرورة، بل هي جزء من "الهابيتوس الثقافي" الذي يتكون لدى الأفراد في بيئة اجتماعية تشرعن المراوغة وتكافئ الخضوع الذكي. وبحسب بورديو: "يميل الإنسان إلى التطبيع مع البنى الاجتماعية القهرية حين تتلبّس هذه البنى شكل العادات والذوق الاجتماعي"  (Bourdieu, 1990, p. 5)

وبالعودة إلى الثقافة العربية، فإن الفهلوي هو من تربى على أن يقول ما لا يفكر فيه، وأن يُظهر غير ما يبطن، وأن يكون ماهرًا في استغلال الرموز الدينية أو القومية لتحقيق مكاسب آنية. إنه نموذج للإنسان "ما بعد الصادق"، الذي اختفى فيه الفرق بين النية والسلوك، وتحول فيه الفكر إلى أداة للشرعنة لا للتحرير. ولكسر هيمنة الشخصية الفهلوية، لا بد من مشروع ثقافي نقدي يعيد الاعتبار لثلاث قيم مركزية:

1.  الصدق الفكري: وهو ما دعا إليه العظم، من خلال تفكيك التناقضات في الخطاب السائد وفضح الازدواجية.

2.  التحرر من التراث السلبي: كما طالب به حنفي، عبر إعادة قراءة التراث من الداخل بوصفه أداة مقاومة لا عبودية.

3.  المسؤولية الأخلاقية: أي التحول من الانتهازية إلى الالتزام، ومن الذكاء الماكر إلى الذكاء الواعي.

أي إن الفهلوية لا تزول بقرار فردي، بل بتغيير البنية الثقافية والسياسية التي تفرزها، وهذا يستدعي ثورة معرفية تبدأ من المدرسة والجامعة، ولا تنتهي إلا بخلق نموذج جديد للمثقف والمواطن، يتجاوز فيه الازدواجية، ويستعيد صلته بالأصالة دون أن يتخلى عن روح الحداثة.

وختماً لما تقدم ذكره نرى إن الشخصية الفهلوية ليست مجرد ظاهرة اجتماعية معزولة، بل هي نتيجة مركبة لانفصام الوعي، وهيمنة الخطاب الوعظي، وقمع الحرية، وغياب المشروع الثقافي التحرري، وقد أضاء نقد كل من حسن حنفي وصادق جلال العظم على جوانبها المتعددة، من خلال نقدهما الجذري للثقافة العربية المعاصرة. الفهلوية، وفي النهاية هي مأساة الذات عندما تفقد أصالتها، وتُرغم على التلون لتنجو. وكسر هذه الحلقة لا يكون إلا بخلق فضاء ثقافي نقدي يعيد الاعتبار إلى الحقيقة، لا إلى الحيلة.

***

الدكتور: إبراهيم أحمد شعير الجميلي / كركوك - العراق

....................

المراجع

1. حسن حنفي، التراث والتجديد، بيروت: دار التنوير، 1981.

2. صادق جلال العظم، نقد الفكر الديني، بيروت: دار الطليعة، 1969.

3. صادق جلال العظم، ذهنية التحريم، عمان: دار بترا، 1992.

4.  Pierre Bourdieu, The Logic of Practice, Stanford University Press, 1990.

5. محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1982.

6. علي حرب، نقد النص، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1993.

ويهزّ وهم الهوية المستوردة!

في زمنٍ صار فيه الاسم وسيلةً للتماهي مع ما هو وافد وغريب، بدل أن يكون إعلانًا عن الهوية وتجذرًا في الأرض والذاكرة، تبرز الحاجة إلى إعادة الاعتبار للأسماء الأصيلة التي تُحاكي الإنسان في عمقه الثقافي والنفسي والروحي. فالتسمية ليست مجرد إجراء شكلي، ولا عادة أسرية عابرة، بل هي خطاب صامت ينحت ملامح الانتماء، ويوشّح الفرد بميراث لا يُشترى.

لقد أصبحت مجتمعاتنا العربية عمومًا، والمغربية على وجه الخصوص، رهينةً لهوس التحديث السطحي الذي اقتحم حتى حميمية التسمية، فاختلطت الأسماء، وغاب المعنى، وابتُذلت الهوية. صار البعض يُطلق أسماء أجنبية على أبنائه دون معرفة خلفياتها اللغوية أو دلالاتها الثقافية، وربما دون وعي بجنسها، أهي لمذكر أم لمؤنث. في هذا المشهد، يبدو الرجوع إلى أسمائنا التراثية المحلية ليس نكوصًا، بل موقفًا واعيًا واستعادة لهوية أصيلة.

من هذه الأسماء، يبرز اسم "حدهم" بوصفه حالةً خاصة؛ نادرة، بسيطة، ولكنها مشحونة بالدلالة، وذات رمزية لسانية واجتماعية وروحية عميقة. يحمل هذا الاسم في طيّاته قصة، ويُلخّص واقعًا، ويُثير تساؤلات حول التسمية كفعل ثقافي، يزاوج بين الفردي والجماعي، وبين المحلي والإنساني.

- الأصل اللغوي والمعجمي والدلالي لاسم "حدهم":

يتألف اسم "حدهم" من مقطعين: "حدّ" و"هم". فـ"حدّ" في المعاجم العربية يعني المنع، أو الفصل، أو الحدّ الفاصل بين شيئين. يقول ابن منظور: "الحدّ ما يمنع الشيءَ أن يَتَعَدَّى غيرَه، وهو الفاصل بين الشيئين" (ابن منظور، 2005، ص. 135). أما "هم" فهي ضمير الجمع للغائبين، ويُستخدم في العربية الفصحى للإشارة إلى جماعة غير حاضرة.

وبناءً عليه، يُمكن فهم الاسم دلاليًا على نحوين:

- "أحدهم": أي شخص غير محدد من بين جماعة.

- "آخرهم": بمعنى ختام الجماعة أو نهايتهم، وهي دلالة أكثر التصاقًا بالسياق الشعبي المغربي.

في الاستعمال المغربي، وتحديدًا في الشرق ومناطق زعير وزمور، خاصة منطقة تيفلت، نجد الاسم متداولًا في سياقات خاصة، حيث تُطلق عبارة "هاذي حدهم" في وصف آخر بنات الأسرة، خاصة إن تتابعت ولادات الإناث دون فاصل ذكري. ثم حُذفت "هاذي" لتبقى "حدهم" اسمًا قائمًا بذاته، يُعبر عن أمنية ضمنية بأن تكون هذه آخر البنات، أي علامة على الاكتفاء و"ختم النسل"، أو "آخر من حدّهم"، أي آخر نسلهم أو طفلهم الأخير إن صح التعبير.

وقد أشار بعض كبار السن في منطقة زمور (مقابلات ميدانية، 2024) إلى أن التسمية كانت دعاءً ضمنيًا أو فألًا حسنًا بأن يُرزق بعد ذلك بولد، أو ألا تستمر الولادة لأسباب صحية أو اقتصادية.

ما يميز اسم "حدهم" أيضًا هو أنه اسم لا يُنسى. فندرته، وغرابته النسبية، وسياقه العاطفي، تجعله يحمل أثرًا في الذاكرة السمعية للمجتمع. وتمنحه فرادة وتجعله سهل التذّكر، بل يلفت الانتباه إلى حامله، ويمنحه هوية لسانية مميزة، ويُشار إليه باسم له حكاية وجذور تاريخية أصيلة، لا كتسمية نمطية عابرة.

- البعد الديني والثقافي والاجتماعي:

في السياق الإسلامي، تحمل كلمة "حدّ" شحنة دلالية قوية، إذ تُذكر في القرآن الكريم ضمن ما يُعرف بـ "حدود الله"، وهي الأحكام التي شرّعها الله لتنظيم السلوك وحفظ التوازن الأخلاقي والاجتماعي، كما في قوله تعالى: ﴿تلك حدود الله فلا تعتدوها﴾ (البقرة: 229)، وقوله: ﴿ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه﴾ (الطلاق: 1). هذه الحمولة القيمية تمنح الاسم عمقًا رمزيًا، وإن لم يكن الاشتقاق مباشرًا، لكنه يحيل إلى معاني الضبط والمنع والحسم (الشوكاني، 2001، ص. 22).

كما أن حضور الاسم في الثقافة الشعبية المغربية يعكس تفاعله مع الوجدان الجمعي، خصوصًا في المجتمعات القروية، حيث التسمية ليست فقط اختيارًا لغويًا بل تعبير عن أمل أو رسالة غير منطوقة. اسم "حدهم" في هذه البيئة لا يُطلق عبثًا، بل يأتي محمّلًا بتجربة عائلية أو رغبة في نهاية مرحلة معينة من الإنجاب أو بداية مرحلة جديدة. فالتسمية هنا تُصبح أشبه بدعاء غير مباشر، فيه رجاءٌ واستسلام للقدر.

لهذا الاسم طابع اجتماعي يضفي على حامله فرادة لافتة. فهو لا يُشبه الأسماء المتداولة، بل يتفرد بها، فيُصبح لسان حال الجماعة حين يُذكر. والفرادة في الاسم تعني غالبًا فرادة في الهوية. فالطفل الذي يُقال له "أنت حدهم" يُنشّأ على وعي ضمني بأنه مختلف، وربما مميز، وهذا يسهم في بناء تصوره الذاتي وإحساسه بقيمته داخل الجماعة.

من جهة أخرى، يحمل الاسم في بنيته الصوتية قوة واضحة. لا ليونة في النطق، بل حدة، وصلابة، وجديّة. وهذه النغمة تُساهم في إضفاء معانٍ إضافية على الاسم كرمز للقوة والشجاعة والقدرة على التميّز. وهذا الأثر الصوتي يُرافق الشخص في حياته، ويؤثر في طريقة تفاعله مع العالم من حوله (بنيس، 1999، ص. 87).

وبينما تحاول بعض الأسر مسايرة موجة "الحداثة الشكلية" بتسمية أبنائها بأسماء أجنبية قد تُفقدهم الاتصال بهويتهم الأصلية، وتزرع فيهم شعورًا بالغربة اللغوية أو القيمية، فإن الرجوع إلى أسماء محلية مثل: حدهم، عائشة، رحمة، ضاوية، نجمة، يطو، فاطنة، الجيلالي، عباس، الخياطي، مبارك، مسعود… هو استعادة لفعل ناتج عن ثقافة التسمية المرتبطة بالحظ والأقدار أو التفاؤل والانتماء، وهو احتفاء بالثراء المغربي في تعدده العربي والأمازيغي والحساني والصوفي والإسلامي (المجلس الأعلى للتربية والتكوين، 2019).

- رؤية حضارية ومعالجة معرفية:

ليست التسمية إلا لبنة أولى في مشروع تربية شاملة. فالاسم يرافق الإنسان في بطاقة هويته، وصوته، وسجّلات المدرسة، ومراسلات العمل، وحتى في ذكريات من يحبّونه. وحين يُحمل اسم مثل "حدهم"، يصبح جزءًا من خطاب غير منطوق: خطاب يروي حكاية المكان والأسرة والزمان.

يتحول الاسم في هذا السياق إلى وثيقة ثقافية تصف علاقة الإنسان بجذوره. في التسمية اعتراف ضمني بأن الطفل ليس بداية من لا شيء، بل هو استمرار لسياق عائلي واجتماعي وإنساني. واسم "حدهم"، بما له من فرادة وارتباط بالذاكرة، يزرع في الطفل نوعًا من الفخر الخفي والانتماء العميق إلى قصة أكبر منه.

من الجانب النفسي، تساعد هذه الأسماء على بناء شخصية مستقلة، ترفض الانصهار فيما يُملى من الخارج. فاسمٌ مثل "حدهم" يحيل مباشرة إلى سردية خاصة، ويُغذي خيال الطفل حول مكانته في العائلة، كما قد يفتح أمامه بابًا للتساؤل حول المعنى، والسياق، والذاكرة.

إن التسمية تُصبح وسيلة للمقاومة الرمزية، وخصوصًا حين تتخذ الأسر موقفًا ضد الاستلاب الثقافي عبر أسماء مستوردة تُفرَغ من أي دلالة هوياتية. فاختيار "حدهم" هو إعلان عن التمسك بالحق في تسمية الذات من داخل الثقافة، لا من خارجها (المعجم العربي الأساسي، 1989، ص. 42).

ولا تعني العودة إلى الأسماء التراثية رفضًا للحداثة، بل دعوة إلى الانفتاح الواعي والاختيار النقدي. فأن نحمل أسماء لها جذور، لا يعني أننا نرفض العالم، بل أننا ندخله ونحن نعرف من نحن. بهذا المعنى، يُصبح الاسم "حدهم" جسرًا بين المحلي والعالمي، بين الأصالة والانفتاح، بين الذاكرة والطموح.

خاتمة

إن الاسم ليس مجرد دالّ لغوي، بل هو حاضنٌ للمعنى، ومُعبّر عن انتماءٍ متجذر في الزمان والمكان. واسم "حدهم" لا يُمثل فقط حالة لسانية نادرة، بل يُمثل اختزالًا لثقافةٍ تعي جيدًا أن الهوية ليست ترفًا، بل هي حاجة وجودية تُمارَس حتى في أدق تفاصيل الحياة، ومنها التسمية.

في عالمٍ يزداد فيه التشابه، وتُعاد فيه الأسماء وكأنها سلعة قابلة للتكرار، يأتي "حدهم" ليربك هذا النسق ويعلن عن فرادة الإنسان المغربي، في لغته، ووجدانه، وتاريخه. فالاسم هنا لا يُعرّف فقط صاحبه، بل يُعرّف من اختاره، ويُعلن عن موقف لغوي وقيمي وثقافي.

لذلك، فإن إعادة الاعتبار لهذا النوع من الأسماء ليس فقط فعل وفاء للموروث، بل هو فعل بناء للذات في عالم يمحو الحدود ويُميع الاختلافات. اسم "حدهم" ليس فقط نداءً شخصيًا، بل بيانٌ ثقافيٌّ صغير في مواجهة العولمة الرمزية التي تبدأ أحيانًا من الاسم.

***

د. فاطمة الزهراء العسالي - المغرب

....................

المراجع

- ابن منظور. (2005). لسان العرب (ج2، ص. 135). بيروت: دار صادر.

- الشوكاني، محمد بن علي. (2001). نيل الأوطار في أحكام الحدود (ص. 22). بيروت: دار المعرفة.

- بنيس، عبد السلام. (1999). الهوية والسيمياء في الثقافة المغربية (ص. 87). الدار البيضاء: دار النشر المغربية.

- المجلس الأعلى للتربية والتكوين. (2019). تقرير حول الهوية الثقافية في المدرسة المغربية. الرباط.

- المعجم العربي الأساسي. (1989). تونس: المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم.

- مقابلات ميدانية مع سكان زمور وتيفلت، شهري مارس وأبريل، 2024.

بين القراءة الاختزالية وفلسفة النقد البنَّاء

في عالمٍ متسارعٍ تتنازع فيه القراءات والتأويلات، يبرز سؤالٌ جوهريّ: إلى أيِّ مدى يمكننا قبول ممارسة النقد في بيئةٍ تُجرِّم التفكير الحرّ وتُسقِط كل قراءة جريئة تحت مسمّى "الخيانة" أو "التطاول"؟ إنّ القراءات الاختزالية والمتعسفة، التي تُبتر النصوص من سياقها وتُقوِّل أصحابها ما لم يقولوه، لا تمثل فقط خيانةً للمعرفة، بل هي جريمة في حقّ الحقيقة، لأنها تُوظَّف - عن قصد - لتبرير الأهداف الخبيثة، ولتشويه المقاصد النبيلة التي يتوخاها الفكر النقدي. وهنا يكمن الخطر الذي أشار إليه ميشيل فوكو حين قال: "السلطة لا تُمارس فقط من خلال المؤسسات، بل أيضاً من خلال إنتاج الخطابات التي تحاصر الحقيقة وتعيد تشكيلها وفق مصالحها."

إنّ هذه الآلية - أي تفريغ النصوص من عمقها وتحويلها إلى شظايا وظيفية تخدم السلطة أو الأيديولوجيا - هي ما يجعل المثقفين العرب متردّدين في تقديم قراءات نقدية جذرية تهدف إلى إعادة البناء والتقويم. فالنقد عندهم محفوفٌ بمخاطر التصيّد، والتأويل الخبيث، والتشهير. وهنا يمكن أن نفهم لماذا ظلّ "النقد والنقد الذاتي" مشروعاً مؤجَّلاً، لا يكتمل في فضائنا الثقافي العربي.

إنّ الخوف من القراءة المجتزأة هو في جوهره خوف من "اغتيال المعنى"، وهو ما يجعل العديد من المفكرين العرب يكتفون بالتماسّ مع القضايا الكبرى دون الخوض فيها بعمق. وقد حذّر بول ريكور من هذه النزعة حين تحدّث عن "سوء الفهم المُمَنهَج"، حيث تُختَزل المعاني في أكثر تأويلاتها تبسيطاً لتفقد قدرتها على إثارة التفكير النقدي.

ومع ذلك، فإنّ التجارب الفكرية العالمية تقدّم لنا نماذج ملهمة، فـهنري ميلر - أحد أكثر الكتّاب انتقاداً للسياسات الأمريكية - لم يكن صوتاً مناهضاً لوطنه، بل عاشقاً جريحاً له. وهذا ما أكّده مثقفون غربيون كثر حين أقرّوا بأنّ نقدهم هو تعبير عن فرط انتمائهم، لا عن نقمة أو خيانة. لقد جسّدوا ما أشار إليه الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس حين وصف النقد بأنه "شكل من أشكال المشاركة الفاعلة في الفضاء العمومي، ووسيلة للدفاع عن قيم المجتمع نفسه".

وإذا التفتنا إلى التجربة النقدية العربية، نجد أن إرهاصاتها الأولى ارتبطت بمحاولات التحديث والانفتاح على الفكر الغربي، كما فعل رفاعة الطهطاوي في القرن التاسع عشر حين كتب عن ضرورة نقل العلوم والأفكار من الغرب لا لتقليده، بل لإعادة بناء المجتمع العربي وفق قيم التقدم. كانت قراءاته جريئة في زمانها، ومع ذلك واجهت هجمات عنيفة من التيارات المحافظة التي اجتزأت نصوصه واتهمته بالعمالة الفكرية.

وفي القرن العشرين، ظهر مشروع محمد عابد الجابري في نقد العقل العربي، وهو مشروع إصلاحي عميق يهدف إلى تفكيك البنى الفكرية الموروثة وإعادة بنائها. لكن حتى محمد عابد  الجابري، الذي حمل همّ النهضة، وقع ضحية للتأويلات المغرضة التي حوّلت مشروعه الفكري إلى أداة لتصفية الحسابات الإيديولوجية، بدل أن يكون منطلقاً لحوار حضاري واسع. ويبدو أنّ هذا المصير يكاد يطارد كل من تجرأ على ممارسة النقد في فضائنا العربي، من طه حسين إلى عبد الله العروي، حيث حُوربت مشاريعهم باسم الدين أو القومية أو الوطنية، وكأن النقد لا يمكن أن يكون فعل حب للوطن.

هنا يصبح النقد البنَّاء أسمى أشكال الوطنية، لأنه لا ينطلق من رغبة في الهدم، بل من حرص على البناء وإكمال النقص، ومن إيمانٍ بأنّ الأوطان التي تُحصّن نفسها ضد النقد تُمهّد لانهيارها الذاتي. وبهذا المعنى، يغدو النقد ممارسةً وجودية تُعبّر عن "حبٍّ عميق للوطن" كما وصفه ميلر ومارسَه كبار المفكرين الغربيين.

إنّ ما نحتاجه اليوم هو أن نعيد تعريف النقد في وعينا الجمعي، لا كفعل عدائي، بل كصرخة حبّ، وكفعل تحرّر من سطوة القراءات الضيّقة التي تُقصي كل محاولة لإعادة التفكير في ثوابتنا الثقافية والسياسية. فالذين يخشون النقد لا يخافون الكلمة بحدّ ذاتها، بل يخافون انكشاف هشاشة بنيانهم.

النقد إذن ليس ترفاً فكريّاً، بل ضرورة حضارية؛ وبدونه لا يمكننا أن نواجه الجمود ولا أن نحلم بوطن "أفضل وأكثر كمالاً مما يمكن أن يتم هجاؤه". إنّه دعوة إلى الشجاعة الفكرية التي تحدّث عنها إيمانويل كانط في مقالته "ما التنوير؟"، حين رأى أن التقدّم يبدأ حين نجرؤ على استعمال عقولنا خارج الوصاية المفروضة علينا.

بهذا، يصبح النقد فعل انتماء بامتياز، ووسيلة لإنقاذ الخطاب من تحريفه وتوظيفه في مساراتٍ مغرضة. إنه صراع ضد القراءات التي تُراد لها أن تُميت المعنى بدل أن تُحييه، وهو، قبل كل شيء، إعلان حبّ للوطن في أبهى صوره.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

الواقع بين فیلم 'عرض ترومان' وحلم ديكارت

- المدخل: لاینكر، إن فكرة الواقع ومفهوم العالم،  كرّست في ثقافة البشر وغرست في الأذهان كحقائق بدیهیة. ولكن، في ظل ما يقع في العالم الحاضر، من أحداث ووقائع، يرغمنا على التفحص والتدقيق في مفهوم الواقع. فعندما نتابع أحداث العالم والكوارث في شتى ظهورها، لا نتفاجأ كأننا نتفرج في 'ديزني لاند' ولكن بصورة أكثر مأساوية.

لكن بفضل تكنولوجیا التواصل الذكي، أصبح الأمور أكثر شفافية  مما كان، وعلی الرغم من هذا يغدو الواقع متلبسا، رماديا وغیر واضح تماما. هذه الفكرة تعود الی بدایات شروعي في كتاب 'الفلسفة والفیسبوك' عام ٢٠١٩بالكردیة'، عندما استنتجت بأنه لم یعد هناك خط فاصل بین ماهو واقع/كائن وماهومصطنع/متخیل.

لأن مفهوم الواقع تأثر بهیمنة التكنولوجیا الحدیثة ورؤیتنا للعالم تغیرت من حیث المكان والزمان. لذا لم یعد الفصل بین ماهو واقع ولاواقع، ولابین ما هو مرئي وماهو مجرب ممكنا. لكن المفارقة هنا هي: أن الواقع أصبح ضبابي في الفضاء المسمی بالواقع المرئي. وبالتالي فما نراه في الأفلام، تقدم وجها آخر لحقيقة الواقع. فهل یمكن للسینما أن یقربنا من الواقع أم أنه یقدمه بطریقة خاطئة أو يقدم بديلا آخرا عنە؟

الواقع كسؤال فلسفي

ماهو الواقع اصلا؟ هل هو مجرد سرد أم خطاب ایدولوجي نتداولە؟ هل هو حقيقة أم فبركة؟ وهل هناك مفهوم أحادي للواقع؟ أم لابد من التفیكر في الواقع بصيغة الجمع/ الوقائع؟

فلسفیا، یمكن الجزم ان الواقع كمهوم كمعطی وجودي. لكن لابد أن يخضع مفهوم الواقع الی محكمة العقل والنقد مجددا. لأنه أصبح متلبسا، مبهما ومخلوطا. فهو ليس كشيء في ذاته (الوجودالعيني) یمكن قبضه. بل یمكن القول بأن الواقع مابین العوالم- الوجودات (جمع الوجود) المتعددة. أصبح الواقع بظهور التكنولوجیا المتطورة في حيز تلبیس ابلیس، إذا صح التعبير.

لأن التكنولوجیا حول ملامسة الواقع الی شيء مابيني وتراكم رقمي أكثر مماهو سائد. فلم یعد یمكن القول بأن الواقع بدیهي كما كان. بل أصبح من نوع 'السهل الممتنع' الذي يتعذر على العقل المعاصر التعامل معه كموضوع خارجي وطبیعي بحاله.

وهل هذا یعني بأن الواقع مجرد وهم ومن صنع عقولنا؟ أم هو حقيقة خارجة عنا؟ إبستمولوجیا، ينشأ فكرة الكون/العالم في الوعي من خلال ملامسة الواقع وتتشكل من خلال رؤية المرء وادراكها. فإذا جزمنا بأن العالم مجرد وهم، فهذا لايعني عدم واقعيته، بقدر مانعني بە سوء الفهم حوله. الوهم يشبه الحلم ويبدو الأمور ثابتًا حتى يستيقظ المرء منه.

كما، لا ننسى أیضا بأن العقل لا يخلق كل شيء، ولكنه يُملي على الأمور معاني وتفسيرات حسب ما يجول في خباياه. لذا، كان التمييز بين "الواقع"و"اللاواقع" أو الحقيقة و"الحلم" أمرا ضروريا. لكن تبدوا الأن بأن الحیاة اختزلت في الشبكات والمنصات وباتت موازية لما تعكسها. فماهو كائن ونعتبره واقعا منسوج خوارزمي خاصة بظهور الذكاء الإصطناعي.

من هنا، نشهد امورا لاواقعیة وأحداث أو أخبار غير موثوقة ولكن تنشر كحقائق بدون سند واقعي. وهذا مايجعلنا نتساءل: مدی واقعیة الأمور في الوقت الحاضر. كما لانستغرب إذا ادركنا أنما يحدث في الواقع بمعناه السائد وعلى المستوى المحلي والعالمي أیضا لم یعد يهزن مشاعرنا. لأننا نعایش الأحداث والمآسي من خلال الشبكات فقط. وهذا یؤدینا الی سؤال خطیر: هل هذا بسبب الموت الفكري فینا أم بسبب "موت الواقع" نفسه؟ لكن كيف یموت 'الواقع'؟ وهل ما نمر به في الوقت الحاضر مجرد حلم أم ماذا؟

الواقع في الحلم الدیكارتي وترومان شو

قبل حوالي أربعة قرون، تساءل ديكارت (1596-1650) نفسه: هل ما هو موجود، حقيقة أم حلم؟ كيف أعرف أنه حلم في حین أن حواسي نشطة أثناء "حلمي"؟

إذن، كیف نرسم الخط الفاصل بين الحقيقة والزيف في ظل التقنیات الذكیة؟ ربما نتسرع بالقول؛ أن فكرة ديكارت طفولية في الأساس. فمن منا لا يفهم الفرق بين الأحلام والواقع.

بطبيعة الحال، كان هدف ديكارت هو؛ أن الأحلام دليل آخر على أن حواسنا تضلّلنا في معرفة الحقيقة. ومن ثم، يصبح السؤال عن ماهية الواقع، أمرا صعبا. وهذا يقود ديكارت إلى منهج "الشك" عن مانختبره ونحس به.

لنعود إلى فیلم (The Truman Show) الخيالي في عام 1998 وبطولة أيقون السينما 'جيم كاري'. فأصل القصة تبدأ؛ بعد أن يترك ترومان والدته، عندما كان طفلاً، تم تبنيه من قبل شركة إنتاج تلفزيوني ومنذ ذلك عاش في استودیو 'سیف هافن'. ولم يغادره طيلة حياته. وبطبيعة الحال، فإن ترومان محروم من العديد من الأشياء دون إرادته وعلمه.

ثم تقوم الشركة باستخدامه في برنامج تلفزيوني. وفي أحد السيناريوهات، يغرق "والده" في قارب أمام عينيه، ويسبب هذا الحدث الخوف من الماء. كما أنه يتعامل یومیا مع المكان - الأستوديو - الذي نشأ فيه، كبيئة واقعية حقیقیة دون أن يدري.

في حين أن الماء والسماء ودرجة الحرارة والمناظر الطبيعية والشوارع والمنازل والأسواق وما إلى ذلك هي جزء من الاستوديو المجهز. ولايدرك بأن الحياة التي يعيشها، ليست حقيقية.

فالبيئة، والأحداث، والحوارات كلها تم إعدادها في "الفضاء المنظم" استوديو كبرنامج تلفزيوني يتم بثه بالطريقة المباشرة للجمهور امام التلفزیون. فحياة ترومان، مسجلة عبر خمسة آلاف كاميرا في مختلف الأماكن داخل الستوديو. بتعبير أخر، أن الواقع مزور ومختلق بداخل الستودیو. واستدرك جیم بأن العالم ووسائل الإعلام والسياسة وحتى أصدقائه وأقاربه يكذبون عليە.

إذن أن المظاهر/الظاهر كما یراه ویدركه، مصطنع ومنسوج لغوي وانعكاس للفكر/العقل. فقصة 'ترومان' مثل المجنون الذي أيقظ الواقع عقله. فما اختبره وجربه لم یكن الواقع بذاته، بل كان منسوج فني عن طريق إخفاء الحقائق عنه.

الرسالة هنا؛ أن الحياة المصورة، تعني أن كل ما نراه هو مجرد سيناريو. فعمله وزوجته وأصدقائه وزملائه كلهم ليسوا إلا ممثلون يؤدون أدوارهم. فالكل جزء من سلسلة تلفزيونية حية، يشاهدها الجميع في أنحاء العالم.

وهذا یشبه نوعآ ما یحصل في حياتنا الآن، حیث يتلاعب السياسيون والشخصيات الدينية والإجتماعية والإعلامیة بالمعاني و"الحقائق" وتحویرها. فمن خلال سرد قصص أيديولوجية- الوطنية والقومیة، الدينية والليبرالية الجديدة والخ في الوسائل الإعلامیة والشبكات، یهدفون الی خلق واقع بدیل ومزیف.

وهذا يعرض وعي الناس الی نوع آخر من الخطر ویمكنه تسمیته بالإستبداد الجدید. فهناك قوى فاعلة ونافذة محليا وعالمیا، یتحكم بالوعي. فمن بسرد أخبار ومعلومات غیر صحیحة الی وقائع بدیلة وتضخیم امور سطحیة.  فالهدف؛ هو تمديد عمر 'السلطة' الحاكمة من خلال افشاء أوهام وسردیات لازمنیة.

لازالت السلطة تراهن "رهانا فاوستیا" مع الشر/الشيطان من أجل البقاء. وذلك، بخلق واقع كاذب ومبرر وتشويه الحقائق وتزوير التأریخ من خلال الروايات الكاذبة. لذا لا نستغرب بان الوضع في مجتمعاتنا المعاصرة یكاد يشبه مجتمع 'ما بعد-الحقيقة'. فطغیان المعلومات الملفقة والحقائق المشوهة، تضيق الخناق علی الواقع.

فنحن أمام ظاهرة أو حملة "تشويه الواقع". وهذا، یذكرنا  برسالة الرسام الإنجليزي فرانسيس بيكون (1909-1992)؛ الذي اعتقد  'إذا أردتَ نقل الحقيقة، فلا سبيل إلی ذلك إلا بتشويهها'. فمن خلال تشويه أو إستبدال "الظاهر" بصورة أخرى عنها.، یكمن خلق حقیقة أخری!

ولكن بفضل حلم ديكارت ووهم ترومان، وفرشاة بيكون والفكر الفلسفي الناقد، إيقاظ الوعي من كابوس "الواقع". فعندما تكون الخطابات والسرديات السائدة عن الواقع منشغلة بتهدئة عقولنا، يتعين علينا إستعادة الوعي الذاتي والنقدي ونبش نعي الواقع/الحقیقة مجددا ومرارا. لم یعد الواقع بریئا كما كان أو علی الأقل بالصورة المقدمة الینا.

***

بقلم نوزاد جمال

باحث ودكتوراه في الفلسفة الحدیثة

 

بالنسبة إلى المنهج التحليلي السوبر خلاّق، العدالة السوبر خلاّقة = إنتاج كلّ أنماط الحرية والمساواة الممكنة × إنتاج كلّ أنماط السلام والتطوّر الممكنة. هذه هي العدالة السوبر خلاّقة لأنها فعّالة في إنتاج كلّ أنماط الحرية والمساواة والسلام والتطوّر. من فضائل العدالة السوبر خلاّقة فضيلة أنها تضمن استمرارية تطوير العدالة وفضيلة تحريرنا من مفاهيم العدالة الماضوية.

بما أنَّ، بالنسبة إلى العدالة السوبر خلاّقة، العدالة كامنة في إنتاج كلّ أنماط الحرية والمساواة والسلام والتطوّر بينما كلّ أنماط الحرية والمساواة والسلام والتطوّر تتضمن أنماط الحرية والمساواة والسلام والتطوّر التي لم تُكتشَف بعد، إذن تضمن العدالة السوبر خلاّقة استمرارية تطوير العدالة من خلال اكتشاف كلّ أنماط الحرية والمساواة والسلام والتطوّر غير المُكتشَفة حالياً أو في الماضي وتطبيقها. وضمان استمرارية تطوير العدالة فضيلة أساسية دالة على أنَّ العدالة السوبر خلاّقة هي العدالة الحقة. من المنطلق نفسه، بما أنَّ العدالة السوبر خلاّقة تدفع بنا إلى اكتشاف أنماط حرية ومساواة وسلام وتطوّر لم تُكتشَف سابقاً من جراء أنَّ العدالة كامنة في إنتاج كلّ أنماط الحرية والمساواة والسلام والتطوّر الممكنة، إذن تحرِّرنا العدالة السوبر خلاّقة من أن نكون سجناء مفاهيم العدالة الماضوية. و في هذا التحرّر فضيلة كبرى دالة على أنَّ العدالة السوبر خلاّقة هي العدالة الحقة.

العدالة السوبر خلاّقة تُحلِّل العدالة من خلال الحرية لأنَّ من دون الحرية نفقد إنسانيتنا. فمثلاً، إن لم نكن أحراراً فحينها سوف نشبه الأشياء الفاقدة للحرية كالحجارة والتراب مما يتضمن خسران إنسانيتنا. لذلك العدالة كامنة في تحقيق واحترام حرية كلّ فرد تماماً كما تؤكِّد على ذلك العدالة السوبر خلاّقة. كما تكمن العدالة في المساواة بأنواعها المختلفة كافة كالمساواة أمام القانون والمساواة الاجتماعية والاقتصادية. هذا لأنه بلا وجود مساواة كغياب المساواة أمام القانون يَسُود التمييز بين الناس مما يُقيِّد حرياتهم و بلا مساواة اجتماعية واقتصادية يفقد الإنسان قدرته على ممارسة حريته بسبب قِلة ما يملك من موارد. من هنا، المساواة بأنواعها كافة ضرورية لتحقيق الحرية فسيادة العدالة الكامنة في الحرية. كلّ هذا يرينا بأنَّ العدالة تكمن في الحرية والمساواة معاً تماماً كما تقول العدالة السوبر خلاّقة.

بالإضافة إلى ذلك، بلا سيادة السلام، نخسر الحرية والمساواة. لذلك العدالة قائمة أيضاً على تحقيق السلام وسيادته. في زمن الصراعات والحروب، يفقد معظم الناس حرياتهم كحرية التنقل وحرية التكلّم والتخاطب بلا قيود بالإضافة إلى الخسائر البشرية والاقتصادية. لذا السلام ضروري لتحقيق الحرية فبناء العدالة. من المنطلق نفسه، في زمن الصراعات والحروب، تزول المساواة بين الناس لأنَّ الصراعات والحروب متصفة بغالب ومغلوب مما يتضمن زوال المساواة بين الأفراد المنتمين إلى جماعات متصارعة. هكذا السلام ضروري لتحقيق المساواة فسيادة العدالة. كلّ هذا يرينا أنَّ العدالة كامنة أيضاً في السلام تماماً كما تؤكِّد العدالة السوبر خلاّقة.

لكن بلا أن يتطوّر الفرد باستمرار، يغدو الفرد سجين ما هو عليه وبذلك يفقد حريته. لذلك العدالة كامنة أيضاً في التطوّر الاجتماعي والاقتصادي والثقافي المستمر. فمن دون تطوّر الفرد اجتماعياً وثقافياً واقتصادياً، يمسي الفرد سجين وضعه الحالي وسجين ماضيه فيخسر حريته ويفقد بذلك إنسانيته. من هنا، لا تتحقق العدالة سوى باستمرارية تطوّر كلّ فرد اجتماعياً واقتصادياً وثقافياً تماماً كما تقول العدالة السوبر خلاّقة. و كلّ هذه البراهين تشير إلى أنَّ العدالة الحقة هي العدالة السوبر خلاّقة التي تحلِّل العدالة من خلال الحرية والمساواة والسلام والتطوّر بقولها إنَّ العدالة السوبر خلاّقة = إنتاج كلّ أنماط الحرية والمساواة الممكنة × إنتاج كلّ أنماط السلام والتطوّر الممكنة.

***

حسن عجمي

فيما يتعلق بفلسفة العار وعقيدة الصدمة

جذب انتباهي عنوان نص في المثقف للكاتبة لندى حطيط موسوم ب " غرور يرسم خريطة التاريخ ل تحولات العار" المستند إلى كتاب "فلسفة العار عاطفة ثورية للفيلسوف فريدريك غرو " المنشور بتأريخ 31 .07. 2025، والذي يمثّل غوصاً جريئاً في منطقة ملغومة من النفس والمجتمع، تلك التي طالما جرى إسكاتها أو محوها باسم «الصحة النفسية» أو «التكيف الاجتماعي». إن ما يقدّمه غرو ليس ترفًا فكريًا، بل نداء أخلاقي يلامس صميم معاناتنا المعاصرة، حيث يُعاد إنتاج العار كأداة خفية للهيمنة لا كوعي تحرريّ، بل أداة للسيطرة تهدم الذات وتمحوها كصفحة بيضاء يجري إعادة كتابتها حسبما يتناسب والهدف المرجو.

بلغة حادة الوضوح، وسرد عميق، يُعيد غرو تعريف العار لا بوصفه سقوطًا فرديًا، بل كصرخة كونية ضد الظلم الممنهج، وكقوة كامنة في صمت المنسيين والهامشيين. العار هنا ليس لعنة، بل شعلة. ليس نهاية، بل بداية لإدراك موجع، يتحوّل ـ متى ما أُصغي إليه ـ إلى فعلٍ مقاوم، وإلى كتابة، وإلى رفض.

وما يجعل هذه القراءة ضرورية في زمننا، هو هذا التذكير الفلسفي بأن ما نخشاه ونواربه ونخجل منه، قد يكون هو ذاته ما يمنحنا فرصة للتماهي الإنساني، ولإعادة اكتشاف ذواتنا المطمورة خلف أقنعة الرضا الكاذب. فالعار، كما يقترح غرو، ليس ما ينبغي ستره، بل ما ينبغي الإنصات له، إذ قد يكون أول خيط في نسيج الخلاص والتحرر.

أوجه التقاطع بين فلسفة العار لفريدريك غرو وكتاب عقيدة الصدمة لنعومي كلاين.

بكل تأكيد، ثمة تقاطعات عميقة وبارعة بين فلسفة العار لفريدريك غرو وكتاب عقيدة الصدمة لنعومي كلاين، وإن انطلقت كل واحدة منهما من سياق تحليلي مختلف. فكلاين تُفكّك في عقيدة الصدمة الآليات النيوليبرالية التي تستغل الأزمات لفرض سياسات قهرية على الشعوب، بينما غرو يُحلّل العار كعاطفة خفية تُستخدم لضبط الأفراد والجماعات؛ وكلاهما في الحقيقة يضيء جانباً من تجربة القهر المعاصرة: أحدهما في الاقتصاد السياسي، والآخر في الشعور الوجودي.

ففي قلب عقيدة الصدمة نجد أن «الصدمة» ليست فقط حدثًا مادّيًا (حرب، كارثة، انقلاب)، بل هي أيضاً لحظة انهيار داخلي تُسلب فيها المجتمعات من قدرتها على التفكير النقدي والمقاومة. هذه الصدمة تُحدث فراغاً نفسياً وسياسياً يُملأ بإجراءات عنيفة تُفرض بوصفها علاجات. وهنا يتقاطع هذا مع فكرة غرو عن «العار» بوصفه لحظة انهيار داخلي، ولكنها – خلافاً للصدمة الصامتة – تحمل إمكانية للرفض والتمرّد إذا تم الإصغاء إليها.

نعومي كلاين تشير إلى كيف تُستخدم الأزمات لترسيخ الهشاشة والخضوع باسم "الإصلاح"، ويكشف غرو كيف يُعاد إنتاج العار كوسيلة لصناعة الطاعة الذاتية، لا بالقوة، بل بالخجل من الهوية والموقع والانتماء. كلا الخطابين يلتقيان في نقد ما يُسمّى بـ"التحرر الزائف": ذلك الذي يمنح الناس حرية الاستهلاك، ويصادر منهم حرية التعبير عن الألم، أو مساءلة البنية التي أنتجت هذا الألم أصلاً.

كلاين تكشف آليات "الهيمنة من الخارج"، وغرو يضيء على "الهيمنة من الداخل". كلاهما، بطريقته، يحثّ على مقاومة صامتة تصبح فيها العاطفة (سواء كانت صدمة أم عارًا) بداية لوعي جديد.

***

سعاد الراعي

70.312025.

........................

رابط المقال

https://www.almothaqaf.com/choices/982608

سؤالٌ شغلَ الفكرَ الإنساني وامتدَّ صداه في أروقة الفلسفة والنقد والفن، حتى بدا وكأنَّه ليس مجرد قضية نظرية، بل معضلة وجودية تتصل بجوهر الإنسان ومآلات حضوره في العالم. لقد أرهق هذا السؤال الباحثين طويلاً، قبل أن تتبلور لديهم قناعة بأنَّ الحداثة، في عمقها الأقصى، ليست سوى وجهٍ آخر للكينونة؛ أو بالأحرى، هي التعبير الأكثر تمظهراً عنها. فإذا كانت الكينونة هي انكشاف الوجود في أبهى تجلياته، فإن الحداثة هي تلك الحركة التي تمنح هذا الانكشاف مضمونه الإبداعي والفعلي.

إن الإبداع الفني، حين يحقق ذاته، لا يضيف شكلاً جديداً أو مضموناً مبتكراً وحسب، بل يحقق كينونته، أي يؤسس لوجود يتجاوز الحدود التقليدية للمعنى، ويتخطى زمنه ومكانه ليبلغ مرتبة الحضور الفاعل. هنا يغدو العمل الفني كائناً قائماً بذاته، لا يستمد قيمته من مرجعية خارجية بقدر ما يصوغ قيمته في صميم كينونته الخاصة. ومن هذا المنطلق، فإن الحداثة ليست تجديداً سطحياً في المعاني أو الألفاظ أو الأساليب، وليست قطيعة شكلية مع الماضي، وإنما هي فعل وجودي، ينهض في مواجهة المألوف ليصوغ أفقاً جديداً للوعي والتجربة.

بهذا المعنى، تصير الحداثة كينونة ثانية: وجوداً موازياً لا يقل تأثيراً عن أي وجود آخر، لكنها كينونة منحازة للاعتبار الشعري، ذلك الاعتبار الذي يبتكر المختلف، ويقيم المعنى على حافة الدهشة، حيث يغدو المألوف غريباً، والغريب مألوفاً. إنها ليست مفهوماً محصوراً في أمة بعينها أو عصراً بعينه، بل هي أفق مشاع، متاح لكل كينونة تستشعر ضرورة الثورة على رتابتها، سواء أكانت فرداً أم مجتمعاً أم أمةً بأسرها. وهنا يستقيم القول مع ما ذهب إليه مطاع الصفدي حين اعتبر أن الحداثة ثورة في صميم الكينونة، وليست استيراداً جاهزاً لتقنيات أو أشكال من الخارج.

ومن هذه الزاوية، تبدو الأمة العربية والإسلامية مدعوةً إلى التحديث، لا بوصفه استجابة لضغوط الخارج أو مسايرة لركب الآخرين، بل بوصفه دعوة ذاتية تنبع من أعماق كينونتها نفسها. إن عليها أن تباشر فعل الاختلاف الجوهري الذي يُعيد تأسيس ذاتها على قاعدة الانفتاح والتجدد، لا لتستعير حداثة الآخرين، بل لتصنع حداثتها الخاصة؛ تلك التي تتكئ على إرثها الروحي والثقافي، لكنها لا تتقوقع فيه، بل تفعّله في أفق إنساني رحب. عندئذ فقط يصبح ممكناً الحديث عن حداثة عربية حقيقية، تنبثق من كينونتها، وتُسهم في الحوار الكوني للحداثات.

إن الحداثة، بهذا التصور، ليست محطة وصول، بل مسار مفتوح، وحين يلتقي هذا المسار مع سؤال الكينونة، يصبح الإبداع فعلاً تأسيسياً للحضور الإنساني، ويغدو الفكر والفن ساحة اختبار دائمة لمدى قدرتنا على أن نكون، وأن نعيد صياغة وجودنا باستمرار.

فالحداثة ليست زخرفة للوجود ولا قناعاً جديداً للحياة، بل هي ثورة في صميم الكينونة؛ لأنها تقوّض البنى المستقرة التي تجعل الوجود مألوفاً ومفهوماً، لتعيد تشكيله من الداخل. إنها فعل خلخلة يطال الأسس التي نعرّف بها أنفسنا والعالم، فبدل أن تبقى الكينونة استسلاماً لواقع جاهز، تتحول في الحداثة إلى مشروع دائم لإعادة اختراع الذات والوجود. بهذا المعنى، الحداثة ليست حدثاً تاريخياً عارضاً، بل هي مجازفة وجودية: مغامرة للكينونة كي ترى نفسها في مرايا جديدة، وتخلق معانيها الخاصة بلا وصاية من الماضي أو قوالب التقليد.

أما الإبداع، فليس ترفاً جمالياً ولا نشاطاً ثانوياً يضاف إلى الحياة، بل هو فعل تأسيسي للحضور الإنساني؛ لأنه اللحظة التي يتحول فيها الوجود من كونه معطى جاهزاً إلى كينونة واعية تصوغ ذاتها. بالإبداع يخرج الإنسان من دائرة التلقي السلبي للعالم إلى فعل الخلق، فيصبح شريكاً في إنتاج المعنى لا مستهلكاً له. إنه اللحظة التي يبرهن فيها الإنسان على حضوره، لا بمجرد البقاء، بل بإضفاء معنى على بقائه، فيصير وجوده مشروعاً مفتوحاً للتجدد وإعادة الاكتشاف.

***

بقلم: عماد خالد رحمة – برلين.

قراءة في العقل الطائفي العربي

 في المجتمعات العربية ذات الغالبية الدينية، لم تكن المذهبية يومًا مجرّد تمايز فقهي أو اجتهادي في فهم النصوص، بل تحوّلت مع الزمن إلى بنية متكاملة من الانتماء المغلق، تُقاس فيها الحقيقة بمدى قربها من "هويتنا" المذهبية، لا بموضوعيتها أو عدالتها. وفي خضم هذا الواقع، يبرز مفهوم "التواضع المذهبي" بوصفه فضيلة مغيّبة، وأملًا في إعادة الاعتبار إلى الدين كرسالة روحية وأخلاقية، لا كأداة فرز طائفي أو أيديولوجي.

"التواضع المذهبي" هو الاستعداد للاعتراف بنسبية الفهم البشري للدين، والانفتاح على المذاهب الأخرى من موقع إنساني وفكري، لا من موقع الهيمنة أو الازدراء. وهو، بهذا المعنى، موقف نقدي من الذات المذهبية قبل أن يكون تسامحًا مع الآخر. غير أن هذا النوع من التواضع نادر في البيئة العربية، إذ يهيمن على الخطاب الديني والإعلامي والسياسي نمط من التفكير الطائفي يقسّم الناس إلى "حقٍّ مطلق" و"باطلٍ مطلق"، ويمنح كل فريق شرعية إقصاء الآخر أو إسقاطه دينيًا وأخلاقيًا.

تنطلق هذه الدراسة من سؤال جوهري: لماذا يغيب التواضع المذهبي في المجتمعات العربية رغم كثافة الخطاب الديني، وادعاء التعدد والاختلاف؟ وما العوامل البنيوية التي ساهمت في تكوين "عقل طائفي" يعجز عن ممارسة النقد الذاتي أو قبول التعدد داخل المجال الديني نفسه؟

تسعى هذه الدراسة إلى تحليل الظاهرة من خلال تفكيك البنية الفكرية والنفسية والاجتماعية التي تقف وراء انعدام التواضع المذهبي، عبر قراءة في التجربة الدينية العربية، وممارسات المؤسسات الدينية، وآليات إنتاج الانتماء الطائفي، وتوظيف الدين في الصراعات السياسية.

تكمن أهمية هذه الدراسة في أنها لا تكتفي برصد مظاهر الطائفية، بل تحاول النفاذ إلى الجذر العقلي والثقافي الذي يُنتجها، وهو غياب التواضع بوصفه وعيًا عميقًا بالذات وبالآخر في آنٍ واحد. كما تبرز أهميتها في كونها تفتح أفقًا للتساؤل حول كيفية استعادة القيم الدينية في بعدها الإنساني، وتحريرها من أسر المذهب والهوية المغلقة.

تعتمد الدراسة مقاربة تحليلية-نقدية، تستند إلى تفكيك الخطاب الديني الطائفي، وقراءة الممارسات الدينية من زاوية علم الاجتماع الديني، وعلم النفس الجمعي، مع الإحالة إلى شواهد تاريخية وفكرية معاصرة من التجربة الإسلامية والمجتمعات العربية.

 التواضع المذهبي.. المفهوم الغائب

رغم تكرار مفردات التسامح والتعدد والاختلاف في الخطاب الديني المعاصر، يبقى التواضع المذهبي مفهومًا غائبًا أو مُغيبًا، سواء في التنظير أو في الممارسة. فالخطاب المذهبي غالبًا ما ينطلق من منطق الدفاع والتبرير، أو من موقع التفوق والاحتكار للحقيقة، فيُسقط على الآخر المذهبي صورًا نمطية مشوهة، دون أن يملك الشجاعة لتفكيك بنيته الذاتية أو نقد تاريخه الخاص.

ما هو التواضع المذهبي؟

التواضع المذهبي لا يعني الذوبان في الآخر، ولا التنازل عن القناعات، بل هو الاعتراف بأن الفهم الديني البشري نسبيّ، وأن المذاهب - مهما بلغت من العمق والثراء - هي اجتهادات بشرية في قراءة النص، لا مساوية للنص نفسه. إنه موقف فكري وأخلاقي يقوم على:

- فصل المذهب عن القداسة المطلقة.

- الاعتراف بأن الآخر قد يمتلك جزءًا من الحقيقة.

- القدرة على مساءلة الذات والانفتاح على النقد.

- النظر إلى الدين من أفق إنساني شامل لا من زاوية الهوية الضيقة.

لماذا هو غائب؟

يُغيَّب التواضع المذهبي في مجتمعاتنا لعدة أسباب:

1. البنية التعليمية الأحادية: حيث يتربى الأفراد على أن مذهبهم وحده هو الصحيح، بينما الآخرون ضالّون أو منحرفون.

2. الخطاب الديني التحشيدي: الذي يتغذى على المقارنة مع الآخر بهدف تعزيز الانتماء لا بهدف الفهم.

3. الذاكرة التاريخية الجريحة: بما تحمله من حروب وصراعات بين المذاهب، تُستعاد وتُوظف في الحاضر.

4. تحالف المذهب مع السلطة: حيث يصبح الدفاع عن المذهب دفاعًا عن هوية سياسية واجتماعية، لا مجرد رأي ديني.

النتيجة

ينشأ خطاب ديني لا يعترف إلا بذاته، ولا يرى في الآخرين إلا تهديدًا يجب الرد عليه، لا تجربة يمكن التعلم منها أو الحوار معها. ويتحول الدين، في ظل هذا الغياب، إلى أداة فرز لا إلى دعوة شاملة، ويصبح المذهب هو الدين نفسه، لا مجرد طريقة في فهمه.

 كيف تشكَّل العقل الطائفي؟

العقل الطائفي ليس نتيجة انفعال لحظي، ولا ظاهرة عابرة. إنه بنية متراكمة، تشكّلت عبر قرون من التفاعل بين عوامل دينية وتاريخية ونفسية واجتماعية، حتى أصبحت منظومة إدراك وتأويل واصطفاف، يرى من خلالها الإنسان العالم والآخر والدين والتاريخ.

1. النشأة في بيئة مغلقة

يولد الفرد في بيئة مذهبية مغلقة، يتربى على أن انتماءه الديني هو الحق المطلق، وأن كل ما عداه باطل أو مشبوه.

يتلقّى الدين لا كدعوة للبحث، بل كإرث مقدس لا يُمس. تُربّى لديه الحصانة لا المناعة، والتسليم لا التفكير، فينشأ على أن الإيمان يعني الولاء المطلق للمذهب، لا للحق بمعناه الكوني.

2. التعليم المذهبي

يُلقَّن الطالب – منذ المراحل الأولى – تاريخًا دينيًا مشحونًا، يتم فيه تمجيد الذات وشيطنة الآخر. في كثير من المدارس الدينية، لا يُدرّس فقه المذاهب الأخرى إلا من باب الرد والتفنيد، لا من باب الفهم والاعتراف، ويُختزل تاريخ الآخر في لحظاته السوداء، بينما يُصنع من تاريخ الذات سردية انتصارية بلا نقد.

3. الذاكرة الجمعية الجريحة

الصراعات التاريخية بين المذاهب، من الفتن الكبرى إلى المذابح الطائفية، خلّفت جروحًا في الوعي الجمعي، يتم استدعاؤها في كل لحظة توتر، وتُستخدم لتبرير الحذر، أو الكراهية، أو الاستعداد للعداء. تصبح الذاكرة مادة تعبئة لا درسًا أخلاقيًا، وتُحمل الأجيال الحاضرة وزر أفعال الأجداد.

4. الرموز مقابل القيم

يتحوّل الدفاع عن الرموز (الصحابة، الأئمة، العلماء...) إلى مركز العقيدة، بحيث يصبح الولاء للرموز أهم من الولاء للقيم نفسها. من هنا، يُقصى الآخر لأنه لم يُجلّ رموزنا، لا لأنه ارتكب ظلمًا أو أخلّ بقيمة. ويجري خلط خطير بين حبّ المقدّس وكراهية المختلف.

5. تديّن الانتماء لا تديّن القيم

في العقل الطائفي، يصبح التدين إثبات انتماء، لا تجسيد أخلاق. الدين يتحوّل إلى هوية سياسية أو اجتماعية، لا طريق نحو الله. فيُختزل الإيمان في شعارات واصطفافات، ويُقاس الالتزام بمدى عدائك للخصم المذهبي، لا بمدى قربك من العدل والرحمة.

العقل الطائفي إذن، ليس جهلًا فرديًا، بل بنية جماعية، تُنتجها المؤسسات، وتُغذيها الخطابات، وتُكرسها الذاكرة، وتُحصّنها السلطة. ومن دون تفكيك هذه البنية، سيظل التواضع المذهبي غائبًا، بل مستحيلًا.

الدين حين يُختزل في المذهب

من أخطر التحولات التي أصابت التجربة الدينية في العالم الإسلامي، هو اختزال الدين في المذهب، بحيث لم يعد الإسلام عند كثير من الناس هو رسالة النبي، بل صار هو ما تقوله الطائفة وما تفسّره المدرسة المذهبية، وما تقرره المؤسسة التي تحتكر التفسير.

1. من النص إلى التفسير

النص القرآني واحد، لكن فهمه متعدد. ومع ذلك، يتعامل كثير من أتباع المذاهب مع تأويلهم للنص على أنه النص نفسه. فتصبح أقوال الإمام، أو العالم، أو المذهب، بمثابة الحقيقة الدينية القطعية. بل قد يُترك النص أحيانًا لصالح رأي مذهبي لاحق، أو يتم ليّ عنق النص كي ينسجم مع ما تقرر سلفًا في كتب الطائفة.

2. تحويل التراث إلى مقدس

يتحول التراث الفقهي والكلامي والتاريخي إلى منطقة محرّمة، لا يجوز نقدها أو مساءلتها. ويُعامل كلام الفقهاء وكأنه وحي، وتُبنى العقيدة على استنتاجاتهم، لا على النصوص نفسها. وبدل أن يكون التراث مرآة لتعدد الاجتهادات، يصبح معيارًا لمحاكمة الآخرين، وسيفًا يُرفع بوجه المختلف.

3. الدين كهوية لا كقيمة

في هذا الاختزال، يفقد الدين وظيفته الروحية والأخلاقية، ويتحوّل إلى هوية مغلقة.

لا يسأل الناس: هل أنا عادل؟ هل أنا صادق؟ بل يسألون: هل أنتمي للمذهب الصحيح؟

وهكذا، تُختزل التقوى في الشعارات الطائفية، وتُنسى القيم الكبرى مثل الرحمة والصدق والكرامة، لصالح ولاء مذهبي صارم.

4. انغلاق باب التأويل

عبر التاريخ، شكّل التأويل بابًا للاجتهاد والتجديد، لكن مع صعود الخطاب الطائفي، أصبح التأويل تهمة، وخرج من أيدي المفكرين ليدخل في قبضة الفقهاء الحزبيين. فأُغلق الباب أمام القراءات الجديدة للنص، وأُعيد إنتاج الفهم ذاته، حتى أصبح الدين مجرد صدى لصوت المذهب، لا صوتًا حيًّا للحقيقة.

5. تقديس الانقسام

تتحول الخلافات الفقهية إلى مقدسات طائفية، ويُبنى عليها الاصطفاف والانتماء. فمن يوافقنا فهو مسلم كامل، ومن يخالفنا فهو متهم أو منقوص أو على حافة الخروج من الدين. تتوقف مرونة الدين، وتتجمد حيويته، ويصبح خلاف المذاهب حاجزًا نفسيًا وعقليًا بين الناس، لا مجرد تنوع اجتهادي.

إن اختزال الدين في المذهب لا يقتل فقط روح التعدد، بل يفرغ الدين نفسه من محتواه. فإذا غاب الأفق الإنساني والروحي والأخلاقي، لم يبقَ من الدين سوى هياكل مذهبية تتصارع على تمثيله، كلٌ يدّعي أنه الأقرب إلى الله، وهو أبعد ما يكون عن روحه.

من الدفاع إلى العدوان

في كثير من الحالات، يبدأ الانتماء المذهبي من موقع الدفاع: الدفاع عن الذات، عن الحقيقة، عن الهوية، عن التاريخ، عن الشعائر. لكن هذا الدفاع، إذا لم يُضبط بالوعي النقدي والتواضع الإيماني، سرعان ما يتحول إلى عدوان على الآخر، لا في الجسد فقط، بل في الذاكرة والوعي والخطاب والشرعية.

1. الدفاع المذعور

ينشأ كثير من الخطابات الطائفية من خوف جماعي، حقيقي أو متخيّل، من ضياع الهوية أو طمس الخصوصية. فكل اختلاف يُرى تهديدًا، وكل نقاش يُستقبل كتشكيك، وكل تقارب يُعدّ مؤامرة. ينغلق العقل، ويُستنفر الوجدان، ويُبنى الحصن: "نحن الضحية... إذًا الآخر عدوّ".

2. تحويل الآخر إلى كائن مشوّه

العدوان لا يبدأ بالسلاح، بل بالصورة الذهنية. تُبنى صورة الآخر من خلال سرديات منحازة، تتقصّد التشويه، وتُعيد إنتاج الكراهية عبر القصص المتوارثة، والنكات الساخرة، والاتهامات الدينية. يُجرد الآخر من صفاته الإنسانية: فلا عدل له، ولا تقوى، ولا صدق، لأنه ببساطة... "من تلك الطائفة".

3. الشرعنة اللاهوتية للعداء

لترسيخ العداء، يُستدعى الخطاب الديني المذهّب، فتُنتزع من التراث أسوأ الروايات وأكثرها عنفًا، وتُقدَّم باعتبارها تمثل جوهر الطائفة الأخرى. ثم يُبنى خطاب "الولاء والبراء"، و"الحق المطلق والباطل المطلق"، ويُصبح الاختلاف عذرًا للنبذ، والنبذ مدخلًا للتكفير، والتكفير تمهيدًا للعدوان.

4. من الكلمة إلى الرصاصة

حين تُهيمن هذه البنية الذهنية، يصبح العنف نتيجة طبيعية:

- في الخُطب: سبٌّ وشتم وتحقير.

- في الكتب: تشويه وتحريض.

- في المنابر: تعبئة واستنفار.

- في الشارع: تهديد وتصفية واستبعاد.

وكل فعل يُبرَّر باسم "الدفاع عن العقيدة"، حتى لو كان عدوانًا صريحًا.

5. الدفاع الذي يقتل الدين

المفارقة أن هذا "الدفاع العدواني" لا يحمي الدين، بل يقتله من الداخل. لأنه يُفرغه من معاني الرحمة، والعدل، والحرية، والتواضع. فيتحوّل الدين إلى خندق، والمذهب إلى سلاح، والناس إلى فرق متقاتلة باسم الله، والله منهم براء.

الدفاع عن الهوية حق مشروع، لكنه لا يكون مشروعًا إذا تحوّل إلى أداة قمع. والحرص على المذهب فضيلة، لكنه يصبح رذيلة حين يُمارَس على حساب الحقيقة والعدل والكرامة. الطائفية لا تبدأ بالسلاح، بل تبدأ بفقدان التواضع المذهبي.

هل من مخرج؟

بعد هذا العرض لبنية العقل الطائفي، وآليات تشكله، وتجليات غياب التواضع المذهبي، يظل السؤال الكبير:

هل من مخرج؟ هل يمكن في بيئة مشبعة بالانغلاق والذاكرة الجريحة والانتماء المتعصب، أن يُولد وعي جديد؟

وهل للتواضع المذهبي من فرصة واقعية، أم أنه مجرد حلم طوباوي في زمن الانقسام؟

1. إعادة مركزية القيم بدل المذاهب

أولى الخطوات للخروج من الطائفية هي ردّ الدين إلى جوهره القيمي: العدل، الرحمة، الكرامة، التواضع، حرية الضمير. حين تصبح هذه القيم مركز الخطاب، ينزاح المذهب من موقع التقديس إلى موقع الاجتهاد، وينفتح المجال لرؤية إنسانية وروحية للدين.

2. تفكيك الهويات الطائفية

لا يمكن أن يُولد تواضع مذهبي دون مساءلة الهويات الدينية المغلقة. فالهوية الطائفية حين تتحوّل إلى مطلق، تصير قفصًا للفكر والدين والوجدان. المطلوب هو إعادة تعريف الذات الدينية بوصفها هوية أخلاقية مفتوحة، لا جماعة مغلقة.

3. تحرير التعليم الديني

المدارس الدينية هي المصانع التي يُشكَّل فيها الوعي. ولذلك، فإن أي إصلاح يبدأ من تحرير التعليم من النزعة المذهبية المغلقة، وإدخال مناهج مقارِنة، تعرّف بالاختلاف المذهبي بوصفه تراثًا إنسانيًا، لا تهديدًا عقائديًا.

4. تشجيع التأويل والنقد

فتح باب التأويل، وتشجيع القراءة النقدية للنص والتراث، وإعادة الاعتبار للعقل في التعامل مع الدين، من أهم أدوات الخروج من الانغلاق. فالمذهب المغلق يخاف من العقل، والمذهب الواثق يتسع للنقد.

5. بناء خطاب ديني جديد

نحتاج إلى فقهاء ومفكرين ووعاظ يتحدثون بلغة القيم، لا بلغة الاصطفاف. ينبذون الكراهية، ويتحررون من الحسابات السياسية والطائفية، ويدافعون عن الإنسان بما هو إنسان، لا بما هو تابع لطائفتهم. خطاب يزرع الوعي بدل الولاء، ويُعيد للدين طُهره الأول.

ليس المطلوب طمس الفوارق المذهبية، ولا تذويب الهويات، بل العكس: المطلوب هو التواضع الذي يعترف بها، ويعقلنها، ويجعلها جسرًا للفهم لا خندقًا للعداء. إنها معركة وعي، تحتاج إلى شجاعة فكرية، وأصوات مخلصة، ومؤسسات تربية تؤمن بأن الله لا يُعبد بالكراهية، وأن الحق لا يُختزل في مذهب.

خاتمة

إن التواضع المذهبي ليس ضعفًا في الإيمان، ولا تهاونًا في الدفاع عن العقيدة، بل هو أرقى درجات النضج الديني، وأصدق تعبير عن فهم الإنسان لمحدوديته، وعن إدراكه أن الله لا يُحدّ في مذهب، ولا يُختصر في طائفة، ولا يُحتكر من قبل جماعة.

في مجتمعات أنهكتها الحروب الطائفية والانقسامات المذهبية، وأفسد فيها الدين السياسي الوجدان العام، لم يعد يكفي أن نتحدث عن التسامح، أو نتغنّى بالوحدة، ما لم نواجه البنية التي تصنع الكراهية وتعيد إنتاجها جيلًا بعد جيل.

التواضع المذهبي لا يولد من الخطاب الرسمي، بل من إعادة تربية العقول والقلوب:

- من تعليم الناس أن المذاهب اجتهادات، لا حقائق مطلقة.

- من نقد التاريخ الديني دون خوف، وقراءته بعيون مفتوحة لا بأفواه مغلقة.

- من إعادة مركزية الإنسان في فهم الدين، لا المذهب أو الطائفة أو الزعيم الروحي.

لقد آن الأوان أن نخرج من عقلية "الفرقة الناجية"، إلى أفق "الحق الواسع"، ومن منطق الولاء للمذهب، إلى منطق الولاء للقيم، ومن الاصطفاف وراء الراية، إلى السير وراء البصيرة. إن ما يحمي الدين من التوظيف الطائفي، ويحمي الإنسان من السقوط في التعصب، هو هذا الإدراك الرفيع بأن الحقيقة لا تُختزل فينا، وأن لله طرائق بعدد أنفاس الخلائق.

فهل نملك الشجاعة الفكرية والأخلاقية لنبدأ من هنا؟

***

محمد ساجت السليطي - كاتب وباحث عراقي

..............

المصادر والمراجع

1. الجابري، محمد عابد. بنية العقل العربي. مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1982.

2. حنفي، حسن. التراث والتجديد. المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1980.

3. الطوزي، محمد. الإسلام السياسي: قراءة سوسيولوجية. دار توبقال، 1992.

4. الغرباوي، ماجد. مدارات عقائدية ساخنة. مؤسسة المثقف، 2020.

5. فضل الله، محمد حسين. خطاب الاعتدال في مواجهة التطرف. دار الملاك، بيروت، 2005.

6. شحرور، محمد. الكتاب والقرآن: قراءة معاصرة. دار الساقي، بيروت، 1990.

7. العروي، عبد الله. الإيديولوجيا العربية المعاصرة. المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1995.

8. نصر حامد أبو زيد. الخطاب والتأويل. المركز الثقافي العربي، 2000.

9. علي حرب. نقد النص. المركز الثقافي العربي، بيروت، 1993.

10. هشام جعيط. الفتنة: جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر. دار الطليعة، بيروت، 1992.

11. إريك هوبسباوم. اختراع التقاليد. ترجمة: فايز الصياغ، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2007.

12. بيير بورديو. العقلانية العملية. ترجمة: جلال بدلة، دار الفارابي، بيروت، 2012.

13. عبد الجبار الرفاعي. الدين والنزعة الإنسانية. مركز دراسات فلسفة الدين، بغداد، 2018.

14. كمال عبد اللطيف. الهوية والاختلاف في الفكر العربي المعاصر. دار توبقال، الدار البيضاء، 2006.

15. برهان غليون. اغتيال العقل: مدخل إلى تحليل الخطاب الاستعماري. المركز الثقافي العربي، بيروت، 1990.

 

(الدكتاتورية، والثيوقراطية، والديمقراطية)

يدرس علم الاجتماع كيف تؤثر الأنظمة السياسية على التفاعلات بين الأفراد والجماعات. تداخل الأنظمة يمكن أن ينتج عنه سلوكيات اجتماعية مثل المقاومة أو القبول تؤثر على تشكيل الهوية الاجتماعية، في بيئات تنشأ انقسامات بين الفئات الاجتماعية، مما يؤدي إلى توترات وصراعات. تنشا يركز علم الاجتماع على كيف اكتساب السلطة وكيف تُمارس، وما يجعلها شرعية، الأنظمة المختلطة تواجه تحديات في تحقيق الشرعية حيث تؤدي الأنظمة المختلطة إلى مقاومة للتغيير أو إلى تحولات مفاجئة في القيم وتؤثر على كيفية استجابت المجتمعات للسياسات. أن الضغوط من قبل قوى وحركات اجتماعية أو مقاومة مجتمعية فعالة تحاول تحقيق التنمية المستدامة تؤدي الى صراعات حول جدوى التنمية في ظل شرعيات متناقضة علم الاجتماع يوضح أن تداخل أنظمة الحكم ليس مجرد تفاعل سياسي، بل هو عملية معقدة تتضمن تفاعلات اجتماعية وثقافية، مما يؤثر على كيفية تشكيل المجتمعات وتطورها.

تداخل الأنظمة والهوية

تداخل الأنظمة السياسية يمكن أن يؤثر بشكل كبير على تشكيل الهوية ويمكن أن يؤدي تداخل الأنظمة الى ظهور هويات متعددة داخل المجتمع، حيث تتفاعل الهويات السياسية والدينية والثقافية. هذا يخلق تنوعًا غنيًا، تؤدي إلى انقسامات لكن قد تنشأ توترات بين الفئات المختلفة، الهوية على وهوية الآخر الاجتماعية، مما يؤثر على كيفية فهم الأفراد لذاتهم ومكانتهم. في ظل أنظمة حكم مختلطة يمكن أن تؤدي الى تغير القيم الدينية أو السياسية وتعزيز انتماءات معينة تتداخل وتؤدي الى تتغير العادات والتقاليد لتتناسب مع القيم السياسية السائدة، كما يسعى الأفراد إلى تعزيز هويتهم كوسيلة لمواجهة القيم القديمة. هذا يمكن أن يخلق حركات اجتماعية تعزز الهويات المختلفة التداخل ويمكن أن ويؤثر على كيفية تفاعل الأفراد مع بعضها على بعض، مما يخلق شبكات أو يعزز انقسامات قائمة وتأثير تداخل الأنظمة على الهوية الاجتماعية يتطلب فهمًا عميقًا للتفاعل بين الهويات المختلفة والبيئة السياسية والاجتماعية المحيطة.

الاستعمار الجديد وانظمة الحكم المختلطة

الأنظمة المختلطة يمكن أن تسهل للجهات الخارجية تحقيق مصالحها من خلال دعم فئات معينة في السلطة، مما يزيد من نفوذها في المنطقة ،تساعد هذه الأنظمة في خلق انقسامات داخلية، مما يسهل التحكم في المجتمعات عن طريق استغلال التوترات العرقية أو الطائفية ،من خلال دعم أنظمة مختلطة يمكن للجهات الخارجية أن تضمن استمرار الفوضى وعدم الاستقرار، مما يمنع ظهور قوى معارضة تتحدى مصالحها ،الأنظمة المختلطة تسمح باستغلال الموارد الطبيعية بشكل يفيد القوى الخارجية، حيث يمكن أن تتفاوض مع حكومات ضعيفة أو غير فعالة، دعم أنظمة مختلطة يتيح للقوى الاستعمارية الابتعاد عن تحمل المسؤولية المباشرة عن الأوضاع السياسية والاقتصادية في المنطقة وتشجع بعض القوى على تبني نماذج مختلطة كجزء من مشروعها لإدخال قيم غربية، مما يساهم في تحديث المنطقة لكن وفقًا لمصالحها ،هذه الديناميكيات تعكس كيف يمكن أن تؤثر القوى الخارجية في تشكيل الأنظمة السياسية في الشرق الأوسط بما يتماشى مع مصالحها.

أنظمة الحكم المختلطة وحقوق الانسان

تداخل الأنظمة السياسية المختلفة يمكن أن يؤثر بشكل كبير على حقوق الإنسان بطرق متعددة. في الأنظمة الدكتاتورية، يمكن أن يؤدي تداخل السلطة إلى قمع الحريات الأساسية مثل حرية التعبير، التجمع، والاعتقاد. يُمكن أن تُفرض قيود صارمة على المعارضة السياسية، في الأنظمة الثيوقراطية، قد تُعزز السياسات التي تستند إلى الدين تمييزًا ضد الأقليات الدينية أو غير المؤمنين، مما ينتهك حقوقهم في الحرية والمساواة قد تُستخدم القوة العسكرية أو الأمنية لقمع الاحتجاجات والمقاومة، مما يؤدي إلى انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، مثل الاعتقال التعسفي والتعذيب ،في الأنظمة التي تجمع بين الدكتاتورية والدين، يمكن أن يتم التحكم في وسائل الإعلام لترويج روايات معينة، مما يحد من الوصول إلى المعلومات ويقيد حرية التعبير، في الأنظمة الديمقراطية ذات التأثير الديني، قد تُستخدم القيم الدينية لتبرير انتهاك حقوق الأفراد، مثل حقوق المرأة أو حقوق المثليين وقد يؤدي تداخل الأنظمة إلى تفاوت في الحقوق بين الفئات المختلفة، حيث تُمنح بعض الجماعات حقوقًا أكثر من غيرها، مما يؤدي إلى تفاقم عدم المساواة .وجود أنظمة مختلطة قد يثني الأفراد عن المشاركة في الحياة السياسية، خوفًا من القمع أو الانتقام، مما يضعف المؤسسات الديمقراطية ويقوض حقوق الإنسان تداخل الأنظمة السياسية يمكن أن يؤدي إلى انتهاكات متعددة لحقوق الإنسان، مما يستدعي مراقبة دولية ودعوات للإصلاح لضمان حماية الحقوق الأساسية لجميع الأفراد.

الديمقراطية واستيعاب التناقضات

ان استيعاب الديمقراطية لتناقضات الحكم المختلفة يجعلها نظام هلامي لا يستجيب الى اسسه وبالتالي لا تصلح لتناقضات أنظمة الحكم المختلفة ذلك يمكن أن يؤدي إلى عدم استقرار الديمقراطية وفعالية أسسها. عندما تكون هناك تناقضات كبيرة بين القيم والمبادئ الأساسية للديمقراطية، يصعب تحقيق توافق حول كيفية تطبيق هذه القيم، يؤدي ذلك إلى صراعات داخلية تجعل من الصعب بناء إجماع سياسي ويمكن أن تسعى بعض القوى السياسية إلى استغلال التناقضات لتحقيق مصالحها الخاصة، مما يضعف النظام الديمقراطي ويؤدي ذلك إلى تفشي الفساد وفقدان الثقة في المؤسسات، و يمكن أن تؤدي التناقضات إلى استقطاب سياسي حاد، حيث يفضل كل طرف تعزيز مصالحه على حساب التوافق، بالتالي يتسبب ذلك في عرقلة اتخاذ القرارات ويزيد من الانقسامات الاجتماعية .في ظل وجود هذه التناقضات، تصبح جهود الإصلاح صعبة، حيث تتعارض المصالح المختلفة ويمكن أن يؤدي ذلك إلى الجمود السياسي، حيث لا يتمكن النظام من التكيف مع التغيرات الاجتماعية .عندما تكون التناقضات متأصلة تواجه المؤسسات الديمقراطية صعوبة في العمل بشكل فعال ،يؤدي ذلك إلى فقدان الثقة في المؤسسات، مما يزيد من عدم الاستقرار وقد تسعى قوى خارجية إلى استغلال التناقضات في النظام الديمقراطي لتحقيق أهدافها. يزيد ذلك من تعقيد الوضع ويضعف السيادة الوطنية وتؤدي إلى تهميش فئات معينة من المجتمع، مما يعوق تحقيق العدالة الاجتماعية وتفشي الفقر والتمييز، ويهدد استقرار النظام، استيعاب الديمقراطية لتناقضات الحكم المختلفة يؤدي إلى عدم استقرارها وفعالية أسسها، مما يستدعي ضرورة تعزيز القيم الديمقراطية الأساسية وبناء توافق سياسي واجتماعي لتحقيق الاستقرار في ظل ديمقراطية واضحة المعالم وحقيقية.

***

غالب المسعودي

...........................

1- علم الاجتماع/علم الاجتماع السياسي - ويكي الكتب

2- علم الاجتماع الثقافي – ويكيبيديا

3- دور الدكتاتوريات في ثقافة المجتمع – البلاغ

4- الأنظمة السياسية العربية وإشكالية العجز الوظيفي: دراسة نقدية من منظور

5- ما هو الحكم الثيوقراطي؟ الموسوعة - الجزيرة نت

6- ثيوقراطية – ويكيبيديا

7- دكتاتورية – ويكيبيديا

8- ما هي أهمية الديمقراطية في علم الاجتماع – إجابة - Ejaba

9- علم اجتماع الديمقراطية - دار الشروق للنشر والتوزيع

لم يختبِر الرجل العادي في المجتمع المسلم مشاعر التهديد المستمر في كرامته أو شخصيته النرجسية، أو حتى في غروره الإنساني. لم يشعر بخطر عاطفي دائم أو بغيرة على شريكه خشية أن يتركه في أية لحظة ويرتبط بآخربعلمه أدون علمه ، ليجد نفسه في علاقة ثلاثية الأطراف. إن منح أحد الشريكين حق الارتباط بآخر في أي وقت يشاء، يخلق حالة من القلق العميق لدى الطرف الآخر، ويجرده من الإحساس بالأمان العاطفي اللازم لأي علاقة حميمة طويلة الأمد، حتى وإن لم يستعمل هذا الحق في الواقع، فمجرد وجوده كإمكانية شرعية وقانونية يكرّس عدم التكافؤ، ويضع الطرف المحروم من هذا الامتياز تحت ضغط نفسي دائم.

ما هدف العلاقة الزوجية في التصور الإسلامي؟

في الأدبيات الإسلامية والاجتماعية السائدة، غالبًا ما يُصوَّر الزواج على أنه وسيلة لتلبية حاجات جسدية بحتة. وعلى الرغم من أن القرآن وصف العلاقة الزوجية بأنها تقوم على “المودة والرحمة”، فإن الفقهاء لم يعاملوها كشراكة إنسانية متبادلة، بل اختزلوها إلى “عقد معاوضة” — تبادل منفعة مقابل مال. وهكذا، صيغ الزواج بوصفه معاملة مالية لا تختلف كثيرًا عن البيع أو الإيجار: يُدفع المال لقاء منفعة الجسد.

هذا التركيز على البعد الجسدي للمرأة حوّل العلاقة إلى معادلة منفعيّة صرفة، حيث تصبح الزوجة طرفًا ممنوعًا من إقامة علاقة متعددة، ويُختزل دورها في الحصول على المأكل والمشرب والمسكن. ولا يُعدُّ خروج الزوج إلى علاقات أخرى أمرًا مستهجنًا، طالما أنه مستمر في “الإنفاق”، فحقوق الزوجة محصورة في هذه الحاجات البيولوجية. أما هو، فله الحق في “الحرث” متى شاء وكيفما شاء، بينما تُمنع هي من العمل أو الحركة بحرية دون إذنه، وتُجبر على التبعية الكاملة، بدعوى أنها قد باعت حق الانتفاع من جسدها.

وفق هذا المنطق، تُصوَّر المرأة على أنها تملك “الرقبة” (ذاتها)، لكنها لا تملك “المنفعة”، ما يتناقض مع فكرة أن الإنسان مالك لذاته. وهكذا، تجد المرأة نفسها محاصرة بين خيارين كلاهما قاسٍ: إما الامتناع عن الزواج، مما يعرّضها للوصم الاجتماعي والنبذ، أو الدخول في علاقة زواج تُقيّد حريتها بالكامل، ولا يمكنها الخروج منها إلا بموافقة الطرف الآخر، غالبًا عبر عملية تعسفية لا تراعي إرادتها ولا كرامتها.

صناعة عالم غير إنساني للمرأة

تم تصميم عالم المرأة في المجتمع المسلم ليخدم تصورات الرجل ويحقق امتيازاته. فهو يستند إلى مفاهيم دينية واجتماعية تشرّع له التعدد، دون الاكتراث لمشاعر المرأة، التي تُعتبر رفاهية أو نوعًا من الكفر أو السخف. أما غيرته هو — التي قد تصل حد التملك المرضي — فلا يُنظر إليها بوصفها عيبًا، بل كدليل “رجولة”.

والأدهى من ذلك، أن تفاني المرأة داخل الأسرة لا يمنحها أي امتياز إنساني حقيقي. فالمنظومة الأسرية بُنيت على هيمنة الرجل، بحيث يكون هو السيد المطاع، وهي الأجيرة التابعة، التي فقدت حقها في التصرف في حياتها بعد أن أجّرت جسدها إلى الأبد. ولا خيار متاح لها سوى الخضوع لهذا العقد لتنال القبول المجتمعي.

تغيّر الموازين الحديثة

لكن هذه المنظومة لم تعد تُرضي النساء. فقد بدأن يدركن أن الشريك لا يُمثل قيمة مضافة في حياتهن بقدر ما يُمثل عبئًا يتطلب موارد ضخمة نفسية ومادية. في الوقت الذي يُتوقع من المرأة أن تعمل، وتربي، وتُنفق، وتدير شؤون الأسرة، لا يُطلب من الرجل سوى توفير الحد الأدنى من النفقة — التي كثيرًا ما تتحملها المرأة نفسها في الواقع.

وهكذا، انقلبت المعادلة: الرجل لم يعد “المُعيل” كما تصوره النصوص، بل أصبح هو من يستهلك موارد المرأة دون مقابل حقيقي. ولذا، لم يعد حضوره ضروريًا في حياة المرأة المعاصرة كما كان يُصور في السابق. أما التعدد، الذي لطالما برره الرجل بكونه غير مهم في حياة المرأة، فقد ثبت أنه كذلك بالنسبة له أيضًا؛ لأن المرأة قادرة على أداء جميع الأدوار بكفاءة عالية، في حين يظل مردود الرجل — ماديًا ومعنويًا — محدودًا مقارنة بما تبذله المرأة من جهد في الأسرة والمجتمع

***

د. بتول فاروق/ النجف

الوجه يمثل الهوية الحقيقية للفرد، حيث يُظهر مشاعره وأفكاره. في السياق الثقافي، يمكن أن يعكس القيم والمعتقدات التي يحملها الشخص، في الفلسفة يُعتبر الوجه رمزًا للوجود والوعي الذاتي، يمثل الظل الجوانب المظلمة أو المخفية من النفس، الصراعات الداخلية أو القيم المدفونة. تؤثر التوترات الداخلية على السلوك وتشير الى التفاعل بين الوجه والظل. ان الصراع بين الهوية الاجتماعية والحقيقة الداخلية، يؤدي إلى سلوكيات متناقضة وظهور قضية الهوية الثقافية الذاتية، يمكن أن يؤدي الضغط الاجتماعي إلى تجريد المثقف من هويته الحقيقية، مما يعكس الصراع بين ما يتوقع وما يشعر به داخليًا، ان استخدام هذا التحليل لفهم الظواهر الثقافية مثل الفن، الأدب، والسياسة وفهم القناع والظل في سلوكيات الإنسان الثقافية يعكس عمق التعقيد البشري ويُظهر كيف أن الفهم الذاتي للهوية الثقافية مرتبط بشكل وثيق بالتفكير النقدي وكيفية تأثير الثقافة على الهوية النفسية والاجتماعية.

العوامل التي تزيد من حدة الصراع

المعايير الاجتماعية الصارمة التي تفرضها المجتمعات تزيد من الضغط مما يؤدي إلى كبت الهوية الحقيقية، التمييز بناءً على الدين، العرق، أو الهوية الجنسية يعزز الصراع، حيث يشعر الأفراد بأنهم مقصيون من المجتمع، تصوير وسائل الإعلام للشخصية النمطية وفق المعايير المهيمنة للأفراد، يعزز الصورة ويؤدي إلى عدم قبول التنوع. ما يزيد من حدة الصراع قلة الوعي حول مفهوم التنوع الثقافي مما يؤدي إلى عدم فهم الهوية، الأزمات الاجتماعية والاقتصادية يمكن أن تؤدي إلى تفشي النزاعات الداخلية، حيث يصبح الأفراد أكثر عرضة للضغط الاجتماعي.

الكذب الثقافي والظل الاسود

الكذب الثقافي يمكن أن يُفهم كظاهرة معقدة ترتبط بشكل وثيق بمفهوم الظل عند المثقف. يمثل الظل الجوانب المخفية من الهوية، يُعبر المثقف عنه من خلال الكذب الثقافي، حيث يسعى لتقديم صورة مثالية تتماشى مع التوقعات الاجتماعية، حيث يتعرض المثقفون لضغوط اجتماعية تدفعهم إلى إخفاء آرائهم الحقيقية أو تقديم معلومات مُحرفة، هذا يمكن أن يكون ناتجًا عن الخوف من الرفض أو التهميش، هذا الصراع يمكن أن يؤدي إلى الكذب كوسيلة للبقاء ضمن الحدود المقبولة ثقافيًا .ان الرغبة في القبول الاجتماعي تدفع المثقف إلى تجميل الحقائق أو تقديم روايات غير دقيقة التي تظهر تأثير الضغط الثقافي على سلوك الأفراد، الكذب الثقافي يمكن أن يؤثر سلبًا على مصداقية المثقف ويقلل من تأثيره في المجتمع، وتفقد الثقة بينه وبين الجمهور كما يُظهر الكذب الثقافي كيفية تأثير الظل على سلوك المثقف، مما يدعو إلى التفكير في كيفية تعزيز بيئة ثقافية تسمح بالتعبير الصادق وتقبل التنوع.

الكذب الثقافي والسلطة السياسية

دور السلطة السياسية في تعزيز الكذب الثقافي يمكن أن يُفهم عبر عدة جوانب فلسفية، تقوم الحكومات في بعض الأحيان بفرض رقابة على المعلومات والآراء، مما يؤدي إلى تقييد حرية التعبير، هذا يمكن أن يُسهم في تعزيز الكذب الثقافي حيث تُفرض روايات معينة على المجتمع. الخطابات والسياسات الرسمية تسهم في تشكيل واقع غير دقيق، عندما تروج لروايات معينة، يشعر الأفراد بالضغط لتبني هذه الروايات، حتى وإن كانت بعيدة عن الحقيقة، من خلال تعزيز الكذب الثقافي، تسعى الحكومات إلى تحقيق السيطرة على المجتمع. هذا يمكن أن يؤدي إلى إخفاء الصراعات الاجتماعية والسياسية الحقيقية. يمكن أن تُؤثر المناهج التعليمية المُعتمدة على الروايات الرسمية التي تعزز تصورات خاطئة حول التاريخ والثقافة( المأساة إذا تم تدريس الكذب أو التحريف كحقائق) فإنه يعزز من ثقافة الكذب، حيث تسعى الحكومات إلى تعزيز هويات معينة عبر روايات مُجمّلة أو مُبالغ فيها، مما يؤدي إلى تجاهل الجوانب السلبية أو المعقدة من التاريخ والثقافة، يمكن أن يؤثر هذا الدور في رؤية الفردية للهوية، مما يدفع المثقف إلى التظاهر بما يتناسب مع القيم التي تروج لها السلطة، يُظهر هذا الدور أن الكذب الثقافي ليس مجرد مسألة فردية، بل هو جزء من نظام اجتماعي وسياسي يُساهم في تشكيل الهوية والثقافة.

الكذب الثقافي والدعاية السياسية

الدعاية السياسية هي استخدام وسائل الإعلام والتواصل لنشر معلومات أو آراء بهدف التأثير على الرأي العام أو دعم سياسات معينة، وغالبًا ما تكون مدفوعة بأهداف سياسية ،الكذب الثقافي قد يكون الهدف منه الحفاظ على صورة معينة أو تجنب صراعات، و يميل إلى التعبير عن الهوية الفردية أو الجماعية ،الدعاية السياسية تهدف إلى تحقيق مكاسب سياسية، مثل دعم حملة انتخابية، تعزيز موقف سياسي، أو تشويه سمعة الخصوم، يؤدي الكذب الثقافي إلى تآكل الهوية الثقافية الحقيقية، مما يجعل الأفراد يشعرون بالانفصال عن جذورهم وتاريخهم ،يمكن أن يُعزز الكذب الثقافي الانقسامات بين الجماعات المختلفة، حيث تتباين الروايات حول الهوية والتاريخ، يؤثر الكذب الثقافي على القيم والمعايير الاجتماعية، مما يؤدي إلى قبول سلوكيات غير الصحيحة أو تحريف التاريخ. يؤدي الكذب الثقافي إلى تصورات خاطئة حول الهوية الوطنية، مما يؤثر على السياسة العامة ويعزز الانقسامات السياسية كما يمكن أن يُعيق الكذب الثقافي الجهود المبذولة لإحداث تغيير اجتماعي إيجابي، الكذب الثقافي والدعاية السياسية يمكن أن ينشئا من مزيج من العوامل، بما في ذلك ظل الظلم والإيديولوجيات الابتزازية للسلطة، يمكن أن تتداخل ظواهر الكذب الثقافي والدعاية السياسية، حيث يُستخدم الكذب لتدعيم الأجندات السياسية، بينما تُستخدم الدعاية لتعزيز القيم الثقافية المشوهة ،عندما تتداخل هذه العوامل، تؤدي إلى خلق بيئة من الشك والارتباك بين الأفراد، مما يزيد من الاعتماد على الروايات الرسمية ويُصعب التفكير النقدي ،الكذب الثقافي والدعاية السياسية يمكن أن يكونا ناتجين عن مزيج من الظلم والإيديولوجيات الابتزازية.

قتامة الظل قناع أسود

القناع الأسود يُستخدم كرمز لتغطية الجوانب الحقيقية للذات، مما يعكس كيف يمكن أن يُخفي الظل المشاعر والأفكار الحقيقية مثل القناع، يساعد القناع الأفراد على تجنب مواجهة التحديات والحقائق الصعبة حول أنفسهم. هذا الهروب يمنع النمو الشخصي، القناع الأسود يمكن أن يُعبر عن شعور بالعزلة، حيث يُبقي الأفراد بعيدًا عن الاتصال الحقيقي مع الآخرين، مما يعكس تأثير الظل على العلاقات لان القناع الذي يحدد الصورة التي يُظهرها الشخص للعالم، يُمكن أن تكون نتيجة للضغوط الاجتماعية أو التوقعات، مما يُعزز من الشعور بعدم السيطرة على الهوية، القناع الأسود يُظهر الجوانب المظلمة والغامضة من الذات، مما يُعكس تعقيد النفس البشرية ويمكن اعتبار قتامة الظل كقناع أسود يُخفي الحقائق ويعكس الصراعات الداخلية.

القناع مختلف في درجات السواد

السواد يختلف من شخص لأخر، كل الاقنعة سوداء رغم بياض الوجه لكن يمكن أن يختلف لون السواد قد تكون الأسباب التي تدفع الافراد لتبني القناع مختلفة، مما يعكس تنوع الهوية والظروف والأدوار التي يلعبها الأفراد في المجتمع، وتؤثر على سواد اقنعتهم. بعض الأشخاص تكون لديهم أقنعة أكثر تعقيدًا بناءً على السياق الاجتماعي والضغوط النفسية، مما يؤدي إلى اختلاف الوانها رغم السواد، يعتمد ذلك على المواقف التي يتبنوها للتكيف، القناع الأسود يمكن أن يمثل جوانب مختلفة من النفس، مثل الخوف، القلق، أو الصراعات الداخلية، وهذه الجوانب قد تكون مختلفة بين الأفراد، حتى لو كانوا يظهرون بشكل مماثل. البيئة الثقافية والاجتماعية تلعب دورًا في تشكل القناع، مما يعني أن القناع الذي يرتديه شخص في مجتمع معين قد يختلف عن قناع شخص آخر في مجتمع مختلف على الرغم من أن جميع الأقنعة يمكن أن تُعتبر سوداء على وجه المثقف الذي يتبنى الكذب الثقافي، بمعنى أنها تخفي ظلام الذات، لكنها تختلف في المحتوى والدوافع والتجارب الشخصية التي تقف وراءها وهناك أنواع مختلفة من ألوان السواد في هذه الأقنعة.

***

غالب المسعودي – باحث عراقي

الوعي بشكلٍ عام هو قدرة عقل الإنسان على إدراك وفهم واستيعاب الأمور التي تجري في محيطه، سواء كانت أحداث أو حقائق ووقائع.

إن الوعي في بصماته الحقيقية يتجلّى في استيعاب الإنسان لما يدور حوله من قضايا وأمور، ويستطيع من خلال ذلك إتخاذ القرارات الصائبة، أو على الأقل تكوين تصوّر واضح بخصوص تلك القضايا.

أمّا إذا لم يتمكّن الإنسان من تكوين قراراتٍ صحيحة أو تصوّر ومفهوم جلي حول تلك القضايا فإن الوعي لديه ليس بوعيٍ حقيقي بل زائفاً.

من المعروف أن الأدباء في العصور السابقة والمفكرون هم الذين كانوا يقودون صناعة الوعي للمجتمع، وكانوا في ذلك الوقت يواجهون الضغوط المختلفة في مسارهم الفكري، ويقفون بتحدٍ أمام كل المطبات والتحديات الفكرية التي كانوا يتعرّضون لها.

أمّا في وقتنا الحالي نرى أن الأمور اختلفت كثيراً، فهناك مؤثّرات كثيرة تسلب نظر الجمهور وشباب اليوم، إن كان في مجال السياحة أو الفنون أو التجميل أو الموضة أو حتّى المأكولات وصولاً إلى الفكر والسياسة.

إن المغريات التي تواجهنا اليوم كثيرة وقوية، تجعل الوعي مختلفاً تماماً عمّا كان عليه، من خلالِ أجندات وأيديولوجيات سياسية مفتعلة بهدفِ إعادةِ تشكيل الوعي بما يتناسب مع مصالح مدفوعة الأجر لمن يُوجّه الأمور.

عملية صناعة الوعي الآن معقّدة، ولم تعد حكراً على طرفٍ واحد مثل الأدباء والمثقفين والمفكرين، بل أصبحت أكثر تعقيداً، وتتداخل فيها ملفات كثيرة أيضاً، لم تك متوفرة قبل ذلك، حيث تم استحداثها وأخذت دورها في هذا المجال.

نحن في عصرٍ كلّ شيء فيه يتسارع وينمو، ويؤثّر سلباً على الوعي وعلى القيم والثوابت، حتّى على الحسّ الإنساني.

وهذا الموقف يدعونا أكثر من أي وقتٍ مضى أن نناشد الأدباء والكتاب والمفكرين أن يأخذوا دورهم المعهود بهم في صناعة الوعي، وتشكيل الرؤى والمعطيات، وتحديد مسار البوصلة كما كانوا في سابق عهدهم.

وعلينا أن نعترف بذات الوقت أن هناك جهات أخرى امتطت الموجة واستخدمت كلّ سبلها وتأثيرها المباشر في عملية صناعة وتشكيل الوعي وفق مصالحها، حيث تداخلت وتشابكت الأجندات مع أدوات الإعلام والتكنولوجيا والسلطة، بشكلٍ واسعٍ وغير مسبوق.

ما كان يُميّز العصور السابقة وبشكلٍ جلي، أنها كانت تحتضن المفكرين النخبة وتتميّز بهم، وكانوا يعملون من أجل الوعي والفكر من خلال الكتابة والخطابة بهدف صناعة الوعي للمجتمع، لقد كانوا بمثابة المنارة التي تضيء الدرب أمام الحشد، وأمام الأجيال والأبناء والأحفاد، وكانت بصماتهم هي التي تبني وعي الأمّة، وتؤمّن لها البوصلة السليمة لمسيرتها، آخذين بعين الاعتبار بأن هؤلاء المفكرين والكتّاب كانوا يتعرضون للخطر ولظروفٍ صعبة، بما فيها السجن، لكن صوتهم لم يخفت، وقلمهم لم يجف، ولم يُصب بالشلل، وبقيت عقولهم مشغولة بكل معنى الكلمة بمستقبل وسلامة الأمّة والمجتمع.

أمّا الآن فلم يعد هناك أي دور يُذكر للمفكرين والمثقفين ولا لعمالقة الكلمة في صناعة الوعي، وأصبح المتنفّذون ومراكز القوى من يتحكّم بالوعي وبصناعته وتصديره لأفراد المجتمع، بطرقٍ وأساليب مختلفة.

رجال الدين سابقاً وما يحملونه من توجيهات ورسائل أخلاقية وروحية شعائرية، لعبوا دوراً نزيهاً وفاعلاً في صناعة الوعي، أمّا رجال الدين حالياً وما يحملونه من توظيفٍ لمهامهم من قبلِ جهاتٍ مختلفة، بدا استغلال الدين في صناعة الوعي واضحاً وفقاً للتوجيهات السياسية والأجندات الخاصّة بمراكز القوى، التي تُسيّر الحكم وفق مصالحها، والتي تستغل الدين من خلال تُجّار الدين الذين شكّلوا الدعم الأساسي لأنظمة الحكم القائمة.

حيث أن أنظمة الحكم الحالية تُدرك كيف تُسيّر الوعي وفق أجنداتها، ووفق برامج وخطط سياسية مسبقة الصنع، ودُرست بعناية، كي يتماشى الوعي المرسوم مع كافة خطواتها السياسية، إن كان على المستوى الداخلي أو الخارجي، من خلال أيديولوجيات مُسيّسة، وأصوات مواقف مدفوعة الأجر. ومن خلال هكذا نهج استطاعوا أن يجعلوا لأنفسهم أتباع. إنّه واقع مؤسف.

قال " جون لوك " الذي يُعتبر من الفلاسفة الأوائل الذين تحدّثوا عن الوعي، وأشار " بأن الوعي مرتبط ارتباطاً مباشراً ووثيقاً بشخصية الإنسان وهويته، وغير مرتبط بأي شكلٍ من الأشكال بالجسد "، كما أشار إلى أن " وعي الإنسان يظلّ على وضعه كما هو بعد مفارقته للحياة، والسبب في ذلك أن الوعي غير مرتبط بالجسد، ومعنى ذلك أن الوعي يظلّ متصل بالإنسان بعد موته ".

بينما أفضل من قدّموا تعريفاً واضحاً للوعي ومفهومه وبين نظرية الفكر الأعلى من الفلاسفة، هو الفيلسوف " ليبنتز "، حيث قال " إن الحالة التي يكون فيها الفرد في حالةٍ من الوعي أو في أعلى قمة ونقطة لوعيه، هي تلك الحالة التي يحدث فيها استيعاب وإدراك، وأن الإنسان يستطيع أن ينتقل ويقوم بتحويل حالة اللاوعي التي لديه إلى حالة من الوعي والاستيعاب عند مقدرته على القيام بالإدراك والاستيعاب ".

الوعي هو الإدراك، أو ما يصل إليها العقل البشري من الحالة الإدراكية، بسبب تواصل الإنسان مع محيطه والاحتكاك مع بيئته والمحيطين به بكل حواسه.

وتوسّع علم الفلسفة في مفهوم الوعي، وتحدّث عن الوعي العفوي، مثل مقدرة الإنسان على القيام بأكثر من نشاط في وقتٍ واحد. والوعي الأخلاقي، وهو مجموعة معايير ومن خلالها إمّا أن تتقبّل أمور الآخرين أو رفضها. والوعي الحدسي، وهو وعي يعتمد على الحدس بالفطرة ولا يُستدل عليه لأنه يحدث فجأة. والوعي التأملي، وهو قيام الإنسان المتمتع بدرجةٍ عالية من الذكاء والاستيعاب بعملٍ يحتاج إلى المزيد من التركيز.

إن الإنسان يمر بتجارب عديدة في مسيرة حياته من خلال احتكاكه مع مثقفي بيئته، ويكتسب خبراتٍ مختلفة، التي من خلالها يستطيع أن يُكوّن حيّزاً جيداً من المعرفة والأفكار، وأيضاً المعتقدات والمفاهيم التي تساهم بشكلٍ أو بآخر بتشكيل الوعي لديه.

وتبقى الفلسفة في المقام الأول من حيث قدرتها على شرح مفهوم الوعي، ومن خلال وجهات نظر مختلفة، وبالمحصّلة نستنتج بأن الوعي هو بدقيق العبارة مقدرة الإنسان على تحصيل الأفكار واتخاذ قرارات مناسبة.

آخذين بعين الاعتبار بأن ردة الفعل لأي شخص هو نشاط فكري واعي أو غير واعي، يصدر عن هذا الشخص تجاه ما يصله من العالم الخارجي.

فالوعي هو إدراك عقلي فلسفياً، لأن الفلسفة " عند البعض " تربط بشكلٍ مباشر الوعي بالعقل والتأمل.

الوعي فعلٌ تاريخي

الآن من يتحكّم بوعي الشعوب أجندات شريرة ومشبوهة، لذلك من واجب الأفراد والجماعات والمثقفون العرب أن يعملوا على دعم الوعي الجماعي بكل إمكانياتهم ومواهبهم، صناعة الوعي لا تكتمل ولا تتأتّى إلاّ من خلال الاستفادة الكاملة من كلّ الكفاءات والطاقة البشرية، بهدف جذب الناس إلى الفكر النبيل والأصيل، والثقافة الواعية الهادفة وبكل أمانة.

هكذا نستطيع التمسّك بثوابتنا ومفكرينا وحكمائنا وشخصياتنا المؤثّرة، كي تعود إلينا مقوّمات النهوض بمستوى وعينا الأصيل.

من المعروف أن وعي أُمّتنا قد تعرّض تباعاً لحملات تشويه ما زلنا نعيش انعكاساته لغاية يومنا هذا، آخذين بعين الاعتبار أن الأنظمة التي توالت على بلداننا قد ساهمت في هذا التشويه من خلال التبعية العمياء التي شوّهت الأوطان والشعوب، فوعي الأمّة المشوّه لعب دوراً بارزاً في هزائم الإقليم، حيث تمت محاربة الوعي الخلاّق والمبدع الأصيل، وفُتحت الأبواب أمام وعيٍ مشبوه وهجين مسموم، لا يعنيه إلاّ مصالحه ومكاسبه، ولا يعترف إلاّ بالمرجعيات المنحرفة عن مسار وعينا النقي السامي.

لقد لوّثت المؤسسات الإعلامية العربية كما الأنظمة العربية وخلال مسيرة طويلةٍ من السنوات عقول الكثير من أبناء الأمّة، وغذّت النشء والأجيال بمصطلحات ومفاهيم مطبوخةٍ بسموم تبيد الوعي الوطني، والوعي الأخلاقي والإنساني، وتزرع اليأس في نفوس البشر، وتساهم في تفتيت البلاد إن كان مذهبياً أو عرقياً أو دينياً.

دول العالم تفتخر بنفسها وتبني وجودها من خلال سياسة مستقلة تحفظ حدودها وسيادتها ووحدة أراضيها، وتصون كرامة كلّ مواطنٍ لديها، وثراء حضارتها. وليس كما الأنظمة العربية تقوم وتنتعش على التبعية العمياء التي دمّرت الأوطان والشعوب، وتُهرول وراء أوهام السياسة وتُنفّذ ما يُملى عليها، من أجلِ الكرسي، حتّى ولو باعت عروبتها وأوطانها.

نحن أُمّة لم نعد نستطيع إعادة سيادتها ووجودها من خلال المحاضرات والمقالات والخطب، أو معارض اللوحات والصور، فالمنطقة أمام أزمة حقيقية لا تُواجه إلاّ بثورةٍ ثقافية وفكرية حقيقية، ثورة تعيد للوعي والفكر مكانته المرموقة التي كان يتحلّى بها، وتعيد للكاتب صدى صوته، وللقارئ شغفه للوعي والمعرفة.

الأمم لا تُبنى فقط بالجيوش والمؤسسات الأمنية، بل تُبنى من خلال نشر الوعي السليم والأفكار البنّاءة.

إننا بأمسِ الحاجةِ إلى أن نُعيد للكلمة حصانتها ومكانتها، وأن نعيد إنتاج نخبةٍ من الحكماء تقود المجتمع والبلاد، ولا بُدّ من مقاومة كلّ أشكال التفاهة والانزلاق والتبعية والإستهتار بمقدرات الأمّة وثوابتها.

***

د. أنور ساطع أصفري

خلال الأزمات السياسية

في عصرنا الرقمي الحديث، أصبح الإعلام السيبراني أحد أبرز الادوات التي تلعب دوراً حيوياً في تشكيل الرأي العام، لا سيما خلال الازمات السياسية. فمع التوسع الهائل في استخدام الانترنت ووسائل التوصل الاجتماعي، تغير مفهوم الإعلام بشكل جذري ، حيث لم يعد الإعلام حكراً على المؤسسات التلقيدية فقط، بل أصبح متاحاً لأي فرد أو جهة تمتلك القدرة على بث المعلومات عبر الفضاء السيبراني.

يعرّف الإعلام السيبراني: هو كل ما يُنقل وينشر من أخبار وآراء وتحليلات، عبر الوسائل الرقمية، خاصة عبر الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، أضافة الى استخدام الادوات الرقمية المتقدمة في جمع ونشر المعلومات. كما يختلف الإعلام السيبراني عن الإعلام التقليدي في سرعته الفائقة وقدرته على الوصول الى جمهور واسع في وقت قصير، كما يتيح تفاعلاً مباشراً بين المصدر والمتلقي.

وخلال الازمات السياسية، يصبح الاعلام السيبراني أداة مؤثرة في توجيه الرأي العام، إذ يتم استغلاله من قبل أطراف متعددة لتشكيل مواقف سياسية، أو نشر المعلومات أو التضليل والتأثير على مسار الاحداث. لذلك، فهم هذا الدور أصبح ضرورة ملحة لكل باحث أو مهتم بالشأن السياسي والاعلامي.

تشكيل الرأي العام من الاعلام التقليدي الى السيبراني

يقدم علماء الإعلام والإتصال مفهوم الرأي العام: بأنه مجموعة المواقف والاتجاهات التي يحملها أفراد المجتمع تجاه قضايا معينة. ولقد كان الاعلام التقليدي مثل الصحف والتلفزيون والاذاعة، يسيطرون على تشكيل هذا الرأي من خلال ما يُقدم من تقارير وأخبار، لكن هذا الدور تغير اليوم مع صعود الاعلام السيبراني. ففي الاعلام السيبراني، لم يعد الجمهور مجرد متلق سلبي، بل أصبح مشاركاً في إنتاج ونشر المعلومات، ما يعزز تأثير الاعلام على الرأي العام. إذ يمكن لأي شخص نشر محتوى يمكن أن يتحول بسرعة الى ظاهرة إعلامية تؤثر في أعداد هائلة من الناس.

الاعلام السيبراني خلال الازمات السياسية: أدوات وآليات

فمن خلال الازمات السياسية، يستخدم الاعلام السيبراني مجموعة من الادوات التي تساعد على تشكيل الرأي العام بفعالية: فوسائل التواصل الاجتماعي كالفيس بوك والإنستغرام ومنصة X وغيرها، تُستخدم لنشر الاخبار والتعليقات بشكل فوري، مما يخلق أجواء من التفاعل الحي بين المواطنين والسياسيين. كذلك الحال المدونات والقنوات الرقمية التي تتيح لتحليلات متعمقة وأصوات بديلة بعيداً عن الاعلام الرسمي، أضافة الى الذكاء الاصطناعي والتحليلات الرقمية، حيث تُستخدم لمراقبة اتجاهات الرأي العام، واستهداف الجماهير برسائل مخصصة، فضلاً عن ما يعرف بالذباب الالكتروني والبروباغندا، التي تُوظف للتأثير على الجمهور من خلال نشر معلومات مضللة ومشوهة.

ايجابيات الاعلام السيبراني في الازمات السياسية

على الرغم من المخاطر، فإن الاعلام السيبراني يحمل فرصاً كبيرة لتعزيز الديمقراطية ورفع مستوى الوعي السياسي، وذلك من خلال نشر المعلومات بسرعة وشفافية، حيث يمكن للاعلام السيبراني كشف الاحداث والتطوررات السياسية فور وقوعها، مما يحد الاحتكار الاعلامي التقليدي. كذلك تمكين المواطنين في الاطلاع على ما يدور من حولهم، إذا يتيح للأفراد التعبير عن آرائهم، والمشاركة في الحوار العام ومحاسبة السياسيين. فضلاً عن تنويع المصادر الاعلامية: بغية التقليل من الاحتكار الاعلامي ورفع مستوى التعددية في وجهات النظر التي تُعد جزءاً من أجواء الديمقراطية.

التحديات والمخاطر

رغم ايجابياته التي صاحبت الثورة التكنولوجية، فإن الاعلام السيبراني يحمل معه تحديات كبيرة، تقف في مقدمتها: انتشار الاخبار الكاذبة والتضليل، فقد تستخدم الجهات المختلفة الاعلام السيبراني لنشر معلومات مغلوطة تهدف الى تزييف الواقع وتشويه سمعة الخصوم. ومنها ايضا تأجيج الخلافات والانقسامات، التي تسهل انتشار الخطابات التحريضية والكراهية  وربما العنف عبر المنصات الرقمية، مما يفاقم الازمات السياسية. ومن التحديات والمخاطر، التلاعب بالرأي العام عبر الذكاء الاصطناعي، فاستخدام تقنيات متقدمة مثل البوتات والروبوتات لنشر رسائل مؤثرة مصممة خصيصا للتلاعب بالمشاعر والتجاهات السياسية.

لقد شهد العالم العديد من الامثلة التي تظهر كيف يؤثر الاعلام السيبراني في الازمات السياسية، فعلى سبيل المثال لا الحصر، في الانتخابات الرئاسية الامريكية عام 2016، استخدمت مجموعات متخصصة وسائل التواصل الاجتماعي لنشر معلومات مضللة بهدف التأثير على نتائج الانتخابات. أما خلال الثورة التونسية، فقد لعب الاعلام السيبراني دوراً رئيسيا في نقل الاخبار وتنظيم التظاهرات عبر شبكات التواصل، مما ساهم في إشعال شرارة التغيير السياسي.

كيف التعامل مع الاعلام السيبراني أثناء الازمات السياسية؟

إن مواجهة التحديات المرتبطة بالإعلام السيبراني، ينبغي أن تبني استراتيجيات شاملة: منها تعزيز التوعية الاعلامية، فتعليم الجمهور بكيفية التحقق من الأخبار والمصادر والموثوقة، كذلك التمييز بين المعلومات الحقيقية والمزيفة التي تقود الى انهيارات وخلافات في غنى عنها. أضافة الى تنظيم الفضاء الرقمي، وذلك من خلال وضع أطر قانونية تحكم نشر المعلومات وتحارب التضليل الالكتروني. كما يمكن استخدام التكنولوجيا الذكية، من خلال الاستعانة بأدوات الذكاء الاصطناعي لرصد التحركات الاعلامية المشبوهة ومكافحة الاخبار الكاذبة. ومن الجدير الاشارة اليه، هو تشجيع الشفافية والمصداقية، فعلى وسائل الاعلام التقليدية والرقمية الالتزام بالقواعد المهنية لتقديم معلومات دقيقة وموثوقة. أما الاهتمام بالتعاون الدولي ففي هذا المجال من الاهمية الكبيرة: نظراً لطبيعة الاعلام السيبراني العابرة للحدود، فإن التعاون بين الدول ضروري لمواجهة الهجمات السيبرانية والتضليل الاعلامي، من مؤسسات لا تعد ولا تحصى تنتشر حول شبكات العالم.

لقد أصبح الاعلام السيبراني أحد الاعمدة الاساسية التي تشكل الرأي العام في ظل الازمات والتحديات السياسية، فقوته تكمن في آنتشاره الواسع وسرعته الفائقة، لكن هذه القوة تحمل معها مخاطر كبيرة تتمثل في التضليل والتلاعب. لذلك، فإن بناء مجتمع رقمي واع ومدرك لكيفية استخدام هذه الوسائل هو السبيل الامثل لتوجيه الاعلام السيبراني نحو دعم الديمقراطية والاستقرار السياسي، بدلاً من أن يكون أداة للنزاعات والانقسامات.

إن مستقبل الإعلام والسياسة مرتبط ارتباطا وثيقا بكيفية تعاملنا مع الإعلام السيبراني، مما يجعل دراسة هذا المجال وفهم تأثيراته ضرورة لا غنى عنها في عالمنا المعاصر.

***

د. عصام البرّام

في مؤتمر عُقد مؤخرا حول اطالة العمر حضره أنجان تشاترجي Anjan chatterjee البروفيسور في علم الاعصاب وعالم النفس في جامعة بنسلفانيا اعرب فيه المتحدثون عن ثقتهم بانهم سيكونون قادرين على إبقاء أجسادنا في العمر البايولوجي لثلاثين عاما وانهم يتوقعون في المستقبل القريب ان نعيش الى عمر 300 سنة والذي هو بمثابة هروب فعلي من الموت.

علم الأحياء والشيخوخة

بدلا من اختراق غابات فلوريدا ومستنقعاتها بحثا عن ماء سحري، يجري البحث الحالي عن اطالة العمر في المختبرات العريقة في الجامعات والشركات الكبرى حول العالم. معرفتنا في بايولوجيا الشيخوخة جرى اشتقاقها اول مرة من الديدان والقوارض، والان من أنسجة الانسان الحية. التجارب في هذا الحقل تسارعت في السنوات الاخيرة. المختصون لديهم فهم عميق للأسباب الجزيئية والوراثية والبيئية للتحلل البايولوجي. خطوات هامة وسريعة تمت في مجال معرفة العلماء بالكيفية التي تتأثر بها الشيخوخة بالتغيرات اللاجينية، والكيفية التي يتم بها تعديل الجينات لتغيير أعمار البشر، والطرق التي يمكن بواسطتها إعادة برمجة الشيخوخة الخلوية، وكيفية حصاد الخلايا الجذعية لغرض التجديد، كذلك كيفية استخدام العوامل المنتشرة ذات العلاقة من بلازما شابة، كيف يمكن لأدوية مثل ميتفورمين و راياميسين ان تبطيء الشيخوخة، ولماذا يمكن للاساليب الغذائية مثل تقليص السعرات الحرارية مساعدتنا لنعيش أطول.

ان اطالة العمر هو احد الاتجاهات البارزة في مجال الرفاهية. تقريبا لا أحد يريد الموت. اذن لماذا يعارض الناس العيش الطويل؟ بشكل عام، عدم المساواة ونتائجها المكلفة والالتباس بين الكمية والنوعية هي اسباب تدعو للتوقف.

عندما يشيخ الناس تتآكل أجسامهم على الأقل في أربع طرق:

1- انهيار ميكانيكي: كل من يتعدى الخمسين من العمر لا بد ان يعاني من اوجاع الركبة او الظهر، التمزق في المفاصل والعضلات والاوتار وهي كلها مظاهر للشيخوخة.

2- الدورة الدموية: الاوعية الدموية تبدأ في الانسداد في الثلاثينات والاربعينات من العمر بما يقود في النهاية الى نوبات قلبية وسكتات دماغية.

3- خلايا الجسم تتكاثر عندما لا ينبغي لها ذلك.

4- خلايا تذبل عندما نفضل ان لايحصل ذلك.

وفي لغة الطب تسمى المظاهر أعلاه على التوالي: orthopaedic,cardiovascular, oncolgical, degenerative conditions. يقول البروفيسور أنجان انه يتوقع ان قدرتنا لإبطاء الشيخوخة سوف تختلف حسب نظام الاعضاء. نحن ربما نحقق تقدما عندما نعالج القضايا الميكانيكية ودورة الدم لكننا لسنا جيدين في السيطرة على الخلايا. منْ يرغب بأجسام صحية وأذهان متهالكة لسنوات طويلة متواصلة؟ بصرف النظر عن صحة حدسه،حسب قوله ، فان تمديد عمر حياة صحية ببساطة لايكفي للاعتقاد ان اطالة العمر تقود اوتوماتيكيا الى ازدهار الانسان.

اللامساواة

تتركز مخاوف اللامساواة حول التفاوت الفردي والعالمي والصراع بين الأجيال. التجارة باطالة العمر هي عمل تجاري كبير. الشركات تروج وتبيع جرعات و افكار لطول العمر تحقق الكثير من النقود على أمل خلق شباب أبدي. تكاليف تصنيع وتسليم واضفاء طابع شخصي للعلاجات ليس بالامر السهل. عندما تنجح هذه التدخلات، فهي ستكون متاحة بسهولة اكبر للاغنياء واصحاب النفوذ. التفاوتات المزعجة بشكلها الحالي سوف تتضخم. لو نظرنا الى اصحاب المليارات والسياسيين المؤثرين الذين يشغلون وسائل الاعلام. كم واحدا منهم يريد الاستمرار حتى الثلاثمائة سنة القادمة؟ وفيما بين الدول، تخصيص موارد البحوث العلمية والرعاية الصحية يمكن تحويلها من الرعاية الصحية الاولية ذات النطاق الاوسع الى تمديد أعمار قلة من الناس.

ما ينطبق على الناس المؤثرين ايضا ينطبق على الدول القوية. الدول ذات الموارد الكثيرة سوف تستفيد من اجراءات اطالة امد الحياة هذه بطريقة لاتستطيع معها الدول الفقيرة للقيام بذلك. وهو ما يشكل نتائج جيوسياسية لتفاقم مثل هذه اللامساواة؟ اخيرا، هل اطالة امد الحياة يزيد من الصراع بين الاجيال؟ الطفرة في منْ هم بعمر الثمانين من السياسيين وقضاة المحكمة العليا في الولايات المتحدة هي نموذج للعديد من الناس غير الراغبين طوعا بالتخلي عن السلطة والامتيازات لفسح الطريق لأجيال المستقبل. ماهي العواقب التي قد تنجم عن التوترات بين الاجيال الممتدة على فترات اطول بكثير وعبر عدة اجيال في وقت واحد؟

ازدهار الانسان

المشكلة الأعمق في نقاشات اطالة العمر والتي لم يُعترف بها بعد هي الافتراض بان الأكثر هو الافضل. ارسطو وصف الحياة الجيدة بـ eudaimonic او الفاضلة . وهي حياة ذات معنى، تنطوي على الفضيلة والقيمة. الاعتقاد ان العمر الطويل كمصدر للرفاهية هو خلط  بين كمية الحياة (طولها) و نوعيتها (الازدهار). نقاشات طول العمر المفتقرة الى دراسة جادة لحياة الرفاهية تتجنب سؤالا جوهريا وهو: ما هي الحياة الجيدة؟ الجواب لهذا السؤال ليس سهلا، لكن الخلط بين طول الحياة و معنى الحياة لن يساعد في فهم القضايا. من حيث المبدأ، هذا لا ينكر اهمية الاعتبارات الدقيقة لما يشكل حياة هادفة عبر مدى حياة اطول من خلال تطبيقات سياسية في مجال الاقتصاد والرعاية الصحية.

مع ذلك، يُخشى ان المصالح المالية ستقود تطبيقات اطالة العمر بدون دراسة عميقة لإنسانيتنا. التطور الأخير والمستمر في بحوث الذكاء الصناعي وفي الاعمال ربما هو تشبيه ملائم . رغم المخاوف التي اثيرت من بعض الرواد والخبراء الذين ابتكروا الذكاء الصناعي، لكن المخاوف الاخلاقية غالبا ما يتم تجاهلها تجاريا.  في عصر يتسم بالوحدة والقلق والإغتراب، طغى السعي المتواصل للربح وبدا كانه سعي للسعادة، وحل الانكار الجمعي للموت محل الانخراط الروحي النشط في الحياة.

نحن نخدم بشكل افضل عندما نسأل كيف نعيش افضل بدلا من السؤال كيف نعيش اطول. الجواب يكمن في احتضان الموت بدلا من انكاره. المعالج النفسي فرنسيس ويلر Francis Weller يقدم ستراتيجية بسيطة ونشطة: ممارستي اليومية هي ان استيقظ وأوجّه انتباهي فورا لهذه الفكرة: "انا في يوم ما سأكون أقرب الى موتي؟ كيف سأجلب روحا الى كل لحظة؟ انا لا اريد ضياع هذا اليوم" – فرنسيس ويلر، حافة الحزن المنسية.

***

حاتم حميد محسن

........................

Psychology today: July22, 2025

في عالمٍ تزداد فيه هشاشة القيم وتضعف فيه المبادئ، ينمو نوعٌ جديد من المجتمعات، يمكن تسميته تجاوزًا بـ"مجتمع السحالي"؛ حيث يغدو الإنسان كائنًا يتقن فنّ تغيير الألوان بحسب المصلحة، لا وفاء لديه إلا لمنافعه، ولا ولاء إلا لما يُدرّ عليه الربح أو السلامة. وكما أن السحلية تغيّر لونها للتخفي أو لتجنّب الخطر، يغيّر هذا الإنسان "المتملق" مواقفه، أقنعته، وولاءاته، بحسب التيار الأقوى، لا وفقًا لمبدأ أو إيمان.

التملق: سلوك نابع من أنانية وجودية

وفي هذا الصدد نجد أن الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه كان قد حذّر من "الإنسان القطيع" الذي يفقد ذاته ويعيش على إيقاع ما يفرضه الجمع. أما الإنسان المتملق، فهو نسخة أكثر دهاءً من هذا الإنسان القَطيعي: لا يتبع الجمع فقط، بل يسبقهم أحيانًا في التزلف لصاحب القوة، ويتقن لغة الثناء المصطنع، لأنه أدرك أن الحقيقة لا تُطعم خبزًا، وأن الجرأة على المبدأ لا تفتح الأبواب بل توصدها.

التملق، إذًا، ليس سلوكًا ساذجًا فحسب، بل هو خيار فلسفي قائم على رؤية نفعية للعالم. في عالمٍ باتت فيه القيم مجرد لافتات ديكورية، يتحوّل التملق إلى استراتيجية للبقاء، بل للترقي. فالمتملق لا يعبأ بالحقيقة، لأنه مؤمن، كما يرى ميكيافيلي، بأن الغاية تبرّر الوسيلة، وإن كانت الوسيلة انبطاحًا مفرطًا للسلطة، أو نفاقًا صريحًا للمصالح.

المجتمع السحلية: تبدل في القيم أم في الأقنعة؟

عندما يغدو التملق هو الطريق الأقصر للنجاح، فإن المجتمع كله يدخل في أزمة ضمير. تختلط معايير الاستحقاق، وتصبح الحقيقة مرهونة بالقبول الاجتماعي، لا بالبرهان العقلي. وحين يتربى الجيل الجديد على رؤية المنافقين في القمم، وأصحاب المبدأ في الحفر، فإن السؤال لم يعد: "ماذا يجب أن أفعل؟" بل "ماذا يريد الأقوياء أن أكون؟".

وهنا تتجلى صورة "السحلية الاجتماعية" بأوضح معانيها. فالمجتمع يبدّل ألوانه لا لأنه في رحلة تطور، بل لأنه خائف، متردد، أو طامع. تتغير المواقف كما تتغير ألوان الجلد، ويغدو الثبات عارًا، والصدق حماقة. ويُحتفى بالمرونة الزائدة بوصفها ذكاءً، مع أن الحقيقة الفلسفية تقول إن هذه "المرونة" ليست سوى نوع من الانكسار الروحي.

هل من خلاص؟

السؤال المؤلم هنا: هل يمكن الخلاص من هذا النمط السلوكي؟ وهل يمكن أن نعيد الاعتبار للقيم الجوهرية في زمن لا يعترف إلا بالمصلحة؟

ربما يكون الجواب عند سقراط، الذي فضّل الموت على أن يبيع قناعاته لأهواء السلطة، وعند كانط، الذي شدد على أن الإنسان يجب أن يُعامل كغاية لا كوسيلة. ما نحتاجه، إذًا، هو إعادة ترسيخ "الضمير الأخلاقي" كمصدر للفعل، لا المصلحة العمياء. أن نُعلّم أن الصدق قد يكون مؤلمًا، لكنه وحده ما يصنع الإنسان الحر.

خاتمة

إنّ مجتمع السحالي ليس خرافةً، بل هو واقع نعيشه في كثير من زوايا حياتنا. في السياسة، في العمل، وحتى في العلاقات اليومية. وحين يسود التملق على حساب الصدق، ويُكافأ الانبطاح بينما يُعاقب الاستقلال، فإن الفلسفة لا تملك إلا أن تدقّ ناقوس الخطر، محذّرة من انقراض الإنسان الأخلاقي في غابة المصالح.

فالسؤال الفلسفي الأعمق ليس: كيف ننجو؟ بل: بأيّ كلفة ننجو؟ وكم من مرة سنغيّر لون جلدنا، قبل أن نفقد هويتنا الحقيقية؟

***

الدكتور: ابراهيم احمد شعير الجميلي/ كركوك - العراق

شعوب يصنعها الخوف من السلطة تعيش تحت ضغوط نفسية واجتماعية كبيرة حيث تفرض الحكومات أو السلطات قيودًا صارمة على الحريات الشخصية وحرية التعبير، مما يؤدي إلى مناخ من الخوف والترهيب. يسعى الأفراد في هذه الأنظمة وتحت غطاء مهترئ من الديمقراطية إلى الامتثال للقواعد حتى لو كانت غير عادلة، خوفًا من العقوبات أو الانتقام ويفضل الناس العزلة أو الانسحاب من الحياة العامة، مما يؤدي إلى ضعف الروابط الاجتماعية والتواصل ويعيش الأفراد في حالة من القلق والترقب، مما يؤثر سلبًا على صحتهم الجسدية والنفسية وتنعدم الثقة بين أفراد المجتمع، غالبًا ما تصاحب هذه الأنظمة اقتصاديات ضعيفة، حيث تُصرف الموارد على القمع والإرهاب بدلاً من تحسين مستويات المعيشة ،ويفتقر الأفراد إلى الأمل في التغيير أو التحسن، مما يؤدي إلى شعور باليأس والتشاؤم حول المستقبل، هذه الخصائص يمكن أن تعزز استمرار دورة الخوف في صناعة الانسان.

دور السرديات التاريخية

السرديات التاريخية تلعب دورًا كبيرًا في تعميق سلطة الخوف في هذه المجتمعات. حيث تُستخدم لتشكيل الهوية الجماعية، وغالبًا ما تُبرز تهديدات الماضي، مما يعزز الشعور بالخوف من التكرار، كما تُستخدم لتبرير وجود السلطة، حيث تُصور الحكومات نفسها كحامية من الأخطار، مما يسمح لها بتعزيز قبضتها على المجتمع. تلعب السرديات التي تركز على الصراعات التاريخية والانقسامات بين الجماعات في تعزيز الخوف من الآخر كما تقوض الروابط الاجتماعية. السيطرة على السرديات التاريخية تعني السيطرة على المعلومات، مما يحد من استخدام الأفراد التفكير النقدي وتشجع على استخدام الأحداث المأساوية كوسيلة لتذكير الأفراد بالماضي من خلال اعادة سرد أحداث مروعة، وخلق أساطير حول اعداء و تهديدات اسطورية، تُعيد السرديات التاريخية إنتاج أنماط من الخوف والاستبداد، حيث تُعتبر تجارب الماضي دروسًا تُستخدم لتبرير القمع في الحاضر كما تُستخدم لتوجيه سلوك الأفراد، حيث تُشجع على الخوف من المعارضة أو الانحراف عن القيم السائدة وتُزيد الانقسامات مما ينمي سلطة الخوف ويعزز الصراعات الاجتماعية.

شعوب تحكمها قوة الخوف

في العديد من المجتمعات الشرق اوسطية، تُعتبر القوة (سواء كانت سياسية، اقتصادية، أو اجتماعية) عاملاً رئيسياً في تشكيل هويات الأفراد. حيث تتحدد قيم الأفراد ومعتقداتهم وأدوارهم الاجتماعية بناءً على مراكز القوة والسلطة التي تُنتج علاقات غير متكافئة، حيث يمكن للأقوياء أن يفرضوا معاييرهم وأيديولوجياتهم، مما يؤثر على سلوك الأفراد ويساهم في تشكل تصوراتهم عن أنفسهم. تاريخ المجتمعات الشرق أوسطية مليء بالصراعات والنزاعات، هذا يؤدي إلى شعور الأفراد بأنهم مُشكلون من خلال هذه الظروف، والحاكم هو تجسيد للقوة، حيث يُنظر إليه كأعلى سلطة، ولكن ليس بالضرورة كعامل مُؤثر في بناء الإنسان. بدلاً من ذلك، يكون الحاكم سببًا في تعزيز سلطة الخوف والامتثال بالتالي يمكن أن يُنظر إلى تأثير القوة على الأفراد كنوع من "الاستعمار الداخلي"، حيث يفرض الحاكم قيمًا معينة تُعزز من تبعية الأفراد، مما يُعيق تطورهم الذاتي وتجعلهم يتكيفون مع الظروف القاسية التي تخلق إنسانًا يُعبر عن نفسه من خلال قوة البقاء، لكنه يفتقر إلى الحرية الحقيقية أو القدرة على التعبير عن الذات. في ظل هذه الديناميات، يسعى بعض الأفراد إلى البحث عن هويتهم الحقيقية بعيدًا عن تأثير القوة، مما يؤدي إلى صراعات داخلية تمتاز بالاعتلال، ان تقديم فكرة الخوف والقوة تصنع الإنسان في المجتمعات الشرق أوسطية ذو شخصية ازدواجية لا يفتح المجال لفهم أعمق للعلاقات الاجتماعية والسياسية، ويبرر التوترات بين الهوية الفردية والتأثيرات الهيكلية التي تفرضها السلطة الى مرجعيات ميتافيزيقية وهمية.

الثقافة وتشكيلات القوة

تحدد الثقافة القيم والمعايير السائدة التي تُفسر أنواع معينة من القوة، مثل السلطة السياسية أو الاقتصادية، مما يؤثر على كيفية رؤية الأفراد للسلطة ومكانتهم في المجتمع، تعمل الثقافة على تعزيز الهويات الجماعية، مما يؤثر على كيفية استجابة الأفراد للسلطة. فالهويات الثقافية يمكن أن تُعزز التضامن أو الانقسام، تساهم الثقافة في تشكيل الروايات التاريخية التي تُستخدم لتبرير السلطة أو تحديها. الروايات التاريخية المدعومة ثقافيًا يمكن أن تُعزز من شرعية السلطة أو تُضعفها وتسهم في كيفية تفاعل الأفراد مع السلطة، مما يؤثر على السلوك الاجتماعي وسقف التوقعات. الممارسات الثقافية تُعزز نوع معين من الطاعة، حيث يمكن أن تُستخدم لتعزيز سلطة القوة وتأثيرها، مما يؤثر على كيفية رؤية الأفراد للواقع من حولهم، تلعب اللغة دورًا في تشكيل القوة من خلال قوة الخطاب والرموز التي تُستخدم لنقل الأفكار والمشاعر. اللغة يمكن أن تُعزز من قوة السلطة مثل السلطة الأبوية والسلطة الدينية، مما يؤثر على كيفية تنظيم المجتمع. المعرفة والثقافة ليست فقط تنتج القوة، بل هي عامل رئيسي في تشكيلها وتوجيهها. التفاعل بين المعرفة والثقافة والقوة يُعقد من فهم الديناميات الاجتماعية والسياسية، مما يُظهر كيف يمكن أن تتداخل العوامل الثقافية مع الهياكل السلطوية.

العولمة هيمنة ثقافية وتنميط عالمي

تؤدي العولمة، مدفوعة بقوة وسائل الإعلام والتكنولوجيا والشركات متعددة الجنسيات، إلى نشر ثقافة استهلاكية عالمية تهيمن عليها النماذج الغربية، وتحديداً الأمريكية. هذا الانتشار لا يقتصر على المنتجات مثل الوجبات السريعة (ماكدونالدز) والمشروبات (كوكاكولا)، بل يمتد ليشمل القيم، الأفكار وأنماط الحياة، تواجه الثقافات المحلية تحدياً كبيراً في الحفاظ على خصوصيتها وهويتها أمام هذا المد الثقافي العالمي. يمكن أن يؤدي ذلك إلى تراجع اللغات المحلية، والعادات والتقاليد، وتغيير الأذواق الفنية والاستهلاكية لدى الأجيال الشابة. تُستخدم الثقافة كـ "قوة ناعمة" لتعزيز الهيمنة السياسية والاقتصادية. فالدول التي تملك القوة الإعلامية والإنتاجية الثقافية، مثل الولايات المتحدة، تستطيع التأثير على وعي الشعوب وتوجيه الرأي العام العالمي بما يخدم مصالحها، تتأثر هياكل السلطة التقليدية داخل دول الشرق الأوسط بفعل العولمة بطرق متباينة، كما تساهم العولمة في إضعاف دور الدولة الوطني من خلال تجاوز الحدود السياسية والثقافية بواسطة تدفق المعلومات ورؤوس الأموال وتصبح الدول( خاصة دول الشرق الأوسط)، غير قادرة على ادارة الحكم، ويدار المشهد الداخلي وإدارة الدولة بمنهجية لا وطنية تلتقي مع بعض الطروحات المتطرفة دينيا، في المقابل تستغل بعض الأنظمة السلطوية خطاب "أخطار العولمة" لتبرير سياساتها القمعية وتغطية إخفاقاتها الداخلية، مدعية أنها تحمي الهوية الثقافية من "الغزو الخارجي". رغم ذلك لا تُقابل العولمة بالاستسلام التام دائمًا، بل تولّد أشكالاً متنوعة من المقاومة التي تعيد تعريف العلاقة بين المعرفة والثقافة والقوة كرد فعل على التنميط الثقافي حيث تسعى العديد من المجتمعات إلى إحياء تراثها الثقافي والتأكيد على خصوصيتها كشكل من أشكال المقاومة. هذا يحفز الثقافات المحلية على التطور والمنافسة بدلاً من الذوبان.

العولمة تعزز سلطة الخوف

العولمة ليست مجرد عملية أحادية الاتجاه، بل تؤدي إلى تفاعل وتمازج بين الثقافات المختلفة، مما ينتج عنه "ثقافات هجينة" جديدة تجمع بين المحلي والعالمي. هذا التهجين يمكن أن يكون مصدراً لتشكل حركات اجتماعية وسياسية عالمية تهدف إلى مقاومة الهيمنة الاقتصادية والثقافية للعولمة، وتدعو إلى نظام عالمي أكثر عدالة يحترم التنوع الثقافي ويعيد رسم خريطة القوة الثقافية في العالم، من جهة تخلق قوة ثقافية عالمية مهيمنة تميل إلى التنميط وإضعاف الخصوصيات المحلية وتعزز سلطة الخوف من السلطة بما يخدم مصالح القوى السياسية والاقتصادية الكبرى من خلال تسويق تكنولوجيا الرعب النووي والأسلحة الذكية، إن العلاقة بين المعرفة والثقافة والقوة في عصر العولمة هي علاقة صراع وتفاوض مستمر بين قوى أحادية التوجه من ناحية اقتصادية وقوى التنوع لتجاوز سلطة الخوف في بناء الانسان.

***

غالب المسعودي – باحث عراقي

ليست كل الحصون آمنة، وليست كل الأبواب المغلقة دليل حكمة أو "تعفف أخلاقي" أو صون للذات والهوية من "الغزو الثقافي" و"الأخطار الفكرية". ففي كثير من الأحيان، يتحوّل الانغلاق إلى بيئة خصبة للتكلّس، ويصبح الخوف من الآخر – ومن التغيير – شرارة لانهيار داخلي صامت لكنه عميق. هذا المقال هو محاولة لتأمّل مظاهر ما يمكن تسميته بـ "التعفن الثقافي"، حين تُصاب المجتمعات والجماعات وحتى النخب بما يشبه التحلّل المعرفي والركود الأخلاقي، نتيجة الإقامة الطويلة داخل جدران الهوية الصلبة، والمقولات المقدسة، واليقينيات المتخشبة. فهل يمكن تشخيص هذا التعفن؟ وكيف نرصد علاماته؟ وما الذي يُغذيه ويُؤبّده؟ ثم، هل من أمل في معالجته أو الخروج من دائرته القاتلة؟ هذا ما تسعى هذه الورقة لمقاربته عبر ثلاثية: الانغلاق، الركود، والتعفن.

إشكالية التعفن الثقافي

يمكننا القول مجازاً – وتحليلياً أيضاً – إن المجتمعات المغلقة قد تُصاب بما يمكن تسميته بـ "التعفن الثقافي"، مثل علبة مواد غذائية مغلقة تترك لسنوات حتى يتعفن ما فيها. ويكون هذا التعفن، في السياق الثقافي، ناتجاً عن الانغلاق، والعزلة، وغياب التفاعل، وتكلّس البنى الفكرية والاجتماعية، وهيمنة المقولات والسرديات التقليدية، وصنمية المفاهيم، ووثنية الشخوص والنصوص، واعتبار الإبداع بدعة، ووصم الاجتهاد بالفساد، واستمرار إعادة إنتاج المعنى ذاته دون نقد أو تفكيك أو مساءلة.

الأبواب الموصدة والنوافذ المسدودة

التشبيه بالمعلّبة المغلقة المهملة التي تُركت في الظلمة والرطوبة لسنوات حتى تعفنت هو محاولة تعبيرية لمحاكاة حال المجتمعات حين تنغلق على نفسها؛ فتمنع دخول الهواء الجديد (الأفكار المختلفة، الأسئلة الجريئة، التفاعلات الثقافية)، وتمنع خروج الهواء الفاسد (التحيّزات والقناعات المسبقة، السرديات العتيقة، والبنى السلطوية المتآكلة)؛ مما يُفضي إلى حالة ركود داخلي وانبعاث روائح خانقة لا يشعر بها مَن هم في الداخل بالضرورة.

مظاهر الجمود والتعفن

1- نخب فكرية وأدبية وأكاديمية تكرر نفسها لعقود، تُعيد إنتاج ما قالته منذ زمن، دون مراجعة أو استدراك أو تحديث. تعيش هذه النخب في وهم "الأصالة" الذي هو في الحقيقة "أصولية" تجرّ المجتمع إلى الوراء.

2- خطابات سلطوية؛ أيديولوجية وثقافية ودينية لا تتحمل النقد، وتُحَرِّم التفكير خارج القوالب والخنادق. وتحافظ على ديمومة هيمنتها عبر استمرارية القولبة الفكرية والخندقة الثقافية للأجيال الجديدة.

3- مجتمعات تُجَرِّم المختلف، وتحكم بالنفي والاستئصال على المخالف، وتطرد مَن لا يشبهها، وتخشى الأسئلة لأنها تهدد "نقاءها"؛ في حين أن رفض النقد والمراجعة، هو في الواقع، يهدد "بقاءها"!

4- مراكز حضرية متوجسة من "الغرباء" و"الدخلاء" و"الوافدين"، ومدن تاريخية تتقوقع على رموزها ورمزيتها ومقولاتها المتوارثة، وترفض أي تجديد أو انفتاح أو اتصال بالخارج خوفاً من فقدان "تميّزها الثقافي"، أو زوال شرعية التفوق والفوقية التي تعتاش عليها نخبها وطبقتها المهيمنة.

5- عوالم وبيئات هوياتية أو فئوية أو طبقية أو جهوية "تُقدِّس" ذاتها وتنطوي عليها وتنظر من "ثقب بابها المسدود" أو عبر "عدساتها الثقافية الملوّنة بعبادة الذات ومشاعر العظمة والارتياب" إلى العالم، وتعيد إنتاج هذه الذات من دون أي محاولة لمناقشة السائد أو محاكمة المألوف أو التفكير في المسكوت عنه.

6- اتجاهات أصولية ونزعات محافِظة تحتكر الحق والحقيقة، وتُشهر سلاح التكفير والتخوين في وجه كل من يفكر بطريقة نقدية أو تساؤلية وتُصدر أحكام الإقصاء الاجتماعي والاستبعاد السياسي والإعدام المعنوي والاغتيال الاخلاقي بحق كل من يسعى للتفكيك والتجديد وفتح آفاق التطور الفكري والثقافي.

مآلات التعفن

يؤدي التعفن الثقافي في المجتمعات المغلقة إلى تشوه عميق في البنية الأخلاقية والاجتماعية، إذ يُفضي إلى الظلم الاجتماعي عبر إعادة إنتاج المركزية والرمزية والشرعية لصالح الفئة التي تقدم نفسها بوصفها المدافعة عن الهوية والنقاء. كما يتسبب في الانسداد السياسي بمنع تداول السلطة وحراك الأفكار وتنافس المشاريع، وفي غياب العدالة الاقتصادية من خلال احتكار الموارد من قِبل الطبقات المسيطرة.

وما يُفاقم المأساة أن هذه النخب المتكلسة توهم نفسها بأنها تحافظ على القيم والأخلاق من خلال الانغلاق تحت شعار "حماية الخصوصية الثقافية" و"المحافظة على الهوية"، في حين أن الواقع يُفرز المزيد من المهمّشين والمظلومين نتيجة انعدام العدالة حيث يتحوّل الخطاب الأخلاقي إلى مجرد غطاء للهيمنة وتكريس الفساد السياسي والتفاوت الطبقي، مما يجعل مآل هذه المجتمعات مآلاً غير أخلاقي على الإطلاق، حتى وإن تزيّن بشعارات الفضيلة.

تعفن نخبوي

في السياق النخبوي، يُمكن أن يُصاب المثقف أيضاً بهذا العفن حين يصبح حارساً للمعنى بدل أن يكون مولّداً له؛ حين يتحوّل من ناقد إلى ناقل لخطاب السلطة ولكن بصيغة ثقافوية، وحين ينتقل بوظيفته الاجتماعية والفكرية من مُزعزع للجمود والتقليد إلى مدافع عن الوضع الراهن ومجمّل ومُجامِل ومبرّر له.

فالنخب، حين تعيش في صوامع نخبوية أو فئوية أو مؤسسية منعزلة عن المجتمع ومنخفضة السقف وضيقة المساحة (مريحة للذات ولكنها خانقة الإبداع)، ودون احتكاك مع الواقع أو مع المغاير، تفقد حساسيتها الضميرية وتبدأ بالتكلّس.

البيئة المغلقة ليست بالضرورة منطقة أو مكان أو مؤسسة. إنها سجن هوياتي وزنزانة ذهنية وقبو نفسي، وقد تتجلى في تراث ثقافي قومي أو ديني أرهقه التكرار والاستعادة والاستهلاك السياسي، أو هوية جماعية مأسورة لسرديات النقاء والمظلومية والأفضلية، أو نزعة حزبية متمترسة ومرتابة، أو عقيدة سياسية منفصلة عن الواقع، أو مدينة محافِظة متخوفة من رياح التغيير والتحوّلات، أو انتماء نخبوي متعالٍ، أو وضع طبقي قلِق أو "أسرة عريقة" أو "إرث مجيد" أو "تاريخ تليد" أو مصلحة ذاتية أو أسطورة نرجسية، شخصية أو حزبية، أو عالَم من الأوهام والخرافات والنظريات التي اكتسبت قداسة إسمنتية وحصانة خرسانية وأحيطت بأسوار فولاذية مكهربة فلا يصلها النقد ولا تطالها المساءلة.

لماذا يحدث هذا؟

1- الخوف من الفقد والاختلاف؛ فقدان السلطة والمكانة والهوية والتميّز والامتيازات. يتغذى الخوف على نقص المعرفة، وعلى نفعية الطبقة المهيمنة التي تكرّس الجهل المقدس وتستثمر في مخاوف الجمهور في سردياتها وخطاباتها.

2- هيمنة الماضي على الحاضر، واتخاذه مرجعية قيمية وأخلاقية واجتراره وإعادة تأويله بما يخدم استمرارية الوضع الراهن وبقاء الحال على ما هو عليه.

3- غياب التواصل الأفقي مع الخارج (التجارب الفكرية والسياسية الأخرى، الثقافات المختلفة، الأجيال الجديدة).

4- غياب التواصل العمودي مع التاريخ (قراءة الماضي في سياقه وظروفه، فهم الحاضر بواقعية، استشراف المستقبل).

5- انعدام الحوافز للتجديد داخل بنية لا تُكافئ التغيير، بل تحتفي بالأفكار المحافِظة التي تبجّل الماضي والأنا والأصل والهوية.

ما المضاد الحيوي لهذا العفن؟

1- الانفتاح والاحتكاك والتفاعل (مع المختلف والمخالف؛ شخصياتٍ وسردياتٍ ومفاهيم، ومع التنوّع، ومع العالم الخارجي سواء كان فكراً جديداً أو جغرافيا بشرية شاسعة أو تاريخاً مدوّناً بصيغة مغايرة للمتعارف والمتواطأ عليه).

2- إدراك أن المعرفة جدلية بطبيعتها، ونسبية في تموضعها، وتكاملية في بنيتها، وتجريبية في صيرورتها، وتأويلية في سياقيّتها، ومستدامة في تطورها.

يُشكل هذا الوعي كاسراً جوهرياً لحالة الركود الثقافي التي تعانيها المجتمعات والجماعات والمؤسسات المغلقة. فحين يُفهم أن الحقيقة ليست مُنجزة ولا نهائية، بل هي دائماً قيد التشكّل عبر الحوار والصراع والسؤال والتجريب، تصبح البنى الفكرية أكثر مرونة واستعداداً للنقد والتنقيب والتجاوز، وتصبح المعاني المختلفة والمتناقضة قابلة للتعايش والتجاور والتحاور. وهكذا، يُسهم هذا الوعي في تفكيك الجمود، لأنه يُخرج المجتمع من أوهام الامتلاك المطلق للمعنى، ويفتح الأفق أمام تجدّد لا ينفي الماضي لكنه لا يُؤلِّهه، ويُفسح المجال لنهضة تقوم على الحَراك لا الجمود والحِران في المكان، وعلى التلاقح لا التناطح.

3- إثارة الأسئلة المقلقة تمثل أحد المضادات الحيوية للتعفن الثقافي؛ فهي تُربك الطمأنينة المزيفة التي تنشأ من الاجترار والتلقين والخوف من المجهول. ليست وظيفة السؤال هنا أن يُجاب مباشرة، أو أن يستدر ردوداً نموذجية جاهزة ومريحة، بل أن يستفز العقول، أن يُحرّك الرواكد، أن يُحدث خلخلة في البنى المتيبسة للوعي وزعزعة في المفاهيم المستقرة. فالطمأنينة التي لا تُختبر بأسئلة صعبة هي طمأنينة وهمية، تعيش على الإنكار والتواطؤ مع السائد. وحدها الأسئلة الجذرية، التي تناقش الأفكار بهدوء وذكاء ولا تطعن في الأشخاص أو تستهين بالجمهور أو تزدري مشاعره، هي القادرة على فتح النوافذ في العلبة المغلقة، لتدخل شمس النقد وتغادر ظلمة التقديس.

الحرية شرطاً للتجدد والانعتاق

الحرية، بما هي فسحة تجريب وجرأة على الخروج من العلبة قبل أن تتعفن الروح، ليست ترفاً فكرياً ولا مطلباً سياسياً فحسب، بل ضرورة وجودية لمقاومة التكلّس الداخلي والانغلاق القاتل. إنها القدرة على التنفس خارج الجدران الذهنية وعتمة الغرف العقائدية المغلقة، وعلى اختبار الأفكار لا وراثتها، وعلى مساءلة المألوف لا التسليم له. ففي بيئة قامعة للفكر، تختنق الروح، لا بفعل الاضطهاد المباشر فقط، بل أيضاً بفعل الطاعة الصامتة والجمود الطويل والاستسلام للموروث. الحرية هنا ليست شعاراً بل شرطاً للحياة الثقافية، والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، إذ لا تجديد بلا مغامرة عقلية ومجازفة إبداعية، ولا نهضة بلا تحدٍّ للمسلّمات الراسخة، ولا أفق بلا شجاعة كسر العلبة قبل أن تتحوّل إلى مقبرة للمعنى.

إن أخطر ما في "التعفن الثقافي" أنه لا يُرى من الداخل بسهولة، بل يُشمّ فقط من الخارج. أما مَن هم في قلبه، فقد تعايشوا مع رائحته، أو اقتنعوا بأنها عطر النقاء وعبير القيم السامية. إن مقاومة هذا التعفن لا تكون بالشعارات، بل بخلق مناخ دائم من الانفتاح، والاحتكاك، والشك الخلاق، والسؤال المربِك والومضة المستفزة للفكر والوعي الذي يشجّع العقول على مغادرة منطقة الراحة الفكرية والاسترخاء المعرفي. ولا يُمكن لمجتمع أو نخبة أو مؤسسة أن تتجدد ما لم تُدرك أن بذور الأفكار الحية تحتاج هواءً نقياً وأرضاً محروثة وماءً متدفقاً وشمساً مشرقة وسواعد نشيطة، لا بيئة مغلقة ومعقمة تظن أنها تحافظ على النقاء والأصالة بينما هي تكبت الحياة وتلجم التغيير وتكبح المستقبل. التجدّد لا يبدأ بالثورة على الآخر بل بالمساءلة الصادقة للذات، وكل انغلاق على الذات هو أفول مؤجل، وإن تأخر إعلانه.

هذا المقال لا يهدف إلى التحريض على التصادم مع المجتمع، بل هو دعوة للتفكير خارج الصندوق، وكسر جدران العلبة الفكرية التي كبّلت الروح وخنقت العقل، ورفض التعليب الذهني والقولبة المفاهيمية والهندسة الثقافية التي تُفرَض باسم العادات أو المقدسات أو "الهوية". إن الرفض الذي ننادي به هنا ليس عدائياً ولا فوضوياً، بل هو رفضٌ عقلاني، نقدي، وجدلي، يهدف إلى التغيير الجذري العميق والحفر البنيوي في السائد ولكن بأسلوب هادئ وصبور، لا بعقلية إعلان الحرب ولا بمنطق المواجهة الصِدامية مع المجتمع، بل من خلال زرع الأسئلة لإنارة الوعي بدل إشهار السيوف، وإيقاد الشموع لإضاءة العتمة بدل لعنها.

***

همام طه

يقول صامويل بيكيت: "بضع دقائق من التفكير وضعت الإيجابيات والسلبيات في توازن دقيق للغاية لدرجة أنني، كما هو الحال دائمًا، وجدت نفسي مضطرًا إلى عدم فعل أي شيء".

حالة الشلل التي يتحدث عنها بيكيت تخصنا اليوم، سواء من حيث المساحات المتاحة للعمل أو فيما يتعلق بمجال الحوار. نحن نعيش في زمن المحاور المفقود وأزمة في مساحات الممكن. لا نعرف مع من نتحدث أو لمن نكتب، ولا مع من نتحالف. صمت صاخب وسط وحدة مزدحمة يشكل أحد أكثر مفارقات العصر الحديث الأكثر تعقيدًا.

ورغم أنه يمكن الافتراض بأننا نقضي الجزء الأكبر من وقتنا في الحديث إلى أنفسنا، أي في الحديث مع ذواتنا، إلا أننا، عند التأمل جيدًا، لسنا وحدنا أبدًا. إن لم يكن بسبب التداخل الطبيعي بين الذوات، وهو ما تتحدد به هويتنا الفردية ولا يمكننا الانفصال عنه.

إن عدم القدرة على الاستغناء عن الآخر والإدراك بأننا عندما نتحدث أو نكتب، فإننا نفعل ذلك دائمًا لشخص ما، يضعنا أمام المفارقة المؤلمة للعصر الحديث. فنحن غارقون في زحام افتراضي وواقعي متزايد، ومع ذلك نشعر بوحدة متفاقمة. إن ما يتعرض للهجوم هنا هو حالة الوجود ذاتها، والتي أثبتت أنها لا غنى عنها بالنسبة لنا، إذ نحتاج إلى الآخر لكي نتمكن من التعرف على أنفسنا.

السرد، الحوار، والكتابة، التي تكتسب معناها من خلال التفاعل والاعتراف المتبادل، أصبحت اليوم تجارب تعاني من غياب الآخر كمرآة للتواصل. وهكذا، لمن نتحدث؟ ومع من نتحاور؟ ولمن نكتب؟ ليس لأن الآخر غير موجود، بل لأنه غالبًا ما يفشل في أن يكون محاورًا قادرًا على إحداث صدى واعتراف متبادل.

نتيجة لذلك، نجد أنفسنا عاجزين عن التعبير في العديد من المواقف، وعندما نتمكن من التعبير، فإن كلماتنا كثيرًا ما ترتد إلينا فارغة من المعنى.

من بين الأمور العديدة التي أدين بها للكاتب دانييلي ديل جوديتشي، هناك اثنتان ترافقانني باستمرار: تحذير وسؤال. التحذير يتعلق بوجوب العناية عند الدخول إلى اللغة، أما السؤال فهو: "اليوم، مع من تتحدث؟" أي أين نجد محاورًا حقيقيًا يمكننا أن نبني معه حوارًا يتيح لنا فهمًا تعاونيًا أو حتى جدليًا، لكنه يظل حوارًا منتجًا؟ أين نجد دائرة المعترفين ببعضهم البعض؟

قبل كل شيء، نحن نصل إلى اللغة، نبلغ الكلمة، وإذا ساد زمن نجد فيه عوائق للوصول إليه، فمن الحكمة أن نتساءل عن الأسباب ونتعلم منها. فاللغة ليست أمرًا بديهيًا، وعند تأمل أزمتها في أشكالها المنطوقة والمكتوبة، لا ينبغي أن نتجاهل إساءة استخدامها، والتي تتجلى اليوم في أشكال من التسرع، السطحية، الابتذال، الإسهاب، والهوس بالكتابة. ربما يمكننا أن نكتشف قيمة الانتظار، ومعنى الصمت الثمين، إلى جانب قدرته على توليد المعاني.

إن أهمية الوصول إلى اللغة لا تكمن فقط في إنتاج السرد، بل أيضًا في الانتظار والاستعداد، في تلك المساحة الزمنية الفاعلة التي تحمل معناها في وجودها نفسه، في مدتها، وفيما تنتجه دون أن تتحول إلى سرد واضح ومباشر. قد تتجلى هذه القيمة بشكل أكثر وضوحًا عندما نمتنع عن اختزال المشاعر العميقة أو الأحاسيس الأولية في مجرد رواية سطحية. فـما لا يمكن سرده ليس فقط ما لا نستطيع التعبير عنه بالكلمات، بل أيضًا ما يمتلك قوة تحولية لأنه يبقى غير معبَّر عنه، غير متاح للتواصل الظاهري والمشترك.

ومع ذلك، حتى من لا يروي أو لا يكتب، فإنه يقوم بفعل موجَّه نحو الآخر. فهو يسعى إلى احتواء التعبيرات العفوية والطبيعية للعلاقات الإنسانية ولتفاعلنا المتبادل. ولكن ما هي نتائج ذلك؟ هل تؤدي إلى الإبداع والتجديد، أم إلى الانغلاق والانهيار الداخلي؟

في أحد أبيات قصيدته Filò، يقطع الشاعر أندريا زانزوتو سلاسة النص باللهجة المحلية فجأة بعبارة يونانية: Logos erchomenos، أي "اللغة التي تأتي". يتحدث عن سرد ينبثق من حيث لا توجد كتابة ولا نحو، من حيث يبقى اللوغوس دائمًا في حالة قدوم، دون أن يتجمد في لحظة محددة، ودون أن يفقد براءته الأولى في تعبيره.

لكن هناك نوعًا آخر من التوقف، ليس بوصفه ولادةً للغة، بل تجميدًا لإمكانية القول والكتابة. إنه التجمد العاطفي والعلاقاتي الذي يخنق الكلمة قبل أن تنطق، حين لا يجد الصوت من يستقبله، وحين لا يجد المعنى صدى يبعثه للحياة.

نحن لا نتحدث هنا عن ما لا يمكن قوله أو ما يتعذر التعبير عنه، ولا عن ما يصبح صوته مجرد ضجيج أو يكون صمته أكثر بلاغة من التلفظ به، ولا حتى عن ما يؤدي التعبير عنه إلى تجميد المعنى أو إغلاق الفراغ الضروري لتطور الدلالة.

بل نتحدث—ويا للمفارقة أن نكتب عن ذلك بينما نقول إننا لم نعد قادرين على الحديث أو الكتابة—عن الكلام الذي يمكن أن يُقال لكنه لا يُقال، لأنه لا أحد يتوقع أن يُسمَع؛ عن ما يمكن التعبير عنه، لكن لا جدوى من ذلك، لأن لا أحد سيصغي إليه؛ عن الكلمات التي إذا نُطقت فلن تخرق الصمت، بل ستزيد من ضجيج العالم الفارغ.

من المرجح أن ذلك حدث عندما بدأنا نتمكن من احتواء الصمت التأملي، وعندما بدأنا نتحدث إلى أنفسنا، أي نخوض في حوار داخلي، مما أدى إلى تطور الفكر الرمزي وإلى نشوء التعاون والتشارك المجتمعي. يبدو أن التعددية والتنوع المشترك، انطلاقًا من التأمل في التنوع الداخلي، إلى جانب دور الاتصال التعاوني، كانا عاملين حاسمين في تجاوز الأفعال الفردية الفورية والبسيطة، والابتعاد عن مجرد تقليد العادات والتقاليد.

في اللغة، كلمة "ما وراء" تحمل معنيين: فهي تشير إلى مكان وزمان في آنٍ واحد. وبالتالي، فإن تجاوز الواقع الحالي لا يعني فقط وضع المستقبل في مركز الاهتمام بدلاً من الحاضر، بل يعني أيضًا خلق مساحات جديدة للإمكانات والاحتمالات. في كلا الحالتين، القدرة على احتواء الذات والانفتاح على الآخر هي المفتاح الأساسي لصنع المستقبل.

من الواضح أنه لا يمكن أن توجد علاقة إنسانية حقيقية دون تقارب، تمامًا كما لا يمكن أن يوجد "لوغوس" (كلام منطقي) دون "ديا" (بُعد تفاعلي): أي "ديالوغوس" (حوار)، ولا يمكن أن توجد صورة دون فعل: أي "تخيُّل". الصمت ليس مجرد غياب للكلام، بل هو نقيض تشغيل الفكر من خلال صدى الآخر في داخلنا.

اليوم، بات من الواضح أن "الذات" و"الآخر" لا يُولدان منفصلين، بل يتشكلان من خلال العلاقة البينية بين الأفراد. فكوننا كائنات تفاعلية هو الذي يسمح لنا بأن نصبح ذواتًا مستقلة، حيث تسبق التفاعلية الإنسانية الوعي الفردي وتُشكّله. ولكن ذلك مشروطٌ بأن تعمل الكلمة التي يمكن قولها داخلنا قبل أن تُقال، أو حتى لو لم تُقال أبدًا.

الحوار هو البوتقة التي يمكن من خلالها لصراعات الذات أن تتخلى عن تصلبها الدفاعي، وأن تحاول، عبر ممارسة "الأنا الأقل"، الوصول إلى "منطقة اللقاء"، حيث يحدث الانسحاب المؤقت للهوية الفردية، لا من أجل القضاء على الاختلافات، بل بهدف إعادة تعريف الذات في سياق العلاقة مع الآخر. هذه العملية لا تؤدي فقط إلى نقل شيء من الذات إلى الآخر، بل تتيح لكليهما أن يصبحا شيئًا مختلفًا عمّا كانا عليه سابقًا.

ما يجعل الحوار—سواء كان عاطفيًا، سياسيًا، أو علاجيًا—مساحة للتطور، هو "منطقة اللقاء"، حيث الفرصة الحقيقية تكمن في أن تصبح "آخر" وأنت تظل نفسك، عبر عملية تحول ذاتي ناتجة عن التفاعل وإعادة تشكيل المعنى. ولكن شرط هذا التحوّل هو وجود الآخر الذي يمكننا التحدث إليه—وهذا ما نفتقده اليوم.

عدم الحديث مع الآخر وعدم خلق مجال للحوار يعني مشاهدة تحول في طبيعة الإنسان ذاته.

***

الأستاذ محمد إبراهيم الزموري

 يُعتبر التعليم المدماك الأساس لتحقيق التنمية المستدامة، ورافعة ضرورية لتحقيق التقدّم، لكن بعض البلدان، ولاسيّما النامية، ومنها البلدان العربية، حوّلت التعليم إلى سلعة محكومة بمنطق السوق والربح، في حين أن التعليم هو حق إنساني وحاجة لا غنى عنها لتنمية المجتمع وتطوّره. وقد نصّ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في المادة 26 (فقرة أ) على أن "لكل شخص الحق في التعليم. ويكون التعليم مجانيًا، على الأقل في مراحله الابتدائية والأساسية. ويكون التعليم الابتدائي إلزاميًا".

تدهور مستوى التعليم

تدهور مستوى التعليم في العقود الثلاثة ونيّف المنصرمة وتدنى محتواه، وابتعد كثيرًا عن متطلبات التنمية المستدامة، التي تعني توسيع "خيارات الناس"، في الوقت الذي يزداد فيه اللهاث للحصول على شهادات أكاديمية لا ترتقي إلى معايير الحد الأدنى من المعرفة المطلوبة، ناهيك عن أن بعضها لا تستكمل الشروط الأكاديمية المعروفة.

ولهذه الأسباب طفحت ظاهرة تسليع التعليم، خصوصًا من الجامعات الخاصة لدرجة أصبح منتجًا تجاريًا يُباع ويُشترى، وتحوّل إلى بضاعة استهلاكية تخضع للعرض والطلب يتمّ تسويقها وترويجها بشتّى الطرق القانونية وغير القانونية، لاسيّما بطغيان المنافع الخاصة والمطامح الشخصية، حتى تحوّلت العلاقات السامية بين المعلم والتلميذ والأستاذ والطالب من الاحترام والتقدير إلى الجشع المادي أحيانًا. وتناسى الكثيرون قول الشاعر أحمد شوقي:

قم للمعلم وفه التبجيلا / كاد المعلّم أن يكون رسولا

وأصبحت الدروس الخصوصية مسألة شائعة في العديد من البلدان العربية، وأصبح الكتاب الجامعي أو المدرسي أداة للاسترزاق، بما فيها الملخصات الجامعية وكتابة أطاريح الماجستير والدكتوراه أحيانًا، وزاد الأمر تعقيدًا استسهال البعض استخدام الذكاء الاصطناعي دون تعب يُذكر أو مجهود يُبذل أو مستوى معرفي وعلمي يُذكر، حتى صار اللقب العلمي مثارًا للسخرية تتندّر فيه بعض الأوساط، وبات الحصول على الشهادة، بغض النظر عن مصدرها، وسيلة للارتقاء بالمناصب الحكومية والوجاهة الاجتماعية، والأمر انعكس على مستوى الأبحاث الأكاديمية، التي جاءت بعيدة عن الابتكار والإبداع، بل هي اجترار لما قبلها ونقل وحشو للمعلومات في أحيان كثيرة.

لقد تضخّمت نسبة الحاصلين على شهادات عُليا (بعضها مزور)، فضلًا عن ذلك لا يأخذ بنظر الاعتبار حاجة البلد إلى الاختصاصات، إضافة إلى متطلّبات التنمية، وهكذا واجهت العديد من البلدان العربية جمهورًا عريضًا من الخريجين فائضًا عن الحاجة أو في اختصاصات غير مواكبة للتطوّر، في حين أن بلادنا وعموم البلدان النامية بحاجة إلى الكوادر الوسطية والدراسات المهنية (البوليتكنيك - (Polytechnic، التي ما يزال الاهتمام بها محدودًا.

 فحتى في الغرب الرأسمالي، المحكوم بحريّة السوق، فإن التعليم لا يُعتبر سلعةً، بل إن نسبة الجامعات الخاصة في الولايات المتحدة، على سبيل المثال لا الحصر، لا تزيد عن 10% من إجمالي عدد الجامعات ومعظمها مؤسسات تاريخية، أي أن المعايير العلمية هي التي تسود فيها وليس منطق السوق والأرباح المادية، إضافة إلى ذلك فإنها تخضع لرقابة صارمة من جانب الدولة، بما فيها مراقبة أجور الجامعة وضمان جودة برامجها وكفاءة الأساتذة والإداريين، كما أن مخرجاتها يجب أن تتوافق مع خطط التنمية ولا تتعارض مع السياسة التعليمية للدولة ومصالحها.

وإذا كان عصرنا، ونحن على عتبة الربع الثاني من القرن الحادي والعشرين، يزدحم بسرعة تدفّق المعلومات لدرجة أقرب إلى الخيال، في ظلّ الطور الرابع من الثورة الصناعية، الذي شهد الطفرة الرقمية "الديجيتال" واقتصادات المعرفة والذكاء الاصطناعي، فإن الحاجة إلى أنسنة التعليم تعتبر مسألة حيوية وهي فرض عين وليس فرض كفاية.

وأنسنة التعليم تعني مراعاة حاجات المتعلمين بهدف تنمية العلاقات الإنسانية وروح التعاون وتعزيز المهارات للتعامل والتفاعل مع الآخرين، من خلال محتوى المناهج وطُرق التدريس وأساليب التقويم وطبيعة العلاقات بين المعلّم والتلميذ والأستاذ والطالب، فضلًا عن الإدارات المدرسية والجامعية.

والأساس الفلسفي لأنسنة التعليم يعتمد على أربعة جوانب؛

أولها - الجانب العقلية، وثانيها - الجانب الوجداني؛ وثالثها - الجانب النقدي؛ ورابعها- الجانب المهاراتي.

وكان عالم النفس الأمريكي كارل روجرز (1902 - 1987) قد وضع معايير للتوجه الإنساني في ميدان التعليم بالتعاون مع عالم النفس الأمريكي أبراهام ماسلو (1908 - 1970) الذي اشتهر بنظرية تدرّج الحاجات، ، فالأول استند على الشروط النفسية للتعليم، إضافة إلى التنمية الوجدانية والمعرفية، فضلًا عن الخبرة، يضاف إليها حريّة التعبير عن الرأي واحترام رأي الآخرين والمساعدة على فهم أنفسهم من خلال فهم الآخر. أمّا الثاني فقد اهتم بدوافع المتعلمين والنمو الاجتماعي ومهارات الاتصال، ووضع هرمًا لحاجات المتعلّم، تقوم قاعدته على الحاجات الفيسيولوجية، أما قمته فهي تحقيق الذات، وهذه يمكن تلبيتها من خلال منح المتعلم مدىً واسعًا من التجارب والخبرات.

يُعتبر المتعلّم هو محور العملية التعليمية، في حين أن المعلّم هو المرشد والمسيّر والموجّه لها، ومهمته إرشاد المتعلمين نحو المعرفة، ولا بدّ من ارتباط المنهج بقضايا المجتمع وحاجات الطلبة واهتماماتهم، وذلك بهدف تحسين جودة التعليم استجابةً لسمة العصر، وتساوقًا مع المستجدات والمتغيّرات والاكتشافات العلمية السريعة، ويبقى الهدف إعداد مواطنين صالحين يمتلكون مهارة التفكير النقدي والمسؤولية الاجتماعية، من خلال توفير بيئة تعليمية ونفسية سليمة بعيدة عن العنف وفرض الرأي، واعتماد الحوار وسيلة للإقناع.

تقرير اليونيسكو

ما تزال بلداننا العربية تواجه العديد من التحديات في مجال التعليم وعلاقته بالتنمية على الصعيدين الفلسفي والنظري من جهة، والعملاني والتطبيقي من جهة أخرى، بما فيه توفر الأدوات اللازمة لتحقيق الأنسنة. وقد أصدرت منظمة اليونيسكو تقريرًا جديدًا عن التعليم تضمّن معالجات مهمة على الصعيد الكوني، وقد قدّم عبد الباسط بن حسن، وهو عضو اللجنة الدولية التي أعدت التقرير ورئيس المعهد العربي لحقوق الإنسان قراءةً عميقة ومكثفة له في جلسة حوارية لعدد من الخبراء، التأمت في معهد الفنون الجميلة بمدينة سوسة (تونس)، ناقشت مستقبل التعليم وعلاقته بالثقافة والفنون بشكل عام والسينما بشكل خاص على هامش مهرجان سوسة السينمائي الدولي.

الجدير بالذكر أن أكثر من 500 منظمة دولية شاركت في تقديم ملاحظاتها لإنجاز التقرير، وتم فيه استطلاع رأي نحو مليون و500 ألف شخص، علمًا بأن اللجنة التي أعدته مؤلفة من 18 خبيرة وخبير ويرأسها رئيس جمهورية أثيوبيا السابق مولاتو تيشومي، وقد نظّمت مؤتمرًا دوليًا انعقد في سيول (كوريا الجنوبية) شارك فيه نحو 200 معني بقضايا التعليم والتربية، وساهموا في مناقشة الصيغة الأخيرة له، وصدر ﺑ20 لغة.

تحديات وأفكار

 ويمكن تأشير التحدّيات الموضوعية والذاتية التي تواجه التعليم، والتي قادت إلى تراجعه وأهمها: الحروب والنزاعات المسلحة والتغييرات المناخية وغياب العدالة الاجتماعية وهيمنة السوق والاستهلاك، إضافة إلى التعصب ووليده التطرف ونتاجهما العنف والإرهاب، ومثل هذا التراجع هو انعكاس للتراجع العام في مجالات النفع العام كالصحة والنقل والمستلزمات المتعلّقة بذوي الاحتياجات الخاصة وغيرها.

ويسلّط تقرير اليونسكو الضوء على أفكار أساسية جوهرها يتعلق بأسباب فشل التعليم، إْذ لابدّ من تشخيص الخلل ومعرفة الأسباب، وبالتالي وضع المعالجات لتجاوز أزمته، وهذا يستوجب مراجعه التجارب السابقة لتحديد الإيجابيات التي ينبغي الحفاظ عليها، ومن ثم البحث فيما تحتاجه لتحسين الأداء التعليمي، إبتداءً من البيئة التعليمية والتربوية والإدارة والمعلم والطالب، استنادًا إلى عدد من المبادئ المهمة:

 أولها - جعل التعليم أولوية، وهذا يتطلب "أنسنة" التعليم، ومن خلاله يمكن "أنسنة" المجتمع.

 وثانيها - اعتبار التعليم حق أساس من حقوق الانسان، وهو ما نصت عليها الشرعة الدولية لحقوق الانسان، إذْ لا يمكن الافتئات عليه، سواء للكبار أو لمحو الأمية او للتعليم الشعبي.

وثالثها - الخروج من سلعنة التعليم لأنه منفعة مشتركة وعامة، وليس بضاعة للكسب والاستغلال.

 ورابعها- اعتبار التعليم مسألة تعاونية، وهذا يقتضي مراجعة سياسات الفضاء التعليمي ككل بمشاركة الجميع، فالأمر لا يخص وزارات التعليم والتربية أو هذه الإدارة أو تلك، بل يشمل الجميع لتطوير المهارات والتدريب على الممارسة الحرة وقبول التعددية والتنوع.

 وخامسها - استخدام الحوكمة في مجال التعليم حتى مع نقص الموارد، ولكن بحوكمتها وتنويعها يمكن الوصول إلى نتائج مهمة.

 والمقصود بالفضاء التعليمي معرفة الغير أولا، وبناء الفكر النقدي ثانيًا، في إطار تأهيل المعلمين والمعلمات والمربيين والمربيات لخلق بيئة أمنة اجتماعيًا، وبالتالي تطوير حق التعبير للطلبة ومنظماتهم المهنية.

عقد اجتماعي جديد

ويرتكز تقرير اليونيسكو على فكرة جوهرية أساسها "عقد اجتماعي جديد" يقوم عليه التعليم باعتباره عموميًا ومجانيًا، وهو ما يحتاج إلى أنسنته وتطوير طرقه ومناهجه لرفع مستواه، وذلك بالتعاون مع المجتمع المدني، وخلاصته أن  حصيلة الماضي كانت طائفة من الوعود غير المتحققة، الأمر الذي أصاب العديد من المجتمعات بخيبة أمل، فضلًا عن المعنيين بالإصلاح والتجديد، لذلك لا بدّ من التوجه إلى وضع "الأنسنة" مقابل "السلعنة"، فقد قادت سلعنة التعليم إلى تدمير المجتمعات، بجعل التعليم سلعةً وليس حقًا وواجبًا في الآن، الأمر الذي احتاج إلى تنمية الفرص، والاستفادة من جميع  المجالات لتحقيق هذا الهدف، ولاسيّما الفنون.

ولعلّ الفنون تُعتبر إحدى السبل الاكثر جدارة على إدراك التصورات العلمية بتغيير الفرص وجعل الثقافة جزءًا لا يتجزأ من الحياة، والفن هو التعويض الأكثر قدرة على إدراك ما أهملناه في الماضي، خصوصًا حرية المعلم في وضع البرامج وتكييفها تبعًا لمستوى الطلبة، بحيث تكون العلاقة أفقية في العملية التعليمية، وليست عمودية والفضاءات اجتماعية وأفقية كذلك.

 ﻓ "الأنسنة" تقتضي "العقلنة"، أي جعل العلم ثقافة، والتربية على التفكير العقلاني العلمي طريقة ناجحة بعيدًا عن الغيبيات والخرافات والوثوقية الإطلاقية، وادعاء امتلاك الحقيقة والأفضلية على الآخر. وهذا يتطلّب إعادة النظر بالعملية التعليمية برمّتها بهدف إصلاحها وتجديدها، إذْ يقتضي الأمر فهم التراث والاستفادة من إيجابيات الماضي وتوظيفها في عمليات التغيير المنشودة، فلا عصرنة دون تراث ولا حداثة دون تاريخ.

ولعلّ ما هو أكثر أهمية، هو الاستفادة من خير ما في الماضي للتجديد والإبداع والابتكار والتطوير لتنمية المهارات والقدرات وتهذيب الذوق الإنساني، وبالثقافة يمكن إدراك العلاقة العضوية بين الحداثة والقدامة والمعاصرة والأصالة، بحيث يمكن توظيف ذلك من خلال المساواة بين الذكور والإناث وبين الريف والحضر، بمعنى توفير الفرص والتمييز الإيجابي، وذلك يحتاج إلى جعل التعليم عموميًا ومؤسسًا بفلسفة المدرسة العمومية.

 وإذا ما حدث أي تطور إيجابي في الوضع العام، فإنه سينعكس إيجابًا كذلك على التعليم، ذلك أن تطوير التعليم يعني تطوير الحياة، وتقديم رؤية إصلاحية للحاضر والمستقبل، تأخذ بنظر الاعتبار التجارب الدولية الناجحة للاستفادة من دروسها وعبرها دون استنساخها أو تقليدها بمراعاة ظروف كل مجتمع ودرجة تطوّره وحاجاته الفعلية.

***

د. عبد الحسين شعبان - أكاديمي ومفكر

هل تكون الحقيقة سجنا للأفكار ومجتمعا لتصريف المعلومات، مهما كانت تقديراتها في الرصد والتجميع والاستقصاء؟. ذلك، أن مسألة التحقق من صحة الأخبار في عملية التتبع الإعلامي، عند تنوع المحتوى، وتشاكل مديات الصور والفيديوهات والتحديثات الشخصية، يوازي في القيمة والتأثير تحسين الأداء الصحفي والإعلامي مع الحرص على تقديم معلومات وبيانات صحيحة، بغاية التداول والنشر وإدارة المعرفة. وهو أمر لا يجاوز البتة بحثنا عن الحقيقة من داخل الصندوق، مع الاعتبارات الموضوعية والثقافية والقانونية، للمحتوى، والذي من أهم خصائصه التي يقوم عليها، التقصي الدقيق ووضع معايير سليمة لكيفية التحقق من الأخبار المكذوبة، ما ينتج عن ذلك كله، من عوامل التدقيق في عناصر الصورة أو الفيديو، كما هو الحال بالنسبة، للزمن والمكان والعلامات الظاهرة والصوت واللغة والمظهر العام للأشخاص.

نعم، الإعلام ينصت لضمير الحقيقة أنى اقتفت أسرارها، وأنى جاوزت مظانها، حيث لا يقصر التفكير في النبش عن مصدرها، دون امتلاك الأدوات والمفاعيل التي تجعل من المغامرة فيها وعدم تجاوز نظامها، أمرا محذورا ومتجاوزا. فهي تلقط أنفاسها من حالة التشكك، والإيغال في تفكيكها إلى وضع لا يلتبس ولا ينوء إلى نقض البراهين. وهو ما يجد محذوراته وتوابعه السلبية أكثر اصطراعا وتجاذبا، مع شيوع وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي، وتحول وسائل الإعلام في عمومها، إلى الطفرة الرقيمة، وبات من اليسير والمتناول تداول معلومات وبيانات مدهونة بالمحتويات الكاذبة المفبركة والزائفة.

وليس خافيا على مهتمي الإعلام والكتابة الصحفية والنشر المعلوماتي، أن يتبنى العالم منذ العام 2016 يوما عالميا للتحقق من صدقية الأخبار على الأنترنيت، اختير لذلك الثاني من أبريل من كل عام، وهو اليوم التالي لما يعرف بيوم "كذبة أبريل"، حيث يرمز الاحتفاء إلى حماية الجمهور من انتشار وباء المعلومات الخاطئة والمزيفة، خصوصا خلال الأزمات المتعاقبة من الكوارث الطبيعية أو الصحية أو الحروب العسكرية. ونحن هنا، نستقطع جزءا لا غنى عنه، في حقل أخلاقيات الصحافة، وارتباطها بجَلْبِ المَصادِرِ وفَهْمِ ومُعالَجةِ قَضِيةِ المَوْضُوعِيَّة، والانتباه إلى أثَرَ المدوّناتِ والإِنْترنِت عَلى القِيَمِ التَّقلِيديَّةِ للصَّحافَة. إذ غالبا ما يضعنا الإعلام أمام فوهة البحث عن الحقيقة، حتى في وضعية تجاوز الأخلاقيات، التي تصبح تحت رحمة البحث عن صناعة الرأي الموجه، المنحاز لقيم المادية والدوغمائية وعقيدة الامتلاك.

ولأنه لا محيد للإعلام عن الحقيقة كأخلاق ووازع ضميري، فإنه أضحى من الأكيد راهنا، ملامسة هذه الجوانب في أشكال وتأثيرات السياسات الإعلامية التي تنتهجها السلط، على الصحافة والإعلام بشكل عام، والتدخل في رسم ضوابط وحدود أخلاقيات، هي بمثابة المركز الذي تقوم عليه البيئة الثقافية في مجتمعاتنا، والأحداث الأخيرة التي جاءت متسلسلة وصادمة، كوباء كورونا وزلزال الحوز وحربي روسيا وأوكرانيا وحدث 7 أكتوبر وما تلاها من إبادة غزة، تضعنا أمام هذا الامتحان الصعب، حيث تعاني الحقيقة الإعلامية من سوء الانضباط لمبادئ الحياد والمصداقية وتداول حرية الرأي والنزاهة والاستقلالية والموضوعية. وهو ما خصصنا له سابقا فصلا كاملا ضمن كتابنا "في سوسيولوجيا الإعلام والرقمنة: قراءات في المحتوى والوسيط".

***

د. مصطفى غَلمان

المقدمة: يمثل الفكر الإنساني الميدان الأكثر تعقيداً لتشكيل الوعي الجمعي وتوجيه مسارات الحضارة. وعلى الرغم من تقديس الإنسان للمفكرين، وتكريسهم رموزاً للعبقرية، فإن هذا التمجيد لا يخلو من مآخذ جوهرية تحتم إعادة النظر في أدوارهم الحقيقية. فالمفهوم التقليدي للعبقرية الذي يختزل النجاح الفكري إلى الشهرة والعدد الكبير من المؤلفات يُغفل وجود حالات صارخة من الغباء الفكري، يختبئ خلفها لباس العبقرية، ويغذي منظومة فكرية متكلسة تفتقر إلى الحيوية النقدية. في سياقنا هذا، ليس الغباء الفكري حالة انعدام للمعرفة فقط، بل هو أعمق من ذلك: هو حالة منهجية تعبر عن تجمد الفكر، ورفض الانفتاح على البدائل، والانغلاق داخل حقول معرفية مسقوفة بمنظومات ميتافيزيقية أو إيديولوجية جامدة. وهذا النوع من الغباء أخطر لأنه يحمل تأثيراً مدمرًا على الفكر المجتمعي ويقود إلى أزمات معرفية مستعصية على الحل. وكما قال المفكر العراقي فريدون عبيدي في كتابه فلسفة الوعي والتمرد في العراق.

في العراق، كان الفلاسفة هم الشهود على تحولات الوعي، ولم يكونوا أبداً أسارى لصور جاهزة، بل متمردين على كل الثوابت. فهذا التمرد والجرأة هي الضمانة الحقيقية لحيوية الفكر، وليس مجرد الألقاب أو شهرة المؤلفات.

الغباء الفكري: التعريف والخصائص

الغباء الفكري ليس مجرد خطأ أو ضعف معرفي، بل هو اضطراب منهجي في بنية الفكر، يقود إلى:

التكرار المفرط لنفس البديهيات دون اختبارها أو مراجعتها. التمسك الأيديولوجي بالأفكار مهما دلت التجارب على عكسها. الغفلة النقدية تجاه الذات وتجاه الإطار المعرفي السائد. التحصن بالمصطلحات والعبارات المعقدة كستار يخفي فقر الأفكار. بهذا المعنى، يصبح الغباء الفكري نوعاً من الجمود المعرفي الذي يمنع التطور، ويحول الفكر إلى مجرد استنساخ ميت لشكلاته القديمة. وقد أكدت انا إحدى مداخلات

إنّ الفكر لا يُقاس بعدد الكلمات أو ضجيج الأقلام، بل بمدى جرأته على مواجهة ذاته ونقدها بلا هوادة.

التحليل النقدي لمظاهر الغباء الفكري عند كبار المفكرين

1. التكرار الاستعادي

تتعرض غالبية التيارات الفكرية العظيمة لخطر الوقوع في فخ التكرار، حيث يعيد المفكرون إنتاج أفكار سبق طرحها بطرق مختلفة ظاهرياً، لكنها في الجوهر نفس الأفكار. وهذا لا يعكس فقط نقصاً في القدرة على الابتكار، بل يحول الفكر إلى دائرة مفرغة من دون إنتاج جديد. كمثال، نجد في بعض المدارس الفلسفية المعاصرة إصراراً على إعادة إنتاج أفكار ماركس أو فوكو دون تطوير أو نقد حقيقي، مما يجعلها سجينة الماضي.

2. التناقضات البنيوية

لا يمكن إغفال التناقضات التي تنتاب نظريات كبرى، وغالباً ما يتم تجاهلها أو تبريرها بتفسيرات غامضة. هذه التناقضات تكشف عن هشاشة البنى المفاهيمية، وتضعف مصداقية المفكر أمام من يبحث عن وضوح المنهج والمنطق. كما أشار الفيلسوف العراقي محمد رشيد النجفي في تحليله لنظريات العصر الحديث

الحقيقة ليست ثمرة تعليب فكري جاهز، بل هي زلزال يزلزل الأطر الضيقة، فاحذر من تلك العبقرية التي لا تزلزل شيئاً.

3. الأيديولوجية والتبعية الثقافية

يميل بعض المفكرين إلى استلاب فكرهم لصالح إيديولوجيات مهيمنة أو تيارات ثقافية سائدة، مما يحول أفكارهم إلى أدوات تخدم سلطات أو مصالح، بدلاً من أن تكون أدوات نقد وتحليل حر. وهذه الظاهرة ليست محصورة بزمن أو مكان، بل هي خطيئة تتكرر في كل العصور، حيث يصبح الفكر أسيراً للهيمنة الثقافية، وينهار دوره الحر والناقد.

4. الانغلاق النقدي

غياب النقد الذاتي يعد من أخطر مظاهر الغباء الفكري. كثير من المفكرين يرفضون مراجعة أفكارهم أو الاعتراف بأخطائهم، ما يولّد تحصناً فكرياً ضد كل تطور أو تغيير، ويكرس الجمود الفكري الذي يقتل الحيوية. وفي هذا الصدد قال سجاد مصطفى حمود

المفكر الحقيقي هو الذي يضيء الطريق في الظلمات، لا الذي يكتفي بتثبيت الظلمات تحت أقدامنا.

الغباء الفكري كمخاطر معرفية واجتماعية

إن الغباء الفكري ليس مجرد عيب شخصي، بل هو تهديد معرفي يطال المجتمع بأسره. فهو يفرز أجيالاً من المتلقين العاجزين عن التفكير المستقل، ويعزز ثقافة الطاعة والجمود، ويقوض قدرات المجتمعات على التجديد والمواجهة. حين تنتشر عبقرية مزيفة تتحكم في الخطاب العام، تصبح المجتمعات سجينة رؤى جامدة تعيق التقدم وتقتل الحيوية الفكرية. هذه الحالة تؤدي إلى عزلة فكرية تجعل الإنسان محكوماً بأطر ثقافية ميتة، بلا قدرة على استيعاب الجديد أو استشراف المستقبل.

شروط الخروج من الغباء الفكري

التمكين النقدي: ضرورة تبني منهجية نقدية صارمة تبدأ بالنقد الذاتي ثم تتوسع إلى نقد الأطر المعرفية السائدة. التشكيك المنهجي: تبني موقف فلسفي يستند إلى التشكيك وعدم القبول بالمسلّمات دون اختبار دقيق.

الابتكار الفكري: العمل على خلق مفاهيم وأدوات تحليل جديدة تتجاوز الأساليب التقليدية.

الوعي بالتحيزات: الاعتراف بالتحيزات الثقافية والسياسية التي تؤثر في الفكر والجهود لتحريره منها.

الخاتمة

إن مفهوم العبقرية يجب أن يتجاوز الألقاب والأساطير، ليصبح مرآة لصدق الفكر وعمق النقد، وجرأة التجديد. أما الغباء الفكري، فلا يقتصر على ضعف الفرد، بل هو مرض يهدد سيرورة المعرفة الإنسانية جمعاء. إن مواجهة هذا المرض المعرفي تتطلب نقلاً نوعياً في ممارسات الفكر، بحيث يتحول من إعادة إنتاج سلطة وأيديولوجيا، إلى قوة حرة تولّد المستقبل. من هنا تأتي مسؤولية المفكر الحقيقي الذي لا يرضى بالبريق الزائف، بل يصرّ على كشف حقيقة الفكر مهما كانت مريرة، ساعياً نحو عقول حرة، ووعي متحرر. وأخيراً، أتساءل: هل نمتلك الجرأة لنكون مفكرين متمردين على أنفسنا، أم سنظل أسرى لعبقرية مزيفة تسجننا داخل جدرانها؟

***

الكاتب سجاد مصطفى حمود

.......................

هامش توثيقي

1. فريدون عبيدي، فلسفة الوعي والتمرد في العراق، دار الفكر العربي، بغداد، 1998، ص. 45-49

2. محمد رشيد النجفي، خطابات الفكر الحر في العراق الحديث، مطبعة النهضة، النجف، 2005، ص. 112-117.

 

(المتكلم يفكر والكلام يتبعه)... القديس أوغسطين

لا مناص ان الكلمة ليست مجرد أداة تواصل، بل هي مرآة تعكس نوازعنا وأعماقنا وتجاربنا. هذه العبارة الشهيرة للقديس أوغسطين: «المتكلم يفكر والكلام يتبعه» تختزن في طياتها حكمة إنسانية خالدة، تنبهنا أن كل لفظ ننطقه ينطلق من عمق تفكيرنا وأحاسيسنا وتجاربنا. الفكر، هو ذلك المنبع الخفي للكلام، هو مصدر كل كلمة نقولها، فهي انعكاس لفكرة عميقة تسكن في ذاتنا. الفكر هو الروح الحقيقية للكلمة، هو اللحظة الاساسية التي نصغي فيها إلى أنفسنا قبل أن نصوغ ما سنقول. حين يفكر الإنسان، فإنه يختار الكلمة إما بحرص أو يرميها بإنفعال، ينتقيها لينقل ما يشعر به وما يؤمن به بصدق وعفوية. أو من دون لحظة تفكر، يبقى الكلام مجرد ضوضاء بلا معنى... أما إذا انبثق الكلام عن فكر عميق، يصبح له وقع في القلب والعقل معًا. لذلك كانت الكلمة، الجسر النابض بين الذات والوجود، فالكلمة هي جسرنا نحو العالم بكل معانيه وتعبيراته، هي الطريقة التي نعبر بها عن خيباتنا وآمالنا، وعن هويتنا وتطلعاتنا، عن إنسانيتنا وتطرفنا، وهي التي تقرّب بين القلوب وتبني جسور التواصل بين البشر. كما تهدمها وتدمرها، حين ينطلق الكلام من فكر مسؤول، يكون له تأثير عميق؛ فهو يلمس مشاعر الآخرين ويوصل رسائلنا بصدق ووضوح ومحبة.

إن كل كلمة تخرج منا تحمل صور تجاربنا ونبض إنسانيتنا او انعدامها. لهذا، الكلمة الطيبة ترتقي بالحوار من مجرد نقاش إلى لقاء حقيقي بين الأرواح والعقول والقلوب.

عن قوة الكلمة في تطوير الثقافة والهوية

تمنح الكلمة الصادرة عن فكر مسؤول وغني بالرؤى والتجارب والتطلعات، المجتمع شيئًا من روحه الثقافية وهويته الإنسانية، ففي المجتمعات القديمة، كانت خطب الحكماء وقصائد الشعراء ونصوص الفلاسفة تلهم ذاكرة الجماعة المعنى وتشكّل رؤيتها للعالم من حولها. ولغاية يومنا هذا، لازالت الكلمة أصل بناء الثقافة والحضارة، تخلق جسور الحوار والتفاهم والتعارف، وتقارب بين الشعوب عبر معاني القيم والمبادئ النبيلة الجامعة إنسانيا، كما تدافع عن الإنسان ضد موجات السطحية والغوغائية والتفاهة والتطرف والاستبداد.

كلام أوغسطين ووجدان المعنى

لدى القديس أوغسطين، لم تكن علاقة الفكر بالكلمة علاقة عقل فقط، بل علاقة وجدان ينبض بروح الحب المطلق كذلك. حيث اعتبر أن الكلمة الصادقة هي تعبير عن معنى وجداني، عن ثقة ومسؤولية بحب وإلهام، مما جعل الكلمة في فلسفة اوغسطين مسؤولية مقدسة، وأن التعبير بصدق هو مشاركة أرض الحقيقة مع الآخرين تحت انوار الوجدان. فكل كلمة تخرج من القلب لتصل إلى قلب الآخر هي بناء إنساني عظيم.

الفكر والكلمة: تحدي الانسجام

في عصر رقمي صاخب تكثر فيه الأصوات وتضيع فيه المعاني وسط فوضى المجتمعات والشبكات، أصبح من الضروري أن نقارب الانسجام العميق بين ما نفكر فيه وما ننطق به. دعوة أوغسطين لنتمعن بصدق قبل أن نتحدث، وأن نسمح للفكر أن يعطر الكلمة بعطر الحب والحق والعدل، فتواجه الكلمات الجوفاء بكلمات تحمل المعنى والإحساس والأفق. هنا فقط يمكننا بناء حوار إنساني أصيل يرتقي بأخلاقياتنا وصلتنا بذواتنا وبالآخرين وبالطبيعة والوجود كله.

1. الكلمة وبناء الذات والآخر

الكلمة ليست وسيلة لاستعراض الذات فحسب، بل هي رؤية لبناء الذات وتمتين العلاقات. حين تنسجم الكلمة مع الفكر الواعي، يصبح الإنسان أكثر صدقًا مع نفسه ومع العالم. والكلمة الصادقة تفتح أبواب الحوار والتسامح والتعايش والتعاون والتعارف، تخلق مناخًا من الثقة الرحبة الراسخة والواعدة بغد افضل، تصنع الكلمة مساحة للتعاون والبناء المشترك بين البشر رغم كل التباينات والخلافات والشكوك والمصالح المبعثرة فالكلمة الصادقة تضمد الجروح وترمم الشقوق وترتب الحقوق والواجبات بعدل وإحسان، هكذا الكلمة الطيبة كانت وستظل ماء الحقيقة.

2. الكلمة بوصفها إبداع فني:

ليس المتكلم العقلاني وحده من يحتاج للصدق بين الفكر والكلمة؛ فالإبداع – شعرًا أو موسيقى أو رواية أو مسرح او سينما – هو أيضا ثمرة هذا الانسجام. حين يكتب الشاعر أو يغني الفنان من قلبه، أو يمثل المسرحي بعنفوان او يتخيل الروائي بهيام ويلاحق السينيمائي الواقع بإيمان تصل رسالة كل منهم بلا حواجز، حيث تنهض الأرواح وتتنفس المشاعر ويطير الوجدان في ٱفاق المعنى بلا حياء ولا حيرة؛ لأن الصلة بين ما يفكر وما ينطق تكون صادقة وحية.

أما بعد..

إن حكمة القديس أوغسطين: «المتكلم يفكر والكلام يتبعه» ليست مجرد نصيحة كهنوتية، بل نداء عميق لكل إنسان. ودعوة لكل واحد منا لتصبح كلماته منبعًا للخير والجمال والحب والتسامح والتعارف، أن نبحث عن التفكير المسؤول قبل صدق التعبير. ففي كل كلمة نبني بها، امامنا ٱفاق لتجسير الروابط وتمتينها، لإشعال شموع الوعي، ولإضاءة طريق البشرية نحو المزيد من الإنسانية والنباهة والصفاء..

بكلمة: عندما ينمو الحب في تفكيرك، تنمو معه الكلمة الطبية، لأن الحب هو المعنى الانساني..

***

مراد غريبي

 

من منطلق المنهج التحليلي السوبر خلاّق، الأخلاق السوبر خلاّقة = إنتاج كلّ الأفعال والمبادىء المفيدة للذات والآخرين × إنتاج كلّ الأفعال والمبادىء المقبولة عقلانياً ومشاعرياً. هذه أخلاق سوبر خلاّقة لأنها فعّالة في إنتاج كلّ الأفعال والمبادىء المفيدة للذات والآخرين والمقبولة عقلانياً ومشاعرياً. فبدلاً من أن تكون الأخلاق إتّباع مبادىء معيّنة وتقليد أفعال، الأخلاق الحقة إنتاج أفعال ومبادىء مما يجعلها أخلاقاً سوبر خلاّقة ويُحوِّل الإنسان إلى سوبر خلاّق في عملية بناء الأفعال والمبادىء الأخلاقية. هكذا يستعيد الإنسان دوره في إبداع ماهيته الإنسانوية الكامنة في إنتاج الأخلاق.

تنجح فلسفة الأخلاق السوبر خلاّقة في ضمان استمرارية التطوّر الأخلاقي. وفي هذا فضيلة كبرى دالة على صدق تلك الفلسفة الأخلاقية. فبما أنَّ الأخلاق السوبر خلاّقة = إنتاج كلّ الأفعال والمبادىء المفيدة للذات والآخرين × إنتاج كلّ الأفعال والمبادىء المقبولة عقلانياً ومشاعرياً، وعلماً بأنَّ كلّ الأفعال والمبادىء المفيدة للذات والآخرين والمقبولة عقلانياً ومشاعرياً تتضمن الأفعال والمبادىء المفيدة والمقبولة عقلانياً ومشاعرياً الغير مُكتشَفة حالياً أو في الماضي، إذن الأخلاق السوبر خلاّقة تستلزم اكتشاف الأفعال والمبادىء المفيدة والمقبولة عقلانياً ومشاعرياً التي لم تُكتشَف بعد مما يتضمن أنَّ الأخلاق السوبر خلاّقة تضمن استمرارية التطوّر الأخلاقي من خلال اكتشاف الأفعال والمبادىء الأخلاقية الخيّرة غير المعروفة حالياً أو في الماضي والعمل على ضوئها. هكذا لا تسجن فلسفة الأخلاق السوبر خلاّقة الإنسان في أخلاق الحاضر والماضي بل تدفع به إلى اكتشاف أخلاقيات المستقبل الجديدة وبذلك تحرِّر الإنسان من أخلاقية الحاضر والماضي من أجل بناء أخلاقيات المستقبل. من هنا، تضمن الأخلاق السوبر خلاّقة حرية الإنسان ومشاركته في صياغة وجوده الأخلاقي. وكلّ هذه الفضائل، كفضيلة ضمان حرية الإنسان، أدلة على نجاح فلسفة الأخلاق السوبر خلاّقة وصدقها.

بالإضافة إلى ذلك، تتنوّع النظريات الأخلاقية وتختلف فمنها نظرية الأخلاق الأنانية التي تقول إنَّ الأخلاق تتكوّن من تحقيق الفرد لمصالحه ومنفعته الذاتية كما جاء ذلك لدى الفيلسوفة آين راند ومنها النظرية النفعية القائلة بأنَّ الأخلاق كامنة في تحقيق المنفعة الكبرى للعدد الأكبر من الناس الآخرين كما يصرّ الفيلسوف جون ستيوارت مِل. نظرية أخلاقية أخرى تؤكِّد على أنَّ الأخلاق قائمة على العقلانية بمعنى أنَّ الأفعال الأخلاقية الخيّرة هي الأفعال المقبولة عقلانياً كما وَرَد ذلك في نظرية الفيلسوف إيمانويل كانط مما يتضمن أنَّ الأفعال الأخلاقية هي المقبولة عالَمياً من قِبَل كلّ البشر العقلاء. أما نظرية أخرى في الأخلاق فتقول إنَّ الأخلاق قائمة على المشاعر فالفعل الأخلاقي الخيّر هو الذي يسبِّب الشعور باللذة أو المتعة بينما الفعل غير الأخلاقي يسبِّب الألم كما يعبِّر عن ذلك الفيلسوف ديفيد هيوم.

أما فلسفة الأخلاق السوبر خلاّقة فتنجح في التوحيد بين النظريات المختلفة السابقة فتحلّ الخلاف فيما بينها. وعلى أساس هذا النجاح في حلّ الخلاف الفلسفي بين تلك النظريات الأخلاقية المتصارعة تكتسب فلسفة الأخلاق السوبر خلاّقة صدقها. فبما أنَّ الأخلاق السوبر خلاّقة = إنتاج كلّ الأفعال والمبادىء المفيدة للذات والآخرين × إنتاج كلّ الأفعال والمبادىء المقبولة عقلانياً ومشاعرياً، إذن تتضمن الأخلاق السوبر خلاّقة أنَّ الأخلاق كامنة في إفادة الذات تماماً كما تؤكِّد نظرية الأخلاق الأنانية وتتضمن أنَّ الأخلاق كامنة أيضاً في إفادة الآخرين كما تقول النظرية النفعية بالإضافة إلى تضمنها لنظرية أنَّ الأخلاق متكوِّنة من الأفعال والمبادىء المقبولة عقلانياً فالعالمية كما لدى كانط وتضمنها لنظرية أنَّ الأخلاق قائمة على المقبول مشاعرياً كما لدى هيوم. هكذا تنجح الأخلاق السوبر خلاّقة في التعبير عن كلّ المذاهب الأخلاقية السابقة فتوحِّد فيما بينها وتحلّ الخلاف الفلسفي القائم بين تلك النظريات.

كما تنجح فلسفة الأخلاق السوبر خلاّقة في التعبير عن الأفعال الأخلاقية الخيّرة والتمييز بينها وبين الأفعال غير الأخلاقية من خلال تحليل الأخلاق على أنها المفيدة للذات والآخرين والمقبولة عقلانياً ومشاعرياً. مثل ذلك أنَّ القتل والسرقة والكذب أفعال غير أخلاقية لأنها غير مفيدة للذات والآخرين وغير مقبولة عقلانياً ومشاعرياً بينما تطوير الذات ومساعدة الآخرين ومحبتهم أفعال أخلاقية خيّرة لأنها مفيدة للذات والآخرين ومقبولة عقلانياً ومشاعرياً. وهذا النجاح في التمييز بين الأفعال الأخلاقية والأفعال غير الأخلاقية دليل أساسي على صدق فلسفة الأخلاق السوبر خلاّقة.

***

حسن عجمي

عندما وُجدنا في هذه الحياة، كنّا خارج دائرة الوعي مجرّد أجرام صغيرة تنبض بالحياة دون إدراك معناها، نشرب من ثدي أمهاتنا، نغلق أعيننا في استراحة مؤقتة من ضجيج الولادة، ننتظر مكتسباتنا التي لم تولد بعد. كانت ابتسامتنا الأولى سببًا في بكاء الفرح، لا لأننا وعيناها، بل لأنّ من حولنا أرادوا أن ينسجوا لها معنى. نولد بدين أو مذهب أو لسان لم نختره، في بيئة لم نستشر في دخولها، تنمو أغصاننا من جذع يتجذر كلّ يوم في طبيعة الحياة القادمة، دون أن نعي بعد أنّ الجذور قد لا تكون اختيارًا، بل قدرًا متخفّيًا.

يومًا بعد يوم، نحاط بدائرة المجتمع والعائلة، نخوض أول أشكال "التنشئة القسرية"، لا بالضرب، بل بالحب المشروط، بالكلمات المتكررة: لا تفعل، افعل، هذا خطأ، هذا صواب، حتى تصبح هذه العبارات مادة أولى في بناء وعينا.

نولد أحيانًا بجين معيّن قد يتحكم في مزاجنا، أو يحرّك كيمياء أدمغتنا، أو يضع فوقنا ستارة من الحزن دون سبب، أو يهبنا خفة الروح والذكاء دون تدريب. ربما نولد هادئين، أو شجعانًا، أو قلقين ومكتئبين. بعضنا يرث صفات جسدية أو أمراضًا لا ذنب له فيها، لكنه يُحاسب عليها اجتماعيًا ضمنيًا، أو يُنظر إليه من خلالها كما لو كانت سمة أخلاقية.

لكنّ الإنسان ليس عبدًا لجيناته، فثمة حريّة تنبثق من وسط القيود، كمن يشعل عود ثقاب في كهف مغلق. هناك، في أعمق نقطة من وعينا، نكتشف أننا لسنا فقط مَن نولد، بل أيضًا من يخلقون أنفسهم لحظة بلحظة، كمن ينقّح وجوده باستمرار دون إذنٍ من ماضيه. فكلّ فكرة نعيد التفكير فيها، كلّ سلوك نرفضه رغم تعوّدنا عليه، كلّ قرار نأخذه ضدّ الوراثة والبيئة، هو إعلان ضمني: أنا حيّ باختياري، لا ببرمجتي.

ثم، يأتي "القدر". لا ذاك الذي ننتظره في الكتب أو الأدعية، بل القدر الذي يتوجه إليك في محنة، في حادث مفاجئ، أو خسارة موجعة، أو سؤال يهزّ أساسك. هنا، يستيقظ فيك شيء نائم منذ زمن بعيد، لا توقظه النعمة بل الشدّة. القدر هنا ليس عقوبة، بل دعوة لتغيير الجلد. هناك، حيث تشعر أنك تحترق، تولد إنسانًا جديدًا.

ولكن، إن لم تستجب لهذا القدر، قد تسقط في فخ الدوغمائية، فتصبح أسير بنية ذهنية مغلقة. ترفض كلّ تساؤل، وتطرد كلّ اختلاف، فتبني لنفسك قبرًا من الطمأنينة المزيفة. مع ذلك، حتى هذا الإنسان "المنغلق" له دور، رغم قسوته، فهو يخلق تصادمًا ضروريًا يولّد الأسئلة، ويحفّز النمو البشري، ويجعل الفكر يتقدّم، لا بالاتفاق بل بالاختلاف.

في منتصف الطريق، نبدأ نفهم أنّ الحياة ليست سلسلة من النجاحات، بل مسرحًا مليء بالإخفاقات. نتأمل وجوه من حولنا، نلاحظ من غادر قبل أن يقول كلّ شيء، ومن بقي رغم كلّ شيء. يبدأ الصمت يتكاثر فينا، لا لأننا مللنا الحديث، بل لأننا أدركنا أنّ أكثر الأشياء عمقًا لا تُقال.

نحاول أن نفهم: لماذا نشعر بالضيق رغم كلّ "النِعم"؟ لماذا نغضب رغم وعينا التام أنّ الغضب لا يغيّر شيئًا؟ لأنّ الصبر له حدود، ليس إلهيًا، بل بشريًا. نُبتلى ليس فقط بالأقدار، بل بحيرتنا تجاهها. لا ندري أحيانًا إن كنّا نُختبر، أم نُعاقب، أم فقط نُجرِّب بصمت.

نصل إلى مرحلة "البانوراما"، حيث تبدأ الذاكرة بعرض مشاهد حالمة: لحظات الطفولة، أول قبلة، ضحكة أم، خذلان صديق، صمت حبيب. لحظات لا نفهم قيمتها حين نعيشها، لكنها تتحول إلى "مقدسات شخصية" حين تُعرض على شاشة الوداع. هنا، ندرك فجأة أننا لم نكن نعيش، بل نُستهلك في محاولة العيش.

تبدو الحياة مثل رحلة طويلة داخل متاهة، كلّ باب يفتح على سؤال، وكلّ جواب يولّد خيبة أو أملًا مؤقتًا. نحيا بين الحنين والخوف، بين العقل الذي يطالبنا بالحذر، والقلب الذي يحرّضنا على المغامرة. نحب ونتألم، نجرّب ونخسر، ونواصل الطريق رغم فقدان الخريطة.

وها نحن نصل إلى النهاية. لا تأتي غالبًا كما نرغب، بل كما تشاء الحياة. قد تكون لحظة هدوء، أو لحظة فزع. قد تكون بعد مرض طويل، أو مفاجأة برق في سماء زرقاء. لكن كلّ النهايات تشترك في شيء واحد: الصمت العميق.

في تلك اللحظة، تُعرض أمامك حياتك كلّها في ومضة. لا كفلم، بل كشعور كثيف. تدرك فجأة أنّ كلّ ما كنت تخافه لم يكن حقيقيًا، وأنّ كلّ ما كنت تؤجله لم يكن ينتظرك.

وها هي المفاجأة الكبرى: أنت لم تكن أنت.

لقد كنتَ انعكاسًا لتوقعات الآخرين، صورة مرآة للقبول، نتيجة جيناتٍ وأوامر تربوية وقرارات لم تراجعها. لكن الآن فقط، وأنت تودّع هذا الجسد، تُدرك أنّ الحياة الحقيقية تبدأ بعد الموت الرمزي، لا الفيزيائي. تموت الشخصيات وتولد الحقيقة.

ربما كانت الحياة كلّها مجرّد سؤال طرحه عليك الوجود:

"هل كنت ذاتك… أم نسخة صامتة مما أرادوه لك؟"

وهنا، وحده الصمت يجيب.

***

فؤاد الجشي

في المثقف اليوم