قضايا

كرَّس د. محمد عابد الجابري (1935-2010) جانباً مهماً من أبحاثه لدراسة الفارق بين الذهنية العربية ونظيرتها الغربية. ومِثل سائر الذين درسوا تاريخ المعرفة، يعتقد الجابري أن كلاً من العقلين العربي والغربي تشكَّل في سياق تجربة تاريخية طويلة، أعطت كلاً منهما بنيته الخاصة المتمايزة عن غيره.

نعرف أن بعض الباحثين حاول النظر في فوارق بيولوجية بين الأعراق والأقوام تؤثر على حجم الدماغ وطريقة عمله، بل إن بعض قدامى الكُتاب المسلمين اعتقد أن المناخ، ولا سيما مدة الليل والنهار ودرجة الحرارة، يؤثر هو الآخر على القابليات العقلية. ومن هذا القبيل ما ذكره المسعودي في «التنبيه والإشراف» من أن أفهام الأوروبيين بليدة، بسبب شدة البرد عندهم، فكلما اتجهنا شمالاً؛ حيث البرد أشدّ، وجدنا سكانه أكثر غباء وجفوة. وأرى أن قول المسعودي - ومثله ابن خلدون وآخرون - منقول عن آخرين، أو هو كلام سائر في المجتمع، وليس نتيجة ملاحظة مباشرة أو دراسة ميدانية.

وعلى أي حال، فهذه التقديرات لم تثبت قط، رغم أنها كانت تبرز بين حين وآخر، ولا سيما في ظروف الأزمة، ولهذا فليست ذات شأن أو تأثير. أما الرأي المرجَّح في الوسط العلمي فهو الأول الذي يَنسب تشكل الذهنية الخاصة للمجتمع؛ أي ما يسمى «العقل الجمعي»، إلى التجربة التاريخية لهذا المجتمع. وهذا أيضاً سبب التمايز بين المجتمعات التي تتفق في الذهنية العامة، لكنها تختلف في بعض التفاصيل؛ مثل اختلاف المجتمعات العربية في طرق العيش والتعبير عن الذات، رغم أنها جميعاً تتفق في الخطوط العامة للثقافة والتفكير ومعايير السلوك.

تحدَّث الجابري عن ثلاثة أركان أسهمت في صنع العقل العربي هي العقيدة والقبيلة والغنيمة. وأريد التركيز في هذه السطور على الركن الثاني (القبيلة) الذي يرمز لمعنى يتجاوز وصف القبيلة، السائد اليوم، فهو يشير، في الجوهر، إلى معنى الجماعة المترابطة، ذات الهيكلية الهرمية / الأبوية، التي يشد أجزاءها تصور عن الذات المشتركة والتاريخ المشترك، وليس بالضرورة عن التوافق الفكري أو الأهداف، إنها إذن أقرب إلى نظام بيولوجي (عائلات متحدة) وليس شرائح أو أطيافاً متوافقة.

النظر من هذه الزاوية ربما يُسهل فهم السر وراء صرف معنى «العقل»، عند علماء اللغة العرب، إلى الربط والعقد، وليس التفكيك وإعادة التركيب، كما هو المتبادر من معنى التفكير. وهي، إضافةً لذلك، تكشف عن سبب الحساسية الشديدة التي تُظهرها الذهنية العربية إزاء مخالفة التيار العام أو التمرد على التوافقات الاجتماعية. بعبارة أخرى، فإن هذه الذهنية مشغولة، في المقام الأول، بالمحافظة على الوحدة والانسجام، وليس بصناعة الفكرة الجديدة، التي ينبغي أن تنطوي، بالضرورة، على تعارض مع السائد والمتعارف.

الجماعة والمحافظة على وجودها هما محور التفكير العربي في الذات. الذات هنا لا تتجلى إلا بوصفها ذاتاً جمعية. وبهذا المضمون فإن الرابطة التي تجمع أعضاءها إلى بعضهم، تشكلت في الماضي، وهم حريصون على عدم مساءلتها أو تحدِّيها؛ لأنهم بهذا يهددون وحدتهم والرابطة التي تجمع بينهم. من هنا نعرف لماذا لا يتقبل المجتمع العربي الأفراد المستقلين والأفكار المعارضة للقيم السائدة والموروثة، ولماذا يُتهم الذين يخالفون أعراف المجتمع وقناعاته بأنهم معقَّدون أو مرضى نفسيون أو عملاء للأجانب أو ساعون للشهرة، ولماذا يتقبل عامة الناس هذه الاتهامات ولا يستنكرونها، رغم أنها قد تطولهم بالسوء إذا تجرأوا على الاختلاف.

حسناً... هل هذا أمر طيب أم سيئ؟

أظن أن الجواب يبدأ بتحديد الأولويات؛ أي ما الذي نريده أولاً: وحدة الجماعة وراحة بالها، أم استنهاض العقول وتجديد الفكر والحياة. ربما نقول إن لكل من الخيارين زمنه، لكن المؤكد أن جمعهما مستحيل. اختيار العقل يعني اختيار الفرقة، واختيار الوحدة يعني تقبُّل الجمود.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

يسلم كل احد منا بعد تطور العلم طبعا، لا قبل ذلك، ان من المخلوقات التي لا حصر لها جنت عن العين في حين أن اخرى وهي أيضا لا يمكن تعدادها ظهرت العيان.

الأشعة الكهرومغناطيسية، الأشعة السينية ، الموجات فوق الصوتية، الواي فاي، الالكترونات، النواة... وغيرها كثير مما يثبت العلم انها تتحرك في الاكوان وتكون بدورها مكونات اكبر او تتخللها عناصر أصغر  لها حركية كالافكار التي تدور بخلد كل منا كتصورات ونيات يمكن اما ان تقبر كما قبرت مجموعة من الابداعات التي لم تخرج الوجود وبقيت دفينة عقول اصحابها لانهم لم يجرؤوا على تحويلها لانتاجات تمدد من شخصياتهم في الزمكان، كما فعل اغلب العلماء الذين تجاوزوا الفراميل الوهمية، ليخرجوا افكارهم للوجود لتكون امتدادات لاعمارهم بعد موتهم.

وكما ذكرت سابقا على مقال سابق بجريدة القدس العربي، "فليست مقبرة هايغيت وحدها ذات الأهمية التاريخية العالمية لاحتوائها على الشخصيات الأكبر ذات الأهمية التاريخية ثقافيا، لكونهم أعلام ميدانهم كالمؤرخ إيريك هوكسباوم أو مؤسس الحركة التعاونية البريطانية جورج هوليك أو المفكر كارل ماركس أو المغني جورج مايكل وعالم التشريح هنري غراي أو عالم البيولوجيا التطورية هربرت سبنسر وغيرهم، بل في الحقيقة إن تأملنا بعمق فدائرة عدد الإنسانية ذات الأفكار الخلاقة هي أكثر اتساعا مما نعرف" انتهى الاستشهاد من المقال.

الافكار كمخلوقات جنت عن العين، يمكن تقسيمها إلى افكار سلبية واخرى ايجابية، او قل افكار نورانية وتلك الظلمانية، أو قل افكار تقرب من الفطرة واخرى تبعد عنها، او قل افكار متفائلة وتلك اليائسة، او قل افكار شيطانية وافكار ملائكية.

جاء في الحديث الشريف عن صفية بنت حيي رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معتكفا، فأتيته أزوره ليلا فحدثته، ثم قمت فانقلبت، فقام معي ليقلبني -وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد رضي الله عنهما-، فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي -صلى الله عليه وسلم- أسرعا، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (على رسلكما، إنها صفية بنت حيي)، فقالا: سبحان الله يا رسول الله!، فقال: (إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما سوءا -أو قال شيئا-) ".  حديث متفق عليه.

معنى الشيطان لغة المبعد، فكل ما يبعد عن الله فهو شيطان.

لنتخيل ان مخرجا سينمائيا التقيته ولاقيته بمنتج ليمول فيلما سينمائيا يصور هاته الافكار المقصودة في هذا المقال، فلا مراء ان المخرج السينمائي ان اقتنع بالمبلغ المالي الذي يمكن أن يكون قد عرضه المنتج فانه بطبيعة الحال سيكون من السهل عليه ان يعرض الفيلم بعد اتمامه بداخل قاعة مظلمة يخرج من كوة متخصصة نورانية الآلة السينمائية التي تظهر الافكار المبثوثة السيناريو متحركة على شاشة السينما اما عن طريق التمثيل او كرسوم متحركة، المهم ان الانسان كعبد ضعيف استطاع تصوير الافكار وجعلها تتحرك وترسل الرسالة المقصودة.

فإذا قلنا مثلا ان اول فكرة اخرجت آدم عليه السلام هي الشيطان الأول الذي يجري من ابن آدم مجرى الدم، فإنه والعكس بالعكس كانت فكرة نورانية اولى داخل الجنة الهمته التسبيح ليتوب الله عليه.فإذا سلمنا ان العبد يمكن ان يصور الفكرة فيلما يمكن ان يرى ويرسل الرسائل، فلم يصعب علينا أن نسلم ام الله عز وجل وهو على كل شيء قدير ان يجعل الافكار النورانية ملائكة تتكلم مع سيدنا ابراهيم لتبشره او وسوسة شيطانية مشخصة كما  كما تشخص القرين لمولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ففي الصحيحين عن أبي هريرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "إن عفريتا من الجن تفلت علي البارحة ليقطع علي الصلاة، وإن الله أمكنني منه فذعته (خنقته) فلقد هممت أن أربطه إلى جنب سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا تنظرون إليه أجمعون أو كلكم، ثم ذكرت قول أخي سليمان: (رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي) فرده الله خاسئا".

لا ينكر اي كاتب توالد الافكار في دماغه، وهكذا ان تدبر اي منا هذا الامر فسيستنتج تلقائيا ان تلاقح الافكار اما ان يكون عقيما ان كانت الافكار غير ذات خصوبة او أنها ستتوالد وتتوالد حتى تؤلف سطورا وكتبا تقتات منها عقول شرهة مثل عقول قرائنا الاعزاء فيشعرون بلذة الوجبات الفكرية التي ان كانت معدة بمطبخ فكري متميز وطباخ ذو مهارات خاصة في انتاج السندويشات الفكرية يستبشر بها مستقبلوها استبشارا.

وتحسب أنك جـِرمٌ صغير  *** وفيك انطوى العالم الأكبر

 داؤك منك ومـــــا تبصر  ***  دواؤك فيك ومــــا تشعر

تحسب أنك جـــرم صغير  *** وفيك انطوى العالم الأكبر"

ابيات شعرية عميقة تعبر بجدارة عما نرومه في هذا المقال منهم من ينسبها لابن عربي الحاتمي وآخرون للخليفة الرابع سيدنا علي بن ابي طالب رضي الله عنه ، لكن الذي يهمنا ان الانسان عوالم من المخلوقات الحسية كالخلايا والالكترونات والكروموسومات والكريات البيضاء وتلك الحمراء، ومخلوقات معنوية كالملائكة والشياطين والوساوس والهلاوس وغيرها مما لا نعلم سواء في الاتجاه الايجابي او السلبي وكلها يمتطيها الحكيم ليصل إلى الحق اما بالاقدام او الإحجام بحسب فهمه للنصوص وكيفية تنزيلها في واقعه اليومي ومن أوتي الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وصلى الله وسلم على سيدنا محمد مداد الحق عز وجل على لوح الأزل وعلى آله وصحبه وسلم.

***

د محمد غاني - المغرب

مع بداية العام الجديد 2025 كانت هناك الكثير من الكتب تنتظر القراءة، كتب كنت قد حصلت عليها من المعارض العربية والعراقية التي تجولت فيها العام الماضي.. وكان الخيار ان افتتح هذا العام بكتاب ممتع كنت ابحث عنه فعثرت عليه في معرض الشارقة.. الكتاب سيرة فكرية لاحد اشهر فلاسفة العالم العربي والاسلامي واعني به " ابن رشد " كتبها الاسباني خوان انطونيو باتشيكو وترجمه الى العربية احمد عبد اللطيف

كان في الخامسة والعشرين من عمره، حين قرر ان يقدم فلسفة ارسطو للقراء العرب.. فتى ممتلئ القلب بالمعرفة، تشغله موضوعات عدة منها الطب والفلك ودراسة المنطق، لم يلتفت اليه احد..حتى جاء ابن طفيل وامسك به من يده ليدله على الطريق.

في الثلاثين من عمره استحق وبجدارة لقب الفيلسوف، وسيصبح له فيما بعد تاثير حاسم على معظم فلاسفة اوربا في العصر الوسيط، حيث عرفه العالم الغربي باسمه اللاتيني "أفيروس ". وكان لكتاباته وابحاثه في تصنيف كل شيء، تاثير هائل على التفكير الفلسفي على مدى اكثر من الف وخمسمائة عام، صاحب طريقة فلسفية ترتبط بدور الفلسفة في تقدم المجتمعات، وقد قيل في اغلب الكتابات، ان بالامكان تقسيم الفلسفة العربية بين اتباع ابن رشد ومؤيدي الغزالي، وبينما حاول الغزالي الوقوف بوجه طروحات الفلسفة اليونانية فيما يتعلق بعلوم ما بعد الطبيعة والإلهيات، لان هؤلاء بنظره ينكرون الشرائع ويجحدون بتفاصيل الاديان والملل ويعتقدون ان الدين مجرد " ناموس مؤلف وحيل مزخرفة "، واصر على ان ماجاء به الوحي يُعد كافيا ولا حاجة الى تأملات العقل، حاول ابن رشد ان يوفق بين الفلسفة والدين، وكان يرى في احتقار الفلسفة اساءة للدين لانهما –الفلسفة والدين -:" صديقتان واختان بالرضاعة "، واكد على ان العقيدة برغم الدور الذي تقوم به في حياة الانسان، لا بد ان تخضع لتدقيق فلسفي عقلي.

تظل لابن رشد اهمية مستمرة لأنه يساعدنا في التعامل مع مشكلة لا تزال تحيرنا: كيغ نستطيع التوفيق بين الفلسفة والدين والعلم، وبين الإيمان والعقل. كان ابن رشد فيلسوفا ورجل دين معا، لقد رفض ان يفقد ايمانه، ورفض ان يكون مؤمنا من غير عقل، فطور فهما جديدا لمكانة العقل في حياة الانسان. كانت مساهمة ابن رشد الكبرى تعليم الحضارة العربية ان اي كائن بشري قادر على بلوغ حقائق عظيمة ان هو استفاد من اعظم عطية قدمها الله الى البشر: العقل. ففي رأيه ان اسمى اشكال العبادة تكمن غي دراسة الله من خلال اعماله باستعمال العقل، ولعل كتاب تهافت التهافت هو افضل تعبير عن فلسفة ابن رشد، مع ان اعماله الاخرى لاتزال مثار اهتمام الدارسين، فالكتاب يقدم لنا الدليل على ان الفلسفة العربية شهددت على يد ابن رشد قفزة نوعية، تجاوزت ما سبقها، واثبت بالدليل على سعة اطلاع ابن رشد ونضج تفكيره.

خلال حياته كان ابن رشد قد واجه الكثير من المصاعب، لكنه قرر أن ينتصر للفلسفة من هجمات رجال الدين الذين اتخذوا من كتب الغزالي ذريعة لمهاجمته، كان الغزالي قرر: "الكشف عما في الفلسفة من خداع وتدليس وتحقيق وتخييل "وهو يرى إن الفلاسفة تلازمهم صفة الكفر والإلحاد، ونجده يضع كتاباً بعنوان"تهافت الفلاسفة"، يبدأ فيه واحدة من أعنف الهجمات التي شنت على الفلسفة ونجده في كتابه تهافت الفلاسفة يؤكد على ضرورة:

1- النهي عن النظر في كتب القدماء، وفي مقدمتها كتب المنطق والفلسفة

2- تكفير الفلاسفة المسلمين لأنهم خرقوا الاجماع لتفضيلهم التأويل

في الخامسة والخمسين من عمره قرر ابن رشد أن يرد على كتاب الغزالي فنشر كتابه الشهير"تهافت التهافت"والذي أراد به أن ينتصر للفلاسفة، ويثبت امكانية التوفيق بين الفلسفة والدين، وضرورة الاستدلال العقلي، والانتفاع من تراث اليونان، واذا كان الغزالي يؤكد أن الفلسفة لاتلائم الإسلام في بعض مسائلها ولهذا وجب تكذيبها وتكفيرها، فان ابن رشد يرى إن"دين الفلاسفة إنما يقوم أصلاً على الإيمان بوجود الله وعبادته"، وإن العقل هو الذي يوصل الى معرفة الله، ومعرفة خلقه معرفة واقعية.

وينتهي ابن رشد في كتابه "تهافت التهافت" إلى الإعلان ببطلان آراء الغزالي ويقرر:

1- إن النظر في كتب القدماء واجب شرعي، وإن ما قيل في مخالفة الفلسفة للشرع دعوى باطلة ف"الفلسفة هي صاحبة الشريعة وأختها الرضيعة"

2- إن التكفير بدعوى "خرق الاجماع في التأويل"، لأن التاويل قضية مسلم بها ولا يرتاب بها مؤمن، بل يزداد يقينه.

يكتب في" تهافت التهافت: " فتعرض ابي حامد الغزالي الى مثل هذه الاشياء على هذا النحو من التعرض لا يليق بمثله، فانه لا يخلوا من احد امرين: اما أنه فهم هذه الاشياء على حقيقتها، فساقها هنا على غير حقيقتها، وذلك من فعل الاشرار، واما انه لم يفهمها على حقيقتها فتعرض الى القول فيما لم يحط به علما. وذلك فعل الجهال، والرجل يجل عندنا عن هذين الوصفين. ولكن لابد للجواد من كبوة. وكبوة ابي حامد هي وضعه هذا الكتاب ولعله اضطر الى ذلك من اجل زمانه ومكانه ".

في بحثه عن مشكلة الخير والشر ان يبين لنا ان العقل بامكانه التمييز بين ما هو خير وما هو شر، ولهذا لم يرجع الى التمييز الى الشرع، بل ارجعه الى العقل تقديسا من جانبه للعقل الانساني ودوره في صياغة الكثير من الابعاد الوجودية الانسانية، كما ان ابن رشد اذا كان قد حاول من جانبه البحث في مشكلة التوفيق بين الدين والفلسفة، إلا انه كان اكثر الفلاسفة العرب في دراسته لتلك المشكلة، اهتماما بالبعد الانساني، ويكفي أنه كان يعلي العقل دوما، حيث رفع اهل البرهان فوق مرتبة اهل الخطابة والاقناع، بل فوق مرتبة اهل الجدل من المتكلمين، بل اننا لا نجد مشكلة يتصدى ابن رشد لدراستها إلا يبين لنا ان كلمة العقل فوق كل كلمة، وان الانسان ليس عاجزا عن التصدي لها وتقديم الاراء حولها. ان الدارس لكتب ابن رشد يجد تقديسا من جانبه للانسان وتثمينا لدوره، وانه حريص ان يبين لنا ابعاد الفعل الانساني، وما يستطيع الانسان ان يقوم به سواء في المشكلات التي تتعلق تعلقا مباشرا بالابعاد الإلهية، او تلك التي نجد انها تمثل التواجد الانساني، اعتمادا على العقل الذي هو في اساسه عقل انسان، عقل ليس عاجزا او مشلولا، ولكن العقل ذو الاستقلالية، العقل الانساني الذي يضع بصماته الواضحة والبارزة على هذا الوجود الذي نعيشه ونحياه

لقد آمن ابن رشد ان الحقيقة التي يتم التوصل اليها بالنظر العقلي، او عن طريق الفلسفة، هي الحقيقة الوحيدة التي تسمو على الحدود الدينية والقومية، وهي تراث مشترك بين الامم على مر العصور والاجيال.

تمثل رسالة ابن رشد في جوهرها ما ياتي: هناك حاجة ماسة لارتباط العقل بالدين والسعي الدائب الى المعرفة اينما كانت، وتذكرنا هذه الرسالة بان الحكمة يمكن ان تاتي من مصادر شتى، والانسان عليه ان يكون منفتحا، ياخذ كل ما يراه مفيدا فيستخدمه.

في كتاب "ابن رشد.. سيرة فكرية " ينطلق الكاتب الاسباني خوان انطونيو باتشيكو من المقولة الشهيرة المردّدة في الغرب، وهي "الطبيعة فسّرها أرسطو، وأرسطو فسّره ابن رشد"، في إشارة إلى الدور الذي لعبه ابن رشد في نقل المعرفة الأرسطية والفلسفة اليونانية الكلاسيكية إلى الغرب اللاتيني في العصور الوسطى، عندما تُرجمت كتبه إلى اللاتينية ومن ثم تم نقلها إلى أوروبا، وكيف كان يُستشهد بها كثيراً، حيث لاقت أفكاره اهتمام الفلاسفة الغربيين الذين كانوا يبحثون آنذاك عن الفكر العقلاني الحر ليواجهوا به المد اللاهوتي المسيحي المهيمن على كامل الحياة السياسية والاجتماعية في بلادهم، في العصور الوسطى المظلمة.

كفيلسوف كان ابن رشد يتماهى مع افلاطون في مقولته الشهيرة " طموح كل انسان السعادة "، وان الخير الاسمى في نظام حكم مستقر ودائم يحكمه " اصحاب حكم في زمن لا ينقطع ". افتتحنا العام بابن رشد.. اتمنى ان تخبروننا بالكتاب الذي ستفتتحون به هذا العام.

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

ما هو الصحيح وما المفيد في هذا النوع من الابداع؟، واذا اتفقنا عليه بمعناه العام ودوره المهم في الثقافة والمعرفة عموما، فان تسجيل ملاحظات اضافية لتعميم الفائدة وتقدير العمل والجهد الثقافي تسهم في التطوير والتكامل وتوسيع المنفعة، وغيرها، وتلك ملاحظات وحسب، عن الترجمة للعربية، وللمترجمين العرب، حرصا على ايصال النص المترجم الى القراء العرب بلغة عربية واضحة ومتفق عليها، بعد الاتفاق وتحديد المسؤولية والاهتمام الجاد عموما، ومنها العناوين واسماء الكتاب الاجانب. مع كل التقدير للجهود المبذولة في الترجمة والمعاناة المتفرعة من اكثر من حالة تواجه بعد الانتهاء من الترجمة او خلالها وصولا الى الانتهاء من الطبع والتوزيع للنص المترجم، من اي صنف ثقافي او ادبي. اذ لا خلاف على اهمية الترجمة وضرورتها لتلاقح الثقافات وتلاقي الابداعات وتصارع الافكار والاجتهادات. (للتوسع يطالع كتاب فن الترجمة للكاتب البرتو مانغويل، ترجمة مالك سلمان، ط1، 2024)

ملاحظة اولى او دعوة للمترجمين ومنظماتهم في الاتفاق على ترجمة الحروف الاجنبية التي لا يقابلها حرف عربي واحد، كيلا يقود اختلاف الترجمات الى تشويش القراء، مثل حرف g الانجليزي، لفظا وكتابة، فتترجم صحيفة The Guardian مثلا الى صحيفة الجارديان او الغارديان او الكارديان، ومثلها حصل مع ترجمة اسم الكاتب الكولومبي الكبير جبراييل جارثيا ماركيز (6 آذار/ مارس 1927 - 17 نيسان/ أبريل 2014) ففي ترجمة د. طلعت شاهين كتب الاسم هكذا، وفي ترجمة صالح علماني، كتب الاسم غبرائيل غارسيا ماركيز، وفي الوكيبيديا يختم الاسم المفرد منها بحرف الثاء، (بالإسبانية: غابرييل غارسيا ماركيث) كما نشرته. (وهذه القضية ينبغي أن تكون مهمة في الترجمة العربية وتحسب عند كل من يهمه الامر، ويتفق عليه باعتبار النظر واللفظ الأصلي أو المعروف، وتوحيده عربيا بين مشرق ومغرب واجتهاد واختصاص). وحصل الاختلاف على العنوان، ايضا، فجاء في ترجمة المترجم شاهين، "أن تعيش لتحكي"، بينما عند المترجم علماني: "عشت لأروي". (وهذا سؤال آخر؟!) رغم ان ماركيز في الصفحة التالية للنسخة الأولى، كتب: الحياة ليست ما عاشها وحده منا، بل ما يريدها، وكيف يريدها، ليحكيها. وقصة الكتاب رواية أخرى للروائي، ولم يكن المترجم د. شاهين في تقديمه أن يقدم ماركيز على كتابها، لأنه كما شاهد، كتب معظم فصولها في رواياته التي كانت عاشقة حياته اليومية بتفاصيلها التي عاشها وشاهدها، ولكن بعد كتابتها لم يخبرها بذلك حتى إعلانه عن اتمامه الجزء الأول منها.

ملاحظات اخرى حول المترجم والترجمة، هنا وعموما، حيث يتطلب من المترجم التعريف عن المؤلف ونشر معلومات عنه، سيرة ذاتية تفصيلية له، اذ ارى ان هذا مهم جدا للقاريء، كما لابد من ترجمة اخرى عن المترجم نفسه لاستكمال الصورة. كذلك في طباعة بعض الحروف العربية، والمطابع العربية، كما يحدث مع التاء المربوطة، او حرف الياء، حيث يجب، ولا يصح تجريدها من نقاطها ونطقها بغير معناها، وبحرف اخر موجود في اللغة العربية. وتبقى العناية بقواعد اللغة ونحوها مهمة جدا، جدا، لاكمال المهمة المطلوبة من طبع الكتب وتدقيق اللغة وتعزيز الثقافات.

كتبت منى الشايب، ابنة المترجم الراحل طلعت الشايب في تقديم "الاعمال الكاملة، للكاتب والمترجم طلعت الشايب": كان ابي قارئا نهما ومتابعا دقيقا لكل الاصدارات الحديثة لمعظم الكتاب والمفكرين والادباء العرب والاجانب، لكن امتع لحظاته تلك التي يقضيها في ترجمة عمل ونقله من لغته الام الى اللغة العربية.

كان يصف ترجمة الشعر والادب بالمغامرة المحفوفة بالمخاطر، المهمة هنا اشد صعوبة لانك لا تنقل افكارا او معلومات، بل احاسيس ومشاعر واجواء روح نص لاعمال مثل اتبعي قلبك، واصوات الضمير، وبقايا اليوم، وهوس العمق، والخوف من المرايا، وفتاة عادية، وغيرها.

 واضافت، نقلا عن والدها المترجم المعروف; عليك بصفتك مترجما، مهمة الحفاظ على روح الكاتب الاصلي، وموسيقى النص ليصل المعنى الى القاريء وكانه يقرا العمل بلغته الأصلية، وكأن العمل له كاتبان؛ الكاتب الاصلي والمترجم.  (…) ابي كان راهبا في محراب الترجمة، شغوفا برحلته مع كل كتاب، تلمع عيناه في نهاية يوم عمل شاق بما اكتشفه في رحلته من أفكار وثقافات يتحدث عنها بحماسة وسعادة من يعيد اكتشاف ذاته كل مرة.

وكان من ابرز الترجمات له، كما ذكرت منى، صدام الحضارات، والحرب الباردة الثقافية، وفكرة الاضمحلال في التاريخ الغربي، والاستشراق الامريكي، وغيرها من الاعمال الهامة.

عن أهمية الترجمة ودورها ومكانها عند المؤلف والقاريء، كتبت المؤلفة جوديث بتلر في تقديم كتابها "قلق الجندر، النسوية وتخريب الهوية"، وترجمة فتحي المسكيني، عن الترجمة العربية لكتابها ورأيها فيها: "ومع ان نصا مترجما هو، في رأيي، ينتمي الى المترجم اكثر منه إلى المؤلف الاصلي، فانا في وضعي الفوز وذلك على وجه الدقة لان الترجمة تفكك القيود الجيوسياسية لتفكيري المبكر. لقد وجدت اثناء رحلاتي، أن المترجمين هم منظرون وفلاسفة وعلماء اجتماع محليون او جهويون، وان لهم عملهم الخاص الذي يتناول عملي ويتجادل معه".

 واخر ملاحظاتي، لابد للمترجم لاتمام مهمته ان يختم ترجمته بتفاصيل عن الكتاب المترجم، سنة اصداره ودار نشره واللغة المترجم عنها، ولا باس من الاشارة الى لغة الكتاب الاصلية، التي كتب بها قبل الترجمات له. فكل هذه الملاحظات تصب في خدمة الجهد المبذول، واتمام مهمة المترجم ودوره الثقافي.

***

د. كاظم الموسوي

لا يخفى ما للنقد من أهميةٍ فصّل في أثرها في تطوير الوعي والمعرفة في كل مجال من مجال الحياة، رعيلٌ يبدأ بالقدماء من العرب وغيرهم، وقد لا أكون مُغاليا في القول: لولا النقد لما تطوّرت الحياة في كل مجالاتها. ومن هذا المنطلق، كان للنقد الأدبي أثرُه في تطوّر الشعراء مما يطرحه النقّاد لهم سواء على مستوى السجالات النقدية التي جرت بينهم في مختلف العصور، أم على مستوى استفادتهم مما طرحه النقاد في كتبهم من تصورات نظرية عن الشعر في تصوّراتهم النظرية، وملاحظهم التطبيقية التي اشتغلوا فيها على نصوصٍ كثيرة من الشعر، وأبدوا فيها مختلف التصورات من زوايا مختلفة تعبّر عن سعة النقد في مجالات اشتغالاته، واختلاف مرجعياته.

وإذا كان للنقد من أهمّيةٍ وأثرٍ لا تُنكر، فنقد النقد بما يُعنى به من متابعة ما يصدر عن النقّاد من طروحات وأفكار، وإعادة ضبطها أو محاكمتها، أو بيان ما تقوم عليه من أسس فلسفية واستظهار الجيّد منها وعزل الضار أو المنفصل عن واقعها الراهن، أو غير ذلك من إجراءات يتّخذُها "ناقد النقد" حرصًا منه على أنْ يكون النقد سليمًا معافىً من الوقوع في شباك الأوهام، أو المصادرات التي تُحسب على النقد من حيث الإجراء أو التطبيق، يكون والحالة هذه – نقد النقد- هو الأساس في تقييم النقد، فالأهمّيةُ إن تمّ احتسابها للنقد، فهي من باب أولى تُحسب لمن يُتابعه ويسهر على جعله ضابطًا لما ينبثُّ فيه من أفكار ونظريات وتصوّرات.

ومن هنا، كانت الخطوةُ رائعةً من اتحاد الأدباء والكتاب في العراق - المركز، أنْ أطلقوا خلال الأيام القليلة الماضية، المؤتمر التأسيسي الأول لمؤتمر "نقد النقد" وفي ذلك دلالة لأهمية ما يدعو إليه هذا المؤتمر في أهدافه وتوجّهاته وما يتبناه. ومن الصواب أنْ نشير إلى أنَّ اتحاد الأدباء والكتاب في بابل في الثامن من شهر أيار الماضي، كان أيضا قد أقام ملتقى تناول فيه نقد النقد، ولنا أنْ نقفَ على المشتركات بينهما، وما اختلفا فيه من بعض النواحي، فقد جمعهما أمران لا ثالث لهما: الأول أنَّ كلاهما برعاية اتّحاد الأدباء والكتاب في العراق، والأمر الآخر: كان كلاهما يتمحوران حول قضية (نقد النقد) أما الذي يختلفان فيه، ففي جوانبَ كثيرة، فالأوّل رعاه اتحاد الأدباء والكتاب في بابل، أمّا الذي عُقِد مؤخّرًا، فكان برعاية اتحاد الأدباء والكتاب في بغداد، ومعلومٌ أنَّ الفرق بالإمكانات والاستعدادات اللوجستية لكلا المؤتمرين، سيكون لهما الأثر في الإعداد والتحضير والترتيب والتنظيم، وهذا ما اتَّضح أثرُهُ بوضوح على مؤتمر نقد النقد الذي رعاه الاتحاد في بغداد الذي يمثِّل مركز الثقل من حيث الإعداد والتنظيم، ناهيك عن الأشخاص الذين كان لهم الأثر العلمي في رعاية المؤتمر، وأعني به اللجنة العلمية التي تقف وراء هذا التنظيم، ففي المؤتمر الذي عقد اتحاد أدباء بابل، لم يُعلن عن اللجنة العلمية التي تابعت أو نظّمت هذا النشاط، فلم يُعلن عن رئيس لجنته العلمية..؟ حتى يُتاح للمتلقّي أنْ يكوِّن تصوُّرا عن إمكاناته وخبرته في إدارة مثل هذا المشروع المعرفي المهم في مجاله، أما في اتحاد الأدباء المركزي في بغداد، فقد كان لرئيسه الأستاذ الأكاديمي الدكتور عبد العظيم السلطاني، المعروف باهتمامه الأكاديمي في هذا المجال، فضلاً عن مؤلفاته وبحوثه التي تناولت نقد النقد، الأثر الواضح في تنظيم كل ما له علاقة بمحاور هذا المؤتمر، مع ثلّة طيّبة لهم خبرتهم ودرايتهم في هذا المجال، وهم كلٌّ من الناقد الأكاديمي الأستاذ الدكتور علي متعب جاسم رئيس تحرير مجلة الأديب التي يصدرها الاتحاد، وقد شهدت له الأعوام الأخيرة انتقالة نوعية ناجحة لإدارة هذه المجلة ورصانتها، كذلك الناقد الأستاذ علي سعدون وهو رئيس تحرير مجلة الأقلام، وقبلها عمله الطويل في مجال النقد الأدبي منذ تسعينات القرن الماضي، تأليفًا ورصدًا للمشهد الأدبي والنقدي، وإذا كان شعار الملتقى الذي أقيم في بابل، بعنوان: (نقد النقد.. المفهوم وجدل التحوّل) فلنا أنْ نقارنه بعنوان المؤتمر الذي أقيم مؤخّرًا، بعنوان (نقد النقد – التنظير والإجراء) وهنا بحسب ما قرّ في ذهني عن مفهوم (الجدل) عمومًا أنّه يقتضي إشكالية حول مصطلح أو منهج أو قضية استوقفت فريقين أو أكثر من النقاد والباحثين يُدلي كلُّ فريقٍ منهم برأيه أو حجّته، وهذا ما لا أظنّهُ قد دار حول مفهوم "نقد النقد" إذ الآراء التي دارت حول هذا المفهوم لم يشتبك أكثرها – إن لم نقل كلُّها - في وقتٍ واحد، بل كانت تُطرح من قبل أصحابها في مختلف الأزمنة، وبالنتيجة تجد المتأخِّر منهم يُعيد النظر على ما أطلقه القدماء حول هذا المفهوم من اصطلاح، فيحاول تقشيره، أو إعادة النظر فيه، وهذا الحال لا يصحُّ وصفه بالجدل، في قبال ذلك أجد أنَّ العنوان الآخر للمؤتمر التأسيسي لنقد النقد، وهو (نقد النقد – التنظير والإجراء) أكثرُ استجابةً لواقع حال المصطلح، وما دار حوله من اشتغالٍ فكري، تمثّل بضبط المصطلح، وفحص مكوّناته، وبيان حدود اشتغاله سواء على المستوى النظري أو التطبيقي، وهذا الفهم أقرّه كثير ممن كتب في رصد هذا المجال الفكري ورسم حدوده وفك التباساته.

بقي لنا أنْ نعيد النظر في المشاركات أو المشاركين في هذين المؤتمرين، ولا ننكر أنَّ اسمًا قد نجده يتردّد في المؤتمرين، وهو الناقد الأكاديمي الدكتور جاسم حسين سلطان الخالدي، وباستثناء هذا الاسم، تبقى كفّة المؤتمر التأسيسي الأخير هي الأرجح، بعدّة أمور، منها: أنه تم تقسيمه إلى جلستين: صباحية ومسائية، وكل جلسة فيها محوران، ما عدا المحور الأول من الجلسة الأولى، فكانت محاضرةً افتتاحيةً للناقد العراقي الكبير الأستاذ فاضل ثامر، عن "نقد النقد – ضبط المصطلح والمفهوم" وبهذا يكون عددُ الباحثين الذين اشتركوا في هذا المؤتمر – ما عدا المحاضرة الافتتاحية التي نوّهنا بها آنفًا – خمسةً عشر باحثًا، فضلاً عن ذلك أنَّ بحوثهم كلُّها تصبُّ في دائرة نقد النقد ولم تخرج عن مداره، وقد انتظمَ عرضُها بحسب التسلسل المنطقي، فكان المحور الثاني في الجلسة الصباحية، قد تناول (نقد النقد/ تصورات نظرية) أما الجلسة المسائية، فكان كلا المحورين فيها يدوران حول الجانب التطبيقي من نقد النقد، وما يبعث على سلامة هذه الدراسات ورصانتها، ما أشرنا إليه سابقًا، من كفاءة اللجنة العلمية وحرصها أنْ تكون مدخلاته ومخرجاته لا تخرج عن دائرة موضوع المؤتمر، أما في ملتقى نقد النقد في بابل، فكانت قد اقتصرت على خمس أوراق/ أبحاث. ومثل هذا العدد من الأبحاث قد كان في محورٍ واحد من محاور مؤتمر النقد التأسيسي في بغداد.. ولا يعني ذلك أنْ نبخس الجهود في ملتقى نقد النقد الذي أقيم برعاية اتحاد الأدباء والكتاب في بابل، ولكن.. قد يتساءل القارئ وهو يطالع عنوان أحد تلك الدراسات التي قُدِّمت في ذلك الملتقى، وهو: (في النقد  المعماري - د . خالد السلطاني / بياضات الشعرية/  تكرارات التكرار) للدكتور محمد أبو خضير، بالقول: ما علاقتها – وهي دراسة محترمة بالطبع – بنقد النقد..؟ فضلاً عن كون الدراسات التي قُدِّمت إلى هذا الملتقى، لم تخرج جميعها عن "نقد النقد الأدبي" ما يفرضُ وحدة المجال المعرفي لكل الدراسات المقدّمة فيه، ناهيك عن اعتبارات أخرى محكومة بالمجال الأدبي الذي انطلق منه اتحاد الأدباء والكتّاب. ولعلَّ مزيةً أخرى تُحسب لمؤتمر نقد النقد في بغداد، أنَّ الدراسات قد تمَّ تدوينها وطبعها في كتاب بعنوان (المعوَّل عليه) يمكن للقارئ أنْ يُديم النظر فيها، ويُطالعها بصورة جيدة، مما يُتيح له فرصة في تثبيت سؤال أو إشكال على بعض ما في تلك الدراسات، ويطرحها خلال ذلك المؤتمر وبعده، أما الدراسات التي قُدِّمت في ملتقى نقد النقد في بابل، لم يُتح لها أنْ تُوثّق في كتاب، وبالنتيجة قد يفوتُ نفعُها لمن يريد أنْ يستفيد منها، أو يقف على ما ورد فيها من أفكار قد تكون صالحة وجيّدة، وقد تكون مثيرة للنقاش، فما أتذكّره سماعًا من ورقة الأستاذ عبد علي حسن، التي جاءت بعنوان (النقد المصطلحي بوصفه مفهوما مركزيا في نقد النقد) فقد ذكر أنه (ليس  لأحد أن يدعي التأسيس ولا التنظير في نقد النقد، بمعنى ليس هنالك تأسيس نظري ولا توجد نظرية) وهي عبارة تستدعي السؤال بهدوء: من الذي يدّعي التأسيس لنقد النقد، وكل من كتب عنه إنّما يبحث في المدوّنات السابقة من كتب النقد الأدبي والدراسات النقدية، باحثًا عن خيوط رفيعة تشتغل في مجال نقد الأفكار النقدية أو التطبيقات منها، فكيف يدّعي أحدٌ التأسيس والريادة في مجالٍ يكشفُ عن المشتغلين فيه، كلُّ ما هنالك يُمكن أنْ يُحسَب للناقد في تصدّيه لكشف تلك الممارسات في نقد النقد ومقاربته لها من مستويات متعدّدة، ولعلَّ الإنصاف – إذا وضعناه نصب أعيننا – يقودنا إلى أسماء مهمة عالميا وعربيا ومحلّيا عملت في مجال أرخنة تلك الممارسات ومقاربتها نقديًّا بمستويات، مثل تودورف عالميا، أو محمد مندور أو محمد برادة أو نبيل سليمان أو حميد لحمداني أو شكري عزيز الماضي أو محمد الدغمومي أو يوسف وغليسي عربيا أو محمد صابر عبيد أو عبد العظيم السلطاني عراقيًّا.. فكلُّ واحدٍ من هذه الأسماء، كان له إسهامة في إثراء هذا المجال المعرفي، وكشف أبعاده، وفكِّ التباساته، وترصين خطابه، بما يجعله مجالاً حيويًّا، ينفع الناقد ويُسدِّده فيما يريد أنْ يتجه إليه، ولأن اتجاهات النقد متنوِّعة فمن الطبيعي أنْ لا نجد نظرية في نقد النقد، فكلامُ الأستاذ عبد علي حسن (ليس هنالك تأسيس نظري ولا توجد نظرية) تحصيل حاصل؛ لأن نقد النقد ليس منهجًا يقف بإزاء المناهج النقدية المعروفة في الساحة الأدبية من سياقية أو نسقية، وغيرها من مناهج تُعنى بتحليل الخطاب السردي، بل يمكن أن نجد في كل منهج من هذه المناهج خطابًا نقديًّا – أي: نقد نقد – يتمحور حولها فيُناقش ما طُرِح في إهاب تلك المناهج من رؤى وتصوّرات نظرية أو اشتغالات تطبيقية، مُعيدًا النظر فيها، متفحّصًا خطواتها الإجرائية تارةً، وفارزًا لما وقع فيه ذلك الناقد من وهم في تمثيله لمصطلح، أو رؤية نظرية أراد تطبيقها ففهم خلاف ما يُراد منها،.. الخ من إجراءات أشار إليها من كتب في التنظير لنقد النقد، فالتأسيس النظري لا يُمكن أنْ يتوفّر لكل هذه المناهج، بقدر ما تكون هنالك خطوات وإجراءات يحرص الناقد المشتغل في مجال (نقد النقد) على النقّاد أنْ يلتزموا بها؛ لتعصمهم جهد الإمكان من الوقوع في الأوهام والتمثّلات البعيدة عن روح المنهج النقدي الذي يزعمون تطبيقه في قراءة نص وتحليله.

وختامًا تبقى مثل هذه المؤتمرات والملتقية نافعة لاسيّما في حال توثيقها كتابيًّا، فالدارس الذي يأتي بعد سنوات، سيبحث عن المكتوب، ناهيك عن جودته ومدى التزامه المنهج العلمي المتّبع في توثيق تلك الأفكار وتحليلها. وتكون مثل هذه الدراسات مادة ناطقة بأفكار أصحابها، أما المؤتمر أو الملتقي فينتهي صداه، وتبقى المادةُ المكتوبةُ شاهدةً عليه.

***

د. وسام حسين العبيدي

جائزة إراسموس لعام 2024 لعالم الأنثروبولوجيا الهندي لمساهمته الملهمة في موضوع هذا العام «خيال ما لا يمكن تصوره». وذلك من خلال أعماله التي تهتم بمواضيع الساعة؛ من بينها الأسباب الرئيسية لتغير المناخ.

وغوش (ولد عام 1956)، في كلكتا، عالم أنثروبولوجيا اجتماعية من جامعة أكسفورد، ويعيش بين الهند والولايات المتحدة. تتضمن أعماله روايات تاريخية ومقالات صحافية. وتعتمد كل أعماله على بحث أرشيفي شامل، وهي تتجاوز الزمن والحدود المكانية. ومن بين المواضيع الرئيسية، التي يتطرق إليها، الهجرة والشتات والهوية الثقافية، دون إغفال، طبعاً، البعد الإنساني.

في كتابيه الأخيرين "لعنة جوزة الطيب" و"الدخان والرماد: التاريخ الخفي للأفيون"، يربط غوش بين الاستعمار وأزمة المناخ الحالية، مع إيلاء اهتمام خاص لشركة الهند - الشرقية الهولندية.

وكان الاستعمار والإبادة الجماعية، وفقاً لغوش، من الأسس التي بنيت عليها الحداثة الصناعية. علاوة على ذلك، فإن النظرة العالمية، التي تنظر إلى الأرض كمورد، تذهب إلى ما هو أبعد من الإبادة الجماعية والإبادة البيئية. التي تستهدف كل شيء - الناس والحيوانات والكوكب نفسه، والسعي وراء الربح، قد استنزف الأرض وحوّل الكوكب إلى موضوع للاستهلاك.

المخدرات أداة استعمارية

ويدور موضوع كتاب «الدخان والرماد» حول الرأسمالية التي تفتقد أي وازع أخلاقي. وبداية، يفند المؤلف الكتابات التي تدعي أن الأفيون كان يستخدم في الصين بشكل واسع، ويعتبر ذلك من الكليشيهات التي لا أساس لها من الصحة، إذ لم يكن إنتاج الأفيون نتيجة للتقاليد الصينية، بل «كانت المخدرات أداة في بناء قوة استعمارية». وكان النبات يشكل جزءاً مهماً من الاقتصاد في مستعمرة الهند البريطانية. وفي كتابه «لعنة جوزة الطيب»، يستدعي غوش المذبحة التي اقترفها جان بيترزون كوين (1587 - 1629)، في جزر باندا في عام 1621 للسيطرة على احتكار جوزة الطيب. يطبق قوش الآن هذه الطريقة أيضاً على الأفيون. وكان قد سبق له أن كتب عن تاريخ الأفيون «ثلاثية إيبيس»؛ وتتضمن «بحر الخشخاش» (2008)، و«نهر الدخان» (2011)، و«طوفان النار» (2015). وروى فيها قصة سفينة العبيد، إيبيس، التي كانت تتاجر بالأفيون بين الهند والصين خلال حرب الأفيون الأولى (1839 - 1842).

يقول جان بريمان (1936) عالم اجتماع الهولندي والخبير في مواضيع الاستعمار والعنصرية وما بعد الكولونيالية، عن "لعنة جوزة الطيب": "ما الذي ألهم هؤلاء الهولنديين من (VOC) شركة الهند - الشرقية، بقيادة كوين لذبح جميع سكان جزر - باندا قبل أربعة قرون"؟ هذا السؤال يطرحه أيضاً الكاتب الهندي غوش في كتابه "لعنة جوزة الطيب". علماً بأن جوزة الطيب لا تنمو إلا في هذه الجزر. ويضيف بريمان:"«ليس من باب الاهتمام بما نعتبره نحن في هولندا النقطة السيئة في تاريخنا الاستعماري، ولكن لأن، عقلية شركة الهند - الشرقية الهولندية ما تزال منذ 400 عام تحركنا، بل إنها تغرقنا مباشرة في أزمة المناخ. وباختصار، تعتبر قصة الإبادة الجماعية في جزر - باندا بمثابة مَثَل لعصرنا، وهي قصة يمكن تعلم الكثير".

دولة المخدرات لشركة الهند - الشرقية

كانت هولندا أول من اعترف بالقيمة التجارية للأفيون، وهو المنتج الذي لم يسبق له مثيل من قبل. ولضمان توفر ما يكفي من الأفيون للتجارة، تم استخدام المزيد من المناطق في جزيرتي جاوة ولومبوك لزراعة الخشخاش. وتبين أن احتكار شركة الهند - الشرقية للأفيون كان بمثابة إوزة تضع بيضاً ذهبياً، فقد عاد الحاكم العام إلى هولندا في عام 1709 ومعه ما يعادل الآن "ثروة بيل غيتس" وقد يعود جزء من ثروة العائلة الملكية الحالية لهذه التجارة، بحسب غوش، نتيجة استثمارها الأموال في شركات الأفيون. وهكذا أصبحت هولندا "دولة المخدرات الأولى". ولكن تبين أن ذلك كان لا شيء، مقارنة بما فعله البريطانيون في الهند؛ وفقاً لغوش، فقد أتقنوا إدارة "أول كارتل عالمي للمخدرات".

ففي الهند، أجبر البريطانيون المزارعين على تحويل أراضيهم إلى حقول خشخاش والتخلي عن المحصول بأسعار منخفضة. ثم قاموا ببناء المصانع حيث كان على (العبيد) معالجة الأفيون وسط الأبخرة. ولم تكن السوق الهندية كبيرة بما يكفي، لذلك كان على الصينيين أيضاً أن يتكيفوا. ومع ذلك، يبدو أن الصينيين لم يكونوا مهتمين على الإطلاق بالتجارة مع البريطانيين. ويقتبس غوش رسالة من تشيان لونغ، إمبراطور الصين آنذاك، الذي كتب في رسالة إلى الملك البريطاني جورج الثالث في عام 1793: "لم نعلق أبداً أي قيمة على الأشياء البارعة، ولم تكن لدينا أدنى حاجة لمنتجات من بلدك".

لعب الأفيون دوراً مركزياً في الاقتصاد الاستعماري منذ عام 1830 فصاعداً. وتم إنشاء المزيد والمزيد من المصانع في الهند لتلبية احتياجات «المستهلك الصيني»، كما كتب الكاتب البريطاني Rudyard Kipling روديارد كبلنغ عام 1899 في تقريره «في مصنع للأفيون»؛ فرغم الرائحة الخانقة للأفيون، كان «الدخل الكبير» الذي حققه للإمبراطورية البريطانية أهم.

تضاعفت مساحة حقول الخشخاش في الهند إلى ستة أضعاف. ويوضح غوش بالتفصيل ما يعنيه هذا لكل من المجتمع الهندي والطبيعة في القرون التي تلت ذلك. فلا يحتاج نبات الخشخاش إلى الكثير من الرعاية فحسب، بل يحتاج أيضاً إلى الكثير من الماء، مما يؤدي إلى الجفاف واستنزاف التربة. كما شكلت تجارة الأفيون جغرافية الهند المعاصرة بطرق أخرى. وأصبحت مومباي مدينة مهمة كميناء عبور للأفيون في عهد البريطانيين. ولا تزال المناطق التي تم إنشاء معظم حقول الأفيون فيها في ذلك الوقت من بين أفقر المناطق في الهند.

يوضح قوش كيف يعمل التاريخ، وبالتالي يميز نفسه عن معظم الكتاب الذين تناولوا الموضوع ذاته.

كما أنه يرسم أوجه تشابه مع الحاضر، التي لا يجرؤ الكثير من المؤلفين على تناولها. ووفقاً له، لا توجد مبالغة في تقدير تأثير تجارة الأفيون الاستعمارية على الأجيال اللاحقة. فما أنشأه البريطانيون في المناطق الآسيوية لا يختلف عن عمل منظمة إجرامية - حتى بمعايير ذلك الوقت، كما يكتب غوش، وهذا ما زال قائماً.

إن رؤية ذلك والاعتراف به أمر بالغ الأهمية لأولئك الذين يرغبون في العمل من أجل مستقبل أفضل.

يوم أمس منح ملك هولندا ويليام ألكسندر جائزة إيراسموس لأميتاف غوش في القصر الملكي في أمستردام، تقديراً لعمل غوش، الذي يقدم، بحسب لجنة التحكيم، "علاجاً يجعل المستقبل غير المؤكد ملموساً من خلال قصص مقنعة عن الماضي، وهو يرى أن أزمة المناخ هي أزمة ثقافية تنشأ قبل كل شيء من الافتقار إلى الخيال".

***

نجاة تميم

...................

* نشر أيضا في جريدة الشرق الأوسط الإلكترونية والورقية، يوم 27 نوفمبر\تشرين الثاني 2024

عرّف أفلاطون العدالة بأنها: نظام في النفس يكفل لها جمالاً وانسجاماً.. ويلاحظ أرسطو إن الناس جميعاً يتفقون على إن العدالة في التوزيع يجب أن تجري وفقاً للاستحقاق إلا أنهم يختلفون في فهم المقصود من الاستحقاق.

الدولة القوية العادلة تفرض واقعاً ايجابياً على حياة وسلوك المجتمع، وقد يبدو غريباً ان القوة قدمت على العدالة هنا، ذلك ان الدولة الضعيفة لا تتمكن من فرض القانون على الجميع من دون استثناء فيتحقق الظلم وتنهار القيم الإجتماعية وتنحدر الأخلاق العامة وتتفشى الجريمة.

والقانون بدون عقوبة تفرض بالقوة لا يعد قانوناً بالمعنى الصحيح فلا يعدو في هذه الحالة عن كونه مجرد نصيحة للمخاطبين بحكمه للإلتزام بقواعده.

أما اذا كانت الدولة قوية وعادلة فإن ذلك مدعاة للتقدم الإجتماعي ولرقي الأخلاق والآداب العامة وإنخفاض مستوى الجريمة والفساد وحقائق التاريخ تؤكد ذلك.

وقد تنهض القوة لوحدها لفرض واقع إيجابي صوري مؤقت كما يحصل عادة في الأنظمة الدكتاتورية والأنظمة البوليسية إلا ان العدالة (للأسف) لا يمكن ان تنهض لوحدها دون قوة تحميها وتشدد القبضة على المجرمين والمارقين والفاسدين.

فينبغي أن تأتي القوة بمناسبتها والعدالة في وقتها وأن تجمعهما رابطة العلة بالمعلول.

العدل والعدالة؛

يميز الفقه الحديث بين فكرة العدل وفكرة العدالة؛ فالعـدل (Justice): يفيد معنى المساواة، وهي مساواة مرتبطة بالدور الاجتماعيللقانون، فالمفروض ان يطبق القانون بمساواة جميع الاشخاص والحالات التي يتناولها في مركز قانوني معين ولغرض معين بالذات وللهدف الذي يرمي اليه، فالمثل يعاملكمثله، وغير المتساويين لا يلقون معاملة متساوية، وهكذا قرر الرومان، كما جاء فيمدونة جستنيان، القاعدة القائلة بأن (مساواة غير المتساويين ظلم).

ويذهب خطيب روما الشهير سيشرون الى القول: (ان العدالة التي تساوي بين خيار الناس وأشرارهم هي ستار للظلم).

ويتحقق ذلك من خلال قواعد قانونية عامة مجردة تطبق على الجميع بنزاهة ودون محاباة وبعدالة ويقتصر دور العدل الشكلي هنا على بيان أن الإجراءات كانت عادلة لاناحدا لم يستثنى او يستبعد بشكل غير عادل من تطبيق القانون، لا فرق بين ام تسرق لإطعام أطفالها الجياع وبين من يسرق لإرضاء ملذاته وشهواته، مثلا. لأن العدل القانوني يعتد بالوضع الغالب الظاهر لا بالوضع الداخلي الخاص بالمخاطبين بحكمه.

اما العدالـة  (Equity): فتعني الشعور بالإنصاف وهو شعور كامن في النفس يوحي به الضمير النقي ويكشف عنه العقل السليم وتستلهم منها مجموعة من القواعد تعرف باسم قواعد العدالة مرجعها مثل عليا تهدف الى خير الإنسانية بما توحي به من حلول منصفة ومساواة واقعية تقوم على مراعاة دقائق ظروف الناس وحاجاتهم.

ان التمييز بين فكرتي العــدل والعدالــة هو السبب في ان كل الأنظمة القانونية شعرت بالحاجة الى إصلاح صرامة القانون من خلال الدعوة الى تفسير القانون بروح العدالة بدلا من التركيز على حرفية النصوص عندما يشعر القاضي ان الظلم بعينه يتحقق لوطبق القانون بحذافيره وهذه الحالة نجد تعبيرها في القول المأثور (الرحمة فوق القانون) الذي لا يعني إلا أن على القاضي ان يعالج الحالة الفردية الخاصة بروح العدالة. ووجدت هذه الفكرة تطبيقا في مظاهر متنوعة، ففي انكلترا انشأت منذ قرون ما يعرف بمحكمة العدالة للتحرر من جمود القانون العام الانكليزي وعلى اساس فكرة (ان العدالة تنبع من ضمير الملك) فيما اعتبرت قوانين أخرى قواعد العدالة او القانون الطبيعي مصدرا قانونيا احتياطيا يطبقه القاضي عند غياب النص، كما فعل المشرع المصري والعراقي.

ولأن قواعد العدالة فكرة نسبية فأن فقهاء القانون يميلون الى استخدام مصطلح العدالة الاجتماعية كفكرة واقعية يمكن صياغتها بوضوح في النصوص القانونية، ومن أهم مقومات العدالة الاجتماعية؛ المساواة والحرية وتكافؤ الفرص.

***

فارس حامد عبد الكريم

الهوية الإنسانية هي من فعل الفرد الكائن العاقل الذي يتأمل ويُفكّر، وتتجلّى هذه الهوية من خلال مواقف الإنسان الذاتية، ومن خلال المصالحة مع ذاته، المنسجم مع بديهيات الحكمة والعقلانية.

إن الهوية لا تعتمد نهائياً على أية مظاهر جسمية، ومن هنا ندرك أن أي اختلال لأي شخص في الذاكرة أو في قدرته على التفكير قد يتسبب في تشويه أو تبديل ماهيّة هوية الذات، بمعنى أن هذا التغيير يمسّ العقل وليس البدن.

فمن خلال فكره والمواقف التي يحققها هكذا إنسان تُبنى الهوية، التي لا تنفصل عن اندماجه وتفاعله مع مجتمعه.

ومن هنا ندرك أن مفهوم الهوية يعني تطابق الذات البشرية مع ذاتها، بمعنى أنها مستقرة ليست قابلة للتغيير.

لذلك قال الفيلسوف ديكارت " أنا أُفكّر إذن أنا موجود ".

لذلك نقول أن الفعل وأن العقل هو المحور الأساسي لمفهوم الهوية. طبعاً واجهت الهوية الكثير من التحديات، فمن خلال وسائل التواصل الاجتماعي والتطور والتكنولوجيا، يستطيع الإنسان أن يتمثّل في هوية جديدة له، أكثر تعقيداً أو أكثر تنوّعاً، ومن هذه الرؤية نرى أن الإنسان يستطيع أن يظهر في أكثر من هوية ويتفاعل مع الآخرين بأكثر من وجه من خلال مواقع مختلفة.

كما أن الغزو الثقافي أثّر بشكلٍ أو بآخر على ماهيّة الهوية، حيث أن العالم تشابك وتداخل في كل شيء، وأثّر كثيراً على الهوية المستقرة، وأصبحت قابلة أكثر من أي وقتٍ مضى، ومعرّضة للتشوّه من خلال تأثّرها بالثقافات الأخرى.

الفلسفة بشكلٍ عام تُعرّف الشخص بأنّه ذات عاقلة حرّة واعية تُدرك نفسها ومحيطها ومتأمّلة وذات أخلاق، الفيلسوف كانط قال عنه " كائنٌ أخلاقي "، لذلك نقول أن الأخلاق هي التي تحدّد الإنسان كإنسان.

ومن هذا المنطلق يُعرّف الفيلسوف جون لوك الشخص " بكونه كائناً مفكراً عاقلاً قادراً على التعقّل والتأمل.

والفيلسوف لوك " يرى أن الهوية لأي إنسان لا تُبنى فقط على العقل، بل على الذاكرة واستمرارية الوعي، فالشخص هو نفسه طالما يستطيع أن يتذكّر أفعاله وأفكاره عبر الزمن، ممّا يجعل الذاكرة العامل الأساسي في تحديد الهوية ".

وأيّاً كانت الأمور فإن مفهوم الهوية تتجلّى من خلال العلاقة بين الفرد والآخرين، ومن خلال الحوار المتبادل بينهم، ومن هكذا جدلية يكتسب الفرد الشعور الفعلي بالوجود وبالقيمة، وبالتالي تتجسّد مكانته في مجتمعه. ويجدر بنا أن ننوّه بأن مسألة الهوية تُعتبر معقّدة، أمام آراء الفلاسفة المختلفة، لكنها كمجمل وقواسم مشتركة، هي عملية مستمرة تتأثّر بعوامل منها داخلية وأخرى خارجية، وكلها ترتبط بالذاكرة وبالفعل وبالثقافة والمجتمع.

الهوية هي الوعي الذاتي بكلِ تأكيد، ولكن هذا لا ينفي علاقتها أو تأثّرها بالمحيط والمناخ الاجتماعي والثقافي.

العلاقة مع الغير يجب أن تكون ملتزمة بالأخلاق وبالقيم، وأن تقوم على التعاطف والتراحم، وبذلك نكون ومن خلال هذه العلاقة أوفياء من باب رد المعروف الذي قدّمته لنا الإنسانية.

ونأخذ بعين الاعتبار بأن هناك كثيرون يُعانون من أزمة الهوية، ويجهلون من يكونون حقاً، أمام هذه المتغيرات المتسارعة، وآخرون أيضاً تبنّوا هوية جديدة مختلفة عن هويتهم الأم، وهذا هو السبب الرئيسي المُسبب للضياع والانفصام والانفصال عن الذات.

إن الوضوح مطلوباً وخاصّة عندما نتحدث عن الهوية، لذا نرى أن الهوية هي ليست قضية فلسفية، بل هي مسألة إنسانية بحتة، ترتبط مباشرةً بمدى وكيفية فهمنا لأنفسنا وللمحيط القريب والبعيد، والعالم من حولنا. ومن خلال ارتباطنا بالهوية ودراسة ما هيّتها، نتعلم بكل ثقة كيف نتحوّل أو نكون أكثر إدراكاً ووعياً بأنفسنا، وكيف نتحاور ونتفاعل ونتعامل مع الآخرين، مع الالتزام بأدبيات الحوار واحترام التنوع والاختلاف.

الهوية دائمة التطور، فهي لا تنضب من التأملات والسمو.

الهوية جزء أساسي من حياتنا اليومية، وهي البوصلة التي تُوجّهنا، وتقيّم مواقفنا.

والتفكير في هويتنا بشكلٍ جاد يجعلنا نفهم أنفسنا وما يدور حولنا بشكلٍ أفضل، وبالتالي نستطيع أن نتفاعل مع الآخرين بكلِ وعيٍ وإدراك.

إنها الهوية التي كانت ولا تزال وستبقى محور إهتمام الإنسان على مر التاريخ.

لا ننكر أن هناك كثيرون ممّن تنكّروا حتّى لهويتهم، ومحيطهم وفكرهم بكل أسف.

الحرية جزء من وجود الإنسان، وهي أي الحرية تجعل الإنسان مشروعاً حراً قادراً على بناء مستقبله، وقادراً على الإختيار، وتحمّل مسؤولية اختياره، التي تجعله شخصاً يتمتع بكامل وعيه وإدراكه.

لذا الواقع لم يعد محتملاً، الرياح تهبُّ كما يحلو لها، وكثيرٌ من الناس أرى اليأس في وجوههم، حتّى الطرقات لم تعد تحتمل الثقل المفروض عليها، كما أن التجاعيد انتشرت على وجوه الناس، وكلّ الألوان باتت باهته كلوحةٍ تشكيلية مشوّهه.

الحوارات التي أسمعها فقدت معناها، حتّى المشاعر تلاشت وتهشّمت وأصبحت عبارة عن مصطلحاتٍ ليس إلاّ.

حتّى الإحساس المكتسب للدفاع عن الحقوق فقد معناه وأصبح وجهة نظر، تماماً مثل حقّ الرأي أو حق الرفض. أصبح البشر يطعنون في حقوق بعضهم البعض، إن كان في التفكير أو الإعتقاد، وانتشرت الأفكار المشحونة وتميل إلى الإنتصار على حساب هدف التنوير.

لا ألوم أحد، لكني آمل من الشباب أن يشعروا بشيءٍ واحد، أن يتذكروا آبائنا وأجدادنا وأسلافنا، نحن في عصر الانهزام، فقدنا هويتنا وأحاسيسنا ومشاعرنا، وأصبحت كل الانتصارات بلا طعم أو رائحة.

ولكن يجب أن أجد لذاتي موقع قدم، ولو بكلمةٍ واحدة في هذه الحياة. كل العالم يركض ليطارد ذاته بلا هدفٍ منشود، وأصبح الإنسان يركض فقط، ليس هروباً أو خوفاً من شيء، لكنه بدون توقّف يركض.

انسابت الهوية وانصهرت في أكواب الصالات المخملية، تختفي اللغة، يلحق بها التاريخ كما التراث. أرى أدباء العروبة يتلعثمون في لغتهم الأم، إلى أين نحن نمضي ؟، نسير حفاة على رمالٍ خبّأت لنا ألغاماً، تفجّر ثقافةً مُندسّة في شعوبنا في كل لحظة، تركنا كل شيء، تركنا العلم، تركنا العزة والكرامة، تركنا التاريخ والأدب، تركنا الفكر، ومن ثُمّ تركنا حدودنا للآخرين !. والهوية تكاد تلفظ أنفاسها الأخيرة.

لكن المواقف والانهيارات السلبية في جسد الأمة، تخلق رجالاً أشدّاء، كدائرةٍ مُحكمة، كي لا تكون النهايات بليدة وبلهاء. أفيقوا، استيقظوا جميعاً بغير ترددٍ أو خوف، وتأكّدوا أنكم تستطيعون التمسك من جديد بمشاعركم واحاسيسكم البريئة من المكسب، وأسرعوا للاحتفاظ بهويتكم، أنتم الأساس، ولا تتبعوا أو تُقلّدوا أحد، أنتم التاريخ، وأنتم اللغة، وأنتم الهوية والشجاعة.

***

د. أنور ساطع أصفري

يتردّد على مَسَامِعنا عند التحدّث عن بعض الأساتذة والباحثين هُنَا في الجزائر أن الأستاذ كذا مُتخصِّص في فلسفة كذا - لا نَقْصِدُ شَخْصًا بِعَيّنِه -، في فلسفة مدرسة فرانكفورت، في فلسفة "إدغار موران"Edgar Morin  (1921م)، في قضايا البيوإيتيقاBioethics ، في فكر "محمد أركون"Mohammed Arkoun  (1928-2010م)، في فكر "طه عبد الرحمان"Taha Abdurrahman  (1944م)، وغير ذلك، كدلالة توصيفية لتركّز بُحوثه ودِراساته حول فكرة مُعيّنة أو طُروحات شخصية فلسفية مُحدّدة، وبات الأمر بمَثَابة إنجاز أن يتمّ ربطّ اسم أستاذ ما بفيلسوف أو مُفكٍّر ما. ويمتدّ الحال إلى أمَرِّه أن تُختزل كلّ الانجازات البحثية لذلك الأستاذ حول أفكار ذلك الفيلسوف الذي وُصِف أنه مُتخصِّص فيه، فإذا تقرّرت مُشَاركته في مُلتقيات عِلمية أو استكتابات جماعية أو نشرّ مقال أو في إطار اقتراحه لموضوعات مُذكّرات تخرّج أو أطاريح دكتوراه، إلاّ ويُسَارع في طرح إشكالية من الإشكاليات التي تقترِن مُباشرة بأدواته المنهجية أو مقولاته المعرفية وجهازه المَفَاهيمي. وبالتالي يتحوّل إلى مُبشِّر بفلسفته أو على أقلّ تقدير إلى ناقِل ومُترجِّم لأفكاره بلُغة المَجَال التداولي الذي ينشُط فيه. إنّ حال التخصّص وتعميق الدِراسات حول أفكار فيلسوف ما يكون في غالبية الأحيان أنموذج البحث في مرحلة الماجستير / الماستر من ثمّ الدكتوراه؛ حيث يمنحه الباحث كلّ الوقت للانكباب على تصوّراته ومواقفه ومنهجه، له حُظوته العِلمية والأكاديميّة؛ إذ تجعله من أكثر العارِفين به، والمُشَار إليهم حين تقتضي الحاجة إلى توفير المادة العِلمية بُغية تحرير دِراسة عنه تُضاف إلى مجموع الدِراسات القائِمة سَلَفًا، وإذا كانت بحوثه المُنجَزة حوله لها من الرَّصَانة والدِقّة وقوّة الاستشكال والاستدلال صُنِّفَت على أنها من بين المراجع المُتخصِّصة والشارِحة. وبالمُجْمَل الاستنتاجي فإنّ صِفة المُتخصِّص المَمْنوحة تأتي على خلفية كثرة الاشتغالات البحثية ومَدَى قُوّتها ودِقّتها والأهمّ عودتها إلى المصادر، بالأخصّ في لُغتها الأصلية. بيد أنّ التخصّصية في جميع الحُقول المعرفية بالتحديد في الفلسفة، تحوّلت إلى لون من الاختناق البحثي والانحباس في أسوار أفكار فيلسوف مُعين، لَصيق بكلّ نَشَاطات الباحث، إلى درجة التّماهي فيها والتمّكين البائس لانسلاخ هُوّيته في هُوّية من جعله تخصُّصه. وتأتي هذه النتيجة على منوال كشفّ العِللّ الفاعِلة في كون دِراسات المُتخصِّص لا تعدو أن تكون إلاّ دِراسات تحليلية، تفسيرية ببعضٍ من المُقاربات والمُقارنات التي تنتهي بالاستنتاج، من دون تسجيل موقف نقدّي تشريحي يُسائِل أسُسّ تِلك الأفكار ويُسّقِط دلالاتها على الراهِن الفِعّلي المَعيش وليس المُصطنع الزّائِف بالنِسبة لأنموذج مُتخصِّصه وبالنِسبة إليه هو، ثمّ إنّ المُلاحظ على أغلب بحوث هؤلاء المُتخصّصين تُصبح مع كثرتها وسيّرورتها مُجرّد ترديد وإعادة نقل، بالأخصّ حينمَا يكون الفيلسوف مَدَار تخصّصه يَعْمَل على تأكيد أفكاره ومواقفه من خِلال التكرار، وهُنَا تنبغي الإشارة المُلِحّة إلى أن تكراره ليس من قَبيل أنه لم يَعُدّ قادِرًا على طرح الجديد، بل من قبيل العُنوّة الفلسفية التي تُفيد مَدَى المُراهنة على تصوّراته وتقديراته بالحجّة والمِثال. على خِلاف تكرار المُتخصِّص كتحصيل حاصِل لمَسّلَك التخصّصية الأقنوميّة. بالإضافة إلى نُقطة هامّة تتمثّل في أن حال التخصّص الكثير يمنع على صاحبه من تنويع رؤاه وتلوين نَشَاطاته وتغّذية مكتسباته، لتُمارس عليه التخصّصية إجراءات الاختزال في سيّاقها المعرفي والمنهجي والفصل حينمَا تقطع أوصاله البحثية عن بقية الإشكالات والقضايا والمُدَوّنات الفلسفية. ولا يُفهَم موقفنا على أنه ضَديد التخصّصية، أو تبخيس لجُهود المُتخصِّصين، الذين نُثمِّن لهُم ذلك وندعم البُحوث الجادّة والمُثمِرة، ونتّفِق حول صُعوبة الترجمة والمُعاناة في تحرّي المعنى المنصوصّ عليه في النصّ المَصّدري. لكنّنا نُريد تبيين النتائج السِلّبيّة المُترتّبة عن حال التخصّص المَفّصُول عن التنّويع والنقد. في هذا الصَدَدّ بالضَبطّ نجد أنفسُنا أمام حتّمية طرح جُملة من التساؤلات القَلِقَة ونحن نُقارب تحليليًا ونقّديًا ظاهرة ما فَتِئَت إلاّ وأن سَطّرت نفسها كنمط عِلمي موجود، وليس ببعيد أن تُصبِح مرتبة يتنافَس عليها المُتنافِسون، وعليه:

1. إلى أيّ مَدَى يمكن لصِفة المُتخصِّص أن تَنْهَضَ بحال البحث العِلمي وأن تُساهِم بشكلٍ فَعَّال في بلورة فكر جزائري قادِر على الإنتاج بعِلّمية دَقيقة وبفلسفية مُبدِعة؟ 

2. هل نحن بحاجة إلى المُتخصِّص أم إلى الموسوعي وبأخفّ معنى إلى مُتعدّد الدِراسات؟

3. كيف يمكن إعادة مَوْقَعَة المُتخصِّص لدينا بحيث يمنح الإضافة ويتحرّر من قيود التخصّصية المُغْلَقَة؟ 

4. هل يخدُم المُتخصِّص نفسه أم يخدُم أفكار مُتَخَصِّصِه؟

5. ما الذي ينقُصّ حتى نُرسِّخ ثقافة المُتخصِّص النقدي فينا الذي يخترِق الأفكار بالنِّقاش والنقد، ويَعْبُر من خِلالها إلى أفكار أخرى مُغايرة؟ هل النُقصّ الذي يعترينا مردُّه تفكيرنا وشُعورنا (الحالة الإدراكية والنفسية) أم بيئة العَمَل (الجامعة، الحالة الاجتماعية والسّياسية)؟      

- مُناقُشَة السُّؤال الأول:

لِصِفة المُتخصِّص أهميتها الثابِتة أكاديميًا؛ حيث تُمكِّن صاحِبها من أن يكون خَبيرًا بمَجَال عمَلِه من موضوعات وإشكالات ومُقاربات منهجيّة في التحليل والنقد. وتُركّز جُهوده حول نِقاط بحثية مُعيّنة مِمّا يجعلُه قادِرًا على الإنتاج بدِقّة وعُمق. ومنه يُمكن له أن يَنْهَض بحال البحث العِلمي من حيث تقدّم نِسبة الإنتاجية ومن حيث جودتها الخاصّة. لكن من زاوية أخرى، ومِثْلَمَا أوردنا فإنّ المُتخصّص المُنغلِق على موضوعات ومناهج أنموذج أو نماذج تخصّصه، يُصبِح التخصّص هُنَا بمَثابة سِجِن، يأسِره في نِطاق فكري مَخْصوص ينطلِق منه ويعود إليه. فمِن الناحيّة العِلميّة يُمكن له أن يُنتِج بدِقّة ورَصَانة، لكن من الناحيّة الفلسفية يجِد نفسه في افتقار إلى ذلك الانفتاح وإلى ذلك التنويع الذي يفتح أمام العقل إمكانات من أجل الأشكلة، استنباط الأفكار، ربّطِها ومُقاربتها ومُقارنتها، نقدِها وإعادة بناء معانيها. ثمّ إنّ الفكر المُعاصر في جميع شُعبه قد أسّس لمبدأ تكامُل العُلوم والمعارف، استنادًا إلى الحاجة البيّنيّة المنهجية والمعرفية، وضرورة تحاوُر التخصّصات والاستفادة من أدوات ومضامين بعضِها البعض. والأكثر إرساء مبدأ التحاوُر داخِل التخصّص الواحِد، بمَا يُتيح مُدَارسَة ومُبَاحَثة موضوعات مُتنوّعة، وهذا ما لا يُوفِّره التخصّص الأقنومي. وبالتالي ينبغي أن نُؤسِّس لمعنى المُتخصِّص الحِرَفي، المُنْفَتِح بذكاء على عِدّة قضايا وإشكالات وطُروحات، وعلى عِدّة تخصّصات خاصّة ضِمن الشُعبة الواحِدة، مثلاً في شُعبة الفلسفة: تخصّص الفلسفة اليونانيّة، الفلسفة الغربية، فلسفة العِلم، الفكر العربي. بالإضافة إلى ضرورة تحقيق نوع من التواصُلية الانفصالية، بين فكرنا وبين فكر الآخر، مع إلحاحيّة الانكباب تحليليًا ونقديًا على هُمومنا وما نَعيشه، على إمكاناتنا وما نفتقِر إليه. وإذا ما رَبَطّنا سياق مُنَاقشتِنَا بالفكر جزائري، فإنّ قُدرته على الإنتاج بعِلّمية دَقيقة وبفلسفية مُبدِعة موصولة بمَا ذكرناه مع شُّروط أخرى بالطبع لا يتّسِع المقام لتفصيل عرّضِها.  

- مُناقُشَة السُّؤال الثاني:

قدّ يتحجّج البعض أنّ الشخص الموسوعي ولّى عهده، وأنه ليس بدَقيق عالِم وعارِف بجميع التخصّصات؛ إذ لا يُمكِن الإحاطة الشامِلة بالتفاصيل ومُواكبة تغيرها وتطوّرها. وأن الدِقّة والإفادة تتطلّب التخصّص. إنّ هذا الموقِف له مشروعيته وأيضًا عليه مُؤاخذته، فالإقبال على دِراسة مُختلف الموضوعات من مُختلف الحُقول المعرفية من شُّروط حُصول التراكُم المعرفي ومنه تحقّق التكامُل المعرفي، ليس لُزومًا أن يحيط الدارِس الباحِث بكلّ ما يتعلّق بأيّ تخصّص، إنّمَا على الأقلّ أن يعلَم أهمّ المفاهيم، الإشكالات المَطْروحة والمناهج المُعتمَدة. وفي تقديرنا أن الأنْسَب والأنْفَع وِفق الحاجة هو تكوّن لدينا ثقافة مُتعدِّد الدِراسات كأخفّ معنى من الموسوعي كمَا جَرى التّوصيف، بحُكم مُستجدّات الراهِن العِلّمي وما تتطلّبه تنميّة البحث العِلّمي في الجامعة ومنه الجزائرية.  

- مُناقُشَة السُّؤال الثالث:

نَظَرًا لأهميّة المُتخصِّص والقيمة العِلّميّة والفلسفيّة التي يُقدِّمُها، مع الاعتراف بالوضعيّة السِلبيّة التي يضع فيها نفسه حينمَا يتحوّل إلى مُتخصِّص مُبشِّر أو مُتخصِّص أقنومي مركزي. ولذلك تتأسّس الضرورة التي تُصرّ على تفعيلها بأن يتمّ النَظَر بجدّية في كيفيّة إعادة ترتيب موضِعه أو كيفيّة صِياغة الأدوار التي يقوم بها من حيث تحريرها ومن حيث ضَمَانة فعاليتها الإنتاجية.

إنّ هذا السُّؤال المَخْفيّة علامة استفهامه، لا يُمكن تقديم إجابة ناجزة عنه أو مُكتملة الأركان على شاكِلة الحلّ الفوري والنِهائي، لكن لابُد من الاجتهاد وتكاثُف الجُهود وتكامُل الرؤى المَنْسوجَة بالنِّقاش الحُرّ والمَسْؤول. ولذلك نعتقِد في التّوصيات التاليّة سبيلاً من سُبلّ الإجابة بالحُلول:

- التشجيع على الإبداع والدعوة إلى الانفتاح على مُختلف الموضوعات والتخصّصات.

- دعم الباحثين الذين يُظهرون حقًّا سَعّيًا حَثيثًا للخُروج من قوقعة التخصّصيّة المُغْلَقَة، دعمًا ماديًا ومعنويًا بخُصوص بُحوثهم ودِراساتهم.

- تكثيف الدعوات بالانفتاح التخصّصي أو العِبر تخصّصيّة.

- استثمار الدِراسات المُنْجَزة في تخصّص مُعيّن أو شخصيّة بحثيّة ما أو حول موضوع مُحدّد، من ناحية تثمين نتائِجها ومن ناحية مُقاربتها مع موضوعات أخرى من داخل التخصّص أو من خارجه، على مِنوال المِثال: في تخصّص الفلسفة تمّ الاشتغال حول موضوع: "الفلسفة والرقمنة"، من هُنا يُمكن الانفتاح على إشكاليات التواصل، نحت المفاهيم، الأخلاقيات، الهُوّية، الإنسان، الماهيّة، والاستعانة بخبرات تخصّصات ثانيّة على غِرار تخصّص الإعلام والاتصال.

- مُناقُشَة السُّؤال الرابع:

يخدُم المُتخصِّص نفسه من حيث ربط اسمه بفكر مُتخصِّصه فيُصبح العارف به والشارِح لأفكار ورؤاه ومفاهيمه. وتتحوّل كتاباته واشتغالاته البحثية إلى مراجع كمَا أسلفْنَا الحديث. ثمّ إنه يُوفِّر عليه مُعاناة بحثية مُضافة ويجعله يُركّز اهتمامه عليه فقط. كمَا يُمكن القول أنه يخدم أفكار مُتخصِّصه من ناحية التعريف بها وشرحها ونقلها.

- مُناقُشَة السُّؤال الخامس:

يبدأ التغيير من النفس قبل أن ننتظِر ذلك من المُحيط الخارجي أو الآخرين، ولذلك على الباحثين أن يُغيّروا من طريقة تفكيرهم التخصّصي الاختزالي وأن يُوسّعوا من دائرة بُحوثهم، وأن يُمارسوا النقد البَنّاء الذي يخترق الأفكار ولا يرتهِن لها، بعدها يُمكن له طرح الجديد منها. وهذا لن يحصُل إلاّ من خِلال توفّر إدراك حَصيف بقيمة التنوّع البحثي من جهة ومن جهة ثانية القيمة الأكثر للمُتخصِّص النقدي؛ إذ يُمكّن له أن لا يتماهى في أفكار مُتخصِّصه وإنّمَا يدرُسها ويبحثُها بعيّنٍ فاحِصة مُسْتَبْصِّرة، مُنْفَتِحَة على مُراجَعَة ومُناقَشَة تِلك الأفكار. وعن مَكْمَن النُقص فإنّ العِلّة مُركّبة، منها ما يتّصِل بالحالة الإدراكية المعرفية والنفسيّة؛ أيّ ما يرتبِط بالباحث نفسه، ومنها ما يتّصِل بالبيئة المَبْنيّة على ثقافة التخصّصيّة الأقنوميّة في الجامعة أو خارج الفَضَاء الجامعي. وطبيعة التفكير الاجتماعي والسّياسي الذي لا يُشجِّع.

في الخِتام يُمكن الإقرار بأن التخصّصية حال بحثي مُهمّ له عوائده المعرفية والمنهجية القيّمة، ويعود بالنفعّ على صاحبه وعلى البحث العِلمي ككلّ. لكن إن يتحوّل إلى أسر أكاديمي هُنَا يُصبح التخصّص وضعية سِلّبيّة ينحصِر المُتخصِّص في إطارها ويجد نفسه مشدودًا بقوّة إلى أفكارها وإشكالاتها. ومن خيرة الفِعل أن ينفتِح المُتخصِّص قدر الإمكان على مُختلف الموضوعات والمُقاربات الفكرية والأدوات المنهجية مع الحقّ في تخصيص حيّز زماني لتركيز البحث حول أنموذج مُحدّد أو موضوع مُعيّن.                  

***  

د. شهرزاد حمدي، جامعة محمد لمين دباغين سطيف2، الجزائر

تخصّص فلسفة عامة

قلت قبل أسبوعين إن «العقل العملي» يهتم في المقام الأول بتمهيد العلاقة بين الفرد ومحيطه الاجتماعي. وضربت مثالاً باختيار نوع الملابس واللغة وطريقة الكلام، وبقية العادات التي تجعل الفرد شبيهاً بالآخرين في محيطه، وبهذا المعنى فالعقل لا يُبدع شيئاً، بل يعيد إنتاج الثقافة الموروثة، وما يستند إليها من أعراف وعادات وطرائق عيش.

لا بأس هنا باستدراك أظنه ضرورياً كي لا يظن قارئ أن عقلاً كهذا لا نفع فيه: فالجانب الأعظم من حياة الإنسان، مؤلف من تفاعلات مادية أو فكرية مع الناس والطبيعة. وهو في كلتا الحالتين، يحتاج إلى تقبل الآخرين لشخصه وتصرفاته. وفي هذه العملية يلعب العقل العملي دوراً مؤثراً، فهو يُصمم الطرق المناسبة للتعامل مع الغير على نحو يُحقق الهدف المنشود. إن افتقار الإنسان للعقل العملي، يماثل تماماً افتقار المسافر لوسيلة السفر التي تحمله إلى مقصده. بهذا المعنى، فإن العقل العملي هو أداة العيش، وهو ضرورة للعيش، ولولاه لربما بات الإنسان غريباً منفرداً، أو دائم الهروب مثل حيوان متوحش.

أما وقد وصلنا إلى هذه النقطة، فقد حان الوقت لبيان أن هذا المعنى على وجه التحديد، هو الذي يوجب على الإنسان أن يكون متواضعاً، إذا خالفه الآخرون في فكرة أو رأي أو مذهب. الأفكار التي نحملها أنا وأنت وغيرنا من الناس، تنتمي في الأعم الأغلب إلى توافقات اجتماعية، أخذنا بها لأننا نعيش في وسط جماعة، فلم نبتكرها بأنفسنا، ولا وضعناها على طاولة المقارنة مع الأنماط البديلة كي نختار ما هو أفضل. بل حتى لو اخترنا ما نظنه أفضل، فما الميزان الذي نرجع إليه في تحديد القيم التي نلقيها على هذا الجانب أو ذاك، قبل أن نقارن بينهما... أليس هو ذات الميزان الذي تشكّل في ذهني وذهنك تحت تأثير المحيط الاجتماعي؟

منذ نعومة أظفاره، يتشرّب الفرد الثقافة السائدة والأعراف والعادات المستقرة، والأخلاقيات المعيارية التي تتبناها الجماعة، فيتشكل على ضوئها عقله وذاكرته، أي الطريقة التي يفكر بها ويعيش، والمعايير التي يرجع إليها في الحكم على الأشياء. وحتى حين ينتقل الفرد إلى جماعة جديدة، كأن يتحول من دين إلى آخر، أو من مذهب إلى آخر، أو يهاجر من بلد إلى آخر، فإنه يعيد تشكيل ذهنه وذاكرته، أي منظومته العقلية، على ضوء الثقافة السائدة في بيئته الاجتماعية الجديدة، أي أنه -بعبارة أخرى- ينتقل من تقليد إلى تقليد. هذه حالي وحالك وحال الأغلبية الساحقة من سكان هذا الكوكب.

أقول الأغلبية الساحقة، وليس الجميع؛ لأن هذا الكوكب يحوي أيضاً أقلية صغيرة من السكان، يُمثلون «العقل المنشئ» حسب تعبير أندريه لالاند، أو العقل النظري حسب التعريف الموروث من فلاسفة اليونان. واضح من اسمه أنه عقل لا يلتزم بالتوافقات الاجتماعية، بل ربما كان شغله هو نقض الأساس الفلسفي/ المنطقي الذي تقوم عليه تلك التوافقات، وما يتعلق بها من معايير وقواعد.

لا يتسع المجال لتفصيل القول عن العقل في هذا الدور، لكن تهمني الإشارة إلى فارق مهم بين تعريف لالاند وتعريفات مَن سبقه. فهؤلاء قرروا أن العقل «نظري»، بمعنى أنه منشغل بمعادلات ذهنية، لا يترتب عليها أي عمل، ولا ترتبط بقضايا الواقع ربطاً مباشراً. أما لالاند فقال إنه «منشئ»، بمعنى أنه يخلق الأفكار الجديدة من عدم، أو أنه ينطلق من فكرة قائمة، فيتجاوزها إلى مسافات وراءها لم تكن موجودة قبلئذ، أي أنه يخلق المسافات والمساحات، ويملؤها بالسكان، أي الأفكار.

على أي حال، فإن تلك الأفكار النظرية، هي التي تُشكل الأساس للتطبيقات وعلوم الواقع، مثل الرياضيات التي على أرضها بني الكمبيوتر وتطبيقاته وحسابات السفر والإحصاء وأمثالها. وأظن أن الفكرة قد اتضحت بما يغني عن مزيد البيان.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

في الوقت الذي كُتب الكثير مثلا عن الذكرى السنوية للثورة الروسية التي حدثت في عام 1917، هل تسائلنا أن هذا الحدث السياسي والاجتماعي البارز ربما لم يكن ليحدث لو لم ينشر كارل ماركس قبل ذلك بخمسين عامًا كتابه النظري الأساسي، المجلد الأول من " رأس المال ."

إن الدراسات الأحادية المهمة، في واقع الأمر، قادرة على تغيير مسار تطور المجتمعات، بل وحتى زعزعته. على سبيل المثال، يمكن الإشارة إلى القوة الهائلة للتغيير الثقافي والاجتماعي التي أطلقها كتاب " تفسير الأحلام" لسيغموند فرويد. أو النظر إلى التأثير العميق الذي أحدثته أعمال تجديدية أخرى نُشرت في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، مثل " أساطير اليوم" لرولان بارت، و"أبوكاليبس" و"مندمجون" لأومبرتو إيكو، و"وسائل الاتصال" لمارشال ماكلوهان.

الدراسة الأحادية، يمكن أن تولّد قوة تغيير هائلة في المجتمع. فالتطور في الفكر العلمي وكذلك في الثقافة الاجتماعية اعتمد تاريخيًا على هذا النوع من الإنتاج النظري. ومع ذلك، تجدنا اليوم نتخلى تدريجيًا عن هذه الأداة الحيوية.

ما الذي يحدث؟

الجامعات العالمية تتخلى عن نموذج الإنتاج الثقافي القائم على الدراسات الأحادية، الذي كان لسنوات طويلة جزءًا أساسيًا من هويتها. القوانين الجديدة التي وُضعت لتقييم الأبحاث الأكاديمية من قبل وزارات التعليم العالي بدأت تقلل تدريجيًا من قيمة الدراسات الأحادية. في الوقت الحالي، تُمنح المقالات المنشورة في المجلات العلمية المصنفة ضمن الفئة "A" قيمة أعلى من الدراسات الأحادية. ومع ذلك، من الواضح أن كتابة مقال علمي تتطلب من الباحث جهدًا أقل بكثير مقارنة بإعداد دراسة أحادية. فالمقال، في المتوسط، لا يتجاوز طوله عشر صفحات، وهو ما يعادل عُشر حجم الدراسة الأحادية تقريبًا. وهذا يعني أنه لا يمكن للمقال أن يقدم تحليلًا عميقًا أو حججًا متكاملة كالتي تتميز بها الدراسات الأحادية.

لا يعني ذلك بالضرورة أن يكون الكتاب الثوري عملًا ضخمًا أو طويلًا. فقد يكون نصٌ مثل " الموضة" لجورج زيمل لا يتجاوز خمسين صفحة، لكنه بعد أكثر من قرن من نشره ما زال يُعتبر المرجع الأساسي للتأمل النظري في مفهوم الموضة. كما أن عملًا آخر لا يتجاوز مئة صفحة، مثل " إنتاج السلع بواسطة السلع" لبييرو سرافا، استطاع بدوره أن يُحدث ثورة في المفهوم السائد للنظرية الاقتصادية في القرن العشرين. ما يهم حقًا هو أن يكون الكاتب قادرًا على تشكيل عمله بأقصى حرية، بحيث يتمكن من التعبير عن أفكاره بوضوح وإبداع.

على النقيض، يواجه الكاتب عند إعداد مقال لمجلة علمية قيودًا صارمة، إذ يُطلب منه الالتزام بقالب دولي صارم لا يتيح له مساحة كافية للإبداع أو التجديد. وبالتالي، تضيع تلك القدرة التي تمتاز بها الدراسات الأحادية على إفساح المجال أمام الأفكار الجديدة. كما أشار الفيلسوف روبرتو إسبوزيتو في مجلة لإسبريسو: "هل يمكن أن نتخيل، في مجال الفلسفة، أن هابرماس ودريدا يبحثان عن مجلات من الفئة (A) لكتابة اثني عشر مقالًا صغيرًا؟" هل يمكن أن نتخيل هذين العملاقين الفكريين يتخليان عن قوة تأملاتهما المبتكرة التي يعبرون عنها في دراسات أحادية عميقة، لمجرد الامتثال إلى قالب مجلة علمية دولية؟

إن قضية الاختفاء التدريجي لنموذج الدراسة الأحادية من المشهد الثقافي لا تحظى باهتمام كبير اليوم، لكنها في غاية الأهمية. صحيح أننا نعيش في عصر الاتصالات الفورية وسرعة الإنترنت، لكن يجب أن نتساءل إذا ما كانت مجتمعاتنا قادرة على الاستغناء عن العمق والتأمل اللذين يوفرهما هذا النموذج من الإنتاج الفكري. هل يمكننا أن نسمح لأنفسنا بإضعاف قدرتنا على إنتاج ثقافة ذات قيمة حقيقية؟

***

الأستاذ محمد إبراهيم الزموري

تمهيد: في خضم التحديات التي يواجهها نظامنا التعليمي، تتسلل الى نفوسنا احيانا شعور بالاحباط. ولكننا نؤمن بأن الازمات تحمل في طياتها فرصا للنهوض والتغيير. فبينما نودع عاما اخر ونستقبل عاما جديدا، تتجدد امالنا بتغيير جذري في منظومتنا، وبناء نظام تعليمي عالي الجودة، قادر على تلبية تطلعات مجتمعنا وتحديات المستقبل.

مقدمة

يشكل التعليم العالي ركيزة اساسية للتنمية المستدامة، الا ان نظام التعليم العالي الحالي يعاني من تدهور ملحوظ، مما يؤثر سلبا على قدرة الجامعات على اعداد خريجين مؤهلين لسوق العمل وتلبية طموحاتهم وتطلعاتهم المهنية. فكيف يمكننا تحويل تحديات التعليم العالي الى فرص؟ وكيف يمكننا بناء نظام تعليمي قادر على انتاج اجيال من المبدعين والمبتكرين؟ ان الاجابة على هذه الاسئلة تتطلب جهدا جماعيا ووضع استراتيجيات شاملة لاصلاح التعليم العالي، بما في ذلك تحديث المناهج الدراسية وتطوير الكوادر الاكاديمية والاستثمار في التقنيات الحديثة وتعزيز البحث العلمي النزيه وبناء شراكات فعالة مع الجامعات العالمية.

مقترحات

المقترحات التي نقدمها قد تبدو صعبة المنال، لكنها ضرورية كالهواء لانقاذ تعليمنا العالي من الانهيار. وقد تبدو طموحة، ولكنها وحدها القادرة على اطلاق العنان للإبداع والابتكار في جامعاتنا. لا مجال للتسويف او التردد، فالتحديات التي تواجهنا تستدعي حلا جذريا وشاملا. وبتطبيق هذه الرؤية، سنعيد لجامعاتنا مجدها، ونضمن لأجيالنا القادمة مستقبلا أفضل:

1. تعيين القيادات الجامعية على اساس الكفاءة وتفكيك نظام المحاصصة بالكامل. لابد من اعتماد مبدأ الشخص المناسب في المكان المناسب، وانتهاج اسلوب لجذب الاكاديميين المتحمسين والمؤهلين الى مناصب ادارية عليا في الجامعات.

2. التخلص من اصحاب الشهادات الزائفة والفاسدين والمتقاعسين في الجامعات، واتخاذ اجراءات حاسمة مثل تشديد الرقابة على منح الشهادات، وتطبيق عقوبات رادعة على المزورين والمرتشين، وتطوير اليات فعالة لتقييم اداء الموظفين، وابعاد غير الاكفاء منهم. كما يجب العمل على تعزيز قيم النزاهة والشفافية والمساءلة في جميع المؤسسات.

3. تشكيل مجالس امناء للجامعات، تضم خبراء من مختلف المجالات، لتعزيز الحوكمة المؤسسية وتحسين أداء الجامعات. تقوم مجالس الأمناء، بصفتها هيئات مستقلة، بوضع الخطط الاستراتيجية للجامعة والموافقة على الميزانية وتعيين القيادات العليا وتقييم الأداء وبناء الشراكات. من خلال هذه المهام، ستساهم مجالس الأمناء في تعزيز الشفافية والمساءلة وتحسين جودة التعليم والبحث العلمي وجذب الاستثمارات، مما يجعل الجامعات أكثر قدرة على مواجهة التحديات المعاصرة وتلبية احتياجات المجتمع. كما ستساهم الخبرة المتنوعة لأعضاء مجالس الأمناء في ضمان اتخاذ قرارات استراتيجية تتناسب مع احتياجات الجامعة والمجتمع على حد سواء.

4. اتباع نهج جديد في التعليم يركز على تطوير مهارات التوظيف لدى الخريجين، من خلال تبني منهجيات مبتكرة تستثمر في القدرات الإبداعية والتفكير النقدي. ويجب أن تتضمن المقررات الدراسية بشكل مباشر المهارات التي يبحث عنها أصحاب العمل، مثل التفكير النقدي، البرمجة، حل المشكلات، القيادة، التنظيم، المرونة، التوثيق، التواصل، والأخلاق المهنية، وذلك لضمان خروج خريجين مؤهلين لسوق العمل ومتسلحين بالمهارات اللازمة للنجاح.

5. التأكيد على اهمية اشراك أرباب العمل والوزارات المعنية والهيئات المهنية في تصميم وتقييم البرامج والمقررات الدراسية. يمكن تحقيق التعاون من خلال تأسيس مجالس استشارية تضم ممثلين عن جميع الأطراف المعنية، وتنظيم ورش عمل ومؤتمرات دورية لمناقشة التطورات في سوق العمل ومتطلبات المهارات. كما ستتيح الاستفادة من الخبرات الدولية في تطوير المناهج الدراسية ورفع جودتها.

6. ادماج ضمان جودة المناهج كمسؤولية مشتركة بين المؤسسات التعليمية وهيئة تنظيمية مستقلة لضمان الجودة والاعتماد الاكاديمي. يتطلب ذلك التعاون بين وزارة التعليم العالي وهيئة ضمان الجودة لتطوير معايير وطنية لضمان جودة المناهج، وتبادل الخبرات والممارسات الجيدة، وتأسيس شبكات وطنية لدعم الجودة في التعليم العالي.

7. تطوير نظام تقييم شامل للبرامج الدراسية والكوادر الأكاديمية، يعتمد على معايير دولية متفق عليها. يساهم هذا النظام في ضمان جودة التعليم وتحسين اداء المؤسسات التعليمية، ورفع تنافسيتها على المستوى الإقليمي والدولي. وبالاضافة للتقييم الدوري للمناهج الدراسية يجب ان يشمل التقييم أداء أعضاء هيئة التدريس ورضا الطلاب ومخرجات التعليم. كما يجب ان يتم تقييم الكفاءات والمؤهلات العلمية لأعضاء هيئة التدريس بشكل دوري، وتوفير برامج تدريبية لتطوير قدراتهم. من خلال هذا النظام، يمكن تحديد نقاط القوة والضعف في البرامج والكوادر وتوجيه الجهود نحو تطويرها وتحسين جودة التعليم بشكل عام.

8. توفير برامج تدريبية مستمرة ومتخصصة للأكاديميين، تغطي احدث التطورات في مجالاتهم، وذلك لضمان تحديث معارفهم ومهاراتهم، وتمكينهم من تقديم تجربة تعليمية غنية ومواكبة للمتغيرات العالمية.

9. ادخال مشاريع وبحوث التخرج كشرط للحصول على الشهادة. واعتماد القدرة على التحدث بلغة اجنبية اساسا للحصول على شهادة التخرج.

10. الانتقال من النمط التقليدي للتلقين الى بيئة تعلم ديناميكية تشجع على التفكير النقدي والابداع، وتتيح للطلاب الوصول الى مصادر معلومات متنوعة، مما يمكّنهم من بناء معرفة متينة ومهارات تفكير عالية.

11. التخلي عن النظام الحالي في قبول الطلبة بناء على نتائج البكلوريا فقط، واستبداله بنظام قبول متعدد المعايير يعتمد على تقييم شامل لقدرات الطالب وميوله واهتماماته، بالاضافة الى ادائه. يمكن تحقيق ذلك من خلال إجراء اختبارات قدرات متنوعة، وربط التقييم بمعايير محددة لكل تخصص. ومع ذلك، يجب الحرص على توفير الدعم اللازم للطلاب الذين يواجهون صعوبات في التكيف مع النظام التعليمي الجديد، وتطوير برامج تدريب مهني لمساعدتهم على اكتساب المهارات المطلوبة في سوق العمل وذلك باضافة سنة تحضيرية الى سنوات الدراسة الجامعية.

12. الغاء الازدواجية في القبول الجامعي والمتمثلة في تعدد القنوات والفرق في معدلات القبول بين الجامعات الحكومية والاهلية، وضمان تكافؤ الفرص بين جميع المتقدمين.

13. تأكيد مبدأ مجانية التعليم والبحث العلمي في الجامعات الحكومية، وتجسيد هذا المبدأ على ارض الواقع من خلال إلغاء جميع الرسوم الدراسية والإدارية والبحثية المفروضة على الطلاب. تقع على عاتق الدولة مسؤولية توفير الميزانيات اللازمة لتمويل الجامعات الحكومية وتوفير البنية التحتية اللازمة وتوفير الأجهزة والمعدات والمواد اللازمة للدراسات وللبحث العلمي.

14. اخضاع الجامعات الاهلية لحوكمة خاصة تضمن تحقيق اهداف غير ربحية بحيث يتم اعادة استثمار اي فائض مالي في الجامعة نفسها لتطوير البنية التحتية، وتوفير برامج جديدة، ورفع رواتب اعضاء هيئة التدريس، وغيرها من الانشطة التي تعود بالنفع على الطلاب والمجتمع.

15. بناء عدد من النماذج الرائدة لتزويد الطلاب بالوسائل والادوات اللازمة للتعلم الفعال من خلال توفير الفصول الدراسية الذكية، والمكتبات الرقمية، والمساحات المشتركة للتعلم التعاوني، مما يشجع على التفكير النقدي والابداع، وتبني مبادرات مبتكرة مثل برامج التبادل الطلابي، وبرامج التدريب المهني، ومبادرات التعليم مدى الحياة لغرض توسيع افاق الطلاب، وتزويدهم بالمهارات والمعارف اللازمة للنجاح في عالم متغير باستمرار.

16. تحويل الجامعة الى مؤسسة مجتمعية متكاملة، تقدم خدمات متنوعة تلبي احتياجات المجتمع المحلي. يمكن تحقيق ذلك من خلال إشراك المجتمع في الأنشطة الجامعية، وتقديم الخدمات الاستشارية للمؤسسات الحكومية والخاصة، وتنظيم الفعاليات الثقافية والعلمية وتساهم في حل المشكلات التي يعاني منها المجتمع المحلي، وبناء شراكات قوية مع المؤسسات الحكومية والخاصة والمنظمات غير الحكومية. من خلال هذه الشراكات، يمكن للجامعة أن تلعب دوراً محورياً في التنمية المستدامة للمجتمع.

17. تحسين القدرة على البحث العلمي النزيه باعتباره امرا بالغ الأهمية لحل المشكلات المجتمعية المعقدة. من خلال الاهتمام بالعمليات والرقابة والتقييم، يمكن ضمان موثوقية النتائج ودقتها. كما يمكن للبحث العلمي النزيه ان يساهم في تطوير حلول مبتكرة ومستدامة للمشكلات التي تواجه المجتمع، وتحسين جودة حياة الناس. كما لابد من العمل على تعزيز ثقافة النزاهة في الأوساط البحثية والأكاديمية، وتوفير الدعم اللازم للباحثين لتمكينهم من إجراء ابحاث عالية الجودة والموثوقية.

18. اعادة هيكلة نظام الترقيات لجعله اكثر عدالة وشفافية، بحيث يعكس المساهمات الفعلية للباحثين في تطوير المعرفة وخدمة المجتمع. فقد ادى التركيز المفرط على النشر العلمي في نظام الترقيات الى جعل الجوانب الأخرى من العمل الأكاديمي، مثل التدريس والتوجيه وخدمة المجتمع، ثانوية. يمكن تحقيق ذلك من خلال فصل الترقية العلمية عن الترقية الوظيفية، وتطوير معايير تقييم جديدة تأخذ في الاعتبار جودة البحث وتأثيره، بالاضافة الى المساهمات في تطوير التدريس والتوجيه وخدمة المجتمع.

19. الحد من الجمود الهيكلي في نظام التعليم العالي ومنح الجامعات استقلالية ادارية واكاديمية واسعة الصلاحية، مما يتيح لها تطوير برامج دراسية مبتكرة تلبي احتياجات المجتمع وتساهم في التنمية المستدامة.

20. اعادة هيكلة الجامعات لتشجيع التكامل بين التخصصات المختلفة، وتعزيز التعاون بين الباحثين، وتقليل التكرار في البرامج الدراسية. ان التجزئة المفرطة للكليات والأقسام والتوسع اللامعقول في الاختصاصات قد ادى إلى تشتت الموارد وتقليل التعاون بين الباحثين والأكاديميين. من خلال دمج الكليات والأقسام المتشابهة، وتوحيد البرامج الدراسية المتكررة، وتشجيع التعاون بين الباحثين، يمكننا بناء جامعات أكثر كفاءة وقدرة على مواجهة التحديات المعاصرة.

21. التاكيد على اهمية الحريات الاكاديمية واحترام حرية الراي كركيزة اساسية للتقدم العلمي والابداع، بحيث يسمح للباحثين والاكاديميين بحرية التفكير والتعبير عن ارائهم دون قيود.

ختاما، تحسين واصلاح التعليم العالي والجامعات في العراق هو عملية مستمرة تتطلب التزاما طويل الاجل من قبل الحكومة والجامعات والمؤسسات المعنية. من خلال اتخاذ الخطوات المذكورة اعلاه، يمكن للعراق ان يبني نظام تعليم عالي قادر على انتاج اجيال من الخريجين المؤهلين لسوق العمل، والمساهمة في التنمية المستدامة للبلاد.

***

ا. د. محمد الربيعي

*  بروفسور متمرس ومستشار علمي، جامعة دبلن

 

" أعظم المراقبين لكيفية تاثير المال على الناس وإفساد المؤسسات ليسوا، كقاعدة عامة، أولئك الذي يمتلكونه، بل هم أولئك الذين يعيشون ويعملون بالقرب منهم. كما أدرك الروائي الأمريكي الشهير ف. سكوت فيتزجيرالد قبل قرن من الرمان. وهذه الرؤية هي التي تلهم عالمة الاجتماع بروك هارينجتون في كتابها الجديد اللاذع "الثروة الخفية والاستعمار الجديد".

في كتابها هذا، تحاول هارينجتون ان تجيب على عدد من التساؤلات. فيما يتتبع الكتاب استخدام الأثرياء لبنوك الافشور لتجنب الضرائب، والالتفاف على القيود المالية، وتجنب العواقب القانونية ــ و"تقويض الديمقراطية، فضلاً عن الرأسمالية" في هذه العملية، كما تقول المؤلفة.

وهذا بدوره يقودها إلى منطقة الافشور الغامضة للغاية، وهو عالم يضم كل شيء من الشركات المجهولة في ديلاوير إلى "الملاذات المالية الطرفية" مثل جزر كوك وبنما وجزر الباهاما، حيث يتألف جزء كبير من الاقتصاد من "مساعدة الأجانب الأثرياء على انتهاك قوانين بلدانهم". ويقدر الخبير الاقتصادي غابرييل زوكمان أن إجمالي الثروة الخارجية تمثل 10% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي وأن هذا التهرب الضريبي المؤسسي يكلف 200 مليار دولار من العائدات العالمية سنويا.

لا شك أن هذه المسالة تحتاج بشدة إلى دراسات علمية. فالجميع، من القِلة الحاكمة في روسيا إلى الطغاة في العالم الثالث، يستغلون عالم المال السري المتنامي باستمرار، والذي يتألف من شركات وهمية مجهولة الهوية وتفسيرات غامضة لقوانين غير واضحة. وتساعد مجموعة من المحتالين من الحكومات والمحامين والمحاسبين أغنى الرجال والنساء في العالم في إخفاء أموالهم ــ ليس فقط عن مأموري الضرائب، بل وأيضاً عن المنافسين السياسيين ورجال الأعمال، ناهيك عن الزوج السابق في بعض الأحيان.

ولكن هارينجتون سرعان ما تصطدم بالجدران الفولاذية في محاولتها لمعرفة المزيد عن هذا النظام السري للثروة، إلى أن تتذكر شيئاً لاحظته لأول مرة عن العائلات الغنية التي واجهتها عندما كانت طفلة: نادراً ما يفعلون أي شيء لأنفسهم. إنهم يحتاجون إلى المساعدة، حتى في شيء عادي مثل تغيير مصباح كهربائي. وينطبق نفس الشيء عندما يتعلق الأمر بشيء مهم مثل إدارة واستثمار الأموال. لذا تحصل هارينجتون على اعتماد في إدارة الثروات، وتتخصص في هدفها، بنوك الافشور. ستدرس الأثرياء من خلال دراسة مستشاريهم الماليين وممكنيهم.

وبينما كانت تجري بحثاً ميدانياً في هذا النظام، كانت التبريرات التي تسمعها لا حصر لها. فقد تم تقديم التمويل الخارجي إلى الدول المستقلة حديثاً بعد الحرب العالمية الثانية كوسيلة للازدهار المالي مع التمسك بأسيادهم السابقين. ويمكننا أن نطلق على ذلك شكلاً من أشكال "مقاومة ما بعد الاستعمار". وينكر العديد من مديري الثروات الذين يمكّنون التمويل الخارجي خطورة ما يفعلونه ــ وإن لم يكن كلهم!. ويقول أحد هؤلاء المسؤولين الماليين لهارينجتون: "معظم ما نقوم به هو أعمال مكتبية"، ولكن هذا مجرد نوع آخر من اختلاق الأعذار. فالأمر لا يتعلق فقط بالأعمال المكتبية.

ولكن على النقيض من ذلك، فإن هؤلاء الرجال المتناقضون أحيانا، ولكنهم متباهون في كثير من الأحيان يسهلون عن غير قصد تدمير الاقتصادات، ناهيك عن الأنظمة السياسية، في جميع أنحاء العالم. ويتعاطف عدد منهم أكثر مع عملائهم الأثرياء. ويقول أحدهم: "إن الديمقراطية الاجتماعية تخلق مطالب كبيرة للغاية على خالقي الثروة". والأموال المفقودة الناتجة (على الأقل من خزائن الدولة) ليست جزءا صغيرا من الانهيار المستمر لكل من خدماتنا العامة وثقافتنا السياسية. وكقاعدة عامة، تتراجع الديمقراطية مع ارتفاع التفاوت في الثروة. كما أنها تشوه اقتصاد الحياة اليومية. لقد تسببت الأموال المجهولة في ارتفاع قيمة كل شيء من الفنون الجميلة إلى العقارات، حيث يلجأ الأثرياء في تبييض أموالهم في أصول بديلة وفي شقق سكنية في مدن مثل نيويورك ولندن.

في حين يستفيد الأغنياء بشكل كبير، فإن هذا لا يساعد حقًا سكان الملاذات الضريبية العالمية المتنوعة. نادرًا ما يتدفق النقد إليهم. بدلاً من ذلك، يستمر العديد منهم في العيش في فقر وشبه فقر، حتى مع الازدراء العلني لقوانين الضرائب في الدول الأخرى مما يؤدي إلى زيادة الازدراء لقوانينهم الخاصة، وكل شيء يزداد من الفساد البسيط إلى الجريمة العنيفة. يقول صياد في جزر كوك لهارينجتون: "الجميع يطلقون علينا جزر التحايل الآن"، بينما كانت مدينة بنما، وهي وجهة مفضلة أخرى، وبها واحدة من أعلى معدلات الجريمة في العالم.

وتقول هارينجتون "إن كان هذا يبدو مألوفاً بعض الشيء، ذلك أن مصطلح "الافشور" في حد ذاته يشكل تسمية خاطئة إلى حد ما. فالولايات المتحدة هي الوجهة الأولى لأولئك الذين يرغبون في إخفاء الأموال، وذلك بفضل بعض فضائلنا الوطنية: التراخي التنظيمي، والفساد القانوني. فلماذا نكلف أنفسنا عناء التعامل مع جزر الباهاما إذا كانت شركة ديلاوير السرية كافية؟

وتضيف "إن هذا التكتم مسبب للتآكل بطريقة أخرى أيضاً. ذلك أن نفس القوانين وأساليب الاستثمار المالي التي تمكن من التهرب الضريبي مسؤولة أيضاً إلى حد كبير عن تدفق الأموال المشبوهة إلى سياستنا. وهذا سبب آخر يجعلنا نتمتع بأفضل حكومة يمكن شراؤها بالمال ــ لصالح النخبة الثرية. فقد وجدت دراسة أجراها قبل عقد من الزمان مارتن جيلينز، الذي كان يعمل آنذاك في جامعة برينستون، وبنجامين بيج من جامعة نورث وسترن، أن تصرفات وسياسات الحكومة الأميركية أكثر استجابة لمشاعر الأثرياء من الأغلبية. والواقع أن التوجه المناهض للديمقراطية الذي تتسم به التمويلات الخارجية يقدم لنا سبباً وراء ذلك."

الواقع أن كتاب "الافشور" ليس أول كتاب لهارينجتون حول هذا الموضوع ــ فقد صدر لها كتاب في عام 2016 تحت عنوان "رأس المال بلا حدود: مديرو الثروات والواحد في المائة" ــ ولكن كتابها الأخير يستفيد مما يقرب من عقد من الزمان من المعرفة والأحداث. فقد دفع انتخاب دونالد ترامب للبيت الأبيض كثيرين إلى التأمل في مقدار ثروته التي لم تأت من استراتيجيات الاستثمار الذكية، بل من تحويل أبراجه السكنية التي تحمل اسمه إلى ساحة انتظار لثروات الأوليجاركيين الروس الهائلة. كما كشفت تسريبات مثل "أوراق بنما" و"أوراق الجنة" للجمهور بتفاصيل مروعة كيف أخفى الجميع، من الملكة إليزابيث إلى كبار المسؤولين المنتخبين، أموالهم في ترتيبات مالية خارجية معقدة. ونحن نعرف الآن أكثر كثيرا مما اعتدنا عليه عن عواقب بنوك الافشور، ولدى هارينجتون المزيد من الأسرار التي تريد أن ترويها لنا. ولكن هذا لا يزال غير كاف.

***

علي حمدان - كاتب ومترجم من عمان

نشر بالتزامن مع جريدة الرؤية العمانية

احتفاؤنا باليوم العالمي للغة العربية يزيدنا فخراً باللغة التي يتكلم بها كل ناطق بلغة القرآن حول العالَم. تلك اللغة العالمية التي ملأت المكتبات بذخائر العلوم في كل عصر منذ مجيء الإسلام ونزول الوحي بالرسالة المحمدية؛ آخر رسالات السماء إلى بني البشر، وقد شرفها الله أن جعل اللغة العربية العظيمة مفتاح تلك الرسالة.

 غير أن احتفالنا بتلك المناسبة لابد وأن يأتي مصحوباً بتساؤلات جوهرية تراود الأذهان: أولها حول مدي تأثير شيوع اللهجات العامية وغلبتها في أغلب المنابر الإعلامية والثقافية. وهل بإمكان هذه الظاهرة أن تؤثر على مكانة اللغة العربية في المستقبل القريب أو البعيد؟ وهل يتحقق ما يبشر به بعض المستشرقين الحاقدين على اللغة العربية من حيث كونها لغة العرب والمسلمين بأنها لغة مرشحة للانقراض والتحول إلى لغة من اللغات الميتة؟! وإذا كان هؤلاء يبذلون الغالي والنفيس من أجل النيل من لغتنا، فماذا بذلنا نحن من أجل الحفاظ عليها؟

 تساؤلات كثيرة تدور حول مصير الفصحى في ظل تدني مستوي دارسيها في شتي مراحل التعليم بسبب انتشار لغات أجنبية ولهجات عامية غزت ألسنة الأطفال والشباب المقلدين لما يرونه ويسمعونه في مختلف منصات الإعلام وشاشات الدراما. غير أنني مطمئن تماماً لمصير اللغة العربية الفصحى، لأسباب كثيرة، لعل من أكثرها إثارة لدهشة البعض: ارتباط اللغة العربية بالفنون منذ قديم الزمن!

لغتنا الجميلة

  ذلك عنوان لواحد من أهم البرامج الإذاعية للشاعر فاروق شوشة بأسلوبه الرائع في الإلقاء، وصوته المميز، وأدائه البارع. كان أمثال فاروق شوشة من الشعراء والأدباء والمثقفين غيورين على فصاحة النطق، وحريصين على تربية أجيال من الشباب على الاهتمام بالفصحى وسماعها ونطقها بطريقة سليمة لا غبار عليها.

  لقد كان الشعر هو الأقدم والأهم في العصر الجاهلي. وتبارَي الشعراء فيما بينهم لاستعراض قدراتهم البلاغية في تركيب العبارات الأخاذة وتدبيج قصائدهم بها. وانفرد العرب عالمياً بأنهم أقاموا أسواق واحتفالات بالشعراء والقصائد، أشهرها سوق عكاظ. وقد ظلت مكانة الشعراء بين قبائل العرب محفوظة حتى وقت نزول القرآن الكريم؛ المعجزة الربانية التي تحدي بها مالكُ الملك كلَّ جهابذة اللغة وأساتذتها حول العالَم أن يكتبوا مثله ولو آية. وما زال التحدي قائماً دون مجيب!

 ثم ظهرت في العصر الحديث فنون جديدة لم يعرفها العرب من قبل؛ كالرواية والمسرح والقصة القصيرة. على استحياء في أول الأمر، وأغلبها مجرد مترجَمات لروايات أجنبية تلقفها المثقفون من يد غزاة المشرق فوجدوا فيها سحراً خلاباً. وكان عليهم أن ينقلوا هذا السحر عبر لغتنا الخاصة، وهي العربية الفصحى. لم يكن وارداً لدي أذهان المثقفين آنذاك أن يجرؤوا على كتابة الرواية أو المسرحية بلغة العوام، حتى لو كان الجمهور كله منهم. هكذا استمر المسرح في بداياته يُكتب باللغة العربية الفصحى زمناً طويلاً. وهكذا كانت الرواية.

 ومن بين المشادات والمعارك الصحفية في النصف الأول من القرن العشرين، تلك التي تعلقت باستسهال بعض الروائيين لتطعيم بعض حواراتهم باللهجة العامية، كان هذا قبل انتشار الحوار العامي في المسرحيات، ثم في أفلام السينما والتليفزيون عند نشأتهما. غير أن جزالة النطق باللغة العربية الفصحى لم تغب عن المشهد الإعلامي والدرامي حتى وقت قريب. كان لدينا عدد كبير من الممثلين البارعين المتقنين للنطق باللغة العربية الفصحى. وإعلاميون كثيرون أجادوا الحوار بالفصحي بشكل ارتجالي في البرامج الحوارية أو في نشرات الأخبار. لكنهم يندثرون الآن وينقرضون شيئاً فشيئاً. حتى مسلسلات الدراما التاريخية اليوم خلت من تلك الميزة: فهي إما تدور بحوار عامي مبتذل، أو أنها غير موجودة بالأساس.

 غير أن كل هذا التدني والاستهانة بشأن لغتنا الفصحى الجميلة لا يثير قلقاً عندي. لأنها لغة ارتبطت بثلاثية باقية خالدة تضمن للفصحي الخلود: القرآن، والفنون، والتراث القديم.

بين الفن واللغة

 كثير من الفنون ارتبطت باللغة العربية على مر العصور: كالخط العربي، والزخرفة الإسلامية، والمعمار، والشعر، والموسيقي، والغناء، والدراما. تلك الفنون تتحول بمرور السنين إلى تراث إنساني يخلده التاريخ.

 وإذا كان القرآن الكريم قد ضمن انتشاراً واسعاً لدراسي اللغة العربية والناطقين بها حول العالَم، فإن الفنون ضمنت ارتباط هذه اللغة البارعة الرائعة بجماليات الفنون المكتوبة والمرسومة والمسموعة والمرئية. وتلك أسباب خلود مضمون لا تهدده ضغائن أو أحقاد أو مؤامرات خائبة تريد النيل من لغة محفوظة في الصدور والقلوب والأذهان والكتب وعلى جدران المساجد في أطراف العالم الأربع.

 عندما أنشأ الفاطميون الجامع الأزهر، تحول في عصر الأيوبيين وما بعدهم إلى جامعة إسلامية كبري ومنارة علمية عالمية يؤمها الدارسون من شتي أنحاء الدنيا. ثم نشأ مجمع اللغة العربية، وكان هذا إيذاناً بتقدم هائل في مجال اللغة العربية التي استوعبت كل ميادين الحياة المعاصرة بمعاجم متخصصة في كل المجالات العلمية الدقيقة: كالبيولوجيا والطب والتكنولوجيا وعلوم الحيوان والنبات والبترول، وغيرها من مناحي الحياة اليومية الحديثة. أي أن اللغة العربية امتازت دائماً بالمرونة والقوة والرسوخ، فلم تقف عند عصر من العصور، ولم يعجزها تطور الحياة، بل كانت قادرة دائماً على التشكل والتمدد والنمو بشكل دائم لاستيعاب الجديد.

 حتى حركات التحرر من قيود اللغة كانت في حقيقتها وجوهرها نوع من المرونة اللغوية، وقدرة هذه اللغة العجيبة على التلبس بأكثر من حالة حياتية. وتعدد اللهجات لا يُضعف اللغة العربية بل يقويها ويكسبها المتانة والاستمرارية والمرونة.

 لقد ظن دعاة العامية أنهم بتحررهم من قيود اللغة العربية الفصحى في الدراما أو من قيود القافية والوزن العَروضي في الشعر، أنهم بهذا أنزلوا الفصحى من عرشها الأبدي وأسقطوا هيبتها، لكن هيهات. فإن كل محاولة جديدة لابتكار لغة من لهجات الشارع العادي تزيد الناس احتراماً للغة العربية الفصحى، وتذوقاً لها. وشتان بين أن تسمع مذيع يتلجلج في نطق الفصحى ويسترسل في نطق العامية، فيضطرك للفرار من قناته إلى قناة تحترم الفصحى وتحرص على إجادتها بطلاقة. واحترام عوام الناس للقناتين ليس واحداً أبداً. إذ لا يزال السواد الأعظم من المشاهدين والمستمعين العرب في أي مكان يكن احتراماً شديداً للغة العربية الفصيحة إذا نطق بها من يتقنها، ممثلاً كان أو مذيعاً أو قارئ نشرة أخبار.

 ميدان التواصل الاجتماعي والفضاء الافتراضي يمثل تحدياً جديداً لانتشار العامية على حساب اللغة العربية الفصحى، وإن لم يكن هذا الأمر عاماً. بل لا تزال الكثير من قنوات الفيديو ومنصات التواصل الاجتماعي حريصة على النطق السليم باللغة العربية الفصحى لأسباب ذكية: أهمها تجاوز إشكالية اختلاف اللهجات بين البلدان العربية، وضمان انتشار أوسع في المحيط الإقليمي والعالمي. لهذا فإن المنصات التي تجيد التحدث باللغة العربية الفصيحة السهلة تتميز بمدي انتشار أوسع ومعدل مشاهدات أكبر من منصات أخري لا تلتزم بفصاحة اللغة.

 لا أكاد أشك أن اللغة العربية قادرة على الحفاظ على مكانتها العريقة مهما كانت التحديات، وأنها تتطور باستمرار، وأنها تملك في ذاتها عوامل خلودها ومنعتها ضد كل محاولات الحاقدين عليها. وأن احتمالية أن تتحول اللغة العربية إلى لغة ميتة هي احتمالية تصل إلى حد الاستحالة. وأن احترام عموم الناس، ولو كانوا من الأميين، سيظل قائماً تجاه الناطقين المتقنين للغة الضاد.

***

د. عبد السلام فاروق

عندما تخوض نقاشًا مع شخصٍ ما حول قضايا الحياة أو العلم أو الأدب أو حتى الفلسفة، تجد نفسك أحيانًا أمام حائط من الجهل المركّب. هناك من يدّعي التطور والانفتاح، لكنه في الحقيقة أسير لأفكار ضيقة وأحكام مسبقة. أكثر ما يجرح في مثل هذه المواقف هو سماع كلمة "خرابيط"، تلك الكلمة التي تحمل في طياتها التحقير لكلّ ما تُقدّمه من فكرٍ ومعرفة.

اللغة بحدّ ذاتها ليست المشكلة، بل السياق الذي تُقال فيه الكلمة، والنبرة التي تُقال بها. كلمة "خرابيط" تشير في معناها الأصلي إلى الخطأ أو الكلام غير المنطقي، ولكنّ استخدامها - هنا - يحمل استهزاءً وتجاهلًا لمجهودك الفكري. في تلك اللحظة، تجد نفسك أمام خيارين: إما أن تلتزم الصمت احترامًا لعقل المتلقي، أو أن تحاول إيصال فكرتك رغم إدراكك لغياب الأرضية المشتركة. ومع ذلك، يبقى السؤال الذي يلحّ على ذهنك: ما الذي يدفع بعض الأشخاص لوصف الأفكار المختلفة أو الكتب العميقة بأنها "خرابيط"؟

قد يكون السبب الغَيرة، أو ربما الجهل الذي يُغلّف بالعجرفة. وربما هو مزيج من الاثنين معًا. لكنّ المؤكد هو أنّ مواجهة مثل هذه الردود تتطلب منك أن تتحلى بالصبر والمرونة، بدلاً من أن تترك هذه الكلمة تترك أثرًا سلبيًا في نفسك، حوّلها إلى فرصة للتأمل والبحث، فكّر في كيف يمكن استخدام هذه التجربة لتقديم منظور أعمق للقراء أو لجعلها درسًا للحياة.

حينما تُقابل مثل هذه الكلمات، تذكر أنّ الضحك أحيانًا يكون أفضل ردٍّ. فالضحك لا يعني الاستخفاف، بل هو تعبير عن تفهّمك لمحدودية الموقف. استمرّ في التفاعل مع الحياة بكلّ ما تحمله من متغيرات؛ لأنّ في مواجهة الجهل والتحدّيات تنمو الأفكار وتتسع الآفاق.

 لعلّ أكثر ما يثري تجربتك في الحياة هو تلك اللحظات التي تشعر فيها بالتحدّي الفكري، سواء كان ذلك نتيجة ردود أفعال الآخرين أو بسبب اصطدامك بآراء معاكسة تمامًا لما تؤمن به. فعندما تُقال كلمة مثل "خرابيط"، ليس المقصود منها مجرد الرفض السطحي لما تقوله، بل هي أحيانًا انعكاسٌ لحالة من العجز عن فهم العمق أو رغبة دفينة في الدفاع عن منطقة الراحة الفكرية.

 اسأل بهدوء: "ما الذي ترى أنه لا معنى له؟" أو "كيف يمكن أن نعيد النظر في هذا الموضوع من زاوية أخرى؟". بهذه الطريقة، لا تُجبر الآخر على الموافقة على وجهة نظرك، ولكنك تفتح بابًا للنقاش أوسع.

التحدي الأجمل هو أن تستثمر هذه اللحظات لبناء سردية جديدة لفهمك الشخصي للعالم من حولك. كلمة "خرابيط" يمكن أن تصبح شرارة لتفكير أعمق حول معنى الأفكار التي نؤمن بها. قد تدفعك للبحث عن أصول تلك الفكرة أو تحسين طريقة تقديمك لها لتكون أقرب إلى العقلية التي تواجهها.

لكلّ إنسانٍ مستوى معيّن من الفهم، وإننا جميعًا في رحلة اكتشاف فكري لا تنتهي. هناك من يرى في العلم والفلسفة عبثًا، وهناك من يجد فيهما خلاصة المعنى. هذه الفروقات هي ما تجعلنا بشرًا مختلفين، ولكلٍّ منا تجربته وسياقه الخاص.

  تلك اللحظات التي تشعر فيها بالإحباط بسبب ردود الآخرين هي نفسها اللحظات التي تعيد تشكيل وعيك وتقوي إرادتك في مواجهة العالم بكلّ ما يحمله من جهل وتعقيد. 

 في كلّ مواجهة فكرية، ستجد أنّ هناك شيئًا لتتعلمه. حتى من الأشخاص الذين يبدون أكثر صلابة في رفضهم أو استهزائهم، يمكنك أن تستخلص دروسًا حول طبيعة التفكير البشري، وحول نقاط ضعفك أو قوة حججك. 

الحياة ليست ساحة معركة فكرية دائمًا، بل هي تجربة مستمرة نتعلّم فيها من التفاعلات، سواء كانت إيجابية أم سلبية. لا تكن ضحية لكلمات جارحة مثل "خرابيط"، بل استخدمها كوقود لتطورك. حاول أن ترى كلّ تعليق أو ملاحظة، مهما بدت سلبية، كفرصة للتأمل والبحث عن أعماق جديدة داخل نفسك.

***

فؤاد الجشي

 

   يمكن أنْ يـُعرَّف العنف بأنه الاعتداء على الآخرين، سواء أكان ماديّـاً (جسديّـا) أو معنـويّـاً (كلاميـاً)، وهو موجود في البشر منذ أن فتك قابيل بأخيه هابيل. ولكنَّ شعوب العالم تتباين فيه من حيث النسبة والشدة والنوع. فبعض الناس يتصرف كحمامة سلام والبعض قد يكون وحشاً مفترساً. وإذا كان الناس مختلفين في هذا الأمر، فما سبب هذا الاختلاف؟ أهو ظروفُ البيئة اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً أم هو التركيبُ البيولوجي؟ أم مزيج من الاثنين اللّذيـْن لا ينفصلان؟ لماذا يهتاج بعضُ الناس مثلا لقراءة موضوع ضدَّ عقيدته فيسهر الليالي مضحياً بصحته ووقته جاهداً لدحضه وقد يكون الرد عليه عنفاً في الخطاب؟ بينما لا يبالي الآخرون به، بل يعتبرونه حريةَ رأي أو إحداثَ بلبلة أو مجـرَّد َهُراء؟ فما دمنا مختلفين في النظرة إلى الأشياء، في تقبلـِّها أو تَحملـِّها، ألسنا إذاً مختلفين في داخلنا؟ وإذا كان هذا صحيحاً، فما سبـُبه؟ إذا عرفنا أنَّ الدماغ يسيطر على العاطفة والتفكير والكلام، وأنَّ هذه السيطرة تـتمّ بواسطة موادَّ كيميائيةٍ تفرزها خلاياه العصبيةُ وتؤدّي فعلَها، يتبين الدورُ التي تقوم به هذه الخلايا أو الجينات التي تفرز هذه الموادَّ استجابةً لظروف البيئة أو نتيجةَ تعاملها معها. ولما كانت هذه الموادّ التي تـُسمّى النواقل العصبية  neurotransmitters، متخصصةً ويُـقـدّر عددها بخمسمائة ناقلٍ، يكون ثمة 500 مجموعةٍ من الخلايا العصبية موجودةٍ في الدماغ. وتنتقل هذه النواقل من خلية إلى أخرى بواسطة فجوات خلوية synapses. ومنها، والذي هو صلب المقال، أدرينالين (إبينفرين)، نورأدرينالين، دوبامين وسيروتونين، هذه النواقل الكيميائية تلعب دوراً هاماً في ضغط الدم والسيطرة على العاطفة. ولكنَّ ثمة خميرةً (بروتين) في الدماغ تنظـِّم عملَ هذه النواقل، وتسمـّى مونوأمين أوكسيديس monoamine oxidase، وهذه تحطِّم الأدرينالين ونورأدرينالين وسيروتونين وتحولها إلى مواد َّ غيرِ فعالةٍ. وقد و ُجـد حديثاً أنَّ هذه الخميرةَ تلعب دوراً كبيراً في تصرف الإنسان، وخصوصاً العنف، حسب كميتها الموجودة في الدماغ. فقد وجد الدكتور هانز برونر (هولندا) في السبعينات من القرن الماضي عائلة تَمَـيّـزَ رجالُـها الثمانيةُ بالعنف، فقد اغتصب واحد منهم أ ُختـَه وطعن حارسَ السّجن، وآخـرُ استعمل سيارته لدهس رئيسه الذي وبـّخه لكسله، واثنان آخران قاما بحرق بعض المباني. أمّـا الإناث من هذه العائلة فلم تقم أيّ ٌ منهن بأيِّ عنف. فدرس الأساسَ الجيني، وبعد ثلاثين عاماً من أبحاثه وبالتعاون مع زاندرا بريكفيلد (مساشوسيت)، وجد أنها تنطبق على جين يقع على الذراع الطويل للكرموسوم X في الذكـر، وأنّ كلا ّمن الرجال الثمانية يملك نسخة من هذا الجين بحالة متغيـِّرة (مـُشـوَّهة) mutated، أيْ غير فعالة، وبمعنى آخر، إنّ هذا الجين لا ينتج الخميرة مـونوأمين أوكسيديس. ولما كان التركيب الجيني الجنسي للرجل هو XY ، لذا يوجد هذا الجين بنسخة واحدة، ويُورث من الأم فقط. أما الأنثى، فهي تملك نسختين لتركيبها الجيني XX ، فإذا كان أحدُ الجينين متغيراً (عاطلاً)، فالجين الثاني يعوِّض في الإنتاج.

وفي حالات نادرة أنْ ترثَ الأنثى نسختين عاطلتين من هذا الجين، فإن ورَثتْ، فالعنفُ يكون ديدنـَها. وقد تبيّـن من دراسات قام بها باحثون آخرون مثل أفشالوم كاسبي من معهد لندن للأمراض النفسية سنة 2002 أنَّ بعض الأولاد الذين يُساء إليهم في طفولتهم ينشؤون طبيعياً إذا كانوا يحملون الجينَ غيرَ المشوَّه، وبعضهم يكون عنيفاً في تصرفاته، إذا كان الجين الذي يحمله مشوهاً. وهذا يعني أن ثمة اختلافاً (جينيّـاً)، فالأشخاص الذين لديهم كمية كبيرة من البروتين مونوأمين أوكسيديس يكونون (مـُحصَّـنين) من العنف، والذين هم بفعالية واطئة من هذا البروتين، إذا أ ُسيء إليهم في طفولتهم، يكونون أقـلَّ زامتزاجاً بالمجتمع وأربعَ مراتٍ أكثرَ عنفاً ومسؤولية ًعن حوادث الاغتصاب والسرقة والاعتداءات، وبمعنى آخرَ، إنّ الإساءة إلى الطفل ليست كافية، فيجب أن يكون ثمة جين واطئُ الفعالية، كما أنَّ هذا الأخيرَ ليس كافياً وحده للعنف، بل يجب أن تكون إساءة مصاحِـبة له. وهذا يعني أنَّ كمية البروتين مونوأمين أوكسيديس تلعب دوراً في العنف، سواء أ ُسِيءَ إلى الشخص في طفولته أم لم يُـسَـأْ إليه.

وليست هذه الخميرة وحدها تسبِّب العنف، إذ أنَّ أوكسيد النتريك NO الذي اكتشفه دكتور سنايدر وزملاؤه (جامعة جونز هوبكنز) سنة 1993 يلعب دوراً في السيطرة على العنف في الفأر والشمبانزي، ولربما في الإنسان لتشابه الجين الذي ينتجه. ففقدانه سبّب عنفاً وهياجاً في الفأر. وأما الناقلان العصبيان دوبامين وسيروتونين المسؤولان عن المرح والانبساط في الإنسان، فقلة وجودهما في الدماغ يسبّب الكآبةَ التي قد تؤدي في بعض الأحوال إلى الانتحار.

 ويمكن القول إنَّ بعض الأشخاص أكثـرُ عنفـاً من الآخرين. هذه حقيقة. ويمكن لظاهرة العنف هذه أن يسيطر عليها جين واحد فقط يتفاعل مع ظروف البيئة، وهذا يعني أن (كلَّـنا يحمل " جين العنف " – ولكنّ الباحثين شخّصوا تغيراً جينياً بسيطاً يؤدي إلى الانفجار)، كما يقول د. جيمس واتسون مكتشف التركيب الجزيئي لـ دي. أن. أي.، على أنَّ هذا الانفجارَ لا يحدث إلاّ إذا كان ثمة دوافعُ أو حوافـزُ. ورغم هذا، فللانفجار أسباب أخرى، سياسية واقتصادية واجتماعية لست بصدد الخوض في أغوارها.

***

د. بهجت عباس

...................................

*من كتاب (الجينات والعنف والأمراض – فيشون ميديا – السويد 2007)

"إننا في كل مرة نقف فيها أمام مظهر من مظاهر اللافعالية في المجتمع الإسلامي نرى أنفسنا مجبرين على ربطه بـ"عالم أفكارنا" لأن في هذا العالم تكمن أدواؤنا" المرحوم مالك بن نبي1.

في ظل التغيرات العالمية والتحولات السريعة في المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، برزت ظاهرة الاختطاف الفكري كإحدى التحديات البارزة في العالم العربي والعالم النامي ككل. حيث يُشير الاختطاف الفكري إلى توجيه وتشكيل الأفكار والثقافات لمجموعات معينة بما يخدم أجندات خارجية، ويُعدّ من أبرز أشكال الهيمنة الثقافية الحديثة. لذا نطرح إشكالية مهمة:

إلى أي مدى يُمكن أن تستمر ظاهرة الاختطاف والاستنزاف الفكري في التأثير على المجتمعات العربية والنامية ككل وما هي الاستراتيجيات الممكنة لمواجهة هذه التحديات وتعزيز الهوية الثقافية الوطنية؟

الاستنزاف والاختطاف الفكري في العالم المقاوم للإستعمار الجديد المروج له من قبل المنظمات الإمبريالية الثقافية هو موضوع معقد ومتشعب. هناك منظمات عالمية على طول الدول الغربية، تشتغل بكل شراسة لفرض هيمنة ثقافية وفكرية على الشعوب المستضعفة في جل المستويات من خلال وسائل متعددة، الإعلام، التعليم، والسياسات الثقافية، تسهيلات اللجوء وما هنالك من تقنيات الاختطاف باسم إرساء الديمقراطية. هذا الاستنزاف وخصوصا في صورة الاختطاف يؤدي إلى تسقيط مشاريع التحرر وتهميش الثقافات المحلية وإضعاف الهويات الوطنية وتهديد الأمن العام للدول المقاومة للإمبريالية، كما هناك شخصيات مثقفة بالعالم العربي تم استغلالها من طنجة إلى مسقط، وتشمل العديد من المثقفين والفنانين والإعلاميين والأكاديميين والمعارضين السياسيين الذين تم توظيفهم لنشر أفكار معينة تخدم أجندات الإمبريالية. على سبيل المثال، بعض الكتاب والفنانين في الخليج وشمال افريقيا ومصر، لديهم علاقات مشبوهة مع منظمات غربية لنشر أفكار تتماشى مع مصالح تلك المنظمات والدول الاستدمارية، مما يؤدي إلى تسقيط الثقافة العربية والاسلامية وتقديم صورة مشوهة عن الواقع والعمل على ضرب الاستقرار الاجتماعي والسياسي وأحيانا بالتعاون مع مؤسسات ومنظمات عربية..

مما شكل تحديات كبرى وخطيرة على أمن الدول ومستقبلها وجعلها في صراعات أنهكت ميزانياتها التنموية والإصلاحية مثل ما حصل بالعراق الجديد وكذلك ما يحصل بأمريكا اللاتينية وافريقيا، ومن أهم التحديات البارزة:

1. التبعية الثقافية: تزايد تأثير الثقافات الأجنبية على المجتمعات النامية أدى إلى ضعف الهويات الوطنية واندثار بعض العناصر الثقافية الأصيلة.

2. التضليل الفكري: استخدام وسائل الإعلام والمنظمات الثقافية لنشر أفكار تتماشى مع مصالح الدول المهيمنة، مما يؤدي إلى تشويه الواقع وإبعاد المجتمعات عن مشاكلها الحقيقية.

3. استغلال المثقفين: توظيف مثقفين وأكاديميين لنشر أفكار وأجندات خارجية، مما يساهم في تفريغ العقول المحلية من إمكانياتها الحقيقية.

4. السيطرة على الأنظمة التعليمية: تدخل الدول الأجنبية في المناهج الدراسية والأنظمة التعليمية لتعزيز تأثيرها الثقافي والفكري. وخصوصا ضرب الهويات الدينية والثقافية المحلية وتعطيلها أو تغطيتها بتعبير الراحل إدوارد سعيد من تفريغ الشخصية من الوطنية والدين الصحيح..

5. الصراع الثقافي: خلق صراعات بين الثقافات المحلية والثقافات المستوردة، مما يعيق التعايش السلمي والتفاهم المتبادل.

وخير مثال على الاستنزاف الفكري، المنظمات الفرنكوفونية من دكار إلى بيروت التي تجتهد في الاستغلال الفكري والثقافي عبر إفريقيا مدعومة من قبل الحكومات الفرنسية المتعاقبة وهناك مشاريع أخرى من قبيل المثلية والنسوية الأوروبية وما نشهده كل عام من التكريمات الثقافية لكتاب وممثلين وموسيقيين وحتى سياسيين في بعض الدول الأوروبية، كل هذا لا يمكن أن يُفهم إلا على أنه جزء من استراتيجية أوسع تهدف إلى الحفاظ على النفوذ والسيطرة في المستعمرات القديمة. هذه الدول قد تسعى إلى تحقيق عدة أهداف من خلال استقطاب المثقفين والصحافيين الأفارقة والعرب والأمريكيين اللاتينيين:

1. التأثير على الرأي العام: من خلال دعم المثقفين والصحافيين الذين يروجون لأفكار تتماشى مع مصالحهم، كما كان هناك محاولات التأثير بخصوص القضية الفلسطينية ومع انطلاق طوفان الأقصى ومحاولات التوجيه نحو سياسات ثقافية معينة تخدم الإمبريالية العالمية عبر التعتيم والتشويش والتمويه.

2. تعزيز الهيمنة الثقافية: من خلال نشر الثقافة والقيم الغربية، هذه الدول عملت على تعزيز هيمنتها الثقافية وتقليل تأثير الثقافات المحلية منذ منتصف القرن الماضي وما قبله عبر مشاريع تدميرية للأسس الثقافية للمستعمرات وفرنسا تعتبر الرائدة ذلك بين دول الامبريالية العالمية. مستهدفة بذلك تهميش الهوية الثقافية الوطنية وإضعاف الروابط الاجتماعية.

3. الترويج لأجندات سياسية واقتصادية: دعم المثقفين الذين يروجون لسياسات اقتصادية أو سياسية تخدم مصالح الدول الغربية عموما والأوروبية خصوصا، مما يساعد في تمرير هذه السياسات بسهولة أكبر في الدول النامية والصامدة في وجه المخططات الامبريالية

4. إضعاف الحركات الوطنية: من خلال استغلال المثقفين والصحافيين، يمكن لهذه الدول إضعاف الحركات الوطنية التي تسعى إلى تحقيق الاستقلال الحقيقي والتنمية الذاتية. عبر اثارات إشكاليات تاريخية واستفزازات نقدية في ظاهرها تحرير العقل ومراجعة التاريخ، لكن في باطنها فتنة الناس عن قضاياهم الوطنية والإنسانية والحضارية.

5. التحكم في الموارد: من خلال التأثير على السياسات المحلية، يمكن لهذه الدول ضمان الوصول المستمر إلى الموارد الطبيعية والاقتصادية في الدول النامية.

هذه الاستراتيجيات تُستخدم تحت غطاء الإنسانية والديمقراطية وحرية التعبير والتعاون الثقافي والاستثمارات الاقتصادية، لكنها في الواقع تخدم مصالح استعمارية جديدة تهدف إلى الحفاظ على النفوذ والسيطرة في افريقيا والشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية. من المهم أن يكون هناك وعي ونقد لهذه السياسات لضمان تحقيق التوازن والعدالة في العلاقات الدولية.

فالصراع الثقافي ومحاولة الصدام بدلاً من التعايش هو نتيجة طبيعية لهذه السياسات الامبريالية. بدلاً من تعزيز التفاهم والتعاون بين الثقافات المختلفة، تسعى المنظمات والاستخبارات الغربية إلى خلق انقسامات وصراعات تخدم مصالحها. مما أدى إلى تفاقم التوترات بين الشعوب وأعاق الجهود المبذولة لتحقيق الاستقرار والتنمية المستدامة والتعاون الدولي.

و حتى لا ننسى هناك نوعًا من "الاختطاف الفكري" للعقول العلمية والمثقفين في الدول النامية من قبل الدول الغربية المهيمنة. والذي يتم عبر عدة وسائل، منها:

1. المنح الدراسية والبحثية: تقدم الدول الغربية منحًا دراسية وبحثية للمفكرين والعلماء من الدول النامية، مما يؤدي إلى جذبهم للعمل والدراسة في الغرب. هذا يمكن أن يؤدي إلى "هجرة العقول" حيث يبقى هؤلاء المثقفون في الدول الغربية بدلاً من العودة إلى بلدانهم الأصلية. وهنا يتم استغلال ظروفهم في بلدانهم وابتزازهم عبر الوقت لاستثمارهم في مخططات استدمارية كما حدث مع العديد منهم في بريطانيا وأمريكا وفرنسا وألمانيا لضرب الهويات الثقافية والقيم الدينية في بلداهم عبر توظيفهم كنقاد ومعارضين لأنظمة الحكم وللثقافات الشعبية في بلدانهم.

2. التمويل والدعم: تقدم المنظمات الغربية تمويلًا ودعمًا للمشاريع البحثية والثقافية التي تتماشى مع أجنداتها. هذا يمكن أن يؤثر على توجهات البحث والفكر في الدول النامية. فمثلا هناك مراكز أبحاث لها علاقات عميقة ووطيدة مع حكومات غربية تمولها وتدعمها للقيام بأبحاث في عدة ميادين ترتبط بدراسة الشعوب والعقليات والاختلافات الثقافية والعقدية وأسس الخلافات وكذلك اختلاق قصص حول شخصيات عظيمة في تلك البلدان، كما حدثت محاولات تشويه مؤسس الدولة الجزائرية وهذا المخطط كان من صنع رواد الاستعمار الجديد.

3. الإعلام والنشر: تسيطر الدول الغربية على العديد من وسائل الإعلام ودور النشر الكبرى، مما يمكنها من الترويج لأفكارها وثقافتها على حساب الثقافات المحلية. كما لا ننسى أن هناك مؤسسات إعلامية في العالم العربي وافريقيا وأمريكا الجنوبية، تم صناعتها بأيدي إمبريالية وهناك اتفاقيات سرية تتحكم في أصحاب هذه المؤسسات وتفرض عليهم مخططات خطيرة للهيمنة على الدول وكذا تصفية الحسابات والاجتهاد في تغطية جرائمها عبر العالم النامي.

4. التعاون الأكاديمي: يتم استغلال التعاون الأكاديمي بين الجامعات والمؤسسات البحثية في الدول النامية والغربية لنقل الأفكار والسياسات التي تخدم مصالح الدول الغربية وتختطف العقول الرائدة في جميع العلوم والمعارف.

هذه السياسات يمكن أن تؤدي إلى تهميش الثقافات المحلية وإضعاف الهوية الوطنية والتشكيك في عقائد الناس وأديانهم وعلاقتهم التاريخية الإنسانية والحضارية، مما يخدم مصالح الدول الإمبريالية في الحفاظ على نفوذها وسيطرتها. من المهم أن تكون هناك جهود لتعزيز التعاون العادل والمتوازن بين الدول، ودعم المثقفين والعلماء في الدول النامية لتحقيق التنمية الذاتية والمستدامة وليس الاختطاف والاستنزاف للطاقات، أي أنه من الممكن أن تكون لدينا مؤسسات ديمقراطية دون ثقافة مدنية واسعة النطاق. وهذه هي حال البلدان حيث الديمقراطية حديثة العهد أو فرُضت من الغرب (مع مشاركة ضئيلة من المواطنين)؛ أي أنها تلك الحالات التي يمكن تلخيصها تحت عنوان فرض الديمقراطية، هذه الحالات، لن تستفيد من الديمقراطية بدون ثقافة مدنية وطنية واسعة النطاق، وستكون هشة ومعرضة للأزمات دائماً..

على سبيل المثال فكرة حرية التعبير تعد من أهم ركائز الديمقراطية وحقوق الإنسان، لكنها يمكن أن تصبح سلبية وتؤدي إلى تهديد واقع ومستقبل الشعوب في حالات معينة، منها:

1. التحريض على العنف والكراهية: عندما تُستخدم حرية التعبير لتحريض الناس على العنف أو التمييز ضد فئات معينة من المجتمع، يمكن أن تؤدي إلى نشوب صراعات وتفاقم التوترات الاجتماعية.

2. نشر المعلومات المضللة: استخدام حرية التعبير لنشر الشائعات والأخبار الزائفة وطرح الإشكاليات التمويهية التي يمكن أن تضلل الرأي العام وتؤدي إلى اتخاذ قرارات غير مستنيرة، مما يؤثر سلباً على المجتمع ككل. كفتح نقاشات حول مسائل تاريخية ودينية أو فلسفية على المستوى الجمهور وليس بين المختصين وهذا يوحي بأن هناك مخطط مهدد للوعي الثقافي عند الناس، فالمسائل الحساسة لا تنطلق في الساحات العامة وإنما بين الخاصة ليتم البث فيها بحكمة ونباهة.

3. الإساءة للكرامة الإنسانية: عندما تتجاوز حرية التعبير حدود الاحترام المتبادل وتستخدم للإساءة أو السخرية من الأشخاص أو الجماعات أو الشعوب أو الدول على أساس العرق أو الدين أو الجنس أو الثقافة أو اللغة، فإنها تساهم في تعزيز الكراهية والانقسامات، وهذه الأمور استثمرها الغرب الامبريالي بإستضافة مثقفين ومنحهم الجنسيات والشهرة والجنة المزيفة من أجل ضرب أوطانها ودينها وتاريخها وهويتها وبالأخير الانقلاب عليها بعد إتمام مهمتها وهذا في الغالب عمل الاستخبارات الامبريالية

4. إعاقة السياسات العامة: يمكن أن تعرقل حرية التعبير غير المسؤولة السياسات والإجراءات الحكومية الهادفة إلى تحقيق الصالح العام، خاصة عندما تُستغل لعرقلة الجهود الرامية إلى التنمية والتقدم. خير مثال على ذلك هي القضية الكوبية التي لاتزال صامدة ومقاومة كل المؤامرات والاغراءات، والمعروف رغم المضايقات الاقتصادية والسياسية إلا أن كوبا في مجال التعليم والطب وعلوم الزراعة وصناعة السجاد والسياحة.

5. تدمير التعايش السلمي: عندما تُستخدم حرية التعبير لتأجيج الكراهية والصراع بين الثقافات المختلفة، فإنها تهدد السلام الاجتماعي وتعيق الجهود الرامية إلى بناء مجتمع متنوع ومتسامح ومتعاون في حماية مقوماته الحيوية لنهضة الوطن ورقيه.

لهذا، من المهم أن تُمارس حرية التعبير بشكل مسؤول ومحترم، مع مراعاة حقوق الآخرين واحترام التعايش السلمي، لضمان أن تسهم في بناء مجتمع عادل ومتقدم بدلًا من تهديده وتشويهه وشيطنته..

و عليه وقبل مقاربة بعض سبل مواجهة التحديات، نشير لطرح المفكر الجزائري مالك بن نبي -رحمه الله- في بعض مؤلفاته، تحديدا كتاب الصراع الفكري في البلاد المستعمرة، حيث ركز في بعض صفحات هذا الكتاب على قضية الصراع الفكري التي هي نتاج الاستنزاف والاخطاف الفكري داخل البلاد العربية، وما نتج عن ذلك من غرس المفاهيم الفكرية للمستعمر الفرنسي والمستعمر الإنجليزي، وكشف عن الهدف الاستعماري، بفكرة (القابلية للاستعمار)، بما يستهدفه من تغيير في النظرة النفسية والسلوكية للشعوب التي استهدفت من الدول التي قامت باحتلالها قسرا، وإرغاما في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، وهذه الأهداف تتوخى كما يرى بن نبي، هو الأخطر من الاستعمار نفسه، لأن ذلك يتعلق بتقبل فكره ونموذجه ليسهل له ما يراه في نجاح خطوته الاستيطانية، لتصبح هذه الشعوب تابعا له في كل توجهاتها الفكرية والثقافية، وقابلة بذلك التوجه. هكذا بات من البديهي لنا كعرب ومسلمين أن نستوعب أنه الفائت والقادم قبل أن يكون سياسي واقتصادي وعسكري واعلامي هو بالأساس ثقافي- فكري، فالتوظيف الإمبريالي الغربي للعقول العلمية والمثقفين في الدول النامية هو نوع من "اغتيال الهوية الوطنية". عندما يتم استغلال هؤلاء المثقفين لخدمة أجندات خارجية، فإن ذلك يؤدي إلى تهميش هويتهم الثقافية والوطنية. لذلك، من المهم أن يكون هناك وعي نقدي ودعم للمثقفين الذين يسعون للحفاظ على هويتهم الوطنية والثقافية، أو العودة إلى أحضان أوطانهم، وهذه هي أول دعامة في مواجهة مشاريع الاختطاف والإستنزاف الفكري في عالمنا العربي وبالعالم النامي ككل من قبل الإمبريالية الغربية العالمية، طبعا مع التركيز على النقاط التالية:

- التركيز على تعزيز الهوية الثقافية الوطنية من خلال التعليم والإعلام والأدب والفنون.

- الترويج للتراث الثقافي المحلي وإحياء التقاليد واللغات الأصلية.

- دعم وسائل الإعلام المحلية المستقلة التي تقدم محتوى موثوق وموضوعي.

- تشجيع التفكير النقدي وتحليل المعلومات بدلاً من قبولها بدون تساؤل.

- تطوير مناهج تعليمية تعزز القيم الوطنية والتفاهم الثقافي.

- تطوير أداء المؤسسات التعليمية وترقية الخطاب المسجدي وتفعيل دور الأسرة والمنظمات المدنية في مجال الفكر وبناء الانسان.

- تجاوز الخطاب الوعظي المتكلس وتطوير الخطاب الثقافي الواقعي

- تعليم الشباب مهارات التفكير النقدي لتحليل وتقييم المعلومات بشكل سليم.

- توفير المنصات والدعم المالي للمثقفين والفنانين والأكاديميين المحليين. وابداع مشاريع تعرف وتخلق وعيا ثقافيا بالهوية الوطنية والدينية والإنسانية الحضارية.

- تشجيع التعاون بين المثقفين المحليين وتبادل الأفكار لتعزيز الوعي والتفاهم بمخططات الإمبريالية العالمية.

- تشجيع التبادل الثقافي المتوازن والعادل بين الدول العربية لتعزيز التفاهم المتبادل.

- التصدي للهيمنة الثقافية من خلال تعزيز التعاون والشراكات التي تحترم التنوع الثقافي.

- وضع سياسات حكومية تحمي الثقافة الوطنية وتدعم الإنتاج الثقافي المحلي.

- مقاومة الضغوط الخارجية التي تهدف إلى تهميش الثقافات المحلية في الفعليات والمؤسسات الدولية

- نشر الوعي حول مخاطر الهيمنة الثقافية والاستنزاف الفكري بين أفراد المجتمع.

- تنظيم حملات توعية وندوات وحوارات تساهم في تعزيز الوعي والتفاهم بالجامعات والمكتبات ومنصات التواصل الاجتماعي.

بتعزيز هذه النقاط، يمكن للدول العربية التصدي للتحديات التي يفرضها الاستنزاف والاختطاف الفكري والعمل على بناء مجتمعات قوية ومستقلة فكريًا وثقافيًا.

في الختام، من الموضوعية أن لا ننكر النكسة الفكرية العابرة لمواطن الثقافة في العالم العربي وتعتبر الأساس الخفي وراء تضخم ظاهرة الاستنزاف والاختطاف الفكري، ومن بين ظواهرها المعروفة للعامة والخاصة في مشهدنا الثقافي العربي البطالة الفكرية التي لا تنتج معرفة ولا تتقن مناهج النقد البناء، لهذا كان العبور نحو الإبداع الفكري والثقافي لا يعني الانغلاق أو الهروب نحو الآخر وإنما اكتساب الشجاعة والنباهة والذكاء في مواجهة العبث والعفن والسوقية والخيانات وكل الأدواء التي تنخر وتستلب وتغتال العقول والوعي في جغرافيتنا، وكما عبر المفكر الراحل مالك بن نبي رحمه الله : " إن هناك حركة تاريخية ينبغي ألا تغيب عن نواظرنا، وإلا غابت عنا جواهر الأشياء فلم نرَ منها غير الظواهر؛ هذه الحركة لا تبدأ بالاستعمار، بل بالقابلية له، فهي التي تدعو2."

***

ا. مراد غريبي

...........................

1- مولاي الخليفة لمشيشي، مالك بن نبي دراسة استقرائية مقارنة. دمشق: دار محاكاة للنشر والتوزيع، 2012، ص128.

2- وجهة العالم الإسلامي، مالك بن نبي، الفصل الثالث فوضى العالم الإسلامي الحديث العوامل الداخلية، ص93. دار الفكر معاصر بيروت-لبنان / دار الفكر دمشق – سورية، طبعة 2002.

 

إنّ العقول حين تجمد، وتتقوقع داخل قوالب الزمان، فلا تسمح لنفسها أن تُحلِّق في فضاء الإبداع، أو أن تُعاين ضوء الفكر المتجدد. وإنّ الجمود يا رفيق الدرب، ليس مجرد سكونٍ بل هو احتباسٌ، يعيق العقل عن تحرره ويُقعده عن إدراك المعاني الجديدة.

إنّ الجمود الذي أصاب بعض العقول في مجتمعنا العربي ليس وليدَ لحظةٍ عابرةٍ، بل هو نتاجُ موروثٍ طويلٍ، ينساب في العروق كالنهر الذي حمل معه طميًا أثقل الأرضَ عن العطاء. هذا الموروث الشعبي، بما يحويه من حكاياتٍ وأساطير وعاداتٍ، قد تشابك مع الموروث الديني، فصار للناس كأنّه الميزان الذي يُوزن به الخير والشر، الصواب والخطأ. لكن، أيّ ميزانٍ هذا الذي لم تتغير موازينه منذ قرون؟

يا صديقي، كيف لعقلٍ أن ينمو إن كان مأسورًا بأغلال الماضي؟ وكيف لأمّةٍ أن تتقدم إن كانت تعيش بين دفتي كتبٍ صُفِّحت قبل مئات السنين؟ لقد انقلبت معاني الموروث من كونها قاعدةً للوعي إلى كونها سياجًا يحدُّ من الفكر.

فيا للعجب!

كيف لنا أن نأخذ الحكايات الشعبية التي قيلت في ليالٍ غاب عنها العلم، فنُلبسها ثوبًا من القداسة؟ كيف نصمت أمام نصوصٍ تملأها أساطير الأولين، ونرددها دون أن نتجرأ على السؤال؟

يا صديقي، إنّ الدين حين جاء، كان شعاعًا يبدد ظلمات الجهل، وكان الموروث الشعبي يضفي على الحياة طابعًا خاصًا، لكنه لم يكن ليعلو على الحقائق. ثمّ ماذا حدث؟ تطورت الحياة وتبدلت العصور، لكن بعض العقول بقيت حبيسةً لتلك الأزمنة، رافضةً أن تقبل حقيقةً بسيطةً: أن العقل قادرٌ على الإبداع كما هو قادرٌ على التذكّر.

فما السبيل يا رفيقي؟

إنّ السبيل يبدأ بالسؤال. السؤال الذي هرب منه كثيرون خوفًا من أن تهتز قناعاتهم. إنّ الموروث الشعبي والديني لا يُلغى، لكنه يُراجَعُ، يُمحّصُ، ثم تُعادُ صياغتُه بما يتناسب مع روح العصر.

ويا لها من مهمةٍ شاقة!

إنّ من يجرؤ على المراجعة، يُتهم بالخيانة، ومن يطلب الإبداع يُنعت بالكفر. لكن يا صديقي، لو تأملنا، لوجدنا أن الحضارة التي نباهي بها العالم اليوم لم تُبنَ إلا على أسسٍ من النقد والمراجعة.

إنّ الجمود آفةٌ قاتلة، تُميت الحاضر، وتُطفئ أمل المستقبل. وإنّ أولى خطوات التحرر تبدأ بفتح نافذة العقل على نور العلم، على أدب الحوار، على قبول الآخر.

يا صديقي، إنّ الكلمات التي ننطقها، والتقاليد التي نمارسها، ليست أكثر من مرآةٍ تعكس ما بداخلنا. فإن كنّا نريد لمجتمعنا أن يُشرق من جديد، فعلينا أن نُشرق أولًا في أعماقنا، أن نواجه أنفسنا، أن نعترف بالقصور، وأن نتجرأ على التغيير.

وختامًا يا رفيقي، لا تخف من الغوص في أعماق الفكر، فإنّ البحّار الذي يخشى الغرق لا يصل إلى الشاطئ الآخر. كن شجاعًا، كن طليق العقل، واستمسك بالحقيقة، فهي وحدها النجاة من مستنقع الجمود.

هذا زمانٌ يحتاج فيه الإنسان إلى أن ينهض من سباته، إلى أن يتحرر من قيد العادة، إلى أن يُعيد صياغة ذاته. فلا تترك نفسك أسيرًا، واجعل من فكرك جناحين، تُحلّق بهما نحو آفاقٍ أرحب.

فيا صديقي، انفض عنك غبار الماضي، وارسم مستقبلك بحبر الإبداع.

***

بقلم: د. علي الطائي

5-12-2024

بقلم: كوتريانا جارناسفيلي

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

إلى أي مدى يكون نطاق عمل المترجم واسعًا؟ تدعو كوتريانا جارناسفيلي إلى الاعتراف الواجب بالمهام "المتعلقة بالترجمة".

***

هل يعرف الناس ما يفعله المترجمون؟ حسنًا، كما يوحي الاسم، هم يترجمون. لكن ماذا يعني ذلك بالضبط؟

حتى تعريفات المترجمين للترجمة تختلف، فكم هو محتمل أن يفهم غير المترجمين عملنا؟

هناك صورة شائعة توضح ما يعنيه أن تكون مترجمًا، وقد تجولت نسخها المتشابهة عبر الإنترنت لفترة طويلة الآن (مثل هذه الصورة). تتكون الصورة من عدة صور توضح كيف يُنظر إلى المهنة من زوايا مختلفة، تقريبًا بالطريقة التالية:

- كيف يراني أصدقائي (صورة من Google Translate أو أداة ترجمة الذكاء الاصطناعي الأخرى)

- كيف تراني عائلتي: (شخص يرتدي بدلة رسمية ويحمل دفتر ملاحظات أمام ميكروفون، يؤدي الترجمة الفورية لاجتماع سياسي كبير، مع جو بايدن في الخلفية)

- كيف يرى المجتمع عملي: (نيكول كيدمان في فيلم المترجم)

- كيف يرى محرري عملي: (طفل صغير يرسم بخربشات باستخدام أقلام التلوين)

وهكذا دواليك. على الرغم من تكرارها واعتيادها، إلا أن هذه الصورة النمطية تشير إلى سوء الفهم المستمر للدور الذي يقوم به المترجم وكيفية تصورنا له. يمكنني أن أؤكد أن الكثير من الناس، بمجرد سماعهم كلمة "مترجم"، يتخيلونك جالسًا في كابينة زجاجية مرتديًا سماعات رأس داخل الأمم المتحدة، أو البرلمان الأوروبي، أو أي مؤسسة مشابهة. لقد فقدت القدرة على إحصاء عدد الأشخاص الذين افترضوا أن الترجمة تعادل الترجمة الفورية، وأن المترجم قادر تمامًا على أداء الترجمة الفورية لخطاب عفوي، دون تحضير مسبق، من أو إلى جميع اللغات التي يتقنها. "أليس هذا ما تقوم به؟"

هل يعني هذا أن مهنتنا يكتنفها الغموض؟

مؤخرًا، أجريتُ استطلاعًا غير رسمي لاستكشاف هذا الموضوع بشكل أعمق. كان جميع المشاركين، وعددهم حوالي ثمانين شخصًا، يحضرون فعالية أدبية كبيرة. لم يكن أي منهم مترجمًا محترفًا، لكنهم جميعًا كانوا مهتمين بالأدب العالمي. طلبت منهم مراجعة قائمة من الأنشطة، ولكل نشاط منها الإجابة على السؤال التالي: "من، برأيك، من المرجح أن يقوم بهذا؟" وكانت خيارات الإجابة: "المترجم" أو "شخص آخر."

إليك قائمة بالأنشطة التي تضمنتها القائمة:

- الترجمة

- ابتكار كلمات جديدة

- التحرير

- المشاركة في التأليف/الإبداع مع مؤلف النص الأصلي

- البحث عن مؤلفين جدد وأصوات جديدة

- تعقب أصحاب حقوق الملكية

- البحث عن أرقام المبيعات، واللغات التي تُرجم إليها كتاب معين، وبيانات أخرى

- كتابة تقارير القراء

- قيادة ورش العمل

- التحدث في الفعاليات

- الترويج للكتب (مثل تنظيم الفعاليات)

- استضافة أندية الكتاب ومجموعات النقاش

- حمل كتب إضافية في حقيبة قماشية تحسبًا لنقص النسخ في فعالية أو توقيع

- البحث في السوق الأدبية لمعرفة الناشر أو المجلة أو المنصة المناسبة للنص أو المؤلف الذي يترجمونه أو يرغبون في ترجمته (ويُعرف أيضًا بمطابقة النصوص مع الجهات المناسبة)

- إقناع المؤلف بتجربة نوع أدبي جديد أو موضوع قد يلقى قبولًا خاصًا في سوق معينة

- إعداد عروض تقديمية وملفات العرض

- إعداد عبارات جذابة وسريعة لوصف كتاب يعتقدون أنه يتمتع بإمكانات واعدة

- كتابة بيانات حول أهمية الكتب والمؤلفين وجاذبيتهم

- كتابة تعليقات أو ملاحظات أو مقدمات أو خواتيم للنصوص

- تضمين معلومات ذات صلة في السيرة الذاتية للمؤلف وتحديث صفحته على ويكيبيديا

- التقدم للحصول على منح

- تمثيل المؤلفين في غيابهم

- كتابة مذكرات حول عملية عملهم

- العمل كوسيط بين المؤلفين، والناشرين، والمحررين، والرعاة، والمؤسسات الثقافية، والأطراف الأخرى المشاركة في عملية الترجمة والنشر، سواء في الثقافة الأصلية أو الثقافة المستهدفة

- تنسيق مشاريع تشمل المؤسسات الثقافية، ووكالات التنمية، والهيئات العامة، والجامعات، وغيرها من الجهات (ويُعرف أيضًا بالتخطيط الاستراتيجي)

- تعزيز ظهور الأدب العالمي والتعددية اللغوية.

لم أدرج خيارًا يقول: "المترجمون يقومون بكل ما سبق" (عن قصد)، لكن هذا هو الجواب الصحيح. في الواقع، المترجمون يقومون بكل هذه الأنشطة، وكلها تسهم ليس فقط في نجاح كتاب معين أو مؤلف بعينه، بل أيضًا في تعزيز ظهور الترجمة ومكانتها بشكل أوسع. هذه الأنشطة ليست مجرد مهام عملية، بل غالبًا ما تكون ضرورية. دعونا نسميها الأنشطة المرافقة للترجمة.

في مقالة حديثة، لاحظت سامانثا شني أن "المترجم اليوم يكاد يكون من المؤكد أنه يقوم بأدوار متعددة تتجاوز بكثير الوظيفة التقليدية المتمثلة في ترجمة عمل إلى لغة أخرى". ومن بين هذه الأدوار: البحث عن المواهب، والعمل كوكيل أدبي، والترويج، وبناء العلاقات، وباختصار، القيام بمهام متعددة. وبالتالي، فإن مهمة المترجم أكثر تعقيدًا وتنوعًا مما قد يبدو. لكن هل يدرك الناس هذه المهمة؟ وهل يتم الاعتراف بها بالفعل؟

بالعودة إلى استطلاعي، كانت الأنشطة التي اعتُبرت أقل احتمالاً أن يقوم بها المترجمون هي: "كتابة المذكرات"، و"التأليف المشترك مع مؤلف النص الأصلي"، و"تمثيل المؤلفين في غيابهم". بينما كانت "الترجمة" هي الخيار الأكثر شيوعًا، حيث قام 100% من المشاركين بوضع علامة على هذا النشاط ونسبوه إلى المترجم بدلاً من أي شخص آخر، وهو أمر غير مفاجئ. ومع ذلك، لم يُنسب أي من الأنشطة الأخرى إلى المترجمين من قِبل أكثر من 20% من المشاركين.

على الرغم من أن هذا كان استطلاعًا غير رسمي، إلا أنه يكشف عن اتجاه مثير للاهتمام. فقد كان غالبية المشاركين يميلون بوضوح إلى الاعتقاد بأن شخصًا آخر، وليس المترجم، هو الأكثر احتمالاً للقيام بمعظم الأنشطة المساندة للترجمة المدرجة في القائمة. ومع ذلك، فإن هذه الأنشطة ذات أهمية كبيرة ويجب أن يقوم بها شخص ما. فهي، في الواقع، ضرورية.

تُسفر هذه المهام عن نتائج إيجابية عديدة: توفير جمهور أوسع لكتّاب مميزين، توسيع فهمنا للعالم، تعزيز التعددية اللغوية، إعطاء صوت للغات والثقافات المهمّشة، تنويع المشهد الأدبي، وغير ذلك الكثير.

تعتبر المهام المساندة للترجمة مهمة بحد ذاتها، وعادةً ما يتحمل المترجمون مسؤولية هذه المهمة. ولماذا؟ ببساطة لأن لا أحد آخر مستعد لتوليها. وحتى إذا وجد من هو مستعد، فلن يكون بالضرورة قادرًا على القيام بها.

تشير هذه المهام المساندة للترجمة إلى عدة مشكلات: أولاً: لا توجد ممارسة مُعتمدة على ما يبدو لتولي شخص آخر هذه الأنشطة بفعالية. ثانياً: لا توجد ممارسة مُعتمدة على ما يبدو لتمكين المترجمين، مالياً وغير ذلك، من أداء هذه المهام.

حتى وإن كان هناك شخص آخر افتراضي وحالم مستعد لتولي جميع المهام الواردة في القائمة (تاركا للمترجمين مهمة الترجمة فقط)، فإنه من المحتمل أن يحتاج هذا الشخص إلى استشارة المترجمين. فالمترجم يعيش في عوالم متعددة، حيث يتنقل بين اللغتين والثقافتين المصدرية والهدفية؛ وهذا يجعله الشخص الأنسب الذي يمتلك المعرفة والمهارات اللازمة لهذه المهام، وهي معارف ومهارات قد لا يمتلكها الآخرون.  لكن أداء هذه المهام يتطلب قدرًا كبيرًا من الوقت والجهد والبراعة، وكل ذلك بالإضافة إلى أول شيء في القائمة: الترجمة الفعلية.

حتى يتم إرساء ممارسة معترف بها، سيظل المترجمون في موقف الاضطرار للعمل كوسطاء من الدرجة الأخيرة (وهو مصطلح ابتكره أنطون هور)، حيث يقومون بأداء مهام غير معترف بها وغالبًا ما تكون غير مدفوعة، وفي كثير من الأحيان لا يُعترف بها كجزء من عملهم. وتبرز كمية العمل التي تتجاوز الترجمة—مثل الحصول على الحقوق، وإعداد العينات، وتقديم العروض، والتواصل، والبحث عن التمويل— في مقابلة هور مع يي هينج ييه، حيث تدعو هور إلى "جهاز أفضل لتمثيل المؤلفين والمترجمين على المسرح العالمي الناطق باللغة الإنجليزية". ويضيف بصراحة: ""لا أعرف إلى متى يمكنني الاستمرار في هذا العمل، بصراحة."

وتزداد الحبكة تعقيدًا: حيث يتم تمثيل هور الآن، ككاتبة ومترجمة، من قبل صفاء الوهابي من RCW. في حدث مؤخّر نظمته BCLT، تلقت صفاء عددًا هائلًا من الأسئلة من الجمهور تتعلق بعملها مع المترجمين. وهذا يشير إلى أن فكرة وجود وكيل للمترجم لا تزال غير مقبولة كأمر طبيعي—وأيضًا إلى أن هذا المنظور قد يكون في طريقه للتغيير بسرعة.

يُشار إلى الترجمة—إلى جانب الأنشطة المرتبطة بها، التي من المفترض أن تؤدي إلى مزيد من الترجمة—غالبًا باعتبارها "عملاً محببًا"، وهو تعريف بدأ يكتسب صفة قاسية. فهي تتأرجح بين التفاني الذي يلامس البطولة، وبين الاستغلال. كأنك متوقع منك أن تقوم به لأنك تحبه كثيرًا، وأن الحصول على أجر مقابل ذلك سيكون أكثر من المطلوب. فالحب مكافأة كافية. ولكن [عمل المحبب] يظل عملاً على أية حال"، كما كتب المترجم نيكولاس جلاستونبري.

هل يمكن أداء هذا العمل المرتبط بالترجمة بشكل صحيح إذا كان يجب أن يُدرج بين المهام الأخرى التي يقوم بها المترجمون، كما يعتقد غالبية المشاركين في الاستطلاع—ألا وهي الترجمة الفعلية؟

في السنوات الأخيرة، على الأقل، كان هناك تقدم إيجابي. أحد الأمثلة البارزة هو برنامج "PEN Presents"، الذي يمول "العمل غير المدفوع غالبًا" لإنشاء عينات من الترجمة. تم إطلاقه في عام 2022، ويهدف إلى أن يكون برنامجًا طويل الأمد ومستمرًا، وقد عرض بالفعل مشاريع ترجمة متنوعة وجذابة.

في عام 2024، تم منحي منحة فردية من مجلس الثقافة الليتواني. هذه المنح المرموقة والتنافسية مخصصة للمبدعين العاملين في جميع مجالات الثقافة والفنون، سواء كانوا ناشئين أو متمرسين، وتدعم مشاريعهم التي صمموها بأنفسهم. كانت هذه المرة الأولى التي أقدم فيها طلبًا، وقد ركزت مشروعي تحديدًا على الأنشطة المتعلقة بالترجمة. كان شرفًا حقيقيًا أن أظهر في قائمة الفائزين إلى جانب كتّاب ومبدعين مهرة درست أعمالهم في المدرسة. هذه المنحة ذات مغزى كبير، لكن مغزاها ليس شخصيًا فقط. فوق كل شيء، هي اعتراف مهم بأن الترجمة، بمعناها الواسع، هي ممارسة إبداعية تشمل العديد من الأنشطة، وأن المهام المرتبطة بها تعتبر بالفعل جزءًا من الترجمة ومن كون المرء مترجمًا.

أعرف مترجمين آخرين تمكنوا من الحصول على تمويل لمشاريع تركز ليس فقط على الترجمة ولكن أيضًا على الأنشطة المرتبطة بها. على سبيل المثال، تم منح اقتراح كلير ستوري لترجمة الأدب الشبابي من أمريكا اللاتينية منحة DYCP من مجلس الفنون، وهي منحة تدعم الأفراد الذين هم ممارسون ثقافيون وإبداعيون ويرغبون في تخصيص وقت للتركيز على تطويرهم الإبداعي. مشروع ستوري يركز على الممارسات التي تستغرق وقتًا طويلًا مثل إنشاء العروض التقديمية والعروض الترويجية، وبناء الشبكات، وإجراء أبحاث السوق: وهي أنشطة مرتبطة بالترجمة بشكل كلاسيكي.

لقد كانت هناك تطورات واعدة أخرى، على الرغم من أنها لا تزال تبدو وكأنها حالات منفصلة، أو نتاج جهود فردية ودوافع شخصية، بدلاً من أن تكون حركة مستمرة. وبالنظر إلى أهمية المهمة التي يؤديها المترجمون في تنويع الأدب العالمي وإثرائه، وإلى الإمكانيات الهائلة لما يمكن أن يتم تحقيقه في حال توفر الظروف المناسبة، فإن هذه الحالة تتطلب مزيدًا من الوعي العام، والتناسق، والاعتراف. يجب أن لا يبدو الاعتراف بالترجمة وكل العمل الذي يأتي معها استثناءً مفاجئًا وممتعًا، بل يجب أن يكون ممارسة طبيعية.

(تمت)

***

.....................

الكاتبة: كوتريانا جارناسفيلي / كاتبة ومترجمة ومترجمة فورية تعمل باللغات الإنجليزية، الليتوانية، الفرنسية، الألمانية، الروسية والجورجية. هي أستاذ مساعد في الأدب والترجمة، تدرّس في جامعة فيلنيوس وجامعة إيست أنجليا، حيث حصلت على درجة الدكتوراه في الترجمة الأدبية وتعمل كعضو في مجموعة أبحاث BCLT.كما أنها مرشدة وكذلك كانت متدربة سابقة في برنامج التوجيه للمترجمين الناشئين في المركز الوطني للكتابة، وقد حصلت على فرص تدريبية في مجلس الاتحاد الأوروبي والبرلمان الأوروبي.

https://wordswithoutborders.org/read/article/2024-12/translation-adjacent-garanasvili/

كانت علياء تتزين كل يوم على مدار السنة، لكنها اليوم استيقظت على غير عادتها، جلست على الكرسي وجها لوجه تتزين وتنظر للمرآة ساعات طويلة، أنه اليوم المشهود عندها؛ اليوم الذي تحتفل به الأمم العربية عبر المعمورة قاطبة بقدوم علياء ذات الكلمات الرائعة، والمعاني الكثيفة، والمفردات القوية، ولولا علياء يتقطع الكلام فتفقد الحياة كل معنى، يُفقد الشعر، كما يُفقد النثر، ويُفقد البيان « وسئل النبي صلى الله عليه وسلم: فيم الجمال؟ فقال في « اللسان » .. يريد البيان.

وقال صلى الله عليه وسلم: « إن من البيان لسحراً».

وقالت العرب: أنفذُ من الرَّمِيةِ كلمة فصيحة»1.  ويسقط الخطباء من أعلى منابرهم، وتُفقد السير والتراجم، القصص والروايات، فلا تنادي علياء الإنسان المبدع للكتابة، ولا تمده بمفرداتها القوية، تنتظر تجليه كي يظهر بكلماتها وحروفها الرنانة، يتكلم، ينطق، تنبثق من وجدانه، فجُبل المرء أصلا كمخلوق لاغٍ، يخاطب ويكتب ويرسل المعاني ويعبر، بيد أن علياء حالة التكلم مع الذات المبدعة، إنها تلازم لغة الكاتب مع مظهر الكتابة الإبداعية، تعطي الصورة الحقيقية في المتعارف، هي عبارة المتكلم عن غرضه ومقصوده وتلك هي علياء بالجمال والانسياب، التعبير و الاصطلاح.

متى سموك يا علياء عند العرب..!؟

لا ابن هشام ولا ابن كثير ولا العقد الفريد لابن عبد ربه نُسي، ُصرمت حبات العقد جواهر منسية واندثرت في غيابت الجب لا لؤلؤة ولا زَبَرْجَدة، لا ياقوت وجُمان؛ ولا الجاحظ هوت المكتبة عليه من شدة القراءة والتأليف فأبدع مكنونات وجواهر منسية، كتب قلمه مؤلفات فنية أغنت اللغة وآدابها مفردات قوية: الرسائل الإبداعية، البخلاء، الحيوان، البيان والتبيين، وكتاب العثمانية، يقول الجاحظ في كتاب المحاسن والأضداد: «الكتاب هو الجليس الذي لا يطربك والصديق الذي لا يقلقك والرفيق الذي لا يملك والمستمع الذي لا يستزيدك والجار الذي لا يستبطئك والصاحب الذي لا يريد استخراج ما عندك بالملق ولا يعاملك بالنكر ولا يخدعك بالنفاق....الكتاب هو الذي إن نظرت فيه أطال إمتاعك وشحذ طباعك وبسط لسانك وجود بيانك وفخم ألفاظك»2.

ولا أبو محمد الهمداني بمقاماته، ولا أحمد اليعقوبي بتاريخه الموسوعي، التوحيدي مات غريبا يا علياء، جفاه قارئا حبيبا، ما لبث المسكين أن أحرق ما لديه من مصنفات؛ فكف أبو حيان يا علياء قلمه قائلا: « لقد كل البصر، وانعقد اللسان، وجمد الخاطر، وذهب البيان، وملك الوسواس، وغلب اليأس، من جميع الناس»3.

لماذا تستيقظِ من سُبَاتكِ العميق وأصحاب الحفاوة والاحتفال بيومك العالمي نائمون؟

لن يصبح العرب واعين لمصيرك يا علياء وقادرين على مجابهة هيباتيا السكندرية، ولا جوليا كريستيفا البلغارية إلا بعد أن يتبلور مفهوم علياء في ذهنهم، ويعشقون محاسنها، ويشحذون طباعهم بمعانيها، ويبسطون لسانهم بمفرداتها، ويفخمون ألفاظهم بحروفها، حينها نقول يا علياء ما قال شاعر النيل حافظ إبراهيم:

وسِعتُ كِتابَ اللهِ لَفظاً وغاية ً وما ضِقْتُ عن آيٍ به وعِظاتِ

***

رحموني عبد الكريم باحث من الجزائر

.....................

1- الفقيه أحمد بن محمد بن عبد ربه الأندلسي: العقد الفريد، ص: 04 .

2- أبو عمر الجاحظ: المحاسن والأضداد، ص 6.

3- أبو حين التوحيدي: الإمتاع والمؤانسة، ص 16.

 

التساؤل هنا، كيف يمكن التحرر من التنميط الملازم للشعر خاصة والثقافة بصورة عامة؟ وليس ذلك من باب الإلغاء أو الإفساد، إنما الأخذ بتحديث الأنماط  وتحريرها من القسرية التي تسمى القوالب؟

أنماط كتابات الشعر والنثر، قد تأخذ مسارات شعرائها، وأمثلة ذلك كثيرة كما يتحدث عنها البعض أي لا يجب أن يتبنى الشاعر طريق المتنبي أو طريق بدر شاكر السياب ونازك الملائكه والبياتي او طريق الروائيين والمسرحيين شكسبير وكافكا وكولن ويلسون وسارتر وفيكتور هيجو، حتى يكون شاعرا وروائيا وكاتبا وغيرهم من المبدعين.. هذا يسمونه أسر النمطية في الابداع الفني (يقولون لا يجب ان نتبع مسار كافكا ومسار فرانس فانون وسارتر وطه حسين حتى نكون روائيين ولا مسار شكسبير ودانتي والسياب والبياتي لكي نكون شعراء) ، وهذا كلام صحيح يتوجب عدم اغفاله طالما ان الحداثة تشترط الخروج على النمطية دون احداث ضرر في الإبداع الثقافي والفكري وفنون الجمال.

قال لي احد الشعراء المعاصرين في اليونان-أثينا ضاحية  "خلاندري"، ونحن نحتسي القهوة ذات يوم (ان النماذج الاوربية الفنية لا يجب ان تكون انماطا جاهزة تفرض رمزيتها الخاصة على مسارات الابداع الجمالية الاخرى في العالم).. والذي يقصده في المعنى هو التحرر من قسرية الانماط والتوقف عن فرضها على ابداعات اخرى لا من حيث المقاسات ولا من حيث انماط الشعر والنثر وغيرها. فالإبداع لا يتوقف إلا عند فقدانه البيئة والأجواء الصالحة والتذوق المرهف للأدب والفن.. فإذا فقد الشعر اجوائه ومذاق محيطه وغمرته سحابة كالحة من الغيوم الاجتماعية بات الشعر كئيباً وربما يبدع في إنعكاس شاعريته، لأن الشعر والأدب هما إنعكاس لواقع المشاعر الإنسانية في الجمال والحب والفرح كما في حالات الهم والغم والحزن. يتسائل البعض، كيف يمكن للشاعر أن يكتب شعر الفرح والحب في مأتم؟ وكيف يمكن للشاعر ان يتغاضى عن مشاعر الحزن ويكتب بمشاعر الغزل؟ هنا يتحدد شكل او لون الشعر تبعا للواقع المعاش.. وهذا يختلف عن شعر المخيلة البعيد عن ما هو كائن أو ما ينبغي أن يكون، حيث الإغتراب عن حقائق الواقع الموضوعي حين يكثف الاغتراب شكل الوجود ويجعله متالقاً أو كالحاً او وخيماً يبعث عن الشؤم.

بعض قصائد السياب عند مرضه كانت غائمة معتمة وممطرة بالحزن، وقصائد نزار تسيح حباً باذخاً وشهوانياً فاضحا يقطر عسلاً حين تعشق الروح والحب والجسد، ولكن هذا لا يعني ان الشاعر نزار قباني لا يحزن وإن بدر شاكر السياب لا يفرح برؤية حبيبته حتى في الخيال.

الشعر، من الصعب تخيله جاهزاً.. حزمة جاهزة في جعبة الشاعر.. إنها زخة ماطرة من الفرح أو الحزن من التفاؤل والتشاؤم من الحب والكراهية.. تنقط قطرة قطرة كحبات المطر وتتجمع في اناء القصيدة.. والقطرات تنزل من أعلى الإلهام إلى أعماق الذات الإنسانية لتعتمل إرهاصاتها فتولد قصيدة الشعر وقصيدة النثر وهي في خارج أسوار التنميط القسري.. لا يجب ان نتبع نمط السياب ونزار والبياتي لكي نكون شعراء، ولا يجب أن نتبع أنماط دانتي وشكسبير وكولن ولسون وسارتر وسيمون دي بفوار لكي نكون روائيين.. ولا يعني ذلك إهمال الأنماط وإلغائها، إنما التفتيش عن أنماط لا تهدم الابتكار، بل تعزز ما هو كائن، تحديثاً لما ينبغي أن يكون عليه النص.

قصيدة النثر تحمل شكلا ومضمونا تطوريا لا يلغي ولا يهدم اسس الشعر بل يكسر النمطية والقوالب الجاهزة ويبقي على الاصول.. قد يحمل النص النثري أكثر من لحن موسيقي، وهنا قد يسقط الشاعر في تناقض الإيقاع في شكل نشاز.. وهذا يفترض الإنسجام في اللحن وفي الايقاع.. وقد يتحمل النص النثري أكثر من تفعيلة يتوجب أن تكون منسجمة ومتقاربة في اللحن والإيقاع لا أن تكون متعارضة ومتقاطعة.. النص العمودي بدأ يذوب كثلج الجبال يسيح ليتحول إلى نصوص الشعر النثري في سهول القوافي، وهي قد تحمل الدفؤ، بعيداً عن أنماط الأسوار والرياح العاتية.

***

د. جودت العاني

16/12/2024    

 

تتجه حياتنا اليومية نحو نمط جديد، متجاوزةً التقسيمات التقليدية للزمن بين الليل والنهار أو المواسم والفصول. كما يصف "ليوناردو كافو" في كتابه " سرعة الهروب"، حيث أُزيل الانتظار الطبيعي الذي كان يمنح الوقت عمقًا وتأملاً، أصبحت كل دقيقة مشبعة بالإلحاح ومحفوفة بمحفزات تسيطر على وعينا وتجعلنا عاجزين عن التفكير الحر في الحاضر أو استشراف المستقبل. إن الزمن يبدو الآن وكأنه مبعثر في شذرات غبارية، تفقد معناها في ضبابية متصلة، تمامًا كما تساءل "بيرغونزوني": "مع كل هذه القصاصات الزمنية، أي صورة يتشكل عنها وجودي؟".

تبدو الأشياء التي حملت ماضينا، مثل الكتب والملاحظات المكتوبة بخط اليد، وكأنها تنتمي إلى عصر غابر. لم نعد نعرف حتى خط يد من عرفناهم في العقود الأخيرة، وكأن الوجود قد تقلص ليصبح رقميًا بحتًا. أما الصور المؤطرة، التي كانت تعكس ذاكرة ما، فتبدو وكأنها هُجرت منذ التسعينيات، مستبدلةً بإيقاع رقمي يسرّع التآكل ليس فقط في الأشياء بل في الأدوار والمهارات، محولاً البشر أنفسهم إلى سلع. وهنا يبرز أمل غامض، كما يشير "دانيال دينيت"، في ضرورة وجود "علامة مائية" تذكرنا بإنسانيتنا وسط هذا التحول التسليعي الشامل.

الأجيال الجديدة، التي تعيش في هذه الحقبة الرقمية، تبدو أقل ارتباطا بالماضي، متصلةً بالكاد بأجيال سابقة، وكأنها شاهد صامت على "نهاية التاريخ". فترسبات الجائحة، إلى جانب تسارع الزمن الرقمي، غيرت إدراكنا للوقت، بما يبدو أن الذاكرة الجماعية فقدت بوصلتها؛ فحتى محاولات استعادة الشعور الزمني الشخصي تصطدم بمقاومة داخلية، تثير شعورًا بالضيق وعدم التوازن.

في ظل هذا الإطار، يظهر تساؤل فلسفي حول العلاقة بين الأمل وإدراك الزمن. إن الأمل، في سياق الحضارة الغربية، يرتبط بالقدرة على استشراف المستقبل والتقدم، لكن الرقمنة و"تسطيح الزمن" جعلا هذا المستقبل أشبه بأرض غير صالحة لزرع بذور الأمل. حتى الرغبات الفطرية، مثل الحب والعاطفة، لم تعد تمنح الحياة بهجتها القديمة.

الأمل في هذا السياق ليس عديم الجدوى، لكنه يبدو مشوهًا ومختزلًا إلى "توقعات صغيرة" تخلو من الطموحات الكبرى. كما يصف "إرنست بلوخ"، الحلم لطالما تجاوز حدود اليومي، متطلّعًا إلى آفاق أبعد. ومع ذلك، فإن الآمال الصغيرة، رغم ضرورتها أحيانًا، قد تقود إلى حياة تفتقر إلى العمق والمعنى إذا لم ترتبط بآمال كبرى تمنحها سياقًا وغاية.

من هنا، يتضح أن التعليم، الذي يشكل علاقة بين الأجيال، يتحمل مسؤولية زرع الآمال الكبرى لدى الأطفال. ليس من خلال التركيز على النجاح المادي أو الأمان الشخصي فقط، بل من خلال تعليم الشجاعة، الكرم، حب الحقيقة، والرغبة في المعرفة والتغيير. الآمال الصغيرة، إذا سادت وحدها، قد تولّد جواً من الجمود والاكتفاء أو الخوف من الحياة. أما الآمال الكبرى، فهي وحدها التي تحمل إمكانية تجاوز الذات، وتفتح المجال للإبداع الإنساني.

وكما أن الأمل ليس مجرد شعور، بل فعل مرتبط بالحب والإخلاص، فهو استثمار واعٍ يتطلب رؤية واضحة وشغفًا بالعمل، وليس مجرد تفاؤل ساذج. ليصبح الأمل قوة تجمع بين الفرد والجماعة، بين الحاضر والمستقبل، بين الرغبة والحقيقة، ليعيد صياغة الوجود الإنساني في ظل عصر يتحدى كل ما هو مألوف.

***

الأستاذ محمد إبراهيم الزموري

مثلما كان افلاطون تلميذا لسقراط، عاش ارسطو اكثر من عشرين عاما وهو يستمع الى دروس معلمه افلاطون في الاكاديمية، ومثلما كان افلاطون معلما للحاكم ديون، اصبح ارسطو معلما لابنه الاسكندر، وفي كلتا الحالتين كان افلاطون وارسطو يودان ان تتجسد تعاليمهم في نظام الحكم، ومثلما اسس افلاطون مدرسته، تمكن ارسطو ان يؤسس المدرسة " المشائية " وكان الطلبة فيها يتفلسفون وهم " يتمشون " بين الاروقة.

ولد ارسطو في مقدونيا سنة 384 ق.م، ونعرف أن والده كان طبيباً في بلاط ملك مقدونيا، قد أرسل ابنه وهو في السابعة عشرة إلى أثينا، وهناك التحق الأكاديمية افلاطون، واستقر لعشرين عاماً كطالبٍ في البداية، ليتحول في النهاية إلى مدرسٍ فيها، غادر أرسطو الأكاديمية في السنة التي توفي فيها معلمه أفلاطون، وبعد فترة من السفر عاد إلى أثينا ليؤسس فيها المشائية، وقد بقي أرسطو في المدرسة حتى العام 323 ق. م، حيث اصبحت علاقته سيئة بالطبقة الحاكمة، فقد كان يرفض اي اتهام يوجه الى الفلسفة، عاش سنوات الاخيرة منفيا في جزيرة وابيه وتوفي فيها عام 322 ق.م

شكل كل من سقراط وأفلاطون وارسطو سلسلة مترابطة، ولاننا نؤمن بما قاله ديورانت من ان العباقرة لا يولدون من لاشيء، ولهذا كان هؤلاء الثلاثة معلمون ملهمون، لكن برغم ارتباطهم إلا ان افكارهم كانت مختلفة، لم يكونوا يرددون ما يقال لهم، كان لكل واحد منهم اشتغالاته الخاصة. بتعبير ادق كان سقراط متحدثا عظيما، وكان أفلاطون كاتبا ممتازا وكان أرسطو مفكرا يهتم بكل الاشياء، كان سقراط وأفلاطون يرون ان العالم الذي لا يمكن إدراكه إلا بالتفكير الفلسفي المجرد. وكان أرسطو، يعتقد ان التجربة والمعاينة هي التي تشرح لنا ما يدور حولنا في العالم، وكان ارسطو يرى أن للمخلوقات البشرية وظيفة مهمة وهي قدرتها على التفكير بما يجب ان تفعله، ولهذا اعتبر أن أحسن نوع للحياة بالنسبة للمخلوقات البشرية هي الحياة حيث نستعمل قدراتنا العقلية.

كان السؤال الذي يشغل الفلاسفة هو :"كيف يمكننا أن نزيد حظوظنا من السعادة ؟". وكان سقراط يصر إن السؤال يجلب لنا الحقيقة وهذه الحقيقة هي التي ستدلنا على السعادة، في الوقت الذي كان فيه افلاطون يرى ان السعادة تقوم على نوع معين من التناغم والانسجام بين الرغبات والأهداف، فيما أصر أرسطو أن يخبرنا إن الاحساس بالسعادة سيقودنا إلى السلوك الحسن.

أرسطو الذي كان يطرح على تلامذته سؤالاً هو: "كيف يجب أن نعيش؟". وكان يعتقد إن الاجابة عن هذا السؤال هي الطريق إلى الفلسفة ولهذا ظل طوال حياته يرفع شعار " إبحث عن السعادة" .

ماذا تعني عبارة "إبحث عن السعادة"؟ تعني عند أرسطو اكتمال الفضائل في النفس، وهو يعتقد إن كل فضيلة توجد في الوسط بين طرفي نقيض. توجد الشجاعة مثلها في الوسط بين الجبن والتهور.

يعتقد الكثير من فلاسفة العصر الحديث بأن أرسطو كان محقاً في ما يتعلق بأهمية تطوير الفضائل كما أن رؤيته لما تعنيه السعادة كانت دقيقة وملهمة. يعتقدون بأنه عوض السعي إلى رفع نسبة المتعة في الحياة، يجب أن نحاول أن نكون أحسن وأن نفعل الشيء الصحيح. هذا ما يجعل الحياة تسير على ما يرام.

كل هذا يجعل الأمر يبدو وكأن أرسطو كان مهتماً فقط بالتطوير الذاتي للأفراد. لم يكن كذلك. يبين أرسطو بأن المخلوقات البشرية هي مخلوقات سياسية. نحتاج أن نكون قادرين على العيش مع الآخرين، ونحتاج إلى نظام للعدالة حتى نتعامل مع الجانب الأسود من الطبيعة البشرية. لا يمكن أن تدرك السعادة إلا في علاقة مع الحياة في المجتمع. نعيش معاً، ونحتاج أن نجد السعادة بالتفاعل جيداً مع الناس الذين يحيطون بنا في دولة سياسية منظمة.

كان أرسطو يوصف بانه ذكي جداً وكانت أبحاثه شاملة وجامعة لدرجة أن مَن يقرأ أعماله يعتقد أن أرسطو محقاً في كل شيء. وبعد مئات السنين على وفاته، كان العلماء الذين عاشوا بعده يقبلون أفكاره حول العالم على أساس أنها صحيحة بلا جدال. إذا استطاعوا أن يثبتوا أن أرسطو قال شيئاً، كان ذلك كافياً بالنسبة إليهم. هذا هو ما يسمى أحيانا "سلطة أرسطو" التي ظلت تهيمن على الفلسفة لاكثر من خمسة عشر قرنا،

عاش أرسطو حياته مفتوناً بالعديد من هذه الأسئلة الفلسفية، لكنه كان يميل إلى الإجابة عنها بطريقة يمكن أنْ نطلق عليها اسم "علمية". لقد كان، مثل أفلاطون، فيلسوفاً، لكنه كان فيلسوفاً طبيعياً، وهو ما نسميه "عالِماً". كان فرع الفلسفة الذي يثير حماسه أكثر هو المنطق - كيف يمكننا التفكير بشكل أكثر وضوحاً -. كان دائماً مشغولاً بالعالم من حوله، بالأرض والسماء، وبطريقة تغير الأشياء في الطبيعة. .عاش ارسطو ومات عاشقا للحكمة. أمضى حياته في محاولة لفهم العالم من حوله، وبطرق نرغب أنْ نصفها الآن بالعلمية. لقد أثّرت رؤيته للأرض ومخلوقاتها والسماوات المحيطة بها، في فهمنا لأكثر من 1500 سنة. لقد تفوق أرسطو جنباً إلى جنب مع جالينوس، على جميع المفكرين القدماء. بالطبع فإنه بنى على ما مضى،، لكنه لم يكن فيلسوفاً متعالياً. لقد انخرط بالفعل مع العالم المادي عندما كان يحاول فهمه.

مثل كثير من القراء العرب تعرفت على ارسطو من خلال ترجمات احمد لطفي السيد، وهو مفكر مصري، يعد من رواد النهضة العربية الحديثة، وقد ترجم الى العربية بعض كتب ارسطو اشهر السياسة، الكون والفساد، وكتاب علم الاخلاق " وقد ترجم لطفي السيد هذه الكتب في عشرينيات القرن الماضي .. وقد وجد لطفي السيد في فلسفة ارسطو بانها الاقرب الى تفكيرنا الحديث، ونجده يقول :" ان بعض الناس سيتسائلون هل نحن في حاجة الى ارسطو في عصرنا الحاضر " ويجيب :" ان فلسفة ارسطو اساس من اسس المدنية الغربية ن وسيظل التفكير الغربي عندنا مستعارا ما لم يتطور تاريخ الفكر عندنا على غرار تطوره في اوربا " .

لعلة نقط البدء في فلسفة ارسطو هي تمجيد العقل، لانه يؤمن بان الناس مخلوقات عقلانية تتخذ القرارات التي تقودها الى الخير، وان ملكة العقل هي اسمى الخيرات، :" ان التامل والمعرفة جديران بان يسعى اليهما الانسان، إذ بغيرهما يستحيل على المرء ان يحيا الحياة التي تليق بانسنيته " . وككائنات عقلانية تاتي سعادتنا العظمى من الخيارات التي وصلنا اليها من خلال العقل، وأرسطو في الواقع أساس النزعة الإنسانية الأوروبية كلها. فالفلسفة كما اراد لها ارسطو هي المحاولة العنيدة المستمرة لوضع العقل في العالم.

ورحم الله ابو العلاء المعري الذي قال :

كذب الظن لا إمام سوى العقل

مشيراً في صبحه والمساء

 يلاحظ ارسطو في كتابه علم الاخلاق ان كل سعي انساني وكلل عمل يتطلبان خيرا ما، على انه غاية لهما . فاذا كان هناك عدد كبير من الاعمال المختلفة، فهناك انواع كثيرة من الخيرات . بيد ان هذه الخيرات كلها يخضع بعضها لبعض حتى نصل الى الخير الاعظم . هذا الخير الاعظم في نظر ارسطو هو السعادة :" ان السعادة هي الخير الوحيد الذي يكتفي بذاته، انها الخير المطلق " .

يري الفيلسوف الفرنسي لوك فيري في كتابه " اجمل قصة في تاريخ الفلسفة " أن أرسطو لم يكن فيلسوفاً تأمّلياً، وإنما كان يرى العالم بعين الفلسفة، ويدرّبنا على أن نتفق على ثوابت الحياة كجماعة إنسانية، وأن نعي الوجود جيداً، يكتب أرسطو: "يجب أن نختبر ما قُلناه سابقاً ثم نختبر صحته بمقارنته بحقائق الحياة، فإذا ما وجدناه يتّفق معها فعلينا إذن أن نقبله، وإذا ما تعارض معها فلا مفرّ من التسليم بأنّه محض حديث نظري".

يكتب فيري أن أرسطو تمكّن من تخصيب الفلسفة بالملاحظة اليومية للحياة

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

لقد تحولت الجامعات، التي كانت يوما ما معاقل للعلم والمعرفة، الى مجرد اذرع تنفيذية لسياسات حزبية ضيقة. بدلا من ان تكون منارات للعلم، اصبحت مصانع لانتاج "الشهادات"، حيث يتم تخرج طلاب غير مؤهلين لسوق العمل، ويتم اغراق جهاز الدولة بهم، وما زاد من الطين بلة الازدياد الهائل للجامعات والكليات الاهلية. وبدلا من ان تكون الجامعات حاضنة للابداع والابتكار، اصبحت سجونا فكرية تخنق كل صوت نقدي او مخالف. وبدلا من ان تكون قلاعا حصينة للعلم، اصبحت ملاعب سياسية تتنافس فيها الاحزاب على النفوذ والمصالح الضيقة. هذا الوضع المزري نتيجة طبيعية لسياسة المركزية المقيتة والمحاصصة التي حولت الجامعات من مؤسسات اكاديمية مستقلة الى اذرع تابعة للوزارة، حيث يتم اتخاذ القرارات من وراء الكواليس، ويتم تعيين القيادات على اساس الولاء الحزبي والمحسوبية والمنسوبية وليس الكفاءة العلمية.

كانت الجامعة قديما، وقبل تأسيس وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، منارة للعلم والمعرفة، حصنا يحمي الفكر الحر والابداع. وبمرور الزمن، تحولت هذه المنارة الى مجرد فانوس خافت، تحكمه ايادي السلطة. فبدلا من ان تكون حاضنة للمفكرين والمبدعين، اصبحت سجنا فكريا يضيق على كل من يحلم بتغيير الواقع. لقد تحولت الجامعات، بفعل سياسات مركزية قصيرة النظر، من مؤسسات اكاديمية مستقلة الى مجرد ادوات طيعة في يد السياسيين. فالسعي وراء الكفاءة العلمية والخبرة قد طغى عليه الصراع على المناصب والمكاسب الشخصية، وتحولت الجامعات الى اسواق تباع فيها المناصب بالولاء السياسي. لقد حُوّلت الجامعة، التي كانت يوما ما معقل الحقيقة، الى مسرحية هزلية، حيث يتقاسم الممثلون الادوار وفقا لمحسوبياتهم وعلاقاتهم، وليس وفقا لقدراتهم ومؤهلاتهم. ان هذا التدهور المريع للجامعات ليس مجرد خسارة للتعليم، بل هو خسارة للبلد باكمله.

لقد ادت سياسة المحاصصة الى ان تصبح الجامعات ساحة صراع سياسي، حيث يتنافس السياسيون على السيطرة على مقاليد الامور، متجاهلين تماما اهمية العلم والمعرفة ولم تعد هناك اهمية للمناهج وطرق التعليم والتعلم الحديثة ولا الى اهمية التدريسي المثابر والنزيه والمتتبع والمتواضع والمحفز وصاحب المعرفة الواسعة والشخصية القوية والمهارات التربوية الفعالة. فالتمركز الشديد للسلطة، الذي فرضته سياسة المحاصصة، قيد حركة الجامعات واجهز على استقلاليتها الاكاديمية. لم تعد الجامعات قادرة على مواكبة التطورات العلمية المتسارعة، بل اصبحت اسيرة لمناهج جامدة وتقليدية ونظرية. ان غياب الحوافز الحقيقية، واستبدالها بحوافز سياسية تعتمد على ما تفرزه التصنيفات الدولية وعلى النشر السريع لابحاث مفترسة، قد ادى الى تراجع مستوى التعليم بشكل كبير، وجعل الغش والانتحال والسرقات العلمية ظواهر طبيعية وتغلبت الغاية على الوسيلة في الترقيات العلمية والشهادات العليا. ونتيجة لذلك، فقدت الجامعات العراقية مكانتها العلمية المرموقة، وتحولت الى مؤسسات تعليمية تقليدية لا تقدم شيئا جديدا للمجتمع.

في الماضي، كانت عملية تعيين اعضاء هيئة التدريس تتم على اساس المنافسة، حيث كان يتم الاعلان عن الشواغر في الصحف وتحديد معايير واضحة للاختيار. اما اليوم، فقد تغير الحال تماما، حيث يتم تعيين رؤوساء الجامعات والعمداء باسلوب المحاصصة السياسية والمئات من اعضاء هيئة التدريس في الجامعات المختلفة من قبل الوزارة بدفعة واحدة دون اعلان او مسابقة، مما يثير الشكوك حول مدى كفاءتهم واستحقاقهم لهذه المناصب او الى الحاجة الفعلية للجامعات لهذه الاعداد الهائلة.

لم يعد من دور للجامعة في اختيار قياداتها واعضاء هيئة تدريسها. لقد فقدت الجامعة حقها في اختيار من يمثلها ويشارك في بناء مستقبلها، وتحولت الجامعات بالفعل الى فروع لجامعة واحدة مركزية اسمها "وزارة التعليم العالي والبحث العلمي".

ان سيطرة الوزارة، ومنذ تأسيسها، على الجامعات وتمركز القرار هي ظاهرة خطيرة ادت الى تدهور التعليم وتهدد مستقبله. يجب العمل على اعادة الاعتبار للجامعات، ومنحها الاستقلالية اللازمة لاتخاذ القرارات، وتشجيع البحث العلمي والابداع عن طريق تمويل الجامعات واساتذتها بناء على درجة نشاطهم في البحث والابتكار. كما يجب العمل على تطوير التشريعات والقوانين التي تحكم عمل الجامعات، بحيث تضمن حصولها على الاستقلالية اللازمة لممارسة دورها الحيوي في المجتمع.

***

محمد الربيعي

بروفسور متمرس ومستشار علمي

 

المرونة الدينية

يميل المسلمون من الجيل الثاني الذين يتبعون إيمانهم ويشعرون بالتمييز ضدهم إلى الحفاظ على ثقافتهم التراثية والابتعاد عن ثقافة البلد الذي نشأوا فيه، مما يهيئ الظروف لسوء التكيف النفسي والاجتماعي. ومع ذلك، يجد بعض المسلمين من الجيل الثاني طرقاً لتبني الثقافة السائدة مع البقاء مرتبطين بثقافتهم التراثية. ولتفسير هذه الملاحظات المتناقضة، قمنا بالتحقيق في كيفية تمكن المسلمين من الجيل الثاني من أن يكونوا جزءًا من الثقافة السائدة والتراثية على الرغم من أن دينهم يُنظر إليه عموماً على أنه غير متوافق مع القيم الغربية. وللقيام بذلك، قمنا بفحص دور المرونة في السعي الوجودي في التثاقف بين المسلمين من الجيل الثاني. وكانت الفرضية هي أن اندماج الجيل الثاني يتعزز من خلال قدرتهم على التحلي بالمرونة في السعي الوجودي، مما يسمح لهم بالتفكير في القضايا الثقافية والدينية وخلق مكان نفسي آمن حيث يمكنهم ممارسة إيمانهم دون الشعور بالحاجة إلى الانسحاب من المجتمع السائد.

أكملت عينتان من المسلمين من الجيل الثاني، واحدة من إيطاليا تتكون من 240 مشاركاً، وأخرى من بلجيكا تتكون من 209 مشاركاً استبياناً عبر الإنترنت. وتم اختبار نموذج معادلة هيكلية متعدد المجموعات. كما تم النظر في التدين، والتمييز المتصور، والمتغيرات الاجتماعية، والديموغرافية. ولاحظنا وجود ارتباط إيجابي بين السعي الوجودي والثقافة السائدة فقط للعينة الإيطالية. وتشير النتائج إلى أن المرونة في السعي الوجودي هي أحد جوانب التثاقف بين المسلمين من الجيل الثاني وأنها يمكن أن توفر مورداً للتعامل مع تحدي النشأة تحت ضغوط ثقافية مزدوجة.

لقد دفع العدد المتزايد من المسلمين من الجيل الثاني في أوروبا، العلماء إلى دراسة كيفية مواجهتهم لتحديات اندماجهم في المجتمعات الأوروبية. ومثل الأجيال الثانية الأخرى، يحاول المسلمون الشباب التوفيق بين المجموعات الثقافية التي هم جزء منها. ولكن على عكس الأجيال الثانية الأخرى، تشمل المجموعات ديانة أقلية في سياقات علمانية ومسيحية.

وقد أكدت الأبحاث الأكاديمية أن الدين عنصر مهم في التثاقف. هناك أدلة كافية على أن الجيل الثاني الذي يتبع الممارسات والتقاليد الإسلامية يميل إلى إبعاد نفسه عن المجتمع السائد الذي نشأ فيه والبقاء مرتبطاً بثقافة تراثهم ردًا على المشاعر المعادية للإسلام المنتشرة، والتي تقوض التكامل الكامل في المجتمع الأوروبي، والتعرض المتكرر للتمييز الديني. لذلك، ليس من المستغرب أن يميل المسلمون من الجيل الثاني الذين يبلغون عن مستويات عالية من التمييز الملحوظ إلى إبعاد أنفسهم عن المجتمع المضيف، على الرغم من أن هذا يمكن أن يؤثر على صحتهم النفسية (على سبيل المثال، القلق والاكتئاب). وعلاوة على ذلك، قد يفضل المسلمون من الجيل الثاني الذين يرغبون في الحفاظ على تراثهم الثقافي الارتباط بأقرانهم داخل مجموعاتهم الدينية والثقافية وتبني ثقافة وقيم بلدهم الأصلي. ومع ذلك، فإن التفضيل الصارم لثقافة التراث قد يمنع الاتصال بالمجموعات الثقافية والدينية في المجتمع السائد، مما قد يؤدي إلى الانسحاب الاجتماعي، أو الأصولية الدينية، أو سوء التكيف الاجتماعي.

أظهرت الأبحاث الحديثة حول تدين الشباب المسلمين المهاجرين أن الجيل الثاني يمكن أن يجد طرقاً للتوفيق بين معتقداتهم الدينية والتقاليد الثقافية الغربية. تشير الأدلة التجريبية إلى أن المسلمين من الجيل الثاني يفهمون الإسلام بشكل أقل من حيث الممارسات والتقاليد، وأكثر من حيث المفهوم الروحي والخاص والرمزي لكونهم مسلمين. يمكن اعتبار هذا التدين المتجدد وسيلة للتعامل مع الضغوط التي يواجهها الجيل الثاني في المجتمع الأوروبي. هذه النتائج ليست متناقضة وفقاً لنظرية التثاقف. في نموذج الفيلسوف الأمريكي "جون بيري" John Perry ثنائي الأبعاد، يذكر بيري أن الصيانة الثقافية العالية تساعد في تحديد استراتيجيتين للتثاقف: الانفصال والتكامل. ويعتمد اختيار أحدهما أو الآخر على العلاقة بين الصيانة الثقافية والتكيف الثقافي، أي المحرك الثاني للتثاقف. بعبارة أخرى، الالتزام العالي بالتراث الثقافي لا يعني بالضرورة التثاقف.

لا يعني هذا بالضرورة أن استراتيجية التثاقف المتمثلة في الانفصال سوف يتم اختيارها. وقد تكون متسقة أيضاً مع التكامل إذا كانت هناك رغبة في المشاركة في مجتمع تعددي.

من خلال دراسة جديدة أردنا التحقيق في العوامل التي قد تعزز التكيف الثقافي من قبل المسلمين من الجيل الثاني الذين يرغبون في الحفاظ على التعلق بثقافتهم التراثية. كانت فرضيتنا هي أن الرغبة في التعامل مع القضايا الوجودية قد تعزز رغبة المسلمين من الجيل الثاني في تبني الثقافة السائدة. في الواقع، قد يتم تعزيز تبني الثقافة السائدة من خلال قدرة الجيل الثاني على التفكير في القضايا الوجودية، مثل تصور الدين بشكل مختلف عن آبائهم أو الجيل الأول، في حين يشير الحفاظ على ثقافة التراث في المقام الأول إلى الالتزام بالإسلام.

على هذه الخلفية، يحتاج المسلمون من الجيل الثاني إلى التوفيق بين منظورين ثقافيين متعارضين في بعض الأحيان. مثل غيرهم من الأجيال الثانية، يتلقى الشباب المسلمون انتقالاً بين الأجيال للتراث الثقافي من خلال أسرهم ومجتمعهم العرقي، والذي يشمل التعليم الديني. وهذا يعكس رغبة الوالدين واهتمامهما بالوفاء بواجبهما الأخلاقي والديني لنقل المبادئ الإسلامية إلى أطفالهما. لا يوجه الجيل المسلم الشاب نفسه نحو تراثه الثقافي فحسب، بل يتفاعل أيضاً مع ثقافة البلد المضيف من خلال حالات التعليم والتنشئة الاجتماعية (على سبيل المثال، المدرسة ومكان العمل). يميل المسلمون من الجيل الثاني الذين يتلقون تعليماً دينياً من والديهم (على سبيل المثال، حضور المسجد) والذين لديهم أصدقاء متشابهون في التفكير والدين إلى تعزيز ثقافة تراثهم ورفض الثقافة السائدة. على النقيض من ذلك، فإن الشباب المسلمون الذين يتلقون الدعم من أقرانهم الأصليين في بيئات اجتماعية خارج الأسرة والمجتمع العرقي، مثل المدرسة، هم أكثر ميلًا إلى تبني الثقافة السائدة.

وقد أظهرت الدراسات أيضاً أن البلدان التي تتبنى سياسات متعددة الثقافات على نطاق أوسع يمكنها تعزيز اندماج المسلمين من الجيل الثاني (كندا نموذجاً)، في حين أن السياسات الأقل دعماً للتعددية الثقافية قد تقنع المسلمين من الجيل الثاني بعدم تبني الثقافة السائدة، بل تعزيز الروابط مع ثقافتهم التراثية بدلاً من ذلك (على سبيل المثال، الدنمرك).

هناك الكثير من الأدبيات حول دور الجوانب السياقية والعلاقات بين الثقافات في تجربة التثاقف لدى الجيل الثاني. ومع ذلك، فقد حظيت مسألة ما إذا كانت الجوانب الفردية قادرة على تعزيز اندماج الثقافات والأديان المختلفة لدى المسلمين من الجيل الثاني الذين يعتنقون الإسلام في سياقات مسيحية وعلمانية باهتمام أقل. وقد استكشفت دراسات التثاقف أبعاداً فردية مختلفة مثل دور الأسلوب المعرفي، أو الشخصية، أو المتغيرات الاجتماعية والديموغرافية (على سبيل المثال، الجنس).

على حد علمنا، لم تفحص أي دراسة حتى الآن الميل إلى طرح أسئلة حول القضايا الوجودية في موقف معقد حيث يجب التوفيق بين العوالم الثقافية المختلفة. قد يكون هذا الجانب ذا صلة بالمسلمين من الجيل الثاني الذين يحتاجون إلى بذل جهد فردي للتكيف بمرونة مع الظروف الثقافية المتغيرة بدلاً من إبعاد أنفسهم عن المجتمع المضيف. وفي إطار هذا المنظور، قد يكون المسلمون من الجيل الثاني مدفوعين للتفكير في الجوانب الحيوية لوجودهم والتشكيك في النهج العقائدي تجاه الدين النموذجي لآبائهم. على سبيل المثال، لوحظ أن الشباب المسلمين الذين يسعون إلى الاندماج بنجاح في سياق ثنائي الثقافة يعانون من تنافر ثقافي أكثر تعقيداً من أولئك الذين يختارون الثقافة السائدة أو الثقافة التراثية. وفي دراسة حول الجيل الثاني من المهاجرين المسلمين كانت الفرضية هي أن الاستعداد للتعامل مع الأسئلة الوجودية قد يساعد المسلمين من الجيل الثاني جزئياً على تبني الثقافة الغربية دون الشعور بأنهم يجب أن يرفضوا دينهم. ولاختبار هذه الفرضية، نعتقد أن مفهوم المرونة في السعي الوجودي، أي الميل إلى إضفاء الشرعية على وجهات نظر مختلفة حول القضايا الوجودية يمكن تضمينه كجانب فردي للمسلمين من الجيل الثاني في تبني الثقافة السائدة.

لقد عاش المسلمون من الجيل الثاني منذ الطفولة في سياق ثقافي وديني مختلط؛ قد يتبنون نهجاً مختلفاً تجاه الدين عن نهج آبائهم الذين ولدوا ونشأوا في بلد إسلامي. ومن المعقول أن يكون المسلمون من الجيل الثاني الذين يتمتعون بدرجة عالية من المرونة تجاه القضايا الوجودية قادرين على تصور الإسلام باعتباره ديانة إسلامية. الدين الذي يمكن التشكيك فيه والذي يمكن أن يتعايش مع مجموعات ثقافية أخرى.

وباختصار، كان الهدف الرئيسي من الدراسة هو دراسة دور المرونة في السعي الوجودي في التثاقف بين المسلمين من الجيل الثاني المقيمين في أوروبا والذين يتبعون إيمانهم، مع الأخذ في الاعتبار التمييز الذي يدركونه أثناء تجربة التثاقف.

وقد أفادت دراسات سابقة أن السعي الوجودي يمكن اعتباره مفهوماً يشكل جزءًا من الأسلوب المعرفي العام للشخص. يساعد الأسلوب المعرفي الفردي الأشخاص على معالجة المعلومات وإيجاد طريقة لرؤية العالم. يمتد مفهوم السعي الوجودي على طول سلسلة متصلة من الصلابة في أحد طرفيها إلى المرونة في الطرف الآخر. يُعرَّف بأنه الاستعداد لإضفاء الشرعية على وجهات نظر مختلفة بشأن القضايا الوجودية: عدم اليقين الفردي بشأن الأسئلة الوجودية، والتقدير الإيجابي للشك، وتغيير وجهات نظر المرء بمرور الوقت. وقد أظهرت الأدبيات وجود علاقة وثيقة بين الأسلوب المعرفي العام وتثاقف مجموعات المهاجرين. يشير وضع المهاجرين على الاستمرارية بين الصلابة والمرونة المعرفية إلى ما إذا كان هناك ميل للحفاظ على التراث أو تبني الثقافة السائدة. على سبيل المثال، تم استخدام مفهوم الحاجة إلى الانغلاق المعرفي، والذي تم تعريفه على أنه انغلاق عقلي عام.

 لاختبار دور الأسلوب المعرفي العام في التثاقف: يميل المهاجرون الذين لديهم حاجة عالية إلى الانغلاق المعرفي إلى فصل أنفسهم عن المجتمع المضيف، في حين يميل أولئك الذين لديهم حاجة منخفضة إلى الانغلاق المعرفي إلى تبني الثقافة السائدة، مما يعكس نمطًا تكاملياً للتثاقف.

لم تبحث أي دراسات حتى الآن في دور السعي الوجودي في التثاقف، على الرغم من وجود بعض العناصر التي قد تؤدي إلى وجود رابط محتمل. على سبيل المثال، يشبه السعي الوجودي الحاجة إلى الإغلاق المعرفي، لكنه لا يتداخل معها. يشير الإغلاق المعرفي إلى أسلوب معرفي عام يستخدمه الأفراد لتحقيق اليقين وتجنب الغموض في حياتهم، بينما يشير السعي الوجودي إلى ميل الفرد إلى التفكير في قضايا وجودية أوسع، مثل معنى الحياة أو الحياة بعد الموت. ونظراً للتقارب المفاهيمي بين السعي الوجودي والإغلاق المعرفي، يبدو من المنطقي أن المرونة في السعي الوجودي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالتثاقف.

وعلاوة على ذلك، فإن العلاقة بين السعي الوجودي والتثاقف تتفق مع تثاقف الجيل الثاني، كما ورد في الدراسات حول الصلابة المعرفية. ونظراً لأن المهاجرين الشباب يحتاجون إلى الانفتاح والمرونة "لتبرير سلوكهم لأعضاء ممثلين لكلا المجموعتين الثقافيتين" والتعامل مع الضغوط الثقافية المزدوجة التي يواجهونها، يبدو من المناسب فحص الدور الذي تلعبه المرونة في السعي الوجودي في تثاقفهم. كان الهدف من الدراسة الحالية هو التحقيق في العلاقة بين المرونة في السعي الوجودي والتوجه نحو التثاقف بين المسلمين من الجيل الثاني. وبناءً على ما سبق، تم توقع إيجاد علاقة إيجابية بين المرونة في السعي الوجودي وتبني الثقافة السائدة من قبل المسلمين من الجيل الثاني. وعلى النقيض من ذلك بالنسبة للتوجه نحو التراث، لم يُتوقع وجود ارتباط كبير بين السعي الوجودي لدى المسلمين من الجيل الثاني. كانت التدين والتمييز المتصور، وكذلك المتغيرات الاجتماعية الديموغرافية (الجنس والعمر ومستوى التعليم) هي المتغيرات الضابطة.

بالنسبة للدراسة الحالية، تم تجنيد المشاركين من إيطاليا وبلجيكا لاكتساب نظرة ثاقبة حول استقرار النتائج في البيئات الثقافية لبلدين أوروبيين. يشترك كلاهما في أوجه التشابه في الثقافة والدين، ولكن يختلفان في تكوين الجيل الثاني من السكان المسلمين وفي الاعتراف القانوني بهم. في حين أن كلاهما لديه أعداد كبيرة من المهاجرين المقيمين من البلدان ذات الأغلبية المسلمة (من المغرب بشكل أساسي)، إلا أنهما يختلفان في تاريخ الهجرة وتكوين الجيل الثاني.

لوحظت درجات متوسطة أعلى للسعي الوجودي في العينة الإيطالية مقارنة بالعينة البلجيكية، وكان الفرق في متوسط الدرجات مهماً إحصائياً. لوحظت درجات متوسطة أعلى لجميع الأبعاد الدينية، باستثناء الانتماء، في العينة البلجيكية، تم العثور على درجات متوسطة أعلى للدين المتصور.

هذه الدراسة التي اعتمدت التحقيق في التثاقف في عينتين من المسلمين من الجيل الثاني المقيمين في إيطاليا وبلجيكا على التوالي. كانت الغاية تحديد الدور الذي تلعبه المرونة في السعي الوجودي في تبني الثقافة السائدة في الجيل الثاني الذي يتبع الإسلام ويقبل ثقافة تراثه. لقد تم التحكم في التدين والتمييز المتصور والمتغيرات الاجتماعية والديموغرافية مثل الجنس والمستوى التعليمي والعمر. لقد دعمت النتائج جزئياً الفرضية في تصور الدين لدى المهاجرين من الجيل الثاني بشكل مختلف عن الآباء أو الجيل الأول، في حين اشارت بعض النتائج إلى أن قسماً من الأبناء يميل إلى الحفاظ على ثقافة التراث في المقام الأول والالتزام بالإسلام.

***

الدكتور حسن العاصي

أكاديمي وباحث في الأنثروبولوجيا

مسؤولية الأسرة والمدرسة والدولة.. برنامج مقترح

مع أننا لا نمتلك في العراق ارقاما لاستخدام الأطفال والمراهقين والشباب للأنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي فأن الأرقام العالمية تشير إلى أن عام 2023 شهد استخدام نسبة 79% ممن أعمارهم بين (15 و24) عاما منصات التواصل عبر الإنترنت، فيما يقضي الأطفال وقتا اطول.. وحذرت من أن سوء استخدام هذه التكنولوجيا يعرضهم الى الأصابة بأمراض نفسية وعقلية وجسدية.. ومخاطر تهدد الدولة والمجتمع!

وتفردت منظمة اليونسكو في كونها رائدة في تعزيز الدراية الإعلامية والمعلوماتية، خلال تشجيع التفكير النقدي بين مستخدمي الأدوات الرقمية لمواجهة المعلومات المضللة. وفي الوقت نفسه، تسعى جاهدة لتزويد الشباب بمهارات الدراية الإعلامية والمعلوماتية ليصبحوا قادة ومرشدين لأقرانهم في إنشاء ونشر المعرفة والموارد في هذا المجال. ومنذ عام 2016 تعقد المنظمة منتديات أعمال لمساعدة ملايين الشباب للتعرف على آخر التطورات في مجال الدراية الإعلامية والمعلوماتية، في إطار أسبوع الدراية الإعلامية والمعلوماتية، الذي ينظم سنويا للاحتفاء بالتقدم المحرز نحو التثقيف الإعلامي والمعلوماتي الشامل للجميع.. وهذا ما نفتقده في العراق.

ويرى علماء النفس والمهتمون بوسائل التواصل الاجتماعي أن الأضرار التي تسببها هذه الوسائل تعدّ اكثر من منافعها.. نوجز أخطرها بالآتي:

التنمر الألكتروني: اشارت الدراسات الى ان اكثر من ثلث الشباب عبر ثلاثين دولة أفادوا بأنهم تعرضوا للتنمر عبر الأنترنت، وانه تخلى شاب من بين كل خمسة شباب عن المدرسة بسبب وقوعه ضحية ذلك.

ونقصد بالتنمر الألكتروني.. كل سلوك متكرر يهدف إلى تخويف الأشخاص المستهدفين أو إغضابهم أو التشهير بهم.. من خلال نشر الأكاذيب أو نشر صور محرجة لشخص ما، على وسائل التواصل الاجتماعي او إرسال رسائل أو مقاطع فيديو مؤذية أو مسيئة أو تهديدات عبر منصات التراسل.

وننوه الى أن منظمة الصحة العالمية كانت قد اصدرت في العام 2022 تقريرا حول منع العنف المرتكب على الإنترنت ضد الأطفال، والاعتداء الجنسي على الأطفال وما يتعلق بذلك من استدراج الأطفال لأغراض جنسية وإساءة استخدام الصور والاعتداء عبر الإنترنت والتحرش، ويسلط الضوء على أهمية تنفيذ البرامج التربوية الموجهة للأطفال والأولياء، ولا نعرف ما اذا كانت وزارة الصحة ووزارة التربية قد أخذت به أم لا.

اخطر الأضرار

نوجز في الآتي أخطر أضرار الأنترنت ومنصات التواصل:

اشاعة الكراهية: يتعرض الأطفال والمراهقون والشباب لخطابات الكراهية بما في ذلك الرسائل التي تحرض على إيذاء النفس وحتى الانتحار، فضلا عن خطر التجنيد من قبل الجماعات المتطرفة والإرهابية.. وينبه الباحثون الى ان المنصات الرقمية اصبحت اليوم من الوسائل المستخدمة لنقل المعلومات المضللة وخطاب الكراهية ونظريات المؤامرة ذات التأثير الضار على الأطفال والشباب، من اقبحها ما توصلت اليه دراسة بأن حوالي 80% من الأطفال عبر 25 دولة صرحوا بتعرضهم للشعور بخطر الاعتداء الجنسي أو الاستغلال عبر الإنترنت.

الأضرار النفسية والعقلية. توصلت الدراسات الى أن وسائل التواصل الاجتماعي يمكن أن تؤدي إلى رفع معدلات الإصابة بالاكتئاب والقلق والشعور بالوحدة والأنتحار، وتفاقمها لدى الأطفال والمراهقين. وبناءا على أبحاث شملت آلاف المشاركين اصدرت الجمعية الأميركية لعلم النفس إرشادات إلى الآباء والمعلمين ومقدمي الرعاية الصحية وصنّاع السياسات وشركات التكنولوجيا في كيفية الأستخدام الأفضل لوسائل التواصل الاجتماعي.

الاتجار بالبشر. يعدّ الاتجار بالبشر أحد التحديات الرئيسية التي يواجهها المجتمع العالمي حاليا، وتتمثل في استغلال البشر لتحقيق الربح. وأصبح تجار البشر بارعين في الاستعانة بمنصات الإنترنت لتجنيد الضحايا وجذبها، وصار الأطفال والمراهقون عرضة للخداع من قبل المتجرين بالبشر على منصات وسائل التواصل الاجتماعي.

ان مسؤوليتنا الأخلاقية والاجتماعية توجب على الأسرة والمدرسة والدولة حماية ملايين الأطفال والمراهقين والشباب من اخطار استخدام الأنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي.. ويمكن تحقيقه من خلال توصيتين:

الأولى:التعاون والتنسيق مع منظمة الصحة العالمية ومكتب الأمم المتحدة، في تطبيق توصياتها الخاصة بحماية الأطفال والمراهقين والشباب من سوء استخدامهم للأنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي.

والثانية: قيام وزارتي الصحة والتربية ومجالس الآباء والمعلمين بتشكيل هيئة تضع اجراءات عملية لحماية الأطفال والمراهقين والشباب من الأضرار النفسية والعقلية والجسدية والفكرية الناجمة عن سوء استخدام الأنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، بالتعاون مع اقسام علم النفس في الجامعات العراقية، وجمعية الأطباء النفسيين، والجمعية النفسية العراقية التي يسرها ان تقوم بهذه المهمة.

***

أ. د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

‏‏لا شيء يثير القارئ مثل اللقاءات الخيالية بين العقول العظيمة: ماذا لو تحدث انشتاين مع قدوته سبينوزا ؟ كيف سيكون ردّ فعل جين أوستن على داروين؟ هل سيطمئن ماركس لأحاديث ستالين عن الشيوعية؟ قالت سيمون دي بوفوار إن سارتر تمنى لو أنّه التقى بسيغموند فرويد، كان سارتر في الرابعة والثلاثين من عمره عندما توفّي فرويد، وكانت في رصيده ثلاثة كتب هي: (تعالي الأنا موجود)، (التخيل)، ورواية (الغثيان)، وبعد شهر من وفاة فرويد -توفي في 23 سبتمبر عام 1939- أصدر سارتر كتابه الرابع (نظرية الانفعالات)، وفيه يسخر من نظرية اللاشعور الفرويدية، فطبيعة الوجود عند سارتر هي الوعي «بشيء ما»، أما حالة اللاشعور، فقد كان سارتر ينظر إليها باعتبارها مظهراً من مظاهر سوء النية عند أصحاب مدرسة التحليل النفسي، ومحاولة لإنكار الحرية التي يجب أن نختارها لمصيرنا. كان سارتر يؤمن أن فرويد عبقريّ، لكن عبقريّته لم توصله إلى إثباتات لا يمكن دحضها، وإنما في الإقناع وجذب الأتباع.

‏من بين جميع الادباء والفلاسفة كان هناك رابط خفي لكنه متين بين دوستويفسكي ونيتشه، في كتابه عن نيتشه يؤكد الناقد " يانكو لافرين " انه من المعقول ان لايكون دوستويفسكي قد سمع باسم نيتشه.. لكن هل سمع نيتشه باسم دوستويفسكي؟ كانت المرة الاولى عندما عثر نيتشه عام 1886 اثناء تواجده في مدينة نيس الفرنسية وبالصدفة في احدى المكتبات العامة على مؤلفات دوستويفسكي..يكتب نيتشه في احدى رسائله الى احد اصدقاءه: " هل تعرف دوستويفسكي، ما من احد غير ستندال استطاع ان يرضيني ويهزني بالصورة التي نجح هو بالقيام بها، انه عالم نفسي، أنا على وفاق معه ".. وفي رسالة اخرى يبدي نيتشه اعجابه برواية " منزل الاموات " قائلا عنها انها اكثر الكتب الموجودة انسانية،بينما كرر اعجابه برواية " في قبوي " واشار في رسالة اخرى الى أن روايات دوستويفسكي " اثمن مادة نفسية عرفها وانه شاكر وممتن له "، وكان دوستويفسكي قد دعا الى تاكيد قيمة الذات الفردية التي حولها نيتشه فيما بعد ألى ارادة القوة، فقد اعلن على لسان ايفان في ا" لاخوة كارامازوف " ان الذات الفردية هي المنبع الرئيسي لافعالنا مهما بلغ سوء حظ الانسان ومهما اصابه الاذلال..يكتب عالم النفس الفرد ادلر ان: " اي انسان حساس ممن احسوا بمدى تنبه دوستويفسكي الى ما تتضمنه النفس البشرية من ميل الى الطغيان لا بد له من الاعتراف بضرورة اعتبار دوستويفسكي حتى ايامنا هذه معلما لنا، المعلم الذي حياه نيتشه ". لا بد كذلك ان يكون نيتشه قد قرأ رواية الجريمة والعقاب، ويجمع كتاب سيرة نيتشه ان سالومي الفتاة الروسية التي احبها نيتشه بجنون كانت هي التي دفعته الى معرفة الادب الروسي..فالواقع ان معظم الموضوعات التي عالجها نيتشه، كان دوستويفسكي قد كتب عنها شهادته، فهو عالم نفس ومريض نفسيا، ومن المؤكد ان فهمه للنفس البشرية قد ازداد عمقا بسبب طبيعته الخاصة ومرضه، وما مر على حياته من تقلبات بين النجاح والاخفاق، وهي الحياة التي وجد فيها نيتشه صدى لحياته، وهناك سمة مشتركة بين الاثنين وهي ان اعمالهما جاءت نتيجة للصراع الداخلي الذي كلن يعيشانه، فقد كان دوستويفسكي شكاكا غير مؤمن في داخله،يصارع بشدة من اجل الايمان، بينما كان نيتشه يحاول ان يستأصل آخر اثر ديني في داخله.. إلا ان الاهم بالنسبة الى نيتشه ودوستويفسكي هو ما يمكن ان نسميه الاهمية المطلقة للانسان في العالم والكون.. رفض دوستويفسكي ان يقبل بالوجود فارغا من رمز أعلى، ومن هنا محاولاته في تخطي شكه كي يصير مؤمنا بالمعنى الحقيقي، وفي حماسته للايمان، اضطر الى استكشاف مسالة الله من زاوية المؤمن وزاوية الكافر، ولهذا نجد ان دوستويفسكي يحاول التغلب على يأسه عن طريق التحول الى الدين، الى الله... يصرخ دوستوييسكي إذا كان الله غير موجود، فان كل شيء مباح، لكنه في الوقت نفسه كان يعرف انه حتى إذا كان الله موجودا، فان كل شيء يمكن ان يظل مسموحاً.. لن يوجد ضمير بدون الله حسب دوستويفسكي، رغم انه كان يعرف انه بين اولئك الذين يعبدون الله كان الكثيرون منهم بدون ضمير..ان ابطال دوستويفسكي لا يمزقهم التردد بقدر ما يمزقهم اليقين بموت الله والرغبة المستمرة لوجود نظام او قانون يعوض عن ذلك الغياب.

‏يكتب ه.د.لورنس ان ان حب دوستويفسكي للمسيح " يمتزج بكراهية منحرفة مسمومة للمسيح، وعداءه الاخلاقي للشيطان ممتزج بعبادة خفية للشيطان. ان دوستويفسكي دائما منحرف، وعلى الدوام مفكر شرير وكاشف هائل ".

‏تشكلت وجهة نظر دوستويفسكي للعالم وهو في سن التاسعة والعشرين من عمره، بعد ان واجه حكما بالاعدام خفف فيما بعد الى النفي الى سيبيريا.. انه الآن يُلقي نظرة جديدة على الحياة والعالم فهذه مدينته بطرسبورغ تبدو اليوم: " اكثر مدينة تربصا بالانسان على الارض.. انه يرى اليوم ان شيطان الثروة حقق سلطانه، وان المواخير وبيوت الدعارة حلت محل الكنيسة.. انه يعلن الحرب ضد ما اسماهم " ثاقبي الارض ".

‏" اصبحوا ما أنتم عليه"، وهو تعبير صاغه لأول مرة في وكان عمره 22 عاما. ولعل صنع الحياة الخاصة فكرة راودت نيتشه منذ ان كان في الثالثة عشرة من عمره..مثلما راودت دوستويفسكي. في احدى رسائله التي كتبها نيتشه في مرحلة الشباب يطرح سؤالاُ وجوديا: " لماذا خُلقت.. اكيد انني لم أُخلق إلا لألاحظ انني خدعت عندما خلقت هكذا "، فيما اعتبر نيتشه الصراع مع الحياة هو الوسيلة الوحيدة للصمود والنمو.. فيما دعا دوستوفيسكي ايضا الى كفاح متواصل من اجل التاكيد على القيمة العليا للحياة. وقبل موته باشهر كتب دوستويفيسكي في يومياته انه حدث مرة ان التقى الانسان بالإله، وسمى دوستويفسكي ذلك اللقاء، اللحظة الحاسمة في تاريخ الجنس البشري.

‏في كتابه فلسفة نيتشه يكتب المفكر الالماني" يوجين فينك " ان كراهية نيتشه الوحشية بل والشيطانية للمسيحية، لا يفسرها إلا عدم امكانه التخلص منها، ونقده للاخلاق، ودعوته الى اللاخلاقية، انما تفسر باستقامته المطلقة، اما تمجيده للقوة، فيرجع الى ضعف بنيته، وسقم صحته، فيما يعتقد كارل ياسبرز ان نيتشه يعبر عن ذاته الخاصة، لكنه يريد ان يجعل من ذاته الخاصة ذاتا كلية: " انني ابحث كيف تكون ماساتي،ماساة عامة ".

‏ان فلسفة نيتشه لا تخرج عن كونها تصويرا لماساة الحياة الحقيقية، ولدور البطل في هذه الحياة، الذي ينتصر على الآمها واحزانها، وهو يختلف عن باقي البشر، لكن هل هو نبي، ام حكيم، ام انسان فرد يبحث عن الحمكة في ذاته ؟.

‏يعتبر نيتشه انه يوجد شران يمنعان من بلوغ الحكمة ويجعلان الحياة الانسانية ذميمة: الماضي والمستقبل. ان بقينا مشدودين الى الماضي نسقط في الاهواء الحزينة ونتردى في الحنين والاحساس بالاثم او نكون في المستقبل، في الامل، في المثل الآتي الأعلى الذي يجعلنا بالذات نفرط في الواقع ويمنعنا من الاقامة في الحاضر، واذا كان نيتشه يريد تحطيم الاوثان، فليس فقط للتحطيم من اجل التحطيم، بل لإعداد حكمة اخرى، حكمة خاصة بالمصلحة، حكمة تقول نعم للعالم، تتصالح مع نفسها ومع العالم.

‏في هكذا تكلم زرادشت يذكر نيتشه ان في الماضي، يتمثل التجديف ضد الإله، ضد الدين، ضد اوثان المؤمنين المقدسة.اما من هنا فصاعدا، فسيقوم التجدبف في توجيه الاتهامات ليس ضد السماء، وانما ضد الارض: " ارجوكم بإلحاح ان تظلوا اوفياء للارض، ولا تعتقدوا في ما يقوله البعض عن الامل الفوق ارضي ".

‏لم يعتبر راسكولنيكوف بطل الجريمة والعقاب موت الإله أمراُ مسلما به فحسب، بل انه كذلك قسم الجنس البشري إلى صنفين " نحبة " من السادة، اقوياء الى درجة تجعلهم قانونا بانفسهم، في عالم لا إله فيه، وقطيع من الناس العاديين الذين لا عمل لهم إلا ان يتلقوا الاوامر وان يؤمنوا، وان يطيعوا.

‏يكتب نيتشه في اصل الاخلاق، ان الانسان يُفضل ان تكون له إرادة العدم، على الا تكون له إرادة بالمرة.

‏حمل نيتشه المطرقة ليواجه بها المعتقدات الدينية والاجتماعية، رفص الإله مثل ايفان كارامازوف عند دوستويفسكي، بحماسة، فايفان ثار بسبب آلام الاخرين، بينما كانت ثورة نيتشه منصبة على الالم الذي فرض عليه مواجهته، وكان من المفترض وهو المريض والعاجز ان يلتجيء الى الايمان من اجل العزاء والسلوى، لكنه لم يكن على استعداد للاستسلام او الخضوع، فقد اختار مثل ايفان طريق التمرد والعصيان، وعلى حد تعبير اويغن فنك في كتابه " فلسفة نيتشه "، لم تكن كبرياؤه تسمح له بان يهز ذيله امام الله، خاصة اذا عرفا انه كان يعتبر نفسه تدا له: " إذا كان هناك من آلهة، فكيف اطيق إلا اكون إها، اذن فليس هناك آلهة "

‏في روايات دوستويفسكي كما هو الحال في حياة نيتشه، نشهد التفاعل الغامض بين الروح والمادة والفكر والعمل، وشياطين العقل البشري، والمرض البدني والاضطراب الروحي، وألم المسيح الدائم مقابل معاداة المسيح. ونتذكر الرسالة التي كتبتها والدة راسكولنيكوف تدعوه فيها الى ان لايترك الصلاة لانها النجاة بالرسالة التي كتبها فرانزيسكا نيتشه إلى ابنها: "إذا كنت فقط سعيدًا، فعندها سنكون سعداء. هل تصلي لله،، كما اعتدت، وهل تؤمن بصلاح خالقنا ومخلصنا؟ أخشى في قلبي أن عدم الإيمان قد زارتك من جديد. إذا كان الأمر كذلك، أصلي من أجلك. تذكر، يا عزيزتي، في طفولتك، عندما كان والدك على قيد الحياة، كيف كنت تصلي جالسا على ركبتي، وكم كنا جميعًا سعداء بذلك ".

‏يخبرنا دانيال بلو في كتابه " تشكيل فريدريك نيتشه " ان صاحب "هكذا تكلم زرادشت عانى في شبابه من حالات صرع دون أن يفقد وعيه.

‏في كل قراءة لنيتشه نتوقف عند سؤال: عما إذا كانت الحيرة بين الخير والشر التي ادت الى جريمة راسكولنيكوف ؟، هي نفسها التي حثت نيتشه ان يحمل المطرقة لتهديم الماضي.

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

آيريس مردوخ عن عدم الأنانية، والتناسق بين الفن والأخلاق، وكيف نكشف عن حقيقة بعضنا البعض

بقلم: ماريا بوبوفا

ترجمة: د.محمد غنيم

***

بعد عقود من حياته الطويلة، عرّف الشاعر روبرت جريفز الحب بأنه "الاعتراف بنزاهة وحقيقة شخص آخر بطريقة ... تجعل كليهما يضيء عندما يتعرفان على الجودة الموجودة في الآخر". وبعد جيل واحد، عرّفها الكاتب المسرحي الشعري توم ستوبارد بأنها "المعرفة المتبادلة... معرفة الذات، ومعرفة الذات الحقيقية، ومعرفة الذات الحقيقية، وفي الحالات القصوى، انزلق القناع عن الوجه". هذه الحقيقة غير المقنعة هي الترياق لأخطر خيال تركه لنا الرومانسيون: نموذجهم للحب كاتحاد بين العاشق والمحبوب، وهو نوع من اندماج الكائنات، مع دلالاته على الاكتمال المتبادل بدلاً من الاعتراف المتبادل والفرح في الحب. اثنين من الاكتمال الموازي.

ذلك الاعتراف المبهج باختلاف الآخر يشكّل جوهر الحب والأخلاق، فكلاهما لا يتطلب تجاوز الذات، بل يستدعي التخلي عنها. ومع ذلك، فكلاهما معرضان لنفس الخطأ الجوهري الذي يهدم الأساس الذي يقومان عليه. وإذا نظرنا إلى معظم التقاليد الدينية والروحية والتأملية عبر تاريخ البشرية، بعد تجريدها من عناصرها الصوفية والمعادية للعلم، نجد أن محور هذه التقاليد يرتكز على أخلاقيات الحب. غير أن في قلب العديد من هذه التقاليد، وخصوصًا في الغرب، يكمن انحراف خطير للحب حين يُحكم من قبل الأنا.

تُعرف هذه القاعدة عادةً باسم القاعدة الذهبية، وهي تخطئ في اعتبار حقيقة الذات هي الحقيقة الوحيدة، فتعتبر رغبات المرء وتطلعاته وتوقعاته عالمية وتفترض أن الآخر يشترك فيها بنفس الدقة. وبهذا تنفي حقيقة الآخر ككيان مستقل، وتلغي احتمال أن يكون شخص مختلف تمامًا قد يرغب في شيء مختلف تمامًا يُفعل له.

العلاج لهذا الداء المتمثل في التمحور حول الذات يكمن في تذكّر أن هناك عددًا لا نهائيًا من أشكال الحياة الجميلة، ولكل منها تطلعاته الفريدة ورؤيته الخاصة للجمال والخير والبهجة. ولا شيء يذكرنا بهذه الحقيقة بوضوح أكثر من الفن، الذي يدعونا لاستكشاف الحقائق الحميمة لحيوات الآخرين. فكلمة "التعاطف"، في أصلها، نشأت من الفعل الإبداعي الذي يتمثل في إسقاط الذات داخل عمل فني. ولم يضئ هذا التذكير ببهاء أكبر من الفيلسوفة-الروائية الاستثنائية آيريس مردوخ (15 يوليو 1919 – 8 فبراير 1999).

قبل وقت طويل من صدور كتابها الكلاسيكي "سيادة الخير" عام 1970، والذي تضمن تصوراً جميلاً للفن باعتباره "فرصة للتخلي عن الذات"، بدأت ميريدوخ في تطوير هذه الأفكار في مقال بعنوان "السامي والخير"، نُشر في الأصل في مجلة شيكاغو ريفيو عام 1959، ثم ضُمِّن لاحقاً في المجموعة الرائعة التي صدرت بعد وفاتها بعنوان "الوجوديون والصوفيون: كتابات عن الفلسفة والأدب" (المكتبة العامة).

تكتب ميريدوخ:

الفن والأخلاق هما... شيء واحد. جوهرهما واحد. وجوهرهما هو الحب. الحب هو إدراك الفردية. الحب هو الإدراك الصعب للغاية لحقيقة أن هناك شيئًا آخر غير الذات موجود بالفعل. الحب، وبالتالي الفن والأخلاق، هو اكتشاف الواقع.

في الحقبة ذاتها التي كان فيها آلان واتس، على الجانب الآخر من الأطلسي، يحذر قائلاً: "الحياة والواقع ليسا ملكًا حصريًا لك، إلا إذا منحتهما للآخرين جميعًا"، أثناء تقديمه التعاليم الشرقية إلى الغرب، كانت آيريس مردوخ تعمّق الروابط بين الفن والأخلاق من خلال استكشاف الأبعاد المتعددة للحب — سواء كان شخصيًا أم سياسيًا، فرديًا أم جماعيًا.

أعداء الفن والأخلاق، أي أعداء الحب، هم ذاتهم: التقاليد الاجتماعية والاضطرابات النفسية. قد نفشل في رؤية الفرد لأننا غارقون في كيان اجتماعي شامل نسمح له، دون نقد أو تمحيص، بأن يشكّل ردود أفعالنا، أو لأننا نرى بعضنا البعض فقط من خلال هذه القوالب المحددة. أو قد نفشل في رؤية الفرد لأننا محاصرون تمامًا في عالم من خيالاتنا الخاصة، نحاول فيه جذب ما هو خارجي إلى داخل عالمنا، دون أن ندرك حقيقته واستقلاله، فنحوّله إلى كائنات وهمية تخدم أوهامنا. الخيال، الذي هو عدو الفن، هو أيضًا عدو الخيال الحقيقي: الحب هو ممارسة للخيال… ممارسة تتطلب التغلب على الذات، وطرد الأوهام والتقاليد. وهي تجربة ممتعة ومحفزة، لكنها، إن أُديت بالشكل الصحيح — وهو ما نادراً ما يحدث — مؤلمة أيضًا.

في شعور يذكرنا بتأملات جيمس بالدوين حول الحب وملاحظته المؤلمة بأن "لا شيء أكثر إيلاماً، بمجرد أن يحصل عليه المرء، من الحرية"، تضيف آيريس مردوخ:

إن الحرية المأساوية التي ينطوي عليها الحب هي أننا جميعاً نتمتع بقدرة غير محدودة على تخيل وجود الآخرين. وهي مأساوية، لأننا لا نملك أي انسجام مسبق، ولأن الآخرين مختلفون عنا إلى حد لا نتوقف عن اكتشافه... إن الحرية تمارس في مواجهة بعضنا البعض، في سياق عمل خيالي قابل للتوسع إلى ما لا نهاية، بين فردين مختلفين لا يمكن اختزالهما. والحب هو الاعتراف الخيالي بهذا الاختلاف، أي الاحترام له.

(تمت)

***

.............................

الكاتبة: ماريا بوبوفا/  Maria Popova (بالبلغارية: Мария Попова؛ من مواليد 28 يوليو 1984) كاتبة مقالات ومؤلفة كتب وشاعرة، وكاتبة تعليقات أدبية وفنية ونقد ثقافي، وجدت قبولًا واسعًا سواء لكتاباتها أو للأسلوب البصري المصاحب لها. في عام 2006، بدأت مدونة Brain Pickings، وهي منشور على الإنترنت ناضلت للحفاظ عليه خاليًا من الإعلانات. المدونة، التي أعيدت تسميتها إلى The Marginalian في عيد ميلادها الخامس عشر في عام 2021، تعرض كتاباتها عن الكتب والفنون والفلسفة والثقافة وغيرها من الموضوعات.

مسارات للتفكير والتفكر

أرضية لتأسيس منتدى فن العيش بمدينة سيدي سليمان

***

فن العيش، من منظور الفيلسوف الألماني أرثور شوبنهاور، هو بمثابة طرح لنموذج حياة. فهو بذلك مجموعة من القواعد والمسلمات الفكرية المتكاملة الواجب اتباعها والعمل على تطبيقها من طرف كل متطلع لحياة عقلانية أفضل.

إذا كان شوبنهاور قد تأثر كثيرا بسبب انتحار أبيه ومغادرة أمه وغوصها في نمط حياة متحررة وخالية من أي وازع ديني أو أخلاقي، فإننا اليوم، كشعب مغربي، يتفاعل مع تطورات العشرية الثالثة من القرن الواحد والعشرين، نعيش في أوساط اجتماعية يغلب عليها إلى حد ما التحرر المنحرف الخالي نسبيا من الشروط المطلوبة الضامنة لمقومات العيش المشترك والعمل التنموي الجاد وخدمة المنفعة العامة. فعلاقة الأفراد فيما بينهم، في مختلف مراحل الحياة اليومية، تجسد التوتر والأنانية والتيه والتفاهة واللامبالاة وتعقيد الإشكالات العلائقية. لقد شاعت في الأوساط الشعبية مجموعة من الأوصاف الذميمة التي التصقت بممارسات النخب المؤسساتية أولا، ثم بالعمل السياسي وفاعليه ثانيا. ما يتردد على الآذان من أقوال، الخاضعة لعادة التشكي، يثير التشاؤم والإحباط: "النخبة الغاوية" و"التصرفات اللامسؤولة" و"الانتهازية" و"الفساد المستشري"......

الدولة المغربية اليوم، أمام الهشاشة المجتمعية والسياسية، مجبرة على الحفاظ على شكل المؤسسات التمثيلية والإدارية. تنظم الانتخابات في آجالها، وتتشكل الجماعات الترابية والبرلمان بغرفتيه، وتنتهي كل دورة انتدابية بتشكيل حكومة جديدة. لكن يبقى الحق في التنمية الترابية مطلبا حاضرا في كل الأوساط الاجتماعية والمنابر الإعلامية، ويبقى المواطن البسيط بعيدا عن طبيعة الخيرات الثلاث التي حددها شوبنهاو وهي: خيرات ماديّة، وخيرات معنويّة، وخيرات بدنيّة، لتبتعد كينونته عن حاجيات ومقومات شخصيته بمعناها الشامل كالعمل والصحّة والقوّة والجمال والمزاج والطبع الأخلاقي والذكاء. فبالرغم من تحقيق عدد من المكتسبات والتراكمات الإيجابية في منطق ممارسة السلطة في بلادنا، لا زلنا نعيش ضغوطات المخلفات والمخالفات التي سادت لعقود ونالت من الإرادات الصادقة لتوفير شروط ومقومات الرفع من مردودية العمل العمومي والخاص منذ الاستقلال.

على مستوى التمثّلات، هناك ميول تزداد حدته لعدم الاعتراف بالكفاءات والمعارف، واستمرار آليات شرعنة سياسية لها ارتباط بالكسب بدون جهد (الغنيمة)، وضغضغة الشعور الديني (العقيدة)، والتعصبات الانتمائية الترابية القديمة (القبيلة). إنها المؤثرات القوية الثلاث التي وردت في كتابات محمد عابد الجابري، والتي يمكن افتراض أنها لا زالت تشكل إلى حد ما المحدد الرئيس لإنتاج النخبة. التقدير المعبر عنه، المميز لارتباط العمل العمومي بالتنمية، لا يزال غامضا. إنها التراكمات السلبية المستمرة في الحاضر بدفوعاتها الموروثة من الماضي التي لا تزال تقاوم تجويد الآراء التقديرية التصنيفية للأداء العمومي. فالقائمة الثلاثية "الشرف، المكانة، والمجد"، التي اعتبرها شوبنهاور مغذية لمقومات فن العيش وتجويد إنتاجاته في مختلف المجالات، لا يزال مفعولها متخلفا عن متطلبات التنمية المستدامة ببلادنا.

إنها الاعتبارات التي جعلت مجموعة من أطر المدينة يؤسسون "منتدى فن العيش" طامحين الإسهام في ململة الأوضاع قدر المستطاع في اتجاه تقوية الروابط بين الكينونة المتعلقة بكل شخص ومزاياها الطبيعية وهدف الانبثاق الترابي للعقل الراجح المنتصر لشروط ارتقاء مقام ونسب الفاعل، وبالتالي ترجيح كفة محفزات خلق وتراكم الثروات المحلية والإقليمية والجهوية والوطنية.

الهدف الأسمى من هذا النشاط هو الرفع من قيمة الإدراك بمفهوم المواطنة الحقة، وارتباطها بالحق في التنمية، إدراك يستند على الذكاء والتجارب والخبرات وانفتاح الوعي الذاتي على قيمة المستجدات والإبداعات في مختلف المجالات. إنه الانفتاح المأمول الذي اعتبره شوبنهاور أهم بكثير من الموضوعي في الإنسان. السعادة مرتبطة أكثر بهذا الوعي المعرفي، فهي لا تقتصر على الجانب السمعي أو على ترديد الخطابات والعبارات والشعارات. إن الوعي المنشود هو ذاك الذي يوثق العلاقة بين الفعل وخلق المتعِ في كلّ مناحي الحياة. الذات يجب أن تتصرف وتتفاعل كما هي لتنعم بجوهر السعادة الحقيقية تماشيا مع القاعدة الأرسطية: "غاية الحكيم ليست حياة مُترعةً في اللّذة، بل خالية من الألم". إنه الانشغال الذي يردده باستمرار الأستاذ مصطفى المنوزي معبرا عنه بالعبارة التالية: "معركة أو صراع من أجل الحق في الأمن ضد الخوف أو الحق في الأمن ضد اللايقين"... وهنا أقول تبا لمن يغتال الأجنة قبل المخاض. المرجع في ذلك يتجلى في كون المعرفة المجردة خالية من الألم، وبتحقيق غلبة وأرجحية هذا التصور في المجتمعات الترابية يكتسب المرء فيها مهارة خلق السعادة.

مبادرة تأسيس منتدى فن العيش في هذه المدينة الغراء، مدينة سيدي سليمان، نابعة من غيرة مشوبة بالقلق من أوضاع لا تطمئن لها القلوب. فمجموعة الأطر المؤسسة لا ترى التنمية والسعادة إلا من خلال الرفع من سقف مطامح وإرادات المواطنين، وبالتالي إبعادهم عن مشاعر السخط والاستياء التي تَخْتَلجهم وتكتسح أكثر فأكثر ساعات أيامهم. فن العيش بالنسبة لنا هو أولا وأخيرا الإسهام بالإمكانيات المتاحة في إلغاء عقبات العمل الجاد وبالتالي الحد من تفاقم حدة أزمة القيم التي يقال في شأنها أنها تتفاقم مع مرور الأيام.

عمليا، السلطة، بشقيها الإداري والتمثيلي، لا قيمة لها لدى الشرائح الفقيرة الواسعة بالمدينة ما لم تستجب لتطلعاتهم وطموحاتهم لكسب المال الكافي الذي يؤرق غُدُوهم ورواحَهم. والحالة هاته، نحن في فن العيش نعي تمام الوعي أن مجهودات جبارة يجب أن تبذل وتتراكم لتقوية عزائم الكد والصراع المشروع لتلبية الحاجات المرغوبة والمشتهاة، وفي نفس الوقت تهدئة أنفس الأفراد والجماعات لكي لا يضربوا عرض الحائط كل الاعتبارات الأخلاقية في ردود أفعالهم للدفاع عن أنفسهم بشتى الطرق.

من جهة أخرى، نرى في منتدى فن العيش أن علينا كمجتمع محلي أن نكثف المجهودات المشتركة ليحافظ النبيل من أبنائنا الشباب على نبله متسلحا بما يكفي من القيم للدخول إلى مراحل الحياة المقبلة. الحياة الجماعية المشتركة لا تحتمل التخلي عن الأخلاق الفاضلة والذوق الرفيع، والذكاء الوقّاد، والاحترام المتبادل. علينا كفاعلين ناضجين ألا ندخر جهدا في تجميع الناس لخدمة المدينة، وأن نطالب السلطات بتكثيف التعاون مع الطاقات المحلية لتعم الكفاءة والمسؤولية والمردودية الفضاء العام والخاص. إنه الفضاء الذي نطمح أن تتقوى جاذبيته بالشكل الذي يجعل الشباب مع التقدم في السنّ قادرين على استحضار قيمة المشروعية والشرعية في تعاطيهم مع الاعتبارات المادية التي توجّهها المصالح والمنافع. الأهداف المرجعية لمنتدى فن العيش تسعى لتهذيب الانشغالات الماديّة الصرفة لدى الشباب بربطها بالواجب والتشبث بالكدح المتواصل المنتج. وهنا لا بد من التذكير بما قاله شوبنهاور، معاكسا الشعور القومي والضمير الخارجي بشعارات الشرف والوفاء: "الضمير الحقيقي هو الشعور والشّرف الداخلي للشخص، ولا يتعلّق بمكانه، أو جنسيّته".

ونحن في هذا السن، واستمرارا لما بذله كل واحد منا في الحَيَوَات السياسية والثقافية والاقتصادية والإدارية من جهد، نرى أننا الآن في سن العطاء. إنه عطاء ما بعد الأربعينيّات من عمر الإنسان الذي تكون فيها الغلبة للتفوّق الفكري والسلطة المعنوية الكاريزمية. لدى الكهل والشيخ تراكمات ثرية ميزت مسار حياته، وهي زاخرة بالتجارب والخبرات التي تتجاوز الذّكاء بكثير، بل هناك تفاعل قوي مستمر بين التجربة والذكاء. التجربة عند شوبنهاور هي النّص، بينما التفكير والمعرفة هما التّعليق والتعقيب على النّص، أي أن التجربة هي النّص والجوهر المعتمد -التاريخ-، والتفكير هو الحاشية المبلورة للأفكار الجديدة ولديمومة الحق في التفَكر.

في منتدى فن العيش لا نريد أن نرى أن كل من حَبَتْه الطبيعة بالتميّز العقلي أن يميل إلى العزلة الشعوريّة والعقليّة عن العوام من أبناء جلدته. لا نريد أن تعلوه غلالة من النفور من الواقع خاصة بعد تخطيه عتبة الأربعينات من عمره. نرى أننا في حاجة للمخالطة وشبع عواطفنا من معاشرة العامة. علينا أن نعرف الجميع حقّ المعرفة لنضع كل واحد منهم في منزلته الحقّة، وبالتالي تحسيس الجميع بما في ذلك أنفسنا بفضاعة الأكاذيب والمظاهر الخدّاعة.

نرى كذلك أنه من الأمانة الوجودية أن نمد أيدينا جميعا للشباب في مقتبل العمر. علينا أن نقيهم من المكائد والدسائس التي تميز عالم الصراع والسلطة والمال، وذلك بالعمل على توجيههم لعوالم الإنتاج وفضاءات الترفيه والراحة.

البعض منا يشتكي من شباب من طينة يشمئز منها، يشمئز من سلوكهم المرفوض قَيْميا ونزعتهم السّوقيّة، وميلهم الطبيعي إلى حياة الغوغاء. لكن هذا الموقف غير صائب لأنه يكرس التهميش والفوارق الطبقية. علينا كلنا ألا ندخر جهدا لتأهيل الشاب لنراهم منهمكين في التفكير في مصيرهم المرتبط بأوضاع مدينتهم وضعف الفضاءات التنشئوية والفنية الترفيهية بها. نريد أن نراهم حائرين ومتأملين في أوضاعهم وإمكانية تحسينها. نريد أن نلمس فيهم القدرة على إرسال إشارات عفوية تعبر عن سموّهم، وعلى نبلهم وندرة معدنهم. نريد من كل شاب من أبنائنا أن يكون قد عاش طفولة سوية تربية وترفيها. نريده أن يعبر في شبابه على دراية عميقة بالأشياء، وحقائقها وكنهها. نريده فاعلا متأملا وعقلانيا يمتاز بحدوسه الثاقبة التي تجعله يدرك الأشياء بلا وسائط.

علينا إذن كآباء ومربين وفاعلين أن نضع يدا في يد لتشييد لبنة أولى لنسق يساعد على تسريع اكتمال نضج شبابنا، والتفكير في الآليات الممكنة ليشتدّ ميلهم إلى التفكّر والتدبّر، ومساعدتهم على المرور بسلام من مرحلة الشعور المرهف والميتافيزيقا والشرود الذهني إلى النضج المرادف لزمن التفلسف والفلسفة والكشوفات العلمية. علينا أن نساهم في توثيق علاقتهم بالحكمة بما يجعلهم منخرطين في عوالم أوسع التي تفرض التسلح بالحذر والقوة والإيمان بالعمل الجاد. فالرياح لا تهب دائما فيما تشتهيه السفن. الشباب في حاجة لإتقان الإبحار في الحياة ومواجهة الأمواج العاتية. الحاجة إلى ترسيخ مبدأ الاستحقاق في أذهانهم يجب أن يصنف من أولويات برامج منظمات المجتمع المدني. الاستحقاق البشري حسب شوبنهاور لا علاقة له بميزان الصدف. على الشباب أن يكونوا على دراية تامة بمجريات الحياة الترابية محليا وإقليميا وجهويا ووطنيا، وتسلسل أحداثها والقرارات المتخذة في شأنها. علينا أن نعلم شبابنا أن التفاعل والتشابك ليس كافيا وأن المعرفة والرؤية البشرية، مهما بلغت من الكمال، تظل في حاجة إلى تعميق الإدراك بالتعقيدات والحلول المناسبة لها، وكذا إلى القدرة على التأثير على الأحداث بإتقان تحقيق الأهداف جاعلا منها عُصارة مساره الحياتي، ومآله الأخير والنهائي.

العدالة الاجتماعية، والتي لا يمكن تكريسها إلا من خلال ترسيخ الحق في التنمية والأمن من الخوف واللايقين، تقتضي تقليص الهوة بين مدارك الخاصة ومدارك العامّة من الناس. التمثلات في شأن العوام لا يجب أن تبقى ذات الصلة بالأخطار المحتملة. وهذا المبتغى لا ولن يتأتى إلا من خلال تقوية استجابة تفاعل العقل الجماعي مع إنتاجات العقول الراجحة في مجالات الفكر والمعرفة والآداب والفنون المختلفة. إنها معركة وجودية أو صراع وجودي لتأهيل الفرد والجماعة للتمكن من الإحاطة الشاملة باحتمالات وقوع الأحداث بالتوفّر على ملكة الحكم الموضوعي وتقييم الوقائع والأشياء.

الشباب في حاجة لجعل العقل العملي أساس تحركاتهم وتفكيرهم اليومي. هم مطالبون اليوم بالابتعاد عن هدر الوقت الكثير لإنتاج تصورات خيالية حول الحياة والغوص بالسرعة المطلوبة في المعارف المتينة والرصينة. وهنا يقول شوبنهاور أن الإنسان لا يصبح محنّكًا إلاّ بعد ولوجه فترة النضج، وهي خلاصة التصوّرات الدقيقة عن هذا العالم، وموضوعاته، واكتسابه لرؤى جوهريّة وأصيلة بالشكل الذي يجعل الذكاء في خدمة تجويد الطابع الإنساني برمزيته ووضعه الاعتباري.

أغلب النخب الفاعلة، أخواتي إخواني، تجاوزت أربعينيّات العمر التي اعتبرها شوبنهاور "نصُّ الحياة". فما تبقى لنا من العمر المقدر، علينا أن نخصصه لتقديم شروحات موضوعية لذلك النَّص. علينا بشروحاتنا ووجودنا أن نمكن الشباب من إدراك المعاني العميقة لمجريات حياته، في تسلسلها، والتي لا بدّ أن تمدّه بالعِبر الغالية، والفوائد الجمّة، التي يجب أن تتحول بالنسبة له إلى خير زاد في سنوات حياته المتبقيّة. علينا أن نعمل سويا لنكتشف إمكانيات ذواتنا بالاحتكاك المعرفي والتفاعل الميداني القوي. إنه المبتغى الذي سيجعلنا نكتشف لا محالة أننا نجهل جزءا هاما من حقيقة رسالتنا في الحياة وأسرار وجودنا وألغازه.

لا نريد أخواتي إخوتي أن نعيش المرارة الوجودية. نطمح ألا نعيش الحصرة عندما تنكشف أمامنا أسرار جديدة ونحن نجهلها في سن الإشراف على النّهاية. لا نريد أن يكون قدرنا أن ننتهي ونحن ننعت جميعا بالمسايرين لأوضاع الهشاشة والتردي.

وأختم هذه الأرضية بالعبارات التالية:

- قيمة الجمهور تتجلى في فعاليته المنتجة وليس في تجمهره.

- المساعي لروتنة الحياة موت قبل الأوان.

- تهريب رصيد المحبة بين الناس وأد للروح الجماعية.

- مجتمعاتنا تَعَلْمَنَت في ممارساتها لكنها بقيت مستسلمة في نفس الآن لثقل التراث الذي لا ينفع.

- في الإدراك المعرفي للتاريخ باستحضار منطق الفوات مداخل متعددة للتنمية في كل المجالات.

- علينا أن نعيد التفكير مجددا في تاريخنا المشترك لنتعلم منه لكي لا ينتهي.

وأخيرا، أطرح هذا السؤال الإشكالية للتأمل:

كيف لنا، كنخب محلية بمختلف تلويناتها الفكرية والسياسية، أن نؤسس أرضية جماعية جوهرها ترسيخ مقومات فن العيش مجتمعيا، وهدفها النضال الدائم لربط الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والحق في الحياة والتنمية بالواقع المؤسساتي والمجتمعي بمدينة سيدي سليمان؟.

***

الحسين بوخرطة

وفقاً لشروحات أندريه لالاند، التي تطرقنا لبعضها في الأسبوع الماضي، فإن «العقل المُنشأ» بضم الميم، هو خلاصة الحكمة والتجربة الاجتماعية، وهذا ما يسميه الناس عقلاً. لفهم الفكرة، تأمل في مغزى إشارات الناس حين يقولون: «فلان عاقل»، أو يتحدثون عن «كلام عاقل»، أو «تصرف عقلاني» وأمثال ذلك.

مغزى هذا الكلام أن الناس يشيرون إلى رضاهم عن الشخص أو فعله أو قوله. لكن متى يرضى الناس عن شخص... أليس حين يفعل شيئاً يُجاري فعلهم أو يقول مثل كلامهم، في محتواه أو شكله، أو حين يلبس مثل لبسهم، أو يأكل مثل أكلهم... إلخ.

لتعرف الفرق... افترض أن شخصاً لبس بنطالاً ممزقاً، مثل الذي يشيع لبسه بين الشباب اليوم، وذهب لمقابلة وزير أو مدير كبير، فهل تتخيل أن الأشخاص المسؤولين عن إدخاله وترتيب مقابلته، سيسمحون له بالدخول؟ لماذا لا يعدون الأمر طبيعياً، ويقولون إن اللباس لا يدل على صاحبه؟ الجواب ببساطة أنهم سيعدونه غير عقلاني، لأنه لا يلتزم بأعرافهم، أي لا يشبههم. بل يبدو شاذاً وغريباً. وربما يقولون إنه «غير لائق». لماذا يا ترى عدوه غير لائق بما يلبسه أو بهم، أو بالثقافة التي ينتمون إليها؟

- حسناً... ماذا عنك؟

لو كنت مدعواً للقاء شخصية رفيعة، بل حتى لمقابلة وظيفية، هل ستلبس الجينز الممزق أم ستختار اللباس المتعارف في البلد... ما الذي يدعوك لهذا الاختيار وليس ذاك؟

مسايرة الجماعة هي أبرز وظائف «العقل العملي». والعقل العملي أبرز تجسيدات «العقل المُنشأ». وفقاً لرؤية أندريه لالاند، فإن الجانب الأعظم من عمل العقل مكرّس لترسيخ علاقة الفرد بالمحيط الاجتماعي، وذلك باستلهام الثقافة والتجربة الاجتماعية، وتحويلها إلى قواعد سلوكية يتبعها الفرد بشكل عفوي. وعلى هذا الأساس يتحول الفرد إلى «عضو» مندمج في البيئة الاجتماعية. ومن الأمثلة على هذا الأشخاص الذين يهاجرون إلى بلد أجنبي، فيجتهدون في تعلم لغته، وتقليد لهجة سكانه، حتى يصبحوا مثلهم تماماً، لأن الإنسان - بطبعه - لا يحب أن يفرز عن الجماعة، أو يعامل بوصفه شخصاً مختلفاً أو غريباً.

لعلّ الشرح السابق يجيب أيضاً عن السؤال المتداول: لماذا يلتزم قومنا بالطابور ونظام المرور ونظافة الحدائق، حين يسافرون إلى البلدان الأجنبية، ولا يفعلون مثل ذلك حين يكونون في بلدهم؟ تتعلق المسألة بفهم توقعات الآخرين، وتقديم الإنسان نفسه لهم على نحو يتماشى مع تلك التوقعات.

لعلنا نلاحظ هذا المسار بوضوح في حالة المهاجرين إلى مجتمعات أجنبية. لكنه يحصل - وإنْ لم تلحظه - في مجتمعك الخاص أيضاً. أنا وأنت نعمل من دون كلل لإقناع المجتمع المحيط بنا، بأننا مؤهلون لعضويته، كما نتجنب كل فعل يؤدي إلى انفصالنا عنه أو استبعادنا منه.

كرّس أندريه لالاند معظم نقاشه عن «العقل المُنشأ»، لتأكيد أن وظيفته المحورية ليست صناعة الأفكار الجديدة، بل التواصل مع المحيط الاجتماعي بما فيه من بشر وأفكار وتوقعات. ينجز العقل هذه المهمة باستلهام الثقافة السائدة، ثم إعادة إنتاجها على نحو يتقبله المحيط كأن ذلك دليل على كفاءة صاحبه. تبدأ هذه الممارسة في وقت مبكر نسبياً، لكنها تتصاعد عند نهايات مرحلة المراهقة وبداية الرجولة، ولا سيما في سن العمل.

تفاعلات العقل في هذه المرحلة، تسهم في إنشاء ما نسميه «العرف العام» أو «عرف العقلاء». ويشير مفهوم «العرف» إلى المتوسط العام لمواقف الجمهور، تجاه كل قضية من القضايا التي تبرز على مسرح الحياة اليومية. ولمن لا يعرف أهمية العرف، فهو الوسيلة التي تفسر وفقها تطبيقات القانون العام وأحكام الشريعة. ولتفسيراته - في غالب الأحيان - قوة القانون. وقد اتخذ في الثقافة الغربية أساساً لتحديد ما يعد حقاً أو باطلاً.

هذا ببساطة هو «العقل المُنشأ» بضم الميم، وهو يطابق - في رأيي - «العقل العملي» وفق التسمية القديمة.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

هناك دعوات لدى البعض، تدعو الى عدم الحاجة والأكتراث الى الاجتهاد، بدعوى إن الموروث يغطي الحاجة، ويُلبي متطلبات الواقع، فهو يدعو الى تجميده، والاكتفاء بما أنتجه الأقدمون من الفقهاء، فقد أقفلوا باب الاجتهاد وَحَجروا النص وَجَمَدوه، مما قولبوا المجتمع بقالب تراثي متجمد، عجز عن تلبية حاجات الأمة، وَشَكلَ عائق أمام تطورها، بل وَشكلَ حجر عثرة أمام نهضتها، وقال أصحاب هذه المدرسة، بأن ما أنتجته قرائح السلف يكفينا مؤنة لكل الأزمان والدهور، وما كان نتيجة ذلك إلا تجميد لأفكار وتعويق لقابليات هذه الأمة. موقف هذه المدرسة أفرز لنا أفكار سلفية غاية بالأنحطاط من أحكام متخشبة، وفتاوي غاية بالتوحش، وأفكار غاية بالسأم والتحجر. ومن ناحية أخرى، هناك من يقول لا حاجة لعلماء دين يفتوا لنا، وهذا الرأي يقول به الكثير من ذوي الأتجاه العلماني، وبالتالي، لا نحتاج الى تقليد أحد. طبعاً هناك دوافع مختلفة في رسم هذا الأتجاه، منها ذات أهداف مشبوهة، وقد وضحنا في مقالات ومنشورات سابقة عن هذه الأهداف، ومنهم من يقول إن الإسلام واضح النصوص (إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون)(يوسف:٢)، وبالتالي لا حاجة لنا بهذا العدد الهائل من المجتهدين، الذين تحول الكثير منهم الى وعاظ سلاطين. طبعاً لايمكنني التغافل ولا نكران وجود وعاظ سلاطين، بل هم أحد أركان الأنظمة الفاسدة والظالمة، بل بعضهم يشكل عقبة كأداء أمام تقدم وقيام النهضة الإسلامية الحقيقية، والبعض الآخر تحول إلى أداة بيد الأجنبي، ولكن هل كل هذه الأسباب كافية لأهمال الاجتهاد بالإسلام، وألغاء دور المجتهدين، طبعاً لا وألف لا، وقد يسأل البعض، من أين جاءت هذه الضرورة، وقبل تبيان هذه الضرورة، نود وبشكل موجز أن نُعَرف للقاريء الكريم عن مفهوم الأجتهاد، فالأجتهاد لغةً: (بذل قصارى الجهد والوسع في أمر ما)، أما أصطلاحاً فهو: (بذل الجهد في أستخراج الأحكام الشرعية). (الحلي: معارج الأصول ص180 ).ويقول الشيخ المفيد: (هو أستفراغ الوسع في طلب تحصيل الظنّ بالأحكام الشرعية الفرعية من أدلتها المعتبرة من كتاب وسنة، أو مايثبت أعتباره من الكتاب والسنة)(المفيد: أوائل المقالات:ص227 ). لانُريد هنا التطرق الى مواصفات المجتهد، فهنا ليس مقامه، ولكن نجد في القرآن ما يُشير بالرجوع لمن يتمتع بملكة الأجتهاد والحائز على مواصفاته التي حددها أصحاب الأختصاص، والتي عبر عنهم القرآن بأهل الذكر، والذي وَجه بضرورة الرجوع أليهم في معرفة أحكام الدين (فأسألوا أهل الذكر أن كنتم لا تعلمون)(النحل:43 )، وهناك آية تُشير بشكل أوضح ( وما كان المؤمنون لينفروا كافةً فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رَجعوا إليهم لعلهم يحذرون)(التوبة:122 )، والأجتهاد كلما كان حيوياً كلما أنعكس على الحياة العامة، ويصبغها بنفس الدرجة من الحيوية، فهو يساهم في البناء الفكري، وهو يقود الى بناء الذات لمنتميه كمفوم ذاتي لحركة تكاملية في مسيرة حياتهم، وهي الصيرورة التي يحرص عليها الإسلام في تطوير الذات على مستوى الفرد، وبالتالي المجتمع، فالأجتهاد كلما كان متقدماً وناضجاً، كلما أصبح المجتمع أكثر حيوية ونشاط، ويجعل من الساحة الأجتماعية والأقتصادية وحتى السياسية بكل أبعادها أكثر تألق وأنتاج، لأنه يساهم في فتح آفاق واسعة للعاملين فيهما، كما كلما كان الأجتهاد يعتمد على النصوص الأصلية والحقيقية، وذات منبع صافي، كلما كان أكثر أصالة وقوة وحيوية، لأن أي دخول لمصادر لاتمت له بصلة، هو عامل معوق له، وعبارة عن وضع مكابح لحيويته، وسد الطريق على طبيعته الأنفتاحية، بل ويكون سبباً ومنبعاً للخلاف والتشدد بين أتباعه، وخير مصداق لذلك هو مانسمعه ونراه من فتاوي ما أنزل الله بها من سلطان قادت الى خروج مجاميع شاذة وتكفيرية عاثت بالأمة الفساد، وكانت سبباً لتمزقها، وتشتتها، وتبعثر طاقاتها، وأنحراف الكثير من فصائلها عن الجادة الحقيقية للإسلام. فالأجتهاد الجامع لشرائطه الصحيحة يقدم الحلول الناجعة لجميع قضايانا الحياتية، ويساهم في الدفع بنا الى قفزات مدنية متقدمة، لأن من سمة الدين توليد دوافع ناهضة للفرد والمجتمع. طبعاً هذه الضرورة تعطي للشريعة الإسلامية ديمومتها، وتجعلها في حركة دؤوبة، وذات تأثير فعال بالحياة، وهنا نذكر بعض هذه الضرورات وأهميتها:

أولاً: من أجل التواصل بين الماضي والحاضر، ففي الماضي كانت هناك مساحة معرفية محددة بحدود الواقع الثقافي، وأدوات معرفية أيضاً محددة بحكم التطور العلمي المتواضع، كما إن حاجة الناس ونشاطاتهم محدودة، فأنتج هذا الوضع، حالة ذات نسق تفسيري معين يتميز بالمحدودية، وطبيعة فتاوي تتعلق بطبيعة وحاجات ذلك المجتمع، ولما تغير الحال ونهضت الأفاق المعرفية، وتطورت آلاته المعرفية، وتوسعت حاجات البشر، بحكم كثرة نشاطاتهم، وبالتالي كَثُرة أبتلاءاتهم، دعت الحاجة الى عملية أستنطاق جديدة للنصوص المقدسة، وأستنباط جديد لأحكامه، وقراءة جديدة للنصوص الدينية بما يتناسب والتحولات والتغيرات المتسارعة والجديدة، التي تستجيب لمتطلبات الفرد والمجتمع.

ثانياً: العمل على الربط بين الموروث والمتجدد. فالعطاء الفكري التفسيري والتأويلي لم يكن حالة مقدسة، فقط النص القرآني وصحيح الحديث النبوي من يحمل عنوان القداسة، لذا من حق الأجيال اللاحقة من المجتهدين أن يجتهدوا لعصرهم، كما أجتهد السلف لعصرهم، ويجب أن لا يُنظر أليهم بأنهم يمثلون القمة في الأجتهاد، الذي لايدانيهم إليه أحد، وإن الزمان جاد بهم، ومن المستحيل أن يجود بغيرهم، ويقدموا ما يصلح شأن أمتهم، ويوضحوا مقاصد دينهم، فمقاصد الدين لا يفهمها أيٍّ كان، وكيفما كان، بل تحتاج من يتعمق بالنص ويفهم مكنونه، ويدرك دَلالاته، فالنص يمتلك قابلية كبيرة وتدفق غزير من المعاني، لا يدركها عامة الناس، لذا يكون الاجتهاد والتجديد حالة لا يمكن الاستغناء عنها، وتجاهلها، والتقليل من شأنها، لأن من يحمل دعوى ألغاءها فهو لاشك جاهل بمهامها، وضرورة وجودها، أو هو يسعى لهدف عدائي خطير، حيث يعتبر هذا الدين حجر عثرة أمام تحقيق غايته الخبيثة والخطيرة، ولأنتزاع أهم دوافع نهوضة، ومقومات صموده، وها نحن نعيش مايتعرض له عالم الأجتهاد والمجتهدين من حملات شعواء، مدروسة من قِبل مراكز بحثية، مرتبطة بمراكز قرارات سياسية، تسعى الى تدمير، أو على أقل تقدير تشويه البعد الأجتهادي في الإسلام ليحولوه الى مبدأ متخشب لا ينبض بالحياة، وبالتالي يدفع بالمنتمين له الى هجرانه، بأعتباره دين فقد صلاحيته، ومبررات وجوده..

***

أياد الزهيري

من المعلوم أنّ الحركات الجهاديّة منذ القاعدة وحتّى تنظيم الدّولة الإسلاميّة (داعش)، والّذي تأسّس على يد أبي مصعب الزّرقاويّ، حيث غايته في الابتداء وفق أدبيات روائيّة منها ما يتعلّق بأشراط السّاعة، وهو قيام دولة إسلاميّة ابتداء في العراق والشّام، ثمّ تمدّد الدّولة لمناطق أوسع لأجل عودة الخلافة الإسلاميّة من جديد، ولئن ولدت القاعدة ابتداء في خضم مواجهة الاتّحاد السّوفييتيّ في أفغانستان، ثمّ تطوّرت في صراع مع الأمريكان، إلّا أنّهم تبنّوا مفهوم الخلافة، وضرورة تحرير البلاد العربيّة وعلى رأسها الحجاز من الهيمنة الأمريكيّة، وإقامة خلافة إسلاميّة فيها، ولهذا تبنّوا من التّسعينيات عدّة عمليات (إرهابيّة) في المملكة العربيّة السّعوديّة خصوصا.

هذه الحركات الجهاديّة تبنّت الجناح المتشدّد الّذي ولد في الأساس من رحم حركة الإخوان المسلمين، وإن كان الإخوان المسلمون تبنّوا في الابتداء ضرورة عودة الخلافة الإسلاميّة، بيد أنّ مفهومهم حول الدّولة الوطنيّة في الابتداء ليس واضحا، إلّا أنّه تطوّر لاحقا إلى تبنّي أسلمة الدّولة الوطنيّة، مع الاستفادة من الأدوات المعاصرة في تطوّر الدّولة، وإن كانت أدوات علمانيّة أو غربيّة، حيث ولدت فيها العديد من القراءات، منها المنفتحة بشكل كبير على الأدوات العلمانيّة، ومنها من مال إلى التّزاوج مع الفكر السّلفيّ المتشدّد، والرّافض لأي انفتاح حول المفاهيم المعاصرة، واستندوا كثيرا إلى أدبيات ابن تيميّة (ت 728هـ)، مع محاولة تطبيق مفهوم الحاكميّة كما عند أبي الأعلى المودودي (ت 1979م) وسيّد قطب (ت 1966م) بصورتها الحرفيّة، لهذا اتّجهوا إلى تكفير الدّولة الوطنيّة، واعتبار العديد من أدواتها أدوات كفريّة وولائيّة لغير الله.

هذا الاتّجاه المتشدّد والّذي ولد بعد التّعامل غير الإنسانيّ معهم في عهد جمال عبدالنّاصر (ت 1970م)، وهو ما ماثله عند معمّر القذافيّ (ت 2011م) في ليبيا، وزين العابدين بن عليّ في تونس، وهذا مع حدث مع البعثيين في العراق في عهد صدّام حسين (ت2006)، وفي سورية في عهد حافظ الأسد (ت 2000)، واستمر الحال في عهد ابنه بشّار الأسد، فأصبحت هذه المناطق بيئة خصبة لنمو الحركات المتطرّفة؛ لأنّه لم تكن هناك بيئة مهيئة لتفكيك بنية تفكير هذه الجماعات، وتهذّب تفكيرها، كما أنّ الوضع الاجتماعيّ والاقتصاديّ المتدني ساهم في تمدّدها بشكل كبير، أيضا توسع دائرة الاستبداد، والحكم الشّموليّ العِلويّ المطلق أعطى مناخا لهذه الحركات، وللولاءات الخارجيّة.

هذه الحركات الجهاديّة المتطرّفة لا توجد لها أدبيات متكاملة يمكن قراءتها، على عكس اتّجاه الإخوان المسلمين، حيث ظهرت لهم رموز كتابيّة كسيّد قطب (ت 1966م) وفتحي يكن (ت 2009م) ومحمّد قطب (ت 2014م) ويوسف القرضاويّ (ت 2022م)، وكذا الحال عند في الاتّجاه السّلفيّ الصّحويّ كما عند محمّد سرور زين العابدين (ت 2016م) وعبدالرّحمن عبدالخالق (ت 2020م) وسلمان العودة والحوينيّ، وهؤلاء منهم من يميل إلى جانب السلفيّة الحركيّة في شكلها الدّعويّ الأفقيّ، ومنهم من تطوّر إلى المطالبة بإسقاط الأنظمة وإقامة حكومات إسلاميّة بشكل علنيّ كما عند المسعريّ وسعد الفقيه.

بيد أنّ محمّد عبدالسّلام فرج (ت 1982م) حاول في كتابه «الفريضة الغائبة» أن يبلور بشكل واضح أدبيات الحركة الجهاديّة، ابتداء من كفر الدّولة الوطنيّة بما فيها ذلك النّظام الحاكم ومن يعينهم من الاتّجاهات الأمنيّة والعسكريّة ومن يساندهم في العمل الحكوميّ؛ لما بينهم وبين الكفّار (أي أمريكا والغرب) من ولاءات، ولأنّهم لا يقيمون الشّريعة، واستبدلوها بالقوانين الغربيّة، وعليه «حكّام العصر كفّار مرتدون وعقوبتهم أشدّ»، «وأنّ إعانة الدّول الّتي لا تحكم بالشّريعة حرام، وأموالهم مستباحة بعد التّخميس، وقتالهم واجب، ولا تجوز موالاتهم»، مستندا إلى بعض ظواهر المتشابهات من القرآن، وإلى بعض الرّوايات، وبعض الآثار، مع الاقتباس من آراء ابن تيميّة خصوصا من فتاويه.

أدبيات كتاب «الفريضة الغائبة» تبلورت بشكل عمليّ عند القاعدة في أفغانستان، ولكنّها كانت في الابتداء مدعومة سياسيّا من الأمريكان وبعض دول الخليج ضد السّوفييت، ثمّ انقلبت ضدّ الأمريكان أنفسهم، ثمّ توسعوا إلى تهديد قواعدهم في الخليج، وبعد أحداث 11 سبتمبر، ثمّ حرب العراق، اتّجه أبو مصعب الزّرقاويّ (ت 2006م) إلى تشكيل جناح للقاعدة في العراق، ولقي دعما من ابن لادن (ت 2011م) في الابتداء، بيد أنّ الثّاني يرى عدم تشتيت المقاومة، بحيث يكون الهدف هو أمريكا وقواعدها في المنطقة، إلّا أنّ الزّرقاويّ رأى تمديد حركة القتال لتشمل السّنّة والشّيعة الموالين لأمريكا، كما مارس العنف ضدّ الأقليات من قتل وسبي كالإيزيديين، مع حرق وذبح الأسرى، ممّا ولد اتّجاها جديدا أكثر عنفا، وأكثر رغبة في التّمدّد لإقامة خلافة إسلاميّة، ومحاولة تجنيد أكبر عدد من الشّباب عن طريق الوسائل الرّقميّة المعاصرة، وانضمامهم إلى داعش، وإعلان البيعة لزعيمهم، وأنّه من مات وليس في عنقه بيعة (لزعيم داعش) مات ميتة جاهليّة.

في هذه الأجواء القتاليّة في العراق انضمّ السّوريّ أبو محمّد الجولانيّ، لتتقوى علاقته بالزّرقاويّ، ويكون جزءا من هذا العنف، وبعد أحداث2011م وجدت القاعدة وفرعها (داعش) في سوريّة منطقة خصبة لتمدّدها، مستغلّة الثّورة السّوريّة، والّتي كانت أهدافها إصلاحيّة، بيد أنّ النّظام السّوريّ لم يستوعبها ويحاول احتواءها بطرق سلميّة، بل قابلها بالعنف والتّعذيب والقتل والتّشريد، ممّا خلق بيئة ساهمت بشكل كبير في خلق انشقاق وتكوّن اتّجاه ثوريّ عسكريّ من خلال الجيش السّوريّ الحرّ، بيد أنّ هذه الأجواء مهدت لتمدّد القاعدة من خلال داعش، وأصبح الجولانيّ أكبر رموزها في المحيط السّوريّ، وأصبحت من يسيطر على الجيش السّوريّ الحرّ، ولم تعد هناك ثورة في بعدها الإصلاحيّ كما في مصر وتونس ولو قادت إلى تغيير النّظام، بل أصبح النّظام في مواجهة الجماعات الجهاديّة المسلحة، وهو ذاته ما حدث في ليبيا، وإن كُتب له عمر أطول من البقاء والمواجهة قبل سقوطه هذه الأيام.

في هذه الأجواء ولدت جبهة النّصرة، أو جبهة تحرير الشّام، وزعيمها الجولانيّ ذاته، ومارست ذات العنف الّذي مارسته داعش في العراق، ثمّ حدث لها انقسامات داخليّة كجبهة فتح الشّام، وأنصار الدّين، ولواء السّنّة وغيرها، ومع محاولة الزّرقاويّ أن يبقي النّصرة موحدة مع داعش العراق، ومع الصّراعات بينها إلّا أنّ جبهة تحرير الشّام سيطرت على الوضع العام، وأصبح مركزها محافظة إدلب، وسميت بحكومة الإنقاذ، وهنا بدأت تغيّر أدبياتها، وتبتعد عن تطرّف داعش إلى شيء من الاعتدال، فاعترفت بالأقليّات، كالدّروز والمسيحيين والنّصيريين، وضرورة إقامة دولة وطنيّة لها دستورها تستوعب الجميع، ولم تستخدم مصطلحات التّكفير بصورة كبيرة، ولا وسائل العنف، وأعطت مجالا رحبا لمن يريد حتّى من النّظام ذاته وعسكره أن يلقي سلاحه، وينظمّ إلى الثّورة، فلا يقتل، ولا يتبع أن أدبر، مع حضور مفردات الإنسان والتّنمية والبناء والعدالة والحرية والمساواة، وأنّها ضدّ الطّائفيّة، وضدّ الولاءات الخارجيّة، وأنّها ثورة سوريّة ليست غايتها التّمدّد، بل غايتها بناء سورية.

هذه الأدبيات غدت واضحة في خطابات ومقابلات الجولانيّ، والّذي أظهر اسمه الحقيقيّ أحمد الشّرع، ممّا لقي حاضنة خارجيّة ودعما دوليا أجبر بشّار الأسد على التّنازل والخروج من سورية، وإقامة نظام جديد، والّذي أرجو أن يبقى هذا النّظام عند مبادئه، وأن يحقّق دولة مدنية تستوعب الجميع، وأنّ لا تكون مجرد شعارات للوصول إلى الحكم، ثمّ تتحوّل إلى دولة لاهوتيّة ماضويّة مغلقة ترفض التّعدّديّة، وتمارس الاستبداد الفكريّ والدّينيّ، فهذا يؤدّي -لا قدّر الله- إلى صراعات أهليّة، كما أرجو وجود دستور يحمي الحريّات، ويعنى بالإنسان السّوريّ، ويكون هو مدار التّنميّة، وأن يكون مداره الولاء للوطن وليس لاتّجاهات خارجيّة، فآن لهذا الشّعب أن تحقّق كرامته وحقوقه في بلده، فسورية لها فضل كبير على العالم الإنسانيّ والعربيّ قديما وحديثا، فهي بلد السّريان، لغة العلم والمعرفة قبل العربيّة، كما أرجو لها أن تتخلّص من الأفكار المتطرّفة، وأن تعنى بالإنتاج والعلم والإبداع والفنّ كما كانت وستكون بعونه تعالى.

***

بدر العبري – كاتب وباحث عُماني

 

تافه كل شيء ما عاد للفلسفة هيبة

(إن اتخاذ الحمار الجامع، خير من غلة ألف دينار، لأنه لِرَحْلِك، وبه يدرك البعيد من حوائجك)... الجاحظ (البخلاء)

***

في البدء الفلسفة كانت وليدة التجحش

الحمير بغريزتها مسالمة وهادئة وتقبل الترويض وتمتلك بطبيعتها فضيلة حب النظام والوفاء لما خلقت له ولكنها في نفس الوقت عنيدة وغبية وكسولة وافقها محدود فهي لا تستطيع النظر ابعد من اذنيها الطويلتين -وبالمناسبة اذن الحمار نوع من العشب تظهر ازهاره في الربيع وهو كحال صاحبه يتحمل الظروف الصعبة- والحمار أقل الدواب مؤونة وأكثرها معونة وأخفضها مهوى، وأقربها مرتقى، يزهى راكبه وقد تواضع بركوبه وبالمحصلة هُوَ حيوان متنوع الخصائص " نافِعُ يَحْمِلُ وَيَجُرُّ، هادي، صبور، وبطيء في سَيْرِهِ، جبان في خُلُقِهِ، وَحَرُونٌ إذا أشتد به الأذى وَمِنْ عَجِيبِ أَمْرِه أَنَّهُ إِذا شَمَّ رائحة الأسد رَمَى نَفْسَهُ عَلَيْهِ مِن شِدَّةِ الخَوْفِ، يُرِيدُ بذلك الفرار مِنْهُ " وبهذه الخصائص امتازت فصيلة الحمير بكل مكوناتها العرقية وعلى اختلاف مسمياتها عن باقي العجماوات بقدرتها على الانفلات من قانون صراع الاضداد لأنها قادرة بالطبع والتطبع على امتلاك الصفة ونقيضها في الوقت نفسه وبالمعنى ذاته وامتلاكها خاصية اصدار عشرة أصوات في نهيق واحد وهي ميزة مذهلة اهلت الكثير من الجحاش والأحمرة الى الارتقاء الى مقام التفلسف والكثير من البغال الى ارتداء ثوب الفيلسوف ولا عجب في ذلك فالفلسفة في البدء كانت وليدة التجحش وهو حالة انفعالية وجسدية مصحوبة بالشهيق والنهيق والرفس والركل والعض مع ضعف الانتباه وبلادة لا حدود لها.

رأيت فيما يرى النائم

الرواية والقصة ومنذ نشأتهما أشكال تعبيرية تحكي عن الانسان في تنافره وتماثله وتجاذبه مع الاخر المختلف عنه في تفاعله وصراعه مع الحياة وتقلباتها ومع الطبيعة وصلابتها وعنادها. فالرواية والقصة كما الفلسفة كلاهما ينطلق من سؤال ما الحقيقة؟ ولا تشذ عن هذه القاعدة رائعة “عودة الحمار” وهي رواية تدور حول حمار عاد إلى قريته بعد سفر طويل كتبت بأسلوب هزلي. وهي الجزء الثاني من سلسلة “حمار من الشرق” كتبهما محمود السعدني و الحقيقة انه ما ان فرغت من قراءة (عودة الحمار) ادركت  ان مخزون الطاقة عندي قد استنزف فاستسلمت للنوم رويدا رويدا ورأيت ليلتها في ما يرى النائم انه قد تم استدعائي على وجه السرعة لحضور ملتقى وطني لتدريس الفلسفة وفق مقاربة جديدة ابدعها أبو جحش بن حمار بن اتان ورغم صغر سنه وعهده القريب بتدريس الفلسفة الا انها لاقت رواجا بين الجحوش على اختلاف تخصصاتها مما دفع بغل بن حمار بن فرس الى الإشادة بها والترويج لها وهناك رأيت كيدشون حمار الكونتيسه دي سيجور محملا بخواطره و“الحمار الذهبي” لصاحبه لوكيوس أبوليوس وحمار الحكيم وحتى حمار جحا..ورأيت الكثير من الحمير الفلسفية وما ان دخلت قاعة المحاضرات حتى شد انتباهي لافتة كبيرة كتب عليها:  " من يريد أن يخترق الأسرار ويخترق ملاذات الحكمة الخفية، عليه بالضرورة أن يتظاهر بالرصانة والصبر، وأن يكون له خطم ورأس وظهر حمار" وبين الرفس والعفس والهمس واللمس وركل البغل ونهيق الجحش خرج الحضور بهذه التوصيات التي تلخص مبادئ وأسس المقاربة الحميرية لتدريس الفلسفة وقد جاءت على النحو التالي:

01- اول قاعدة في هذه المقاربة ضرورة الدوران مع العجلة والتكيف مع التفاهة فمدرس الفلسفة الفهامة العلامة وحيد زمانه وفريد عصره يدرك بحسه الحميري انه مطالب بواجب الالتزام بما هو مألوف والتمسك في جميع افعاله واقواله بمبدأ الثبات على المحور فهو متفرد عن الاخرين (لا يغير تفكيره  ولا يعترف بجهله) حتى وان اتضح بالبداهة للجميع  انه لا يفكر فالحمير منطقها صفري القيم لا تسمع ولا ترى ولا تتكلم وستبقى ما بقيت هذه المقاربة  تدور وتدور من دون أن تحرك رقابها لأن فلسفتها الوجودية تتأسس على الدائرة بوصفها دوامة الغموض والفراغ والبحث العبثي واللاجدوى، والحكمة الحميرية  ستتجلى في ابهى صورها بمجرد اسدال الاذنين وعدم النظر الى ما يرهق البصر.

2- الدرس الفلسفي في عصر الذكاء الحمير المصطنع ينفلت من التحديد وقد تجاوز طرق التدريس التقليدية انه درس متحرر من أي ضوابط منطقية يؤمن بأحقية الجحش في الانتقال من طور الى طور دون مساءلة بل انه من حقه وهو يتعلم التفلسف لأول مرة ان يتواجد في المكان الخاطئ والزمان الخاطئ ومن واجب الحمار الفيلسوف الذي يتبنى هذه المقاربة تجنب الوضعيات التي يمكن ان تضع الجحش موضع تساؤل وشك فلا احد من سلالة الحمير يمكن ان يكون موضع اختبار.

3- تدريس الفلسفة حق مشاع وملكية عامة لسلالة الحمير وحدها شريطة ان يمارس هذا الحق في الاصطبلات وفي المستودعات وبثمن معلوم.

4- تعليم النخبة الحميرية وتأهيلها للتدريس ضمانا لديمومة هذه المقاربة  يخضع للتدرج فهو يبدأ بنصوص عن الحب الافلاطوني دون قراءتها ولا حاجة للجلوس الى مأدبة افلاطون او الاصغاء الى ما كان يقول كراتيليوس فاللغة الجحشية عائق يجب تجاوزه ويجب الانفتاح على طرق مبتكرة كالرفس والرقص والتمرغ.. وعلى الحمار الذي يتولى تدريس الفلسفة ان يتعلم انه كلما اطلق العنان لحماقاته واكثر من النهيق كلما كان الاقبال على حلقته الدراسية أكبر والقاعدة تقول  " لا تفكر في ان تكون طرفا معلوما في المعادلات الرياضية"  تحرر من كل تقييد فالحمير تكره التحديد ولا تؤمن بضبط المفاهيم وكن دائما مثل مينون عبد جاهل ومع ذلك هو قادر على يرسم  مربعا هو ضعف لمربع معلوم كل ما عليك فعله ان تدور في حلقة مفرغة فالدائرة هي اكمل الاشكال الهندسية.

5- تذكر دائما ان تفكير الحمير لاعقلاني يرتكز على المجاحشة وعلى كوجيتو  انا انهق واتناهق اذن انا موجود وعلى اعتبار ان فصيلة الحمير شهوانية تتلذذ بكل ما هو مادي فلا يمكن اكتراء حمار دون دفع ثمنه فان الذكاء الحميري غريزي بالضرورة ولايقدر ثمنه  يستمد طاقته من الايروس والثاناتوس و الليبدو الحميري يتسامى الى حد الاشباع النرجسي خاصة عندما يستمد الحمار المتفلسف مادة ابداعه من أوامر ونواهي اذنيه وعينيه المغمضتين وهما فضيلتان لازمتان لكل حمار فيلسوف. وقد وصف نيتشه في مقطع من زرادشت التأثير الحميرى في خلق التناغم مع سنن الطبيعة قائلا:" قل لي الحياة ثقيلة لتحملها لكن لاتكن حساسا نحن جميعا حمير جميلة تحب حمل الأعباء. ماهو القاسم المشترك بيننا وبين برعم الورد يرتجف بسبب قطرة الندى على جسمه"

6-  الحمار الفيلسوف مطيع ملتزم بتنفيذ البرنامج كما هو وعدم التردد  بين " نعم " و " لا "  فهناك دائما كفاءة واحدة  تلخصها عبارة (ار..ار...) كفاءة لغوية منطوقة تختصر كينونة الحمار وتلخص معاناته الوجودية.

07- تأكد دائما انه عندما يتفلسف الحمار فانه لن يموت جوعا يقول هوميروس في الياذته:" كذلك الحمار العنيد يدخل الحقل، رغم جهد الأطفال الذين يكسرون عصيهم على ظهره يواصل رعي المحصول دون ان يقلق من الضربات الضعيفة التي تصل اليه وعندما يشبع ينسحب بصعوبة"

الحمار الولي الصالح (زاوية سيدي حمران)

قد ترتقي بعض الحمير بالمصادفة الى مرتبة الولي الصالح فيحج اليها الكثير من الباحثين عن وصفة النجاح بغير جهد أيام الامتحانات يتبركون بالبردعة ويتوسلون باذني الحمار الكبيرتين فالحمار الصالح مثل بعض الجن قد يسترق السمع مما يحدث في السماء وتوقعاته لا يمكن ان تخطئ وكيف لحمار افنى عمره في تدريس الفلسفة ودون ان يقرأ سطرا مما كتبه الفلاسفة ان يصدق لذلك حفلت كتب التراث بالكثير من الأكاذيب المنسوبة بهتانا الى الفصائل الحمارية ومنها: أن صديقين كانا مسافرين على حمار، وفي طريقهما مرض الحمار ومات، فقاما بدفنه، واحتارا في أمرهما، فقد كانا يستعملانه للركوب ونقل أمتعتهما، وكانا ينويان الاشتغال عليه بالبلد الذي يقصدانه، فأقاما فترة يفكران ثم عنت لهما فكرة غريبة؛ سرعان ما نهضا إلى تنفيذها، تتلخص في: إقامة (ضريح) على قبر الحمار، بدعوى أنه قبر رجل صالح، وولي من أولياء الله، وإشاعة أن زيارته تجلب البركة، وتدفع الضر، إلى غير ذلك من الأكاذيب. وصدقهما العامة، وأقبلوا عليهما دون حدود، وقسما العمل بينهما؛ على أن يمثل أكبرهما دور الشيخ الوسيط، ويقوم أصغرهما باستقبال الزوار، واستعلام أحوالهم، ومن ثم تسريبها إلى الشيخ للإفادة منها في مفاجأة الزائرين والتأثير عليهم. ومرت الأيام على هذا النحو، وأخذا ثروة كبيرة، وملأ الطمع نفسيهما، واتهم أحدهما الآخر بأخذ حصة أكثر من الدخل. فقال المتهم مطمئناً صاحبه: أحلف لك برأس سيدي حمران (يعني الحمار المدفون) أنني صادق في تعاملي معك. فقال الآخر على مين؟ نحن دافنينو سوا

وكتخريج عام:

قدر الحمار الفيلسوف ان يقف دائما في المنتصف فلا هو قادر على ان يشرب من دلو الحقيقة ولا على ان يشبع غريزته فشهوته لا حدود لها ومن يريد ان يتفلسف كالحمار فليمت كالحمار. ومن يصاحب الحمار فليتحمل عضاته وركلاته حيث يحكى أن أحد ملوك الزمان، كان عنده جحش كر ابن آتان، رباه في قصره مربى الدلال، وكان يطلقه بين جلاسه، فيدخل إلى الديوان أمام الوزراء والسفراء والأعيان وينهق ويتمطى بدون استئذان، فينشرح خاطر الملك، ويُشرق وجهه بالرضا والاستحسان. وكان بعض كبار الحاضرين، من السادة المتملقين، يبادرون إلى القول: هالجحش ! مش ناقصو إلا يحكي ! يا عمي جحش الملك ملك الجحاش، وكل شي على بابو بيشبه صحابو. لازم مولانا الملك يحط معلم خاص يعلم الجحش يقرا ويكتب، يمكن يصير فيلسوف زمانو.. فوجدت هذه النصيحة قبولا في نفس ! الملك، وأمر بإحضار أحد كبار فلاسفة ذلك الزمان وطلب منه أن يعلم الجحش القراءة والكتابة. قال الفيلسوف: هذا غير ممكن، لأن أفلاطون كبير فلاسفة الدنيا يقول: (الإنسان حيوان ناطق،، أما الجحش فهو حيوان غير ناطق. فغضب الملك وأمر بشنق الفيلسوف، ثم استدعى أمير شعراء المملكة، وطلب منه أن يعلم الجحش القراءة والكتابة. قال الشاعر: هذا غير ممكن، لأن الشاعر العربي يقول: تَعَلَّمْ يَا فَتَى فَالجَهْلَ عَارُ***وَلَيْسَ بِجَاهِلِ إِلَّا الْحِمَارُ فأمر الملك كذلك، بشنق أمير الشعراء....أمر الملك أن يُنادى في المدينة أن جلالته خصص مكافأة كبرى لمن يستطيع تعليم الجحش، فانبرى لهذه الغاية رجل شيخ عجنته الأيام وخبزته التجارب، ودخل وجثا، وقبل الأرض أمام الملك، ثم التفت صوب الحمار وحياه بجد ووقار.. فانبلج ثغر الملك عن ابتسامة عريضة، وهتف: إذن أنت تفهم لغة الحمير !. قال الرجل: أجل يا مولاي ! وها هوذا الحمار يرد التحية إلي بمثلها، وذلك برمشة من جفنه وعطفة من أذنه، فليطمئن بال سيدي الملك، إنما لا خفاكم الأمر، أن القضية تأخذ بعض الوقت، وتستوجب بعض المصاريف لتأمين الأغذية والأشربة التي تشحذ ذهن الحمار وتساعده على الحفظ والاستظهار، والجوز والصنوبر والزنجبيل وشراب البيلسان والعسل والزبيب والخولجان وغير ذلك، وأملي بالله، إذا سلمتني هذا الحمار الآن، أن أعود به إليك بعد خمس سنوات وشهادته في رقبته. فأمر الملك بفتح اعتماد خاص لهذه الغاية وضعه تحت تصرف الرجل، وسلمه الحمار، فجره وخرج به. وكان بعض أصدقاء الرجل قد تجمعوا خارجاً، و قلقت أفكارهم عليه، فإذا به يخرج والجحش وراءه، ويخبرهم بما حصل... قالوا: ولكنك رجل مجنون، ماذا تفعل بعد خمس سنوات؟ قال: بعد خمس سنوات، إما أن يموت الحمار، وإما أن يموت الملك، أو أموت أنا!.

***

علي عمرون – تخصص فلسفة

 

التقاعد، تلك المرحلة التي ينتهي فيها الإنسان من مسيرته المهنية، يُعتبر منعطفاً حاسماً في حياة الكثيرين. إنه انتقال من حياة مليئة بالعمل والمسؤوليات إلى أخرى قد تبدو في البداية غامضة أو حتى مزعجة للبعض. لكن السؤال الأهم هنا: هل التقاعد فعلاً حتمية مزعجة تُجبر الفرد على التوقف، أم فرصة للتغيير والنمو؟

الحتمية المزعجة: تحديات التقاعد

كثيرون ينظرون إلى التقاعد كمرحلة صعبة ومليئة بالتحديات النفسية والاجتماعية. فبعد سنوات طويلة من العمل، تصبح الوظيفة جزءاً أساسياً من هوية الإنسان وشخصيته. عندما يتوقف عن العمل، قد يشعر بفقدان جزء كبير من ذاته، خاصة إذا كان العمل هو محور حياته. يُضاف إلى ذلك الشعور بالفراغ، حيث يواجه المتقاعد ساعات طويلة دون خطط واضحة، مما قد يؤدي إلى الملل أو حتى الاكتئاب.

التحديات المالية هي جانب آخر يجعل التقاعد مزعجاً. فبالرغم من وجود أنظمة تقاعدية في معظم البلدان، إلا أن الدخل التقاعدي غالباً ما يكون أقل من راتب العمل، مما يُجبر المتقاعد على إعادة النظر في نفقاته وأسلوب حياته. وقد يشعر البعض بالضغط لتوفير المال بشكل أكبر، خاصة إذا لم يكن لديهم خطة ادخار مسبقة.

اجتماعياً، يمكن أن يؤدي التقاعد إلى الشعور بالعزلة، إذ تقل المناسبات الاجتماعية المرتبطة بالعمل. هذا التغيير المفاجئ في نمط الحياة يجعل بعض المتقاعدين يعانون من ضعف التفاعل الاجتماعي، مما يؤثر على صحتهم النفسية والجسدية.

فرصة للتجديد والنمو

رغم كل التحديات، التقاعد ليس بالضرورة نهاية الطريق، بل يمكن أن يكون بداية جديدة وفرصة لتحقيق أحلام طالما تأجلت بسبب مشاغل الحياة. عند النظر إليه بإيجابية، يمكن أن يتحول إلى فترة مليئة بالفرص والإنجازات الشخصية.

أحد الجوانب المضيئة للتقاعد هو توفر الوقت. فبعد التقاعد، لم يعد الإنسان مقيداً بجداول العمل الصارمة، مما يُتيح له فرصة استغلال وقته في الأنشطة التي يحبها. يمكن للمتقاعد مثلاً أن يعود إلى ممارسة الهوايات القديمة، مثل الرسم، أو تعلم مهارات جديدة، كتعلم لغة أجنبية أو العزف على آلة موسيقية.

التقاعد يُمكن أيضاً أن يكون فرصة للتقارب الأسري. مع توافر وقت أكبر، يمكن للمتقاعد أن يقضي وقتاً أطول مع أفراد عائلته وأحفاده، مما يعزز الروابط الأسرية ويضفي معنى جديداً للحياة.

من ناحية أخرى، يجد كثير من المتقاعدين أن الانخراط في العمل التطوعي يضفي على حياتهم شعوراً بالإنجاز والمعنى. المشاركة في أنشطة اجتماعية أو العمل مع منظمات خيرية يساعد المتقاعد على الشعور بأنه لا يزال قادراً على العطاء والإسهام في المجتمع.

التخطيط: مفتاح النجاح في التقاعد

التحضير المسبق للتقاعد هو العامل الرئيسي الذي يحدد ما إذا كانت هذه المرحلة ستكون مزعجة أو ممتعة. هناك عدة خطوات يمكن اتباعها لضمان انتقال سلس إلى هذه المرحلة:

1. التخطيط المالي: من الضروري البدء بالادخار والاستثمار في وقت مبكر من الحياة المهنية لضمان دخل مريح خلال سنوات التقاعد. يمكن أيضاً استشارة خبراء ماليين للحصول على نصائح حول كيفية إدارة الأموال بعد التقاعد.

2. تطوير الهوايات والاهتمامات: من المفيد البدء في ممارسة الهوايات قبل التقاعد لتجنب الشعور بالفراغ عند الوصول إليه.

3. بناء شبكة اجتماعية قوية: الحفاظ على العلاقات الاجتماعية أثناء العمل والاستمرار في توسيعها بعد التقاعد يضمن عدم الوقوع في العزلة.

4. التأهيل النفسي: قبول التقاعد كجزء طبيعي من الحياة يساعد في التعامل مع هذه المرحلة بإيجابية. التغيير قد يكون مخيفاً في البداية، لكنه يمكن أن يصبح مثمراً إذا تمت مواجهته بتفاؤل.

التقاعد بين الرؤية الفردية والمجتمعية

التقاعد ليس مجرد قرار فردي؛ بل هو عملية تتأثر أيضاً برؤية المجتمع له. في بعض المجتمعات، يُنظر إلى المتقاعد كفرد انتهت صلاحيته، مما يضاعف من شعوره بعدم الأهمية. أما في مجتمعات أخرى، يُعتبر المتقاعد مصدراً للحكمة والخبرة، ويُشجَّع على المشاركة في الأنشطة الاجتماعية والاقتصادية.

لذلك، على المجتمعات أن تسعى لتغيير نظرتها إلى التقاعد، من مرحلة نهاية إلى مرحلة جديدة مليئة بالإمكانات. على سبيل المثال، يمكن للحكومات والمؤسسات أن تقدم برامج تدريبية للمتقاعدين، تساعدهم على اكتساب مهارات جديدة أو الانخراط في أعمال تطوعية تعود بالنفع عليهم وعلى المجتمع.

الخلاصة: التقاعد خيارك أنت

في نهاية المطاف، التقاعد مرحلة حتمية في حياة الإنسان، لكنه ليس بالضرورة مرحلة مزعجة. التحضير المسبق والتفاؤل يمكن أن يحوّلا التقاعد إلى فرصة لتحقيق أحلام طالما تأجلت. وبينما يحمل التقاعد تحديات نفسية ومالية، إلا أنه يُمكن أيضاً أن يكون بداية جديدة مليئة بالنمو والتجدد. المفتاح هو النظرة الإيجابية والإعداد الجيد لهذه المرحلة. التقاعد، إذن، ليس النهاية، بل هو فرصة لكتابة فصل جديد في حياة الإنسان، فصل مليء بالإبداع والعطاء.

***

بقلم: د. علي الطائي

٨-١٢-٢٠٢٤

يعيش الإنسان منفرداً في عالم الوجدان يؤسس لكيانه النفساني، تحكمه تارةً ميول ورغبات وتقمعه طوراً سلطة الأوامر والممنوعات وفي انعدام الرقيب تطفو المكبوتات وتنبثق من أعماق نفسه الدفينة لتشق طريقها نحو البوح والإفصاح. وحول قيمة المكبوتات في تحديد المدركات كان الجدال والمرآء بين الفلاسفة وعلماء النفس واختلفوا حول تحديد أهميته المعرفية، الخلاقة، المبدعة بين مؤيد للاشعور مستمداً من نظرية الكبت مفجراً للطاقات الإبداعية الفكرية، ومعارض لهذا الطرح يعتبر المكبوتات سلبية لحرية الأنا الواعية تجعلها في قيد لا ينكسر وتكبيل لا يفكر رباطه.

فهل الكبت النفسي حافز ومفجر للطاقات الإبداعية في عالم الكتابة؟ وإلى إي مدى يؤثر اللاشعور على الذات المبدعة من خلال القلم بغية التنفيس؟

(المكبوتات حوافز للإبداعات الفكرية)

يؤكد فرويد بأن الإبداعات الفكرية ناتجة بالأساس عن اللاوعي (اللاشعور) المتجلي في الإلهام الجارف وهذا يعني أن الأثر الإيجابي للاشعور على الإدراك يتمثل في الإبداع الفني، والفكري والعلمي الذي يخلق التوازن النفسي ويساعد المبدع على إظهار مكنوناته المكبوتة وترجمتها في أعمال إبداعية وفنية وموسيقية، فالمدركات ليست ظاهرة عقلية بحتة فحسب، بل هي كذلك ظاهرة لا شعورية، مثل إدراك الأم النائمة لبكاء رضيعها. ومن الحجج المستعملة حسب مدرسة التحليل النفساني في دور المكبوتات كحوافز للمدركات يمكن الاستعانة بقول الفيلسوف الألماني فريد يريك نتشه: « إن الجزء الأكبر من نشاطنا الفكري يحصل بطريقة لا شعورية »1.

ففي المجال الأدبي ترجم صاحب العبقريات عباس محمود العقاد ومكبوتاته وهيامه الدفين بالكاتبة مي زيادة في قصة جد رائعة موسومة ب "سارة"، كما حركت بلقيس مكبوتات شاعر المرأة نزار القباني وقدم الكثير من القصائد في حقها من بينها قصيدته « حديثك سجادة فارسية ».

لكن كثيرا ما يكون المكبوت سببا في أخطاء مدركاتنا ويتجلى ذلك في فلتات اللسان وزلات القلم، وهي تلك الهفوات والأخطاء التي يتورط فيها لسان وقلم الإنسان.

(المكبوتات تؤثر سلبا على الذات المفكرة)

هناك فلاسفة آخرون وعلماء النفس يرفضون أن تتدخل المكبوتات في تحديد المدركات، إذ يحرف اللاشعور الإدراك من خلال الكبت، أي كبت الدافع قبل الوصول إلى الشعور، فتتغير معرفتي، عندما يتم التعبير بطريقة رمزية. كما يستند دعاة هذا الموقف إلى حجة دامغة، دور اللاشعور السلبي يتمثل في تعليق مختلف السلوكيات به، لأنه يعبر عن جوانب مرضية تحتاج دائما إلى العلاج، كما أن اللاشعور قد يكون مجرد حيل وخداع تستعمله الذات للهروب من المواقف وعدم قدرتها على المواجهة، « اللاشعور هو أنا آخر، أنا له أحكامه المسبقة وأهواؤه وحيَلُهُ، إنه ضرب من الملاك السيء، مرشد شيطاني؛ ولكي نجابهه، يجب أن نفهم أنه ما من فكرة لدينا إلا وهي ناجمة عن الأنا بوصفه الذات الوحيدة »2.  فقد يؤثر سلبا على تلك المدركات التي لا نريد إظهارها مثل العواطف والأهواء.

في حين المكبوت يلعب دورًا بارزًا على المدرك، المتجلي في الخيال المبدع هو القدرة على الاختراع. وهذا ما أصاب العالم ارخميدس عندما خرج من الحمام صائحًا وجدتها.

ما يمكن أن نصل إليه فالمكبوتات حافزاً قوياً ومحركًا كبيرًا للمدركات، فالأنا اللاشعورية تسترجع الذكريات المخبوءة وراء الشعور. فكثيرا ما ننشغل بفكرة ما دون أن نجد حلا لها فتكبت في الأنا العميق وبعد استراحة العقل ينكشف حل هذه الفكرة لا شعوريا لأنها شغلت ذهن المفكر. يقول فرويد: « فالمكبوت هو عندنا النموذج الأول للاشعور، واللاشعور هو النفسي ذاته وحقيقته الأساسية.»3.

***

رحموني عبد الكريم باحث من الجزائر.

............................

1.  فريديريك نتشه: الاعتبارات غير الزمانية.

2.  آلان (إيميل أوغست شارتيه): عناصر فلسفية.

3.  سيجموند فرويد: الأنا والهو، ترجمة: جورج طرابشي.

تحليل سيكولوجي

يرى المحللون السياسيون أن (أبو محمد الجولاني.. داعشي وسيبقى داعشي) فيما نرى في تحليلنا السيكولوجي رأيا مختلفا عن آرائهم.

***

هذا الشاب الذي لم يبلغ بعد الخامسة والأربعين، ولا يعرف بالضبط اسمه الحقيقي (أسامة العبسي الواحدي، ام أحمد حسين الشرع)، ولا البلد الذي ولد فيه ما اذا كانت (سوريا او السعودية).. مع أن هناك من يؤكد انه ولد في مدينة الرياض ثم انتقل وعائلته الى سوريا وعمره سبع سنوات.

هذا الرجل، شخصية استثنائية من حيث تناقضات وتقلبات حياته الشخصية والسياسية.. من امير جبهة النصرة التي تعدّ الفرع السوري لتنظيم القاعدة.. الى توليه الآن منصب القائد الأعلى لهيئة تحرير الشام المُسلّحة والذي سيكون تحديد مسار سوريا السياسي بيده.

المفارقة في تقلبات هذه الشخصية التي تتصدر المشهد السوري الآن، انه شارك في شبابه في احتجاجات ضد حكم البعث وسجن مرات، ولجأ الى العراق وشق طريقه ليكون قائدا عسكريا مع تنظيم القاعدة في العراق لمقاومة الغزو الأميركي للبلاد، ثم انتقل إلى سوريا، وأسس "جبهة النصرة" فرعا للقاعدة.. تتبع (الدولة الأسلامية في العراق) بقيادة ابو بكر البغدادي ليقرر في 2013 مبايعته زعيم القاعدة.. ايمن الظواهري... الى تأسيسه (جبهة النصرة) التي كانت تقاتل ضمن فصائل أخرى على امتداد الخارطة السورية.. تغيير اسمها إلى "جبهة فتح الشام"، ليستقر الآن الى ما صار يعرف بـ"هيئة تحرير الشام".

ومن تصنيفه كأرهابي عالمي، والأعلان عن صرف مكافأة عشرة ملايين دولار امريكي مقابل الأدلاء باي معلومات عنه...الى ان تلتقيه شبكة CNN وتجري معه حوارا مطولا، لتجد فيما يطرحه تغيّرا فكريا وعقائديا مقارنة بما قاله في حوار سابق مع قناة الجزيرة عام 2013 الذي اعلن فيه صراحة عزمه على تعزيز تنظيم القاعدة في سوريا.. الى طمأنة السوريين بعد احتلاله مدينة حماة بأن "الذين يخشون الحكم الإسلامي إما أنهم رأوا تطبيقات غير صحيحة له أو لم يفهموه بشكل صحيح"، الى مقولته الأخيرة بأن قوى المعارضة اذا نجحت في الإطاحة بنظام الأسد، فان سوريا ستتحول إلى "دولة حكم ومؤسسات ".. وهو مبدأ ديمقراطي!. ومهما كان موقفك منه، فانه لا يمكن ان تنكر أن المكسب التاريخي الذي اسهم الجولاني بتحقيقه.. هو اسقاط نظام اضطهد شعبه خمسة عقود، وزج بألاف من ابنائه في سجون تحت الأرض، وهجّر ملايين من ابناء سوريا في دول الشتات.

وسيكولوجيا، رايت فيه من متابعتي لحوارات معه عبر الفضائيات انه يمتلك أهم صفات الشخصية الكارزمية. فهو يتمتع بحضور مؤثر، ولديه القدرة على التأثير في الآخرين واعجابهم به، وانه يمتلك خبرة سياسية ويتحدث ويسترسل بطلاقة المتمكن وبلغة جسد متناغمة مع لغة كلامه.

ونخلص الى التساؤل الأهم:

هل ان ما يمتلكه (الجولاني) من معتقدات اسلامية وتنظيرات تلقاها من كبار في القاعدة (ابو بكر البغدادي، أيمن الظواهري و...) واجتهاده العقائدي.. ستتحكم به حين يتولى سلطة قيادية في الحكم، أم انه سيمارس و يطبق فعلا ما يقوله من طروحات ديمقراطية؟. وهل سيلتزم عمليا بتصريحين لـ(أدارة الشؤون السياسية) تنقلان سوريا الى مصاف الدول الديمقراطية، هما:

(نعمل على بناء دولة قانون تضمن الكرامة والعدالة ومؤسسات تلبي طموحات الشعب)،   و(مصالحة مجتمعية شاملة مبنية على العدالة والمساواة)؟

لا أحد يمتلك اجابة مؤكدة وقاطعة.. لكن الستة اشهر الأولى من الآن ستقدم لنا مؤشرات عما سيحصل، فيما ستكون نهاية 2025 قد حسمت موقف هذه الشخصية الجدلية.. الأستثنائية في تقلباتها وتناقضاتها!

***

أ.د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

سبارطة مدينة يونانية على شكل دويلة ظهرت في القرن العاشر قبل الميلاد توجهت هذه المدينة الى النظام العسكري بعد سلسلة من الحروب مع جيرانها وخاصه مدينة اثينا وارادت بعد انتصارها ان تتحول الى دولة عسكرية ذات اهداف توسعيه وان تكون الحرب هي وسيلة الكسب حتى اصبح الجندي في اعلى درجات السّلم الاجتماعي وكانت حتى النساء تتدرب على حمل السلاح والقتال. 

وبذلك تحولت اسبارطة الى ثكنة عسكرية هدفها الوحيد السيطرة على بلاد اليونان، وهكذا استمر الصراع بين المدينتين حيث اراد اهل اثينا ان لا تكون مدينتهم تابعه لاسبارطة فبنوا حولها الاسوار لحمايتها الا ان الحرب سرعان ما قامت وامتدت لمدة (15) سنة وتعد هذه المعركة من المعارك التاريخية المهمة حيث دارت الدائرة على الجيش الاسبارطي وقتل اعداد كبيرة منهم بما فيهم الملك وهذه اول مرة يهزم فيها جيش سبارطة القوي غير ان الحكومة في اسبارطة برهنت على مدى انضباط جيشها وشعبها فعندما وصلت اخبار الهزيمة كان الشعب في مدينة سبارطة يحتفل بأحد اعياده الوطنية فمنعت السلطات نشر خبر الهزيمة حتى لا يتكدر صفو الاهالي وتزول فرحتهم واكتفوا بنشر اسماء القتلى وارسالها الى اسرهم ومنعوا النساء من البكاء او ابداء اي علامه من علامات الحزن.

يقول احد المؤرخين اليونانيين ان اهالي القتلى خرجوا الى الشوارع في اليوم التالي وهم فرحون اما اهالي الذين نجوا من الموت فقد خرجوا وهم على وجوههم علامات الحزن . وهكذا سقطت سبارطة رغم كل الاجرائات العسكرية الشديدة الصارمة وضاعت شهرتها العسكرية بعد ان كانت لها الزعامة مدة (30) سنة.

خصائص التربية العسكرية الاسبارطية

رب سائل يسأل ماهي مميزات هذه التربية العسكرية التي ادت الى شهرة مدينه سبارطه ورفعت شأنها في التاريخ القديم؟.

يمكن تلخيص هذه الخصائص بالنقاط التالية توضيحا لما قد يغمض من الامور الخاصة بها:

1- يؤخذ الطفل وهو رضيع ويتم الكشف عليه فاذا كان مصابا بعاهة جسمانية يقتل فورا.

2- اذا كان الطفل سليما يترك حتى سن السابعة ثم يؤخذ للتدريب على جميع الفنون القتالية.

3- يؤخذ الاطفال للتدريب في الغابات ويتركون في العراء كي يتدبروا امورهم بأنفسهم ويسمح لهم بسرقة ما يتغذون عليه ولكن اذا كشف امرهم يتعرضون للعقاب الشديد.

4- كانت السلطة في مدينة سبارطة تنشر المشاكل بين المتدربين لكي يقاتلوا بعضهم البعض والخاسر يعاقب اشد العقاب.

5- كان الشباب المتدرب يترك في الشتاء والصيف وقد ارتدى قطعه قماش يلفها حلو وسطة

6- عندما يبلغ المتدرب سن الحادية والعشرين من عمره ينام على الارض ويتعرض الى الجلد الشديد بالسياط حتى يسيل دمه على الارض .

7- تقوم السلطة في سبارطة بتدريب الفتيات على القتال والصيد.

8- تدخل الحكومة الشباب من كلا الجنسين في غرفة مظلمة وتأمرهم بأن بأخذ كل منهم احد الفتيات كزوجة له بدون ان يراها واذا قاومته عليه ان يتغلب  عليها بقوة عضلاته كي تصبح زوجة له، وكان الهدف من وراء ذلك هو خلق محاربين اشداء.

وفي التاريخ الحديث حاولت بعض الانظمة الدكتاتورية في آسيا وافريقيا وامريكا اللاتينية تقليد التربية الاسبارطية واعادة مجدها فلجأت اللى تأسيس المنظمات العسكرية التي تشبه في بعض أمورها خصائص التربية في اسبارطة،ففي كولومبيا والارجنتين والبرازيل والكونغو  وليبيا في عهد القذافي تأسس بعضهما ما يشابة ما كان موجوداً في اسبارطة وسارت بعض الدول العربية على هذا النهج ففي العراق وفي ظل  النظام الدكتاتوري قام صدام حسين بتأسيس اكثر من منظمة عسكرية مثل منظمة (فدائيي صدام) حيث دربوا على اقسى انواع التدريب سواء القتال او عرض فعالياتهم في وسائل الاعلام وهم يفترسون لحوم الكلاب وهي حية او يأكلون لحوم الافاعي السامة بل شمل تدريبهم كذلك على قطع رؤوس الناس وقطع الالسن خاصه بعد فشل انتفاضة عام 1991م بعد انسحاب الجيش العراقي من الكويت عام 1990م وكان الهدف من انشاء هذه المنظمات العسكرية هو خلق حالة من ارهاب الشعب العراقي وجعله شعبا خائفاً خاضعاً للنظام.

لقد فشلت جميع الانظمة الاستبدادية في العالم في اخضاع شعوبها عن طريق هذه التنظيمات لان الشعوب اعتادت على المقاومة والثورة ولم ترهبها ادوات القمع وقد عرفت هذه الشعوب ان الثورة هي السبيل الوحيد لانقاذها من الظلم كما حصل في العراق عام 2003م، ولكن لقد انتهى البعث وحل العبث، رغم التغيير الذي نقلنا من سيء الى اسوء.

***

بقلم: غريب دوحي

‏تناولت في كتابي السابق (فقه التكفير، دار سطور،2018) إشكالية (وعي) الفرقة الناجية والحديث الذي تم إيراده في كثير من المدونات الحديثية، وكيف تم إخضاع الوعي المسلم إلى وجود فرقة واحدة ناجية، ذلك الوعي الذي يعمق تصورا آخر مفاده أن الجميع مصيرهم إلى الهلاك، الا الذات المتبنية لفكرة الفرقة الناجية، إذ كل من يروي الحديث يعتقد بنجاة فرقته.

فما هي الحاجة اليوم إلى ترديد مثل هذا الحديث؟ أليس من الضروري اليوم أن يتم بث الوعي إلى معرفة الطريق والمنهج المنجي من الأفكار المنحرفة والهدامة بدلاً من ادعاء ضمان النجاة من دون واقع مثبت لذلك..؟؟

 ويمكن أن نعقد موازنة مع هذا التفكير نحو تفكير آخر يمكن أن يأتي ثماره باتجاه توجيه الوعي نحو المنهج المنجي  تحت إطار التفكير العلمي الموضوعي الذي يطلب الحق في مختلف مستوياته العلمية والفكرية ودينية، على غرار قول امير المؤمنين (ع): (إن دين الله لا يعرف بالرجال بل بآية الحق، فاعرف الحق تعرف أهله)، ولقد كان الفضاء الفكري في العهود المبكرة من الإسلام - ولو في بعض مراحله- يقوم على أساس التخطئة والتصويب العلمي -لا الفقهي- وكما قال الشافعي رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأيك خطأ يحتمل الصواب، فالمعيار هنا معيار علمي منهجي يقوم على أساس الخطأ والصواب  لا على أساس الكفر والإيمان وهذا ما نحتاجه اليوم من تقبل الاختلاف، وقبول الآخر إنساناً محترما، غير مهدور الكرامة، مع اتاحة فرصة الحوار معه ودعوته بالتي هي أحسن إذا ما اقتضى الأمر لذلك.

الموقف هنا ليس بالضد من حديث مروي -مع غض النظر عن مدى صحته أو ضعفه- بقدر ما هو موقف مرجِّح لأولية البحث عن المنهج المنجي، بدلا من النجاة الموظفة كشعار أيديولوجي مثبط لكل منابع التفكير النافع في مجال العلم والعمل.

وعي المرحلة وظروفها المعرفية وما تمليه علينا من مواقف عملية ضروري جدا باتجاه بناء خطاب ديني معتدل بعيداً عن الخطاب المأزوم والمحتقن بكراهية كل ما حوله، والا فنحن أمام صناعة وعي كاره للدين وللآخر في الوقت ذاته، فالتطرف الديني يصنع أناساً كارهين لكل من يختلف معهم، ويصنع أناساً كارهين - أيضا- لأولئك الذين يحتكرون الحق والنجاة لهم دون غيرهم..

النجاة كلها في تدبر كتاب الله تعالى، والعمل بالصحيح من سنة نبيه وآله الطاهرين، بالاجتهاد واعمال العقل، من دون الاتباع الأعمى، الذي يصيب الأذهان بالكسل والعطل، والذي يطلب الحقيقة لا يمكنه الا أن يسلك أصعب السبل إليها، والامة التي لا تفكر لا ينتظرها التاريخ، بل يتركها في تقهقر دائم.

ومن الضروري ونحن في فضاءات الاختلاف العقدي أن ندرك الفارق بين العقائد التي تمثل الأصول، والعقائد التابعة لها (الفروع)، وانكار الأصل غير إنكار الفرع، من حيث ترتيب آثار الكفر وما دونه من الأحكام الحادة، والاجتهاد فيها راجح، والتقليد الأعمى مذموم.

ورواية الفرقة الناجية من الروايات المتداولة والمثيرة للجدل بسبب مضمونها المحتمل لأوجه متعددة من التأويل بالنحو الذي يجعلها سلاحاً مشتركا بين الفرقاء والخصوم, وفضلا عن الاختلاف الوارد في صحة سنده الرواية فإن متن الرواية لم يسلم من النقد طالما يؤسس إلى ثقافة الإقصاء واحتكار الحقيقة ونبذ الآخر, وربما لا يبدو هذا النقد سببا كافيا في ضعف الرواية لأنها خاضعة إلى وجهات نظر متعددة.

 وهنا أمثلة من التوظيف السلفي المتشدد لمتن هذه الرواية وكيفية تأويلها بالنحو الذي يخدم المقاصد التي يؤسس لها الإتجاه السلفي المتشدد.

سئل ابن تيمية عن قوله (صلى الله عليه واله) وسلم : ..تفترق أمتي ثلاثة وسبعين فرقة.. ما الفرق؟ وما معتقد كل فرقة من هذه الصنوف؟ فأجاب:

(الحمد لله. الحديث صحيح مشهور في السنن والمساند كسنن أبي داود والترمذي والنسائي وغيرهم، .. وفي رواية قالوا يا رسول الله من الفرق الناجية قال : (من كان على مثل ما أنا عليه اليوم و أصحابي). وفي رواية قال (هي الجماعة يد الله على الجماعة). ولهذا وصف الفرقة الناجية بأنها أهل السنة والجماعة و هم الجمهور الأكبر والسواد الأعظم (وأما الفرق الباقية فإنهم أهل الشذوذ والتفرق و البدع و الأهواء. و لا تبلغ الفرقة من هؤلاء قريبا من مبلغ الفرقة الناجية فضلا عن أن تكون بقدرها. بل قد تكون الفرقة منها في غاية القلة. وشعار هذه الفرق مفارقة الكتاب والسنة والإجماع، فمن قال بالكتاب والسنة والإجماع كان من أهل السنة والجماعة... وبهذا يتبين أن أحق الناس بأن تكون هي الفرقة الناجية أهل الحديث والسنة الذين ليس لهم متبوع يتعصبون له إلا رسول الله. وهم أعلم الناس بأقواله وأحواله وأعظمهم تمييزا بين صحيحها وسقيمها), وهذا اقتباس موجز من حديثه عن دلالة الرواية, ومنه يتضح حصرها للفرقة الناجية في اهل السنة والجماعة وكونها الفرقة الوحيدة التي يمكن ان تمثل السواد الاعظم بين المسلمين.

ويذكر محمد بن عبد الوهاب: (سميت الناجية لأنها نجت من النار، كل هذه الفرق في النار إلا هذه الفرقة، فهي الناجية من النار، وهذه أوصافها:

أولا: أنها الناجية.

ثانيا: أنهم أهل السنة، الذين يأخذون بالسنة، وهي طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم. وهي تعني القرآن وتعني الأحاديث الصحيحة، ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ كما قال: «من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي» ، ولم يأخذوا بمذهب الجهمية أو المعتزلة أو الخوارج أو غيرهم من الفرق، إنما أخذوا منهج أهل السنة المتمسكين بالسنة.

ثالثا: «والجماعة» ، سموا بالجماعة؛ لأنهم مجتمعون على الحق، ليس بينهم اختلاف، لا يختلفون في عقيدتهم، إنما عقيدتهم واحدة، وإن كانوا يختلفون في المسائل الفقهية والمسائل الفرعية المستنبطة، فهذا لا يضر، الاختلاف في الفقه لا يضر؛ لأنه ناشئ عن اجتهاد، والاجتهاد يختلف، والناس ليسوا على حد سواء في ملكة الاجتهاد، أما العقيدة فإنها لا تقبل الاجتهاد، بل يجب أن تكون واحدة؛ لأنها توقيفية، قال تعالى: [إِنَّ هَـٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ]، هذه أمة واحدة لا تقبل الاختلاف، تعبد ربا واحدا، وفي الآية الآخرى: [وَإِنَّ هَـٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ﴿٥٢﴾ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا ۖ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ].

فيبين أن أهل السنة والجماعة هم المقصودون في الرواية وبعد ذلك يحدد الاتجاه السلفي الإطار العام لأهل السنة والجماعة بالملتزمين بمنهج السلف. ولا تقتصر المشكلة على القراءة السلفية المتشددة، فالأوساط الأخرى من بقية المذاهب لها قراتها المشابهة من حيث النتيجة التي تمحو بها كل من يخالفها.

***

د. أسعد عبد الرزاق الأسدي

كان (ذو القُروح) قد زعمَ، في المساق السابق، أنَّ مَن يقرأ كتاب «نهج البلاغة»، لـ(الشَّريف الرَّضِي، -406هـ= 1015م)، يُدرِك أنَّ كثيرًا منه نثرٌ وُضِع في القرن الرابع الهجري؛ وهو أشبه بكلام معتزلة العصر العبَّاسي، منه بخطابة الناس في الصَّدْر الأوَّل من الإسلام، أو كلام ذلك الرعيل الأوَّل، بل حتى خطابة عليٍّ نفسه في ما نُسِب إليه من ذلك في المصادر الأقدم تاريخيًّا، كخُطبته يوم أن أراد (عُمَر بن الخطَّاب) الخروج إلى العَجَم المتحشدين بـ(نهاوند).  فقلت له:

ـ لكنَّك، يا مولانا، لم تُثبِت لنا ذلك النموذج الذي أشرتَ إليه من خُطَب (عليٍّ) الأُولى، لكي نقارن، فنصدِّق أو نكذِّب!

 ـ دونك ما أورده (محمَّد بن جرير الطَّبَري، -310هـ= 923م)(1) من خُطبة (عليٍّ)، حينما استشار (عُمَرُ) المسلمين في الخروج إلى العَجَم بنفسه.  فقام عليٌّ، خطيبًا، فقال: «أصاب القومُ، يا أميرَ المؤمنين، الرأيَ، وفهموا ما كُتِب به إليك، وإنَّ هذا الأمر لم يكن نَصْرُه ولا خذلانه لكثرةٍ ولا قلَّة؛ هو دِينه الذي أظهر، وجنده الذي أعزَّ، وأيَّده بالملائكة، حتى بلغ ما بلغ؛ فنحن على موعود من الله، والله منجزٌ وعْده، وناصرٌ جنده، ومكانُك منهم مكان النِّظام من الخرَز، يجمعه ويُمسِكه، فإنْ انحلَّ تفرَّقَ ما فيه وذهبَ، ثمَّ لم يجتمع بحذافيره أبدًا. والعَرَب اليوم، وإنْ كانوا قليلًا، فهم كثيرٌ عزيزٌ بالإسلام؛ فأَقِم واكتُب إلى أهل الكُوفة، فهم أعلام العَرَب ورؤساؤهم، ومَن لم يحفل بمَن هو أجمع وأحدُّ وأجدُّ من هؤلاء؛ فليأتهم الثلثان وليُقِم الثلث. واكتُب إلى أهل البَصرة أن يُمِدُّوهم ببعض مَن عندهم.» فقل لي: أين هذا الأسلوب من بديعيَّات (الشَّريف الرَّضِي) في «نهج بلاغته»، وتفلسفه وشقشقاته المنطقيَّة؟! ثمَّ أضاف الراوي: «فعاد عُمَرُ، فقال: «إنَّ هذا يومٌ له ما بعده من الأيام، فتكلَّموا!» فقام (عليُّ بن أبي طالب)، فقال: «أمَّا بعد، يا أمير المؤمنين، فإنَّك إنْ أشخصتَ أهلَ الشام من شامهم، سارت الرُّومُ إلى ذراريهم، وإنْ أشخصتَ أهلَ اليَمَن من يَمَنهم، سارت الحبشةُ إلى ذراريهم، وإنَّك إنْ شَخَصْتَ من هذه الأرض، انتقضتْ عليك الأرضُ من أطرافها وأقطارها، حتى يكون ما تَدع وراءكَ أهمَّ إليك ممَّا بين يديكَ من العَوْرات والعِيالات! أَقْرِرْ هؤلاء في أمصارهم، واكتُب إلى أهل البَصرة، فليتفرَّقوا فيها ثلاث فِرَق، فلتَقُم فِرقةٌ لهم في حُرَمهم وذراريهم، ولتَقُم فِرقةٌ في أهل عهدهم، لئلَّا ينتقضوا عليهم، ولتَسِرْ فِرقةٌ إلى إخوانهم بالكُوفة مَدَدًا لهم؛ إنَّ الأعاجم إنْ ينظروا إليك غدًا، قالوا: هذا أمير العَرَب، وأصل العَرَب، فكان ذلك أشدَّ لكلَبهم، وأَلَّبْتَهم على نفسك. وأمَّا ما ذكرتَ من مسير القوم، فإنَّ اللهَ هو أَكْرَهُ لمسيرهم منك، وهو أَقْدَرُ على تغيير ما يَكْرَه. وأمَّا ما ذكرتَ من عددهم، فإنَّا لم نكن نقاتِل فيما مضى بالكَثرة، ولكنَّا كنَّا نقاتِل بالنَّصْر.»

ـ كلامٌ مُسْكِت! ولو كان يتوخَّى السجع هنا لقال: « نقاتِل بالكَثْرَة... نقاتِل بالنُّصْرَة»! حقًّا، إنَّه يبدو بين هذا الأسلوب ومعظم ذلك الذي في «نهج البلاغة» بُعد المشرقَين. أو قُل: بُعد خطبةٍ شفويةٍ مرتجلةٍ، قيلت في صَدْر الإسلام، وخطبةٍ مكتوبةٍ، مدبَّجة بالحُلَى، تأنَّق فيها شريفٌ رَضِيٌّ في القرن الرابع من الهجرة، ليُعلِّم الناشئة فنون الإنشاء، محمِّلًا إيَّاها أوزار ما وَسِعَ من فنون البديع، وفنون عِلم الكلام!

ـ ذلك، إذن، ما سألتني عنه. وهو أنَّ الأسلوب النثري الذي عُرِف في خطابة صَدْر الإسلام هو بالجُملة الأسلوب النثري الذي عُرِف قبيل الإسلام من خلال الخطابة العَرَبيَّة، وأمثال العَرَب. بما في ذلك خطابة الرسول، عليه الصلاة والسلام، وخطابة صحابته.(2) وهو لا يأخذ من السجع والبديع- كما ترى- إلَّا عفوه، وعارضه السريع، ولا يوغل في شقشقة الكلام، والتمنطق، والصنعة البديعيَّة، التي إنَّما عُرِفت في ثقافة القرون الإسلاميَّة التالية، تصاعدًا إلى ما أُطلِق عليه مصطلح (عصور الانحطاط)، من القرن السابع وما تلاه.  وما نراه مصطلحًا مسيئًا، ولا بعيدًا عن تقرير الحقيقة، والوصف العِلمي لحال تلك القرون، لُغةً، وأسلوبًا، وأدبًا، وحضارةً، وسياسةً، وطموحًا، وإنْ رَغِم بهذا المصطلح وضاقَ الغُيُر على سمعة الماضي والآباء، مهما كانوا؛ لسان حال هؤلاء الغُيُر ما قاله آباء آبائهم: «حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا! أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ؟!» 

ـ أم تُرَى كان أسلوب (عليٍّ) استثناءً من خصائص اللُّغة والأساليب في عصره وبين أهل عصره، بما في ذلك أسلوب رسول الله؟! 

ـ تلك عنقاء مُغْرِب نافشةً ريشها!  فأنْ يأتي آتٍ ليزعم أنَّ (عليَّ بن أبي طالب) كان استثناءً من ذلك كلِّه، وأنَّ أسلوبه قد نَدَّ عن أساليب البلغاء في صَدْر الإسلام، ليُضْحي نسيج وحده، شبيهًا بأساليب القرن الرابع الهجري وما تلاه- مُحلًّى بما جدَّ خلال تلك القرون من ضروب الأساليب المتأثِّرة بمدارس الإنشاء، لدَى المتكلَّمين والفلاسفة والمترسِّلين ومَن لفَّ لفَّهم من الورَّاقين والكُتَّاب وأرباب المقامات الأدبيَّة- أنْ يأتي آتٍ ليزعم هذا، فليستح؛ ففي زعمه إسرافٌ في الوهم والادِّعاء، من حقِّ صاحبه على أرباب الأدب والنقد النصح بأنْ يتعلَّم قبل أن يتكلَّم، وأنْ يرعى الأمانة فيما يزعم، وأنْ يحفظ للشَّريف الرَّضِي حقوقه الأدبيَّة والفكريَّة، ولعليِّ بن أبي طالب حقوقه الأدبيَّة والفكريَّة، فلا يعمد إلى خلط الأوراق عن هوًى في نفسه. ولقد ساق (الشَّريف الرَّضِيُّ) الخطبتين السابقتين في «النَّهْج»، ولكن ببعض الحذف، ثمَّ ستجد أنَّه لم يسترح حتى حلَّاهما ببعض لمساته البديعيَّة، على هذا النحو: «وهو دِين الله الذي أظهره، وجنده الذي أعدَّهُ وأمدَّهُ، حتى بلغَ ما بلغ، وطلعَ حيث طلع... فكن قُطْبًا، واستدِرْ الرَّحَى بالعَرَب، وأَصْلِهِمْ دُونك نارَ الحَرَب...  فيكون ذلك أشد لكَلَبِهم عليك، وطمعهم فيك...».(3)

ـ ماذا عن خُطَب القرن الأوَّل غير ذلك النموذج؟

ـ قارن، إنْ شئت، أسلوب «النَّهْج» بخطبة (أبي بكر الصِّدِّيق) أيضًا، التي رواها (الطَّبَري)(4)، وتمضي هكذا: «إنَّ الله، عزَّ وجلَّ، لا يَقبل من الأعمال إلَّا ما أُريد به وجهه؛ فأَريدوا اللهَ بأعمالكم، واعلموا أنَّ ما أخلصتم للهِ من أعمالكم، فطاعةٌ أتيتموها، وحظٌّ(5) ظفرتم به، وضرائبُ أدَّيتموها، وسلَفٌ قدَّمتموه من أيامٍ فانيةٍ لأخرى باقية، لحِين فقركم وحاجتكم. اعتبروا، يا عباد الله، بمَن مات منكم، وتفكَّروا في مَن كان قبلكم.  أين كانوا أمس؟ وأين هم اليوم؟! أين الجبَّارون؟ وأين الذين كان لهم ذِكر القتال والغلبة في مواطن الحروب؟ قد تضعضع بهم الدَّهر، وصاروا رميمًا، قد تُرِكت عليهم القالات؛ الخبيثات للخبيثين، والخبيثون للخبثيات! وأين الملوك الذين أثاروا الأرض وعمروها؟ قد بعُدوا، ونُسِيَ ذِكرهم، وصار كلا شيء!  ألا إنَّ اللهَ قد أبقى عليهم التَّبِعات، وقطع عنهم الشَّهوات، ومضوا والأعمال أعمالهم، والدُّنيا دُنيا غيرهم، وبقينا خَلفًا بعدهم، فإنْ نحن اعتبرنا بهم، نجونا، وإن اغتررنا، كنَّا مثلهم. أين الوُضَّاء الحسنة وجوهُهم، المعجبون بشبابهم؟! صاروا ترابًا، وصار ما فرَّطوا فيه حسرةً عليهم! أين الذين بنوا المدائن، وحصَّنوها بالحوائط، وجعلوا فيها الأعاجيب؟! قد تركوها لمن خلفهم، فتلك مساكنهم خاوية، وهم في ظُلمات القبور، هل تُحِسُّ منهم من أحدٍ، أو تسمع لهم رِكْزًا؟!  أين مَن تعرفون من أبنائكم وإخوانكم؟ قد انتهت بهم آجالهم؛ فوردوا على ما قدَّموا، فحَلُّوا عليه، وأقاموا للشِّقوة أو السَّعادة(6) في ما بعد الموت! ألا إنَّ اللهَ لا شريك له، ليس بينه وبين أحدٍ من خَلقه سببٌ يعطيه به خيرًا، ولا يصرف به عنه سوءًا، إلَّا بطاعته واتِّباع أمره. واعلموا أنَّكم عبيدٌ مَدِينُون، وأنَّ ما عنده لا يُدْرَك إلَّا بطاعته. أمَا إنَّه لا خير بخيرٍ بَعده النَّار، ولا شرَّ بشرٍّ بَعده الجنَّة!» هذا هو أسلوب الخطابة في صَدْر الإسلام. وإنما مَثَل مَن لا يميِّز هذا عن ذاك كالذي لا يميِّز بلاغة الشِّعر الجاهلي والأُموي عن بلاغة شِعر (البحتري) و(أبي تمَّام). فقارن هذا بأكثر تلك الخُطب المنسوبة في «النَّهْج» إلى (عليِّ بن أبي طالب)، لتجد الفرق الصارخ، ثمَّ أنت على نفسك بصيرة! ولك أن تقارن كذلك أسلوب «النَّهْج» بأسلوب ابني عليٍّ، (الحَسَن) و(الحسين)- اللذين لم يقيِّض الله لهما من يصطنع باسمهما نَهْج بلاغةٍ في القرن الرابع!- لتُدرِك البَون بين النَّسجَين. فمن خطابة الأوَّل قوله، مثلًا: «يا أيها الناس، أجيبوا دعوة أميركم، وسيروا إلى إخوانكم، فإنه سيوجد لهذا الأمر مَن يَنْفِر إليه. وواللهِ لأنْ يليه أولو النُّهَى، أمثلُ في العاجلة، وخيرٌ في العاقبة! أجيبوا دعوتنا، وأعينونا على ما ابتُلينا به وابتُليتم...».(7) فتلكم نماذج كثيرة متواترة، اقتصرنا منها على النَّزر اليسير؛ لتدلَّ على ما زعمناه. ذلك أنَّ السجع بخاصَّة والبديع بعامَّة ليسا من البلاغة إلَّا في حدود ما يقتضيه المعنى، دون اصطناع أو تكلُّف. وحاشا أن يكون أسلوب )عليِّ بن أبي طالب( بذلك الزخرف اللفظي الفارغ الممجوج، لا لأنه منافٍ لنمط الأسلوب في زمنه وثقافته فحسب، ولكن لأنه أيضًا ليس بأسلوب البُلغاء الحقيقيِّين، بل أسلوب الصعاليك الفارغين من المعاني، المتلهِّين طفوليًّا بألاعيب الألفاظ وحُلاها. ولأجل هذا كان (عبدالقاهر الجرجاني)(8) يقول: «وعلى الجُملة فإنك لا تجد تجنيسًا مقبولًا، ولا سَجْعًا حَسَنًا، حتى يكون المعنى هو الذي طلبَه واستدعاه وساقَ نحوَه، وحتى تَجِده لا تبتغي به بدَلًا، ولا تجِد عنه حِوَلًا، ومِن ها هنا كان أَحْلَى تجنيس تسمَعُه وأعلاه، وأحقُّه بالحُسْن وأولاهُ، ما وقع من غير قصدٍ من المتكلِّم إلى اجتلابه، وتأهُّبٍ لطلبه، أو ما هو- لحُسن مُلاءمته، وإنْ كان مطلوبًا- بهذه المنزلة وفي هذه الصورة... لا تجد... لفظًا اجتُلِب من أجل السجع، وتُرك له ما هو أحقُّ بالمعنى منه وأبرُّ به، وأهدَى إلى مَذْهبه.» ومع هذا تجد الجرجاني نفسه لم يملك هنا الخروج من إهاب عصره، فسجع! فهل كان «المعنى هو الذي طلبَ سجعه واستدعاه وساقَ نحوَه»؟ كلَّا، لكن يظلُّ الإنسان ابن عصره وبيئته.

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

........................

(1) (1967)، تاريخ الرُّسل والملوك، تحقيق: محمَّد أبي الفضل إبراهيم، (القاهرة: دار المعارف)، 4: 123- 125. 

(2) مَن شاء الاستزادة، فليرجع في هذا إلى مثل كتاب: (صفوت، أحمد زكي، جمهرة خُطب العَرَب في عصور العَرَبيَّة الزاهرة). 

(3) (1990)، نَهْج البلاغة، شرح: محمَّد عبده، (بيروت: مؤسَّسة المعارف)، 353- 354.

وقد ضبطَ (الشيخ محمَّد عبده) كلمة «الحرب» بسكون الراء. وكذا فعل (صبحي الصالح) في تحقيقه، (القاهرة: دار الكِتاب المِصْري- بيروت: دار الكِتاب اللُّبناني، 2004)، 203. وإنَّما مذهب (الشَّريف الرَّضِي) أن يُجانس ويُساجع، ولا يستقيم ذلك له إلَّا بجعل (الحَرَب)- بفتح الراء- في وِزان (العَرَب)؛ ولذلك صوَّره نارًا تأكل الأخضر واليابس، وكذلك الحَرَب؛ فهو ذهاب المال كلِّه. كما قال (أبو الأسود الدؤلي):

قَـدْ يَجْمَـعُ المَـرْءُ مـالًا ثُمَّ يُسْلَبُهُ:::عَمَّـا قَلِيـلٍ فَيَلْقَـى الذُّلَّ والحَرَبا

(4)  م.ن، 3: 224- 225.  

(5)  في الأصل: «وخطأ ظفرتم به»!

(6)  في الأصل: «للشَّقوة والسَّعادة»!

(7)  الطَّبَري، م.ن، 4: 485. 

(8) (1991)، أسرار البلاغة، قرأه وعلَّق عليه: أبو فهر محمود محمَّد شاكر، (جُدَّة: دار المدني)، 11- 13.

في درس الحكمة الفلسفية نجد الأستاذ يثري حضورا فلسفيا، يتجاوز النظرة الاستعلائية والتعامل العمودي الذي قد ينتهجه الأستاذ إزاء تلاميذه، معتبرا إياهم مجرد متعلمين يتلقون جملة من المعارف يحفظونها عن ظهر قلب، بل يجب على الأستاذ مساعدة التلاميذ في عدم الخروج عن موضوع المناقشة، ومعاونتهم على استخدام كل المادة المتصلة بالمناقشة، والمحافظة على سير النقاش نحو الأهداف المتفق عليها في برنامج الفلسفة، القائم على كفاءة الحوار بين الأستاذ والتلميذ، يسمح لهما بممارسة الفلسفة فعلا، لأنه «لا نستطيع أن نحدد طبيعة الفلسفة إلا بأن نمارسها فعلا، وحينئذ تصبح الفلسفة تحقيق للفكرة الحية وتأملا لهذه الفكرة فهي الفعل والقول المتعلق بالفعل في آن واحد»1 فهو فعل الحوار وكفاءة المناقشة، وحضور التلميذ الفلسفي، فكيف يتم هذا الحضور؟

هذا الحضور للتلميذ باعتباره شخصا متميزا وكليا، محددا انفعاليا واجتماعيا وثقافيا وبذلك يصبح كل تلميذ بالفصل نموذجا خاصا، يتطلب تعاملا ينسجم وخصوصيته الفارقية وهذا ليس في درس الفلسفة فحسب بل في جميع المواد، تلميذ يبحث عن غير المألوف في خطاب غير مألوف وفي حضرة أستاذ له حق التميز عن العام باعتباره يملك سلطة التنظير للاختلاف ونقد النمطية والخوف من الغموض وتعليق كل الآراء الجاهزة والمألوفة بين قوسين.

خلال عملية التواصل يظل التلميذ ينتظر أن يستجيب أستاذه، لهذا الحوار الفلسفي الجاهز والذي يذكي فيه روح المغامرة الفكرية والاندفاع والمقامرة لطرق الأسئلة التي لا يسمح له بطرحها في واقعه الاجتماعي، أو في المواد الدراسية الأخرى، لكن في درس الفلسفة ينبني التواصل الحقيقي مع التلاميذ، على قوة الطرح وصدق المشاعر، فالإنسان الواعي بذاته ومجتمعه، هو القادر فعلا على الاستجابة لما تثيره الفلسفة من الإحساس بالقيم، ذلك أن الفلسفة تعنى بالقيم المختلفة بتوضيحها وتحليلها، وبيان الأسس التي تقوم عليها، واستعداد الأستاذ للعمل والخدمة غير المشروطة لصالح الحاجيات التي سيعبر عنها تلاميذه وهم يحاولون شق طريقهم في متاهات الفكر الفلسفي. ومن هذا المنطلق يجدر بأستاذ الفلسفة محاولة التعرف على ملامح تلاميذه المعرفية والنفسية، ليعدل سلوكه ومعرفته على أساسها وينتج خطابه وفق "الحالة" التي يتوجه إليها بالسؤال أو النقاش، فيتعامل مع "الخجول" بشكل ويدعم ثقته في ذاته ويشجعه على المشاركة وإبداء الرأي بينما يدفع "المتعالم" إلى مراجعة يقينياته، وللمناخ السائد في الفصل خلال حصة الدرس الفلسفي، كبير الأثر على سيره لدى يحسن أن يتميز بالأريحية والإيجابية، حتى يتعلم التلميذ ويتكون وينتج ويؤسس فكرا ووجدانا وسلوكا.

إنه تواصل علائقي بين الدرس الفلسفي والتلميذ، الذي يسعى جاهدا لمحاولة التجاوب مع الدرس، وفهم معنى التفلسف، واتخاذ مواقف حرة وجريئة، تستمد مشروعيتها من البرهنة وسلامة الحجة، واتساقها مع مبادئ العقل والحس السليم، لا من المعارف السابقة والأحكام البديهية والمسقطة،" لكن التلميذ حبس داخل لولب فلسفي، داخل منطق الكفاءة وبيداغوجيتها، فبدل تكييف الكفاءة الفلسفية مع متطلبات التلميذ وقدراته الفكرية ،والحركية، والوجدانية، أصبح التلميذ خاضعا لمنطق التدريس بالكفاءات، فتاه المتعلم، والمعلم، وتهت معهما بيداغوجيا الكفاءة الفلسفية التي ننشدها ونسعى بغية تحقيقها، فهل نجحنا في الإصلاح وفق المقاربة بالكفاءات؟ وهل هناك آفاق للكفاءات الفلسفية في التدريس الثانوي؟

***

رحموني عبد الكريم باحث من الجزائر.

............................

1- سليم دولة: ما الفلسفة، دار نقوش عربية- تونس-، دون طبعة، ص: 137.

في المثقف اليوم