قضايا

اعترف بجهلك: حكمة سقراط التي لا يمكنك تفاديها

في محاورة فيدروس أو الجمال لأفلاطون هناك فقرة توضّح الدور الذي لعبه سقراط في تاريخ الفلسفة، إذ يروي لنا أفلاطون أن سقراط كان يتمشى مع صديق له عندما سأله الصديق وهو ينظر إلى السماء، ما إذا كان يؤمن بقصص اليونانيين عن بورياس الإله الذي يرسل الرياح، وكان الصديق يقصد أن دراسة علمية عن المناخ أفضل بكثير من أسطورة قديمة. أما سقراط فقد قال للصديق أنّه لا وقت لديه للتفكير بقضية كهذه أو السعي خلفها وشرح فكرته قائلاً: "والسبب يا صديقي هو أنني ما زلت غير قادر على معرفة نفسي، ومن الحماقة بالنسبة لي النظر في أشياء خارجية، وأنا لم أتمكن من فهم داخلي بعد" - محاورة فيدروس، ترجمة أميرة حلمي مطر -

طرح سقراط أسئلة على الناس، محاولاً دفعهم إلى التفكير بأوضاعهم، والتأمل في وجهات النظر الأساسية التي واجهت أعمالهم وأقوالهم، ويمكننا القول إن سقراط حاول أن "يوقظهم"، وهو لم يُرد من الناس أن يرددوا ما كانوا قد سمعوه من غير أن يستوعبوه. وكان القصد من المحادثات التي كان يجريها في الأسواق بطريقة استفزازية، هو استنباط ما يمكن أن نسميه المعرفة الشخصية من الذين استنطقهم. وسوف نرى أن الفلاسفة الوجوديين يحاولون أن يتبعوا طريقتهم في إثارة الأسئلة.

شبه سقراط نفسه بالسمكة الرعّاشة، فأسئلته تُجمّد الذي يحاوره وتخلع عن الأشياء قناعها العادي، يهتف التلميذ "ثبايتيتوس" بمعلمه سقراط بعد أن جعله يقرّ بجهله: "بحق الآلهة يا سقراط، إنني لا أفيق من الاندهاش من معنى هذه الأشياء، وأحياناً يصيبني الدوار"، يردّ سقراط بشكل مرح وبسيط: "أجل إن هذه الحال بعينها هي التي تميّز الفيلسوف، هذا هو وحده الاندهاش، هو أصل الفلسفة". فقد كان سقراط يحاول أن يقدم لمستمعيه طريقة بسيطة تمكنهم من تمييز ما هو صحيح بأنفسهم، فهو يصرّ على أن بإمكان أي شخص يملك عقلاً فضولياً أو سعياً إلى التدقيق في المعتقدات السائدة، أن يبدأ محادثة مع شخص آخر في أحد شوارع المدينة بحيث يصل إلى فكرة خلاقة. وكان من عادة سقراط أن يبدأ أسئلته بالإفصاح عن جهله العميق بالموضوع، حتى يجذب الآخر إلى حلبة للمناقشة، ويحوّل بصره إلى الصعوبة الحقيقية في الموضوع، ثم يدخل إلى عمق الموضوع، وكذا كان يشجع الآخرين على سلوك درب الفلسفة دون حاجة إلى كرسي المعلم، ومن دون أن يعطي النصائح والأوامر، فقد كانت براعته تتمثل في قدرته على أن يجعل المحاور يصل بنفسه إلى الحقيقة. وقد رأى سقراط أن الفضائل تعتبر تجليات لجوهر واحد هو المعرفة التي تعادل الفضيلة، وإذا كان الشخص يجب أن يُعلن أنّه لا يمكن أن يُلمّ بكل جوانب الحقيقة وأنه يستحيل أن يحيط بكل جوانب العلم، فإن الفضيلة تشير إلى وعي الإنسان، ومن ثم يتوجب عليه أن يسلك درب البحث المتواصل عن المعرفة، وهذا هو جوهر الفضيلة: "إن الفضيلة ما هي إلّا دعوى دائبة لإعمال العقل".

كان سقراط يقول: "لا أعرف سوى شيء واحد وهو أني لا أعرف شيئاً"، فالفلسفة لا تتقدم إلّا عن طريق تبنّي منهج الشك والبحث الدائم.696 ali hussein

إن الفلسفة تبدأ عندما يبدأ الإنسان بتعلم الشك، خصوصاً الشك في المعتقدات التي يحبها، والعقائد والبديهيات أو الحقائق المقررة التي يؤمن بها ويقدسها. ولهذا قال سقراط: "اعرف نفسك". وهي العبارة التي حاول كارينجي أن يعيد صياغتها، فقد كان يعتقد أن المرء يتعين عليه أن يؤمن بقدراته، لكي يجعل الآخرين يثقون بهذه القدرات.

كثيرون اعتبروا الأسئلة التي كان يطرحها سقراط في الأسواق جنونية، واضطهده البعض وسخر منه آخرون. في مسرحية (السحب) حاول إرستوفانيس أن يقدم صورة كاريكاتيرية للفيلسوف الذي رفض قبول الفهم السائد دون محاججة، وظهر الممثل الذي يلعب دور سقراط على الخشبة في سلة معلقة في السقف، إذ كان يدعي، حسب قول إرستوفانيس، أن عقله يعمل أفضل في مكان مرتفع. لقد كان مشغولاً بهذه الأفكار المهمة إلى حدّ عدم امتلاك وقت للاغتسال.

تبدأ محاورات سقراط التي دوّنها أفلاطون، دائماً بالإفصاح عن جهله العميق بالموضوع، حتى يجذب الآخر إلى حلبة للمناقشة، ويحوّل بصره إلى الصعوبة الحقيقية في الموضوع، ثم يدخل إلى عمق الموضوع. وكذا كان يشجّع الآخرين على سلوك درب الفلسفة دون حاجة إلى كرسيّ المعلم، ومن دون أن يعطي النصائح والأوامر، فقد كانت براعته تتمثل في قدرته على أن يجعل المحاور يصل بنفسه إلى الحقيقة. وقد رأى سقراط أن الفضائل تُعتبر تجليات لجوهر واحد هو المعرفة التي تعادل الفضيلة، وإذا كان الشخص يجب أن يعلن أنّه لا يمكن أن يلمّ بكل جوانب الحقيقة وأنه يستحيل أن يحيط بكل جوانب العلم، فإن الفضيلة تُشير إلى وعي الإنسان، ومن ثم يتوجب عليه أن يسلك درب البحث المتواصل عن المعرفة، وهذا هو جوهر الفضيلة: "إن الفضيلة إلّا دعوى دائبة لإعمال العقل".

نصائح سقراط الحياة متوازنة

في عالمنا المضطرب تبرز حكمة سقراط، كنجم مرشد لأولئك الذين يسعون إلى التعمق في نسيج الحياة. ترك سقراط إرثًا يتحدانا للتأمل والتساؤل وزراعة حياة الفضيلة. ويمكن ان نستنتج منه اليوم الخطوات التالية:

1- فن التأمل الذاتي:

"اعرف نفسك" - دعوة للانطلاق في الرحلة النهائية في الداخل، واستكشاف كهوف رغباتك ومعتقداتك وجوهرك. إنها الخطوة الأولى نحو رسم مسار لحياة ذات معنى

2- البحث عن الحقيقة:

تبنى روح الاستقصاء طرح الأسئلة حول جوهر كل شيء من حولك لتكتشف حقائق أعمق مخفية تحت سطح الحياة اليومية

3- ثروة الحكماء:

في سوق الحياة، حيث يتم تبجيل الثروات، يعلمنا سقراط أن نعتز بالحكمة والفضيلة فوق كل شيء - العملة الحقيقية لحياة مكتملة

4- تبني جهلنا:

إن الاعتراف بأنني "أعلم أنني لا أعرف شيئًا" ليس هزيمة بل انتصار هدفه عن المعرفة. إنه يفتح الأبواب للتعلم والسعي وراء الحكمة.

5- تشكيل الفضيلة:

لترتدي روحك زيا من العدالة والشجاعة والاعتدال والحكمة. هذه الفضائل لا تتلاشى أبدًا مع مرور الاعوام، لكنها بريقًا لشخصيتك يلمع عاما بعد آخر

6- العدالة في كل الأفعال:

إن العيش في عالم عادل ومعاملة الآخرين بالإنصاف والشرف هو حجر الزاوية في المجتمع حيث يسود الانسجام. العدالة كماوصفها سقراط هي اللحن الذي يهدئ الروح وأساس الحياة الطيبة.

7-  السيطرة على الذات:

إن العلامة الحقيقية للحرية ليست في السيطرة على الآخرين بل في ضبط النفس. تحكم في رغباتك لتتمكن من اجتياز رحلة الحياة بهدف وكرامة.

8- رابطة الرفقة الحقيقية:

قم بتنمية الصداقات التي تعكس أعماق روحك القائمة على الاحترام المتبادل والسعي المشترك للفضيلة. هذه هي العلاقات التي تثري رحلتنا، وتقدم العزاء والإلهام على طول الطريق.

9- الشجاعة وسط العاصفة:

واجه عواصف الحياة بثبات الفيلسوف، وانظر إلى كل تحدٍ باعتباره فرصة للنمو. واجه سقراط نهايته بتوازن، وعلمنا أن نواجه تجاربنا بشجاعة.

10- السعي وراء الحياة الطيبة:

بالنسبة لسقراط، فإن جوهر الحياة الطيبة لا يكمن في الإشادات الخارجية التي تنهال عليك، بل في الانسجام مع العقل والفضيلة. إنها رحلة بحث عن الجمال الأخلاقي الذي يتفوق على بريق الإنجازات السطحية.

كان سقراط يؤمن بمقولة: "المعرفة فضيلة". كان يعتقد أن فهم جوهر الخير من شأنه أن يقود الشخص بشكل طبيعي إلى التصرف بشكل فاضل لأن من في عقله الصحيح يعرف ما هو جيد ويختار غير ذلك؟ كانت هذه النظرية طريقته في القول، "كن ذكيًا، افعل الخير".

***

علي حسين – رئيس تحرير جريدة المدى البغدادية

.........................

* الصورة في متحف اللوفر بابو طبي اقف بالقرب من المرحوم سقراط

 

في هذه الكتابة شيء من العسر. وأرجو من الأصدقاء الأعزاء الذين تفضلوا بقراءتها أن يتحملوا قليلاً، وأعدهم بأنها ستحل إشكالية مهمة جداً وكثيرة التكرار في النقاشات المتعلقة بالعقلاني واللاعقلاني في المعتقدات والأفكار، لا سيما في مدى التزام الفرد بما هو سائد في المحيط الاجتماعي من قناعات وآراء.

وكما وعدت في مقالة الأسبوع الماضي، فإني سأتعرض لرؤية الفيلسوف الفرنسي أندريه لالاند المتعلقة بوظيفة العقل. لكنّي سأطرقها من زاوية مختلفة نوعاً ما.

أخذاً بعين الاعتبار مختلف الآراء التي عالجت وظائف العقل ومكانته في التفكير والتشريع، والتي عرضها مفكرون قدامى أو معاصرون، أستطيع تحديد ثلاث وظائف محورية للعقل، يظهر دور كل منها في مرحلة عمرية محددة، بدرجة أكبر من الأخرى. وأعني بهذا مرحلة الصبا المبكر، ومرحلة الاندماج الاجتماعي (بداية سن العمل)، ثم مرحلة الاستقلال الذهني.

سنبدأ بمرحلة الشباب المبكر، حين يكون الإنسان متلقياً ومستهلكاً لما يراه أو يسمعه في المجتمع المحيط به. دعنا نفترض أنه صبي في الثانية عشرة من العمر، وقد أخبره أستاذه بأن الضوء والظلام ربما يجتمعان في وقت واحد، أو ربما يكون الشخص موجوداً وغائباً في نفس المكان، أو أنه ثمة مَن هو صغير وكبير في ذات اللحظة. فهل تظن أن الصبي سيتقبل الفكرة ويصدق مقالة أستاذه؟

إن أردت التحقق من المسألة، فقُلْها لصبي في هذا العمر، واختبر رد فعله. لقد جربتها بنفسي مع عدة أشخاص في هذا العمر أو دونه، فضحك بعضهم ظناً أنني أسرد عليهم نكتة أو لغزاً. آخرون سكتوا واجمين بين مصدِّق ومكذِّب. المهم أني لم أجد مَن يصدق إمكانية اجتماع المتناقضات، مكانياً أو زمانياً أو موضوعياً. فمَن الذي أخبر أولئك الصبيان باستحالة اجتماع النقيضين؟ وكيف اكتشفوا أن ما نذكره هو فعلاً نقائض وليست مجرد عناصر منفصلٌّ بعضها عن بعض؟

تعرَّف الفلاسفة على هذه القصة منذ قديم الزمان. وفي العصور الحديثة، كانت محط اهتمام كثير من الفلاسفة البارزين، لا سيما مع بروز النزعة التجريبية، التي تنفي أي علم أو معرفة عقلية قبل التجربة. إيمانويل كانط مثلاً، قال مجادلاً التجريبيين: «حين تُجري تجربة ستحتاج لمعرفة مسبقة بالعناصر الداخلة فيها ومعايير قياس سلامة الناتج»، فمن أين جاءت تلك المعرفة؟ هل هي نتاج لتجربة سابقة؟ لكن تلك التجربة تحتاج أيضاً إلى معرفة سابقة، وهكذا سوف ندور وندور في حلقة مفرغة بلا بداية. وسيظهر في نهاية المطاف أنه لا محيص من القبول بفرضية أن العقل مجهَّز-قبل أي تجربة– ببعض أدوات التعقل الضرورية لأداء أشياء كثيرة، منها الدخول في تجارب. هذه الأدوات هي ما نعرفه باسم العقل الفِطري أو العقل المحض أو المعارف القَبْلية. وهي تتمظهر في صورة حدس أو تخيل أو تأملات منطقية، لا يعرف الإنسان، لا سيما في مراحل عمرية مبكرة، مصدرها أو ضوابطها، لكنه يجدها في نفسه فيستعملها ويثق بدلالاتها. ومع مرور الزمن تنضج هذه الأدوات وتتحول إلى ما نسميه العقل العملي، وهو مرحلة أعلى من عمل العقل، يبرز دورها خصوصاً مع تقدم الصبي إلى مرحلة الشباب، لا سيما حين يحتاج إلى تقديم نفسه إلى بقية أعضاء المجتمع. وهذا ما سنتحدث عنه في الأسبوع القادم إن شاء الله.

زبدة القول أن العقل في مرحلة الصبا ليس عقلاً منتجاً للأفكار، لكنه قادر على فهم الأشياء، وتمييز ما هو ممتنع عقلاً عمّا هو ممكن، نظير ما ذكرناه عن المتناقضات. هذه القابلية تسمح لنا بالقول إن الإنسان لا يولد جاهلاً؛ بمعنى أن الجهل ليس هو الأصل في الإنسان، كما يظهر من كلام أستاذنا إبراهيم البليهي.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

" الصراع الثقافي وهم مصطنع، تتقلده العقول العسكرية والسياسية، وتجعله مركزا لسيرورة أحلامها وتوجهاتها.. ومن تداعيات هذا الوهم، أن يستبد الاستعمار الجديد ويتمدد في الهوية والتاريخ، دون أن تكون لديه أية رقابة أخلاقية وقيمية على الإطلاق"

يستمد خافيير جيراردو مايلي، الرئيس الأرجنتيني ال58، فكره من اللليبرالية اليمينية أو الشعبوية اليمينية، يناصر منهج دعم اقتصاديات عدم التدخل، ويتماشى بشكل خاص مع المبادئ الملكية والفوضوية الرأسمالية التي انتشرت في العشر سنوات الأخيرة في القارة اللاتينية.

جيراردو مايلي كسياسي واقتصادي ومؤلف أرجنتيني، هو متخصص في الاقتصاد الكلي، والنمو الاقتصادي، والاقتصاد الجزئي، والرياضيات الاقتصادية، دعا مؤخرا، خلال اجتماع للفرع الأرجنتيني من مؤتمر “العمل السياسي المحافظ الأمريكي اليميني، إلى شن حرب ثقافية دولية، وإعادة التنفس بحرية بعد انتخاب ملهمه الأمريكي دونالد ترامب للمرة الثانية على رأس أكبر اقتصاديات العالم.

ولم يخف الرئيس الأرجنتيني، الذي يعتبر من أكبر داعمي حرية الاختيار في سياسة المخدرات، والأسلحة، والدعارة، وزواج المثليين، والتفضيل الجنسي، والهوية الجنسية، ومعارضته الإجهاض والقتل الرحيم، (لم يخف) إيمانه بأن هناك حاجة لشن حرب ثقافية، مؤكدا على ضروري محاربة اليسار في الجامعات ووسائل الإعلام والثقافة.

ولأنه يتخذ من منهج ترامب طريقا ومسارا لسياساته اليمينية، فقد حرص على استدعاء مساعدي ومستشاري الرئيس الأمريكي المنتخب حديثا، حيث حضر مؤتمره كل من لارا ترامب، زوجة نجل ترامب، والرئيسة المشاركة للحزب الجمهوري، وسانتياغو أباسكال، زعيم حزب “فوكس” الإسباني اليميني، والمعلق الأمريكي اليميني بن شابيرو. بالإضافة إلى مشاركة مستشار ترامب السابق، ستيف بانون، والرئيس البرازيلي السابق جايير بولسونارو، عبر الفيديو.

فما الذي يعنيه خافيير جيراردو مايلي بالحروب الثقافية، التي هي جزء مفصلي في براديجم المعارك السياسية التي تخوضها الولايات المتحدة داخلياً، على وجه الخصوص، وتتركز خلافاتها المحورية، وبأشكال متعددة، على التعليم، والعرق، والتنوع، وتعريفات النوع الاجتماعي، ودور الدين في المجتمع؟.

إنه على مر ربع قرن، ظهر مصطلح الحرب الثقافية والهوياتية، كمنظومة أسئلة متشاكلة، في الانتخابات الأمريكية بالتحديد، ظلت القضايا الاجتماعية فيها، المنحى الغالب والمهيمن في برامج الرصد المؤسساتي، لمجمل مراكز الدراسات الاستراتيجية والسياسية، من قبيل الحق في الإجهاض، وحقوق النوع الاجتماعي، وقوانين الهجرة، تستقطب جزءاً من النقاش الثقافي الرئيسي، في نبنية المجتمع الأمريكي المتحول.

يقول الكاتب جيفري كمب، مدير البرامج الاستراتيجية بمركز «ناشونال انترست»: “غير أن إحدى عواقب الانقسام المثير للقلق، هي الجهود التي يبذلها المتطرفون في كل من تياري اليسار واليمين من أجل قمع نقاش مفتوح للمواضيع المثيرة للجدل في الجامعات والمدارس. فقد مُنع أساتذة محافظون من إلقاء محاضرات حول العرق والنوع والأحداث التاريخية في الجامعات أو طُردوا منها، وذلك بدعوى أنها قد تثير «انزعاج» بعض الطلبة بسبب مما يسمعونه. أما «ثقافة إلغاء» اليسار، فقد عكسها نجاح المحافظين المتزايد في فرض قوانين تحظر مجموعة كاملة من الكتب في المدارس تتناول مواضيع مزعجة من قبيل تاريخ العلاقات بين الأعراق في الولايات المتحدة، والفصل بين الكنيسة والدولة المنصوص عليه في الدستور الأميركي”.

وهناك اتجاه آخر، يتساوق مع منظومة الأخلاق المتقاطعة في نسق التحفيز الاجتماعي، وبقالب سياسي محض، وهو ما رسمته فلسفات الاجتماع السياسي الذي يؤول حتميات الصراع إلى الحروب الثقافية والأخلاقية، بين الأنماط الدولياتية المتحاربة حضاريا ووجوديا، كالذي عناه الرئيس الأمريكي السابق بيل كلنتون، وهو يفترض عدم وجود أي مشكلة بين الغرب والإسلام ، “وإنما المشكلات موجودة فقط مع بعض المتطرفين الإسلاميين”. نافيا “أن يكون الاعتقاد مؤسسا على عدم فهم للغرب ونظرياته الثقافية والحضارية”. وهو بذلك يخالف تماما مواطنه صامويل هنتغتون الذي يقول إن “المشكلة المهمة بالنسبة للغرب ليست في الأصولية الإسلامية بل في الإسلام، فهو حضارة مختلفة، شعبها مقتنع بتفوق ثقافته… والمشكلة المهمة بالنسبة للإسلام ليست في المخابرات الأميركية ولا وزارة الدفاع، وإنما المشكلة هي الغرب ذاته: فالغرب حضارة مختلفة مقتنع شعبها بعالمية ثقافته.. وأن عليه التزاما بنشر هذه الثقافة في العالم”.

ولا حاجة هنا لاستحضار فكرة “صراع الحضارات” لصامويل هنتنغتون، التي أثارت جدلا فكريا وسياسيا، على مدى سنوات وعقود، ونتاجها الدراماتيكي، على مستوى التحليل الفلسفي والسوسيولوجي، على اعتبار عنصرية منظرها وكراهيته للأجانب، ودفاعه عن فكرة “أن الولايات المتحدة هي الأمة الوحيدة ذات الثقافة الأنجلوسكسونية والبروتستانتية”.

وعلى مرمى الأشكال الجديدة لنوع هذا الصراع الثقافي أو الحروب الثقافية، هناك اتجاه يخالف التصورات السالفة، ويضعها في زاوية تاريخانية صرفة، تشتت الانتباه نحو إعادة تدوير طفرات متداولة في قراءتنا للأشكال التاريخية (الدينية) لهذا الصراع، وهو الذي تبنته الأكاديمية البريطانية فرانسيس سوندرز، وخصوصا ما أشارت إليه في كتابها الجديد “من الذي دفع للزمَّار؟ الحرب الباردة الثقافية”، حيث تذهب إلى أنه بنهاية الحرب الباردة، خرجت الولايات المتحدة منتصرة على السُّوفيات، وهو ما مَكَّنَ مخابراتها من مراكمة خبرة جيدة في إدارة الملفات الثقافية التي تتصل بتغيير هويات الأمم ضمن سياق الشعارات الأميركية التي صدرت مع الدول الأخرى في فترة الحرب الباردة مثل: الأمن القومي الأميركي والعولمة والقطب الأوحد والعالم الجديد. وما إن تفكك الاتحاد السوفياتي، حتى كان على أميركا توظيف خبرة الحروب الثقافية تلك ضمن مهمة إخضاع بقية العالم -غير الأبيض- لهمينتها ذات التوجه الغربي الليبرالي.

المشكل أن أدوات الصراع الثقافي، أضحت تمارس تكتيكاتها، لترويج الصناعات المفاهيمية المتوترة، انطلاقا من مراكز أبحاث ودراسات استخباراتية، أو ممولة من طرف أجهزة عسكرية للبلدن الغربية. وهذه الحقيقة ليست جديدة على أية حال، إذ منذ مرحلة العداء مع الشيوعية انخرط عدد غير قليل من الدارسين في الغرب ضمن برامج دراسات الشرق الأوسط ودراسات المناطق لتصنيع هذه المفاهيم وترويجها وبائها أفقيا، ولا سيما بعد أن مُوِّلت في هذه الفترة هذه البرامج -والباحثين فيها- بمنح سخية للغاية مكنتهم من حفر مناهج معرفية، أكثر اتصالا بعالم الاجتماع والسياسية في العالم العربي والإسلامي، بعكس الاستشراق الكلاسيكي القديم.

ومن تمة ينبع التصريف الجديد للصراع إياه، كفارقة في علوم الاجتماع والسياسة، ذات محددات عولمية مترامية الأبعاد والعوالم، تعمل بشكل مستمر على تشكيل حدود جديدة للاستعمار المقنع، تلعب فيه التكنولوجيات العالية أدوارا خطيرة للغاية، حيث تقوم من جملة ما ترمي إليه، بتهجين الأمم الضعيفة واسترخاصها، وتدجين تاريخا وعمرانها، والاستحواذ على مدخراتها ومقدراته الثقافية والهوياتية، ومسخ آثارها في الإبداع وبناء الإنسان والاستقلال الذاتي، وإعادة هيكلة كل ذلك، وتحويله إلى تابع لقيط مستعبد، ميطع ومبصم على التخدير والاستهداف الاستراتيجي.

فهل نتحرر من قابليتنا لهذا النوع الجديد من الغدر الثقافي والإخماد الآسر لجذوة التحرر وعدم الانسياق نحو القابلية الاستعمارية الجديدة؟

ربما نعود مجددا لطرق باب المفكر مالك بن نبي، الذي يعتقد أن “الاستعمار لن تكون له القدرة على التصرف في طاقاتنا الاجتماعية والاقتصادية.. لو أننا تحررنا نفسيا من عُقَدِنا التي تجذبنا نحوه فيسخرنا لمصالحه، فالقضية على هذا الأساس هي أنه كي نتحرر من أثر هذا الاستعمار ينبغي أن نتحرر من سببه وهو القابلية للاستعمار ولكي ننزعه من الأرض يجب أن ننزعه عن الأذهان أو على الأقل أن ننزعه عن الأذهان بعد نزعه من الأرض”.

***

د. مصـطَـــفَى غَـــلْمَــان

حينما غضب التوحيدي وحرق كل كتبه، أدرك يقينا لا مكانة لفكره في عصره ولا أهمية لإبداعه المتنوع المشارب من علم الكلام إلى الفلسفة، الأدب والشعر، الفقه والذوق، النقد والحجج العقلي، نظرية الجمال والنظرة الثاقبة للحياة، حتى نعته العديد من أدباء عصره بفيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة، لكن ما قيمة هذا النعت؟  إذا عَده ابن الجوزي من الزنادقة الثلاث الكبار، ما قيمة هذا الوصف؟ إذا كان التوحيدي عبر بنفسه عن حاله قائلا: « لقد أمسيت غريب الحال، غريب اللفظ، غريب النحلة، غريب الخلق، مستأنساً بالوحشة، قانعاً بالوحدة، معتاداً للصمت، ملازماً للحيرة، محتملاً للأذى، يائساً من جميع من ترى، ونجم العيش إلى أفول، وظل التلبث إلى قلوص ».

مكانة الفكر نابعة من الفلسفة اللوغوسية والحكمة التأملية، ففيتاغورس اليوناني كان محبا للبشر، محبا للحكمة، وهذا الشيخ الطبيب الرئيس ابن سينا تغلب عليه الحكمة بدل الضلال ويتحكم فيه العقل بدل الهوى، والرازي أبو بكر يحاول بجهد صادق، وضع العقل موضع الحاكم الأول على الأشياء جميعاً، ويورجين هابرماس فيلسوف القرن العشرين، فلسفته متحررة من التسلط والهيمنة والبيروقراطية والرأسمالية ووضع قواعد للفكر تقوم على الحوار الحر واللغة بين الأفراد وهي أسرع وسيلة للتفاهم وأسرع وسيلة لتواصل. لكن جسر التواصل سرعان ما يَنقَضَّ في الجزائر، شأن جسر العلم والفكر وغربة المفكر والمتعلم في الوطن الذبيح سرعان ما ينطفئ نوره مثل المفكر لخضر شريط الذي أقام قنطرة العبور في بناء الحضارة وأسس متينة في تحديات المجتمع المغاربي،  فلست أتردد لحظة إذا قلت أن الكتابة ميكانيزم الحياة، مثل الغابة الجميلة، سُبلها عديدة وظلالها وفيرة توقظ الذات المحبة، هي نبض الكاتب في لحظات التجلي الإبداعية، لحظات إخراج فعل الكتابة على شكل نصوص وروايات، قصص ومسرحيات، أشعار ومقالات من دائرة الكتمان والتستر إلى دائرة البوح والتصريح ، فكتبت يا لخضر شريط وألفت درر نفيسة و جواهر منسية: أسس في البناء الحضاري، المجتمع المغاربي قواعد إعجاز وتحديات، في الثقافة والعامل الاستعماري، في بديهية الرد والبرهان بالتراجع، مدخل لخلفيات العلم في الحضارة الإسلامية، مدخل في الفكر الإسلامي وخلاص الوسطية، أفكار من النور، ومضات بن نبي على مشكلات معاصرة.

رفقاً يا قلم أتحدث عن الكتابة الفلسفية ومؤلفاتك الغنية في مجتمعنا؟

رفقاً يا يراع أتحدث عن زخم كتبك يا لخضر شريط في جزائر غيبت المثقف ونبراس العلم والمتعلم؟

هي الكتابة التي لا تغيب في سماء قبة الجزائر، تتحقق عن طريق امتلاك ناصية اللغة « هذه القوة السحرية التي تكمن في اللغة – و لتي تقوم كون اللغة تستبدل بالواقع ذاتها حين تحيل ما تسميه إلى شيء واقعي موجود- هي أيضاً أساس كل نميمة مثلما هي أساس كل إطراء.»1.

بالقوة السحرية سحرنا الفيلسوف المناضل والمجاهد الثوري الفذ عبد الله شريط الذي خاصم قلمه المفهوم في مؤلفه معركة المفاهيم لكنه رحل دون أن تذكره أقلام المثبطين، الناقمين والشامتين يقول عبد الله شريط: « نحن نميل بطبعنا إلى التعود على السلبيات أكثر من الإقبال على الإيجابيات. وعندما نريد أن نفكر ننصرف أولا إلى الانتقاد: إلى انتقاد غيرنا طبعا، وتحميله المسئولية فيما نعانيه، السلبية هي أن لا أفعل شيئا، وإن فعلته فهو تهديم ما بناه غيري. وكادت هذه العادة أن تصبح مرضا مزمنا مع مرور السنين والأجيال والقرون.» 2.

رحلت يا أستاذ لخضر في شهر ديسمبر من سنة 2023 في صمت دون أن يسلط عنك الإعلام و الصحافة الضوء ودون أن يذكرك الساسة ورجالات الدولة، رحلت في صمت كما رحل الفيلسوف التوحيدي إذ مشكلة غربة الفكر في هذا العصر وفي الصمت الشبح الذي يحوم على المفكرين ، الغربة التي أصبح كاتب "الإمتاع والمؤانسة" يصبح معها ويمسي، كسرت نفسه وحيرت عقله وانفطر لها قلبه في قيامه وقعوده طيلة يومه، عبر التوحيدي بنفسه عن حاله قائلا: « لقد أمسيت غريب الحال، غريب اللفظ، غريب النحلة، غريب الخلق، مستأنساً بالوحشة، قانعاً بالوحدة، معتاداً للصمت، ملازماً للحيرة، محتملاً للأذى، يائساً من جميع من ترى، ونجم العيش إلى أفول، وظل التلبث إلى قلوص.»

رحلت في صمت كما رحل الفيلسوف بن ساعي الضمير الصامت أمام الآلام الكبرى، ألم التهميش ومعاناة تحقير الفكر، فإذا كان  حظ القراء من الكتابة وقراءة النصوص في عصرنا ميسور، وحظ النخب الفكرية في الجزائر المحروسة من الاهتمام والتكريم يسير،  لكن لا يمنع ذلك  القلم بل يجب عليه أن  ينادي الإنسان المبدع ويدعوها للوجود رغم استقامة الرأي ومتعة القراءة « فهذا ما ليس يصنعه إلا الفكر، ذلك الجوهر الخالد الذي لا مكان له ولا زمان، والذي لا قرابة أقرب منه بين إنسان و إنسان.»3.

***

رحموني عبد الكريم باحث من الجزائر

...................

قائمة المراجع:

1.  ميخائيل نعيمة: الغربال، الطبعة الخامسة عشرة سنة 1991 ، مطبعة نوفل، بيروت- لبنان.

2.  عبد الله شريط: معركة المفاهيم، الطبعة الثانية سنة 1981 ، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر.

3.  نكولا غريمالدي: الرغبة والزمن، المطابع الجامعية الفرنسية، باريس سنة 1971 .

4. نكولا غريمالدي: الرغبة والزمن، ص: 426 .

5. عبد الله شريط: معركة المفاهيم، ص 19 .

6. ميخائيل نعيمة: الغربال ، ص 05 .

هوامش

1- نكولا غريمالدي: الرغبة والزمن، ص: 426 .

2- عبد الله شريط: معركة المفاهيم، ص 19 .

3- ميخائيل نعيمة: الغربال ، ص 05 .

مع تعدد معاني مفردة (الطغيان) فان افضلها ما جاء في كتاب (القهر الانساني في هندسة الطاغية) للأستاذ بدر خضر بأنه (مَن أسرف في المعاصي والقهر، واتَّخِذ من القوانين ما يُتِيح له ارتكابَ الفظائع). ولدى أفلاطون قول لطيف اذ يُشبِّه الطاغية بالذِّئب؛ "لأنَّه يذوق بلسانه دمَ أهله بقتلهم وتشريدهم".

وفي معجم "أوكسفورد" الإنكليزي، يُعرَّف الفساد بأنّه انحراف في أداء الوظائف العامة من خلال الرشوة والمُحاباة، فيما تُعرِّفه منظمة الشفافية الدولية بأنه كل عمل يتضمّن سوء استخدام المنصب العام لتحقيق مصلحة ذاتية لنفسه أو جماعته.

وفي القواميس يعني الطاغية من جاوز الحدَّ المقبول، واصطلاحا هو الحاكم المطلق غير المقيَّد بالقانون، أو هو من اغتصب السلطة العليا الشرعية، ويوصَف عادةً بأنه متوحش، ويدافع الطغاة عن مناصبهم بوسائل قمعية.

ويتفق المفكرون على ان الصفة الملازمة للطاغية هي (الظلم) ويعرفونه بانه استباحة حق شخص آخر، سواء كان حقًا ماديًا.. مال او ميراث.. او حقا معنويا كالاستهانة بتعب ومجهود شخص آخر والغاء اعتباره او اذلاله.

الطغاة في العالم

من بين مئات الحكّام الطغاة في العالم، يتفق الباحثون أن أطغاهم (19) حاكما، بينهم من هم غير معروفين مثل: فوداي سايبانا سنكوح.. حاكم سيراليوني وأقبح ما فعله أنه امر جنوده باغتصاب نساء وفتيات خصومه، وتشارلز تايلور حاكم ليبيريا الذي ادانته المحكمة الخاصة بسيراليون في أبريل 2012 بعد محاكمة استمرت خمس سنوات بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.. وسبعة آخرين.

أما الطغاة المعروفين، فأشهرهم هتلر- المانيا، ستالين وبريجنيف -الاتحاد السوفياتي، تيتو – يوغسلافيا، موسوليني- ايطاليا، سوهارتو – اندنوسيا، كيم ايل سونج – كوريا الشمالية، بول بوت كمبوديا، عيدي أمين – اوغندا.. .ونيكولاى تشاوشيسكو – الذي حكم رومانيا من سنة 1965 الى سنة 1989 وانتهى بقيام ثورة انهت حكمه واعدمته هو وزوجته ايلينا بالرصاص امام التليفزيون بعد محاكمة عسكرية استمرت ساعتين.

وعربيا، فان اشهر طاغيتين هما صدام حسين ومعمر القذافي الذي عاش طفولة بدوية فقيرة وكان يرعى الغنم والماعز والذي انتهى نهاية بائسة جدا تعرفونها، فيما كانت نهاية صدام حسين.. الأعدام شنقا.

مفارقة تاريخية

وفقا لمفهوم الطغيان الذي حددته القواميس والفلاسفة، فان الصفة الأبرز في الحاكم الطاغية (ممارسته الظلم)، وحددوا ابرز حالة في الظلم بأنه يستبيح (حق الآخر).

والمفارقة ان الدستور العراقي حدد النظام بأنه ديمقراطي وأهم مبدأ في الديمقراطية هو تحقيق العدالة الاجتماعية، وأن من حكمه بعد 2003 هم قادة احزاب إسلام سياسي والدين الإسلامي سبق الديمقراطية في دعوته لتحقيق العدالة الاجتماعية .. وما حصل أن هؤلاء القادة (الديمقراطيون الإسلاميون) استباحوا حق اكثر من ثلاثين مليون عراقي، وافقروا (13) مليونا باعتراف وزارة التخطيط مع ان العراق يعد اغنى بلد في المنطقة، وانهم ناقضوا جوهر الدين الإسلامي وفي القرآن الكريم أكثر من آية تدين الظلم والطاغوت، وقوله تعالى (وَلا تَحسَبَنَّ اللَّـهَ غافِلًا عَمّا يَعمَلُ الظّالِمونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُم لِيَومٍ تَشخَصُ فيهِ الأَبصارُ* مُهطِعينَ مُقنِعي رؤوسهم لا يَرتَدُّ إِلَيهِم طَرفُهُم وَأَفئِدَتُهُم هَواءٌ).

العراق الديمقراطي.. انموذج الظلم والفساد

منذ 2003 لم تعد في العراق حكومة مؤهلة لأدارة شؤون الناس، فمعظم وزراء الحكومات لا يمتلكون الخبرة ولا الشهادة ولا الكفاءة. وجرى تقسيم الوزارات حصصا!.. وصارت كل وزارة مؤسسة خاصة بكتلة سياسية يرأسها وزير منها يعمل بتعليمات كتلته اكثر من تعليمات مجلس الوزراء. وصار اسناد الوظائف العليا على اساس القرابة والعشيرة والطائفة وان كان بلا مؤهل.. وأضافوا متلازمة جديدة بنوعيتها ارتباط الطغيان بالفساد وضربوا فيه مثلا ما سبقهم اليه أحد في حجمه وغرابته نورد هنا أدلة ومؤشرات بحقائق وارقام عن أفسد وأفشل حكومات في تاريخ العراق السياسي:

* صرح كبير المفتشين الأمريكيين في العراق للإشراف على إعادة البناء، ستيوارت بوين، بأن حجم الفساد في الحكومة العراقية يبلغ أكثر من أربعة مليارات دولار، ووصف هذا الوضع بأنه أشبه بتمرد ثان يواجهه العراق.

* قال أعضاء بلجنة النزاهة النيابية، إن مستويات الفساد المالي والإداري العالية في العراق، سببها تدخل رئيس الوزراء نوري المالكي في عملهم، ومنعه إحالة أي وزير سابق أو حالي للتحقيق في قضايا الفساد إلا بعد موافقته.

* رئيسان إسلاميان متقاعدان، يوعظان الناس بالزهد وبتطبيق الشريعة ويقولان بأن الإسلام هو الحل، هما محمود المشهداني وأياد السامرائي يتقاضى الواحد منهما 57,000,000 مليون دينار!.

* منذ عام ٢٠٠٣ وحتى عام ٢٠١8 تسبب الفساد السياسي والمالي والاداري بسوء صرف أكثر من ترليون دولار أميركي، منها مدخولات جناها العراق قرابة ٨٠٠ مليار دولار.

* نعم، جميعنا فاسدون بمن فيهم أنا. لقد عرض عليّ أحدهم خمسة ملايين دولار لوقف التحقيق معه، أخذت المبلغ وظللنا مستمرين في مقاضاته. أغلب الأسماء الكبيرة في البلاد مسؤولة عن سرقة كل ثروة العراق تقريبا، أشخاص في قمة هرم السلطة، سيقتلونني إذا لاحقتهم./مشعان الجبوري لمراسل صحيفة الغارديان مارتن شولوف.

* مدير شركة التجهيزات الزراعية السابق (عصام جعفر عليوي) المحسوب على احدى القوى الإسلامية الشيعية المشاركة في الحكومة والبرلمان، اعترف للجنة النزاهة بأنه دفع مليار ونصف المليار دينار لنائب سابق لغرض تهريبه.

* "لديّ ملفات للفساد لو كشفتها لأنقلب عاليها سافلها." تصريح موثق لرئيس الوزراء السابق نوري المالكي، وفي تستره هذا خيانة للذمة يدينها الدين الإسلامي.

* حاول رئيس الوزراء حيدر العبادي وبتشجيع من المرجعية ضرب الفساد بيد من حديد وما فعل، ما اضطر المرجعية الى أن تعلن بأن(أصواتنا قد بحّت، ولم يستمع إلينا أحد).

* صرح رئيس الوزراء حيدر العبادي في البصرة بتاريخ (22 شباط 2018)، بأنه تم صرف سبعة ترليونات دينار على مشاريع لم ينجز منها شيئا.

* ووفقا لتقرير منظمة الشفافية الدولية (شباط 2018) فأنه تم سرقة مئة مليار دولار (الترليون يساوي واحد وامامه 12 صفرا، والمليار يساوي واحد وامامه تسعة اصفار).

توظيف الدين.. وسيلة الطاغية

من متابعتنا للعملية السياسية خلال اول ثلاث حكومات بعد التغيير (2006-2014) التي تولى ادارتها حزب (الدعوة الإسلامي) وجدنا ان قيادات أحزاب الإسلام السياسي (الشيعي والسّني) تخاطب الناس بأنها تهتدي بتعاليم الدين الإسلامي في السياسة، فيما اثبتوا خلال تلك السنوات بأنهم مارسوا الدجل(المبالغة في الكذب والتمويه).. لأن الإسلام يدين الفساد بكل أشكاله ومضامينه، وتنهى عنه آيات صريحة في القرآن، من بينها: "وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ- سورة القصص"، "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ- سورة البقرة". ولم يثبت احد منهم انه اهتدى بما جاء في القرآن الكريم من تحذير للحاكم الفاسد والظالم لرعيته، ففي سورة القلم قال تعالى:{سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ}، وفي سورة الشعراء:{وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}.

ولأن حكومات ما بعد التغيير كانت بهوية شيعية، وبين قادتها من يدّعون انهم احفاد الأمام علي وأخلص شيعته، فأنهم لم يقتدوا به في وصيته لمالك الأشتر (لا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم اكلهم). ولا تنبيهه له بان الذين جاءوا الى السلطة من داخل الشعب كانوا قبل ذلك يثيرون النقد ضد سيئات الحاكم السابق، فيدعوهم الى ان لا ينسوا مواقعهم النقدية السابقة فيصغوا الى النقد الآتي من القاعدة الشعبية.. وتلك اثمن نصيحة لم يأخذ بها من جاء بهم (الشعب) الى السلطة بعد التغيير. فضلا عن نصيحة اخرى بقوله(ثم اختر للحكم بين الناس افضل رعيتك)، فيما حكّام احزاب الإسلام السياسي اختاروا من يكون رهن طاعتهم واستبعدوا افضل الكفاءات وانضج الخبرات، وعملوا بالضد من نصيحته، وانصف الله وانصف الناس من نفسك ومن خاصة اهلك ومن لك فيه هوى من رعيتك).ونصيحة اخرى بقوله (الأصغاء للعامة من الناس) فيما المتظاهرون طالبوا بالاصلاح من شباط 2011 وهم عنهم ساهون. وقوله حين تولى الخلافة (جئتكم بثوبي وجلبابي هذا فأن خرجت بغيرهما فأنا خائن) فيما هم صاروا مليارديرية بوثيقم مركز بحوث فرنسي. ونصيحة اخطر بقوله (اياك والدماء وسفكها بغير حلها) فيما هم سفكوا الدماء وتعاملوا مع المتظاهرين كما لو أنهم قوم غزاة فقتلوا المئات واكثر من عشرين الفا بين معوق وجريح في اكتوبر/تشرين 2019 عدا المغدورين بكاتم الصوت لمفكرين تقدميين.

نهاية الطغاة والفاسدين

يحدثنا التاريخ بانه لا يمر عصرٌ من العصور الا وتكون نهاية الطغاة، مخزية ومهينة.

وما انفرد به حكّام الإسلام السياسي في العراق أن الشعب أخزاهم وهم في الحكم، واحرق مقرات أحزابهم، وفضحهم بأهازيج مخجلة (باسم الدين باكونه الحراميه، الله واكبر يا علي الأحزاب باكونه، الخير العدنه مكوم والأحزاب تفرهد بيه.. وصولا لأهزوجة أهل الناصرية: ما نريد قائد جعفري تاليها يطلع سر.. )

وكما لم يبق من الحكام الطغاة والفاسدين سوى الخزي والذكر الكريه ولعنات الشعوب فان قادة أحزاب الإسلام السياسي سيلقون نفس المصير.. وان كان أكثرهم يعتقدون أن لديهم من المال المنهوب والأتباع والمكر ما يجعلهم في الحكم يبقون الى يوم يبعثون!

***

أ.د. قاسم حسين صالح

التجربة الايرلندية

ايرلندا، جوهرة اوروبا الخضراء، حيث تتلاقى سحر الطبيعة مع عمق التاريخ. تشتهر هذه الجزيرة بجمال مناظرها الخلابة ولطافة وكرم اهلها، وبنظام تعليمي عريق يواكب متطلبات العصر. ففي هذا المجتمع الحيوي الذي يجمع بين الاصالة والحداثة، يعتبر التعليم ركيزة اساسية لبناء مستقبل مشرق. ففي ايرلندا، حيث تحتفي الثقافة بالتراث الغني وتشجع الابتكار، يجد الطلاب بيئة تعليمية محفزة تساهم في تطوير قدراتهم ومهاراتهم، ليكونوا قادة المستقبل.

خلال عملي كاستاذ للهندسة البيوكيميائية في جامعة دبلن، اتيحت لي الفرصة لدراسة النظام التعليمي الايرلندي عن قرب. واكتشفت اسباب تفوقه وقدرته على تخريج اجيال من الخريجين المؤهلين تاهيلا عاليا، القادرين على المنافسة في سوق العمل العالمية. واتضح لي سبب اقبال الجامعات والشركات العالمية على استقطابهم.

يتميز نظام التعليم في ايرلندا بجودته العالية ومرونته، ويشمل ذلك بشكل خاص المراحل الاساسية والثانوية. تتصف هذه المراحل بالعديد من الميزات التي تجعلها وجهة جاذبة للطلاب والاباء على حد سواء:

جودة عالية: 

يُصنف نظام التعليم في ايرلندا باستمرار ضمن افضل الانظمة التعليمية على مستوى العالم، ويعود ذلك بشكل رئيسي الى تركيزه القوي على الجودة والانجاز الاكاديمي. وفيما يلي تفصيل اكثر لهذا الجانب:

يتميز نظام التعليم الايرلندي بوجود معلمون مدربون جيدا ومكرسون لمهنتهم. يخضع هؤلاء المعلمون لبرامج تدريبية مكثفة تزودهم باحدث التقنيات البيداغوجية ومعرفة المواد الدراسية، مما يضمن جودة التعليم الذي يقدمونه للطلاب. علاوة على ذلك، يشجع النظام على التطوير المهني المستمر للمعلمين من خلال دورات وورش عمل، مما يجعلهم على اطلاع دائم باحدث التطورات في مجال التربية والتعليم. وتوفير بيئة عمل داعمة للمعلمين يساهم في تمكينهم من التركيز على دورهم الاساسي في التدريس والتعلم، مما يعزز من جودة العملية التعليمية باكملها.

كما يتميز النظام التعليمي الايرلندي بتركيزه الاكاديمي القوي. فالمناهج الدراسية مصممة بعناية لتكون صارمة ومحفزة، مما يشجع الطلاب على التفكير النقدي وحل المشكلات وتنمية شغفهم بالتعلم. بالاضافة الى ذلك، يضع المعلمون والمدارس توقعات عالية بجميع الطلاب، مما يدفعهم الى السعي للتميز والانجاز. كما تولي المناهج الايرلندية اهتماما كبيرا للمواد الاساسية مثل الرياضيات والعلوم واللغات، مما يضمن حصول الطلاب على اساس متين في هذه المجالات التي تعتبر حجر الزاوية للتعليم.

كما يوفر نظام التعليم الايرلندي لطلابه فرصا متنوعة للتطوير خارج اطار المناهج الدراسية. فالمدارس الايرلندية تقدم مجموعة واسعة من الانشطة اللاصفية التي تشمل الرياضة والموسيقى والدراما والفنون وغيرها، مما يتيح للطلاب استكشاف مواهبهم واهتماماتهم وتطوير مهارات جديدة. بالاضافة الى ذلك، تقدم العديد من المدارس برامج اثراء مخصصة للطلاب الموهوبين والمتميزين، مما يوفر لهم فرصا للتعلم المتقدم وحل المشكلات المعقدة. كما تشجع المدارس على المشاركة المجتمعية من خلال التعاون مع المنظمات المحلية، مما يمنح الطلاب فرصة للتطوع والمساهمة في مجتمعاتهم، وبالتالي تنمية روح المسؤولية والمواطنة لديهم.

مرونة عالية: 

يتميز نظام التعليم الايرلندي بدرجة عالية من المرونة التي تلبي احتياجات وتطلعات الطلاب المتنوعة. فالاهالي لديهم حرية اختيار المدرسة التي تناسب ابنهم، سواء كانت مدرسة حكومية مجانية تقدم تعليما عالي الجودة وفقا للمنهج الوطني، او مدرسة خاصة توفر برامج متخصصة وانشطة اضافية. كما يتضمن النظام انواعا مختلفة من المدارس، منها المدارس العامة التي تستقبل جميع الطلاب، والمدارس المتخصصة لذوي الاحتياجات الخاصة، والمدارس المهنية التي تهيئ الطلاب لسوق العمل. هذه المرونة تضمن حصول كل طالب على فرص تعليمية تناسب قدراته وميوله، مما يساهم في نجاحه المستقبلي.

التربية المبكرة:   

اولت ايرلندا اهتماما بالغا بالتربية المبكرة، معتبرة اياها حجر الاساس لبناء مستقبل اجيالها. فمن خلال توفير بيئات تعليمية محفزة قائمة على اللعب والتركيز على النمو الشامل للطفل، بما في ذلك الجانب الاجتماعي والعاطفي، الى جانب توفير خدمات رعاية عالية الجودة، تسعى ايرلندا الى تهيئة اطفالها بافضل السبل. هذا الاستثمار في التربية المبكرة يؤتي ثماره من خلال تعزيز مهارات الاطفال الاكاديمية والاجتماعية والعاطفية، ومساعدتهم على بناء اساس قوي لمستقبلهم التعليمي والمهني.

التعليم الشامل:  

يتبنى نظام التعليم الشامل في ايرلندا نهجا فرديا، حيث يتم التركيز على احتياجات وقدرات كل طالب. تسعى المدارس الى توفير بيئة تعليمية داعمة من خلال تعديلات معقولة مثل توفير تكنولوجيا مساعدة وتعديل المناهج وتدريس مجموعات صغيرة. كما تشجع المدارس على انشاء فصول دراسية شاملة تجمع بين الطلاب من مختلف المستويات، مع تدريب المعلمين على استخدام استراتيجيات تعليمية متنوعة. ولتلبية احتياجات الطلاب منذ الصغر، تتوفر خدمات التدخل المبكر، بينما يقدم متخصصون مدربون خدمات تعليمية متخصصة للطلاب الذين يحتاجون الى دعم اضافي بما في ذلك ذوي الاعاقات. تعمل المدارس بشكل وثيق مع اولياء الامور والمهنيين الاخرين لتطوير خطط تعليمية فردية لكل طالب، مما يضمن حصول الجميع على فرص متساوية للتعلم والنمو.فوائد التعليم الشامل

اولويات الصحة النفسية للطلاب:  

يعطي نظام التعليم الايرلندي الاولوية للصحة النفسية للطلاب، معتبرا اياها اساسا لتحقيق النجاح الاكاديمي. وقد تبنت المدارس مجموعة متنوعة من المبادرات لتعزيز الصحة النفسية والتنمية العاطفية الايجابية لدى الطلاب، بما في ذلك برامج التامل الذهني التي تعلم الطلاب تقنيات ادارة التوتر والقلق، وخدمات الاستشارات التي توفر الدعم والتوجيه، ونظام المدرسة الشامل الذي يعزز السلوك الايجابي ويخلق بيئة امنة وداعمة. كما تشجع المدارس على تعلم المهارات الاجتماعية والعاطفية، وتشجيع النشاط البدني وعادات الاكل الصحية، وتعزيز التعاون مع الاباء لضمان رفاهية الطلاب.

يعترف نظام التعليم الايرلندي باهمية دور الاباء في تعليم اطفالهم ويشجع على بناء شراكة قوية بين المنزل والمدرسة. يتم تحقيق ذلك من خلال العديد من المبادرات، بما في ذلك جمعيات الاباء والمعلمين النشطة التي توفر منصة للتواصل بين الاباء والمعلمين والمشاركة في الانشطة المدرسية. كما توفر المدارس اجتماعات منتظمة للاباء والمعلمين لمناقشة تقدم الطلاب، وورش عمل واحاطات حول تنمية الطفل والابوة. بالاضافة الى ذلك، تشجع المدارس التطوع من قبل الاباء للمساعدة في مختلف الانشطة المدرسية. وتستخدم العديد من المدارس منصات التواصل عبر الانترنت لتسهيل التواصل بين المدرسة والمنزل ومشاركة المعلومات.

التركيز على القراءة والكتابة والرياضيات: 

يولي نظام التعليم الايرلندي اهمية كبيرة لتطوير مهارات القراءة والكتابة والرياضيات لدى الطلاب منذ سن مبكرة، ايمانا منه بان هذه المهارات الاساسية هي حجر الزاوية للنجاح في كافة مراحل الحياة. ولتحقيق هذا الهدف، يعتمد النظام على التدخل المبكر لتعزيز المهارات اللغوية والرياضية الاساسية، ويستخدم نهجا صوتيا في تعليم القراءة يركز على ربط الاصوات بالحروف. كما يتبع نهجا متوازنا في القراءة يشمل القراءة والكتابة والتحدث والاستماع، ويعتمد في تعليم الرياضيات على حل المشكلات الواقعية. بالاضافة الى ذلك، يدمج المنهج الايرلندي المهارات الرقمية لتمكين الطلاب من استخدام التكنولوجيا الحديثة. ولتحقيق اقصى استفادة من هذه الجهود، يعتمد النظام على التقييم والملاحظات المستمرة لتتبع تقدم الطلاب وتقديم الدعم اللازم لهم..

تعد مهارات القراءة والكتابة والرياضيات من اهم المهارات الاساسية التي يجب على الفرد اكتسابها، فهي تمثل مفتاح النجاح الاكاديمي والمهني. فمن خلال اتقان هذه المهارات، يصبح الطالب قادرا على تحقيق نتائج افضل في دراسته، كما تزيد فرص حصوله على وظيفة مناسبة في المستقبل. علاوة على ذلك، فان هذه المهارات تمكن الفرد من مواصلة التعلم والتطوير الذاتي طوال حياته، وتعزز قدراته على التفكير النقدي وحل المشكلات، مما يجعله فردا منتجا ومساهما في مجتمعه.من خلال اعطاء الاولوية للقراءة والكتابة والحساب، يزود نظام التعليم الايرلندي الطلاب بالادوات التي يحتاجونها للنجاح في القرن الحادي والعشرين.

منظور عالمي: 

يعمل نظام التعليم الايرلندي على غرس قيم المواطنة العالمية في نفوس طلابه، وذلك من خلال دمج موضوعات وقضايا عالمية في المناهج الدراسية وتشجيع تعلم اللغات الاجنبية وبرامج التبادل الثقافي. يركز هذا النظام على تطوير معرفة الطلاب ومهاراتهم وقيمهم لتمكينهم من فهم العالم من حولهم والتفاعل معه بفعالية. كما يشجع الطلاب على المشاركة المجتمعية والتطوعية، ويستخدم التكنولوجيا الرقمية كاداة للاتصال والتواصل مع الاخرين حول العالم. وبهذه الطريقة، يعد نظام التعليم الايرلندي جيلا من الشباب قادر على التفكير النقدي وحل المشكلات المعقدة والمساهمة في بناء عالم اكثر عدالة وسلاما. فوائد المنظور العالمي

يساعد المنظور العالمي الطلاب على تطوير مهارات التفكير النقدي وحل المشكلات من خلال تعزيز قدرتهم على تحليل المعلومات وتقييمها من زوايا متعددة. كما يمكّنهم من ان يصبحوا مواطنين عالميين واعين بالقضايا المحلية والعالمية، مما يشجعهم على المشاركة الفعالة في مجتمعاتهم. بالاضافة الى ذلك، يساهم المنظور العالمي في بناء الكفاءة الثقافية لدى الطلاب، وهي مهارة اساسية للتعامل بنجاح في عالم متعدد الثقافات. وبشكل عام، يعد المنظور العالمي استثمارا في مستقبل الطلاب، حيث يهيئهم لسوق عمل عالمي يتطلب مهارات التواصل والتعاون والتكيف مع التغيير.

فرص للطلاب الموهوبين والمتميزين: 

يعمل نظام التعليم الايرلندي على رعاية الطلاب الموهوبين والمتميزين من خلال مجموعة متنوعة من البرامج والمبادرات. يبدا ذلك بتحديد هؤلاء الطلاب في سن مبكرة باستخدام ادوات تقييم متخصصة، ثم يتم توفير برامج تعليمية مخصصة تلبي احتياجاتهم الفردية، سواء من خلال تكييف المناهج الدراسية الحالية او تقديم برامج اثراء اضافية. كما يتم توفير الدعم والتوجيه اللازمين لهؤلاء الطلاب، بما في ذلك امكانية التعلم المتسارع او الالتحاق بمدارس خاصة متخصصة. وبهذه الطريقة، يسعى النظام التعليمي في ايرلندا الى ضمان حصول كل طالب على الفرصة لتحقيق كامل امكاناته. فوائد دعم الطلاب الموهوبين والمتميزين

الدعم الانتقالي، دعم مسارات تعليم الطلاب: 

يولي نظام التعليم الايرلندي اهتماما كبيرا بدعم الطلاب اثناء انتقالهم من مرحلة تعليمية الى اخرى، وذلك لضمان تجربة انتقال سلسة وممتعة. تبدا هذه الجهود مبكرا، حيث تستعد المدارس الابتدائية طلابها للانتقال الى المرحلة الثانوية من خلال توفير معلومات كافية حول المرحلة الجديدة. كما تنظم المدارس الثانوية اياما مفتوحة وجلسات اعلامية لتقديم فرصة للطلاب واولياء امورهم للتعرف على البيئة المدرسية الجديدة. بالاضافة الى ذلك، تقدم العديد من المدارس برامج انتقالية مصممة خصيصا لمساعدة الطلاب على التاقلم مع بيئتهم الدراسية الجديدة، وتوفر الدعم الفردي للطلاب الذين يحتاجون الى مساعدة اضافية. وتعزيزا لهذه الجهود، تعمل المدارس الابتدائية والثانوية معا بشكل وثيق لتبادل المعلومات حول الطلاب وتسهيل عملية الانتقال.

يؤدي الدعم الانتقالي الفعال الى تحقيق العديد من الفوائد للطلاب، فهو يساهم في تقليل القلق والتوتر المصاحب للانتقال الى بيئة مدرسية جديدة، مما يخلق شعورا بالامان والاستقرار. بالاضافة الى ذلك، يعزز الدعم الانتقالي من ثقة الطلاب بانفسهم، حيث يوفر لهم الفرص للنجاح والتاقلم بشكل سلس. كما يساهم في تحسين الاداء الاكاديمي للطلاب من خلال الحفاظ على استمرارية التعلم وتوفير الدعم اللازم لتحقيق اقصى استفادة من المرحلة التعليمية الجديدة. واخيرا، يساهم الدعم الانتقالي في بناء علاقات اجتماعية ايجابية بين الطلاب واقرانهم ومعلميهم، مما يوفر بيئة تعليمية داعمة ومشجعة.

الخلاصة:  

يتميز نظام التعليم الايرلندي بجودة عالية تتمثل في كفاءة المعلمين وتعاونهم مع الاسر، حيث يسعى المعلمون المؤهلون الى تقديم افضل تعليم ممكن للطلاب، بينما تشجع المدارس التعاون مع الاسر لضمان نجاح الطلاب. بالاضافة الى ذلك، تولي المدارس اهتماما كبيرا بالصحة النفسية للطلاب، وتوفر بيئة تعليمية امنة ومحفزة تساهم في نمو الطلاب وتطورهم الشامل. كما يتميز نظام التعليم الايرلندي بنتائج اكاديمية متميزة للطلاب على الصعيد الدولي. هذه الجودة العالية جعلت للنظام التعليمي الايرلندي سمعة عالمية طيبة تجذب الطلاب من مختلف انحاء العالم. وحرصا على الحفاظ على هذا المستوى المتميز، يسعى النظام التعليمي الايرلندي باستمرار الى التطوير والتحسين لمواكبة التغيرات المتسارعة في العالم.

اخيرا، يمثل النظام التعليمي في ايرلندا نموذجا رائدا للتعليم الحديث، حيث يركز على تطوير مهارات التفكير النقدي والابداع لدى الطلاب، مما يهيئهم لمواجهة تحديات المستقبل والتكيف مع متطلبات سوق العمل المتغيرة. هذا النهج الشامل، الذي يجمع بين المعرفة النظرية والتطبيقية، يضمن حصول الطلاب على تعليم عالي الجودة ومرن، مما يمهد لهم الطريق نحو تحقيق النجاح في حياتهم الاكاديمية والمهنية.

***

محمد الربيعي

بروفسور ومستشار مهتم بالتربية والتعليم. جامعة دبلن

تمهيد: العدالة الانتقالية هي مجمل الآليات والعمليات القضائية وغير القضائية لمرحلة ما بعد الصراع، سواءً الانتقال من حكم ديكتاتوري إلى حكم يتوجّه نحو الديمقراطية أو إثر انهيار سلطة القانون أو بعد حروب ونزاعات أهلية أو عقب الاحتلال، بما يوفّر أرضية للانتقال الديمقراطي وتحقيق المصالحة الوطنية.

والهدف هو معالجة ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في مسلسل تسوية بعد مراحل القمع السياسي، سواء من طرف النظام السياسي، مثل جرائم الاغتيال السياسي والتعذيب والاختفاء القسري والاعتقال التعسفي وغيرها. وتشمل كذلك فترات النزاعات الأهلية التي عرفت جرائم ضدّ الإنسانية بحق المدنيين أو الرهائن ومصادرة الممتلكات أو إتلافها بصورة منهجية غير مبررة بضرورات الحرب.

الهدف من العدالة الانتقالية كذلك كشف الحقيقة وتحديد المساءلة لأجهزة الدولة التي عليها تقديم الاعتذار العلني عن دورها في عمليات الانتهاك الجسيمة دون إثارة المسؤوليات الفردية تمهيدًا لإنجاز المصالحة عبر محطات أساسية، منها جبر الضرر المادي والمعنوي، وتعويض الضحايا وإصلاح الأنظمة القانونية والقضائية وأجهزة إنفاذ القانون لكي لا يتكرر ما حصل، وكذلك حفظ الذاكرة الجماعية وتأهيل الضحايا نفسيًا واجتماعيًا لطي صفحة الماضي.

ويرتبط تقدّم عمليات وآليات العدالة الانتقالية بالتدرّج الزمني، ولاسيّما بعد تحديد المسؤوليات للتخلّص من كوابيس الماضي، والقيام بآليات الصفح في الحاضر، فضلًا عن المستقبل، بتقديم ضمانات بعدم العودة لانتهاكات الماضي عبر قطيعة معه من خلال إصلاحات مؤسسية تشريعية وسياسية.

اختصاصان رئيسان

وتتأسس العدالة الانتقالية على اختصاصين رئيسين هما:

الاختصاص النوعي – ويشمل الانتهاكات الجسيمة التي يتم التصدّي لها؛

والاختصاص الزمني – وهو موضوع ولايتها بخصوص المرحلة المحدّدة بما حصل في الماضي الأليم. وتباشر عملها واختصاصاتها ضمن الأوصاف التي تندرج في القوانين الخاصة بلجان الحقيقة، لاسيّما في إطار حوار عام في الفضاء العمومي المجتمعي السياسي والمدني والديني، حتى يُصار إلى تتويج الاختصاصين النوعي والزمني بخلاصات وتوصيات تتضمّن النتائج التي تمّ التوصّل إليها.

تلك باختصار جوهر فقه العدالة الانتقالية وفلسفتها التي جرى تطبيقها في نحو 40 بلدًا وفي بيئات مختلفة، ابتداءً من بعد الحرب العالمية الثانية بخصوص المرتكبين الألمان النازيين، مرورًا بتجارب الدول الاشتراكية السابقة، التي شهدت تطبيقات متنوّعة تراوحت بين فقه التواصل وفقه القطيعة، وصولًا إلى تجارب دول أمريكا اللاتينية، ولاسيّما الأرجنتين وتشيلي وبعض دول أفريقيا وآسيا، وبضمنها تجربتي جنوب أفريقيا وتجربة المملكة المغربية، وجميعها عكست مراحل الانتقال من النزاع المسلّح إلى السلم المدني ومن نظام القمع إلى التوجّه الديمقراطي، حيث تتنوّع التجارب وتكتسب خصائص محلية مع المشتركات ذات البُعد الكوني.

المفهوم لم يتوطّن عربيًا

ويُعتبر مفهوم العدالة الانتقالية من المفاهيم الجديدة بالنسبة للغالبية الساحقة من البلدان العربية، ناهيك عن أن ثقافة العدالة الانتقالية لم تكن معروفة في عالمنا العربي حتى لدى الجهات العاملة في ميدان حقوق الإنسان، إلى أواخر الثمانينيات، إلّا أن الحديث عنها اتّسع بعد انهيار الأنظمة الشمولية في أوروبا الشرقية، ولاسيّما بعد تشكيل لجان الحقيقة والمصالحة في الأرجنتين 1983 وتشيلي 1990 وجنوب أفريقيا 1995 والمغرب 2004، وجرى الحديث عن تجارب ناقصة ومبتورة وقاصرة في العالم العربي، بعد موجة ما سمّي بالربيع العربي (2011)، وتبقى العدالة الانتقالية مؤقتة وظرفية ومرهونة بالظروف غير الطبيعية التي عاشها البلد، كما أنها ليست بديلًا عن العدالة القضائية الطبيعية، وإن تضمّنت تدابير قضائية، إلّا أن ثمة تدابير وإجراءات أخرى مكمّلة ومتممة ذات أبعاد سياسية واجتماعية ودينية، هدفها جميعها هو الوصول إلى معالجة الصراع، والتوصّل إلى العدالة المطلوبة لإنصاف الضحايا.

وبهذا المعنى فهي عدالة ذات طابع خصوصي ترتبط بفترات الانتقال الديمقراطي، ولذلك تختلف عن العدالة التقليدية، التي لا بدّ من تكييفها لتشمل الوضع الذي يلائم مجتمعات ما بعد الصراع وينسجم مع التوجّه للانتقال إلى الديمقراطية.

وإذا كان المفهوم الأول قد ورد في محاكمات نورمبرغ لمحاكمة مجرمي الحرب النازيين في ألمانيا، فإن هذا المفهوم اتّسع وتوطّد عبر سلسلة تجارب، ساهمت برامج العدالة الانتقالية فيها باعتماد آليات جديدة. وإذا كانت المرحلة الأولى تقوم على التجريم، لاسيّما عبر ميكانزمات تتعلّق بوضع اتفاقية منع الإبادة الجماعية وإرساء سوابق لم يعد من الممكن تجاوزها، فإن المرحلة الثانية شملت كتلة الدول الاشتراكية التي تجاوزت المحاكم إلى آليات مثل لجان الحقيقة والتعويضات والحوار الوطني.

ويمكن القول أن المرحلة الثالثة تمثّلت بإنشاء المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغوسلافيا السابقة (1993)، وإنشاء المحكمة الجنائية الدولية بروندا (1994)، وأخيرًا إنشاء المحكمة الجنائية الدولية بتوقيع نظام روما الأساسي (1998)، الذي دخل حيّز التنفيذ (2002).

وتنتمي دراسات العدالة الانتقالية معرفيًا وأكاديميًا إلى خريطة العلوم القانونية والسياسية، بما فيها حقل القانون الدولي لحقوق الإنسان، فضلًا عن علوم الاجتماع والأنثروبولوجيا والتاريخ والنفس والمجال الديني والإعلامي، وبالطبع فهي تستند إلى الفكر الليبرالي بشكل عام وميراث جون لوك وإيمانويل كانط وجون ستيوارت ميل، لاسيّما الدعوة إلى قيم الحريّة والمساواة والعدالة. ووفقًا للفكر القانوني، فإنها تسعى لتحقيق المعاقبة على ارتكاب الجرائم من جهة وإنصاف الضحايا وتأهيلهم من جهة ثانية، إضافة إلى ردع أية محاولة لإعادة الماضي، فضلًا عن العمل على إصلاح النظام الاجتماعي بصفة عامة، خصوصًا ببناء السلام.

صلة وصل: فلسفة ومنهجية للتفكير

العدالة الانتقالية تمثّل حلقة وصل بين مفهومين العدالة والانتقال، وحسب تعريفات الأمم المتحدة، فإن العدالة هي المثل العليا للمساءلة والإنصاف في حماية الحقوق ومنع التجاوزات والمعاقبة عليها، وهي تنطوي على احترام حقوق المتهمين كذلك، فضلًا عن مصالح الضحايا.

إن العدالة الانتقالية، فضلًا عن كونها فلسفة خاصة للعدالة في مجتمعات ما بعد النزاعات، فهي منهجية للتفكير والعمل على إرساء الآليات والإجراءات الملائمة الخاصة التي تخصّ كلّ مجتمع، ناهيك عن خصوصياته وهويّاته العامة والفرعية.

ولا شكّ أن بعض التحدّيات تواجه نظام العدالة الانتقالية، لاسيّما عند التطبيق، منها بعض التوترات والنزاعات الدينية والطائفية والعشائرية التي قد ترافق تطبيق نظام العدالة الانتقالية فترة ما بعد النزاع ومرحلة التحوّل المدني السياسي، وكذلك عدم كفاية الموارد البشرية والمادية، ناهيك عن فساد المؤسسات الرسمية ذاتها ممّا يشكّل تحديًا جديدًا، يُضاف إلى جوهر المشكلات القائمة، فضلًا عن البطء في تنفيذ الإجراءات المطلوبة وطول فترة التحقيق والتدقيق، وجمع المعلومات والأدلّة والإثباتات وسماع الشهود، الأمر الذي يُشعر الضحايا بعدم الجدية أو بالغبن أو اللّاجدوى، ويوسّع من هوّة الثقة بينهم وبين النظام الجديد وتوجّهاته، بل يولد لديهم الرغبة في أخذ الثأر والانتقام بأيديهم، خصوصًا في ظلّ شحّ ثقافة حقوق الإنسان.

التجربة المغربية

ولا بدّ في ختام هذه الدراسة التوقّف عند إحدى التجارب العربية الناجحة في ميدان العدالة الانتقالية، ونعني بها التجربة المغربية، وقد تسنّى لي شخصيًا متابعتها وملاحظة تطوّرها ميدانيًا من خلال علاقة مباشرة.

فلم تحصل في المغرب ثورةٌ أو انقلابٌ عسكريٌ، ولم تتحقّق التجربة بعد نزاع مسلّح أو حرب أهلية أو انتقال من نظام دكتاتوري إلى نظام ديمقراطي، أو بلد انتقل من الاستعمار إلى الاستقلال، بل إن التجربة تمّت في إطار النظام القائم بعد حراك شعبي ومدني طويل الأمد، وأنشطة حزبية وسياسية واسعة وإرادة ملكية واعية قرأت التحوّل العالمي في هذا الميدان، فأقدمت على خطوة شجاعة وجريئة ذات بُعد استراتيجي، فاختارت اللحظة المناسبة للتغيير، وطي ملف الماضي في مقاربة للمصالحة بين الدولة والضحايا بإقرار المسؤولية المباشرة لمجموعة الأجهزة التي تسبّبت بشكل أو بآخر بارتكاب جرائم الاختفاء القسري والاعتقال التعسّفي والتعذيب والقتل، يما يشكّل إدانة بحق مرتكبي جرائم حقوق الإنسان، بغضّ النظر عن مواقعهم في أجهزة الدولة.

لقد حذت التجربة المغربية حذو التجربتين الأسبانية والبرتغالية في معالجة الانتهاكات الجسيمة، لاسيّما بعد دكتاتورية فرانكو والجنرال سالزار، والتي تشكّل نموذجًا ناجحًا في التفاوض للانتقال الديمقراطي وتجاوز التاريخ الأليم، باختيار العدالة الانتقالية طريقًا بدلًا من العدالة الجنائية، في إطار سياسة تنموية سداها ولحمتها المواطن وفكرة المواطنة في إطار وعي جديد بأهمية احترام حقوق الإنسان، ونشر وتعميم ثقافتها لتحقيق التقدّم والإصلاح المنشود دستوريًا وقضائيًا وعبر أجهزة إنفاذ القانون لمنع تكرار التجارب المأسوية.

وقد تدرّجت التجربة المغربية من خلال الإرادة السياسة للدولة لمعالجة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، ففي العام 1999 تأسست هيئة التحكيم المستقلّة للتعويض عن الضرر المادي والمعنوي للضحايا، وفقًا لضوابط فنية خاصة لهم ولعوائلهم، وذلك كان بمثابة الاعتراف الرسمي الأول والصريح بارتكاب جرائم خلال ما عُرف في المغرب "سنوات الرصاص والجمر".

وكان من أهم المبادرات على هذا الصعيد هو تأسيس هيئة الإنصاف والمصالحة (2004) لتقويم فترة نصف قرن من الانتهاكات الجسيمة في فترة زمنية أمدها عام واحد، وتمديدها لاحقًا إلى 6 أشهر أخرى، وهكذا اعترفت الدولة مباشرة ورسميًا من خلال مرسوم ملكي بمسؤوليتها لما حصل في الماضي أمام الشعب وأمام العالم، وهو ما يُحسب لها كخطوة غير مسبوقة لتأكييد المصالحة وحفظ الذاكرة الجماعية.

وكان مثل هذا الاعتراف هو المفتاح وكلمة السر الذي ظلّ الضحايا، عوائلهم والرأي العام، يبحثون عنه، ولاسيّما لحظة المكاشفة والشفافية، وكان الصديق إدريس بن زكري، والمسجون سابقًا لنحو 17 عامًا، الذي أهديت إليه كتابي "الشعب يريد – تأملات فكرية في الربيع العربي"، على رأس الهيئات الفاعلة على هذا الصعيد، وبالطبع تحت قيادة الصديق عبد الرحمن اليوسفي زميلنا في اتحاد الحقوقيين العرب وفي المنظمة العربية لحقوق الإنسان، الذي أدار عملية الانتقال الديمقراطي بصفته الوزير الأول (رئيس الوزراء).

وكنت قد أجريت حوارات مطوّلة معه (منشورة في كتابي – سعد صالح: الوسطية والفرصة الضائعة)، وبجدارة كان وزير حقوق الإنسان الصديق محمد أوجار قد نفّذ برامج طويلة الأمد في إطار ليس العدالة الانتقالية فحسب، بل على صعيد الانضمام للمعاهدات والاتفاقيات الدولية.

وقد اقتربت الرؤية الحقوقية من الرؤية السياسية للفعاليات والأنشطة الحزبية والمدنية مع الإرادة الملكية في تقديم تجربة ناجحة، ظلّت تتطوّر وتتقدّم بتراكم طويل الأمد، وهو ما يمكن الاستفادة منه للدول والأنظمة التي تريد السير في طريق العدالة الانتقالية.

***

عبد الحسين شعبان - أكاديمي ومفكّر

الرواية الجزائرية غارقة في المحلية ولم تجد لها طريقا إلى العالمية

يري الدكتور قادة جليد أن الكاتب (أي كاتب) لابد أن ينتبه إلى ثلاثة أسئلة أساسية قبل المغامرة الإبداعية وهي: ماذا يكتب، ولمن يكتب، وماهي الطريقة التي يكتب بها؟ وتبقى الأجوبة على هذه الأسئلة مختلفة من كاتب لأخر باختلاف التجربة والانتماء الإيديولوجي والوضع الطبقي والاجتماعي ولكنها ضرورية في نظري حتى يكون الكاتب على وعي عندما يكون بصدد الكتابة، لأن الكاتب عندما ينتهي عن كتابة النص يصبح هذا النص ملكا للقارئ وهنا تكمن المشكلة، مقدما الروائي السوري حنا مينا كأنموذج دون أن يستثني بعض الروائيين الجزائريين أمثال مالك حداد والطاهر وطار ومولود فرعون وعبد الحميد بن هدوقة ومحمد ديب، فقد كان القارئ يري رواياتهم صورة الإنسان الجزائري المناضل.

والدكتور قادة جليد دكتور أستاذ محاضر في قسم الفلسفة بجامعة وهران وجامعة غليزان (متقاعد) وهو باحث أكاديمي، له عدة إصدارات منها العلية في التاريخ عند ابن خلدون وهيغل، دار القدس العربي 2013، سؤال العقل والتاريخ في الجزائر عن دار القدس العربي 2016، نظرية قراءة التراث عند محمد عابد الجابري (المنهج والرؤية) عن دار خيال طبعة 2022 وغيرها، له مشاركات عديدة في ملتقيات وطنية ودولية قدم فيها محاضرات منها فراءة في المرجعية الثقافية عند هشام شرابي وهي ندوة تناولت فكر هذا الرجل، نحو فلسفة جديدة للتاريخ العربي عند حسن حنفي، وهو عضو الجمعية الجزائري للدراسات الفلسفية، وعضو الجمعية الفلسفية المصرية، عضو مخبر الأبعاد القيمية للتحولات الفكرية والسياسية بالجزائر ومدير وحدة بحث تحليل الأزمات، وشغل منصب نائب رئيس المجلس الشعبي الوطني في عهدات سابقة.

فمن وجهة نظره هو فإن الكُتَّابَ لهم كل الحرية في اختيار المدرسة الأدبية التي يتبعونها سواء على الطريقة الرومانتكية أو الرمزية أو الاشتراكية الواقعية أو المدرسة الإسلامية وغيرها من المذاهب والمدارس، ولكن الشرط الأساسي في نجاح العمل الإبداعي هو قدرة الكاتب على تصوير الواقع بطريقته الخاصة، فيدفع القارئ إلي التفاعل والتجاوب معه، أي لابد علي الكاتب أن يعبر عن خبز الواقع وشحمه ولحمه ودمه وعن الظرف التاريخي الذي ينتمي إليه، الملاحظة التي قدمها الباحث الأكاديمي الدكتور قادة جليد  وهو يقدم الرواية الجزائرية كأنموذج، يعتقد أن الكثير من الكُتَّابِ يفسرون ظاهرة العزوف عن القراءة بأن الرواية الجديدة لازالت في وطننا العربي لم تنتج قارئا جديدا، ولكن الحقيقة هي أن القارئ عندما يتصفح الرواية يشعر أنها غريبة عنه لا تتحدث عن همومه ولا عن مشاكله ولا عن واقعه وأحيانا تستفز قيمه الدينية والحضارية، ويستدل الدكتور قادة جليد رؤيته للكتابة الروائية بحوار دار بين روائيين جزائريين يتهم بأن الرواية الجزائرية منكفئة على نفسها مستغرقة في تيمة الهوية وهي بالتالي من هذه الناحية غارقة في المحلية لم تجد لها طريقا إلى العالمية ولعله بذلك يشير إلى الجيل الأول من الرواد، ومن جهة أخرى يفتخر ويعتد بنفسه باعتباره كاتب عالمي لأنه يكتب عن الإنسان في هافانا والصين وأمريكا وكل دول العالم، لذلك فهو يعتقد انه قد تحرر من المحلية ودخل أبواب العالمية رغم أن رواياته ليس لها صدى في الجزائر إلا في بعض الدوائر الفرانكفونية الضيقة من باب التعاطف الإيديولوجي ليس إلا، وربما تبعه روائيون جزائريون آخرون مع تحفظه ذكر الأسماء.

يفهم من كلامه أن الروايات العربية باتت كلها متشابهة مهما اختلفت البيئة فالقراءة عمل فردي، ولكل فرد ميولاته، وبريد أن يبحث عن ذاته هو في الرواية لا عن ذات الأخر، حتي لو كانت القراءة جماعية، أي ان نطلب من مجموعة قراءة رواية ما، تظل القراءة فردية وكل قارئ يستخرج مما قرأه ما يشعر به هو، كما أن الأسئلة التي يطرحها كل قارئ عادة ما تكون مختلفة، فالكتابة هنا بين القارئ والكاتب وهي علاقة تبادل تختلف فيها وجهات النظر، لأن الرواية الموجهة للقراء العرب تختلف عن الكتابة الموجهة للقراء الغربيين، وحرية الكتابة والتعبير تفصل بين الجانبان، لأن الغرب يتمتع بأقصى حرية في الكتابة والتعبير عن واقع المجتمع الغربي لأنه يكسر كل الطابوهات عكس الكتابة الروائية العربية وبخاصة الرواية الجزائرية، لا ندري إن كان الدكتور قادة جليد يتحدث عن فلسفة الكتابة بصفة عامة، أم فلسفة الرواية ونقدها إن صح القول، لأن كتابة الرواية تختلف من روائي لأخر، فمنهم من يعتمد على الواقع ومنهم من يضفي عليها طابع الخيال، خاصة إن كانت الرواية تؤرخ لمجتمعات انقرضت ولم يبق منها سوى الأثر، كالرواية الدينية التي يكتبها البعض في قالب فلسفي، مثلما نقرأه عن ميلاد المسيح والأنبياء والرسل، وهذه الكتابات تترك القارئ اسيرا لها.

يقول الدكتور قادة جليد أن هؤلاء يتحدثون في رواياتهم عن شخوص وواقع وأفكار لا نجد لها أثرا في المجتمع الجزائري ومنهم من يتناول القضايا المقدسة للدين بنوع من الاستفزاز وإثارة ردود الأفعال من باب "خالف تعرف" لاستجداء عطف الغرب واحتضانه لهم ويصوّرون أنفسهم بأنهم أصحاب رأي وفكر جديد لتسلط عليهم الأضواء معتقدين بأنهم يقدمون صكوك الغفران والولاء ليتوجوا بالجوائز الأدبية ويحققون بالتالي الشهرة والعالمية، فالأدب في نظر قادة جليد هو مرآة الحياة، ولكن ليس الحياة في سكونها ورتابتها فالأدب ليس استنساخا للواقع كما هو ولكن الحياة وما تحمله من أمل وتدفق صادق للمشاعر والأحاسيس والانفعالات والتوقان الدائم نحو غد أفضل ومشرق بعيدا عن التقريرية أو التصوير الفوتوغرافي للواقع، إن الكاتب هو نتاج ظرفه التاريخي، فواقعه الاجتماعي يفرض عليه أسئلة يجيب عليها بطريقته الخاصة، فالقارئ -علي حد قوله هو- يجب أن يجد نفسه في الروايات التي يقرأها تعبر عن همومه وأحزانه وعن آماله وخيباته وتفكك عقده النفسية الدفينة التي لا يستطيع أن يعبر عنها آو يتحدث عنها وهكذا يكون التفاعل بين الكاتب والقارئ.

فتاريخ الأدب كما يضيف يشهد على ذلك فكل الكُتَّابُ العظماء وخاصة الذين نالوا جائزة نوبل كتبوا عن واقعهم وعن بيئتهم المحلية مثل تولستوي في الحرب والسلم ونجيب محفوظ في الثلاثية وغابريال غارسيا ماركيز في مائة عام من العزلة وغوركي في الأم ومن الروائيين العرب المتميزين الطيب صالح في موسم الهجرة إلى الشمال وايميل حبيبي في المتشائل وأخيرا وليس آخرا الروائي العربي السوري حنامينه الذي كتب رواية المصابيح الزرق والشراع والعاصفة وهي تصور الحياة الاجتماعية السورية في بعدها التراجيدي بعد الحرب العالمية الثانية، ثم كتب بعد ذلك الروايات الأخرى التي حققت نجاحا داخل الوطن العربي وخارجه مثل رواية المستنقع والشمس في يوم غائم وبقايا صور وغيرها، هذه الروايات حققت تفاعلا ونجاحا كبيرا في سوريا والوطن العربي وتقبلها القراء بحب وشغف لأنها تتكلم عنهم بطريقة أو بأخرى لم يجدوها غريبة عنهم لذلك احتضنوها ودافعوا عنها، بل وتقمصوا شخوصها بكل فخر واعتزاز، ولم يستثن الدكتور قادة جليد بعض الروائيين الجزائريين أمثال مالك حداد والطاهر وطار ومولود فرعون وعبد الحميد بن هدوقة ومحمد ديب، فقد كان القارئ يرى رواياتهم صورة الإنسان الجزائري المناضل، السؤال الذي يمكن طرحه على الدكتور قادة جليد هل الروائي بما يطرحه من أفكار هو فيلسوف؟ والعكس؟ فألبير كامو مثلا هو فيلسوف وروائي في نفس الوقت، وقد نال بفكره جائزة نوبل للآداب العام 1957، فروايته الغريب التي تحتوي على أفكار ومواقف أثارها في سيزيف، صَوَّرَ فيها انعدام الوحدة بين الإنسان وحياته كما يرسم صورة العبث واللامبالاة والصمت وما إلي ذلك.

***

علجية عيش

الحكم على الآخرين، هذه الممارسة المتغلغلة في نسيج الحياة البشرية، ليست مجرد سلوك اجتماعي عابر، بل ظاهرة تعكس أعماق النفس البشرية وتتناقض مع القيم العليا التي ينبغي أن تحكم العلاقات الإنسانية. لماذا نحكم؟ وما الذي يمنحنا الحق في ذلك؟ هل هو انعكاس لضعفنا الداخلي أم جزء من الصراع الأزلي بين الفرد والمجتمع؟

 يقول الفيلسوف الألماني إريك فروم: "كل إنسان هو شيء جديد تمامًا في هذا العالم، وليس عليه تكرار الماضي، بل عليه أن يجد شكله الخاص ويعبر عن شخصيته الفريدة"، يذكرنا فروم بأن كل إنسان يسلك طريقه الخاص في الحياة، محاولًا تحقيق ذاته ضمن ظروف وتجارب لا تتشابه أبدًا مع الآخرين. لكن المجتمع، بتوقعاته ومعاييره، يتخذ من الحكم أداة لفرض الوحدة والانسجام على حساب التنوع، مما يخلق وهمًا بأن لكل الأفراد نفس المصير.

هذه الفكرة تتجلى في أحداث رواية "قتل طائر الزقزوق"، حيث تظهر السيدة "دوبوا" كرمز للإنسانية المكافحة، رغم حكم الآخرين عليها، كانت تموت ببطء بسبب السرطان، ولتخفيف الألم كانت مدمنة على المورفين، كانت متعبة من تناول تلك الحبوب، وتريد الموت لتتخلص من الألم، بالمقابل كان "جيم" دائمًا يعتقد أنها امرأة سيئة، لكن في الواقع كانت تمر بالكثير وتخفي الكثير.

يقول "جون بول سارتر": "أنت تصبح ما يراه الآخرون فيك"، هذا التأمل العميق يبرز مشكلة الحكم من زاوية الوجودية، إن الشخص الذي يُحكم عليه بناءً على مظهره أو أخطائه الماضية يصبح سجينًا لصورة فرضها الآخرون عليه، فماذا لو كانت هذه الصورة ناقصة أو خاطئة؟ هنا يكمن التناقض؛ نحن نعلم أن الجميع يخطئ، لكننا نستمر في تقييم الآخرين كما لو كانوا مطالبين بالكمال.

الحكم على من ترتدي ملابس ضيقة، أو ذلك الذي يغطي جسده بالوشوم، هو حكم على قشرة خارجية، وليس على الجوهر. يكشف ذلك عن نزعة إنسانية للإفراط في تفسير الظاهر، متجاهلين حقيقة أدركها أفلاطون قبل قرون أن "الجمال يكمن في أعماق الروح".

الحكم ليس مجرد تصرف سطحي، بل قد يكون سلاحًا يقتل النفس ببطء، حيث إن ارتباط الحكم بالتنمر قد يؤدي إلى الانتحار، و يُظهر الجانب المظلم لهذه العادة. يتردد صدى هذا الألم في كلمات الكاتب الفرنسي "ألبير كامو" عندما قال: "الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يرفض أن يكون ما هو عليه"، يحاول الفرد أن يهرب من نفسه، خوفًا من أن تكون هذه النفس هدفًا للحكم.

في رواية "قتل طائر الزقزوق " نجد أن "بو رادلي"، الذي كان ضحية للأحكام المسبقة، يمثل الخير الخفي وراء الأبواب المغلقة، يظهر لنا أن الحقيقة غالبًا ما تكون أبعد مما يبدو على السطح. فكم من "بو رادلي" يعيش بيننا، محجوبًا خلف ستائر من الافتراضات الزائفة؟

الحكم على الآخرين، كما يراه الفيلسوف "رالف والدو إمرسون": "هو اعتراف ضمني بنقص فيك". عندما نحكم، نحن لا نصف الآخرين، بل نعبر عن مخاوفنا وعيوبنا الداخلية، يصبح الحكم وسيلة لإخفاء عيوبنا بالإشارة إلى أخطاء الآخرين، لكن الحقيقة هي أن هذا السلوك لا يزيدنا إلا بعدًا عن إدراك ذواتنا.

إذا نظرنا إلى الموقف من منظور ديني أو أخلاقي، نجد أن الله وحده هو الذي يملك الحق في الحكم، لأنه الوحيد الذي يرى القلوب ويعرف الحكايات كاملة. أما نحن، فمحدودية إدراكنا تجعل أحكامنا قاصرة وخاطئة.

لتجاوز هذه الظاهرة، علينا أن نتبنى فضيلة التعاطف، أن نفهم أن لكل إنسان قصة لم تروى، ومعاناة لم تُشاهد، إذا أردنا عالمًا أقل قسوة وأكثر تقبلًا، يجب أن نبدأ بأنفسنا.

الحكم على الآخرين ليس مجرد خطأ اجتماعي، بل هو افتقار للإنسانية. ليس فقط لأنه يضر الآخرين، ولكن لأنه يحد من قدرتنا على النمو والتعلم. "لا تحكم على خطوات شخص إذا لم ترتدِ حذاءه"، حكمة تعبر عن ضرورة أن نعيش التجربة لنفهمها، إن في ذلك دعوة لاستبدال الأحكام بالتفهم، والغضب بالرحمة، والنقد بالمحبة.

الحكم لا يحدد الآخر، بل يعبر عن حقيقة من نحن، لذا فلنحرر أنفسنا من الحكم، ولننظر إلى الناس بعيون رحمة، لعلنا نرى فيهم ما يغني أرواحنا.

***

الأستاذ محمد إبراهيم الزموري

يمتد الجدل طويلا في البحث عن الدوافع الحقيقية لكل مظاهر السلوك الانساني، والبحث عن حقيقة هذه الدوافع، وهل هي غريزية ام وراثية، ام لها اصول فكرية وعقيدية، او بيئية، واجتماعية. لاشك ان لكل هذه العوامل اثرها على تشكيل وصياغة السلوك الانساني، فالاخلاق خليط من كل تلكم العوامل، لكن لكل منها نسبتها في تشكيل المنظومة الاخلاقية والسلوكية للانسان، وقد اختلف علماء الاخلاق والنفس والاجتماع في تاصيل الظاهرة السلوكية للانسان، فقد قال الفيلسوف الالماني نيتشه ان الاخلاق ليست حقيقة موضوعية خالدة، بل هي نتاج ظروف ثقافية وتاريخية، ويذهب الى ان اخلاق الرحمة والصبر هي حيلة ابتكرها الضعفاء لكي يضحكوا بها على الاقوياء، ولكي ياخذوا منهم مكاسب ومنافع، ويذهب السفسطائيون اليونانيون الى نسبية الاخلاق وانها تتغير بتغير الزمان والمكان، وتختلف باختلاف الظروف والاحوال، في حين يبني سقراط نظريته بالاخلاق على العقل، كما انه جعل قواعد الاخلاق ثابتة غير متغيرة، وجعل مقياس الخير والشر لا يتوقف على مصالح الناس، كما انه صالح لكل زمان ومكان، كما ان ارسطو ربط مابين الفضيلة والسعادة التي تقوم على العقل والنفس، ويرى ان الفضيلة مَلكة، والممارسة شرط لنموها، وهنا نرى ان اليونانيون انقسموا الى صنفين تبعا لنظرية المعرفة، فالحسيون لا يخضعون لاي مانع لتحقيق غاية الانسان المتمثلة باللذة الحسية، ومنهم السوفسطائيون، ومنهم من يبني الاخلاق على العقل والعلم ومنهم سقراط وافلاطون وارسطو (فلسفة الاخلاق في الحضارة اليونانية)، ولو ذهبنا الى احد فلاسفة عصر التنوير، وهو الفيلسوف الالماني عمانوئيل كانط نرى ان الفعل، ويعني السلوك الخلقي يقوم بالاساس على احترام القانون، وهذا الاحترام ينشا من العقل نفسه تلقائيا، ويقصد كانط بالقانون هنا بالقانون الخلقي، فمثلا يقول ان الواجب الكامل (مثل واجب عدم الكذب) يظل صحيحا دائما (ويكبيديا)، يتضح من خلال ذلك ان هناك مدرستين رئيسيتين، وهي المدرسة الحسية (الغريزية) والتي يمثلها الفلاسفة السوفسطائيين، ومدرسة عقلية يمثلها ( سقراط، فلاطون، ارسطو) وصولا الى كانط، ولاشك ان لكل مدرسة اتباع ومُريدين، وطبعا هناك مدارس اخرى لايمكن اغفالها، ولكن بهذه المقالة المحدودة المساحة نكتفي بما عرضناه من اراء رئيسية.

الانسان في بداياته، كائن لم تكن له تجربة عملية ولا عقلية، وانما انسان يمارس فعالياته بدافع تلبية حاجاته الضرورية بشكل تلقائي وفطري، وهكذا ممارسة، هي استجابه طبيعية لنداء الغريزة، فيقول بوذا (ان الرغبة هي المهيمنة على الاشياء، وانها مصدر الحركة في الناس...) (الاراء والمعتقدات: ص34 :غوستاف لوبون)، والغريزة :هي عبارة عن ميل فطري يدفع الكائن الحي الى العمل في اتجاه معين، تحت ضغط حاجاته الحيوية. هذا التعريف يشمل كل الكائنات الحية، اما الانسان باعتباره كائن اكثر ارتقاء من باقي الاحياء، فهو يتاثر بالحالة النفسية والمزاجية، اضافة لقوة العقل، ويعمل الى اتخاذ سلوك معين كرد فعل، واجراء وقائي لتلافي ما يضايقه ويعكر مزاجه، ومثال ذلك مانراه من سلوكيات يقوم بها لاتقاء الظروف الجوية والبيئية الخطرة والقاسية، فيحاول اتقاءها والتخفيف منها، حفاظا على بقاء نوعه، كل هذه الافعال، المدفوعة بدافع الغريزة والمزاج، تشكل نمط سلوكه على ارض الواقع. هذا السلوك الذي يقوم به الانسان كوحدة مستقلة بذاته، يتطلب منه هذا النشاط من سلوكيات تامن له متطلبات بقاءه، واستمرار وجوده، ولكن الانسان يعيش مع الكثير من ابناء نوعه، وهذا يقود الى حالة من التزاحم على الاشياء التي تسد حاجة هذه الغرائز، وكلما كانت هذه الاشياء محدودة ونادرة الوجود كلما كان هناك تزاحم اشد بين بني الانسان عليها، وان عدم كفايتها يؤدي الى صراع عنيف، قد يؤدي الى الاقتتال من اجل نيل المراد من هذه المتطلبات، ولاشك كلما اشتدت درجة الحاجة كلما يكون الصراع اشد واعنف، الى ان يصل احيانا الى محاولة فناء الطرف المنافس. مع الزمن وزيادة وعي الانسان، ومعرفة ضرورة تلبية حاجاته ووعيه بان هذه الاشياء محدودة التواجد، انتبه الى حاجة جمعها، والسيطرة على مصادرها لتامين حاجته بشكل مستدام، هذا الامر ادى الى بروز مشاعر السيطرة والهيمنة على هذه المصادر، باعتبارها حاجة ملحة، بسبب ذلك ادى الى حالة من الصراع بين بني البشر، وعندها يكون الفوز باقتناء هذه الاشياء للاقوى، والاكثر شراسة، من هنا بدات الصراعات والخلافات، حتى ان اسباب الصراع تطور من ضرورة جمع الاشياء الضرورية والبسيطة التي لا تتعدى التنافس على الطعام والماء، الى اسباب ابعد من ذلك تتعلق بالرغبة بالسيطرة، وحب الجاه، والسلطة، وتنمية الثروة، والرغبة بالتحكم بالمقدرات، ليشبع الانسان شهوة الشعور بالسطوة والقدرة على الاخرين. الانسان في هذا الطور يحكمه قانون الغاب، الذي يكون فيه البقاء للاقوى، حيث ان ما يحدد سلوكه هو رغبته بالوصول الى اقصى درجات اللذة، والتي بتلبيتها تتحقق سعادته، بغض النظر من انه يمارس التعسف والظلم لبني نوعه من البشر، وما يمكن ان يلحق غيره من اذى، فهو سلوك يرفع شعار (انا ومن بعدي الطوفان). الامر الذي لم يتوقف عند الانسان الفرد، بل تطور الى تلبية مقتضيات الاسرة مقابل تنافس الاسر الاخرى التي تقطن نفس بيئته، وهكذا الامر تطور الى التنافس بين العشائر والاقوام، وبعد ذلك تطور الصراع بين الدول، والذي اخذ تطورات اوسع واعنف، بحكم تطور ادوات الحرب، ورغبته المتزايدة في الهيمنة والاستيلاء على ممتلكات الغير، ونحن في عصرنا هذا نشهد هذا النوع من الصراع، ودرجة توحشه، في حروب عالمية اولى وثانية، والان على اعتاب ثالثة، وما يجري من حروب اقليمية، ومنها الحرب الجارية الان في غزه وجنوب لبنان، انها حروب الرغبة بالسيطرة والهيمنة على مقدرات وثروات الشعوب من قِبل اخرى. هذا السلوك التصارعي التنافسي، هو سلوك كما قلنا قائم على تلبية نداء الغرائز، ويمكن تسميته بالسلوك الغرائزي، سلوك يتسم بالفوضى والعنف، والمنتج للدمار والموت، وللاسف مازال هذا النوع من السلوك يشتد يوما بعد يوم، وياخذ وتيرة متصاعدة، والى درجات خطيرة تهدد الانسانية بالفناء، وما تصريحات الرئيس الروسي بوتين جراء الحرب الروسية الاوكرانية الا مصداق لذلك، فالبشرية نتيجة هذا الصراع تقف على كف عفريت. والذي لم يحصل لها تطور ملحوظ في هكذا نوع من السلوك العنفي الغرائزي المتسم بالشدة والعنف، كما يحصل الان، ولكن مسيرة الانسانية لم تخلو من توجهات قام بها بني البشر من خلال حكماء وفلاسفة عبر التاريخ من تقديم نظريات وافكار تقول بضرورة اللجوء الى العقل كوسيلة لصياغة سلوك اخلاقي يقي الانسان شرور غلواء السلوك الغريزي، ابتداء من اقطاب الفلسفة الصينية كلاوتسو وكنفوشيوس، مرورا بالفلاسفة الاغريق من امثال سقراط وافلاطون وارسطو الى فلاسفة التنوير من امثال عمانؤيل كانط وسبينوزا الى يورغن هابرماس في العصر الحديث. لقد نادى هؤلاء الفلاسفة والحكماء بان يكون العقل المحايد هو مصدر القيم الاخلاقية التي على اساسها يبني الانسان سلوكه الخاص والعام، وعلى الانسان ان يغادر السلوك الخشن والعنيف، والذي لايليق بما وصل اليه الانسان من تطور علمي وتقني عالي، فاحرى بالانسان ان ياخذ بناصية العقل كدليل، ومعيار في تقيم الحق والباطل، والخير والشر، وان يبتعد عن مفاهيم السطوة والاستبداد والتوحش.

من المؤسف ان المشكلة الاكثر خطورة اليوم بدل من ان ياخذ العالم بما قدمه هؤلاء الفلاسفة من اراء وتوصيات علمية تجنب الانسانية الكثير من الماساة والويلات، اخذت بعض المدارس الفكرية طريقا غاية بالخطورة، الا وهو الباس السلوك الغرائزي لباسا فكريا، واظهاره باعتباره منجز حضاري، ينبغي اللجوء اليه باعتباره اخر ما توصل له الفكر الانساني، باعتباره النموذج الامثل، والاقدر على قيادة البشرية، وهذا ماعبر عنه الفيلسوف الامريكي فوكوياما عبر نظريته المسماة بنهاية التاريخ، وذلك عن طريق انتخاب النظام الامبريالي الامريكي كنموذج نهائي للبشرية، وهو نموذج قائم على الصراع والتنافس، وسيطرة الاقوى، وتهميش الاخر الاضعف، عبر جولة من الصراع اطلقوا عليه بصراع الحضارات، كما عبر عنه بكتابه (صراع الحضارات) الامريكي صامويل هنتجتون، حيث تتربع على عرش العالم الامبراطورية الامريكية. ان كل المفاهيم واللوائح التي هندسها العقل الانساني لم تلقى اي اهتمام في تجنيب الانسانية شر الحروب، ولم تفلح الى الارتقاء بالسلوك الفردي الى مستوى، ينتزع فيه الانسان دوافعه الشريرة، وسلوكياته الانانية ذات البعد العنفي، وعلى اساس هذه المعطيات، والمسيرة المؤلمة لحياة البشر، وما تضمر نفس الانسان من نوازع الشر، الى جانب نوازع الخير فيه، وهنا علينا التنويه الى ان نوازع الشر عند الانسان ليس نوازع شر خالصة، وانما هي دوافع تبرزنتيجة لعجز في تلبية حاجة غريزية، او هي نتاج الغلو والتطرف لتلبية الغرائز الكامنة في طبيعة الانسان، فالانسان في نظر القران الكريم يحمل امكانية الخير والشر معا (ونفس وما سواها، فالهما فجورها وتقواها، قد افلح من زكاها، وقد خاب من دسها..)(سورة الشمس)، وهنا ياتي ضرورة الدين في تقديمه لقيم الاخلاق كوسيلة لهندسة السلوك البشري، من خلاله، يُخلق عالم يسوده السلام والوئام، ويتخلله التعاون والتكافل بين بني البشر (وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الاثم والعدوان)(المائدة:2 ).

بعد ان سجل التاريخ اخفاق لدور الاحاسيس والمشاعر والعقل في اقامة العدل والسلام على هذه الارض، ننتقل الى مجال العقائد، ومدى مساهمتها، في تشكيل السلوك الاخلاقي للبشر، وتاثيرها بهندسة الاجتماع الانساني.

في البدا يمكننا تعريف العقيدة بمفهوما العام: بانها جملة من الامور التي تصدق بها النفوس وتطئن اليها القلوب، وتكون يقينا عند اصحابها لا يمازجها ريب ولا يخالطها شك. وهنا لا يمكننا ان نحصر عدد العقائد عبر التاريخ، فهي اكبر من ان تُعد وتُحصى، فهي يمكن ان تُصنف على اساس عقلاني، مقابل اسطوري، ومنها ما تُصنف على اساس سماوي مقابل ماهو وضعي، ومنها ما هو مادي مقابل ماهو ميتافيزيقي وهكذا، حيث اخذت هذه العقائد اتجاهات وتفسيرات مختلفة وبعضها متناقضة في شان تاصيل الاخلاق، فمنهم من اوعز الاخلاق الى انها مسالة متاصله بجوهر الانسان كما ذهب الى ذلك الفيلسوف الصيني لاوتسو، ومنهم من لايقر بذلك وانما يعتبرها حيلة الضعفاء لخداع الاقوياء كما يذهب الى ذلك الفيلسوف الالماني فردريك نيتشه، ولكن نحن هنا نركز على ما جاء به الاسلام من رؤية يمكن الاستعانة بها، اعتقادا لما تتصف به من تاصيل حقيقي وواقعي، من خلال ما تعرضه من تبيان لجوهر الاخلاق عند الانسان، وانها ذات بذور متاصلة في كينونة الانسان، وهو ما يُعرف بالبعد الانساني، ولا يستبعد وجود مكمن، او قابلية للشر، اعتمادا على الوجود البيولوجي لمجموعة من الغرائز التي تولد دافعا ملحا للاستجابة الفورية لاشباع هذه الغرائز التي لا تقبل التاجيل، وان اي صد لهذه الاستجابة تولد حالة من الصراع بين الانسان والاخر المنافس، المتصدي لحرمانه من اشباعها، بسبب ندرتها، كما ان غلو الانسان وتماديه بالاستجابه لها يدفعه الى نوع من السلوك الذي يصطدم بحقوق اخرين، واحيانا يرافقها درجة من التعدي والاستباحة لحقوقهم فيولد حالة من الصراع العنفي بينهم، لذا فان الاسلام بما عُرف عنه من واقعية يعترف بالغريزة وبضرورة الاستجابة لها، ولكن ضمن تقنين معين يحفظ بها كرامته، ويمنعه من الغلو والتمادي في تلبيتها، لما لها من تداعيات نفسية واجتماعية واخلاقية خطيرة، فالافكار والعقائد، يمكن ان تعزز الجانب الغريزي، وتؤدلج له، وتشجع عليه، ومثال ذلك استراتيجية الاسكندر الاكبر في حروبه المعروفة، والحروب التي قادتها الامبراطورية الرومانية قديما، وفي العصر الحديث ضربت لنا بريطانيا وفرنسا وامريكا مثالا واضحا لهذا اللون من العقائد التي تبرر السيطرة على شعوب وبلدان اخرى، من اجل الهيمنة على ثرواتها، واراضيها لما تمثله من موقع جيوسياسي مهم، في حين هناك عقائد تساهم باستباب الامن والسلام بالعالم، وتمنع حالة الاعتداء، وتساهم بنشر العدل، ومناصرة الشعوب المظلومة والمضطهدة، والعقيدة الاسلامية واحدة من هذه العقائد، ومن نصوصها التي تؤكد ذلك ما يلي:

يا ايها الذين امنوا ادخلوا في السلم كافة (البقرة:)208

يهدي به الله من اتبع سبل السلام (المائدة:16 )

والله يدعو الى دار السلام (يونس:25 )

وان جنحوا للسلم فاجنح لها (الانفال:61 )

كما ان العقيدة التي تكبح الاعتداء، هي عقيدة معززه للسلم، ومعززة للعدالة، والعقيدة الاسلامية ممن اكدت على هذا الجانب (ولا تعتدوا ان الله لا يحب المعتدين)(البقرة:190 )، ويكفي العقيدة الاسلامية رقي، وسمو، ما نجد بين نصوصها، مايفيض من مشاعر انسانية، تصور العلاقة بين البشر بصفة الاخوة، كما في مقولة تُنسب للامام علي (ع) يقول فيها( الناس صنفان اما اخ لك بالدين او نظير لك بالخلق)(نهج البلاغة:ج3:ص84 ). اذن العقائد منها ما يعزز الجانب الغريزي، وضربنا عليها مثال، وهناك من يعزز الجانب الايجابي في السلوك والممارسة الانسانية، ومنها عقيدة الاسلام، ولكن هناك خطورة ينبغي الانتباه اليها، الا وهي خطورة التحريف والتشوية التي تتعرض لها العقائد التي تعزز السلوك الايجابي والمسالم، وتحوله الى اتجاه عدواني، يمارس اقصى درجات التوحش، ومثال ذلك تيار داعش الارهابي، الذي يدعي الانتماء الى الاسلام، الذي مارس تفسير متعسف للنص الديني، واقلمه لاهدافه الشريرة، لخدمة اهداف سياسية، وضعتها مراكز قرار سياسية بغية تحقيق اهداف غاية بالخبث والعدوانية.

الخلاصة: ان الحواس والغرائز، والعقل عوامل ذات تاثير حاسم في سلوك الانسان، ويذكر الفيلسوف والاجتماعي الفرنسي غوستاف لوبون في كتابه الاراء والمعتقدات ص 102 بما للمشاعر من اهمية في صناعة السلوك والممارسة الانسانية، حيث يقول (فالمشاعر لا العقل هي التي تسير الامم وتقيمها وتقعدها...)، ويقول (العقل يفقد سلطانه عندما تكون المشاعر شديدة)( الاءاء والمعتقدات:ص109 )، وهنا يتضح والواقع يؤكد ان جل الماسي التي تعرضت لها الانسانية هي نتيجة لمواقف شديدة العاطفة، والحاح الغريزة وطغيانها، فبطغيان الغرائز، وثورة العواطف قصَّ رجال الثورة الفرنسية خلال ايام معدودة 17000 راس انسان (روح الثورات :177: غوستاف لوبون)، لذا يكون من الضروري ان تكون هناك زواجر لهذه العواطف والغرائز المنفلته، وليس هناك قوة رادعة للغرائز والعواطف المنفلته الا قوة الدين باعتباره معتقد، والمعتقدات كما يقول غوستاف لوبون في روح الثورات ص52 (للمعتقدات من السلطان الاكبر، فهي التي تقود التاريخ..)، لذا يكون من المهم والضروري اختيار المنظومة العقدية التي تحترم العقل، وتتحلى بالقيم الانسانية العالية، لانها هي القادرة وحدها على تغير روح الامة، وتغير طباعها، والزاجرة لهيجان غرائزها، وعنف عواطفها، عقائد تتسم بالرحمة، والروح الانسانية، وان تكون في وئام مع العقل السليم، فالعقيدة السليمة هي من تحرك الوجدان، وتجعل من الضمير ينبض بكل ما هو انساني، فاذا اوكلنا كل شيء للعقل، فلم تكن النتيجة الا ما لمسناه من حروب ودمار بادوات من صناعة العقل، وهنا يذكر غوستاف لوبون بهذا الصدد (فالمتعلمون والاساتذة والمحامون الذين ظُنَّ ان مانالوه من التهذيب المدرسي الان طباعهم، هم الذين اقترفوا اشد المظالم ايام الثورة الفرنسية، ولم يُلطف التعليم طباع الناشئة في الوقت الحاضر)(روح الثورات ص243 ).

***

أياد الزهيري - باحث

ومضات ثقافية (3)

نستهل المدخل بمستهل صموئيل كريمر "التاريخ يبدأ في سومر" وما ورد في ترجمة طه باقر لكتابه " من ألواح سومر " حيث اول شاعر وشاعرة واول مدرسة واول مؤرخ واول قانون واول دستور واول كتابة ووو واول برلمان، والاخير مكون من مجلسين، للاعيان والعامة، من الحكماء الشيوخ، والمحاربين الشباب، وكان ينعقد للتداول في شؤون الدولة والمخاطر المحدقة بها، وقتها لم تكن هناك احزاب، ولا ادلجة للافكار، ترادف الاديان، وتسعى لتقفيص الثقافة عامة والشعر خاصة باقفاصها، كانت رئة الشعر نقية من ملوثات التجنيد والتنابز الاقصائي، فقلوب الشعراء الشعراء تضيق باقفاص صدورها، لتنفلق حرة مغامرة، فكيف باقفاص الايديولوجيات ؟

الشعراء واقفاص الاحزاب في العراق

في العراق الذي صك بعد الحرب العالمية الاولى 1914 – 1918، بعد ان احتلته القوات البريطانية صعودا من البصرة الى بغداد، التي دخلتها جحافل الجنرال "ستانلي مود" قائد الحملة البريطانية على بلاد الرافدين، 1917، والذي خاطب البغداديين حينها، قائلا " اننا لم ندخل بلادكم اعداء فاتحين بل دخلناها محررين . . " وحتى استكمال الزحف على البقية الباقية من بلاد الرافدين، كان الترقب المشوب بالتبرم الحذر سيد الموقف والذي ما لبث ان انفجر بثورة العشرين، فلم يكن اهل العراق يوما من اتباع مذهب من "يتزوج امي اقول له عمي "، ومثلما كانوا اصحاب موقف من العثمانيين وإستبدادهم كانت وقفتهم ضد الانكليز اسرع واقوى واشمل !

 محمد سعيد الحبوبي، شاعر نجفي وثائر قاد مقاومة مسلحة ضد احتلال الانكليز للبصرة واستشهد 1915 متأثرا بجروح اصابته، وهذا محمد مهدي البصير احد شعراء ثورة العشرين يقول: ان ضاق يا وطني علي فضاكا – فالتسع بي للامام خطاكا، بك همت او بالموت دونك في الوغى - روحي فداك متى اكون فداكا !

بعد الثورة فصل الانكليز نظاما سياسيا بوجهين، حكام عراقيون، واجندة انكليزية حاكمة، وخير من عبرعن حالة الرياء هذه شاعرنا العظيم معروف الرصافي في قصيدته المشهورة " أنا بالحكومة والسياسة اعرف "، اما زميله جميل صدقي الزهاوي، وبتفلسف الحكمة الراقية يؤشر على العلة: يقولون ان الدهر يصلح فاسدا - فما حيلة الانسان ان فسد الدهر، لنا قدم في الحكم تعوزها الخطى – وحرية في القول يعوزها الجهر. وبنفس المقام كتب الملا عبود الكرخي: قيم الركاع من ديرة عفج

 اتشوفة هيبة وعنده لحية مسرحة - يشتم وبلا خجل وبلا مستحة

. . .

من يحس المقعد اشوية اندحج – قيم الركاع من ديرة عفج .

وعلى ذات الوتر يعزف الحاج زاير قائلا: دار الملوك أظلمت عكب الضيا بسروج

وتميت اكت الدمع اعله الوجن بسروج، والزين دنك على جف الزنيم اوباس

والشهم لو عاشر الانذال ما هوباس، من جلة الخيل شدوا على الجلاب سروج !

من الرومانسية الوطنية الى التقفيص الايديولوجي !

بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وانتصارات الاتحاد السوفيتي وقيام دول الكتلة الشرقية وانتشار صيت الفكر الاشتراكي والاممي، ازداد تعلق الاحزاب العراقية وخاصة السرية بهذه الموجة، لدرجة انه حتى سعد صالح جبر المحسوب على رجالات الانكليز في العراق كان قد اسس حزبا يحمل اسم الامة الاشتراكي، كانت وزارة الداخلية هي المسؤولة عن ترخيص الاحزاب بحسب قانون اقر منذ 1922 وكانت الانتقائية سيدة الموقف، فكلما كان الحزب نخبوي وبملامح غير انقلابية كان الترخيص واردا، ورخص حزب كامل الجادرجي ومحمد مهدي كبة، وجمعية مكافحة الصهيونية، التي اسسها الحزب الشيوعي 1946، وبقي الحزب الشيوعي محظورا، ومثله حزب البعث !

1956 قامت جبهة سرية بين خمسة احزاب " جبهة الاتحاد الوطني " مكونة من الحزب الوطني الديمقراطي، وحزب الاستقلال، والحزب الشيوعي، وحزب البعث، والحزب الديمقراطي الكردستاني، احزاب هذه الجبهة لعبت دورا خطيرا في تاريخ العراق السياسي وعلى مدى عقود مضت، ورغم اختفاء اغلبها اوتقزمه لكن ظلال التأثير مازال حاضرا !

بعد قيام الجمهورية 1958، اصبح الجيش فوق الميول والاتجاهات وبين اياديها! جيش العراق ولم ازل بك مؤمنا – وبأنك الامل المرجّى والمنى

عبد الكريم وفي العراق خصاصة - ليد وقد كنت الكريم المحسنا.

"الجواهري"

وطن، شعب، بعث - تشيده الجماجم والدم – تتهدم الدنيا ولا يتهدم، قيل ان هذا البيت لصالح مهدي عماش، واعني به بعث، لكني واثق من ان، شعب دعائمه الجماجم والدم – تتحطم الدنيا ولا يتحطم، هو للجواهري من قصيدة كردستان موطن الابطال!

يقول نيتشة:

"حذار وانت تحارب الوحوش ان تتحول الى وحش مثلهم تماما"

 بعد ان وقعت الفأس بالرأس، صار من النادر ان تجد شاعرا له صدى، وهو بعيد عن تأثير الاحزاب، وأن وجد فلا بد أن يكون سياسيا على طريقته، حتى شعراء التمرد، والصعلكة، والعبث، هم ايضا سياسيون، ولكن على طريقتهم الخاصة، وهنا لا تمييز بين شعراء الفصحى من عبد الامير الحصيري الى حسين مردان، وشعراء العامية، او الشعبية من امثال مظفر النواب وعريان وناظم السماوي وكاظم اسماعيل الكاطع، لا الشعبوية، التي غلب على نظمها، طابع الرواديد والقوالين، وحتى هؤلاء، لفحتهم سخونة السياسة، وسبح الكثر منهم في متونها، ولمع بينهم من اجاد الجمع بين القوالب الثابتة للترديد البكائي الموروث، والتورية في اسقاطاتها على الحالة السياسية القائمة، وطعم الطقس الزاخر بالتنوع البيئي والاجتماعي العراقي كل اجناس الفنون من غناء وايقاع وازياء ولهجات بطعمها وفي المقدمة منها الشعر بكل اصنافه، ففي الحواضر غير الحواف وغير الارياف وغير البادية وغير الاهوار وغير الميناء وغير العاصمة وغير سفوح الجبال والتلال وغير مدن النفط وغير مدن الحدود وغير مدن العتبات !

الحواضر: من بويب في البصرة ومن النجف وكركوك والموصل والسليمانية وو الى بغداد الى حيث الصقل، بغداد غربال لا يفوت المجرور والمكسور، يضم المرفوع ويهادن المسكون، بغداد تكاسر الحداثة بالاصالة، تقطر النفحات من محمود البريكان الى بلند الحيدري الى يوسف الصايغ وهاشم الطعان وفاضل العزاوي ورشدي العامل ولميعة عباس عمارة وحسب الشيخ جعفر وسرجون بولص الى جنة الوطن عند كريم العراقي .

شعراء تجاوزوا الاحزاب وشعراء بلعتهم الاحزاب !

احزاب - حزب تخوزق بمحض ارادته لا اكراه ولا بطيخ " مظفر النواب "

الجمود العقائدي يؤدي بصاحبه الى التعصب على حساب القيمة الشعرية والانسانية، والاحزاب تريد إعلام لا ثقافة حرة وبالتالي لا شعر خارج تراتيل صلواتها، تريد اناشيد بحمدها، والاحزاب عندنا مشاريع للسلطة الكلية، او سلطة لا تريد ان تنتزع عنها، وهنا للاعلام دور فيه للشاعر نصيب الاسد، واذا كان لكل قبيلة شاعر، صار في العراق لكل حزب كتيبة من الشعراء والمسوقين، علي الحلي شاعر البعث، صاحب شعلة البعث صباحي، انتفض لشاعريته فاستقال من الحزب واعتكف لانه فر بحلاوة الروح من حضرة الحزب الذي لم يعد غير وكر للاقارب والعقارب، وامام عينه كان مصير رفيق الدرب شفيق الكمالي كمصير عبد الخالق السامرائي وعزيز السيد جاسم، فلما البقاء ؟ ربما للتقية عذريشفع للزملاء، كمحمد جميل شلش وشاذل طاقة، واما عبد الرزاق عبد الواحد فظل يداهن بحب ونبل قرين بنبل يوسف الصايغ، حتى تملص وبقي وفيا لحالة كان يريدها هو ليس كفلاح عسكر وداود القيسي ضحايا الانتقام المعاكس، وليس تكسبيا، كعباس جيجان، ولامدعيا ولا ناقص شاعرية، انما هو مشمول بتبعية المثقف للسلطة، فنحن في عربة يقودها ملاك وشيطان !

بين حماسة الشيوعي والبعثي تشظت حماسة اجيال من الافذاذ عقولا وضمائرا وشعرا وتلثمت شاعرية الكبار منهم قبل الصغار!

الشيوعي الاخير كان متمردا مغردا خارج سرب المأدلجين والمغربين والتابعين، وكان بإعلانه المتوهج قبس للتغيير فهو الاحق بحمل راية الخير، هو وليس غيره من سيلاقي كلكامش اولا، انه سعدي يوسف، اما البعثي الاخير فهو كعلي الحلي او محمد جميل شلش بانتظار يوم البعث حيث نهاية مواسم الهجرة الى زمن الآخرة، اما زمن الطائفي الاخير فهو قادم لا محال، حيث يتطهر العراق من رجس التبعية، ليحل زمن الشاعر الانسان، الشاعر الثائر ابدا !

 كل الجلال لمن ظلمتهم ظلمة الاحزاب وفي المقدمة منهم الافذاذ: بدر شاكر السياب ومظفر النواب ويوسف الصايغ وعبد الرزاق عبد الواحد!       

***

جمال محمد تقي

بقلم: كريستين كفانكارا

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

عندما يُعَامِل الإخوة والأخوات بعضهم البعض كضحايا، فإن الأضرار قد تكون خطيرة. لكن لا يزال الوقت مبكرًا لشفاء الجروح القديمة

***

ينشأ معظمنا مع أخ أو أخت، وغالباً ما تبنى بيننا روابط قوية خلال تعلمنا كيفية التعايش معاً، مما يساهم في تطوير فهم اجتماعي من خلال كل حديث، صراع، وتسوية. الأشقاء يقدمون لنا الرفقة، والتضامن، وتجارب حياتية مشتركة تكون فريدة لكل عائلة. ورغم أن العلاقات بين الأشقاء قد تشوبها التحديات المرتبطة بالسعي لتحقيق الذات، والاختلافات، وتضارب الأهداف، إلا أن الأخوة يتحولون من منافسين في مرحلة الطفولة والمراهقة إلى حلفاء في مرحلة البلوغ. ورغم تعقيد هذه العلاقة أحياناً، إلا أن الكثير من الأشخاص يجدون فيها قيمة أكبر من السلبيات، لتكون في النهاية أكثر نفعاً من ضررها.

دون التقليل من هذه الجوانب الإيجابية والمفيدة لوجود شقيق أو أخت، ما يثير قلق زملائي في البحث وقلقي هو أن "الشر" في هذه القصة قد يكون أكثر خفاءً، وجدية، وانتشارًا مما هو معترف به حاليًا. أنا أتحدث عن المشكلة غير المعلنة غالبًا والمتعلقة بالتنمر بين الأشقاء.

التنمر بين الأشقاء هو أكثر من مجرد عرض لمرة واحدة من العنف أو العدوان – إنه تصرفات عدوانية متكررة على مدار فترة طويلة من الزمن، لا يستطيع الضحية الهروب منها. يمكن أن تشمل هذه التصرفات العدوان الجسدي واللفظي، والتلاعب العاطفي والاجتماعي، والألعاب العقلية، والتنمر عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

نظرًا لأن العديد من الآباء يعتبرون الصراع بين الأشقاء أمرًا طبيعيًا، فإنهم غالبًا ما يقاومون التدخل. يجتمع هذا الاعتقاد في طبيعة الصراع مع مهارات الأشقاء الاجتماعية غير الناضجة وأهدافهم المتنافسة بشكل طبيعي. ومعًا، يخلق هذا بيئة يمكنهم فيها إيذاء بعضهم البعض وسوء معاملة بعضهم البعض، وغالبًا ما يكون هذا غير ملحوظ أو غير معالجة من قبل الآباء وأفراد العائلة البالغين.

يُقرّ العديد من الأشقاء أنهم كانوا في غالب الأحيان ضحايا وجُناة في نفس الوقت.

هناك أدلة متزايدة على انتشار التنمر بين الأشقاء. في دراستنا الأخيرة، قام زملائي وأنا بالتحقيق في معدلات التنمر بين الأشقاء لدى الآلاف من الشباب البالغين عبر ثلاث دول وقارات (الأرجنتين، إستونيا، والولايات المتحدة). وقد أخبرنا حوالي 50 في المئة منهم أنهم تعرضوا لذلك بأنفسهم.

تشير أبحاث معاصرة أخرى إلى أن الإخوة والأخوات يبلغون عن تجربة التنمر بين الأشقاء بنسب مماثلة، حيث يبلّغ الإخوة عن عدوانية جسدية أكثر، بينما تبلّغ الأخوات عن أشكال أكثر من العدوان العاطفي والاجتماعي. وأشار الأشقاء في الغالب إلى أنهم كانوا ضحايا ومنتقدين في آنٍ واحد، مما يدل على ديناميكية معقدة في السياق العائلي (وهذا يختلف عن التنمر في المدارس بين الطلاب حيث التجربة الأكثر شيوعًا هي أن تكون الضحية). يبلّغ الأشقاء الأصغر سنًا بشكل أكبر عن تعرضهم للتنمر من قبل الأشقاء الأكبر سناً، على الأرجح لأن الأشقاء الأكبر يمتلكون موارد أكثر (مثل الوضع الاجتماعي أو المهارات الجسدية أو العاطفية أو الخبرة) التي يمكن استخدامها ضد الأشقاء الأصغر.

تشير دراسات أخرى إلى أن هناك تأثيرًا تراكميًا: عندما يقدّم الأشقاء الأكبر نموذجًا لاستخدام العدوان للأشقاء الأصغر، يصبح هؤلاء بدورهم أكثر عرضة لأن يكونوا عدوانيين تجاه أشقائهم الأصغر، وهكذا، مما يؤدي إلى أن يحتفظ الأشقاء بكل من دور المتنمر والضحية داخل الأسرة.

أحد الأسباب الرئيسية لعدم معالجة التنمر بين الأشقاء في كثير من الأحيان هو أنه قد يكون من الصعب التعرف عليه في تفاعلاتنا اليومية. تخيل أن كاي البالغ من العمر 10 سنوات وجمال البالغ من العمر 8 سنوات خاضا شجارًا عنيفًا، وكاي تفوق على جمال. حتى لو كان جمال قاسيًا، باعتبارها حادثًا عرضيًا، فإن هذا لا يعني أن كاي قد تنمر على جمال. من المفهوم أن العديد من الآباء قد يفسرون هذا على أنه صراع طبيعي بين الأشقاء.

ومع ذلك، تخيل أن كاي وجمال يتشاجران كثيرًا، مما يؤدي بشكل منتظم إلى دفع كاي لجمال وضربه. المتنمرون غالبًا ما يكونون ذوي حيلة ويعرفون كيف يوجهون الأذى عندما لا يكون الآخرون منتبهين. إذا كان كاي يؤذي جمال بشكل مستمر على مدى عدة أشهر أو سنوات بطريقة لا يستطيع جمال تجنبها أو إيقافها، فإن ذلك يصبح تنمرًا.

تذكر، أن التنمر بين الأشقاء لا يتعلق فقط بالعنف الجسدي. في الواقع، يُبلّغ عن التنمر اللفظي بشكل أكثر تكرارًا من العنف الجسدي، ويمكن أن يُعبر عنه بطرق أكثر دقة.

غالبًا ما يمر التنمر بين الإخوة دون أن يُلاحَظ لأنه يُعتبر أمرًا طبيعيًا.

على سبيل المثال، تخيل أن مايا البالغة من العمر 13 عامًا تدعو لارّا البالغة من العمر 9 سنوات بأسماء مهينة بشكل متكرر، وتهددها، وتنتقد وتقلل من قدراتها أو تسخر من صفاتها الشخصية بانتظام، سواء أمام الآخرين أو في تفاعلات خاصة. إذا لم تتمكن لارّا من إيقاف أو تجنب هجمات مايا، فمن المحتمل أن تكون مايا تنمرّت على لارّا.

شكل آخر من العدوان يُسمى "التنمر العلاقي"، ويتضمن تسريب معلومات خاصة، نشر الشائعات، أو استبعاد الأخ أو الأخت عمدًا، أو فرض الصمت عليهم لعزلهم عاطفيًا. مرة أخرى، يمكن أن يحدث هذا بشكل متكرر على مدار فترة طويلة، ويُعتبر نوعًا آخر من التنمر بين الأشقاء.

عندما تحدث أي من هذه السلوكيات اللفظية والعاطفية عبر التكنولوجيا، على سبيل المثال عبر مواقع التواصل الاجتماعي أو الدردشات الجماعية، فإن هذا قد يجعل من الصعب على الآباء أو البالغين الآخرين إدراك ما يحدث.

إذا جعلتك قراءة أي من هذه الأمثلة تفكر: "أوه، يحدث هذا طوال الوقت" – فهذه هي نقطة ما أود قوله. هذا هو السبب في أن التنمر بين الأشقاء غالبًا ما يمر دون أن يُلاحظ لأنه يُقبل كشيء طبيعي.

التنمر بين الأشقاء ليس فقط شائعًا للغاية وغالبًا ما يُتجاهل، بل هو أيضًا ضار بشكل فريد. المتنمرون بين الأشقاء يصعب تجنبهم لأنك تشارك معهم المساحة المعيشية وعلاقاتك الأقرب على مدار سنوات. الأشقاء يسهمون في فهمنا لكيفية عمل العلاقات الشخصية، يؤثرون على الهوية التي نطورها ونعبر عنها في علاقاتنا القريبة، ويمكن أن يؤثروا على توقعاتنا تجاه شركاء العلاقات المستقبلية. نتيجة لذلك، يمكن أن يكون للتنمر بين الأشقاء تأثيرات سلبية على صحة الضحية العقلية والعلاقات التي تستمر طويلاً حتى مرحلة البلوغ.

تتضمن هذه التأثيرات السلبية على الصحة العقلية زيادة خطر الإصابة باضطرابات الأكل، والتعاطي الكيميائي، والاكتئاب، وصعوبات في العلاقات مع الأقران والعلاقات العاطفية، والسلوكيات المعادية للمجتمع، وانخفاض تقدير الذات والرفاهية العامة. هذه التأثيرات لا تُسجل فقط بين الضحايا، بل – لأسباب معقدة وغير مستكشفة إلى حد كبير – أيضًا بين المتنمرين. يمكن أن يزيد الآباء وأفراد الأسرة الآخرون من هذه التأثيرات السلبية إذا علموا بالتنمر ولكنهم أنكروا حدوثه أو فشلوا في الاعتراف بتأثيراته السلبية.

إذا جعلتك هذه القراءة تفكر في تجاربك الخاصة، فإليك بعض النقاط التي يجب أخذها في الاعتبار. صراعات الأشقاء ليست سيئة بطبيعتها. ولكن إذا كنت قد تشاجرت مع أشقائك أثناء نشأتك، فكر في سؤالهم عن تأثير ذلك عليهم وفكر في مشاعرك الخاصة أيضًا. مثل هذه الصراعات يمكن أن تكون مفيدة، حيث تقدم عملية طبيعية نمارس فيها حل المشكلات مع أفراد أسرتنا. ومع ذلك، يجدر بك أن تأخذ في الاعتبار إذا كان قد تم التسبب في ضرر، حتى وإن كان غير مقصود، وأن تعترف بكيفية تصرفك وكيف تأثرت. ليس من المتأخر أبدًا شفاء الجروح القديمة.

أيها الآباء، لا تتركوا الأنماط السلبية التي يتم إبلاغكم بها دون انتباه.

بعد إلقاء محاضرات عامة عن التنمر بين الأشقاء، اقترب مني العديد من الأشخاص ليصفوا الصراعات العائلية التي حملوها معهم منذ شبابهم. وقد عاد بعضهم ليخبرني كيف أن قدرتهم على تحديد وتسمية تجاربهم قد ساعدتهم في فهم ديناميكيات أسرهم بشكل أكثر صحة. في أفضل الحالات، تحدثوا مع أشقائهم ووجدوا طريقة للتعامل مع السلبية وإطلاق بعض من الضغوط العاطفية التي كانوا يحملونها لسنوات.

إذا كنت أحد الوالدين، كن حريصًا على ملاحظة الحالات التي قد لا يتواصل فيها أطفالك الأشقاء بشكل بناء. لا تتجاهل الأنماط الإشكالية التي يتم لفت انتباهك إليها والتي تشير إلى أن أحد الأطفال يتنمر بالآخر مرارًا وتكرارًا، أو يستخدم العدوان بشكل متكرر.

إن السماح للأشقاء بحل صراعاتهم وبناء مهارات تواصل بين الأفراد أمر أساسي لتطورهم الشخصي، طالما أنهم يتعلمون مهارات بناءة لا تشمل العدوان كوسيلة لتحقيق غاية. لذا، كن نشطًا. تحدث مع أطفالك عن كيفية تعاملهم مع صراعاتهم. اسألهم عما يختبرونه وإذا كانوا يشعرون بالإحباط من سلوكيات أشقائهم.

قد لا تكون المحادثات حول كيفية تعامل عائلتك مع الصراع مريحة جدًا بالنسبة لك، خاصة إذا نشأت مع نماذج دور غير مرغوب فيها أو تعرضت أنت نفسك للتنمر من الأشقاء، لكنها طريقة قوية لوقف الضرر غير الضروري. إذا لم تكن واثقًا من القدرة على إجراء هذه المناقشات بنفسك، فكر في التحدث إلى مستشار مدرسي، أو الاستفادة من الموارد المتاحة من خلال مقدم الرعاية الصحية الخاص بك أو طلب مساعدة مختص في الصحة النفسية. يمكنهم مساعدتك في إيجاد طرق إيجابية لحل أنماط التواصل المدمرة بين أطفالك.

لماذا لا نتحدث كثيراً عن الكيفية التي قد يؤذي بها الأشقاء بعضهم بعضاً؟ لماذا يميل الآباء والممارسون إلى تجاهل أدلة التنمر بين الأشقاء باعتبارها سمة طبيعية للطفولة؟ أحد التفسيرات هو أنه من الصعب عليهم التعرف عليها، على غرار الخيوط المنسوجة في نسيج تصبح غير مرئية في مواجهة التصميم العام. آمل أن يؤدي لفت الانتباه إلى هذه الظاهرة الضارة اليومية إلى ترك عدد أقل من الناس يعانون في صمت.

***

.....................

الكاتبة: كريستين كفانكارا/ Kristen Cvancara: أستاذة في جامعة ولاية مينيسوتا، مانكاتو، الولايات المتحدة الأمريكية، متخصصة في التواصل المؤذي في العلاقات. وهي أيضًا مستشارة في مجال القيادة والعلاقات، ولها أبحاث منشورة في مجلات وكتب بارزة في مجال التواصل وعلم النفس.

https://psyche.co/ideas/trapped-with-no-escape-the-hidden-problem-of-sibling-bullying

قبل أيام كنتُ أتصفحُ كتاب (حياتُنا بعدَ الخمسين) للفيلسوف العربي المعروف "سلامة موسى"، وبعد أن قلبت عدة صفحات، استوقفني عنوانٌ وسط كتابه هو (المرأة المصرية بعد الخمسين). وبعد قراءتي للفصل تذكرتُ كثيرا من المشاهد التي ترد على خاطري من خلال ما أشاهده في عيادتي الطبية من نساءٍ قد تجاوزن الأربعين من أعمارهن وكأنني أتعامل مع امرأةٍ وقد تجاوزت السبعين!!

المعروف طبيا أن المرأة تحافظ على نضارة جلدها واعتدال قوامها، وصحة مفاصلها، وإشراقة وجهها، وطراوة بشرتها بتأثير الهورمونات الأنثوية المشهورة وهي "الإستروجين" و" البروجستيرون". وهذه الهورمونات، وخاصة الأول منها، يتناقص تركيزها حوالي سن اليأس أو فترة انقطاع الدورة الشهرية في سن معينة يبدأ بعد الخامسة والأربعين ويمتد حتى بعد الخامسة والخمسين. وغالبا ما تشعر المرأة بعد بلوغها الأربعين بأن كل شيء انتهى، وأقصد كل ما يتعلق بأنوثتها وجاذبيتها.

هذا المقال يسلط الضوء على ظاهرة شائعة في مجتمعنا العراقي وربما العربي ألا وهي الإحباط النفسي للمرأة بعد جوازها سن الأربعين وكأنها تنتظرُ الموت وزيارة عزرائيل ليس إلا.

سألتُها: كيف حالك؟ أراك عابسة الوجه!!

أجابت: يا دكتور، وماذا بقي من العمر؟!

قلتُ لها: اتقي الله، أنت في منتصف العمر، فلماذا هذا العبوس؟

قالت: لا والله يا دكتور، أشعر أنني أموت في كل لحظة!!

لا يظن القارئ أن هذه المرأة هي من مجموعةٍ قليلةٍ من النساء اللواتي يشعرن هذا الشعور ويصارعنَ نفسيا بعد تجاوزهن سن الأربعين. التقيت بالعشرات من هؤلاء وأكاد أجزم أنني يوميا ألتقي بواحدةٍ أو اثنتين من هذا النوع.

علماء الاجتماع متيقنون بأن النشأة الاجتماعية هي من أهم العوامل التي يتأثر بها الفرد في مجتمعه، وأن العدوى المجتمعية تنتقل بسرعةٍ من الآباء والأجداد إلى الأجيال اللاحقة. تعيش الفتاة منذ أن تبصر الدنيا في كنف والدتها، وعلى الأغلب في مجتمعنا العراقي تعيش في حضن جدتها من الأب أو جدتها من الأم. وهؤلاء الجدات على الأعم الأغلب يعانين من هذا الإحباط النفسي الدائم. وقد عُرف المجتمع العراقي بأنه يتسم بسمة الحزن والقلق المتواصل الذي لم يأتِ من فراغ بل بسبب الظروف التي مرت على العراق منذ مئات من السنين ولم تزل. ظروف الحروب والانقلابات والجوع والأمراض والحرمان والعادات المتزمتة التي كانت متبعة طوال تلك الفترة، والتي كانت تهدف أغلبها إلى عزل المرأةِ عن المجتمع وعن الاختلاط. يضاف إلى ذلك غياب الثقافة العامة التي هي ضرورية في المجتمعات التي يراد لها أن تقفز إلى مصاف المجتمعات المثقفة والراقية. تميزت المرأة العراقية بأنها تشعر بعقدة الحرمان وتستشعر الظلم حتى ولو لم يكن موجوداً. وهذا الشعور انتقل بالعدوى من أمها أو على الأغلب من جدَّتها. وبالرغم من شيوع وسائل التواصل الاجتماعي والتطور التكنولوجي وسرعة الوصول إلى المعلومة كما هو معروف لكننا نجد وخاصة في المناطق الريفية أن الفتاة الصغيرة تتأثر كثيراً بالموروث الشعبي أو المجتمعي أو الديني الذي تعيشه في محيطها المغلق. لذلك كنت وما زلت أستغرب حينما أسأل إحداهن وهي لم تتجاوز الأربعين من عمرها بأنكِ تتصرفين بمشيتك وطريقةِ كلامك ومشاعرك وشكواك وكأنك قد تجاوزتِ السبعين. يزورني في عيادتي عددٌ كبيرٌ من النساء والرجال الذين تجاوزوا الستين أو السبعين من أعمارهم أو حتى الثمانين والتسعين وهؤلاء ربما، وأقول ربما، لهم الحق في أن يتصرفوا حسب ما يملي عليهم سنُّهم.

من المظاهر التي تعرض علي يوميا عند النساء اللواتي تجاوزن الاربعين أو الخمسين هي اليأس من الحياة واستشعار الموت في كل لحظة والقلق والأوهام النفسية بأنها لابد أن تكون مصابة بمرض معين رغم أنها سليمة من الناحية الطبية، وبعد إجراء الفحوصات اللازمة. ومن الأمور المؤسفة هي عدم قناعتها بكلام الطبيب رغم التطمينات، وفي بعض الأحيان القَسَم من قِبلي بأنها سليمة من أي مرض!!

هذا القلق النفسي وهذا الخوف من المرض له تأثير كبير على جسدها أولا ونضارتها وعلى طريقة سلوكها في البيت وفي المجتمع. فنشاهدها ليس لها شاغل في حياتها إلا بعض السلوكيات والممارسات البعيدة عن روح التفاؤل والأمل وحب الحياة. فنجدها تذهب كل جمعةٍ كي تزور القبور، قبور أحبائها، فتبكي هناك وتذرف الدموع وتسكب شيئا من الماء على القبور. وسمعت إحداهن تقول للموتى: ناموا نحن سنلحق بكم عن قريب. ثم تأخذ بالبكاء الشديد. هذا كله وهي لم تتجاوز الخمسين من عمرها. أو ربما تذهب إلى زيارة قبور الأولياء مع العلم أن أغلب هذه القبور هي وهمية في بلادنا وكما هو معروف ربما من أجل الشعور بالراحة، لكنني أجد أن هذا لا ينفع بل يزيد الطين بلة. نجدها لا تفارق مأتما إلا وقد حضرته، وتحرص على الحضور إلى مآتم المتوفين في منطقتها أو حضور العزاء الذي يقام في شهر محرم في المحافظات الشيعية في العراق. أتحدث مع هؤلاء من باب النصيحة بأن حضور هذه الأماكن لا ينفع ويعجل بالشيخوخة، ويجب عليهن أن يستبدلنه بالسفر إلى بلدان أخرى للسياحة والاستجمام والتمتع بالمناظر الخلابة من الطبيعة ورؤية البشر في الدول التي يمكن أن نصفها بأنها الدول الباعثة للأمل كأغلب الدول الأوروبية مثلا أو حتى الآسيوية. كثيراً ما تضحك أو تسخر من كلامي هذا فترد: وماذا أفعل بالسفر يا دكتور وهل ينفع السفر في امرأةٍ تجاوزت الأربعين أو الخمسين، وكأنها ضربت موعداً مع ملك الموت ولم يكن هناك شاغل لها إلا انتظار هذا القادم غير المرغوب فيه.

هذه المشكلةُ يدركها الأزواج قبل الأفراد الآخرين من الشباب مثلا. كثير من المشاكل التي تحدث بين الأزواج بعد هذه الفترة من العمر هي بسبب هذه السلوكيات التي تلجأ إليها المرأةُ والتي تُنفّر الزوج الذي كلما كبرت سنه، احتاج إلى العطف بل وإلى ممارسة الجنس والذي هو مفقود أو يكاد، عند هذه المخلوقة اليائسة البائسة. لذلك لا نستغرب أن يحدث الطلاق بعد سن الأربعين أو الخمسين هذه الأيام. الرجل ربما إلى حد ما، يستمر في طلب الاستمتاع بحياته ويحاول بعد أن يتجاوز سن الخمسين أن يعود إلى الشعور الطفولي أو الشبابي كوسيلة من وسائل الاستمتاع والراحة النفسية وخاصة بعد إحالته على التقاعد بعد سن الستين. وهذا من حقوقه، بل وأعتبرها من الأمور الواجبة على الرجال بعد هذا العمر. ولنا وقفة أخرى مع الرجال بعد سن الستين في مقالة مفردة.

أقول من باب النصيحة الطبية النفسية لمن تقرأ مقالتي هذه وقد تجاوزت سن الأربعين:

"عليك أن تشعري بأن الحياة قد بدأت من هذه اللحظة وثقي بأن أعمار الأوروبيات من النساء طالت بعد أن طردن هذا الشعور البائس الذي تشعرين به، ومارسنَ حياةً جديدة تتسمُ بالمرح والرياضة النفسية المبهجة، وروح الأمل والتفاؤل.

عليكِ أن تطردي كل الوساوس المظلمة والأفكار الرجعية التي انتقلت إليك من محيطكِ المتخلف.

مارسي الرياضة يوميا ولو لخمس دقائق في البيت.

اقرئي كتاباً مفيداً لمدة نصف ساعة يومياً من الكتب التي تعنى بتعزيز الثقة بالنفس وابتعدي عن الكتب التي تزيد من شعورك بالإحباط كأغلب الكتب الدينية البائسة.

سافري إلى المناطق الخضراء والمدن النظيفة والدول التي تمتلك طبيعة جذابة من بحار وحدائق وناس لطفاء يتمتعون بنعمة الحياة. وكما قال الشاعر إيليا أبو ماضي:

رَوضٌ إِذا زُرتَهُ كَئيبا

نَفَّسَ عَن قَلبِكَ الكُروبا

*

يُعيدُ قَلبَ الخَلِيِّ مُغراً

وَيُنسِيَ العاشِق الحَبيبا

علمي أبناءك وبناتك حب الناس وحب الحياة ولا يكون الوجه العبوس هو الوجه الذي تقابلين زوجك وأولادك به أول الصباح حتى لا يشملك قول الشاعر الطبيب إبراهيم ناجي:

من بدّل الثغرَ الجميلَ عبوسة

ومضى إلى وجه السماء فكدرا

وأخيراً أقول: " إن الزوج كمحرار العيادة يتحسس حرارتك سريعاً ومشاعرك فاحرصي على أن تحافظي على الحدود الطبيعية منها خوفا من عطب المحرار وحامله!!!"

***

بقلم: د. علي الطائي

29-11-2024

 

 ديناميات الانقلاب الالي اللاارضوي

هل نحن اليوم على اعتاب تعاقبية مفهومية بما يعني الانقلابيه في النظر انتقالا كما عرف في التاريخ ابان النهضات العقلية، او الثورات المفهومية، وحتى ذات الطابع العلمي، عدا عن الرسالات السماوية، وكل ما قد مثل منجزات العقل البشري بمختلف تجلياته خلال الطور الارضوي من التاريخ البشري، وهل القول بالانتقالية اللاارضوية هو مجرد انقلاب وثورة فكرية نظرية من الممكن ان تواجه بالاعراض او الرفض، وما يترافق معه بحسب حساسية المنجز الجديد من وسائل محاصرة وقمع طالما عرف في التاريخ، ونتجت عنه حالات من الانكار التكفيري، ومحاولة الالغاء من الوجود بالقوة التي تصل حد الاجهاز على حاملي الافكار ووثباتها، حتى ان الامر لهذه الجهه يكاد يكون قانونا،  واحد اهم وجوه التفاعلية المجتمعية، ودالة ازدواجها  وديناميات حركتها غير المنظورة مافوق الجسدية.

فهل القول ب"اللاارضوية" والتحولية العقلية والكوكبيه، هو من نوع ماقد عرف من وثبات عقلية من نوع القول بالنشوئية الارتقائية الدارونيه كمثال، او حتى القول بالكروية الارضية، او بالصراع الطبقي وقانون المادية التاريخيه، او الرسالات الكبرى السماوية، او الفلسفات الكبرى، ومختلف اشكال الاختراقية العقلية الكاشفة لمنطويات الوجود والطبيعه، وماالفرق ياترى بين مايجب طرحه  وصار واجبا الان، وبين ماقد سلف من وثبات عقلية، ومالذي يتوقع ان يترتب على الاختلاف ان وجد بينهما على مستوى التعامل ونوع الاستقبال والموقف.

اهم ماينبغي وضعه في الاعتبار لهذه الجهه مسالة جوهر من دونها لايصح التفريق بين الحالتين، هي كون الحاصل فيما سبق على خطورته، هو وثبات ضمن سقف النوع المجتمعي التفكري الواحد، فدارون وماركس او سقراط  او ابن رشد من قبل، او القائل بحكم الجاذبيه،  والقائلين بحكم حتمية الانتقال الى "العالم الاخر" السماوي، هم حالات ضرورة تفاعلية  ونتاج قانون ومقصد وجودي، المجتمعات موجوده بتفاعلها اليدوي البيئي لضمان تحققه تباعا وصولا الى الغاية الاعلى، او نقطة الانقلابيه النوعيه العقلية، فالمجتمعية موجوده بالاصل بصفتها عامل الترقي العقلي، بغض النظر عما هو متداول اجمالا عن الفعل المسمى ب "الحضاروي" ومااليه، علما بان الكائن البشري يستمر مع المجتمعية، وبعد تحقق الوثبة العقلية المرافقه للانتصاب على قائمتين، في الطوور الثاني من عملية النشوء والارتقاء، ذلك الذي هو من الاصل والاساس عملية عقلية، لاكما تصور دارون بعبقريته الارضوية الجسدوية، فالمجتمعات حين تتبلور، يبدا الكائن البشري  وقتها بدخول الطور الاعلى من الارتقاء العقلي بعدما اختلفت اشتراطات ترقيه كليا عما سبق.

ومايحدث من توفر اشتراطات الاصطراعية والتفاعل الوجودي البيئي اليدوي العقلي، هو  الشرط الاعلى المطلوب لاجل تحقق العقل وجودا مستقلا، مع انتهاء الطور الزمني الانتقالي الارضوي،  وكما ان لكل طور ومرحله من تاريخ التفاعلية النشوئية منتهى ولحظة انقلاب متفقه مع غاية، فان المرحلة المجتمعية المعاشة الى الان، تحكمها هي الاخرى  ذات الاشتراطات باعتبارها محطة توفيرمقومات واسباب انتقالية اخرى،  وصلت اليوم نقطة فاصلة انقلابيه تحولية كبرى، صار العقل معها متخلصا من اثر وفعالية الجسدية والبيئية وحكمهما الذي ظل غالبا ابان الطور اليدوي من التاريخ الانتقالي البشري، واخر لحظاته الالية اليدوية الاوربية  تلك التي تواكب اللحظة الانتقالية الافتتاحية الى مابعد اليدوية، ومايشيع اثنائها من توهم يبدو غالبا وفعالا على مستوى المعمورة.

ماهي اليوم شروط الانقلابيه التحولية مابعد التوهمية الاوربية؟ لعل اهم ماقد غدا منذ اليوم ومع بداية الانتقال الالي، اخذه بالاعتبار نوع الاشكال الفريد من نوعه بما يتعلق بعلاقة العقل بالتفاعلية الضرورية بعد دخول الالة كعنصر جديد طارئ على تاريخ  وكينونة المجتمعية البيئي / البشري، مع العجز عن مواكبة الحدث النوعي الحاصل بحكم انتفاء التفاعلية العقلية الواقعيه التي لم تصبح قائمه بعد، فالاله عند لحظة انبثاقها وحضورها تكون بلا تاريخ بانتظار اندراجها في العملية المجتمعية، وحينها بناء علية لايكون بمقدور العقل برغم ماقد اكتسبه من خبرات وحقق من وثبات ارضوية يدوية ومابعدها، الارتقاء لمستوى التفاعل مع اللحظة من حيث ماهي منطوية عليه وصارت تقتضيه.

هنا يظهر دور وخصوصية حضور"اللاارضوية" المدخرة تاريخيا وبحكم ماتتعرض له كموقع ومكان وبنية موروثة  من اثر الاله وتوهميتها واكراهها الافنائي، فان  جانبا اساس من المطلوب موضوعيا اليوم على مستوى الاعقال المتعدي للايهامي الزائف، يمكن ان يظهر دالا على غير الغالب وقتها، والسائد المعتاد، مع نوعه الخاص، واول مميزاته باعتباره دالة على التحقق من دون كيانيه جغرافية،  بما هو مفهوم " كتابي" التحقق كما كان ديدنه في الماضي، حيث تحقق السماوية الابراهيمه الكيانيه اللاكيانيه الكونية، كتابيا، مع القصور الفادح ابتداء مما يحول دون تقبل هذا النوع من النطقية المؤجله على مدى الاف السنين، والامر مفهوم لهذه الجهه اذا اخذنا بالاعتبار حالة العقل ومتبقياته اليدوية التوهمية الالية، وقسناه على متطلبات الانقلاب التحولي الكوني، ما بعد الارضوي.

من المنطقي ان يظل العالم وقتها  تحت طائلة عقل هو من متبقيات طور مجتمعي تاريخي ادنى، ولو ان شروط  تبلور ما بعده غدت ضرورة، فاذا ظهرت اوليات وبدايات دالة على الرؤية اللاارضوية وقد صارت ممكنة التحقق عقليا وماديا على مستوى وسيلة الانتاج، فان العقل المتوفر لن يجد طريقه اليها في حينه، فهو محكوم لخلفيته وطريقة قياساته واستنتاجاته البالية المحدودة ارضويا، ما يجعل الاشارة للقادم خارج التداول وممكنات التعامل، ووقتها لن يكون امام  العالم غير انتظار فعل الواقع المنتهي الصلاحية، المتعاضم تناقضه مع ذاته، ومع الوسائل الضامنه للاستمرار ولاجمالي الوجود، وفي مقدمتها وسيلة الانتاج وتطورها من المصنعية الى التكنولوجيا الانتاجية الراهنه، الى التكنولوجيا العليا العقلية، ومايعم المجتمعات البشرية الباقية مصرة على التمسك بالعقل الارضوي وموضوعاته، مايعزز بقوة ومع الوقت التناقضية الوجودية الانتاجية، ويذهب بالحياة القائمه على طريق يقارب الفنائية.

يبقى المنظور اللاارضوي التحولي المعزول غير القابل للادراك موضوعيا قصوريا عقليا، حاضرا ضمن الاحتدامية الكبرى الحالة منذ اليوم على الكائن البشري، وقد تحول الى واقع  له متضمنات من نوعه  بانتظار الحصيلة الا نقلابية غير المسبوقة الجارية، الى ان  توقظ حالة "العيش على حافة الفناء" وقد صارت شاملة ومعممه على الكوكب الارضي،  اقتناعات ناشئة عن وطاة المعاش، معهابيدا  شيئا فشيئا الاستدلال على ضرورة ربط الاله العقلية بالعنصر المطابق لها في الكينونه البشرية، الامر الذي معه تولد كيفيات نوعية مختلفة على مستوى الحياة وتنظيمها، واشكال العمل والادراكيه، مايتطلب تنويهات، وخوض في التفاصيل متعددة لاحقة: "الوطن كونيه العراقية" التي تبدا بالظهور من هنا فصاعدا، هي نواتها الفعاّلة ومنطلق الدلالة على الانتقال الى "العالم الاخر" عقليا من دون موت.

***

عبد الامير الركابي

الخيانة الزوجية من أكثر القضايا الاجتماعية تعقيدًا وحساسية، فهي تُعد انتهاكًا للرابط المقدس بين الشريكين، وتترك آثارًا عميقة على الأفراد والأسرة ككل. مع تطور المجتمعات واختلاف الثقافات، ظلت الخيانة موضوعًا مثيرًا للجدل، متجذرًا في التاريخ والوجدان الإنساني.

عند تصفحي لقصص وقضايا تناولت هذا الموضوع، استوقفتني قصة "استجمام" للكاتبة نضال البدري/ المنشورة في المثقف، والتي تتمحور أحداثها حول الخيانة. أثارت القصة لديّ ذكريات مسرحية "الخيانة" لهارولد بينتر، التي شاهدتها قبل عقود لكنها لا تزال حاضرة في ذهني بأسئلتها العميقة وإشكالاتها الأخلاقية. يبدو أن مفهوم الخيانة يتجاوز الأزمنة والثقافات، ليبقى موضوعًا ملحًا في كل عصر.

الخيانة بين الماضي والحاضر

منذ القِدم، ارتبطت الخيانة الزوجية بمفهوم الزواج. في الحضارات الإغريقية والرومانية، كانت القوانين تُدين الخيانة علنًا، لكنها تتغاضى عنها في الخفاء، خصوصًا عندما يكون الفاعل رجلاً. أما في المجتمعات العربية القديمة، فقد كانت الخيانة مرتبطة بالشرف والعرض، وخصوصًا عندما تكون المرأة هي المُذنبة. كانت الخيانة وصمة عار تؤدي غالبًا إلى ردود فعل انتقامية شديدة.

اليوم، رغم تغير المفاهيم وتطور المجتمعات، ما زالت الخيانة تُعدّ خروجًا عن المعايير الأخلاقية والدينية. ففي الإسلام، تُعتبر الخيانة فعلًا محرمًا يُعاقب عليه بشدة، إذ أن الزنا يُعد من الكبائر التي تستوجب حدودًا شرعية صارمة.

تأثير الخيانة على الأسرة والأفراد

الخيانة ليست مجرد فعل فردي، بل هي قضية جماعية تُلقي بظلالها على الأسرة بأكملها:

- الشريك المخدوع:

يعيش تجربة نفسية مؤلمة تُحطم الثقة وتترك جروحًا عميقة. قد تؤدي الخيانة إلى اضطرابات نفسية مثل الاكتئاب، القلق، وانعدام الثقة بالنفس، وقد تترك آثارًا طويلة الأمد تجعل من الصعب بناء علاقات صحية جديدة.

- الأبناء:

الخيانة تزعزع استقرار الأسرة، مما يُسبب شعورًا بعدم الأمان لدى الأطفال. غالبًا ما يؤدي ذلك إلى مشكلات نفسية وسلوكية قد تؤثر على نظرتهم للحب والعلاقات في المستقبل.

- الشريك الخائن:

يعيش صراعًا داخليًا بين الإحساس بالذنب والخوف من الانكشاف، مما يؤثر على استقراره النفسي وقدرته على مواجهة تبعات أفعاله.

العلاقة بين الشك والثقة

الثقة هي أساس أي علاقة زوجية ناجحة، بينما يُعد الشك مدخلًا رئيسيًا لهدمها. هناك من يرى أن الشك المفرط وغير المبرر يُحدث توترًا في العلاقة، وقد يدفع أحد الطرفين إلى الخيانة كنوع من التمرد أو رد الفعل. في المقابل، فإن الثقة العمياء قد تُعمِّي الشريك عن علامات التحذير التي قد تشير إلى خيانة محتملة.

مواجهة الخيانة: الخيارات والتداعيات

عند اكتشاف الخيانة، يجد الشريك المخدوع نفسه أمام قرارات صعبة. هل يواجه الشريك الخائن؟ وكيف؟ هل يُسامحه أم يُنهي العلاقة؟

1- المواجهة الصريحة:

تعد المواجهة الهادئة والمباشرة وسيلة لفهم الدوافع والظروف التي دفعت الشريك للخيانة.

2- طلب المساعدة المتخصصة:

الاستشارة الأسرية أو العلاج الزوجي يُمكن أن يساعد في معالجة الألم والبحث عن حلول لإصلاح العلاقة.

3- اتخاذ القرار المناسب:

بناءً على مستوى الخيانة ومدى استعداد الطرفين للإصلاح، يمكن اتخاذ قرار بالاستمرار أو الانفصال بطريقة تُحافظ على الاحترام المتبادل.

4- الشفاء النفسي:

سواء انتهت العلاقة أم استمرت، يحتاج الشريك المخدوع إلى وقت للتعافي النفسي واستعادة ثقته بنفسه وبالآخرين.

الخيانة بين البوح والكتمان

الاعتراف بالخيانة يُعدّ خطوة شجاعة، لكنه يحمل في طياته تداعيات معقدة.

* إيجابيات البوح:

- فرصة لإعادة بناء الثقة.

- تحمل المسؤولية عن الخطأ.

- تخفيف العبء النفسي للشريك الخائن.

* سلبيات البوح:

- جرح الشريك المخدوع عاطفيًا.

- احتمالية إنهاء العلاقة.

- فقدان الثقة التام.

من جهة أخرى، يختار البعض كتمان الخيانة لحماية العلاقة أو لتجنب المواجهة. لكن هذا الخيار غالبًا ما يضع العلاقة تحت ضغط نفسي دائم بسبب الخوف من انكشاف الحقيقة.

دوافع الخيانة: الشعور بالوحدة والبحث عن الطمأنينة

الخيانة ليست دائمًا تعبيرًا عن رغبة في الإيذاء؛ أحيانًا تكون محاولة لملء فراغ عاطفي أو للتغلب على مشاعر الوحدة.

1- الروتين والملل:

الرتابة في الحياة الزوجية قد تدفع أحد الشريكين للبحث عن الإثارة خارج العلاقة.

2- الشعور بعدم التقدير:

عندما يشعر أحد الشريكين بالإهمال أو بعدم الاعتراف بجهوده وطموحاته، قد يلجأ إلى الخيانة كوسيلة للحصول على التقدير.

3- النواقص الشخصية:

قد تكون الخيانة محاولة للهروب من الشعور بالنقص أو لتجنب مواجهة مشاكل داخلية.

الوقاية والتصحيح

للحد من الخيانة أو التعامل مع تداعياتها، يجب العمل على تعزيز أسس العلاقة الزوجية:

1- التواصل الفعّال:

الحوار المستمر بين الشريكين حول احتياجاتهما ومشاعرهما يُسهم في تعزيز التفاهم وتقوية العلاقة.

2- كسر الروتين:

إدخال تغييرات بسيطة ومفاجآت في الحياة اليومية يمكن أن يُعيد الحيوية للعلاقة.

3- الدعم المتبادل:

تقدير الشريك ودعمه في تحقيق طموحاته ومواجهة تحدياته يُعزز من شعور الانتماء والاستقرار.

4- التطوير الشخصي:

العمل على تحسين الذات ومعالجة القصور الشخصي بدلاً من الهروب إلى الخيانة.

الخاتمة

الخيانة الزوجية أزمة معقدة تحمل أبعادًا أخلاقية، نفسية، واجتماعية. التعامل معها يتطلب الحكمة والتوازن بين القلب والعقل. الوقاية من الخيانة تبدأ ببناء علاقة قوية قائمة على الصدق، الثقة، والتفاهم المتبادل.

في النهاية، الخيانة ليست حتمية في أي علاقة، لكنها تُظهر هشاشة الأسس التي تقوم عليها. لذلك، فإن العمل على تقوية العلاقة الزوجية من خلال الحوار المستمر، الاهتمام المتبادل، والالتزام بالقيم المشتركة يمكن أن يُجنب الكثير من الألم والصراعات. عندما تتوفر هذه العناصر، يُصبح الزواج أكثر صلابة في مواجهة التحديات، ويبقى الاحترام والوفاء هما الحَكم في أي أزمة.

**

سعاد الراعي

دعوة إلى إعادة النظر في الخطاب العربي المعاصر

إن التغيير لا يعني تغيير الحاكم واستبداله بحاكم آخر، أو وزير بوزير آخر، و..و..و الخ، وإنما بناء الرجال، رجال يعون الواقع الراهن ومستوياته (السياسية، الإقتصادي، الإجتماعي، الثقافية والمستوى الإيديولوجي) ولكل واحد من هذه المستويات منهجه الخاص به، الصراع اليوم هو صراع بين الفكر الظلامي والفكر العدمي ما يدعو إلى إعادة النظر في الخطاب العربي المعاصر، وأن يضع المثقفين العرب التجارب في الميزان وإخضاعها للدراسة والتحليل، نحن هنا أمام مفكران جمع الفكر بينهما بغض النظر عن أيديولوجيتهما إنه المفكر عبد الله العروي والمفكر مهدي عامل، ولكل منهما وجهة نظر او رؤية خاصة للواقع العربي وما يلحق به من إخفاقات على كل المستويات.

الإصلاح له مفاهيم عديدة فهو يعني إصلاح الاعوجاج والأخطاء وإعادة النظر في المسائل التي تثير اهتمام الأمة برؤية عقلانية بعيدة عن كل اشكال التعصب، فالحاكم يرى الإصلاح من زاويته والمحكوم كذلك، فالإصلاح بالنسبة للحكام كما يرى بعض الباحثين هو تحديث الدولة من خلال تحديث أجهزتها (الجيش) والإدارة وتنمية الموارد المالية، وهو بالنسبة للمحكومين تحديث المفهوم السياسي للدولة، أما عند المفكرين والمنظرين وحتى العلماء فهو يعني حضور العدل عند أمة ويرون أن ظهور الفساد في الأمة الإسلامية وضعفها مرده ابتعادها عن الدين وقبولها للجور والظلم، يقول الباحث سعيد بن سعيد العلوي أن ما نراه اليوم مما نسميه إسلاما فهو ليس بإسلام، وما يعاب على المسلمين ليس من الإسلام وإنما هو شيء آخر سمُّوه إسلاما، والدليل هو التأخر والجمود الذي عليه المسلمون اليوم ومستوى الانحطاط الذي بلغوه.

فما الحروب الأهلية التي تعيشها الأمة الإسلامية وما حلَّ بها من شرور سببه عدم تطبيق الشريعة الإسلامية والعمل بالقوانين الوضعية، إذ كيف تنجح أمة تدين بالإسلام ودستورها ينص على أنها دولة إسلامية وشبابها غارق في المخدرات وأوكار الفساد، فساد في المنظومة السياسية وفساد في المنظومة التربوية والتثقيفية، أمّة ينتشر فيها الفقر والأمراض والجهل والأمية، دون الحديث عن الظواهر الأخرى كالتشرد والتسول وانتشار الأطفال الغير شرعيين، ظهور المذاهب في الساحة ولا أحد يحرك ساكنا من الغيورين على الدين والبلاد، لقد حذر كثير من المفكرين والمنظرين وكذلك العلماء والمصلحين من تفشي المظاهر الفاسدة التي شوهت صورة الإسلام، فهذا الانحراف سببه الدعوات إلى التمدن المزيف، هذا التمدن لم يرفضه الإسلام وإنما المسلمون فهموه خطأ، لأنهم أخذوا القشور وأهملوا اللب والمضمون، وهو التقدم العلمي والتحضر الفكري، كما أن الأمة الإسلامية التي غرقت في سباتها ولم تنهض نهضة حضارية شاملة لم تضع مخططا لمشروع المجتمع المسلم، لأنها انشغلت بحبها للسلطة وصراعاتها من أجل الوصول إلى الحكم، وأهملت الجانب الدعوي الذي يغرس الوعي من أجل التغيير الحقيقي والبناء.

يرى عبد الله العروي وهو أحد أهرامات الفكر العربي المعاصر، أن فشل الأمة الإسلامية وتأخرها وانحطاطها سببه الخيبة التي عرفتها الحركات التحريرية الوطنية في الدول العربية، مقدما الأسباب وشرحها شرحا مفصلا، واستدل العروي بثلاث زعماء عرب وهم: (المهدي بن بركة في المغرب، جمال بن عبد الناصر في مصر، وفي الجزائر أحمد بن بلة)، ويفهم من تحليله أن الأول كان يغلب عليه الخوف والتردد في إظهار مواقفه وإصدار الأحكام والقرارات التي تتعلق بشؤون الرعية، فكان كما يقول العروي يتجنب الموضوع أو يقول: "إن الوقت لم يحن بعد"، والثاني يكشف النقص الإيديولوجي وضعف الأفق في الميثاق الذي كان زبدة تفكير النخبة المثقفة المتعاونة مع النظام المصري، وهنا يلاحظ خيانة النخبة المثقفة للجماهير وتسليم نفسها ورقبتها للسلطة، والثالث هو الرئيس الجزائري أحمد بن بلة يقول العروي أن هذا الأخير لم يهتم أدنى اهتمام ولم يقتنع ابدا بأرضية القرارات التي عرضت عليه ولم يقبل المقترحات إلا على اساس النتائج الوقتية واستمالة الرأي العام في الداخل والخارج.

ويرى عبد الله العروي أن هذه الإخفاقات علامة على الإخفاق الذي منيت به الحركات الوطنية في العالم العربي، فرغم أنها حققت النجاح بطردها الإستعمار من أرضها لكنها يقول العروي أخفقت في أن تحقق ما يكون المجتمع العربي في حاجة إليه من تحرر في المستويات السالفة الذكر، ويرى العروي أن هذا الإخفاق سببه كذلك العجز الإيديولوجي ونقصه أو الخلط الإيديولوجي، بل ربما هي الخلاعة الإيديولوجية، يضاف إليها تخلف الذهنيات والوعي الساذج، إن الإخفاق الذي وقع فيه المثقف أيضا هو ظهور مفاهيم عديدة للمثقفين، منها ما أطلقوا عليه اسم المثقف "السلفي" والمثقف الذي يعتبر نفسه خصما للسلفية وثقافتها، كيف نسمي هذا المثقف؟ لا ندري، فكلما كان الحديث عن الإيديولوجية والثقافة الليبرالية تقحم فيها السلفية ولا ندري أنه كلما كان الحديث عن نقد المثقف العربي يراد به مثقف العالم الثالث، هذا المثقف الذي هو مطالب بمحاربة الفكر التقليدي كفكر يُجَسِّدُ السّلبية والتواكلية والإنهزامية، يجسد كل ما هو مرفوض أو غير مرغوب فيه، وهذا يستدعي أن يضع المثقفون العرب التجارب في الميزان وإخضاعها للدراسة والتحليل، كالتجربة الألمانية أو التجربة الفرنسية، والتجربة الفيتنامية أو تجارب دول العالم الثالث التي ما تزال شعوبها في طريق النمو كما يدعي الغرب، أو حتى التجربة السوفياتية لاسيما والعروي كما تقول الكتابات ارتكزت رؤيته التحليلية على الإيديولوجية الماركسية باعتبارها عقيدة، إذ يقول: إن المثقف العربي كمثقف من العالم الثالث في حاجة إلى الماركسية التاريخانية ولهذا يدعوا عبد الله العروي إلى تحديث العقل العربي، تشير دراسات أن سلسلة المفاهيم التي قام بإنتاجها العروي والتي مثلت عماد مشروعه الفكري (مفهوم العقل ومفهوم التاريخ ومفهوم الأيديولوجيا ومفهوم الدولة ومفاهيم أخري مثل الحرية) إنما هي “فصول من مؤلف واحد حول مفهوم الحداثة، فقد كانت أعماله وإنجازاته الفكرية على حيوية العقل العربي ومقدرته الكبيرة على الإبداع والتنظير.

وإن كان هذا رأي العروي فماذي يقول الرأي الآخر المضاد؟ فمنطق الغرب في رأي المفكر والمنظر اللبناني مهدي عامل (اسمه الحقيقي حسن عبد الله حمدان) في نقده "الفكر اليومي" مختلف عن منطق الشرق وهذا للتناقضات الموجودة بينهما (حضارة/ بربرية، ديمقراطية/ استبداد، تطور/ جمود، غرب/ شرق) والماركسية تحاول تجاوز هذه التناقضات جاعلة من أوروبا قوة توحيدية مثالا للعالم بقفزها على الصراعات الطبقية، فالآخر إما نقيض (بربري استبدادي) أو متشابه أي نمط رأسمالي مُشَوَّهًا، إنه كما يقول مهدي عامل منطق مغلقا يعبر عن استحالة التحوّل في زمن متواصل، وهو بهذا المعنى نقيض المنطق الإسلامي الاستيعابي المتواصل، منطق الجماعة التي تتوسع تدريجيا، ويقارن مهدي عامل العلاقة بين المجتمع الأصلي والمجتمع المحدث، وذلك من مبدأ الثنائية، فالحاضر يكرر الماضي، والإسلام كما يرى مهدي عامل حين يبقى في قلوب الناس يشكل حالة مقاومة مستمرة، فالمجتمع الأصلي القائم في راهن المجتمعات العربية الإسلامية ظل كما هو، المجتمع الأصلي الذي كان قبل الغزو الاستعماري ولم يتغير فحدث الصراع بين الذات والآخر، بل وقع الإغتراب.

ويستدل مهدي عامل بثورة إيران الإسلامية التي خابت فيها الليبرالية الرأسمالية والماركسية الشعبوية فلم تستطع كل منهما ان تُثَبِّتَ قدمها على أرض الإسلام، السؤال الذي طرحه مهدي عامل هو كالتالي: هل يستطيع العقل الإسلامي أن يقدم صيغة إسلامية معاصرة لمعالجة المستويات التي تحدث عنها العروي (الإجتماعية، اقتصادية، الثقافية والسياسية؟ ..الخ) ما حدث هو تغيير المصطلحات والمفاهيم ( ثورة إسلامية ضد التغريب والحداثة) أي ضدّ الغرب، فالثورة الإيرانية الإسلامية في رأيه كانت ثورة ضد الحداثة على النمط الغربي حتى لا تدمر الجذور الثقافية للشعب الإيراني أو الأمة الفارسية إن صح التعبير، فكانت نهايتها سقوط نظام الشاه الذي اتبع سياسة التحديث وفق النسق الغربي.

ويستخلص مهدي عامل إلى أن الصراع هو صراع بين الذات والآخر، أي بين الفكر الظلامي والفكر العدمي بدليل أنه يوجد إسلام سُنِّي وإسلام شيعي، هذا الأخير الذي ظل راسخا يقاوم (العلويين والشيعة الإمامية في جبل عامل) فكان شكلا من أشكال المقاومة ضد حركة "الترسمل" وهي علاقات الإنتاج التقليدية السابقة على الرأسمالية يبقى الإسلام بوجود هذه الحركة ويزول بزوالها وهكذا تستمر المقاومة، لكن يظل الإسلام منغلقا على ذاته، ولهذا يدعو العروي إلى تحديث العقل العربي أو إعادة النظر في الخطاب العربي المعاصر، اي الممارسات النظرية التي يحيلها الفكر العربي المعاصر لذاته منذ حملة نابليون بالنسبة إلى مصر وحلول الاستعمار الفرنسي في الجزائر وبداية إعلان الحماية في تونس وإعلان الحماية الفرنسية على المغرب بعد واقعة إيسلي على الحدود الجزائرية المغربية في صيف 1844 وأحداث أخرى ساهمت في بلورة الوعي العربي المعاصر بكيفيات تختلف في الشكل وتتفق في الجوهر.

***

علجية عيش بتصرف

 

هذا تعقيب على مقالة قصيرة لأستاذنا إبراهيم البليهي، نشرها ضمن مجموعة فيها محبوه وقراؤه، وتعالج ما اعتبره السر العميق لنهضة اليابان خلال عهد الإمبراطور ميجي، الذي تولى الحكم في 1852 حتى وفاته في 1912. والبليهي واحد من القلة الذين تثير كتاباتهم عواصف الجدل الذهني، بين القناعات المستقرة والشكوك التي تولّدها المعرفة الجديدة، شكوك تؤكد حقيقة أن عقل الإنسان يأبى التقاعد والسكون.

قبل عهد الميجي، كان المجتمع الياباني أسيراً لمنظومة من التقاليد المتخشبة، التي لا تقيد العقول فحسب، بل تحرّم أي تطلع خارج إطار الثقافة الموروثة والأعراف السائدة وطرائق الحياة التي قدسها الأجداد.

ليس سهلاً أن تتصور المعنى الدقيق لما أسميناه «تحريم التطلع». لكنني سأضرب مثالاً يوضح الفكرة: تخيل أنك قررت الزواج من خارج قبيلتك، فإذا بأبيك يحذّرك: سوف أنتحر لو فعلت ذلك! أو تخيل أن رئيس القرية غيّر طريقته في اللبس، فإذا بكبار القرية يعلنون أنهم سيهجرونها غاضبين. أو يقتني أحد الناس آلة للمطبخ، فيجتمع جيرانه للبحث عن سبيل لطرد الأرواح الشريرة التي جلبتها تلك الآلة.

بطبيعة الحال، لم تحدث هذه الحالات كل يوم. لكنني أردت إيضاح المعنى النهائي لمقاومة التغيير، من خلال حالات شديدة التطرف، حالات ربما وردت في قصص الرواة فحسب، لكنها تشير أيضاً إلى جوهر الفكرة، أي تصلب التقاليد والأعراف، والرفض الشديد لأي فكرة جديدة أو عرف مختلف.

- حسناً. ما الذي يدعونا لهذا الحديث؟

يثير مقال البليهي سؤالين متعارضين، أظن أن كثيراً منا قد تأمل فيهما:

- السؤال الأول: التقاليد المشار إليها، لم تولد دفعة واحدة، بل اتسعت وترسّخت على مدى زمني طويل، ربما يبلغ قروناً. فكيف تقبَّلها الناس جيلاً بعد جيل، ولم يتخلوا عنها رغم أنها تجعل حياتهم ضيقة عسيرة؟

كثير من المفكرين سيجيبون عن هذا السؤال بالعبارة التي اشتهرت على لسان البليهي: «العقل يحتله الأسبق إليه». بمعنى أن الإنسان يجد نفسه، لحظة ولادته، وسط بيئة ثقافية - اجتماعية أحادية الاتجاه، تعرض نفسها في صورة الحق الوحيد، فتنبني ذاكرة الإنسان وهويته، ويتحدد تفكيره، في الاتجاه المعتاد ذاته في مجتمعه. وبهذا سيكون جزءاً من العقل الجمعي وامتداداً له. قد ينزعج الإنسان من نمط المعيشة السائد. لكنه - في الوقت ذاته - يراه حقاً وحيداً، أو لازماً أخلاقياً، أو ضرورة للعيش مع الجماعة. فهذه الأفكار تلعب دور السور الذي يحمي قلعة التقاليد من المساءلة والتحدي.

- السؤال الآخر: إذا كان الجواب المذكور صحيحاً، أي كانت الثقافة الموروثة حاكمة على ذاكرة الإنسان وتفكيره، فلا يرى إلا ما تعرضه هذه الثقافة، فكيف - إذن - أمكن للناس أن يتحرروا من هذه الثقافة، على النحو الذي جرَّبته اليابان في عصر الإمبراطور ميجي، كما ذكرنا آنفاً؟ سوف نستعير الجواب من الفيلسوف الفرنسي أندريه لالاند (1876 - 1963) الذي اقترح مستويين لعمل العقل، أولهما «العقل المُنشأ» بضم الميم، أي الذي تكوّن وبُني تحت تأثير العوامل السائدة في المجتمع المحيط، من لغة وثقافة ونظام حياة. والآخر «العقل المنشئ» أي الذي يصنع الأفكار وينتجها، مستفيداً من العوامل السابقة، أو مستقلاً عنها، بل ومتمرداً عليها. وهذا العقل هو الذي كسر قلعة التقاليد وتجاوزها.

لم يكن لالاند أول من قال بهذا. لكنه قدم رؤية متينة، وعالج الإشكالات المحيطة بالفكرة. ولذا؛ جرت العادة على نسبتها إليه. إن قابلية العقل لتجاوز قناعاته المسبقة والتمرد عليها، وقدرته على إعادة بناء الأفكار من دون أساس سابق، بل خلْق أفكار جديدة، لم يسبقه إليها أحد، هي ما يميز الإنسان عن الآلات الذكية. وهي التي تجعل كل قديم في معرض التحول والاندثار. على أن تفصيل القول في هذا يحتاج إلى مقالة أخرى قريباً.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

في التغيير والاختلاف والتفكير النقدي

مثلما يؤسس بيير بورديو سوسيولوجيا التربية على سعي كل مجتمع إلى إعادة تشكيل ظروف وجوده وإنتاجه وفقا لفوارق بخلفيات ظرفية وبنفس الأوضاع الاجتماعية، فإن قابلية التغيير بإزاء هذه العملية، تأخذ بعدا آخر في نسق ما يسميه ب"الهابيتوس"، على أساس ترسيخ مبدأي الاختلاف والتمايز.

ولنفس القيمة والاعتبار، فإن اشتباك المصطلح مع الوظيفة الإعلامية، يقع في تماس الأنساق التربوية لدى بيير بورديو، والذي ترجمه في كتابه "نظرية الممارسة Esquisse d’une théorie de la pratique"، الذي يثير فيه أسئلة تفاعل الفرد والجمع في السوسيولوجيا، أو إشكالية الفاعلية والبنية الاجتماعي، ما يعضد اتساق مفاهيمه المركزية، خصوصا في بنى الحقل والرمز والعنف الرمزي.

ليست عشوائية، هذه الطفرة التأويلية الكامنة في الخيط الرابط بين التربية والإعلام، ف"الهابيتوس"، ليس فقط مجرد أنماط اجتماعية، استنبتت على أرضية قيم المجتمع وعاداته، وثقافته وهويته فحسب، بل هي وفرة إبداعية ناتجة عن خلق وابتكار وتحفز وامتداد، بما يعني عند بيير بورديو ذاته، "البنية الداخلية" التي تنحت سلوك الفرد وتستدرجه لإقامة شخصية مستقلة وتفكير حر وتجرد قيمي وأخلاقي واضح المعالم والأهداف.

هذا القالب الرؤيوي للعالم، يتجسد أيضا في أقصى نظام للفعل التربوي الإعلامي المشترك، إذ لا يمكن انتظام الأخير وقيامه دون سلوك إعلامي يقيس طبيعة الفرد في المجتمع، ويحوله إلى فاعل إيجابي، وبالتالي يصبح "للهابيتوس" سلطة تقديرية متناغمة مع رسالة الإعلام، بما هي معرفة ووسيلة لنشر التربية وتحقيق السمو الأخلاقي والقيمي والامتدادي.

وإذا كان مجال الواقع الإعلامي، يشتمل على آليات توليدية وبنى واقعية عميقة غالبا ما تفلت من الملاحظات المباشرة، فإن مجالات الواقع والتجريب تشمل من الناحية الأخرى الأحداث التي تنتجها سببيا هذه الآليات والهياكل (الفعلية)، فيصبح بالمعنى التناصي لالتقائية (الهابيتوس) التربوي بالإعلامي، أمرا محتوما، ما دام تشابك الهدف ينسحب إلى ما كنا دائما نربطه بسوسيولوجيا المجتمع، التي تتوخى دراسة الإنسان واختياراته وسلوكياته، بشكل غير منفرد، ابتداء من تفاعلاته وانتقالاته وأفكاره، دون تجاوز أسباب التغيرات التي طرأت عليه، بما فيها تلك التي تقيس علاقته بالجوانب الثقافية والهوياتية المحضة.

فإذن، يصير (الهابيتوس) هنا، قيمة إعلامية تتمايز اعتباريتها في صميم عناصر السوسيولوجيا ذاتها، حيث يرمز المجتمع إلى بنية محددة، بقوة التاريخ والاستمرارية والاكتفاء، وتنشط الثقافة بإزائه لتصير مخصوصة بقيمة الإضافة والتعدد والاكتساب والرمزية، ثم يليهما في الأثر وقوة الحضور، وشيجة البناء الاجتماعي المحكوم بالصيرورة والاستقرار الزمني، فالنظام الاجتماعي المتسم بتحديد الوظائف والخاصيات، بتفاعلات وتغيرات ديناميكية نسقية، دون أن نتحاشى هامش التنبؤات والتوقعات المرصودة في أفق استتباع هذه العينة، يستقصي درجة فهما الحقيق للأنماط الإعلامية المتغيرة، ولعلاقتها بأنظمة الحياة الجديدة، والتقائيتها بالعوالم الأخرى التي تتقاطع فيها السياسة بالاقتصاد، والثقافة بالهويات، وتكنولوجيا التخطيط بالسيطرة العولمية، وتشابكات كل ذلك مع الحدود والتمايزات التي تشترطها القوى العالمية المهيمنة.

إذا كان مفهوم الهابيتوس ينكفأ تأسيسيا على ما يشبه "العقل العملي" أو "الحس العملي Sens Pratique"، بما هو نتاج لعملية تشريط اجتماعية متلاحقة، تصل في نهاية الأمر إلى بنا ء منطق موضوعي لعملية التشريط ذاتها، بما يجعل إعادة إنتاج شروط وجودنا الخاصة، تمنعنا من إدراك حقيقي واضح وموضوعي، فإن اتساق تكيف هذا الهابيتوس مع ديمومته ونموه، لايزال يحافظ على نفس سماته القائمة على الاستمرارية، والشمولية، والقدرة على التكيف والتحول، وهو ما يؤكد شموليته وتجذره مع معطيات لا تخرج البتة عن منطقه الداخلي، والذي يمارس أدواره في مختلف المواقف الاجتماعية، وفي مختلف قطاعات التكوينات الاجتماعية المتنافرة، على أساس إعلامي أو ثقافي محض.

***

د. مصطفى غلمان

 

الفقر والجوع هما موضوعان مترادفان يتعلقان بالظروف الاجتماعية والاقتصادية للأفراد في مجتمعٍ ما، فالفقر هو قلة سبل العيش، والمجاعة عبارة عن إرتفاع مستوى قلة سُبل العيش ليتحول إلى شح.

لو تأمّلنا ملياً في المجتمع الدولي لوجدنا أن هناك طبقة متخمة في كل شيء، في الطعام، في المال، في السلطة، في التحكّم بكافة الأمور بدون أي منافس لها.

وبنفس الوقت هناك طبقة فقيرةٌ وجائعة، لا تتحكّم حتّى في أبسط أمور معيشتها.

ولو تأمّلنا وتعمّقنا أكثر لوجدنا أن المسافة ما بين الطبقة الأولى والطبقة الثانية لوجدناها شاسعة جداً، وما دامت المشاعر الإنسانية مهجورة وميتة، فإن هذه المسافة ستزداد يوماً بعد يوم إلى أن تصل كالمسافة بيننا وبين السماء.

إذا استفاقت طبقة المتخمين وأدركت الفارق بينها وبين طبقات المجتمع الأخرى، قد يتقلّص الفارق، لكنها ما دامت تتحكّم بكل شيء، وأنها استثنائية في كل مجال، حينها أعتقد أن الدرب سيقود إلى الفوضى لأن ثورة الفقراء والجياع لا تُهزم، ولا تستطيع أي جهةٍ أن تُواجهها، وإذا اندلعت ستأكل الأخضر واليابس.

في زمن الوفرة والترف والبذخ تنتشر دعوات لمعالجة أزمة وقضية المجاعة في العالم.

صحيح تحدث المجاعة في جانبٍ آخر بسبب الحروب مثلما حدث في جنوب السودان سابقاً، وكما يحدث الآن في فلسطين المحتلة من خلال جرائم حرب الإبادة التي تشهدها.

كما تحدث المجاعة الآنية بسبب الكوارث المناخية المدمّرة.

وكما هو معلوم أنه مع انتشار المجاعة تنتشر الأمراض وتبدأ خسارة الأرواح.

مع الأسف أن المُصابون بالتخمة يُفرطون في تناول الطعام دون أي شعورٍ بالجوع، وتعترف هذه الشريحة بأنهم يتناولون أيضاً وجبات خفيفة أو متوسطة بين وجباتهم الرئيسية، فهذا الإفراط في تناول الطعام لدرجة التخمة هو تصرف غير مسؤول، ويفتقد الوعي في التصرف، فهؤلاء البشر لا يدركون فعلاً حجم الكميات التي يستهلكونها لمفردهم، وكثيرون تكون حاجتهم للإفراط في تناول الطعام هو بالليل، وقد يكون السبب هو مشاعر معينة، أو إحباط ما، أو فراغ يتم ملؤه بتناول الطعام.

وفي هذه الحالة يكون تناول الطعام المفرط هو علاج لمشاعرٍ ما، وهو بالمحصّلة الإفراط العاطفي للطعام.

كما علينا أن نأخذ بعين الإعتبار أن العالم ومنذ 15 عاماً ولج في منحى أهداف التنمية المستدامة، وكانت هذه الأهداف بمثابة قراراً أُمميّاً وضع أهدافاً عديدة يتفرع منها أكثر من 160 بند، ووُضعت بمجملها أمام مسؤولية المجتمع الدولي بدوله وأنظمته، وأمام مؤسسات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية المعنية بهذا المجال، ولعل من أهم الأهداف التي وردت هي : القضاء على الفقر - القضاء على الجوع - تأمين الصحة الجيدة والرفاهية - التعليم الراقي - المساواة بين الجنسين - النظافة الصحية والمياه النقية - نمو الاقتصاد - العمل اللائق - الإبداع والابتكار - سلامة البيئة التحتية - البيئة والمجال المناخي - السلام والعدالة - المؤسسات المتينة والمبدعة.

وكان من المفروض أن الدول الكبرى والغنية تساهم بشكلٍ فاعل وجدي لمسار هذا البرنامج. ولكن تبيّن فيما بعد؟ ان السخاء كان كبيراً، لكنه ظلّ اسما فقط وعلى الورق، بعيداً عن المستوى العملي أو التطبيقي، باستثناء عدة دول لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، حتّى الولايات المتحدة بقيت مساهمتها غامضة، إن كان من ناحية المبلغ أو من ناحية موعد السداد. وتبيّن فيما بعد أيضاً أن العجز في هذا البرنامج بلغ حوالي 40 مليار دولار.

صحيح أن هناك بعض الدول قدمت للفقراء وللدول الفقيرة، لكن نسبة الفقر لم تشهد أي تراجع، بل تتزايد أكثر فأكثر.

أي نظامٍ مُعقّد يعتمد على القمع والهيمنة وبسط النفوذ، من الطبيعي أن يكون من نتائجه فقر وجوع، وهدف هكذا نظام هو الإساءة لكرامة المواطن وجعله يشعر بالضعف أو بالإحباط.

الإنسان من حقّه الطبيعي أن يحصل على الغذاء والضمان الاجتماعي والحق في الغذاء الكافي، وبسبب انعدام الأمن الغذائي وتفاقم عدم المساواة، وغياب العدالة والحريات، ملايين البشر يُعانون من انعدام الغذاء والفقر والجوع.

وبحسب برامج التنمية المستدامة لعام 2030 " سينخفض الفقر بشكل كبير بحلول عام 2030 "، ولكن من يتابع مجريات الأمور يرى أن الفقر والجوع لم يتراجعا رغم ما يصرح به من جهات عديدة من جهود تُبذل.

بل على العكس تماماً سنجد أنفسنا وبحلول عام 2030 أمام 275 مليون شخص إضافي لعدد من يُعانون الفقر والجوع الآن وعددهم 850 مليون إنسان.

وهذا يُؤكّد بأن استجابة العالم لمواجهة الفقر والجوع ليست طموحة، وليست فاعلة وفق المعطيات الميدانية.

لذلك أشار البنك الدولي في تقريره - اكتوبر 2024 - " إلى أن القضاء على الفقر كما هو مُحدد قد يستغرق أكثر من قرنٍ من الزمن، إذا استمر العمل على نفس الوتيرة البطيئة التي نشهدها اليوم ".

آخذين بعين الاعتبار أن الانتكاسات الخطيرة التي جاءت في هذا المجال تأثرت بتباطؤ النمو الاقتصادي وارتفاع الديون والصراع والهشاشة وتغير المناخ.

وهذا يؤكّد مرة؟ أخرى بأننا بحاجةٍ إلى برنامج جديد، لأن اسلوب العمل المعمول به لن ينجح في تحقيق الأهداف المرجوة.

ليس سراً أن نقول بأن الفقر والجوع هو ناتج سياسي.

تمتلك هولندا ما يُقارب مليون و600 ألف رأس من الأبقار، جعلتها من أقوى اقتصاديات العالم. لأنها حريصة على وضعها وعلى شعبها وعلى مكانتها وسيادتها، وخالية من الفساد والسطو ومن المتسلقين، وحرية وكرامة المواطن في المقام الأول.

تمتلك السودان بمفردها حوالي 45 مليون من الأبقار، وتمتلك الدول العربية في القارة الأفريقية حوالي 80 مليون رأس من الأبقار، إضافة إلى ملايين من الأغنام والجمال والجاموس والخيول، وتمتلك السودان والصومال ومصر وسورية والأردن والجزائر 225 مليون رأس من الأبقار والأغنام.

هذه الدول العربية تمتلك عشرات أضعاف ما تملكه هولندا، ولكن بلادنا العربية، الفساد متفشي، المواطن مهمش، المال العام مسروق لصالح مراكز القوى، السلطة هي ما يفكر به كبار المسؤولين، والصراع قائم عليها من عشرات السنين، مع الأسف السلطة هي في المقام الأول، أمّا السيادة وكرامة المواطن والعمل الراقي والتعليم الجيد والرعاية الصحية اللازمة والحريات والتداول السلمي للسلطة، هي أمور هامشية مكانها تحت أقدام السلطان، السلطان المنغمس بالتبعية العمياء التي تحميه من شعبه وتؤمّن له البقاء على الكرسي، ما دام مطيعاً ومنفذاً لما يُملى عليه.

فعلى الدول التي ترغب بمعالجة واقعها، وتأمين كرامة ومعيشة المواطن لديها، عليها الاعتماد الجاد على تغيير السياسة المعمول بها، وإعطاء المواطن وضعه الطبيعي، وإطلاق الحريات، وإغلاق المعتقلات، والعمل على التداول السلمي للسلطة، وتحقيق النمو الاقتصادي، وزيادة الاستثمار، وخلق فرص عمل وتنمية رأس المال البشري، وتطوير البنية التحتية، وتحسين القدرة على مواجهة الواقع، والصمود أمام المطبات، وزيادة التمويل من أجل التنمية، ليتم التحوّل بشكلٍ سلسٍ وطبيعي إلى اقتصاد أكثر شمولاً واستدامة وقدرة على البقاء.

وبذلك تتمكن هذه الدول من بتر ظاهرة الفقر والمجاعة، والحفاظ على كرامة المواطن، ليكون مُشاركاً فاعلاً في صناعة القرار السياسي والاقتصادي في البلاد.

***

د. أنور ساطع أصفري

تستكشف هذه المقالة مفهوم الاستبداد المستنير (Enlightened Despotism) كأنموذج تاريخي يمكن النظر إليه كحل محتمل للأزمات المعاصرة التي تواجه أوروبا. من خلال تحليل مبادئ هذا النمط من الحكم—المرتكزة إلى الإصلاحات التنويرية في القرن الثامن عشر—وعلاقته بفلسفات كل من آدم سميث  (Adam Smith)، وألكسيس دو توكفيل  (Alexis de Tocqueville

وكارل شميت (1888–1985) Carl Schmitt،  وميشيل فوكو  (Michel Foucault)، تتناول المقالة ما إذا كانت دروس الاستبداد المستنير تقدم رؤية لمواجهة انهيار الدولة، التفاوت الاقتصادي، والتفكك الاجتماعي في أوروبا اليوم.

هذه المقالة تتفاعل مع كتابات جورجيو أغامبين (Giorgio Agamben) بتصرف وفهم معدل عنه وتتساءل: لماذا هناك محاولات إحياء الملكيات في أوروبا وعودة قوى اليمين المحافظ إلى الواجهة السياسية؟ وهل هذا انعكاس لإرهاصات كونية أرهقتها طبيعة الديمقراطيات البرلمانية؟ علما أن الأروبيين يصفون دور البرلمانات أحيانًا ب "بيوتات الكلام". فهذه البرلمانات تستهلك الساعات والأيام والاسابيع في الكلام وكثيرًا ما تُظهر عجزًا عن اتخاذ قرارات حاسمة تمس القضايا الجوهرية التي تهم الناس في حياتهم اليومية. في المقابل، تُبرز الملكيات الخليجية نموذجًا متفردًا يستقطب الاهتمام العالمي، حيث تجمع بين الحزم في القيادة والعدالة الاجتماعية، مما يجعلها مثالًا كونياً جديرًا بالاقتداء. 

لقد كتبت مقالة بعنوان " الملكيات الحازمة العادلة: نموذج جيد للعالم؟" لكي أتحدث الى محبي جورجيو أغامبين أننا في دول الخليج العربي نعيش في أجواء الدولة المستقرة على عكس الدولة الأوربية المنهارة ففي هذا النموذج الخليجي، الذي يحقق التوازن بين تأمين احتياجات المواطنين وضمان الاستقرار الوطني، يعيد تعريف مفهوم الملكية الحديثة في سياق عالمي يتوق إلى أنظمة حاكمة قادرة على تقديم حلول عملية وفعالة. ولعل الرغبة المتزايدة في استلهام هذا النموذج تشير إلى إدراك متزايد بأن الملكيات الحازمة ذات الطابع التنويري قد تكون الخيار الأفضل لإدارة شؤون المجتمعات في زمن يشهد اضطرابًا سياسيًا واقتصاديًا على مستوى العالم.

أوروبا في بحث عن الحلول

تواجه أوروبا اليوم أزمة مستدامة تتجلى في ارتفاع معدلات التفاوت الاجتماعي، تآكل الطبقة الوسطى، وعدم الاستقرار الاقتصادي. أدت الإهمال في توفير الطاقة بأسعار معقولة والتسييس المتزايد للموارد إلى تفاقم هذه المشكلات، مما خلق حالة وصفها البعض بـ"منطقة استثناء مستدامة" (Liminal Zone). هذه الأزمات أدت إلى تزايد الإحباط من الأنظمة الديمقراطية التقليدية، ودعت البعض إلى البحث عن نماذج بديلة للحكم.

أحد هذه النماذج هو الاستبداد المستنير (Enlightened Despotism) Israel, J. I. 2006)  )،  وهو شكل من الحكم المطلق ظهر في أوروبا خلال القرن الثامن عشر، حيث نفذ الملوك إصلاحات مستوحاة من عصر التنوير لتعزيز دولهم مع الحفاظ على سيادتهم. تسعى هذه المقالة إلى إعادة تقييم هذا المفهوم، مع التركيز على صلته بالسياق الأوروبي الحديث من خلال عدسة أفكار كل من آدم سميث (1723–1790)، ألكسيس دو توكفيل  (1805–1859) ، وميشيل فوكو  (1926–1984).

تعريف الاستبداد المستنير

يشير مصطلح الاستبداد المستنير (Enlightened Despotism)، أو كما يُعرف بالفرنسية Despotisme éclairé، إلى نظام حكم ظهر في أوروبا في القرن الثامن عشر، حيث مارس الحكام سلطات مطلقة لتنفيذ إصلاحات تقدمية مستوحاة من أفكار التنويري

Israel, J. I. 2006

من بين أبرز هؤلاء الحكام:

- فريدريك الثاني البروسي (Frederick II of Prussia) (1712–1786).

- كاترين العظمى الروسية (Catherine the Great of Russia) (1729–1796).

- جوزيف الثاني النمساوي (Joseph II of Austria) (1741–1790).

ركز هؤلاء الحكام على إصلاحات إدارية، وتعزيز التسامح الديني، والتنمية الاقتصادية. ومع ذلك، لم يسعوا إلى إجراء تغييرات يمكن أن تقوض سلطاتهم أو تهدد النظام الاجتماعي القائم.

يلخص شعار جوزيف الثاني فلسفة الاستبداد المستنير: "كل شيء من أجل الشعب، ولكن لا شيء بمشاركة الشعب". في حين زعم هؤلاء الحكام أنهم يحكمون لصالح شعوبهم، بقي حكمهم استبداديًا في جوهره. لاحقًا، رأى الفيلسوف السياسي John Stuart Mil  (1806–1873) جون ستيوارت ميل (Mill, 1863)  أن الاستبداد قد يكون مبررًا في التعامل مع المجتمعات "غير المتحضرة"، بشرط أن يكون الهدف هو تحقيق التحسين.

إعادة النظر في الاستبداد المستنير في أوروبا المعاصرة

مع تزايد التفكك السياسي، صعود الشعبوية، وتصاعد الأزمات الاقتصادية في أوروبا، دعا البعض إلى الحكم المركزي القوي كوسيلة لتحقيق الاستقرار. تاريخيًا، نجح الاستبداد المستنير في معالجة الأزمات من خلال قيادة حاسمة ركزت على الإصلاحات البنيوية مثل تطوير الاقتصاد والتعليم.

في العصر الحديث، تظهر أوجه تشابه مع هذا النموذج في النقاشات حول التكنوقراطية (Technocracy)، حيث تُبرر القرارات السياسية بناءً على الخبرة العلمية بدلاً من الإرادة الشعبية. ومع ذلك، حذر ميشيل فوكو من أن هذه الأنظمة غالبًا ما تخفي نزعات سلطوية تحت ستار العقلانية والتقدم. 

آدم سميث: الأخلاقيات والسوق

يشكل آدم سميث مرجعية محورية في النقاش حول الحوكمة، خاصة في السياق الاقتصادي الأوروبي. وبينما يُعرف غالبًا بكتابه ثروة الأمم (The Wealth of Nations) (1776)  (Smith, 1776). فإن كتابه الأسبق نظرية العواطف الأخلاقية (The Theory of Moral Sentiments) (1759)    (Smith, 1759).  يقدم رؤى أخلاقية مهمة تتعلق بالسلوك البشري.

التعاطف والانسجام الاجتماعي

في كتابه نظرية العواطف الأخلاقية، شدد سميث على مفهوم "التعاطف" (Sympathy) كعنصر أساسي في العلاقات الإنسانية. يرى أن المجتمعات تتأسس على التفاهم المتبادل والمسؤولية الأخلاقية، وهي مبادئ يجب أن توجه الأنظمة الاقتصادية والسياسية. (Smith, 1759)

أخلاقيات السوق

في ثروة الأمم، أوضح سميث آليات السوق الحرة، لكنه حذر من الإفراط في الاعتماد على هذه النظم. انتقد الممارسات الاحتكارية مثل شركة الهند الشرقية (East India Company)، وحذر من سياسات "العلاج بالصدمة" (Shock Therapy) التي تركز على الكفاءة على حساب رفاهية الأفراد. فضل سميث التغيير التدريجي والسياسات التي تعوض المتضررين، وهو ما يتماشى مع الانتقادات المعاصرة لنهج اتخاذ القرارات السريع والتكنوقراطي. (Smith, 1776)

فوكو وتوكفيل: التحول التكنوقراطي

بينما ركز سميث على الأخلاقيات الاقتصادية، قدم كل من ميشيل فوكو وألكسيس دو توكفيل تحليلات نقدية للعواقب السياسية للحكم المركزي.

فوكو: الحوكمة والاستبداد

في ولادة البيوبوليتيك (The Birth of Biopolitics) (1979)، سلط فوكو الضوء على النزعات السلطوية في النظم التي تعتمد بشكل مفرط على "حقائق" علمية أو اقتصادية. تناول كيف استخدم الفيزوقراطيون (Physiocrats)، وهم اقتصاديون فرنسيون من القرن الثامن عشر، القوانين الطبيعية لتبرير الحكم الاستبدادي، مما أدى إلى تهميش المعارضة السياسية وتقويض الحريات الفردية.

توكفيل: الإصلاح والحرية

في النظام القديم والثورة (The Old Regime and the Revolution) (1856)، رأى توكفيل (Tocqueville, 1856) أن الثورة الفرنسية تأثرت بفكرة الاستبداد المستنير كما طرحها الفيزوقراطيون. أشار إلى أن الإصلاحات المفروضة "من الأعلى" فشلت في تمكين المواطنين، مما أدى إلى تركيز أكبر للسلطة (Tocqueville, 1856).

إعادة النظر في الاستبداد المستنير من خلال منظور كارل شميت 

مع تزايد الأزمات الأوروبية التي تهدد الأنظمة الديمقراطية التقليدية، يُعاد التفكير في الاستبداد المستنير ليس فقط كنموذج تاريخي، ولكن أيضًا كإطار معاصر لإدارة الأزمات. يظهر هنا بُعدٌ جديد يمكن إضافته إلى النقاش عبر أفكار كارل شميت حول السيادة وحالة الاستثناء، وهو ما يثري فهمنا لمفهوم الاستبداد المستنير.

كارل شميت والاستبداد المستنير: السيادة كأساس للاستقرار 

يجادل شميت بأن السيادة هي القدرة على اتخاذ القرار في لحظات الأزمات وحالات الاستثناء، حيث تصبح القوانين العامة عاجزة عن معالجة الظروف الطارئة. وفقًا لشميت، يتقاطع هذا المفهوم مع المبادئ الأساسية للاستبداد المستنير، الذي يركز على السلطة المطلقة المدفوعة برؤية إصلاحية تهدف إلى تعزيز الاستقرار والرفاهية العامة. 

شميت يرى أن حالة الاستثناء (State of Exception) هي أداة السيادة الحقيقية، وهي تتجاوز حدود القوانين العادية من أجل حماية النظام العام. هذا المفهوم يُذكرنا بفلسفة جوزيف الثاني: "كل شيء من أجل الشعب، ولكن لا شيء بمشاركة الشعب"، حيث يكون الهدف النهائي هو استدامة الدولة وإعادة بنائها في أوقات الأزمات.

السيادة مقابل الديمقراطية 

انتقد شميت النظم الليبرالية التي تتجنب الاعتراف بسلطة سيادية واضحة، معتبراً أن ذلك يضعف قدرتها على إدارة الأزمات. هذا التحدي يتماشى مع الانتقادات التي وُجهت للاستبداد المستنير، حيث ركز النقاد مثل ألكسيس دو توكفيل على عجز الإصلاحات التي تُفرض "من الأعلى" عن تحقيق المشاركة الفعالة للمواطنين. 

التحدي المعاصر: الكفاءة مقابل الحرية 

بينما يحذر فوكو من مخاطر النزعات السلطوية المستترة تحت ستار الكفاءة العلمية أو العقلانية، يقدم شميت بُعدًا إضافيًا يتضمن ضرورة اتخاذ قرارات حاسمة خلال الأزمات، حتى لو كانت هذه القرارات تتطلب تجاوز القوانين القائمة. هذه الرؤية تضيف عمقًا إلى النقاش حول إمكانية الاستبداد المستنير في تقديم حل للأزمات الأوروبية، حيث يمكن تصور نظام حكم يستمد شرعيته من كفاءته في إدارة الأزمات بدلاً من الالتزام التام بالمبادئ الديمقراطية. 

خلاصة الدمج بين شميت والاستبداد المستنير 

يمثل دمج أفكار كارل شميت في النقاش حول الاستبداد المستنير تطعيمًا نقديًا لفهمنا للعلاقة بين السلطة والإصلاح. من خلال التركيز على السيادة وحالة الاستثناء، يمكننا استكشاف آفاق جديدة للتعامل مع تحديات العصر الحالي. ومع ذلك، يبقى السؤال الأساسي: هل يمكن لهذه النماذج أن تُطبّق دون تهديد الحريات الأساسية؟ 

الدروس المستفادة من الاستبداد المستنير

يوفر الاستبداد المستنير دروسًا قيمة لمعالجة الأزمات الأوروبية المعاصرة، مع وجود بعض التحذيرات المهمة:

1. القيادة المركزية والكفاءة:

يوضح الاستبداد المستنير أهمية القيادة الحاسمة في تنفيذ الإصلاحات خلال الأزمات. ومع ذلك، فإن استبعاد المشاركة الشعبية قد يؤدي إلى فقدان الشرعية.

2. الأخلاقيات كأساس للحكم:

تؤكد أفكار سميث على ضرورة وضع الأخلاقيات والمسؤولية الاجتماعية في قلب السياسات العامة، خاصة عند معالجة عدم المساواة.

3. مخاطر التكنوقراطية السلطوية:

تشير انتقادات فوكو وتوكفيل إلى أهمية حماية الحريات الفردية ومنع تقليصها تحت مبررات الكفاءة والخبرة التقنية.

الخاتمة

تتطلب الأزمات الأوروبية الحالية إعادة التفكير في النماذج التقليدية للحكم. وبينما يوفر الاستبداد المستنير دروسًا حول التوازن بين السلطة والإصلاح، فإن قيوده—خاصة استبعاده للمشاركة الديمقراطية—يجب أن توجه التفكير المعاصر.

من خلال العودة إلى أعمال آدم سميث، كارل شميت، ميشيل فوكو، وألكسيس دو توكفيل، يمكننا فهم أفضل للتنقل بين الكفاءة والحرية لمعالجة انهيار الدولة وعدم المساواة الاجتماعية.

***

د. محمد الزكري

أنثروبولوجي بحريني

...................

المصادر

- الزكري، محمد. (2024، 26 نوفمبر). السيادة والاستبداد المستنير: منظور الألماني كارل شميت. صحيفة المثقف:

https://almothaqaf.org/qadaya/978633

- Foucault, M. (1979). The birth of biopolitics. Palgrave Macmillan

- Hofmann, H. (2002). Legitimacy and the state of exception. Cardozo Law Review, 21(1), 49–64

- Israel, J. I. (2006). Enlightenment contested: Philosophy, modernity, and the emancipation of man, 1670–1752. Oxford University Press

- Kahn, P. W. (2011). Political theology: Four new chapters on the concept of sovereignty. Columbia University Press

- Latour, B. (2005). Reassembling the social: An introduction to actor-network-theory. Oxford University Press

- Mill, J. S. (1863). On liberty. Longman, Roberts & Green

- Schmitt, C. (1921/2014). Dictatorship (M. Hoelzl & G. Ward, Trans.). Polity Press

- Schmitt, C. (1985). Political theology: Four chapters on the concept of sovereignty (G. Schwab, Trans.). MIT Press

- Smith, A. (1759). The theory of moral sentiments. A. Millar

- Smith, A. (1776). An inquiry into the nature and causes of the wealth of nations. W. Strahan & T. Cadell

- Tocqueville, A. (1856). The old regime and the revolution. Harper & Brothers

 

قبل أربعمائة سنة راهن الفيلسوف الفرنسي بليز باسكال على دور الدين في حياة الانسان، ففي رسالة نُشرت في حزيران 2023، لبابا الفاتيكان – بوب فرانسيس مدح فيها "الذهن اللامع والمحب للاستطلاع" للفيلسوف الفرنسي باسكال. اثناء حياة باسكال، وفي ذروة الثورة العلمية في القرن السابع عشر، حدث تقدم سريع في كل مجالات العلوم. الانجازات الاساسية لباسكال تضمنت اول جهاز حاسوب، واول نظام للنقل العام في العالم ومختلف النماذج الرياضية الاخرى.

في الحقيقة، يتسع تأثير باسكال في العالم الحديث كثيرا لدرجة ان كاتب السيرة جيمس كونور James A.connor كتب "انت لا تستطيع المشي عشرة أقدام في القرن الواحد والعشرين دون ان تجد شيئا أثّر فيه باسكال بطريقة او باخرى".

ما يهمنا حول باسكال هو انه كان من بين الأوائل الذين تصدّوا  لتأثيرات العلم الحديث على الايمان الديني وان تعقيدية باسكال العلمية لم تبعده عن كونه رجل متدين.

الدين في عصر العلم

كان باسكال واعيا بما يمكن ان يُعرف او لا يُعرف من خلال النموذج الرياضي والطريقة التجريبية والعقل ذاته. خلال تحقيقاته الفلسفية، هو وجد ان هناك حدودا صارمة لما نعرفه ككائنات بشرية. بالنسبة له، لا الطريقة العلمية ولا العقل يمكنهما عموما تعليم الافراد معنى الحياة او الطريقة الصحيحة للعيش. باسكال ايضا كتب حول الكيفية التي حاول بها الانسان تجنب التفكير بموته، ومدى جهله ومسؤوليته عن الخطأ. مع ذلك، هو ايضا اعتقد انه بالنسبة للناس لا شيء هناك اكثر أهمية من طبيعتهم الانسانية الحقيقية. طبقا له، بدون فهم منْ نحن، سيكون من الصعب فهم كيف يجب ان نعيش.

وفق رؤية باسكال، ان اكتساب المعرفة الذاتية كان مرحلة ضرورية في طريق ادراك حاجة المرء للعيش بهدف وايمان بشيء يتجاوز الذات.

دين باسكال

في الحقيقة، جادل باسكال ان الاعتقاد بوجود الله هو ضروري لسعادة الانسان. من بين جميع افكاره وانجازاته هو اشتهر برهانه الفلسفي pascal’s wager في ان الانسان يجب ان يراهن على وجود الله. هو كتب "اذا تربح، انت تربح كل شيء، واذا تخسر، انت لا تخسر اي شيء" . بكلمة اخرى، هو جادل، رغم ان المرء لا يستطيع ان يعرف بالتأكيد ما اذا كان الله موجودا ام لا، نحن سنكون أفضل عند الايمان بوجود الله بدلا من  بدونه.

نظر باسكال الى يسوع كوسيط لا يمكن الاستغناء عنه بين الله والبشر. هو اعتقد ان الكنيسة الكاثوليكية هي الدين الوحيد لتعليم الحقيقة حول طبيعة الانسان ولذلك فهي قدمت طريقا رائعا للسعادة.

تفضيل باسكال للكاثوليكية على الأديان الاخرى أثار سؤالا صعبا. لماذا يجب على كل شخص المراهنة على دين معين دون آخر؟ لقد ذهب بعض الباحثين مثل ريتشارد بوبكن الى حد وصف محاولات باسكال لتشويه سمعة الوثنية واليهودية والاسلام بانها محاولات "مبتذلة". 

يؤكد باسكال بانه مهما كان دين المرء، فان على كل الناس ان يختاروا بين الايمان في شيء يتجاوز ذواتهم او حياة بدون ايمان. لكن الحياة بدون ايمان هي ايضا خيار، وحسب رؤية باسكال ستكون رهانا سيئا.

على الكائن البشري المراهنة وتبنّي رؤية عالمية فيها كل شخص سيرغب بالمراهنة على حياته. يتبع ذلك، حسب باسكال، ان الانسان لا يمكنه تجنب الأمل والخوف: أمل في ان رهانه سيكون جيدا، وخوف بانه سوف لن يكون. في الحقيقة، الناس يدخلون يوميا في مراهنات لا تحصى – يذهبون الى محلات الخضار، يقودون السيارة، يركبون القطار – لكنهم عادة لا يفكرون فيها كمخاطرة. قراراتنا الكبيرة هي مخاطرة: مثلا، في اختيار موضوع معين في التعليم والعمل او الزواج، الناس يراهنون على تحقيق طموحاتهم . في رؤية باسكال، الناس يختارون الكيفية التي يعيشون بها والعقائد التي يؤمنون بها بدون ان يعرفوا حقا ما اذا كانت عقائدهم وقراراتهم صحيحة ام لا. نحن ببساطة لانعرف ولا نستطيع ان نعرف الكثير لنعيش بدون رهان.

عمل باسكال الرائع الذي لم يكتمل 

يعرض باسكال جداله للرهان في عمله العظيم "pensees" – "افكار". طوال هذا العمل، يؤكد باسكال على الحاجة للايمان، في ضوء استكشاف متعدد الأوجه للطبيعة البشرية بالاضافة الى تحقيق دقيق في حدود العقل والعلم والفلسفة. حجة باسكال المركزية في "افكار" للايمان بالله لا تعتمد على برهان لوجود الله. بالعكس، هو جادل ان وجود الله لا يمكن اثباته لأنه بالنسبة له، الله مختفي.

هو كتب ان " هناك ضوء كافي لأولئك الذين يرغبون فقط في ان يروا، وظلام كافي لذوي الميول المضادة"، لكن في النهاية لا تأكيد ممكن – ولذا فان الناس واجهوا خيارا. هو يرى، ان الايمان سيخلق فرقا بين التعاسة والسعادة الحقيقية. باسكال توفي وهو لازال شابا، لذا لم يستطيع تطوير آرائه الفلسفية في كتابه "افكار".

في الذكرى الأربعمئة لولادة باسكال، احدى طرق الاحتفاء به هي المخاطرة بالإيمان بشيء يتعدى أنفسنا وبما نستطيع معرفته، مثل هذا الايمان قد يعطينا فرصة لنعيش حياة أفضل.

***

حاتم حميد محسن

قبل الدخول المختصر لمنطق الفطرة السليمة أو ما يسمى نظرياً بـ(الحس السليم) وفلسفته، نقرأ عن هذا المصطلح في الاخبار ما يلي:

* يرى محللو الانتخابات الأمريكية ان فوز ترامب في الانتخابات جاء من خلال استخدامه منطق "الحس السليم common sense" في مخاطبة الجماهير الأمريكية، فقد تحدّث ترامب، منذ بداية ظهوره السياسي، عن «الحس السليم » الذي يخرقه الديمقراطيون بكل صفاقة حسب وصفه، أي تجاوزهم للمنطق الإنساني الأولي، الذي يمكن أن يُبنى عليه كل طرح حول الاقتصاد أو الوطن أو الهوية. فتراه يدعم (الزواج التقليدي) ويهاجم (المثلية) مؤكداً "ان الله لم يخلق سوى الرجال والنساء". فالأسرة برأيه تتكون من زوج ذكر وزوجة أنثى، وعلى هذا النحو يصف ترامب نفسه بأنه «مناصر للحياة» ويعارض، على نحو عام الإجهاض ...

ويبدو أن كثيرين، من كل الطبقات والأعراق والأجناس، مقتنعون مع ترامب ايضاً بضرورة العودة لـ "الحس السليم"

 وهذه الثغرة «الحس السليم» التي دخل منها ترامب إلى قلوب ملايين المواطنين التي جعلت منه نجماً لكثير من الأمريكيين وخاصة العمّال ومنخفضي الدخل، بمن فيهم كثير من ذوي الأصول اللاتينية، هي في الواقع أمر مثير للتساؤل فعلاً: فكيف يصبح هذا المليونير الأبيض، الرافض لتعميم التأمين الصحي، والمعادي للهجرة، نصيراً للطبقة العاملة، المتعددة ثقافياً بشدة في أمريكا؟

ربما كانت أهم عناصر «الحس السليم»، الذي ينادي به ترامب، تأكيده على أن الأولوية للعائلة، التي تعيش في وطن قوي، ويكسب معيلوها جيداً من عملهم، في ظل شروط تؤمن لهم المحافظة على قيمهم.

إنه في الواقع «الحلم الأمريكي»، الذي آمنت به فئات كثيرة من الطبقة العاملة، قبل غيرها، وعلى تعدد أصولها.

ذلك أن لا أحد يريد العيش في اقتصاد متهالك، وعائلات ممزّقة، ومع آباء عاطلين عن العمل، فقط لكي تعيش نخب المدن الكبرى جنونها غير المفهوم.

* ومن جانب أخر:

دعت وزيرة الداخلية البريطانية، إيفيت كوبر، الشرطة إلى استخدام "الحس السليم" عند تسجيل حوادث الكراهية غير الجنائية (NCHIs)، مشيرة إلى وجود تباين وارتباك بين الضباط في التعامل مع هذه الحوادث، لمراقبة ومعالجة قضايا معاداة السامية والإسلاموفوبيا، مشيرة إلى أن الحس السليم يمكن أن يساعد الشرطة في التعرف على الأماكن التي قد يتحول فيها التحيز إلى عنف.

فما هو المقصود بالفطرة السليمة؟

الفطرة السليمة أو الحس السليم هي في الواقع مجموعة من الإدراكات الحسية المشتركة التي توجه إرادتنا للقيام بفعل او الامتناع عنه.

ويذهب البعض الى إن (الحس السليم هو ما نعنيه عندما نريد أن نتحدث عن المعرفة التي نشاركها جميعا. أي ما نعتبره من الاستنتاجات الأساسية والواضحة، التي توصلنا إليها بشكل تلقائي تقريباً عند محاولة تحليل ما نعتبره).

اما موسوعة علم النفس الأمريكية فقد عرفته بأنه "هو القدرة على الفهم والحكم من خلال مفاهيم بديهية ومشتركة لا ينكرها أحـد"..

الحس السليم من وجهة نظر الفلاسفة:

تعود جذور فكرة الحس السليم الى أرسطو فقد أرجعها إلى قدرتنا نحن البشر على الإدارك بطريقة مماثلة تقريبا عند نفس المنبهات الحسية عندما تستهدف حواسنا.

وللتوضيح أقول إننا جميعاً نشعر شعوراً مشتركاً بالخطر حينما نركب مع سائق متهور، وندرك حتى دون أن يخبرنا أحد ان فتح باب الطائرة اثناء طيرانها يشكل خطراً كبيراً وكذلك الشعور بالخطر في حالة البرق والعواصف ....

وجميع بني البشر، حسب الفطرة السليمة، لديهم الرغبة في الزواج التقليدي وتكوين أسرة متماسكة وانجاب ابناء لطفاء ومحبوبين، مع الأمل في ان يكون لهم مستقبل زاهر ....

جميعنا نحب ان تكون شرفات منازلنا مطلة على النهر او شواطئ البحر لأنه يولد لدينا جميعاً ذات الشعور المنعش الجميل،

ولذلك ترى شركات الفنادق تستغل هذا الشعور تجارياً وتجعل اجور الغرف المطلة على البحر اعلى من الاطلالات الداخلية، ومن ذلك الإحساس المشترك عند تناول بعض الأطعمة والمشروبات مثل الشاي والقهوة.

وفي مجال القرارات المتعلقة بتوجهاتنا في الحياة والاعمال المهنية والسياسية تشارك الفطرة السليمة في اتخاد القرار منازعة العقل في ذلك في كثير من الأحيان، فقد يتولد لديك شعور بالخوف والتوجس من اتخاذ قرار معين رغم انه قد يبدو عقلانياً جداً، وعلى العكس فقد يتولد لديك شعور بالاطمئنان من قرار معين رغم انه لا يبدو عقلانياً من الناحية الظاهرية على الأقل.

وينصح الكثير من المفكرين والفلاسفة ورجال الدين بإتباع الفطرة السليمة.

وبالنسبة للفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت، كان الحس السليم هو الذي يعمل الجسر بين العقلانية واللامادية كونه يحكم الجسد والعالم المادي يتكون من جسم الإنسان وكل ما يحيط به في الزمان والمكان.

*الفطرة في الشريعة الإسلامية

الإسلام دين الفطرة السليمة، والفطرة: (هي الخلقة التي خلق الله عباده عليها وجعلهم مفطورين عليها وعلى محبة الخير وإيثاره وكراهية الشـر ودفعه، وفطرهم حنفاء مستعدين لقبول الخير والإخلاص لله والتقرب إليه)

 قال تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الروم: 30]

ويذهب احد الباحثين الى القول الى ان (الفطرة السليمة تمنع (أصحاب الحس السليم) من قبول الشاذ والخاطئ مهما كان مألوفا أو سائدا بين الناس.. فقد رفض النبي إبراهيم عليه السلام عبادة الأصنام رغم أنه لم يكن يعرف (قبل نبوءته) بديلا لها. بفضل حسه السليم كما جاء في قوله تعالى:

 "فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ"

ومن ذلك الحديث الذي رواه النواس بن سمعان أن النبي صلى الله عليه وآله قال: "الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ"..

وكذلك ما جاء عن أبي ثعلبة الخشني أنه قَالَ: "الْبِرُّ مَا سَكَنَتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ وَالْإِثْمُ مَا لَمْ تَسْكُنْ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَلَمْ يَطْمَئِنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ وَإِنْ أَفْتَاكَ الْمُفْتُونَ".

ولذلك قيل ان: إسلام المتشددين يقتل الفطرة السليمة!

القانون والفطرة السليمة

ويرى بعض فقهاء القانون وفلاسفته ان اغلب القوانين بنيت على الفطرة السليمة التي تحب العدل والإنصاف وتكره الظلم والإستبداد. وتدين القتل والسرقة والاغتصاب والفساد والاعتداء على الحقوق الجماعية والفردية، ومصادرة الحريات العامة والأنظمة الشمولية والدكتاتورية التي لا يوجد فيها دستور سوى دستور مزاج الحاكم وتقلباته العاطفية.

وبناء على الفطرة السليمة يرى كثير من الفقهاء انه في حالة عدم وجود قانون ينظم حالة معينة او وجد ولكن أُختلف في تفسيره فينبغي في مثل هذه الأحوال اللجوء الى الفطرة السليمة لتحديد السلوك او التفسير الذي ينبغي اتخاذه.

ففي بلجيكيا مثلاً واثناء ازمة كورونا طلبت خدمة التنقل العامة الفيدرالية من السائقين استخدام الحس السليم فيما يتعلق بتطبيق القانون الجديد الخاص بفسح المجال لمركبات الطوارئ على الطرق والذي تركه البرلمان دون توضيح نهائي.

***

فارس حامد عبد الكريم

بغداد في 2024/11/21

 

Sovereignty and Enlightened Despotism:

The Perspective of the German Carl Schmitt

حجرة أساس

تتناول هذه المقالة العلاقة بين مفهوم السيادة (Sovereignty) في فكر المفكر الألماني كارل شميت (1888–1985) Carl Schmitt ومبادئ الاستبداد المستنير (1) (Enlightened Despotism)، من خلال استكشاف دور السلطة السيادية (Sovereignty) في إدارة الأزمات والحفاظ على النظام القانوني. في هذا السياق، يجادل شميت بأن السيادة — أي القدرة على اتخاذ القرار بشأن حالة

الاستثناء (وهو الذي اصطك هذا المصطلح وتابعه عليه الايطالي جورجيو أغامبين)  state of exception (Ausnahmezustand) — تُعتبر عنصرًا أساسيًا لا غنى عنه في أي نظام قانوني أو سياسي (2 ). حالة الاستثناء هي مفهوم قدمه شميت في عشرينيات القرن الماضي، ويشبه حالة الطوارئ (القانون العسكري)، ولكنه يعتمد على قدرة السيادة على تجاوز حكم القانون من أجل تحقيق المصلحة العامة. وتعتبر هذه الرؤية انعكاسًا لِمبادئ الاستبداد المستنير، حيث يحتفظ الحاكم المطلق بالسلطة الاستثنائية لتحقيق الإصلاحات وضمان استقرار الدولة.

لا يمكن فحص أفكار شميت بمعزل عن السياق التاريخي الذي عاش فيه. فقد عايشت ألمانيا مرحلة الإمبراطورية ثم شهدت الحرب العالمية الأولى، تلاها صعود هتلر كنتيجة لأول انتخابات ديمقراطية، ثم الحرب العالمية الثانية. هذا السياق التاريخي العاصف كان له تأثير كبير على تطوير نظرية شميت حول السيادة وحالة الاستثناء، حيث سعى إلى تفسير كيفية تكامل السلطة المطلقة في أوقات الأزمات مع الحفاظ على النظام القانوني. في مؤلفه "الديكتاتورية" (1921) و"علم اللاهوت السياسي" (1922)، يوضح شميت كيف يمكن للدولة أن تستخدم حالة الاستثناء لتجاوز الحدود القانونية في حالات الطوارئ، مما يسلط الضوء على الدور المحوري للسلطة السيادية في الحفاظ على استقرار الدولة وضمان استمرار النظام الاجتماعي والسياسي في أوقات الأزمات (3).

السيادة (Sovereignty) وأهميتها في النظرية القانونية

وفقًا لشميت، لا يمكن للنظم الدستورية الليبرالية الحديثة، التي تتجنب الاعتراف بسلطة سيادية محددة، أن تنجح في الحفاظ على نظام قانوني فعّال. يرى شميت أن القوانين العامة لا يمكن تطبيقها على أرض الواقع إلا بوجود سلطة سيادية قادرة على اتخاذ قرارات حاسمة بشأن كيفية تفسيرها وتطبيقها في الحالات الفردية، خاصة عندما تكون القواعد القانونية غير واضحة أو تتطلب تفسيرًا إضافيًا (Schmitt, 1985, pp. 5-35)..

السيادة والقانون في حالات الطوارئ

يرى شميت أن أي نظام قانوني يعتمد على وجود حالة من الطبيعية الاجتماعية، حيث تُطبق القوانين في سياق منظم. ولكن في حالات الطوارئ – أو ما يُطلق عليه  state of exception – تصبح القوانين غير قادرة على توفير حلول فعّالة. في هذه الحالات، يتطلب النظام وجود سلطة سيادية تتخذ القرار بشأن تعليق القوانين مؤقتًا واستعادة النظام باستخدام وسائل استثنائية (Schmitt, 1985, pp. 12-13).

وفي هذا السياق، يُعرّف شميت السيادة بشكل شهير: "السيادي هو من يقرر في حالة الاستثناء" (Schmitt, 1985, p. 5). يعني ذلك أن أي نظام قانوني يعتمد في جوهره على قرار سيادي وليس على قاعدة قانونية (Schmitt, 1985, pp. 10-13).

العلاقة بين السيادة والاستبداد المستنير

 1- السلطة المركزية في الأزمات:

يشترك Enlightened Despotism  مع مفهوم شميت للسيادة في أن كلاهما يمنح الحاكم أو السلطة المركزية القدرة على اتخاذ قرارات استثنائية خلال الأزمات. كما يعكس الحاكم المستنير نموذج السيادي الذي يعلق القوانين عند الضرورة لاستعادة النظام (Schmitt, 1985, pp. 12-13).

2- الإصلاحات لصالح الصالح العام:

مثلما يرى شميت أن السيادة تهدف إلى الحفاظ على استقرار النظام، يركز Enlightened Despotism على تنفيذ إصلاحات تخدم الصالح العام. يتخذ الحكام المستنيرون قرارات استثنائية بزعم تحقيق رفاهية شعوبهم، وهو ما يعكس منطق السيادة في إدارة الأزمات (Schmitt, 1985, pp. 29-35).

3.  تعريف الهوية السياسية

يجادل شميت بأن قرارات السيادي تشكل هوية الدولة السياسية، وهو ما يُشابه الدور الذي لعبه الحكام المستنيرون في تشكيل بنى سياسية واجتماعية جديدة من خلال إصلاحاتهم الجذرية (Schmitt, 1985, p. 13).

التوتر بين السيادة والديمقراطية

رغم أن شميت يعترف بأن الديمقراطية هي المبدأ الوحيد للشرعية في العصر الحديث، فإنه يجادل بأن السيادة تبقى مركزية لها. في الديمقراطيات، تُمارَس القرارات السيادية من خلال  constituent power  للشعب. ومع ذلك، يشير شميت إلى أن الديمقراطية لا تلغي الحاجة إلى سيادي يقرر في حالات الطوارئ (Schmitt, 1985, pp. 50-52).

في هذا السياق، طوّر شميت مفهوم  sovereign dictatorship – حيث يُمارس السيادي السلطة باسم الشعب ولكن بوسائل استثنائية. يعكس هذا المفهوم الجمع بين السلطة المركزية والشرعية العامة، مما يجعل السيادة متوافقة مع المبادئ الديمقراطية، خاصة عند تأسيس نظام دستوري جديد (Schmitt, 1921/2014, pp. 112-131).

المطاف الأخير

يوضح تحليل شميت للسيادة كيف أن السلطة المركزية ضرورية في حالات الطوارئ للحفاظ على استقرار النظام القانوني. يُظهر هذا التحليل تشابهًا قويًا مع Enlightened Despotism، حيث يتحمل الحاكم مسؤولية اتخاذ قرارات استثنائية لضمان استمرارية الدولة. ومع ذلك، يبقى التحدي في تحقيق توازن بين هذه السلطة الاستثنائية والمبادئ الديمقراطية لضمان أن تكون السيادة أداة لتحقيق الصالح العام وليس مدخلًا للسلطوية غير المقيدة.

***

د. محمد الزكري

........................

المراجع

Israel, J. I. (2006). Enlightenment contested: Philosophy, modernity, and the emancipation of man, 1670–1752. Oxford University Press.

Kahn, P. W. (2011). Political theology: Four new chapters on the concept of sovereignty. Columbia University Press.

Latour, B. (2005). Reassembling the social: An introduction to actor-network-theory. Oxford University Press.

Schmitt, C. (1985). Political theology: Four chapters on the concept of sovereignty (G. Schwab, Trans.). MIT Press.

Schmitt, C. (1921/2014). Dictatorship (M. Hoelzl & G. Ward, Trans.). Polity Press.

Hofmann, H. (2002). Legitimacy and the state of exception. Cardozo Law Review, 21(1), 49–64.

هوامش

 (1) أفضل كتاب حديث ناقش جذور قضية الاستبداد المستنير هو كتاب:

Enlightenment Contested: Philosophy, Modernity, and the Emancipation of Man, 1670–1752 (2006(

من تأليف جوناثان إيرلاند إسرائيل (Jonathan I. Israel). هذا الكتاب يتناول فترة التنوير الأوروبي ويعرض تطور الفكر الفلسفي والاجتماعي في تلك الحقبة. يركز إسرائيل في عمله على التوترات بين تيارين رئيسيين: "التنوير الراديكالي" الذي أسسه الفيلسوف سبينوزا، والذي يعتمد على المادية العقلانية، و"التنوير المعتدل" الذي يرى فيه إيمانه بالرب نقطة ضعف، مما جعله يبتعد عن المواقف الثورية التي طرحها الراديكاليون. إسرائيل، الذي كان أستاذًا في كلية الدراسات التاريخية بمعهد الدراسات المتقدمة في برينستون، نيوجيرسي، ويُعدّ أحد أبرز المؤرخين في مجال التنوير الأوروبي، يقارن بين هذين التيارين الفكريين في أوروبا ويبين تأثيرهما العميق على تطور الفكر السياسي والاجتماعي، بما في ذلك الجدل حول الاستبداد المستنير.

(2) أول ظهور لمصطلح حالة الاستبداد في كتابات كارل شميت من خلال كتابية التاليين

Carl Schmitt, Die Diktatur. Von den Anfängen des modernen Souveränitätsgedankens bis zum proletarischen Klassenkampf, 1921.

Carl Schmitt, Politische Theologie. Vier Kapitel zur Lehre von der Souveränität, 1922.

(3)  أفكار برونو لاتور حول "الحكم العقلاني" ودور السلطة المركزية يمكن العثور عليه في عمله الذي يتناول تقاطع العلم والسياسة والمجتمع. المصدر الرئيسي الذي يتناول هذه المواضيع هو: لاتور، ب. (2005). إعادة تجميع الاجتماعي: مقدمة لنظرية الشبكة الفاعلة. جامعة أكسفورد.

في هذا العمل، يناقش لاتور كيف أن الحوكمة الحديثة، خاصة في سياق العلم والتكنولوجيا، تتطلب نهجًا عقلانيًا لإدارة المجتمع. وعلى الرغم من أنه لا يدعو إلى الاستبداد أو الحكم الاستبدادي، إلا أن تحليله غالبًا ما يستعرض الحاجة إلى السيطرة المركزية ودور الخبرة في تنظيم واستقرار المجتمعات المعقدة. وهو ينتقد العمليات الديمقراطية البسيطة ويؤكد على أهمية المعرفة العلمية في صنع السياسات. 

تسعى الدول للإصلاح وتحسين الحالة التنموية والمعيشية لمواطنيها وتلافي مواطن خلل قديمة، وتسعى للنهوض الرامي إلى التقدم والتطور، وغالباً ما تكون الدول ممثلة بالقائمين بالفعل التطور يصادقه في ذلك، وإن كان حسب ظروف الدول ومواردها وإمكاناتها، ولكن سرعان ما تأتي العقبات المتعددة الأوجه لتقف في وجهها، فتمنعها من ذلك أي تحقيق تقدم فعلي على أرض الواقع، ولعل أهم الأسباب في ذلك طبقة المنافقين السياسيين الذين يملئون الدنيا بخطاباتهم الهادفة لتحقيق مصالحهم الشخصية من الأعلى أو أصحاب القرارات الذين يقعون فريسة كذبهم وإخداعهم، وهنا يقع المجتمع في ورطة النفاق السياسي، فالمنافقين السياسيين لا يختلفون عن المنافقين دينياً الذين دخلوا الدين تستراً لتحقيق مكاسب ضيقة، وكذالك شركائهم في السياسة فهم في سبيل تحقيق طموحاتهم ومصالحهم مستعدين للعق وتقبيل حذاء صاحب القرار، وهذا كله على حساب الصادقين من الأذكياء وأصحاب المشاريع السياسية لتطوير وارتقاء الدول

النفاق السياسي فهو من أخطر أشكال النفاق الديني فإن ضرره لا يمس حياة المواطن العادي بل يمس المجتمع كله، والسؤال هنا من ينافق من؟ وهل الحكومة في حاجة إلى من ينافقه رغم احتكاره لمصادر القوة القهرية والمادية؟ نعم الحكومة في حاجة لمن ينافقه: وهذا سببه ضعف الحكومة، وعدم رضا الناس، وعدم قبولهم، وذلك لضعف أداء نظام الحكومي، وعدم قدرته على تحقيق التكافؤ في عدالة إعادة توزيع الثروة، والتصدي لمشاكل المجتمع من فقر وبطالة، ومثل هذه النظم تخصص موارد الدولة لدعم المنافقين والتي تأتي على حساب مشاريع التنمية المجتمعية والاقتصادية. ولدعم حكومي يساهم في خلق دائرة وشرائح كثيرة ممن لهم استعداد للنفاق، من أمثال من يسعون إلى الثروة واحتكارها، والذين من أجل إرضاء الحاكم وعدم غضبه يحجبون عنه الحقيقة وما يدور بين ثنايا المجتمع، ما يدفع بالسفينة إلى الغرق بمن فيها الحاكم والمحكوم، وهناك بعض الإعلاميين الذين يسخرون أقلامهم للدفاع عن أنظمة حكم لها الفضل في تعيينهم وسيطرتهم، لا يخلو النفاق من شريحة المثقفين والمفكرين والأكاديميين الذين قد يسعون لمنصب سياسي أو وزاري. كل هذه الشرائح تلتقي في حلقة مشتركة مع الحكومة وهي الرغبة في التملك والسيطرة والجاه والنفوذ، والمحصلة النهائية لهذا التفاعل هي خلق ودعم واستمرارية أنظمة حكم غير مكترثة برضا شعوبها بقدر رضا شريحة صغيرة من المنافقين الذين يسعون إلى مصالح ضيقة على حساب المصلحة العامة، هذه الظاهرة هي التي تقف وراء كل الأمراض والعلل التي تعاني منها مجتمعاتنا، من تشدد وتطرف، وكراهية وخوف، وقهر وتخلف وغياب للحقوق والحريات. البديل فرض مبادئ العدالة والمساواة وسيادة القانون، و تنمية المجتمع وقواه ومؤسساته، وفرز هذه الشريحة من المنافقين ونبذهم في مجتمعهم، والتوعية والتنشئة السليمة بإعادة النظر في طبيعة ودور مؤسسات التنشئة، وإبراز القيم للدين الإسلامي، وإعادة بناء منظومة القيم وغرس فكرة المواطنة المسؤولة, يظل المنافق شخصية متلونه لا تعرف الثبات على المبادي, قال عليه افضل الصلاة والسلام (إن أخوف ما خاف عليكم بعدي منافق عليم اللسان) (عليم اللسان يمتلك المنطق ومنزوع المبادئ تحركه مصالحة الشخصية، للاسف نحن في زمان يمرح فيه كثير من المنافقين والمتسلقين

ان ما يزيد من خطر النفاق والمنافقين الذين يمارسون النفاق وبالتالي الكذب السياسي هو عندما يقوم الكاتب او المؤرخ او الصحافي بقلب الحقائق وتزويرها، وتضليل العامة، هنا تأتي الصدمة بالغة لأنها تكون ممن يجب أن يكونوا أمناء على الحقيقة ونقل الحقائق على اختلافها بكل شفافية وموضوعية.، فنرى ان من يشجع على منتجي النفاق في وقتننا موزعون على بعض الكتاب صحفيين ومذيعي تليفزيون وإذاعة وسياسيين وفنانين وكبار الموظفين وأصحاب أموال وأعمال ممن يرجون من نفاقهم نفعا أو يتقون به شرا, حيث يقومون «التطبيل» ويصنعون تلالا من المبالغات السياسية التى تؤدى إلى فقدان المصطلحات معناها الحقيقى، بفعل ابتذالها مثل «عهد الإنجازات المهمة» و«الرئاسة التاريخية» إلا أنها عبارات فارغة، تزيد من جعل الواقع أكثر قبحا وتقززا، والمبالغات المصاحبة للنفاق تؤدى إلى عكس ما يريده المسؤول الممدوح، أو المتزلف إليه. فما يقوله المنافق التاريخى لعمدة او وزير او رئيس اليوم، سبق أن قاله لسابقه الأمس،وهكذا أضحى النفاق السياسي المشكل الأساسي والعضال الذي يتهدد ويشكل خطورة على الاستقرار في الحياة السياسية لدى العديد من النخب السياسية. فمن يساعد على هذا التراجع في الفكر السياسي؟ ومن له منفعة في الدفع والنفخ في بالونات سياسية سرعان ما ستتفرقع بعد علوها في الهواء, وحسب الدراسات النظرية والتطبيقية اتبت أن الكثيرين من السياسيين في الدول في ممارستهم السياسية وتعاطيهم معها على الكذب وخيانة الامانة والوعود الكاذبة، ليست للسياسة ذنب في ان السياسيين منافقين، ليست السياسة هي من دفعتهم الى دلك بل هي غاياتهم وتحقيق مصالحهم الشخصية التي استخدموا السياسة من اجل الوصول اليها فكانوا سياسيين منافقين، فلكي تكون سياسي ناجح يجب ان تحترف النفاق وتعرف كيف تنافق.

النفاق السياسي له ما يبرره في واقعنا الاجتماعي، ومن ثم لا غرابة في شيوع القيم الانتهازية والوصولية والشخصية النفعية وأساليب الخداع والمكر والكذب والمراوغة والتذبذب في المواقف والتناقض في الادعاء بين القول والفعل والممارسة واحلالها محل القيم النبيلة والصدق والامانة والثقة والوفاء بالعهود وروح المسؤولية والالتزام وخدمة الصالح العام الوطني

ونتساءل هل يصل قليلو الخبرة إلى مواقع ومناصب لا يستحقونها بسبب الحظوة لدى المسؤول؟ وهل يشكل تفشي النفاق الاجتماعي خطراً على عمل المؤسسات وسير الحياة للفرد والمجتمع؟ وهل صحيح أن المنافق أصبح يتبوأ أعلى المراتب؟ وما أثر المنافق على حقوق الآخرين وزملاء العمل؟ وما الفرق بين النفاق والمجاملة؟ هل أصبح النفاق ضرورة لا بد منها؟ هل هناك تسميات أخرى للنفاق لتجميله بين الناس؟ كيف يمكن التخلص من النفاق والمنافقين؟ ولكن ألا يشكو كل ضعيف في عمله من أنه مظلوم؟ أليس هناك قوانين تحكم العمل والترقيات؟ حالة التزلف والنقاق اصبحت حالة طبيعية قي العراق , هناك من الموظفين من يغش كثيرا؛ تجده لا يتقي الله في وظيفته، يزوغ ويهمل، ويحصُل على راتب يشوبه الكثير من الحرام، يطلب من زملائه التوقيع بالحضور مع أنه لا يكون حاضرا في دائرة عمله، ومنهم من تجدهم لا يرقبون في الله إلاً ولا ذمة.. لا يهمهم أَمن حلال يأكلون أم في حرام يغوصون، يظنون أنها شطارة وفهلوة وذكاء، وهؤلاء والله بهذه الطريقة يغشون أنفسهم، ويضحكون على أنفسهم قبل كونهم يغشون الله وأصحاب مؤسساتهم ودوائر أعمالهم. وتساءل فهد: أيّ بركة ستحل على رواتب المنافقين والواصلين لمواقعهم من دون حق؟ وبأي وجه سيقابلون ربهم عند الحساب؟ ألا يعلمون أن من نبَت لحمه من حرام فالنار أولى به؟ يتحالفون مع الشيطان فيصلون به إلى حلبة من الصراع.

لا شيء يجعلك تزهد في الكرسي أكثر من تلك الجوقة التي تحيط به وتُتقن لعبة التزلف والوصولية.. أولئك الذين يظهرون فجأة وكأنهم خرجوا من العدم، ليقدموا أنفسهم كأصدقاء ناصحين وموظفين مخلصين وأعمدة داعمة، يتنافسون على الحضور الفارغ، ويتبارون في نسج عبارات المديح، يزينون القرارات مهما كانت، ويتفننون في تضخيم الإنجازات وتجاهل الإخفاقات، غير مبالين بالنتائج بقدر اهتمامهم بحجز مكان تحت ظل الكرسي وصاحبه

هذه الجوقة ليست ظاهرة جديدة، بل هي جزء من تاريخ المناصب عبر العصور.. تراهم دائمًا في الكواليس، يتغيرون بتغير الأسماء والمواقع، لكن أساليبهم تظل ثابتة؛ المدح المفرط، تقديم الولاء المصطنع، واختلاق قصص النجاح المبالغ فيها، لأن صاحب الكرسي بالنسبة لهم ليس سوى بوابة لتحقيق مصالحهم الخاصة، بغض النظر عن المصلحة العامة, حضورهم لا يقتصر على المناصب العليا فقط، بل يمتد إلى كل مستوى من مستويات المسؤولية، في مواقع العمل الصغيرة، حيث نرى الموظفين الذين يحاصرون مديرهم بإطراء مستمر، يمنحونه شعورًا زائفًا بالكمال، مما يؤدي إلى قرارات عشوائية تضر الفريق بأكمله، وهنا تكمن خطورة هذا السلوك، إذ يتحول التزلف إلى عامل يهدم بيئة العمل ويُضعف الإنتاجية، ويشوه العلاقات داخل المؤسسة؛ إذ يُسهم في خلق بيئة تنافسية غير صحية بين الموظفين، تغيب فيها روح الفريق، وتُزرع الأحقاد نتيجة التميز المبني على التملق بدلًا من الإنجاز.. ومع مرور الوقت، تتآكل الثقة بين أعضاء الفريق، ويتحول الهدف الجماعي إلى صراعات فردية, خطورة هذه الجوقة ليست فقط في المديح المفرط، بل في قدرتها على محاربة الأصوات الناقدة، الأصوات التي ربما تحمل الحلول الحقيقية للمشكلات، حيث تسعى جاهدة لأن تعيق تدفق الأفكار النقدية التي قد تحمل حلولًا مبتكرة

وهذا يجعل المسؤول يعيش في عزلة، أسيرًا لصور وهمية تُرسم أمامه.. والأسوأ من ذلك، أن هذه العزلة تخلق فجوة بينه وبين فريقه الحقيقي، وتُكرس ثقافة التزلف على حساب الإبداع والعمل الجاد، مما يؤدي إلى فقدان الثقة، وبالتالي تدهور الأداء العام، وإهدار الموارد في تنفيذ قرارات غير مدروسة تُبنى على أوهام المديح وأنغام التطبيل

ولمواجهة هذه الجوقة، لا بد للمسؤول من بناء أدوات مؤسسية تشجع على الصراحة والشفافية، مثل عقد اجتماعات دورية تتيح للجميع التعبير عن آرائهم بحرية، وإنشاء قنوات علنية وسرية لتلقي النقد والملاحظات دون خوف من العواقب، بالإضافة إلى تدريب القادة على تقبل النقد والتعامل معه بشكل إيجابي,, المسؤول الناجح هو الذي يُميّز بين النصيحة الصادقة والتزلف الماكر، ويفتح الأبواب للنقد البناء، ويُشجع على الحوار الصادق، لأنه يدرك أن الأثر الحقيقي والباقي يُقاس بعدد الإنجازات الحقيقية، لا بعدد المصفقين و"المرتوتين".

***

نهاد الحديثي

ليس خافيا الدور التخريبي الذي مارسه الموظفون الدينيون، وهم رجال وظفتهم السلطة أو هم نذروا أنفسهم لخدمتها لأسباب كثيرة يطول شرحها، والبستهم أو لبسوا باختيارهم أو بدفع من جهات سرية خفية ثيابا دينية كهنوتية، وبدأوا يمارسون لعبتهم التاريخية في تغيير مناهج السماء على هواهم دونما رادع، فقد تسبب هؤلاء في كل الأديان التي انتسبوا إليها في إحداث ردة فعل عكسية لدى الناس، دفعت بعضهم للخروج من الدين واحتقاره، ذلك لأن الإنسان منذ أن يبلغ العاشرة من العمر فصاعدا يصاب حينما يرى انحرافا فيمن يُفترض به أن يكون القدوة، برد فعل تكيفي تجاهه، بفعل تكرار التجربة وتكرار النتائج، وهو ما أطلق عليه عالم النفس الروسي إيفان بافلوف تسمية "المنعكس الشرطي"، فالإنسان بذلك العمر ـ على سبيل المثال ـ لا يلمس النار متعمدا بسبب الأذى الذي تسببه له، وقد تعلم ذلك من خلال التجربة واللسعات التي أصيب بها في كل مرة حاول فيها لمس النار، بمعنى أن التجربة هي التي خلقت في يقينه منظومة الحماية أو المنعكس الشرطي.

وقد خاض الفيلسوف ميشال أونفراي واحدة من تلك التجارب ذات المنعكس الشرطي بعد أن بعثه والداه وهو في عمر العاشرة إلى "مبيت كاثوليكي" بقي فيه لحين بلوغه الرابعة عشرة، وقد تحدث عن هذه السنوات الأربعة في كتاب له بعنوان "قوة الوجود"، ووصفها بالسنوات الجهنمية القاسية، لأنها كانت ظرفا صعبا بالنسبة إليه وإلى زملائه بسبب أفعال وسلوك الكهنة المستبدين؛ الذين كانوا لا يخجلون من استغلال نفوذهم التسلطي لاغتصاب طلابهم، وممارسة الجنس معهم، وبالنتيجة ترك الدين والكنيسة، وألحد بسبب تلك التجربة، بل وظف إمكاناته العلمية لفضح تلك المناهج والترويج للضد منها بعد أن أطلق عليها تسمية "الخرافات الرسمية" بأنواعها: الدينية والسياسية والأخلاقية والفلسفية، لأنها وفق قناعاته تعمل على تشجيع وحث الإنسان، بل وتدفعه عنوة لينسى العالم بكل جماله النقي، ويغفل عن الاستمتاع به. والذي أراه أن أونفراي لو لم يمر بتلك التجربة القاسية التي أجبره الكهنة على خوضها ما كان ليوظف كل قدراته الفكرية لمحاربة هذه المضامين الحياتية التي يراها بعضهم سامية أو مقدسة.!

وليس الاستغلال الجنسي وحده يتسبب في إحداث المنعكسات الشرطية، فكل عمل كهنوتي خارج سياقات إرادة السماء هو محفز للانعكاس، ويعطي نتائج ضررها وخيم ومدمر، لا على الدين وحده، بل على المجتمع كله، وللأسف مرت جميع مدارسنا الإسلامية التي لا تملك سلطة اختيار من يلبس اللباس الديني، ويتحدث نيابة عن الله تعالى بمثل هذه التجربة من حيث التأثير لا من حيث الممارسة. فالكهنة (المصنعون) أساءوا للعقيدة بسبب أفكارهم المنحرفة والشيطانية؛ التي تتهيب السلطات السياسية والقضائية من الوقوف بوجهها إما خوفا على المناصب أو لكي لا تتهم بأنها معادية للدين او تتهم بأنها طائفية منحازة لفئة دون أخرى.

وإذا ما عجزت السلطات القضائية والسياسية عن أداء دورها، وهي تبدو عاجزة بالتأكيد، بدلالة انتشار التخريب تحت مسميات (معممة)، فإن رجل العلم والأكاديمي المتخصص والباحث الجاد ورجل الدين المتنور الحقيقي لهم قدرة خلق الاستجابة المناعية في الإنسان، وتوجيهه للحد من حالة التضاد الفكري التي تعاني منها مجتمعاتنا اليوم، ولاسيما بعد أن فتح الانترنيت والقنوات الفضائية الباب واسعا أمام انتشار الأفكار المنحرفة دونما رقيب، وعجزت المؤسسات التعليمية عن أداء رسالتها الإنسانية بسبب المنافسة.

إن الكثير من الكهنة يمتطون اليوم ظهور الفضائيات المأجورة ليؤلبوا اتباعهم من خلال التحريف والتزوير والدس والكذب والتدليس على مسلمين (مدارس ومذاهب) آخرين لمجرد أنهم يختلفون معهم في بعض مباني العقيدة الثانوية، في الوقت الذي يحابون فيه العدو، ويتناغمون مع تطلعاته، ويتغافلون عن جرائمه، بل ويمنعون الناس من التصدي له، مثلما يحدث اليوم مع أهلنا في غزة الصامدة ولبنان البطلة واليمن الثائرة، وهذا وحده كاف لتعريتهم وفضحهم وتبيان أثر دورهم التخريبي على الدين والمجتمع، ويحملنا مسؤولية التصدي لهذا الفكر المنحرف بكل السبل المتاحة ودون هوادة قبل أن يستشري الشر ويعم البلاد والعباد.

***

الدكتور صالح الطائي

التعليم العالي اصبح نموذجا بارزا على سياسات التمييز وعدم المساواة التي اتبعتها الحكومات المتتالية في العراق. تعدد قنوات القبول، مثل ما يعرف بقناة "الموازي" والتي اعلن التعليم قبل بضعة ايام عن بدء تسجيل الطلبة المقبولين من خلالها، هو مثال واضح على هذا التمييز، حيث يقبل من خلال هذه "القناة" الطلاب في الجامعات الحكومية المجانية اذا كانوا يدفعون رسوما. تخيل انك حصلت على مقعد في جامعة حكومية مجانية بناء على نتائج امتحان البكالوريا، ثم تجد بجانبك طالبا غير مستحق حصل على مقعده بعد دفع الرسوم، او بعبارة اخرى، بعد رشوة الجامعة ليتم قبوله.

السؤال هو: كيف يسمح لطالب بالحصول على مقعد دراسي لا يستحقه في كلية طبية مجانية بعد ان يدفع رسوم دراسته؟ وما هو الفرق بين هذه الكلية والكلية الاهلية؟ الا يمكن ان تكون هذه وسيلة اخرى لانتهاك اسس العدالة الاجتماعية في القبول؟ الا يمكن ان تكون هذه طريقة اخرى لابتزاز الطلاب ومنحهم مقاعد في كليات لا يستحقونها وفقا لمعدلاتهم؟ اليس من واجب الدولة ووزارة التعليم العالي بشكل خاص منع الابتزاز او الاستغلال المالي للطلاب وضمان المساواة في القبول وعدم التمييز وتقديم الافضلية في القبول بطرق او قنوات غير عادلة كقناة ذوي الشهداء والطلبة النخبة والوقفين والوافدين، بالاضافة لقناة الموازي للقبول الخاص؟

ان نظام القبول الجامعي الحالي، القائم على وجود قنوات مختلفة للقبول، يعكس عمق ازمة انعدام المساواة التي يعاني منها قطاع التعليم العالي. قنوات القبول التي تمنح افضلية في القبول استنادا لعوامل خارجة عن شروط القبول المعتادة تمثل ظلم صارخ يساهم في تهديم قيمة التعليم الجامعي.

ان الحل لهذه الازمة لا يكمن في القاء اللوم على الافراد بقدر ما يكمن في اصلاح النظام ككل. يجب على الحكومة ان تتخذ اجراءات حاسمة لمنع التمييز في القبول في الجامعات الحكومية، وان تعمل على بناء نظام قبول عادل وشفاف يعتمد على الكفاءة والاستحقاق. كما يجب على المجتمع المدني والطلاب ان يشاركوا في هذه الجهود وان يطالبوا بحقهم في تعليم عالي عادل ومجاني.

***

محمد الربيعي

بروفسور متمرس ومستشار، جامعة دبلن

 

اذن مر تاريخ المجتمعية اليدوية على الكائن البشري بدون ان تعي المادة الحيه حقيقة ومنطوى ماهي  عنصر  وخلية وجوده وتشكله،  ومع ذلك  ورغم الحاصل اليوم من انقلاب  نوعي في الاشتراطات الوجودية المجتمعية، فقد جرى التصرف قصورا على اساس ان العقل المتاح  مؤهل،  للاحاطة بالمستجد  بلا اي شك، فعومل على انه القادر على ادراك منطويات الانقلابيه الالية بداهة،  بحيث لم يظهر وقتها والى الساعه،  مامن شانه الدلالة على الرغبة في التوقف امام ما يمكن ان يكون غير ظاهر، وليس متوفرا التعرف عليه في لحظته، بانتظار السياقات والتداعيات واجمالي المسار الالي غير العادي والاستثنائي بكل المقاييس.

ومن الواضح بلا لبس ان التناقضية المركبه كانت هي المتغلبه وقتها،  وكمثال فان اصحاب ومن اسسوا ل"علم الاجتماع" لم يسالوا وهم يقرون قصورية العقل البشري في الماضي الطويل اليدوي لهذه الجهه، عن مستجدات هذه الناحية الاساسية المتوقعه في الوعي، وكيف يمكن للعقل القاصر على المدى المنقضي ان ينقلب فجاة ليتحول الى القدرة على اختراق ما هو فائق ومختلف نوعا، مع ان الانقلاب الراهن لم يحصل عقليا بل ماديا على مستوى الوسائل الانتاجية، هكذا تعتبر الاله  وكانها حاضرة كسبب لتخلص العقل من قصوريته التاريخيه، لا على صعيد بعينه، بل واستعمل مثل هذا  الفهم الاقرب للاحتيالي، لاعتبار النقلة الاليه بحد ذاتها نقلة عقلية، عزز الركون اليها ما قد حصل في حينه من منجز عقلي مقارنه بما قبل، ومايعود الى الطور اليدوي المنقضي  ومجمل منجزه الادنى.

لم يات على البال بان العقل السابق على الانقلاب الالي هو "عقل يدوي"، في حين ان العقل الحالي لم يصبح بعد "عقلا آليا"، بمعنى المتطابق مع الاشتراطات الانقلابيه النوعية الراهنه، مايحتاج الى زمن من التفاعلية، ومن الاختبار واحتمال التقلبات، والمحاولة والخطا، ومن تطور العقل بضوء التفاعلية، كما كان حصل من قبل مع بدايات تبلور الظاهرة المجتمعية اليدوية، واجمالي مغامرتها الكبرى وعيا، قبل ان تستقر بمرور القرون ملامح وحدود الوعي المتاح المطابق للحظة البدئية التاسيسية.

هذا ويبقى العنصر الشديد الاهمية ضمن المشهد المختل الانف، العجز عن ربط منطويات الماضي واحتمالاته وماقد يكون حاضرا ويبقى مستمرا بانتظار اجمالي متحققات المسار المجتمعي الشامل، وهنا على سبيل المثال يحضر امامنا مثال ما قد اعتبره صاحب النظرية المادية التاريخيه بمثابة "عود على بدء" من "الشيوعية البدائية" الى " الشيوعية العليا المكتمله" بحيث يصير التاريخ وحركته ومساره هو تحقيق لمالم يكن بالامكان تحققه عند الابتداء، والصورة المشار اليها دالة بغض النظر عن توهميتها، لارتكازها للازدواج " الطبقي" بدل المجتمعي الرافديني المابين نهريني، حيث يفترض ومن قبيل اللازم وجوبا القول باللاارضوية المنتهية الى اللاارضوية، تبدا اولا في ارض سومر غير متوفرة على اسباب التحقق الواقعي ماديا وادراكيا، الى ان تتوفر الشروط مع انتهاء صلاحية المجتمعية الارضوية، بناء على مفاعيل الانقلاب الالي، ومايذهب اليه حكما بعد حقبة  التوهمية الافتتاحية للطورالمستجد  كما تقرره اوربا الارضوية، الاعلى ديناميات اصطراعيه ضمن نمطيتها.

ناحية اخرى لا يجب ان تغفل بهذه المناسبه، هي ما يمكن ان نطلق عليه التوافق النمطي الانتاجي، وهنا نصبح امام موضوعه جديره بالبحث جوهرها الواجب الاثبات صلة المجتمعية الارضوية باليدوية، بما يجعل الموضع الذي ظهرت فيه الاله خارج الارتقاء الى مستوى الانقلاب الالي ومقتضياته، في حين تنتمي المجتمعية اللاارضوية ابتداء الى الطور الالي ومنطوياته، وماهو موجود لكي يتمخض عنه، فالمجتمعية اللاارضوية توجد ابتداء قاصرة وغير قابلة للتحقق لافتقادها للوسيلة المادية ما فوق اليدوية، فضلا عن الادراكية العقلية التحولية، وهي تظل بحال تفاعل انتظاري لحين وقوع الانتقال الالي، ووقتها ندخل زمن المجتمعية اللاارضوية، في حين تاخذ المجتمعية الارضوية بالتراجع وجودا الى ان تفقد اسباب الاستمرار، وكما غلبت الارضوية وسادت وظلت هي  النموذج على حساب اللاارضوية ابان الطور اليدوي، تبدا الاشتراطات الحالية الالية بقلب المعادلة لصالح اللاارضوية والمجتمعية العقلية مكان الحاجاتيه الجسدية.

هذا لا يعني ان المجتمعية الارضوية لاتتاثر بحضور الاله التي تدفع الاليات المجتمعية  مسرعه اياها الى اقصى حد، مايدفع العقل الى الوثوب حتى ضمن ممكناته من دون الخروج عن حدوده،  وما يسمح به نوعه، فتظل المنجزات الكبرى ارضوية في الجوهر، وكامثلة انجازية اشتثنائية من نوع وثبة دارون العقلية، فان نظرية النشوء والارتقاء تظل محكومه الى الجسدية، فلا ينتبه  من ارسى اسسها الى كون الارتقاء عقلي وليس جسديا، رغم انه هو نفسه يقر بان العضو الجسدي بلغ قمة ترقيه النهائية، في وقت يستمر العقل منطقيا بالتطور، وبالعموم فان نفي الازدواج في البنيه البشرية يظل لهذه الجهه حاسما ومدعاة تكريس للجسدية، مع الاعتراف الشكلي بدور العقل بعد وثبته الاخيرة  مع الانتصاب على قائمتين واستعمال اليدين، والشي نفسه يتكرر مع منظر الانقلابية الطبقية الذي يعجز قصورا عن رؤية ان اكتشاف الصراع الطبقي قد جاء اليوم في لحظة انتهاء مفعول الطبقات التي هي بالاحرى نتاج الطور اليدوي من التاريخ المجتمعي، وان دخول عنصر الالة مضافا الى البيئة قد غير كليا ديناميات التشكل المجتمعي الاول، ومنه  وفي مقدمه، الطبقي، وحتى انشتاين الذي يولي اهتماما بمسالة السرعة والكتله، يعجز عن رؤية احتمالية انتهاء الملموسات مع الانتقال الى المجتمعية العقلية وانتهاء زمن الجسدية اليدوية، مايجعل من مجهوده  ومنجزه الارضوي العبقري بلا قيمه حين يظهر في اللحظة  التي يكون فيها النموذج او الصيغة الارضوية الجسدية من المجتمعية على وشك المغادرة،  تاركا المجال لنقيضه  اللامادي اللاكتلوي اللازمنوي المغيب على مر القرون اليدوية قصورا.

عند هذه الحدود تتوقف الوثبة الارضوية الاليه وحداثتها الكبرى بصفتها قفزة يدوية محسنه ومتقدمه، في الوقت الذي تصير فيه هي والاله مادة تشكلية جديده، ومسار تاريخ هو التاريخ الآلي الذاهب الى الاكتمال تشكلا بالتجربة والتفاعل الاصطراعي، بعدما تاخذ الاوليات التاسيسية الانتقالية الحداثية مع الزمن وفي مجرى التفاعل الشامل كونيا، بالتراجع والتعثر مفتقدة الفعالية الافتتاحية المصنعية، وصولا الى التأزم الذروه مع بلوغ الاله ضمن تدرجاتها نوعا وفعالية، من "المصنعية"، الى" التكنولوجية الانتاجية" الحالية، الى "التكنولوجيا العليا العقلية"، وقت يحل التفارق بين وسيلة الانتاج والانتاجية الارضية الجسدية، لتحل محلها ضرورة الانتقال الى الانتاجية العقلية، اللاغية للانتاجية الجسدية، الامر الذي يوجب وقتها حضور اللاارضوية  ادراكا وكينونة، لتحل محل الارضوية، انطلاقا من ارض اللاارضوية الاولى ذهابا الى العالم ككل.

ـ يتبع ـ

***

عبد الأمير الركابي

 

منذ تأسيس كثير من دول الشرق الأوسط خاصة تلك التي أُسّست نتيجة اتفاقية سايكس بيكو وخرائطها المفروضة بمبضع بريطاني فرنسي تركي، والأنظمة التي تكوّنت على إثرها عانت وما تزال تعاني من عقدة مركّبة بين هوية الدولة وأزمة نُخَبِها السياسية والثقافية ومفهوم المواطنة والانتماء، ومن أبرز ظواهرها التغييرات الدموية في الأنظمة السياسية التي حكمتها منذ منتصف القرن الماضي وحتى يومنا هذا بسبب محاولات التفرُّد بالسلطة وفرض النظام الشمولي سواء أكان قومياً أو دينياً أو مذهبياً، وعلى مختلف الأنظمة التي كانت تصف نفسها به بين اشتراكية أو قومية يسارية او يمينية أو دينية، مما وضع النخب الثقافية والعلمية في موضع ذهول وحيرة وإحباط وإحراج وصل حدّ المهزلة، وأدى إلى تشرذم وانقسام حادّ بين تلك النخب حتى يومنا هذا، خاصة بعد أن اكتسحتها عاصفة ما سُمّي بـ (الربيع العربي) أو تلك التي أسقطت باحتلالها من قبل دول أجنبية، كشفت عوراتها وإماطة اللثام عن الكم الهائل من الإذلال لشعوبها وتخديرها بشعاراتٍ كاذبةٍ تمّ تمريرُها من خلال أجهزة إعلام اختزلت الأوطان بأشخاص وأحزاب، مما جعل تلك الدول والأنظمة تتساقط خلال أيام قليلة، بل وتشاع فيها الفوضى وعمليات النهب والسلب للمال العالم أينما وُجِد.

لقد عانت النُّخَب الثقافية والفنية والعلمية من تحديات كبيرة إبان حكم تلك الأنظمة الاستبدادية، ولأسباب كثيرة تتعلّق بطغيان واستبداد الانظمة الحاكمة ولطبيعة المجتمعات البدوية والزراعية والعشائرية جعلها ترتبط بشكل أو بآخر، حالها حال بقية الشرائح في المجتمع بالنظام ورموزه على خلفية تراكمات موروثة بذاكرة فكرية مرتبطة بالنظم الاجتماعية وتركيباتها القروية والقبلية ورموزها، حتى ظنّ المثقف أن النظام الحاكم هو النظام المخّلِص والمنقذ الأوحد للأمة أو الشعب ممّا فيها من انكسارات وهزائم، وراح قلمه أو حنجرته أو فرشاته أو ريشته تكتبُ وترسمُ، وتغنّي، وتعزفُ على أوتار تمجيده، وهو يعتقد أي هذا المثقف مهما كان صنفه إنما يمجد فنه وحريته وشعبه الذي اختصره في شخص القائد أو الزعيم، متوهّماً أنه سيحقق كلَّ الأمنيات، وفي الجهة الأخرى كانت هناك أيضاً مجاميع من المثقفين والعلماء تضمها سجون رهيبة وأخرى تم تصفيتها أو هاجرت، وتحمّلت كل مآسي ذلك الرحيل القسري لأنها كانت ترفض، وتعارض ذلك النظام، بينما انعزل آخرون إلى زوايا بعيدة عن الأضواء لدرجة أنّهم استبدلوا مهنَهُم وإبداعاتهم بأشغالٍ وأعمال أخرى لا علاقة لها بالثقافة وعوالمها وبعيدة عن الأضواء ودوائر التأثير!؟

وبين الولاء بسبب الخوف والرفض وما آل إليه أصحابُه، نتذكّر بألمٍ شديدٍ تلك الجموع من المثقفين العرب وغيرهم من كل الاختصاصات والاتجاهات في الأدب والفن والفكر والقضاء والرياضة والعلم، الذين كانوا يتهافتون إلى قصور الزعيم وغيره من النرجسيين القادة في مهرجانات ومناسبات يقدّمون فيها خدماتهم مقابل ما كانوا يحصلون عليه من أجور وهدايا مجزية نقدية أو عينية حالهم حال أيّ شاعر من شعراء البلاط ووعاظ السلاطين.

بعيداً عن التعميم، فقد أيّدت تلك الأنظمة ورموزها مجموعات أخرى خشية الملاحقة وقطع الأرزاق، وكثير منهم كان يؤدّي عملاً وظيفياً، وهم في غالبيتهم غير سياسيين، ويعملون كأيِّ موظف في شركة أو مؤسسة دونما استغلال او إساءة لأحد، يقابلهم قسم آخر أبت أنفسهم، وتسامت، ورفضت التنازل قيد أنملة عن مبادئها، وارتضت التهميش والملاحقة والاعتقال أو الهجرة والرحيل والاغتراب، وسواء أكانت هذه المجاميع قلة أو كثرة إلا أنها فعلاً تستحقُّ تسميتها بالمناضلين والمحاربين الأشداء الأنقياء في عزّة النفس والتضحية وسمُوّ المبادئ، وبين أولئك الموظفين والمناضلين كانت هناك وما زالت مجموعات تؤمن فعلاً بقيادة وأحقية النظام ورموزه على خلفية أيديولوجية أو عقائدية بأن من يحكمهم منقذون ومخلصون ورموز الأمة ومحرروها، منطلقين من ايمانهم بهذه الأراء، وقد دفعوا هم أيضا ثمناً باهظاً بسببها بعد سقوط تلك الأنظمة.

والسؤال المؤلم اليوم في معظم بلداننا أن القسمين الرافض والراضي من المؤمنين حقاً تعرّضوا، ويتعرّضون للاضطهاد والحرمان كما يحصل اليوم لمئات المثقفين والأدباء والفنانين وأساتذة الجامعات والعلماء لمجرّد أنهم آمنوا بشعارات تلك الحقبة وتعاونوا مع أنظمتها بشكلٍ أو بآخرَ دون أن يمسُّوا شعرةً من رأس مواطن!

وبعد أكثر من عقدين على تلك التغييرات الدموية للأنظمة يبقى ذلك السؤال المقلق ما إذا كانت النظم الديمقراطية البديلة اليوم ستمنح فسحةً لأصحاب الرأي من غير المسؤولين عن أي جرائم او استغلال للسلطة خاصة وان الكثير منهم أدرك الحقيقة بعد أن أميط اللثام عن سوء تلك الأنظمة التي أيدوها، وآمنوا بطروحاتها، وتنتهي حقبة الانتقام الأسود وشماعة (كنتَ مع النظام، ولا مكانَ لك اليوم) التي أصبحت تلاحق حتى الأبناء والأحفاد!؟

***

كفاح محمود

(بين النثر الأدبي في صدر الإسلام والشريف الرضي)!

مَن يقرأ كتاب «نهج البلاغة»، لـ(الشريف الرضي، -406هـ= 1015م)- في غير تنقُّص لمقام (عليٍّ) العالي، صُحبةً وبلاغة، ولا بغلوٍّ فيه، اعتقادًا في خوارقيَّةٍ ميَّزته عن مجايليه من الصحابة، بل رفعتْه أحيانًا كثيرة عن الرسول نفسه، وعن البشَر كافَّة- يُدرِك أنَّ «نهج البلاغة» أشبه بكلام معتزلة العصر العبَّاسي، منه بخطابة الناس في الصدر الأوَّل من الإسلام، أو كلام ذلك الرعيل الأوَّل، الذين خَبِرنا كلامهم، وأساليب خطابتهم، وأنماط تعابيرهم، من خلال خطابة النبيِّ، وصحابته، بل من خلال خطابة عليٍّ نفسه في ما نُسِب إليه من ذلك، كخُطبته يوم أن أراد (عُمَر) الخروج إلى العَجَم المتحشدين بـ(نهاوند).

هكذا استهلَّ بنا (ذو القُروح) إزعاجه المعتاد بأفكاره المشاكسة. قلتُ:

ـ بعيدًا عن التنظير، هاتوا برهانكم!

ـ برهاننا؟ خذ، على سبيل المثال، هذا النصَّ:

«فمَن وَصَفَ اللهَ سبحانه، فقد قَرَنَه، ومَن قَرَنَه، فقد ثَنَّاه، ومَن ثَنَّاه، فقد جزَّأه، ومَن جزَّأه، فقد جَهِلَه، ومَن أشار إليه، فقد حَدَّه، ومَن حَدَّه، فقد عَدَّه، ومَن قال: «فِيمَ؟»، فقد ضَمَّنَه، ومَن قال: «عَلامَ؟»، فقد أَخْلَى مِنه...».

ونحو هذا، ممَّا يُشبِه كلام المترسِّلين العبَّاسيِّين، كما يُشبِه من بعض الوجوه، كلام المتصوِّفة، لدَى (النِّفَّري، -354هـ= 965م) وأضرابه.

ثمَّ قُل لي: أيُّ جمالٍ بلاغيٍّ في هذا التحذلق البارد، والتمنطق الفارغ، والرطانة التي كان يتباهى بها الكتبة والمترسِّلون، منذ (عبد الحميد الكاتب، -132هـ= 749م) وقواعده في نظم الرسائل، بجُمَلها القِصار، المتكئة على المعادلات الصوتيِّة، والمحسِّنات اللفظيَّة، والتلاعب بالمفردات؟!

وأخبرني بعدئذٍ: ما علاقة هذا بالنثر في صدر الإسلام والخطابة وأساليبها إذ ذاك؟!

ـ ما سبب هذا الخلط؟

ـ الخائضون في هذا لا صلة لهم غالبًا بالأدب العربي، ولا بتطوُّر النثر الأدبي، ولا بفِقه الخِطاب الثقافي، ولا قِبَل لهم بالتفريق بين جاهليِّه وإسلاميِّه وأُمويِّه وعبَّاسيِّه. وإنَّما هم يَطربون للألفاظ، في ذاتها، وينتشون للبديع، من حيث هو، ويُهوَّسون بالنسج الأسلوبي، فوق هوسهم الأصلي بالرَّجُل المنسوب إليه الكلام، وبالأسطوريَّة البطوليَّة التي تلفُّه في مخيالهم الشعبي، وسِيَر «الحكواتيَّة» الشعبيَّة التي ما تنفك تأخذ بألبابهم وتلابيبهم. ومن ثَمَّ يغدو كلُّ خِطابٍ مجلجلٍ ببطلهم جديرًا، وإنْ كُتِب البارحة! وإنَّما مثلهم في ذلك كمَن يَنسب كلَّ شِعرٍ جزلٍ مجهول القائل- وإنْ لم يجهله سِوَى ناسبه نفسه- إلى (أبي الطيِّب المتنبِّي)، وستجد من ذلك اليوم عشرات الأبيات على مواقع «الإنترنت»، منسوبة إلى المتنبِّي، لا علاقة لها بشِعره.

ـ ما أشبه الليلة بالبارحة، إذن! مثل ماذا؟

ـ كالبيت المشوَّه المتداول:

لا تحـسبوا رَقـصي بينكُـمْ طَـرَبًا  :::  فالطَّير يَرقُصُ مذبوحًا مِنَ الأَلَمِ

ـ الله!

ـ الله... يهديك! لا تستفزني بتهليلك للزيف وترويج الأكاذيب! ثمَّ البيت مكسور الوزن أصلًا، صوابه: «لا تحسبوا أنَّ رقصي...». وبعضهم يضيف: «مِن شِدَّة الأَلَمِ»، ليزيد الشِّدة في الزعم بمتنبئيَّة البيت الفارهة شِدَّة!

ـ رجاءً، لا تخرج بنا عن الموضوع، يا (جاحظ) العصر والأوان!

ـ ما قصدتُه أنَّ هذه آية معاصرة على آيات الكذب البلاغي التي ورثناها عن تراثنا. فالعَرَب المعاصرون يمارسون، عبر وسائل التواصل، هوايات أجدادهم في انتحال النصوص ونَحْلِها إلى غير أهلها، فما أشبه ليلتهم ببارحتهم، كما قلتَ! حتى لقد أصبح (المتنبِّي) مسخًا لكثرة ما يُنسَب إليه من هراء؛ فكلُّ من أعجبه بيت سخيف، نسبَه إلى المتنبِّي. مع أنَّ ديوان المتنبِّي متاحٌ على شبكة «الإنترنت»، لو كان هؤلاء يقرؤون أو يتحرَّون الصدق في ما يقولون. وهكذا، فمَن لم يعرف الشاعر، قال: «قال المتنبي: ...»! على أنَّه قد ينافسه لدَى كَذَبة الرواية هؤلاء (امرؤ القيس)، أو (عنترة)، وأضرابهما من المشاهير.

ـ رجاءً، لا تخرج بنا عن الموضوع، يا (جاحظ) زمانك! وهاتِ الزُّبدة!

ـ الزُّبدة: أنه من المعروف في تاريخ النثر الأدبي العَرَبي أنَّ ذلك الطابع من اللفاظيَّات الطاغية على أسلوب «نهج البلاغة» هو ما صار وباءً أسلوبيًّا منذ عصور الهوس البديعي إلى بعض أيَّامنا وكتَّابنا وشعرائنا، من حُواة الجناس والطباق، يشعبذون بهما على خواء المعاني، أو على معانٍ لا ترقى إلى ما حُمِّلت به من زخرف القول. حتى لقد جاء، من جرَّاء ذلك الهوس، أن وضع (صلاح الدِّين الصَّفدي، -746هـ= 1345م)، خلال تلك الحقبة الجناسيَّة من تاريخنا، كتابًا تحت عنوان «جِنان الجناس في عِلم البديع»، جُنونًا بالجناس والتجنيس. ولك أن تضع هنا تحت مفردتَي «جِنان» و«عِلم» خطوطًا عريضة؛ فهما تغنيان في العنوان عن قراءة الكتاب، الذي اكتنز حشوُه بالجناس، أسلوبًا وتنظيرًا. وهل أنتج ذلك الجنون أتفه من معلَّقات (ابن الفارض، -632هـ= 1235م)- قدَّس الله هذيانه البديعي- أو أبرد منها أو أسمج، من مثل مطوَّلته:

سائق الأظعانِ يَطوي البِيْدَ طَيْ  :::  مُنْعِمًا عَرِّجْ على كُثْبَانِ طَيْ؟

ـ الله!

ـ الله... يصلح ذوقك! في تلك الشُّمحوطة المملَّة يظل (ابن الفارض) يدور في حفرة معنى واحد، متلاعبًا بالألفاظ والحروف، لا أكثر! ففاق بذلك كهنة العصر الجاهلي في سجعهم الوظيفي بمراحل ضوئيَّة، بحيث يحقُّ أن يُسمَّى هذا النظم (نظم الكهان المتصوفة) في الإسلام، على طريقة (سجع الكهان) قبل الإسلام. وهو إذ يتساءل، مثلًا:

أيُّ شيءٍ مُبْرِدٌ حَرًّا شَوَى  :::  للشَّوَى حَشْوَ حَشَائي أيُّ شي؟

فلا إجابة، سِوَى أنَّ ما شَوَى حَشْوَ حشاه هو هذا البديع المتكلَّف، الذي بلغ به إلى أن تُصبح بعض أبياته كعبارات المُعاياة لتحدِّي: مَن ذا يستطيع تكرارها دون أن يقع في عثرة لسان! ومَن لم يُصدِّق، فالتحدِّي أن يحاول تكرار بيته هذا مرتين أو ثلاث مرَّات، بحروفه الحلقية المتوالية (ح، خ، هـ):

أَنْحَلَتْ جِسمي نُحُوْلًا، خَصْرُها  :::  منهُ حالٍ؛ فهو أبهَى حُلَّتَي

ـ الله!

ـ اللهم لا تؤاخذنا بما فعل البديع فينا! كرِّره بلا خطأ، ولك مني ما شئت! وما كان ليجد شيئًا يبرِّد حَرَّ حشاه، سِوَى ذلك الانتحار البديعي باسم الشِّعر، الذي كان يتواجد به أمام قُرَّائه بتلك الصورة المزرية، مصغِّرًا قوافيه، بل مصغِّرًا الشِّعر كُلَّه بطبيعته ووظيفته! بَيْدَ أنَّ لكُلِّ ساقطةٍ لاقطة، فلن يعدم مثل هذا من أمثاله- أذواقًا وعقولًا- قبولًا وإجلالًا.

ـ كأنك تعرِّض بي، يا (ذا الجُحُوظ)!

ـ وهذا ما كانت الأذواق السليمة في صدر التاريخ الإسلامي تمجُّه، وكانت أساليب العَرَب الرصينة منه براء، إلَّا ما جاء عفو الخاطر، أو لدَى الكُهَّان وأشباههم من الخطباء. ذلك أنَّ الأساليب إنما كانت تأخذ من الكلام أيسره، ومن المعاني ما جاء عفوًا، ولا تصطنع اصطناعًا، ولا تتكلَّف تكلُّفًا، ولا تكدُّ الأذهان كدًّا، لرسم المشاكلات وتقليب الصيغ والدلالات. لم يكن لذلك من أثرٍ في كلام العَرَب الأوائل، اللهم إلَّا في أساليب الكُهَّان، من أرباب السجع والتهويل بالمفردات الغريبة عن غيبٍ يدَّعون التنبُّؤ عن أخباره. ومفهومةٌ وظيفة ذلك لديهم، من الكهانة والتدجيل والتكسُّب. ولذا كرهه الرسول، عليه الصلاة والسلام، وصحابته. فقد وردَ، مثلًا، أن (عُمَر بن الخطاب، رضي الله عنه)، سأل (صحارًا العبدي) عن (مُكْران)، ببلاد (فارس)، فقال: «يا أمير المؤمنين، أرضٌ سهلُها جَبَل، وماؤها وَشَل، وتمرُها دَقَل، وعدوُّها بَطَل، وخَيرها قليل، وشَرُّها طويل، والكثير بها قليل، إنْ كثُر الجُند بها، جاعوا، إنْ قلُّوا بها، ضاعوا»، فقال له عُمَر: «أسجَّاعٌ أنتَ أم مُخْبِر؟!» فقال صحار: «بل مُخْبِر.»(1) ومن ثَمَّ فلا يمكن أن يكون «نهج البلاغة» من كلام (ابن أبي طالب)، اللَّهم إلَّا روايةً بالمعنى، مع صياغات منتحلة، وإضافات مفتريات. وإنَّما هو عملٌ من إنشاء (الشريف الرضي)، الشاعر والفقيه ونقيب الطالبيِّين. إنْ يكن أنشأه على بقايا نِثارٍ مأثورة مما يُنسب شعبيًّا- دون تحقُّق، إلى الإمام- فما يعدو ذلك الأساس مادةً أوَّليَّة، اشتغل عليها الشريف، بملَكاته البيانيَّة البديعيَّة، وثقافته العبَّاسيَّة الحضريَّة؛ ليبني لجَدِّه مجدًا في كتاب، خلال عصرٍ احتدم فيه هذا الخِطاب، حتى قامت دولةٌ باسمه ظاهرة، هي الدولة الفاطميَّة. وما ينفصل انبثاق هذا المنتَج الأدبيِّ المنسوب إلى (أبي الحسن، رضي الله عنه) عن تلك الظروف السياسيَّة، والمعطيات الظرفيَّة، والمتطلَّبات السياقيَّة التي اقتضته.

***

ا. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

........................

(1) يُنظر: الطَّبري، (1970)، تاريخ الرُّسُل والمُلوك، تحقيق: أبي الفضل إبراهيم، (القاهرة: دار المعارف)، 4: 182؛ الجاحظ، (1998)، البيان والتبيين، تحقيق: عبد السلام محمَّد هارون، (القاهرة: مكتبة الخانجي)، 1: 285. (ونسبَ الجاحظ هذا إلى أعرابيٍّ سأل رسولًا قَدِمَ مِن أهل السِّند). وقد نقل (شوقي ضيف)- في كتابه ((1983)، الفن ومذاهبه في النثر العَرَبي، (القاهرة: دار المعارف)، 57)- العبارة الأُولى خطأً، وربما كان الخطأ مطبعيًّا، هكذا: «سهلها جِبال»، ولا تستقيم السجعة بهذا، بل بأن يقول: «سهلها جَبَل».

بقلم: يأنس فيروفاكس

ترجمة: علي حمدان

***

أنت واحد من العديد من المنظرين، إلى جانب سيدريك دوران، وجودي دين، وماريانا مازوكاتو وآخرين، الذين تكهنوا بأن هيمنة شركات التكنولوجيا الكبرى ــ باستخدام الخوارزميات لبناء إمبراطوريات البيانات التي تعمل كمصدر لا حدود له على ما يبدو للقيمة ــ ربما تتجاوز حدود الرأسمالية. في كتابك الصادر عام 2023 بعنوان "الإقطاع التقني"، تزعم أنه كما شهدت الفترة الحديثة المبكرة استبدال الأرض برأس المال الإنتاجي كعامل مهيمن في الإنتاج، شهد أوائل القرن الحادي والعشرين استبدال رأس المال الإنتاجي بـ"رأس المال السحابي"، مما يشير إلى التحول إلى نظام تراكم جديد. لماذا، في رأيك، يختلف رأس المال السحابي نوعيًا عن أشكال رأس المال الأخرى؟ وما هو تطوره التاريخي؟

أولا، اسمحوا لي أن أقدم لكم مقدمة قصيرة. إن الإقطاع التكنولوجي ليس تحليلا ما بعد ماركسي لنظام ما بعد الرأسمالية. إنه تحليل ماركسي كامل لكيفية عمل رأس المال المعاصر، والذي يحاول تفسير سبب خضوعه لطفرة أساسية. بطبيعة الحال، على مدى القرون السابقة تطور طابع رأس المال الثابت من قضبان الصيد والأدوات البسيطة إلى الآلات الصناعية المعقدة، لكن كل هذه الأشياء تشترك في سمة أساسية: تم إنتاجها كوسائل إنتاج. الآن، لدينا سلع رأسمالية لم يتم إنشاؤها من أجل الإنتاج، ولكن من أجل التلاعب بالسلوك. يحدث هذا من خلال عملية جدلية حيث تحث شركات التكنولوجيا الكبرى مليارات الأشخاص على أداء عمل غير مدفوع الأجر، وغالبًا دون علمهم بذلك، لتجديد مخزون رأس المال السحابي. وهذا نوع مختلف تمامًا من العلاقات الاجتماعية.

ولكن كيف حدث هذا؟ كما هو الحال دائما، من خلال التغيرات الكمية الثابتة والتدريجية في التكنولوجيا، والتي أسفرت في مرحلة معينة عن تغيير نوعي أكبر. وكانت الشروط المسبقة مزدوجة. الأول كان خصخصة الإنترنت، "الموارد المشتركة للإنترنت" الأصلية. فقد جاءت لحظة حيث كان عليك، من أجل إجراء المعاملات عبر الإنترنت، أن تطلب من بنكك أو منصة مثل جوجل أو فيسبوك التحقق من هويتك. وكان هذا شكلا بالغ الأهمية من أشكال الاحتواء، وتسويق المجال الإلكتروني وخلق هويات رقمية مخصصة جديدة. وكان عامل آخر هو الأزمة المالية في عام 2008. وللتعامل مع تداعياتها، طبعت الدول الرأسمالية 35 تريليون دولار بين عامي 2009 و2023، مما أدى إلى نشوء ديناميكية التوسع النقدي حيث أصبحت البنوك المركزية، وليس القطاع الخاص، القوة الدافعة. كما فرضت الدول التقشف الشامل في جميع أنحاء الغرب، مما أدى إلى كساد ليس فقط الاستهلاك ولكن أيضا الاستثمار الإنتاجي. واستجاب المستثمرون بشراء أصول العقارات وصب الأموال في شركات التكنولوجيا الكبرى. وبالتالي، بطبيعة الحال، أصبح القطاع الأخير القطاع الوحيد القادر على تحويل ذلك السيل من النقد لدى البنوك المركزية إلى سلع رأسمالية. وأصبح مخزون هذه السلع كبيرا للغاية، ومنحت أصحابها قدرا كبيرا من القوة للتأثير على السلوك واستخراج الريع، حتى أنها مزقت الأداء التقليدي للنظام الرأسمالي. وقد حدث هذا بالصدفة تماما: حالة كلاسيكية من العواقب غير المقصودة، دون قصد حتى من جانب شركات التكنولوجيا نفسها.

بطبيعة الحال، يعتمد دخولنا إلى عصر ما بعد الرأسمالية أو عدم دخولنا إليه على مفهومنا للرأسمالية. وقد قيل إن تعريف روبرت برينر، الذي ينظر إلى الرأسمالية باعتبارها نظامًا يتم فيه إكراه العمل، وبالتالي تراكم رأس المال أيضًا، بشكل أساسي من خلال القوى الاقتصادية، يؤدي إلى تعريف الوضع الحالي بأنه "إقطاع تقني" أو "رأسمالية سياسية"، كما يقول برينر، نظرًا لبروز الإكراه "خارج الاقتصاد" - سواء كان قوة سياسية صريحة تحمي الاحتكارات وتوجه الأرباح إلى الأعلى أو أشكال من التحكم الخوارزمي - داخل نموذج التراكم الحالي. لكن آخرين، على سبيل المثال موروزوف، يرفضون هذا باعتباره تعريفا ضيقًا للغاية، لأن الرأسمالية كانت دائمًا تنطوي على تفاعل معقد بين العوالم الاقتصادية وغير الاقتصادية. كيف ترد على هذا؟

إنني لست من أتباع برينر. إن فهمي للرأسمالية يأتي مباشرة من ماركس، الذي يرى أنها تقوم على تحولين رئيسيين: نقل السلطة من أصحاب الأراضي إلى أصحاب الآلات بعد بناء الأسوار، والتحول من تراكم الثروة في شكل إيجار إلى تراكم الربح. يطلق الأول العنان لعملية لا نهاية لها على ما يبدو من التسليع، والتوسع الدائم للسوق في جميع مجالات الحياة. ويكرس الثاني فائض القيمة - المبلغ الذي يستطيع الرأسمالي استخراجه من العمل بعد سداد الإيجار والفائدة وما إلى ذلك - كهدف أساسي للاستثمار. لقد تطور اقتناعي بأننا تجاوزنا الرأسمالية من ملاحظة بسيطة للغاية: إذا نظرت إلى موقع أمازون دوت كوم، فسوف تلاحظ أنه ليس سوقًا. إنه إقطاعية رقمية أو سحابية. إنه يشترك في بعض الخصائص مع الإقطاعيات القديمة: هناك تحصينات حوله، وهناك "سيد" واحد يمتلكه، وما إلى ذلك. ولكن على النقيض من هذه الهياكل ما قبل الحديثة التي تتضمن الأراضي والأسوار البسيطة، فإن الإقطاعيات السحابية مبنية على رأس مال سحابي ويتم تشغيلها بواسطة نظام متطور للتخطيط الاقتصادي - وهي الخوارزمية التي كانت بمثابة الحلم  لغوسبلان، وزارة التخطيط السوفييتية.

ولنتذكر هنا أن علم التحكم الآلي قد تطور في الاتحاد السوفييتي. فقد استخدموا مصطلح "الخوارزمية" للإشارة إلى آلية تحكم آلتي من شأنها أن تحل محل الأسواق بطريقة مختلفة لمطابقة الاحتياجات بالوسائل. ولو كانت حكومة الاتحاد السوفييتي تتمتع بالتطور التكنولوجي الذي تتمتع به خوارزمية أمازون، لكان من الممكن أن يكون الاتحاد السوفييتي قصة نجاح طويلة الأجل. ولكن اليوم، لا تُستخدم الخوارزميات للتخطيط نيابة عن المجتمع ككل؛ بل تُستخدم لتعظيم إيجارات السحابة لأصحابها. إن إعادة إنتاج رأس المال السحابي، والإقطاعيات السحابية التي يقيمها، لا تدمر المنافسة في السوق فحسب، بل وتدمر الأسواق بأكملها أيضا. ثم يتم تخصيص القيمة الفائضة المتبقية المنتجة في القطاع الرأسمالي التقليدي (المصانع وما شابه ذلك) كإيجار سحابي من قبل أصحاب رأس المال السحابي. وعلى هذا فإن الربح يصبح مهمشا ويعتمد تراكم الثروة بشكل متزايد على استخراج إيجار السحابة.

لقد كتبت أن الرأسمالية حوّلت العمل إلى سلعة، في حين تعمل التكنولوجيا الإقطاعية على نزع صفة السلع عنه. وهذا يعني أن شركات التكنولوجيا الكبرى تعتمد على الاستغلال الذي يحدث خارج سوق العمل، وتستبدل العمل المأجور بجمع البيانات. ولكن ألا يقول منظرو إعادة الإنتاج الاجتماعي إن الرأسمالية كانت تفعل دائما شيئا مماثلا، في استخراج القيمة من أشكال العمل غير النقدية؟

صحيح أن العمل في مجال الرعاية غير المدفوع الاجر كان ضروريا للرأسمالية منذ فترة طويلة. ولكن عندما أقول إن رأس المال السحابي ينزع عن العمل المأجور صفة السلعية، فأنا أتحدث عن شيء مختلف تماما. هنا، يعمل العمل غير المأجور غير المدفوع الأجر على إنتاج رأس المال بشكل مباشر على نحو غير مسبوق. إن مقدم الرعاية الذي لا يحصل على أجر بسبب النظام الأبوي يعمل على تسهيل توزيع القيمة الفائضة في الاقتصاد الرأسمالي، لكنه لا ينتج رأس المال بشكل مباشر. في ظل الرأسمالية، يتم إنتاج رأس المال من خلال العمل المأجور وحده. إذا أراد أحد أصحاب الصناعات النسيجية محرك بخاري، فعليه أن يذهب إلى جيمس وات ويطلبه، وسيتعين على وات أن يدفع للعمال الذين أنتجوه مبلغا كافيا لتوفير عملهم. مع شركة مثل ميتا، يتم إنتاج الكثير من رأس مالها ليس من قبل موظفيها ولكن من قبل مستخدميها في المجتمع ككل - من قبل أشخاص غير مدفوعي الأجر، مثل "أقنان السحابة" في العصر الحديث، يتعاملون مع خوارزمياتها ويعملون مجانًا لغرس قدرة أكبر على جذب أقنان السحابة الآخرين. ولهذا السبب أزعم أن رأس المال السحابي يمثل تحول رأس المال إلى سلالة جديدة لم تعد، للمرة الأولى في التاريخ، وسيلة إنتاج منتجة. بل أصبحت بالأحرى وسيلة منتجة لتعديل السلوك: وسيلة يتم تصنيعها إلى حد كبير، إن لم يكن بالكامل، من خلال العمل غير المدفوع الأجر.

إن فرضية الإقطاع التقني تميل إلى النظر إلى الريع والأرباح باعتبارهما متضادين هيكلياً، حيث يحل الأول محل الثاني ــ فيحل الركود والأوليجارشية محل الديناميكية والإبداع الرأسمالي. ولكن ماركس يوضح كيف أن البحث عن الريع لا ينبغي له دائماً أن يحيد مكاسب الإنتاجية؛ بل في الواقع، في الفترة الرأسمالية المبكرة، كان يفعل شيئاً أشبه بالعكس، حيث دفع الرأسماليين إلى تطوير القوى الإنتاجية. فهل من الممكن أن يعمل الريع السحابي على استعادة الربحية الرأسمالية بدلاً من خنقها على نحو مماثل؟ ماذا لو كانت العلاقة بين الاثنين أقل عدائية مما تتصور؟

لقد أدرك ماركس أن البحث عن الريع يمكن أن يدفع التنمية، لكنه اتفق أيضا مع ريكاردو على أنه إذا تجاوز كنسبة من إجمالي الدخل عتبة معينة، فإنه يصبح عبئا على النمو الرأسمالي. واليوم، أصبحت إيجارات السحابة باهظة للغاية لدرجة أنها تصنع هذا التأثير بوضوح. والواقع أنني أجازف بالقول إن إخراج الشركات المدرجة المزدهرة على إيجار السحابة من سوق الأوراق المالية من شأنه أن يؤدي إلى انهيار قيمتها. وعلى مستوى أكثر شمولا، ضع في اعتبارك أن أمازون تستولي على ما يصل إلى 40% من سعر المنتج المباع على منصتها. وهذا لا يترك أي فائض تقريبا للبائع لإعادة استثماره. وعندما يكون هناك قدر كبير من الريع يتم سحبه من الاقتصاد، من التدفق الدائري للدخل، فإن القطاع الرأسمالي يتضور جوعاً ويخضع بشكل متزايد لقطاع إيجار السحابة. وهذا لا يعني أن القطاع الرأسمالي لم يعد موجودا؛ بل إنه لا يزال مسؤولا عن كل القيمة الزائدة التي يتم إنتاجها في الاقتصاد، وفقا لنظرية العمل للقيمة. ولكنها صغيرة نسبيا مقارنة بهذا النمو الطفيلي، الذي أصبح هائلا لدرجة أنه، كما قلت، تحول الكم إلى نوع، وتم تغيير النظام بأكمله.

الواقع أن أغلب كبار المحتكرين الفكريين ــ الذين يمتلكون البنية الأساسية الرقمية التي يعتمد عليها الاقتصاد العالمي ــ يتخذون من الولايات المتحدة مقرا لهم. وربما يُعَد هذا بمثابة إشارة إلى أن الإمبراطورية الأميركية تتمتع بصحة جيدة، على الرغم من الحديث عن نظام متعدد الأقطاب ناشئ. ولكنك كتبت أن الصين حققت شيئا لم يحققه وادي السليكون، في تحقيق اندماج ناجح بين رأس المال السحابي وقطاعات أخرى من التمويل الكبير. فما هي الآثار المترتبة على الحرب الباردة الجديدة بين القوتين؟

في رأيي، ما لدينا الآن هو نظام ثنائي القطب. وهذا ليس ما تريده الصين. والأمر المذهل بشأن الحزب الشيوعي الصيني هو أنه لا يريد حقًا حكم العالم، ولا حتى أن يكون قطبًا مهيمنا ثانيًا يعارض القطب الأول. ما يريدونه هو حكم الصين - بالإضافة إلى الأماكن التي يشعرون أنهم فقدوها، مثل هونج كونج وتايوان - والتجارة بحرية مع البلدان الأخرى. إنهم يرغبون حقًا في عالم متعدد الأقطاب، حيث يتقاسمون السلطة مع شركائهم التجاريين، لكن المشكلة هي أنهم لا يملكون سوى طريقة واحدة لتحقيق ذلك، وهي استخدام قطاع التكنولوجيا لديهم، بالتنسيق مع التمويل الكبير، لإنشاء شيء مثل نظام بريتون وودز داخل مجموعة البريكس. وهذا من شأنه أن ينطوي على أسعار صرف ثابتة، وعملة مشتركة مدعومة باليوان. سيكون هذا مشروعًا كبيرًا، وهو يشبه الصفقة الجديدة للنظام العالمي في عام 1944 في مؤتمر بريتون وودز. ولكن بقية دول البريكس ليست مستعدة لذلك، كما يمكننا أن نرى من التوترات الضخمة بين الهند والصين. إن أغلب بلدان الجنوب العالمي ليست مستعدة لهذا النوع من التعددية القطبية. والقيادة الصينية نفسها مترددة للغاية. ولكن إذا لم تبدأ في الدفع في هذا الاتجاه، فإنها سوف تظل عالقة في عالم ثنائي القطب بين الولايات المتحدة والصين، مع كل المخاطر التي ينطوي عليها هذا.

ولكن ألا يعمل النموذج الصيني، الذي يقوم على نظام السوق حيث تلعب الدولة دورا نشطا في توجيه وتخصيص الاستثمار، على تقويض الافتراض القائل بأن شركات التكنولوجيا الكبرى أصبحت الآن القوة المهيمنة في تخطيط الاقتصاد؟ يبدو من الممكن، على الأقل من الناحية النظرية، أن تبحث الدول الغربية بشكل متزايد عن حلول جديدة للدولة في ظل صراعها مع آثار الركود الاقتصادي وأزمة المناخ. فماذا يعني هذا بالنسبة لريعية الحوسبة السحابية؟

إنني أعتقد اعتقاداً راسخاً أننا في الدول الغربية نقلل من شأن دور الدولة، وفي الصين نبالغ في تقديره. ولقد فتحت زيارتي الأخيرة للصين عيني على حقيقة مفادها أن الكثير من التفكير الجريء في نشر القيم الصينية والنفوذ الصيني يأتي من القطاع الخاص، في حين أن الدولة ذاتها أكثر تردداً. (كما نجد في القطاع الخاص أغلب الماركسيين، وإن لم يكن عددهم كبيراً). وفي الولايات المتحدة، نجد أشخاصاً مثل إريك شميت وبيتر ثيل متشابكين تماماً مع الدولة: البنتاجون، والمجمع الصناعي الدوائي. ولقد نشر جوليان أسانج كتاباً صغيراً بعنوان "عندما التقى جوجل بويكيليكس" عندما كان لا يزال في السفارة الأكوادورية، وأنا أنصح الجميع بشدة بقراءته. إنه حوار بينه وبين شميت، والأمر المذهل في هذا الكتاب هو أنه عندما يتحدث شميت، فمن المستحيل أن نحدد ما إذا كان موظفا لجوجل أم عميلاً للدولة الأميركية. لذا فإنني أعتقد أن فكرة انفصال الدولة عن السوق في الغرب، وربما حان الوقت الآن لكي تلعب الدولة دوراً أكبر، هي في حد ذاتها خيال ليبرالي. وكان من المستحيل دوماً فصلهما. وإذا نظرت عن كثب إلى أشكال التقارب بين الاثنين في كل من الشرق والغرب، فسوف تميل إلى رؤية درجة ملحوظة من التشابه.

عندما اشترى إيلون ماسك تويتر، كتبت أن هذه كانت محاولة للصعود إلى الدائرة الذهبية للمستفيدين من خدمات الحوسبة السحابية. هل ينطبق نفس القول على دخوله إلى عالم السياسة؟ هل يعني هذا، كما تكهن بعض النقاد، أن الطبقة الحاكمة الأميركية أصبحت مضطرة إلى شراء القدرة على الوصول إلى أدوات السلطة السياسية من أجل ضمان عائداتها؟

لا أعتقد أن هذا ضروري تمامًا بالنسبة لهم. جيف بيزوس لا يفعل ذلك. إنه يستخدم قنوات أخرى للتأثير مثل صحيفة واشنطن بوست. على الرغم من أن قيادة جوجل لديها الكثير لتخسره من أي محاولة من قبل لجنة التجارة الفيدرالية لتنظيمها، إلا أنك لا تراهم يبذلون الكثير من الجهد للدخول في السياسة. ماسك مختلف لسببين. أولاً، لأنه مجنون العظمة المتبجح الذي لا تستند قراراته بالضرورة إلى أي مصلحة مادية معينة. وثانيًا، لأنه يتمتع بقبضة ضعيفة نسبيًا على رأس المال السحابي. كانت أعماله - تيسلا، ونيورالينك، وبورينج كومباني - كلها شركات رأسمالية قديمة الطراز. حتى سبيس إكس، من عجيب المفارقات، بنيت على رأس مال أرضي. كان هدفه تحويلها إلى شركات سحابية. لهذا السبب اشترى تويتر: ليس كاستثمار تقليدي كان يأمل في تحقيق ربح منه، ولكن كواجهة معك، ومعي، ومعنا جميعًا؛ نوع الواجهة التي كانت لدى الآخرين ولم يكن لديه. لقد استولى على الشركة بطريقة وحشية إلى حد ما، وخسرت الشركة نصف قيمتها السوقية على الفور. ولكن هذا أمر طبيعي بالنسبة لماسك: فهناك لحظات ترتفع فيها القيمة السوقية لأعماله إلى عنان السماء ولحظات تبدو فيها وكأنها قد تخسر كل شيء.

إن مشاركته مع إدارة ترامب - والتي أنا متأكد من أنها لن تنتهي بشكل جيد، بالمناسبة - هي جزئيًا مسألة رغبة في الحصول على بعض الامتيازات. لقد أعطى احتمال تخفيف القيود التنظيمية المفروضة على السيارات ذاتية القيادة، في يوم واحد، لشركة تيسلا رأسمال سوقي إضافي يعادل إجمالي رأسمال جنرال موتورز وفولكس فاجن وستيلانتس ومرسيدس بنز. لذا فهذه مكافأة صغيرة لطيفة له. لكن هذا ليس بالتأكيد السبب الوحيد وراء قيامه بذلك. إنه مدفوع أيضًا بالأيديولوجية: على عكس بيزوس أو جيتس، يعتقد في الواقع أنه قوة من أجل الخير. الآن هذا مستوى فريد من الوهم.

***

نيولفت ريفيو نوفمبر2024

الموروث هو كلُّ شيءٍ ورثناه من أجدادِنا وآبائِنا. وقد ورثتُ نقوداً وأثاثاً وعلما. عُرف العربُ بأنهم يتمسكون بتراثهم بشدة، حتى ذكرهم القرآن بقوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُواْ بَلۡ نَتَّبِعُ مَآ أَلۡفَيۡنَا عَلَيۡهِ ءَابَآءَنَآۚ أَوَلَوۡ كَانَ ءَابَآؤُهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ شَيۡ‍ٔٗا وَلَايَهۡتَدُونَ١٧٠). ومن جملة الموروثات الأدب بشقيه: الشعر والنثر الذي كان في وقتٍ من الأوقاتِ من الأسلحة الماضية التي يستعين بها العربي من أجل الغلبةِ. وأقصد بذلك ما عرف به العربي البدوي من حب للسيطرة على جيرانه والمنافسين له. وكان الشعر والشعراء من جملةِ الأسلحةِ التي يتمسك بها العربي وقبيلتُه من أجل النصر والغلبة، لأن لسان الشاعر ربما كان أكثرَ تأثيراً من السيف والرمح. لكن الحال تغير والدنيا لم تعد، هذه الأيام، تلك الدنيا التي كان ينعم بها ذلك الإنسان البسيط. وبكلمةٍ أخرى تعقدت حياتُنا بما فيها من وسائل متعددة من أجل الراحة والسعادة. كثُرت الأموالُ وتشعَّبت سبلُ الحصول عليها، وتنوعت مجالات وميادينُ العمل. فأصبح الغزو الذي يستعان عليه بالسيف والرمح واللسان السليط نوعاً جديداً من السيطرة عن بعد. ولم يعد السلاح التقليدي كافياً للسيطرة على الشعوب والدول كما هو واضح.

كل هذا الكلام معروف لدى القارئ الكريم، لكن من باب التذكير، لابد أن نستعرض شيئا من الماضي حتى تتوضح الفكرة.

 لم يتقن العربي قديما إلا الكلام. ومن هذا الكلام الأدب بشقيه المعروفين النثر والشعر. لكننا يجب أن لا ننسى ما للأدب من تأثير في تلك الأيام الخوالي. حتى أن خطبةً واحدةً قد تغير من واقع الحرب، فتنقل الجيش من حالة الانهزام والخوف إلى حالة النصر والبسالة. يذكر لنا التاريخ كيف أن القواد العرب الذين غزوا الشعوب شرقا وغربا كانوا يتقنون الكلام والخطب الرنانة في الحرب. ولم يقتصر هذا الأمر على العرب أو المسلمين الذين قاموا بالفتوحات الإسلامية (كما يسمونها)، بل كان هذا الأمر معروفا عند الإغريق واليونانيين القدماء. وهناك كتاب ألفه أرسطو عنوانُه (الخطابة)، لأن هذا الفن كان شائعا في زمانه. لا نريد أن نتشعب في الكلام عن هذا الأمر ولابد لنا أن نتوقف هنا كي نستخلص العبرة من كل أحداث التاريخ، وأن نستلهم التراث أو الموروث بكل أنواعه. دعونا نقلب صفحات التاريخ العربي الإسلامي أو بكلمةٍ أخرى: دعونا نحصي الكتب الأدبية والتاريخية والروائية ونحصي أمامها الكتب العلمية التي ورثناها عن أجدادنا العظماء!! هل هناك نسبةٌ تذكر للنوع الثاني بينها ؟ لا ننكر الدور الذي لعبه عدد محدودٌ من العلماء العرب المسلمين وخاصة في بغداد وفي الاندلس وفي الشام. لكنَّ هذا كان منذ زمان بعيد ولنقل إنه توقف ووئِد في طيات النسيان. بل أن أغلب هؤلاء العلماء لم يكن عربياً. وكل من قرأ تاريخنا الإسلامي يفهم هذا.

 أتحدث في هذا المقال باللسان العربي ولست أريد من هذا الكلام التحيزَ القومي، بل أريد أن أوصل رسالةً إلى قومنا الذين أنتمي إليهم بسبب أبي وأمي العربيين، والبيئة التي خلقت فيها معهم، وأقول لهم: كفاكم تشدقاً وإطالةً للسان، وكفى بنا أننا أصبحنا عالةً على العالم المتقدم. لا تستغربوا من قولي هذا، لأن الواقع يدل عليه. والحجةُ الواقعية المرئيةُ هي أبلغ الحججِ في مضمار الفكر البشري.

 ما نراه اليوم من تقدم تقني لم يصنعه العرب ولا المسلمون بل صنعه أولئك البشر الذين ربما لم يَدينوا بأي دين في الصين، في اليابان، في أمريكا أو ربما كانوا من أديان أخرى. ولا يفهم من كلامي هذا أن الدين هو الباعث على التقدم العلمي والتقني، ولا ملازمة بينهما، بل من باب الاستشهاد بأن القوميات الأخرى والأديان الأخرى غير العرب هي التي صنعت الحضارة هذه الأيام بل ومنذ أكثر من مئتي عام تقريبا. لم يتقن العربي سوى الأدب وخاصةً الشعر. والسؤال الذي يطرح هنا هو: حتى متى نبقى هكذا؟ يهدم العدو حضارتنا ويقلع دورنا فنقابله بالأهازيج والشعارات والقصائد العصماء والخطب الرنانة التي لا تغني ولا تشبع ولا تسمن.

حتى متى يبقى العرب يسبحون في مستنقع آسنٍ من التاريخ المشوه الذي كتبه قوم كانوا يتنعمون في أروقةِ قصور الملوك والأمراء المسلمين؟

 تاريخٌ كتب لكي نتحدث به في المقاهي. وقصائدُ كتبت لهؤلاء الملوك والأمراء حتى فاقت بهم حد المعقول. هؤلاء هم من كتبوا قصائدهم لأغراض ما كانت يوما تدعو إلى نهضةِ المجتمع وبناء حضارة إنما كتبت من أجل تضخيم الجيوب وتطويل الأعناق. حينما يمجد الشاعر نفسه أو يمجد قبيلته فإنه لابد أن يجنح إلى عنصر المبالغة والغلو، حتى يكون مؤثراً وتُهزَّ له الرؤوس، ويقال له: أحسنت... أحسنت أيها الشاعر المفلق.

 هكذا هم العرب. وأقول: مع كل الأسف إنهم ما زالوا هكذا حتى يومنا هذا. ثقوا أن الشعوب الحيةَ تركت إلى حد كبيرٍ مهنةَ الأدب، وأقول: مهنة، لأنها على مر التاريخ العربي الإسلامي كانت هكذا. وإذا شذَّ منهم أحد، فالشاذ لا يقاس عليه، كما يقول علماء المنطق.

لو كان لنا شغل شاغل بالعلم والتقنية وروح البحث، لما التجأنا إلى الأدب وكثرةِ الكلام، ولملأنا أوقاتنا بشيء مفيد ينفع المجتمع والبشرية. المضمار واسع ومفتوح على مصراعيه والساحة أمامك لكنك لن تنجح إلا بعد أن تحطم هذا المنبر الذي اتخذه هؤلاء صنماً يعبدونه ويجلسون حوله وكأنه إله يُعبد. منبر الأدب كان في وقت من الأوقات منبراً مقدسا عند كثير من الشعوب التي تحترم الموروث التاريخي لها، لكن الزمن تغير بتغير الأحداث والحاجات. وإذا عرفنا أن الحاجةَ هي أم الاختراع، وعرفنا أن البشر أصبح مخترعاً وأنتج آلات تفوق تصورَ العقل وحد التصديق، عرفنا مقدار التأخر الذي أحاق بنا نحن العرب.

تتبارى الشعوب الحيةُ والحكوماتُ الواعية والمؤسساتُ العلمية الراقية بمقدار مساهمتها بالاختراع والاكتشاف والتطوير. وهذه هي المنافسة و"الحرب السلمية" الحقيقية. منافسةٌ تنتج حضارة وتنتج خيراً للبشرية. وإذا عرفنا أن كل اكتشاف واختراع لابد أن يرافقه شيءٌ من الشر، وأن هذه هي طبيعةُ الأشياء، يكمن فيها الخير والشر في مكان واحد، تيقنا أن هذا ليس من باب جمع المتناقضات أو جمع الأضداد كما يسميه علماء المنطق القديم.

كم هو جميل أن يتحدث الأديب بلسان حال عالِمٍ عربي قدم شيئا مفيدا لمجتمعه وللبشرية.

كم هو جميل أن نمدح شيئا مصنوعا في بلادنا مثلما كان البدوي يمدح خيمته وسرجَ دابته التي صنعها بنفسه.

 وكم هو جميل أن نتغنى بقصائدنا ونثرنا بحديقة أو روضةٍ غناء صنعناها بأنفسنا على هذه الأرض.

كم هو معيبٌ أن يقف شاعرُنا الحديثُ فيمدحَ الدابة والخيمةَ والسيفَ والرمحَ في القرن الحادي والعشرين وهو لم يرَ أياً من هذه الآلات والأدوات والحيوانات!

هذا هو الاجترارُ وهذا هو الترديد الذي يجب أن نتركَهُ إلى الأبد. لابد أن تتغير مناهجُ البحث وقبلها مناهجُ التعليم في مدارسِنا بحيث لا نعطي تلك الأهمية الكبيرة أو الفريدة لكل ما جاء في تاريخنا الطويل.

 علينا ان ندرس التاريخ الحديث قبل أن ندرس التاريخ القديم، لأننا لا نملك عمراً طويلا يسمح لنا بأن نصرفه على كمٍّ كبيرٍ من التفاهات والخرافات والأساطير التي كُتبت بأيدي بشر أمثالنا.

 قل لي بربك ما الذي تستفيدُه من حفظ قصيدةٍ تعداد أبياتِها ألفُ بيت، وتصرفُ عاماً كاملا أو شهراً أو أسبوعاً في حفظها.

 ما الذي تستفيدُه لو حفظت كتاباً للخطب كنهج البلاغة مثلا وتصرفُ أعواما على هذا العمل؟

 ما الذي تستفيده لو صرفت عمرَك كلَّه في البحث عن الحلال والحرام والمكروه والواجب في أمور سطحيةٍ من أمور الفقه كالطهارة والنجاسة والحيض والنفاس؟

ألم يأن لهذه العقول أن تنتقل إلى مرحلةٍ جديدةٍ من التفكير؟ مرحلةٍ تأخذ بالعقل العربي إلى ساحه النور والعلم وتؤسس تراثا علميا يمثل الغايةَ العظمى في أهدافه ويترك التراث الأدبي لأنه تاريخ لحظي يتحكم فيه الزمان والمكان وحجمُ الحدث.

 هذا هو ما أدعو إليه. وقد دعا إليه عددٌ من علماءِ الاجتماع والفلسفة العرب على ندرتهم.

 وقبل أن أنهيَ هذا الحديث أقول: إنني عربي وصرفت عمري كله أخوض في هذا الوسط فخرجت بخُفَّي حُنين، كما يقول المثل العربي. ما الذي أضاف إلي الأدب؟ وإذا سألتني ما رأيُك بكل ما قرأته من شعر ونثر وخطب ورسائل وغيرها، فإنني أقول لك: لا يجب أن يتعدى تأثيرُها أكثر من الاستمتاع بالكلام الرنان والمعاني التي لا تخلو من جمال رغم تكرارها في كل هذه الفنون. الجمال متعددٌ ومن مصاديق هذا الجمال الكلامُ الجميل والمعاني الدقيقة التي تهز الوجدان والعواطف وربما تجيش المشاعر. ولا ننسى أنها ربما تُغيظ النفوس وتبعث فيها الكراهية وتثير الدفائن في قوم هم على شفا حفرةٍ من الثقافة وسطحيةٍ من العلم. إذن، لابد لنا أن نعيد قراءةَ هذا الموروث بشكل جديد وناقد ولا نبقي إلا على ما يتفق مع مقررات العلم والتقنية الحديثة لأنها واقعٌ والموروث الأدبي وهمٌ اختلقهُ الأدباءُ ونحن من بعدهم !!

***

بقلم: د. علي الطائي

 

من البديهي أن نتفكر في العلاقة التي تربط وسائل الإعلام بالمجتمع، وبالتالي تقدير استنتاج كون النظر إلى العلاقة بين الإعلام والمجتمع، يعني حتما أن المجتمع يؤثر في تطور الإعلام، وأن تطور الإعلام بدوره يؤثر على تطور مجتمعاتنا.

هذا سيساعدنا لا محالة، في إثبات أن وسائل الإعلام مرتبطة بالتفاعل الاجتماعي، فقد أصبح من الضروري تعليم الجانب الاجتماعي لكيفية عمل وسائل الإعلام. هذه حقيقة، أثبتتها صيرورة العلاقة المتصلة بين الإعلام والمجتمع. ولا جدال فيها على الإطلاق.

الجديد في دورة التأثير بين العنصرين الجاذبين (الإعلام والمجتمع)، هو النظام الحافز لمواءمة واستشراف التواصل الاجتماعي لمجتمع ليست له قابلية لاستنباط المعرفة، أو استيفاء طبيعة التعاطي معها، وهو منظور، في اعتقادي، ساهم في توسيع فجوة الفهم، ومضاعفة التداعيات الخطيرة للتماس بين التقائية تدبير مرحلة التكيف مع الشكل الجديد لوسائل الإعلام، وافتراقاتها على مستوى القيم والخطاب والامتداد.

 وفي هذا الإطار، من الضروري، الحديث هنا عن خصيصات الثقافة والهوية، كما هو الشأن بالنسبة للإعلام الخبري الموجه، الذي يحتكر سلطة الإدارة والتدبير، وتمثلاتها للجهات السياسية الفاعلة، والتأطير في حملات الرصد والقيادة والشخصية، والإعلان  والحوكمة، كما العرض المبني على التشريعات التي يستنبطها المتدافعون، لجعلها منطقة متاخمة لحجم خططهم واستراتيجياتهم.

إن ارتباط الإعلام والمجتمعات بالوسائط الإعلامية وتغيراتها الثاوية، عبر تطور الاتصالات الإلكترونية، بصدمات الإنترنت والوسائل الرقمية، يسوغ وضع أدبيات جديدة لتحليل هذه التطورات من منظور أو رؤية سوسيولوجية متماسكة، تستند إلى الموازنة بين طريقة الاستخدام ومعالجة التأثيرات، انطلاقا من طبيعة المجتمعات، وتحولها من مجرد مستهلك ومستقبل، إلى ناقد ومستوعب.

وهنا يصير من الأكيد معرفة التحديات الرئيسية المرتبطة بالمعلومات والاتصالات، أو على الأقل، الحدود بين القيمة واللا قيمة، بين المعلومات والترفيه أو الدعاية، بين صورة الفرد وشخصنة الأحداث ومنظومة الجماعة ووحدة مصيرها ومشتركها، فضلاً عن الحياة الخاصة أو الجزء الأكثر حميمية منها، على نفس المنوال، فضلا عن الحياة العامة، والتي تجعل كل واحد منا مواطنًا على وجه الخصوص، وله التزامات مجتمعية وعقد اجتماعي ونظر مسلكي وغير ذلك..

أعتقد أن الإعلام في مرحلة فارقة، كالت يعيشها عالمنا الراهن، يحتاج إلى التدليل على هذا النهج، على اعتبار تأثير الإعلاميين على المستوى الاجتماعي والثقافي إزاء المجتمع. وهو ما يحتم العمل بصورة تعكس القابلية الإيجابية لهذا المجتمع ومحيطه.

كما لا تخرج مواقف الإعلام إياه، عن الأحداث الجسام، التي تكلكلت أورامها وتفجرت، في حالات الانهيار السيكولوجي والمادي لتلك المجتمعات، خلال حروب القتل والنار والتهجير والإبادة والأمراض الفتاكة. فهي بمثابة الرواء الذي يسقي روح السيرورة ويغديها ويسحبها إلى تخوم القيمة والوجود، بما هي ارتقاء وثبوت على اكتناه مصادر الحقيقة، دون تزييف أو خداع أو تضليل.

وتحت ظلال هذه المآسي غير المسبوقة، في تاريخ توثيق الأحداث وتأريخها، سيكون من الصعب، غربلة ما فاض عن حاجة المتلقين، ممن ينشغلون بتكريس آليات الإغفال والتورية، وتحوير الصور والمشاهد المدسوسة، حيث تصير الحاجة إلى قيمة المعرفة أبعد مما يكون من تكشف إبرة القش، وتتألب المعاذير والشكوك على تكسير كل المنطقيات والحتميات، الشيء الذي يعيد واجهة الوظيفية الإعلامية المنظورة إلى عتمة القفل التي تنزاح إلى استعارة المفتاح من بلاغة "النص المحشور" وليس من "خطاب الكفاية المختصرة"؟.

***

د مصـطـــفى غَـــلْمَــان

أنا اندهش إذن أنا اتفلسف

كانت تنظر إليه وهو يسير في طريقه لا يلتفت الى أحد، لم يكن يسير كما يفعل معظم الناس ممن يعرفون هدفهم ويتأكدون من مواضع أقدامهم. فقد كان رافعاً رأسه الى السماء ومشغولاً بتأمل النجوم. وما هي لحظات إلا ويجد نفسه قد وقع في حفرة لم ينتبه إليها، هذا المشهد الغريب استهوى المرأة التي تتابع " طاليس المالطي " الذي اشتهر في بلاد الإغريق قبل أكثر من ألفين وخمسمائة عام بتنبوئه بحدوث كسوف للشمس، يكتب برتراند رسل ان حكاية طاليس المالطي لا يستحق من خلالها لقب اول فيلسوف وانما ايضا لقب " اول الاساتذة شاردي الذهن "، وتقول الحكاية ان المرأة عندما رأت الشيخ المهيب يقع في الحفرة أطلقت ضحكة عالية وهي تقول له:" أنَّى لك أن تعلم كل شيء عن السماء يا طاليس وأنت لا تستطيع أن ترى ما تحت قدميك؟".

ماذا تعني ضحكة المرأة التي يقال إن بها بدأت قصة الفلسفة؟ أكان بمحض الصدفة أن يجد طاليس نفسه موضع سخرية؟ هل نفهم إن التفلسف يخالف المألوف في الحياة؟، وإنه في بعض الأحيان يصبح موضع استنكار وسخرية، يخبرنا افلاطون ان هذه الضحكة هي الجواب الذي يردُّ به " العاقلون" و" العمليون" في الحياة اليومية على كل سؤال فلسفي.

كان طاليس المولود عام " 624 ق.م " اول من تساءل عن الحقيقة القائمة وراء الاشياء الطبيعية، وحاول تفسيرها لا على غرار المؤمنين بالاساطير والخرافات، بل على غرار العلماء، فبفضل هذا الرجل الذي كان قصير القامة، على شيء من الوسامة، عكس سقراط كان يهتم بمظهره الخارجي، انتقل الفكر من الاسطورة إلى المنطق، ونجد ارسطو في كتابه " ما بعد الطبيعة " يؤكد ان طاليس خطى بالفلسفة خطوة الى الامام، ذلك انه اسس مبدأ الدهشة، وكيف كانت هذه الدهشة باعثا على النظر، ولهذا نجد ان اول الاشياء التي اثارت الدهشة عند طاليس هي حركة القمر والشمس والنجوم، ثم نشاة العالم، ويضيف ارسطو ان " طاليس مؤسس نوع من الفلسفة يرى ان المبدا الاول للاشياء هو الماء " ويقال ان هذه الفكرة استمدها طاليس من البابليين حيث تحكي احدى الاساطير البابلية بأن " كل شيء كان بحرا.. وقد وضع الإله مردوخ حصيرا من القصب فوق سطح الماء فتراكم عليه الطين "، لكن طاليس استغنى عن الآلهة واستبدلها بعمليات طبيعية، وفي هذا يكون طاليس انتقل بنا من التفسير الاسطوري الى التفسير العقلي للاشياء، وهو في محاولة بحثة عن مادة طبيعية تكون اصل العالم، كان يسعى الى تبسيط ظواهر العالم وتوحيدها، والأهم كان يسعى الى المعرفة، عوضا عن الاستعانة في تفسيره بكثير من الآلهة.

يكتب برتراند رسل ان قدرة الإنسان على الاندهاش هي قدرته على البقاء إنسانًا، طالما بقي في استطاعته أن يسأل مَن هو الإنسان؟ إن دهشته نابعة من إحساسه بوجوده، في محاورة " المأدبة " لافلاطون – ترجمها الى العربية مجدي عبد الحافظ - تقول ديوتيما موجهة حديثها إلى سقراط: ما من أحد من الفلاسفة يتفلسف، والحمقى كذلك لا يتفلسفون، ذلك لأن ما يفسد في الحمق أن يتوهم الإنسان أنه مستغنٍ بنفسه." ويمضي سقراط قائلًا: " سألتها مَن هم الفلاسفة إذن يا ديوتيما، إن لم يكونوا هم الحكماء ولا الجهلاء؟ " عندئذٍ أجابت قائلة: " إن هذا لأمر واضح حتى للطفل، إنهم أولئك الذين يشغلون من الفئتين مكان الوسط "، هذا الوسط هو الذي قال عنه باسكال عبارته المشهورة: " نحن لسنا شيئًا، نحن نأمل أن نكون".

في كتابها " الدهشة الفلسفية " – ترجمه الى العربية محمد آيت حنا – تكتب جان هرش ان الدهشة هي الخصيصة المميزة للانسان، فالدهشة اساس الشرط الانساني، وربما يقول البعض: هل ما يزال بوسع الانسان المعاصر ان يندهش وهو يعيش في عصر التكنلوجيا المتطورة، ويعتقد على الاقل ان العلم كشف له كل شيء؟، هل يمكن أن تساعد نصائح فيلسوف مثل ابيقور عاش في اواخر القرن الرابع من الميلاد، على ان يستمد منها شاب يعيش عام 2020 النجاح؟، وهل يصلح فيلسوف الماني مثل ايمانويل كانط، اثار الجدل بحياته الغريبة، ان يصبح معلما ويشير لنا نحنن أبناء هذا القرن والحروب، الى اهمية بناء مجتمع ديمقراطي يحمي حريات الافراد، وينشد السلام، صحيح ان تاريخ الفلسفة يخبرنا ان ايمانويل كانط عاش حياته من خلال الالتزام بنظام حياتي صارم،كان يستيقظ في الخامسة صباح كل يوم، يخصص ثلاث ساعات للكتابة، وبعدها يذهب الى الجامعة يلقي محاضرات لمدة اربع ساعات فقط، لاتزيد ولا تنقص، يتناول الطعام في مطعم واحد لم يغيره لمدة اربعين عاما، بعد الظهر يذهب في جولة رياضية، ثم يعود الى البيت ليقرا وينام الساعة العاشرة مساء بالضبط ..وكان جيرانه يقولون انهم يستطيعون ضبط ساعاتهم على مواعيد خروجه وعودته، كان كانط يولي جسمه الكثير من العناية الشديدة، فهو يعتقد ان من المهم ان يطول عمر الإنسان، وكان يحتفظ بقائمة لأطول السكان عمراً في المدينة التي يسكن فيها، وظل مدير الشرطة يوافيه شهرياً بحالات الوفاة التي تقع في المنطقة القريبة من بيته.

ما الذي فعله هذا الرجل الذي عاش حياة نمطية مستقرة، بحياتنا نحن ابناء هذا القرن؟.. يعتقد الكثير من القراء أن الفلسفة تقول شيئا لا يفهمه الناس، ويهتم به النخبة فقط . ولكننا ياعزيزي عندما نتعرف على سيرة المرحوم إيمانويل كانط سنكتشف ان الرجل تدخل في معظم شؤون حياتنا، فمن بيته الصغير في مدينة كونيغسبرغ عمل بجدارة وتصميم على تهديم لأفكار قرون مضت، وساهم في توجيه العالم اكثر مما ساهم الاباطرة وزعماء الدول، فاذا كنت تنعم بالديمقراطية لا بد ان تعرف ان كانط كان قد اعلن في كتابه " ميتافيزيقيا الاخلاق " والذي ترجم الى العربية باكثر من ترجمة اشهرها قام بها عبد الغفار مكاوي، والاخرى ترجمها محمد فتحي الشنيطي، وفيها يقول ان لكل انسان كرامة اصيلة ملازمة له ينبغي احترامها ورعايتها، وكان اول شخص يتصور تاسيس هيئة عالمية قادرة غلى ضمان السلام في العالم وكانت هذه الفكرة التي طرحها في كتابه " مشروع للسلام الدائم " ترجمه ال العربية عثمان امين، هي التي اوحت بتاسيس منظمة الامم المتحدة، وستساهم شروحه العميقة عن المكان والزمان في ان يتوصل آينشتاين الى تحقيق نظريته النسبية.. وتقول جان هرش في كتابها " الدهشة الفلسفية " ان كانظ سيظل يشغل العالم اكثر من غيره من الفلاسفة، فهو وحده الذي استطاع ان يغير زوايا نظر الفكر الفلسفي ومفاهيمه تغييرا جذريا، ولهذا تتفق هرش مع مارك مانسون صاحب كتاب " خراب " الى انه اذا اهملنا كانط لن يكون بمقدورنا ان نفهم شيئا عن التطور الفلسفي الذي حصل بعده.كان كانط يعتقد بأن ما يجعلنا بشرا، على خلاف الحيوان، هو قدرتنا على التفكير بطريقة نقدية في اختياراتنا.

كانت الفلسفة في العقود الماضية تعد مجالا معرفيا معقدا لا يقصده إلا المتخصصون، فلماذا خرجت في السنوات الاخيرة من الفضاء الأكاديمي الخاص والمحدود إلى الفضاء العام الرحب ولاقت رواجا بين القراء؟

يعزو الفرنسي ميشيل اونفري، رواج الفلسفة إلى الأزمات العالمية الحالية، ويقول إن الفلسفة الأخلاقية والعلاجية ازدهرت أيضا في العصر الهلنستي الذي شهد تحولات كبرى، تزامنا مع انهيار الدويلات اليونانية، وصعود قوى عظمى مثل الإمبراطورية المقدونية والإسكندر الأكبر.

ويرى آلان دو بوتون أن القرن العشرين كانت تسوده روح التفاؤل والإنجاز، وزاد الناس ثراءً، ومن ثم زاد الإقبال على المبالغة في الشراء بلا اكتراث. ثم فوجئ العالم بأزمة الائتمان، وتلاشى هذا التفاؤل. وتساءل الناس عن دوافعهم وأهدافهم في الحياة، ومن هنا ظهر الشغف بكتب النصح والإرشاد. ويقول دو بوتون إن أعلام الفلسفة القديمة دأبوا على تقديم هذا النوع من الحكم والنصائح، بمعنى أن هذه الكتب تركز على جوهر الفلسفة كما كانت في أول عهدها.

لجأ الناس للفلسفة بحثا عن نصائح تساعدهم على مواجهة تحديات الحياة ووجدنا روائية مثل سارة بكويل تؤلف كتابا بعنوان " كيف تعاش الحياة او حياة مونتاني " – صدرت مؤخرا الترجمة العربية للكتاب عن دار التنوير " حيث ترشدنا الى ان مونتاني يرى أن الحياة فنّ، وعملية بدهيّة للاكتشاف والتفكّر وإيجاد المتعة خلال رحلتنا فيها.. وكانت كتابات مونتاني التي اختار لها عنوان " المقالات " محاولة كما يقول لان يُمنح الانسان فرصة، وان يجرب الحلول للمشكلات التي تحيط به، كان مونتاني يقرأ كثيرا، ويعلق كثيراً على ما قرأه، متطرقاً الى معظم أوجه المعرفة يكتب:" إن أعظم ما في العالم أن يكون المرء نفسه "، وقد تجمعت له من مقالاته اكثر من كتاب حيث نشر عام 1580 كتاب " المقالات " بجزئين ثم أضاف لهما جزءاً آخر. كان ياسبرز اول من اطلق صفة الدهشة على الفلسفة حيث اكد ان الفلسفة تمثل الدهشة، وهذه الدهشة تدفع الانسان الى المعرفة:" حين اندهش، معنى هذا انني اشعر بجهلي فانا ابحث عن المعرفة بغية المعرفة ذاتها، فالتفلسف يقظة "، ويبدو ان هرش استمدت العنوان من استاذها الذي تنقل من دراسة الطب الى ممارسة العلاج النفسي، الى التفرغ للفلسفة، وقد كان لهرش لقاءات مع هايدغر وسارتر، وتولت رئاسة قسم الفلسفة في منظمة اليونسكو وقد توفيت عام 2000، بعد ان تركت عددا من الكتب المهمة كان " الدهشة الفلسفية " واحدا منها.. في الكتاب، تاخذنا هرش في سياحة فكرية ممتعة مع كثير من الفلاسفة تبدأ من طاليس وتنتهي عند استاذها كارل ياسبرز

" الفلسفة مغامرة مدهشة " هكذا يضع لها كارل ياسبرز تعريفا في كتابه " مدخل الى الفلسفة "..وهي شكل غريب من الحوار بدأ في اليونان القديمة قبل ما يقارب الألفين وخمسمائة عام.. حيث بدأ الفلاسفة تُحركهم تجربة ما او احساس ما يعصف بهم فضولاً واهتماماً وشغفاً، وهو لا حقا ما يدفعهم لطرح الاسئلة..اسئلة تبدأ بـ " لماذا؟ ". يريدون اجوبة لاسئلتهم، اي يريدون ان يفسروا لِمَ هي الاشياء على ما هي عليه؟.. فالفلاسفة يأسرهم التساؤل والبحث عن الاجابة دائما.

كان كانط يعتقد بأن ما يجعلنا بشرا، على خلاف الحيوان، هو قدرتنا على التفكير بطريقة نقدية في اختياراتنا. سنشبه آلات إذا لم نكن نفعل الأشياء عن قصد ووعي، وظل كانط يؤمن هو أنه لا يجب على الشخص استعمال الناس بل معاملتهم باحترام، والاعتراف باستقلالية الناس الآخرين و قدرتهم كأفراد على اتخاذ قرارات معقولة لأنفسهم. هذا الاحترام لكرامة وقيمة المخلوقات البشرية الفردية، هو أصل السؤال الفلسفي وغاية الدهشة التي جعلت طاليس يقع في الحفرة.

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

بعد عشرة الاف عام من المجتمعية بلا ادراك للظاهرة المجتمعية ومنطوياتها، ظل العقل بحالة سعى للخروج من قصوريته الحائله بينه وبين اكتمال مقومات حقيقته الوجودية، وها هي الساعه الفصل العظمى تلوح في الافق بعد انتهاء الزمن اليدوي، وما تبعه من  لحظة احتدام توهمي قصوى كافتتاح مثقل بوطاة متبقيات ماقبله، طغت على الانتقالية العقلية المجتمعية الاليه الابتدائية، مولدة اختلالا مضطربا مشحونا بالعنف والاحتكام للتخيلات باسم العلموية والعقلانيه،  الى ان وصل محطته الاخيرة الافظع، الاقرب الى التدميرية التناقضية المتاتية عن اختلال العلاقة بين الحقيقة الواجبة الضرورة المتزايدة الحاحا بما لا يقبل التاجيل، ومتبقيات التوهمية التصورية المختلة والمصرة على معاكسة مسار التاريخ وحكم الزاميته التحولية الكبرى المنتظرة.

 ترى هل ثمة على امتداد الكرة الارضية من احتمالية نطقية مواكبه للحدث الالي  غير تلك الاوربية؟ ومن اين تاتي هذه، وفي اي موضع  يمكن ان يتناسب والحالة  وما تتطلبه من مقومات التفاعلية مع الحدث الانقلابي الكوني المادي النوعي، هنا ندخل حكما عالما اخر ظل كما سبق وكررنا خارج الانتباه، ومقصيا عن الادراكية للاستحالة القصورية العقلية، مع ما يضاف لها من اسباب الاستحالة  مع ركام المنجز التوهمي الاوربي وقد صار متصدرا للمشهد التحولي الالي واقعا ورؤية، ما قد تولد عنه لدى الالتقاء مع  بدايات القرن العشرين حين حضر الانكليز محتلين ارض مابين النهرين، حال من الاستثنائية التصادمية المتعدية لعنصريها كما كانا لحظة اللقاء المباشر بينما، ساعة انبثقت وقتها آليات من النوع الافنائي للكينونه والنموذج على الجبهتين.

  ولو ان الحملة البريطانيه عام 1914 وصلت للعراق وهو في حال انهيار انحداري او انقطاع كلي كما هو القانون الناظم لتاريخه، لاختلفت سياقات الاصطراع بين الطرفين وقتها، ولم تتخذ الشكل الذي اتخذته ارتكازا للحضور التشكلي العراقي الحديث الراهن، المبتدء  قبل اكثر من ثلاثة قرون، مر خلالها بفترتين رئيستين، الاولى "قبلية" تبدا مع القرن السادس عشر مع ظهور "اتحاد قبائل المنتفك"، والثانيه "انتظارية" نجفية اخذت بالتبلور  ابتداء من القرن الثامن عشر بعد "الثورة الثلاثية" التي حررت العراق من المماليك العثمانيين، من[U1] [U2] [U3] [U4] [U5] [U6]  بغداد الى الفاوعام 1787 مترسما طبيعته التاريخيه، حيث التبلور والنشاة تبدا من الجنوب كصيغة مجتمعية نوعيه مصطرعه مع البيئة الطارده، كما كان عليه الحال في الدورة الاولى السومرية البابلية الابراهيمية، وفي الثانيه العباسية القرمطية الانتظارية التي نشات ابتداء في ارض السواد مجسدة في  الكوفة التي منها هرب العباسيون ليبنوا مدينتهم/ الامبراطورية بعيدا عن المجتمع  اللاارضوي الاسفل المستمر بالثورة بلا توقف،   ناهيك عن البصرة.

 وتطرا اليوم ابان الدورة الاليه او المواكبه للزمن الالي، اختلافات نوعية عن التي عرفتها الدورتان السالفتان، الاولى الموكوله الى التفاعلية الذاتيه، والثانيه المتداخله فيها الفعالية الذاتيه مع التحفيزية الجزيرية الابراهيميه النبوية العائدة الى ارضها ومنطلق تشكلها، في حين تنشأ الدورة الراهنه تحت وطاة  وثقل البرانيه الشرقية ابتداء من 1258 مع سقوط  عاصمه الخلافة الازدواجية بغداد على يد هولاكو، وصولا الى العثمانيين، قبل الطبعة البرانيه الاليه البريطانيه، لنتعرف على نوعين من الاصطراعية مع البرانيه المتركزة في العاصمه المنهارة سلالات ودول واشباه امبراطوريات، هي في الطبيعة "يدوية"، يواجههاالتشكل الحديث العراقي يدويا بحكم وضعه على هذا الصعيد ساعتها، الى ان تنقلب المعادلة ويتحول الصراع  الى طرف نشوئي يدوي، واخر آلي محتل غير مسبوق التعامل معه، او التعرف على نوعه.

 والمميز الواضح اليوم ان اشتراطات التشكل الكياني الازدواجي ماكانت واردة ولا متاحه بالاصل لان التبلور الحالي الراهن يبدا محكوما للاصطراع مع البرانيه من جهه، وللانقلابيه التاريخيه العالمية الالية، مامن شانه وضع ارض الازدواج والكونيه امام اختبار فريد نوعي يقارب اشتراطات  ومتطلبات البدئية الثانيه الالية، بعد تلك الاولى اليدوية  حيث تحددت في حينه خاصيات المكان ونمطيته، فاذا بارض الرافدين تواجه التحدي الاكبر الافنائي متمثلا في النموذج "الكياني / الوطني" و ( الدولة/ الامه) على النمطية الاوربية الغالبه، لنصبح فجاة وبين ليلة وضحاها امام عراق حديث له دولة، اضطر المحتل لفبركتها كحاجة لامعدى عنها لضمان استمرار نفوذه بعد الثورة الكبرى اللاارضوية  غير الناطقة التي هبت بوجهه، وجعلته يقرر الانسحاب عام 1920 ، ردا على دخوله غير المسبوق من نقطة الامان التاريخي من جنوب العراق، المكان المرتكز الوجودي الوحيد الذي لم يعرف الاختراق على مر تاريخ هذا الموضع، مقارنه بالشرق والغرب والشمال حيث الانصبابات السلالية، ما قد جعل الدخول الاستثنائي المشار اليه يتخذ مع الطبيعة المستجدة الاليه للجيش المحتل، معنى الافنائية الوجودية، ما اقتضى ردا من نوعه في حينه، وان بلا نطقية.

 وهكذا كان الغرب قد تعرف للمرة الاولى على الحالة التصادمية النقيضة لنوعه كما لم يحدث في اي مكان من قبل ومنذ الساعات الاولى، فالاحتلال الاوربي والبريطاني يصل عادة  بجيوشه ليحتل البلدان ويخضع حكوماتها القائمه لسطوته كما الحال في مصرمثلا، في حين هو اضطر  هنا لاقامة "حكومة من اهل البلاد" تكون واجهه لنفوذه المتعذر بذاته وبلا وسيط، جاء به وركبه من العاصمة المنهارة نفسها، مركز التعاقب البراني .

  واذ كان الامر يستوجب مروية  انبثاق "العراق الحديث" فلقد نهض بالمهمه ضابط ملحق بالحملة البريطانيه هو فيلب ويرلند، موجد سردية العراق المعروف على قاعدة الالتحاق بالسوق الراسمالية العالمية،  وبالتحديد مع 1831 خلافا لواقع البدئية التشكلية الفعلية المعاشة المستمرة من القرن السادس عشر بحسب قوانين التشكل التاريخي البنيوي العراقي، اي قبل بداية الثورة الالية الصناعية، لندخل من يومها تاريخيا من الهيمنه المفهومية الاخطر من العسكرية والسياسية المباشرة، حيث العراق محكوم وجودا ورؤية للوطنيه الويرلندية، بظل غياب ولانطقية العراق التاريخي العراقي الازدواجي اللاارضوي .

  ولم يسبق بالطبع بحسب اجمالي الاشتراطات المنوه عنها، ان عرف في التاريخ او في الاراء المتعارف عليها مفهوم من نوع "سياسة الاستعمارين" فمفهوم " الاستعمار الجديد" عرف لاحقا في الستينات،  بينما كانت الكولونيالية والاستعمار القديم غالبة وسائده منذ وجد الاستعمار بينما كان الحال في العراق وقتها عام 1920/ 1921 حال ازدواج "مفهومي" وآخر "مباشر"، فلا احد في العراق الى اليوم انتبه الى انه من موضع في العالم لم يعرف على الاطلاق في مجمل تاريخه الاطول بين التواريخ، مفهوم "الكيانيه الوطنيه" ولا "المجتمعية الاحادية"، وهو مايشمل القوى او التيارات الحديثة الايديلوجيه التي ظهرت في العراق على قاعدة مناصبة الاحتلال الرفض والعداء على قاعدة مفهوم الغرب نفسه، حيث المطلوب "طرد النموذجية الغربية باسم النموذجية الغربية ومن اجل الالتحاق بها"، مثل اليسار والقومية والليبرالية، فالمفاهيم التي اعتمدتها وتاسست عليها القوى المشار اليها مستعارة وتنتمي للغرب وموضوعاته التي  احتوت عليها  المعروف ب"حركة التحرر العالمية" المخالفة جوهرا لكينونة العراق وبنيته، ودوره المفترض اليوم، ونوعه، بعد ماكان له وتميز به عالميا في الطور اليدوي من التاريخ البشري.

***

عبد الأمير الركابي

ومضات ثقافية (2)

لا فراق بين الشعر والعراق – يتعرقه، يتعطر به، وبمباخره تطهر الارواح في المعابد والاضاحي والثورات، وبه تجيش الجيوش وتجمل النفوس، منذ نحو خمسة آلاف سنة، برز شاعر العراق الاعظم، والابرز، على الاطلاق، كلكامش، ملكا اسطوريا، وشاعرا يكثف الملاحم في رؤياه، وفي حكمة مسعاه للابدية، اما الشاعرة إنخيدوانا ابنة الملك سرجون الآكادي التي تشربت قبل اكثر من أربعة آلاف سنة من ذات النبع، فكانت اول شاعرة في التاريخ، تكتب التراتيل بنفس انثوي، يختزل تسامي المعاني بصيغ ليس لها مثيل، هي الرائدة التي تتفوق جماليا على فحول الشعراء قبل وبعد النوبل، كانت تكتب بضمير المتكلم وتوقع على نتاجها الشعري مخترعة إعتباريا ما ندعوه اليوم بحقوق الملكية الفكرية !

كلكامش:

هو الذي رأى كل شيء، فغني بذكره يا بلادي.

سيد الحكمة الذي بكل شيء تعمق.

...

إنخيدوانا:

في ذلك المزار الفخم للنظام الكوني المقدس،

يتابعون مرور القمر،

ضوء القمر المتضائل ينشر على البلاد،

ضوء النهار الجارف يملأ كل بلاد...

...

مسلات وجداريات والواح طينية، كتبت عليها بنسغ التجاوز، وبمداد الحرف المسماري المطروق على العقل الباطن للتاريخ، خواطر الاوائل الذين تعلموا ان هذه الارض وهذه السماء وهذه الكواكب وهذه الدنيا يمكن تهذيبها، تثقيفها، يمكن التسامي بها لمستقر هو المستقرُ، الى حيث لا ينفع الهاربين والقانعين عذرُ، بين حافة الفناء، وحافة الشعر تختلط الازمنة، ليخرج طقس مليء بالقلق من تعذر تحقيق المرتجى الذي طال تأجله، فالموت لما الموت؟ ما كنهه؟ وما سره؟ انه الطقس الذي يسبغ جينات النفوس بسبغة التمرد؟

يا ايتها الآلهة انزلي من سترة المنتهى وأنفخي بجوف أنكيدو سر الخلود، انزلي، انزلي ولا تخذلي هذا الذي رأى وعلم العلم كله بما لا يعلم، انزلي، ولا تكرهيه على الصعود اليك، انزلي، فكلكامش راح يناطح الثور المجنح، وهاهو يمتطيه ليصعد اليك، هاهو يحوم حول غابة الارز وعلى خلجان البحور، هاهو يلوح لاهل النهرين والبحرين، وها هو الثور يشق بقرونه كل طبقات السماء السبعة،،، استقبلته عشتار وحاولت اقناعه، نزلت معه الى اوروك بوعد نزول كل الالهة، لتنظر في مسعاه، ومازال كلكامش ينتظر نزول مجمع الالهة العليا !

مذ كلكامش والشعر في العراق بحث عن آلهة لا شياطين، آلهة الشعر لا شياطينه !

بلاد الثقلين: الشعر والسياسة

"هي بلاد بين نهرين، بلاد بين سيفين "

...

كل الاغاني انتهت، إلا اغاني الناس، والصوت لو يشترى ما تشتريه الناس،

عمدا نسيت الذي بيني وبين الناس،

منهم انا مثلهم والصوت منهم عاد.

يوم انتهينا الى السجن الذي ما انتهى

منيت نفسي وقلت المشتهى ما انتهى

يا واصل الاهل خبرهم وقل ما انتهى

الليلة بتنى هنا والصبح في بغداد.

الخالد والشامخ ابدا " سعدي يوسف "

**

يا طعم يا ليلة من ليل البنفسج

يا حلم يا مامش.. ابمامش

طبع كلبي من طباعك ذهب

ترخص وغليك وحبك.

*

اشلون اوصفك وانت كهرب

وآنا كمرة عيني.. دمعة ليل ظلمة !

*

يا عذر عذرين يا شنهي وحبك !

شاعر اللسانين " الشعبي والفصيح " الفذ مظفر النواب

شاخ الزمان جميعا والعراق صبي: المبدع عبد الرزاق عبد الواحد

حتى الظلام هناك اجمل فهو يحتضن العراق: الرائد بدر شاكر السياب

انا بالحكومة والسياسة اعرف - أأُلام في تفنيدها واعنف

سأقول فيها ما اقول ولم اخف - من ان يقولوا شاعر متطرف

*

علم ودستور ومجلس امة - كل عن المعنى الصحيح محرف.

شاعر العراق المجيد معروف الرصافي

شعرك هذا شعر أعور

ليس يرى إلا ما يحذر

فهنا منفى وهنا سجن

وهنا قبر وهنا منحر

وهنا قيد وهنا حبل

وهنا لغم وهنا عسكر!

ماهذا؟

هل خلت الدنيا، إلا من كر يتكرر؟

شاعر الصدمة: الشاعر الحي احمد مطر

**

يا دجلة الخير: أدري بالذي طفحت – به مجاريك من فوق الى دون:

وأنا حتفهم ألجُ البيوتَ عليهمُ - أُغري الوليد بشتمهم والحاجبا.

وسلام على جاعلين الحتوف جسرا للموكب العابر

سلام على نبعة الصامدين تعاصت على معول الكاسر

وليس على غصن ناعم رشيق يميل مع الهاصر

سلام على مثقل بالحديد ويمشي كما القائد الظافر

كأن القيود على معصميه مفاتيح مستقبل زاهر.

 العتيد "الجواهري"

 نبيذ الشعير، اكسير الالهة، يسكر الغاوون بحلم كلكامش وحالة تمرداته على الذات والالهة، فالارض ذات الارض والطقس هو الطقس، حتى صار الواحد منهم يحمل ضده، هم كثر والاسماء كلها محفوظة على الالواح الغرينية التي تسرب الشيفرة المسمارية، للنخيل والسنابل !

***

يتبع - شعراء العراق والاحزاب..باب خلف باب.

***

جمال محمد تقي

التطور العلمي موجود قبل هذا القرن، لكن ما يميزه اليوم هو أن عصر التقنية أتاح مخرجات ومنتجات التطور الصناعي والتقني للجميع، فصار بمقدور الجميع على اختلاف إمكاناتهم المادية أن يقتنوا هذه الأجهزة والتطبيقات وأدوات الاتصال والتواصل. موضوعة الاتصال والتواصل قديمة منذ بدأ الإنسان يتعرف إلى الطبيعة والمجتمع وعمل على تطويرها، لكن ما يميزها اليوم هو ان التطور العلمي عمل على تمكين الجميع من استخدام هذه التقنية المتطورة حتى وان كانوا لا يعرفون شيئاً عن علم الحاسبات أو علم الاتصالات، وهيأ بذلك مساحة كبيرة جداً للاستخدام تضمنت وفرة في المعلومات وتدفقاً هائلاً للبيانات وسرعة في الوصول إلى الخبر والمعلومة وحرية في التعبير وحرية في النشر. مما لا شك فيه ان مساحة الاستخدام الكبيرة هذه تحتوي على محتوى ضخم وبالتأكيد لا يخلو هذا المحتوى من مادة جيدة ومادة رديئة ومن خير وشر، وهذه الثنائية قديمة قدم وجود الإنسان على الأرض لكن ما يميزها اليوم هو ان الصراع يجري بعيداً عن محور الإنسانية.

الإنسانية هدف الثقافة، والثقافة مشروع إنساني في المجتمع، لذلك فالتعريف الثقافي الذي يقول إن الثقافة هي ذلك العطاء وذلك الإبداع الذي يقدّمه المثقف للمجتمع، لم يعد كافياً في اعتقادي. بل ينبغي أن تصبح الثقافة هي ذلك العطاء الذي يقدمه المثقف للمجتمع من اجل تمكين المجتمع ثقافياً.

بدون هذه العبارة – تمكين المجتمع ثقافيا – إذا قارنا بين زماننا وبين الماضي، نجد مثلاً في عصر الجاهلية شعراء مبدعين وخطباء مفوهين، لكن المجتمع في ذلك الوقت لم يكن متمكنا ثقافياً، كما إن مجتمعنا اليوم هو مجتمع غير متمكن ثقافياً. الفارق بين الزمنين هو ان الثقافة المعاصرة استفادت من التطور التقني ووظفته لصالح العطاء الذي يقدمه المثقف للمجتمع، فصرنا نجد عنوانات كثيرة للكتب، وأسماء كثيرة لمؤلفين وكتّاب. توسعت حركة النشر، وتنوعت المحاضرات الثقافية وكثرت الندوات والمؤتمرات، وصار بمقدور عدد من الأشخاص المتباعدين عن بعضهم جغرافياً ان يلتقوا في الوقت نفسه في محاضرة الكترونية، كما انتشر الكتاب الالكتروني والكتاب المجاني على مواقع الانترنت. كل هذا ولا تزال الثقافة العربية غير متطورة بما يكفي لمواكبة التطور العلمي التقني المتسارع، واذا كان بعض المثقفين اليوم يُعدّ هذا تطوراً ثقافياً فإني لا اتفق معهم، لأن هذا التطور هو تطور تقني بإمتياز استفادت منه الثقافة.

لكي تتطور الثقافة من المهم جداً لها أن تمر من خلال علم الإنسان – الإنثروبولوجيا - لإشتغاله على دراسة كل ما له علاقة بطبيعة الانسان والمجتمع في الجوانب الحياتية والثقافية واللغوية والاجتماعية.

علاقة الإنسان بالآلة علاقة قديمة تعود إلى ملايين السنين. كانت هذه العلاقة تتحرك في حدود الوجود الطبيعي للإنسان في الحياة، لكن هذا المفهوم تغيّر في عصر التقنية بعد التطور العلمي والتطور الصناعي ودخول الأنانية على خط الإنتاج الصناعي، فتضررت الطبيعة وتعقدت الحياة وازدادت احتياجات الناس، فصارت علاقة الإنسان بالآلة علاقة يراها المشتغلون في هذا المجال إنها وصلت حد تدخل الآلة في حياة الإنسان، وذهب فريق أخر إلى أن التقنية اليوم تتحكم في مصير الإنسان، وحمل القلق بعضهم على التصريح بأن مستقبل عصر التقنية الرقمية سيقضي على إنسانية الإنسان حيث يتحول الإنسان إلى كتلة بشرية فاقدة لمعنى الإنسانية، وتتحول المجتمعات إلى تجمعات فاقدة لمعنى المجتمع، ويتحول العالم الى آلة ميكانيكية متحركة فاقدة لمعنى الحياة , ويشمل هذا القلق الثقافة أيضاً، إذ تتحول إلى مظهر حياتي بينما هي جوهر الحياة وهذا القلق يشمل المثقف والمواطن. فالتطور التقني لم يتوقف عند الخدمات التي يقدمها للمثقف في إتمام بحثه وإعداد كتابه من وفرة وتنوع وتعدد في المصادر إلى تنضيد الكتاب ثم طبعه ونشره، وغيرها من هذه الخدمات الرائعة، فمشاريع الذكاء الإصطناعي تذهب إلى توفير تطبيقات ذكية تصل قدراتها إلى تأليف الكتاب وكتابة الشعر، فهناك تطبيق يمكن من خلاله اعداد كتاب كامل بمجرد ان يقوم المستخدم بترشيح عنوان للكتاب واختيار المباحث او عدد الفصول وعدد الصفحات التي يريدها. وخلال وقت قصير جداً يقدم له التطبيق الذكي كتاباً جاهزاً. سيتسبب هذا العمل في المستقبل في ظهور عدد من المثقفين الرقميين الذين يعرّفون انفسهم من خلال الوسط الثقافي في مجتمعهم وسيتسبب هذا النشاط في ظهور حالات الشك في مصداقية العمل الثقافي المقدّم من قبل الباحث أو الكاتب، ومع كل هذا يبقى الرهان على الإبداع، لأن الإبداع عطاء انساني لا آلي. وهنا تأتي اهمية صناعة وعي ثقافي في المجتمع يعدّه ذاتياً للتمييز بين المثقف المبدع والمثقف المبتدع.

يقسم العطاء الانساني الى نوعين: نوع يًراد منه ان يعرف الناس عن فلان انه شاعر او كاتب او عالم او.. فقط. ونوع ثاني يراد منه تدريب الناس على ممارسة التجربة الابداعية لصاحب العطاء لكي يكونوا مبدعين واصحاب عطاءات منتجة تخدم رقي المجتمع. نحن اليوم بحاجة ملحة الى النوع الثاني من العطاء الإنساني، ويأتي تحقيق ذلك من خلال المفهوم الانثروبولوجي للثقافة حيث الثقافة هي دراسة طريقة حياة الناس وكيف يتعاملون فيما بينهم للبحث عن السبل الآمنة لتطوير تلك الطرق الحياتية بما يحفظ للمجتمع طبيعته وهويته.

في عصر التقنية حيث وفرة البيانات والمعلومات وسهولة الحصول عليها وسرعة الوصول اليها وتوفر الاجهزة ووسائل التواصل التي تخدم ذلك مع ما يمر به المواطن العربي من تغيير في انماط الحياة وطرق العيش وازدياد الحاجة الى المال، لم يعد امامه متسع من الوقت يكفيه للتفكير والتأمل والقراءة، واصبحت التقنية المتطورة هي عالمه وهي مصدر ثقافته وهي ذاكرته، وربما لا ابتعد عن الصواب اذا قلت انها صارت العقل الذي يفكر به، فإذا ما علمنا ان غالبية الشباب العربي اليوم يعتمد اعتماداً كلياً على الانترنت في استحصال المعلومة والخبر وان الشبكة العنكبوتية صارت مرجعيته ومصدره، فإننا معنيون بدراسة طريقة الحياة هذه، لأن عصر التقنية لم يقف، ولن يقف عند حدود التطور التقني الذي يوفر للمستخدم ما يريده من معلومات واخبار ومن رصيد ثقافي، فهناك مشاريع تعمل على ان يتشكل تفكير المستخدم وتتشكل شخصيته من خلال ما يستخدمه من تطبيقات وبرامجيات واتصالات والعاب وبرامج علمية واجتماعية وثقافية وسياسية وتجارية و.. وهذا المحتوى كما اسلفنا لا يخلو من المتضادين - الخير والشر - ولأن الجيل الجديد يعتمد كلياً على الانترنت في تكوين تصوراته فسيصاب بالحيرة حين يرى تضارباً في الآراء وتبايناً ملحوظاً في المعلومات، وهذه الحيرة ستسبب له فقدان الثقة بالمصادر وبالتالي سيتهدد بناء شخصيته، ولأنه لا يجد مشروعاً آخر يعتمد عليه فإنه سيتحول الى مستهلك لا يقوى على شيء، وقد يصبح كل عطائه الذي يشعر من خلاله انه على قيد الوجود هو مقدار ما ينفقه من مال في السوق وكمية وانواع الحاجيات التي يشتراها والاطعمة الجديدة التي يجربها لأول مرة والاخبار الغريبة التي يشاهدها. لذلك أرى ان من بين الجهود الثقافية التي ينبغي بذلها في مواجهة هذا القلق وربما الخطر هو استخدام التطور التقني في مشروع الثقافة الانساني فمسؤولية المثقف اليوم هي اكبر من مجرد تقديم انتاجاته الأدبية والفنية للناس بنشرها على الانترنت وتوفيرها مجاناً من اجل تمكين اكبر عدد ممكن من القراء والمشاهدين لأجل فائدتهم وتعريفهم بتلك الجهود. مطلوب من المثقف اليوم دور اكبر من ذلك اجده متجسداً في قول الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد في قصديته التي كتبها في رثاء الشاعر محمد مهدي الجواهري:

علمتني مذ شراييني برت قلمي

كيف الأديب يلاقي موته حربا

وكيف يجعل منا اعصابه نذراً

حيناً وحيناً نذوراً كلما وجبا

فالمرحلة الحالية هي مرحلة “ النذور”. يذهب خبراء التقنية اليوم الى ان مستقبل التطور التقني الرقمي سيتسبب في عدم قدرة الناس على التمييز بين ما هو حقيقي وما هو مزيف، بين ما هو صح وما هو خطأ. بين ما هو عقلاني وما هو انفعالي. بين ما هو ابداع صادق وما هو تقليد متقن لإبداع الغير. بالاضافة الى ان هناك تقنيات ذكية تخدم هذا القلق المرتقب تُستخدم اليوم على انها تطبيقات تقنية هدفها التسلية واللعب لكنها يمكن ان تتحول الى سلاح خطير يهدد مرجعية الجيل القادم الثقافية والمعرفية والتاريخية فتقنية “ التزييف العميق “ مثلاً يمكنها ان تقدم آراءً وافكاراً واقوالاً وحكماً وفتاوى مزيفة وغير حقيقية أو مفبركة أو حقيقة لكن تم اعادة هيكلتها بواسطة تلك التقنية فحُذف منها كلمة او مقطع او أُضيف اليها كلمة أو مقطع من شأنها تغيير المعنى الحقيقي الذي أرادته الشخصية التاريخية ومثلما استهدفت هذه التقنية الذكية عند إطلاقها أشخاصاً معروفين لأجل إبتزازهم أو التشهير بهم أو الإساءة الى سمعتهم لأغراض تجارية او دعائية او ما شابه، فربما ستستخدم الطريقة نفسها مع شخصيات بارزة عُرف عنها رجاحة التفكير وسلامة الانتاج الثقافي والعلمي من كتب ومقالات وحكم ورسائل عملية وغيرها بحيث يظهر واحدهم عبر تقنية التزييف العميق وهو يقول اليوم عبر هذا التطبيق ما لم يقله في حياته. يخدم هذا التزييف التقني حركة انحراف التاريخ الانساني التي يخدم مشاريع الاقتصاد السياسي والصناعي التي تخطط لإنتاج نظام عالمي غالب على كل الثقافات. ان الحرب اليوم هي حرب الكترونية في تفاصيل الحياة المدنية مثلما هي حرب عسكرية في مواقع القتال وجبهات المواجهة. فالحرب العسكرية تستهدف المقاتلين، والحرب الالكترونية تستهدف المواطنين وفي اعتقادي ان الحرب الالكترونية هي الحرب الأخطر في القرن الحادي والعشرين وان كان النظام العالمي يلوح بحرب عسكرية عالمية فإنني اراها حرباً ثانوية يأتي دورها في إقرار ما تنتجه الحرب الالكترونية ليصحو من سيبقى من الناس حياً على قواعد جديدة ونظم جديدة لا محيص لهم عن الإذعان لها..

***

د. عدي عدنان البلداوي

أعلم أن بعض القراء الأعزاء يطمع في جواب للسؤال المحير الذي أثارته مقالة الأسبوع الماضي. أما أنا فما زلت آمل أن يتحمس الأصدقاء للتأمل في جوهر السؤال واحتمالاته.

إحدى المسائل المهمة التي أثارتها القصة الواردة في هذا المقال، هي القيمة النسبية لحقوق الفرد، مقارنة بالجماعة. بيان ذلك: افترض أنك وجهت السؤال التالي لجمع من الناس: إذا تعارضت حقوق شخص واحد مع حقوق 100 شخص... فأي الطرفين أَولى بالرعاية؟

أتوقع أن معظم الناس سيميل لترجيح مطالب الجماعة على حقوق الفرد. هذا أمر متعارف في كل الثقافات، لكنه سائد بدرجة أكبر في المجتمعات التقليدية، التي تميل لإعلاء الرابطة الاجتماعية، ولو أدى إلى خرق حقوق الأفراد.

كان إيمانويل كانط، الذي يُعد أبرز آباء الفلسفة المعاصرة، قد طالب كثيراً باحترام كرامة الإنسان الفرد، وعدم اتخاذه أداة أو وسيلة. الإنسان - وفقاً لهذه الرؤية - غاية في ذاته. وكل ما يفعله هو أو غيره ينبغي أن يستهدف إسعاد هذا الكائن العاقل ورفعته. يمكن للفرد أن يعمل على إسعاد غيره، في الوقت الذي يعمل لسعادته الخاصة أيضاً. لكن لا يصح استغلاله أو التضحية به في سبيل إسعاد الغير.

حسناً، ما الميزان الذي يعيننا على التمييز بين الأفعال التي لا تتعدى التفاعل العادي مع الناس، وتلك التي تنطوي على علاقة استغلال؟

يجيب كانط بأن ملاحظة انعكاس الفعل - ولو بصورة افتراضية - على الذات هو الذي يكشف لنا عن حقيقته. فإن أردت التحقق من سلامة فعلٍ ما، فافترض أنك تريد جعله قانوناً لكل الناس، ومنهم أنت. وهو هنا يشير إلى الجانب الآخر؛ أي كيف يكون الوضع لو انتقلت أنت من جانب الفاعل إلى جانب المتأثر بفعل الغير. دعنا نفترض مثلاً، أنك تعطي رأياً في استحقاق شريحة من الناس قروضاً بنكية أو منحة حكومية أو وظيفة ما، أو ربما كنت قاضياً يصدر حكماً في واقعة. تخيل لو أن حكمك هذا أو رأيك ذاك سيتحول إلى قانون لكل الناس، وأن غيرك سيستخدمه مستقبلاً ضدك؛ أي حين تطلب قرضاً أو منحة أو وظيفة، أو حين تقف أمام محكمة. لو فكرت في هذا الاحتمال بجدية، فهل ستتريث قبل اتخاذ القرار أم لا، هل ستفضل اتخاذ الجانب اللين أم ستختار الجانب الخشن؟

تذكرت، الآن، حادثة واقعية رواها ضابط عراقي سابق، وخلاصتها أنه طلب من مدير الأمن العام تزويد عنابر السجناء بمراوح هواء؛ للتخفيف من شدة الحر، أو السماح بتدبيرها من متبرعين. فغضب المدير وهدده بالعزل لو سمعه مرة أخرى يجامل من سمّاهم المجرمين. ومرت الأيام، فإذا بالمدير سجيناً في تلك العنابر، وكان طلبه اليومي هو السماح له بتركيب مروحة هواء. يقول الضابط إنه ذكَّر المدير السابق - السجين حالياً - بطلبه القديم، فاعتذر أيما اعتذار، لكن فرصة الإحسان فاتته ووقع أسيراً لقراره. هذا معنى أن تفكر في رأيك أو قرارك، كما لو أنه سيمسي قانوناً لكل الناس.

يذكّرنا هذا بوصية الإمام علي بن أبي طالب لولده الحسن، رضي الله عنهما: «يا بُنيّ، اجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك، فأحببْ لغيرك ما تحب لنفسك، واكره له ما تكره لها... واستقبح من نفسك ما تستقبح من غيرك، وارض من الناس بما ترضاه لهم من نفسك». ورسالة هذا النص تُطابق تماماً فكرة كانط «قانون لكل الناس».

خلاصة ما يقال إذن إن الميل العام لترجيح مصالح وحقوق الجماعة على مصالح الفرد وحقوقه قد ينطلق من مبررات معقولة، في حالات كثيرة، لكنه ينطوي على مشكلة أخلاقية واضحة. فالمسألة هنا لا تتعلق بعدد المستفيدين، بل بالفعل نفسه: إذا قبلنا بفعل خطأ؛ لأنه يخدم أكثرية الناس، فقد وضعنا تشريعاً يجعل الخطأ مقبولاً وقابلاً للتطبيق. وإذا كان ضحيته، اليوم، شخصاً واحداً، فقد يكون ضحيته غداً آلاف الناس. المسألة إذن تتعلق بالفعل نفسه، وليس بعدد الذين يقع عليهم.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

هكذا تفعل بنا بعض المقالات والكتابات حين نقرأها قراءة دقيقة. قرأت مقالة الدكتور عبد الجبار الرفاعي الأخيرة، فشعرت كأنها كتبت لي أنا فقط، إذ رسمت لي معاني الحب الأصلية، وشرحت لي خارطة الوصول للسكينة والسمو والارتقاء. هذه المقالة أعطتني وصفة بكلمات قليلة مكثفة، تشير إلى أن حياة القلب وسلامته تكمن في الحب فـ "الحب يوقد جذوة الضوء في القلب، القلب الذي يعيش الحب لا يدركه الوهن، ولا ينهكه تقدم العمر "، حسب تعبير الرفاعي في مقالته المنشورة في جريدة الصباح البغدادية، يوم الأربعاء الماضي 13-11-2024، بعنوان: "يترجم القلب كلمات الحُبّ بمعنى واحد".

قراءة واحدة لمثل هذه الكلمات لا تروي ظمأ روحي. الكتابة تجسد أفكارنا وآمالنا، وتترجم أحيانا أهدافنا ونبضات قلوبنا، فنحن حين نكتب نمسك قلم القلب بمداد الروح ليخط الوجدان أعمق آلامنا وأفراحنا وأتراحنا، ويصل لذائقة الجمال ومكنوناته فينا، ويعرج إلى مخاوفنا وقلقنا، ويمر على ارتيابنا والشك الملتصق بأفكارنا، لتنبعث معاني الكلمات من داخل العقل تارة، ومن القلب تارة اخرى، ومن الروح أحيانا، فترسم وتعبر وتضع نقاطا على بعض الحروف العالقة في مكنون العالم الداخلي، عندها نشعر بالراحة والانتشاء والهدوء الذي يعقب عاصفة وضجيج دواخلنا .

يأتي الرفاعي في مقالته ليأخذ بمجامع قلوبنا، ويستحث بصيرتنا على أن المقصود بالحب الذي ينير القلب هو الحب الأخلاقي الأصيل فقط، الحب غير المشروط، حيث يقول: "الحُبّ الأخلاقي الأصيل ضربٌ من الامتنان والإكرام، مَن يحبّك يكرمك ويعبر عن امتنانه العميق لك. الحُبّ المشروط مُشبَّع بالمن لا بالامتنان، والإكراه لا الاختيار، والفرض لا التطوع، والتكلف لا المبادرة، مما يجعله ضربًا من الاستعباد…الخ".

ثم يمنحنا وصفة بليغة لتهدأت روعة قلقنا ومخاوفنا، وتقليل آثار سمومها على هدوء أيامنا، إذ يقول: "الحُبّ الأصيل يخفضُ وتيرةَ الخوف والقلق، ويحرّر الإنسانَ من الاكتئاب وفقدان المعنى. الحُبّ الأصيل مُلهِمٌ، الاستبصاراتُ الحاذقة يُلهمُها الحُبّ، استفاقةُ العقل يُلهمُها الحُبّ، العفو والغفران والرفق واللطف يُلهمُها الحُبّ. لا يتوقف فعلُ الحُبّ عند القلب والعواطف، بل يظهر أثرُه بشكل واضح في توجيهِ بوصلة التفكير وغاياته في العقل، وبناءِ رؤية جماليّة لله والإنسان والعالَم..".

ولم يقف معنا لهذا الحد، بل يستمر بإرشاد قلوبنا المتعبة إلى بر السكينة والمعنى والأمان، حين يقول: "يظلّ الحُبّ أعذبَ منابع المعنى في حياتنا. لن يتراجع الأثرُ المُلهِمُ للحب مهما تقلّبت أيامُه واختلفت. يلبث الإنسانُ حتى اللحظات الأخيرة من عمره بأمسّ الحاجة إلى كلمةِ حب صادقة".

ويستمر معنا، وهو يمدنا بالجمال والمعنى، ليمنحنا مصباحا ننير به مسارات ومتاهات دروبنا المظلمة فيقول: "ما دام الحُبّ أثمنَ ما يظفر به الإنسانُ من المعاني وأغلاه، فإن نيلَه يتطلب معاناةً شاقةً وجهودًا مضنية. الحُبّ ليس صعبًا فقط، بل هو عصيٌّ على أكثر الناس، لا يسكن الحُبّ الأصيلُ إلا الأرواحَ السامية.."

هنا لم يفرش لنا الرفاعي طريق الحب بالورد، بل أشار لعظمة الجهاد واهمية ترويض القلب على الحب، حتى يصير جزءً لا يتجزأ من ماهيته وسجايا روحه.

مثلت المقالة، في كل شذرة من شذراتها نكهة عطرة تلامس شغاف قلبي، وتنير بصيرة روحي، وتحفز ذهني، وتوقد تفكيري، وكأنها كتاب كبير بمعانيه وعمقه وأهميته، فرحت جدا لاقتنائه كمرجع أعود اليه بين الحين والحين، فقراءة واحدة لا تكفيني.

يختم الرفاعي مقالته بكلمة ذات دلالة عميقة، حيث يقول: "كما أنَّ أخطرَ شيءٍ على الفكرِ والأدبِ هو عبادةُ الأصنامِ الفكريّةِ والأدبيّةِ، فإنَّ أخطرَ ما يفتكُ بالقلبِ هو تحويلُ المحبوبِ إلى صنم". هذه الكلمة تمثل لي توصية مهمة، لابد ان تبقى عالقة بقوة في عقلي، لأن تحويل المحبوب لصنم يفقد الحب روحه وجوهره ومعانيه، بل يتحول معه الحب إلى سمّ فتاك.

***

د. حميدة القحطاني

(لولا الجهل لجاع الكهنة وسقط الطغاة).. كارل ماركس

(العالم أصبح مكانا خطرا جدا للعيش فيه، ليس لكثرة الأشرار، بل لصمت الاخيار عما يفعله الأشرار).. ألبرت انشتاين

في القرن العشرين والذي سبقه التاسع عشر، ظهر عدد غير قليل من العلماء والمفكرين في مجالات متعددة منها: الداروينية أي نظرية تشارلز داروين والتطور البيولوجي، وفي علم الوراثة مندل وقوانين الوراثة في مجال النباتات وكذلك الإنسان، ونيوتن وقوانينه مثل قانون (الفعل ورد الفعل) وقوانين الحركة وكذلك في مجال العلوم الإنسانية في الاقتصاد نظرية آدم سمث في كتابه  (ثروة الامم) ودايفد ريكاردو وكتابه (مبادئ الاقتصاد السياسي والضرائب) والفلسفة هيغل في الديالكتيك وفيورباغ في المادية وفي علم الاشتراكية سان سيمون وربورت أوين وشارل فوريه ، وكارل ماركس في الاقتصاد و(قانون فائض القيمة) وكتابه الموسوم (رأس المال) أي القيمة الزائدة وقوانين أخرى منها ١- قانون التغير الكمي يؤدي إلى التغير النوعي ٢- قانون نفي النفي ٣- وحدة وصراع الاضداد ، وفريدريك انجلس وكتابه (اصل نظام الاسرة والدولة والملكية الفردية) وما كتبه في الاقتصاد السياسي والثورة واشترك مع رفيق دربه كارل ماركس بصياغة (البيان الشيوعي) عام 1848 والذي أصبح منهاج عمل للحركة الشيوعية والعمالية العالمية، العلماء والفلاسفة قدموا خدمات جليلة كل في مجاله ولا ننسى علماء في مجال الطب ممن اكتشفوا من خلال دراستهم في مجال الميكروبيلوجي (البكتريا، والفيروسات) أمراض أطلقوا عليها تسميات وهذه الأمراض قبل اكتشفها كان الإنسان يموت ولا احد يعرف السبب في وفاته، ومن ثم اكتشفوا القاحات، التي أنقذت الأطفال من الأمراض لاحقا، ومنها السل الرئوي وأنواعه الاخرى ، الهيضة، شلل الأطفال القاح الثلاثي ويضم (الخناق -الكزاز - السعال الديكي) وغيرها من الأمراض السارية والمعدية .

ولعبت الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر والعشرين دورا مهما في تطوير الصناعات في مجالات متعددة منها القاطرة البخارية في القطارات وكذلك الطائرات والسيارات بكل أشكالها من أجل حل مشكلة المواصلات وأصبح العالم فعلا قرية صغيرة تصلها متى شئت، واكتشاف الريبوت ما هو إلى خطوة في ايجاد عامل مساعد للانسان في تقديم الخدمات في مجالات متعدد منها الصناعية والخدمية في مجال السياحة وتقديم المساعدة للسائح وكذلك كدليل مساعد في الجواب عن تساؤلات ممكن الجواب عليه، ويعتبر هذا الاكتشاف هو بالتأكيد بمساعدة التكنلوجيا الرقمية للانسان،

مع تطور العلوم في كل المجالات المتعدد والتي تم ذكرها، والفضل يعود إلى العلماء والفلاسفة لرسم خارطة طريق في تطوير العلم للأجيال الاحقة وبفضل التكنلوجيا وظهور الحاسوب، وظهر ما يسمى اليوم ب (الذكاء الاصطناعي). والذكاء الاصطناعي هو مجال واسع ومتشعب يدخل ضمن علم التكنولوجيا الحديثة وبالتخصص في مجال علوم الكومبيوتر (الحاسوب) وعلى سبيل المثال لحل المشكلات المعرفية والتي لها صلة بالذكاء البشري في مجال التعليم والإبداع به وتغير طرقه، والهدف هنا من الاستعانة بالذكاء الصناعي هو انشاء أنظمة وطرق ذاتية في التعليم تتلخص وبالاستنتاجات المعاني من البينات الواردة، لقد اجمع الباحثون والمختصون في العلوم والتكنولوجيا، أن الذكاء الاصطناعي له فيه مزايا عديدة، ويمكنه في تغير سبل الحياة على كل الصعوبة وفي كل المجالات للتحديث، وفي الوقت نفسه أكدوا أن له مخاطر يجب الانتباه اليها، وتحديد كيفية التعامل معها من أجل لا تقع مخاطر على العالم.

. وفي مجال الأبحاث الطبية في وقتنا الحالي يتم استخدام المعلومات من الذكاء الإنسان لتبسيط العمليات الجراحية والعلاجية واتمتة المهام في العمل الطبي، وممكن استخدام تقنية الذكاء الاصطناعي في الأبحاث الطبية لتسهيل عملية اكتشاف الادوية الطبية وتطويرها مثل اللقاح الثلاثي المعطى إلى الأطفال وهو يتضمن ثلاثة أمراض تصيب الإنسان (الخناق - الكزاز - السعال الديكي) . ولا يمكن أن لا نذكر أن الإنسان وبمساعدة التكنلوجيا استحدثت الروبوتات والتي تقوم بفعل كما يقوم الإنسان به في مجال الصناعة وكذلك في تقديم الخدمات في مجالات السياحة والعمل الفندقي.

و مجال تقديم المعلومات للزبائن في معارض للصناعات المختلفة في مجال الدعاية للمصنع وللشركة.

و هناك إمكانية للذكاء الاصطناعي أن يقوم بوضع بيانات للمشاريع المعدة من قبل الحكومة في هذا البلد او ذاك، ومن خلالها وبعد وضع البيانات، يتم الكشف عن ارتفاع في الأسعار والكشف عن تحويل الأموال لمسؤولين اصحابي العلاقة والأنشطة التي تقوم فيها، وهنا ممكن ضرب الأمثلة كما يجري اليوم في العراق، كصفقات العقود المبرمة مع شركات النفط ومشتقاته وكذلك الغاز، وبهذا يتم الكشف في البيانات من خلال الذكاء الاصطناعي.

وممكن الكشف عن تقارير صدرت من وكلاء للاجنبي، من عراقي الجنسية، إلى مخابرات بلدان أجنبية تدرس كبيانات وثم تحول إلى خطط وفق الذكاء الاصطناعي كما حدث للعراق في الحصار الجائر، من ثم غزوه وموت الالف من الطفال والنساء وكبار السن التدمير البنية التحتيه له وفق بيانات مفبركة حول اسلحة الدمار الشامل والعلاقة مع القاعدة. والعراقيين يتذكرون ما جرى في ضرب ملجأ العامرية وقتل الامنين من الناس الهاربين من القصف المتواصل من قبل الأمريكان وحلفائهم .

أن أهمية الذكاء الاصطناعي تكمن بالمطلوب منها ليس العمل على إنتاج وتطوير اسلحة الدمار والتي تستخدم من الجو ومن البر والبحر، وقتل المزيد من البشر وتدمير الأرض وتلويث المياه، إنما المطلوب هو اسعاد البشرية وتطوير العلم لخدمة الإنسان في التعليم والصحة والحياة الحرة الكريم وهذا ما نترجاه وبسلام من أجل بناء عالم يسوده الأمن والاستقرار والحفاظ على البيئة.

***

محمد جواد فارس - طبيب وكاتب

 

يغلب على استخدام كلمة (آفة) الجانب الأخلاقي ولا يغلب عليها جانب التحليل العقلي، فهل يُفهم من العنوان أن المقصود هو الحديث عن الأخلاق من حيث افتقار الثقافة العربية الى قلة العناية بالضوابط الخلقية؟

الحق أن الأخلاق جزءٌ لا يتجزأ من التفكير العربي لا ينفصل عنه ولا تنفصل هي عن سياقاته المعنية، ولكننا لسنا نقصدها بالمباشرة في هذا المقال، لأن ما ينطبق على الكل هنا ينطبق على الجزء بغير مراء؛ إذ الكل الذي سنتحدث عنه يشمل جزيئات الأخلاق وغير الأخلاق في مناقشة مسائل التقدّم أو التخلف في العقل العربي سواء.

وقد تناولنا في المقال اللاحق (التدّين والثقافة) حديثاً غير مفصول عمّا سنذكره تباعاً ما دمنا لا زلنا نطرح قضية تجديد العقل العربي، والخطاب الدّعويّ منه على وجه الخصوص في إطار تأصيلها واستنادها على العقل من جهة وعلى القلب من جهة أخرى. فإنّ العقل العربي بحاجة إلى إعادة صياغة في إطار بنيته الدينية التي تشكل بما يدع مجالاً للشك إحدى ركائزه الأساسية.

ولا خلاف على أن الدين - بقيمه ومعتقداته - هو لبُّ عملية التجديد والبناء، وأن الخطاب فيه ينبغي أن يقع دوماً تحت مبضع النقد الفاحص، لأن الخطاب الديني فيه يشمل تلك الأبنية ويدل عليها من حيث القوة أو الضعف، أو من حيث التسامح وقبول الآخر، أو من جهة التطرف والعنف ورفض المغاير المختلف، يدل عليها من أقرب طريق.

فإذا ارتفع الخطاب وترقى في ذاته ارتفعت قيمته في الناس وترقت في المجمعات، ودلّ من أقرب الطرق عن التعبير على تلك الحقيقة العليا المتسامية. وإذا هبط وانتكس هبطت معه القيم الدينية، ووصم الدين بما ليس فيه من جرّاء الخطابات المترهلة المنتسبة إليه، وهو في الغالب منها براء. وليس يقدح في الدين سوى الفهم المغلوط الذي يقترب من دواعي الانتكاسة والهبوط في رافدين عظيمين: رافد القلب الذي هو ممد الهمم بالإحساس والتبتل، ورافد العقل الذي يفند وينقح ويختار.

إنه؛ إذا كانت معاجم اللغة تشير إلى أن أصل (الوهم) هو التُّهَمة. والتهمة: هى توهّم الإنسان أن أخاه قد أساء إليه أو تجاوز حَدَّاً من الحدود، وأصلها الوُهَمة، وعلى ذلك يصبح الوهم تهمة ووهمة؛ فكل موهوم متهوم وكل متهوم متوهم أو موهوم؛ فإنّ ثقافتنا العربية على هذا الأصل متهومة عندنا؛ لأنها مؤسسة على الوهم مستندة على تصورات هى في الغالب قائمة على الوُهمَة.

آفة الثقافة العربية؛ إذا هى لم تستطع أن تفعِّل "عقيدة التوحيد" على صعيد التذوق والتبْصرة أو على المستوي العقلي والفكري والثقافي، وأن تصل من النزوع إلى الفصل والمباعدة إلى الانخراط في وجوب الوحدة بحيث تُقرن الأشباه والأضداد وتربطها بعضها مع البعض الآخر بما يجعل منها وحدة توحيديّة واحدة في غير تنافر تفرضه شكلية الأداء أو تناقض يجيزه منطق المحسوس …

أقول؛ إنّ آفة الثقافة العربية إذا لم تقتدر أن تجعل من التوحيد غايتها ومطلبها؛ فهى لا شك تنطلق في أغلب أحوالها وتعدد مواقفها من وهم، وتعود على وهم، وتتصور الحقائق على الجملة فضلاً عن التفصيل بفاعلية الوهم المعشعش في أدمغة منتجيها؛ ومنتجو الثقافة لا يبلغون من الحقائق المجرَّدة مبلغهم من العلم بفاعلية الوهم أبداً، وإنمّا يبلغونها بالتجرَّد وببذل النفس طواعية في سبيلها؛ لكننا محكومون في أفكارنا وآرائنا وأحكامنا ومنطلقاتنا الفكرية والشعوريّة بالهوى لا بالعقل المرّوض على التفكير البصير.

ومن شأن حكم الهوى أن يُملي علينا خيوطاً متشابكة ومختلطة بخليط عجيب من "الوهم"، ويظل الوهم يلفنا لفاً لا فكاك لنا من خيوطه الكثيفة المتشابكة، حتى ليملأ صدرونا بالتضخم، وعقولنا بالاعتقاد التقليدي المنبوذ، وذواتنا بالفراغ والسطحية، وسلوكنا بالتصرف الرزيل المشين، فيبدو كل ما نقوله أو نفعله إلى الوهم المتفشي في أعماقنا أقرب وأدنى من بلوغنا للحقائق التي يسبقها جهادُ للنفس شريف.

ومتى تغلغل الوهم في أفكارنا ومعتقداتنا؛ مضينا مع "الهوى" إلى غايته فيسوقنا الهوى إلى ضروب متشابكة لا شك فيها من الأنانية وحبّ الذات وتضخم الأنا … إلى كثير من الصفات التي يغلب عليها حُكمه فينا، ولا يغلب عليها فينا حكم العقل المقيّد بضبط الأهواء ومجاهدة الآفات، وبلوغ الحقائق من ثمَّ بمقتضى هذا الجهاد لا بفاعلية الهوى الذي يتحكم فينا تماماً كما تتحكم فينا العادات، والمألوفات، والمرذولات، تحكم الأغلال تغلنا عن الحركة، وعن الحرية، وعن الاعتقاد الحُر النزيه عن الأغراض:

اعتقاد التوحيد، وفهم التوحيد، وإدراك التوحيد، وتصحيح التوحيد، وتفعيل التوحيد في حياتنا الباطنة قبل الظاهر منها لبصر الشاهد العيان.

هذا هو الاعتقاد الذي يعلو متسامياً عن كل عقيدة مقيدة بقيود الوهم بلا هداية يرومها قصد السبيل؛ فنحن - والله - واهمون في أقوالنا وأحكامنا وثقافتنا وعقائدنا؛ لأننا محكومون فيها بالهوى، مسيَّرون فيها بالأنانية وحبّ الذات، ناشطون النشاط كله في بلوغ الأهواء منا مبلغ العقائد الثابتة؛ ونحن - في ثباتها وتحققها في الحق - واهمون !

فأي غربة غريبة تستشعرها الذات العربية أغربُ من كونها تنمي قدراتها على "الوهم" وتُرْبي إرادتها على الزيف؛ وتصل إلى الأمور من طريق "الوهم" لا من طريق "الحقيقة"، وتنطلق بادئ ذي بدء من حكم "الهوى" لا حكم "الإرادة العاقلة" ثم ماذا؟

فإذا بذواتنا العربية تتشتت وتتفرَّق حيث لا يجمعها رابط من التوحيد وطيد.

حتى إذا شئنا نقد أنماط التدُّين وجدنا من أكبر المشاكل التي تواجه ضمير المتدين: عزل التوحيد عن واقعات الحياة، حتى ليتسأل المرء إزاء هذه الانقسامات التي تشهدها صباح مساء: إذا لم يكن التوحيدُ معزولاً عن الواقع الديني أصلاً لما أضحى معزولاً كذلك عن الواقع النظري والفكري ثم الواقع الفعلي بكل ما فيه من تفرّق وتمزق وتشتت وانقسام !

الأمر الذي جعل الإيمان الديني لدى المسلم قشرة سطحيّة تخلو أو تكاد من المضمون العملي؛ ذلك "المضمون" الذي لا نشك لحظة واحدة في أنه ينتج لغة ومدنية وعلماً وفناً وحضارة؛ ولو كان تدينه بالفعل مرهوناً ببصيرة التذوق الدافعة إلى العمل والإنتاج؛ لربط كل الأشباه والأضداد وصعد بها عارجاً إلى توخِّي الوحدة.

ولكن الواقع الثقافي العربي الحالي يقول لك بأبلغ لسان: إن هذه البصيرة الذوقية مفقودة أو تكاد، هى مفقودة نعم ! وعندي من الأدلة على فقدانها أولاً قراءة هذا الواقع قراءة مستبصرة جيدة ومتابعة الأحداث الجاريّة فيه من قريب، والانغماس فيها، وتحليلها والوعي بملابساتها ونتائجها في العقل والشعور ....

وهى مفقودة ثانياً؛ لأنها في الأصل ما وجدت تامة، نشيطة، فعالة، وحيويّة، إلا في فرع واحد من فروع الثقافة العربية والإسلامية، وأعني به الفرع الذي يضم علوم التزكية سواء كانت تزكية خُلقية إنْ على مستوى الفرد، وإنْ على مستوى المجموع.

وهذه العلوم بالنسبة للوعي العربي والإسلامي كانت ولا تزال تمثل تراثاً مهجوراً، يُنْبَذ اليوم من العقل العربي كما كان قبلاً منبوذاً بالأمس؛ ولو قدِّر لهذا الفرع أن يجري في حياتنا الفكرية والثقافية مجراه الطبيعي، وأن يُنظَّر له كما نظِّر لفروع أخرى غيره، لكانت تلك "الرؤية الموحَّدة" أو أحادية الرؤية الغائبة عن ثقافتنا الإسلامية من أولى اهتمامات العقل العربي قاطبة: تنقذه من الضلال.

الواقع الإسلامي يغلي بالتيارات الإسلامية المتشددة المضطربة العفنة؛ والتي أساءت إلى الإسلام من حيث أرادت به الإحسان .. فهلا جربتم سماحة التصوف وهو مقام الإحسان في الإسلام؟

ماذا تقول يا رجل؟!

التصوف!!

ألم تقرأ اليوم في رسالة علمية ضخمة نتيجة غربية عجيبة يستخلصها باحث مفادها أن الغرب أهتم بنشر التصوف بين المسلمين لإسقاط العقائد الصحيحة! فأي تصوف هذا الذي تعوّل عليه طلباً للإصلاح؟!

ثم ألم يكن تديّن المتصوفة نمطاً كسائر الأنماط الثقافية التي تتخذ لنفسها شكلاً من أشكال التدين ينتهي آخر الأمر إلى توجّهات أيديولوجية؟ فلم تنحاز إليه رافضاً سواه، هل هذه موضوعية الباحث يتوخاها بغير تزيد ولا مبالغة؟

للقارئ الحق في أن تدور في أم رأسه مثل هذه التساؤلات. فأمّا عن تلك النتيجة الغريبة العجيبة المنقولة لا المستخلصة فهي نتيجة متخلفة غارقة في التخلف إلى أبعد الحدود، فضلاً عن كونها صدى لرأي مستشرق من جماعة المستشرقين الذين لا يؤخذ لهم رأي بغير نقد أو تمحيص؛ لأن المستشرقين الذين نشروا ذخائر التراث الصوفي والفكري، وقاموا بتعريف المسلمين بتراثهم العقلي والروحي هم أولى بتقديم واجب الشكر من نقيصة النكران ثم نأتي بعدُ لدراسة آرائهم مع ما فيها من غلو لنقدها وتقيمها لا أن نقول فيها ما يقوله الجاهلون المتخلفون.

غير أنهم - ما عدا القليل منهم - محددون سطحيون يحومون حول المسائل الحسيّة، ولا يتوسّعون في النظر أو يتعمّقون وراء الظواهر التي يلمسها شاهد الحسّ لمساً فلا تخرج عنده من حدود ما يثبته أو ينفيه من وقائع السّماع والعَيَان. والمعهود في جماعة المستشرقين أن الكثيرين منهم يقرنون سوء الفهم بسوء النية، لأنهم يخدمون سياسة المستعمرين أو سياسة المبشرين المحترفين، أو ينظرون في بحوثهم نظرة الغربي الذي ينظر إلى الشرقي نظرة المتعالي عليه في حاضره وماضيه.

وأمّا كون تدّين المتصوفة نمطاً ثقافياً كسائر الأنماط الثقافية الأخرى للتديُّن يجوز نقد خطابه تماماً كما يجوز نقد غيره من الخطابات، فهذا ممّا لا شك فيه عندنا، لكنه النقد الذي يفحص الفوارق بين الأنماط المختلفة ويقيس مقياس التدّين بمطابقته للاعتقاد الصحيح ولممارسته للقيم البناءة ...

ومن هنا يتميّز خطاب عن خطاب.

فالتسامح وقبول الآخر المختلف مثلاً فارقٌ نقدي ظاهر بين نمط ونمط؛ فإذا توافر في شكل من أشكال التدّين واختفى في سواه قبلنا ما هو متوافر ورفضنا النمط الذي يدعو إلى ضده، ويظهر نماذج التشدّد التي تخلف آثاراً سلبية وتضرُ بالعقيدة عموماً بمقدار ما تقدح في المنتسبين إليها من أقرب سبيل.

وعليه، فالمثقف الذي يدّعي أنه يتمتع بكل معطيات الثقافة الرفيعة؛ لن يكون مثقفاً - في تقديري - وهو يكره الثقافة العرفانيّة، ولا يريد شيوعها في بلادنا العربية مع أن التصوف الذي هو في الأساس ثقافة عرفانيّة تتأسس على المحبّة والمعرفة ليحمل بالمطلق خُلق الإسلام السّمح الطهور.

أما بقيّة فروع الثقافة الإسلامية؛ فهي على انتشارها وسعتها وكثرة الطالبين لها، الداعين إلى تزكيتها وتفضيلها، الآخذين على عاتقهم بفرضها قسريّاً على واقعنا الفكري والثقافي؛ فهي السبب المباشر في تعطيل النظر إلى "أحادية الرؤية"، فداعية إلى الفصل والمباعدة، وذاهبة إلى التجزيئية الغارقة في نفسها وعلى نفسها في غير معنى، والفاقدة لعناصر التجمُّع والائتلاف، والذاهبة إلى التفاصيل والجزئيات دون الارتداد إلى وحدة تجمعها في مبدأ واحد عام مشترك.

ما معني أن تكون متديناً بدين التوحيد الذي فطرت عليه تمارسه شكلاً دون أنْ تجريه واقعاً فكريّاً وثقافيّاً ومعنويّاً وروحيّاً؛ ليكون هو عينه مجري التجربة على المستوى الفعلي والتطبيقي؟!

ومع ذلك أقولُ؛ إن افتقار العربي المسلم المفطور على غريزة التوحيد لم يتمكن في ذاته أن يُفعِّل هذه الغريزة على المستوى العقلي والثقافي، ولكنه ينتكص على عقبيه ويعودُ أدراجه مستغرقاً في التجزيئية المُفرطة، ولم يهيئه توحيده الفطري لأن يجري عليه ممارسته العمليّة والواقعية؛ فأضحى تدينه في كفة، ونشاطه الفكري والثقافي والعلمي في كفة أخرى؛ فجاءت عقليته عقلية فصل ومباعدة لا ربط فيها ولا توحد بين أجزائها، وليس بمقدورها أن تصل إلى الوحدة التي هى غريزتها الأصيلة المفطورة عليها، لكأنما العربي لم يستطع أن يفهم: ماذا عَسَاهَا تكون غريزة التوحيد، وماذا عَسَاهَا كانت تكون فطرة الوحدانية؟!

لكأنه لم يستطع بعدُ - لأجل تدينه الساذج البسيط - أن يكوِّن لديه "رؤية موحَّدة"؛ يجريها على الواقع الفكري والنظري تماماً كما يجريها على الواقع الفعلي والتطبيقي كما هى مقرّرة قبلاً في الواقع الديني بالفعل؛ إذ إن فكرة "الرؤية الموحدة" تلك؛ إنمّا هى فكرة دينية بالأساس مصدرها الدين لا الفلسفة؛ فلو صحَّ أن الفلاسفة نادوا بها أو قصدوها فيما نادوا فهي مٌستلهمة من الدين؛ وليس للعقل فضل فيها إلا فضل الشرح والتحليل.

ليس صحيحاً أن العقل أنضج من القلب أو أصدق، بل الصحيح هو أن القلب أصدق من العقل وأنضج، ولو عرفنا لعلمنا أن العقول أدنى من القلوب؛ وأن حظنا من معارفنا القلبيّة أقل بكثير من حظنا من علومنا العقلية. (وكل كلام يبرز وعليه من كسوة القلب الذي منه بَرَز) كما تقول إحدى حكم المحققين النبهاء.

يصدر الكلام عن القلب وهو تعبيرٌ عمَّا في القلوب مباشرة، وإنما جُعل اللسان على الفؤاد دليلاً. حقاً صدق الله العظيم:" إنها لا تعمي الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور". وربك رب قلوب فانظر ماذا خالط قلبك؟ حتى إذا ما وجدت ما يُخالطه غير اعتقاد التوحيد وتطبيقاته الحيوية واقعاً يجري في الناس فاعلم أن ثقافاتهم آفات وجل حركاتهم وسكناتهم تقليد يجر وراءه التقليد وهو أسُّ البلاء وآفة الآفات.

وليس صحيحاً أن كفة العقل هي على الدوام في رجحان؛ بل القلب أرجح في أغلب الأحوال. القلب دليل العقل في أكثر الأحايين؛ وعمى القلوب أشدُّ وأنكى من عمى العقول والأذهان.

***

د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم