قضايا

بات واضحا ان احد اهداف احتلال العراق وضعه على سكة اللبرالية الجديدة، وتحويله الى سوق للاستثمار الاجنبي والاستهلاك المحلي، عبر تنفيذ برامج تكييف هيكلي او ما يسمى بالاصلاح الاقتصادي، والاصلاح الاقتصادي هذا يتطلب ايضا خططا وبرامج ثقافية لاصلاح وتكييف المنظومة المفاهيمية والقيمية للمجتمع، بغية تحويل المواطن الى كائن اقتصادي مستهلك، كائن سطحي، لا مبالي بغير ارضاء نرجسيته ورغباته ونزواته.

من الجدير بالذكر ان الخطاب الثقافي الذي يروج له الاعلام الراسمالي المهيمن اليوم على العالم، يتغير وفق المزاج الشعوري والارث الثقافي والاخلاقي للمجتمع المستهدف، والمجتمع العراقي بعد عقود من قمع اعتى الدكتاتوريات والحروب الطويلة والحصار والعزلة عن العالم الخارجي، بات طيعا لقبول الجديد بغية الخروج من ازمة اللامعنى ليسقط في شباك العدمية والتضليل الفكري.

يؤكد ديفيد هارفي في كتابه الموسوم (حالة ما بعد الحداثة) بان افكار ومفاهيم وقيم ما بعد الحداثة تمثل تجسيدا للخطاب الثقافي للراسمالية في طورها الجديد،

ولكي تتضح نسخة الخطاب ما بعد الحداثي (المتناغم مع الطور الجديد للراسمالية) الذي تم ترويجه في العراق بعد الاحتلال، سنبتعد عن التجريد ولغة الفلسفة النخبوية، فالهدف ان يتعرف القارئ على سموم اللبرالية الجديدة التي تدس في عسل (الحداثة والتنوير) المزعومين، ولنرصد ابعاد مايتردد على مدى الساعة في القنوات الفضائية واعلام التواصل والصحافة، والذي نتحسس معاوله تعمل دون كلل على تهشيم الثوابت النسبية لثقافتنا الاجتماعية، وتؤسس لمنظومة مفاهيمية واخلاقية جديدة تنسجم مع مخططات الهيمنة الراسمالية الجديدة ومشاريعها المدمرة في المنطقة.

رفض السرديات الكبرى:

ترددت تلك العبارة في الاعلام العراقي حتى باتت كليشيه مملة، بل اصبحت وسيلة قمع ناعمة لاسكات الاصوات والمواقف المسؤولة واتهام اصحابها بالتشبث بسرديات كبرى اثبتت فشلها (حسب ادعائهم).

مفكرو ما بعد الحداثة يرفضون اي تعريف لفلسفتهم على اعتبار ان التعريف تأطير، وانهم ضد ان توضع الاشياء حبيسة اطار معين، الا ان ليوتار (وهو من رواد ما بعد الحداثة المهتمين بتفكيك اللغة) يقول ان فلسفتنا تقوم اساسا على رفض السرديات الكبرى ورفض ما جاءت به الحداثة وحركة التنوير، وما يثير علامات استفهام كبرى تسويق مثقفينا لهذه الافكار وغيرها من افكار مابعد الحداثة على انها نتاج الحداثة وحركة التنوير التي حرمت منها مجتمعاتنا، فهل هو جهل بحقيقة ان مابعد الحداثة هي اصلا انقلاب على الحداثة وفكر الانوار؟، ام لتضليل الناس واستغلال توقهم الى الحداثة والتنوير بسبب تخلف مجتمعاتهم؟.

مابعد الحداثة في اوربا وخاصة في فرنسا ترفض السرديات الكبرى لكونها تضع قواعد وقوانين لتفسير الظواهر والاحداث ضمن رؤية شاملة، كالمادية التاريخية والمسيحية والداروينية والفرويدية، زاعمين ان النظريات الشمولية اما ان تكون مضللة او تقود الى التوليتارية، فالواقع سيال، والاحداث بنظرهم تجري بشكل عشوائي ومتشظي لا تحكمها اي قواعد جامعة، وان التقدم ليس الا وهما من اوهام الحداثة بما في ذلك التقدم العلمي، (حين سئل فوكو عن التقدم العلمي الذي نشهده اجاب برطانة ما بعد الحداثويينبانه ليس هناك اي تقدم علمي، هناك تقدم في سرد تاريخ العلم وليس العلم). اما نخبنا الثقافية والمتفيقهون في السوشيال ميديا فقد تلقفوا مبدأ رفض السرديات الكبرى لاستهداف الماركسية او اي نهج تحرري قومي واي موقف رافض للاحتلال، لابعاد الناس عن التطلعات المعادية للراسمالية، والسخرية من اصوات التضامن ودعم القضايا القومية الى حد تبليد المشاعر الانسانية ازاء ابادة شعب محتل.

السرديات الصغرى وانتشار المنظمات غير الحكومية:

يدعونا فلاسفة ما بعد الحداثة الى نبذ السرديات الكبرى وتجنب الوقوع في اسرها، اما المنظمات التي خلفتها لنا الحداثة كالنقابات والاتحادات الشبابية والمنظمات النسوية التقليدية فهي الاخرى مرتبطة بالاحزاب وسردياتها الكبرى، ويجب احلالها بالسرديات الصغرى اي الحركات التي تهتم بشأن محدد وتعمل لتحقيق اهدافا جزئية، كرفع الاجور، التحرر الجنسي، حقوق المثليين، حقوق المتحولين جنسيا، حقوق الاقليات وما الى ذلك من اهداف صغرى.

في اميركا وفرت هذه الفكرة قارب انقاذ للحزبين الراسماليين الحاكمين، لحل ازمة ثقة الشعب بالنظام وحرف انظار الطبقات المسحوقة عن جذور معاناتها عبر زجها في صراعات ثانوية بعيدا عن الصراع الطبقي، ولضمان عدم المساس بالنظام الاقتصادي والسياسي الحاكم، خاصة بعد الحراك الذي قاده برني ساندرز والذي كشف عن الغليان الشعبي وتجذر الوعي الطبقي بشكل غير مسبوق.

لمواجهة الوعي الطبقي نشطت حركة ما يسمى بالايقاظية(ووكزم) لينقسم الشعب الى من يؤيد الديمقراطيين لدفاعهم عن زواج المثليين وحق الاجهاض وحقوق الاقليات، وعلى الجانب الآخر من يؤيد الجمهوريين المحافظين المعارضين لتلك الحريات. وفي مجال السياسة الخارجية استجدت مبررات جديدة للتدخل في شؤؤن الدول النامية تحت غطاء نصرة حقوق الاقليات او المثليين او ( نشر الدمقراطية) وما الى ذلك، ومن هنا انبثقت مئات المنظمات غير الحكومية NGOS باسم منظمات المجتمع المدني ومعظمها( دون تعميم) تنفذ اجندات مموليها من حكومات او اجهزة مخابرات او راسماليين كبار كجورج سورو و بيل غيتس. وكان للعراق نصيب من ذلك حيث شهد تفريخا سريعا لمثل هذه المنظمات، وتطوع الاعلام داعما لها عبر اضفاء مشروعية لادوارها واطراء نشاطاتها وحجب مصادر تمويلها وحقيقة اجنداتها. السرديات الصغرى بديل للحركات الاجتماعية الجذرية الكبرى والاحزاب!!! وهذا ما لمسناه في الرؤية العدمية القائلة بلا جدوى الاحزاب والتي انتقلت عدواها لانتفاضة تشرين وصيغت كشعار وهتف بها المنتفضون وكانت احدى اسباب تشظيها.

الايديولوجيا والادلجة:

بدل مناقشة الافكار والمواقف يكفي ان ترشق محدثك بالادلجة لمصادرة حقه بالحوار، هذا ما يجري في الفضاء الاعلامي وقنوات الاتصال علما ان النيولبرالية مستثناة من الادلجة تيمنا باعلان فوكوياما بانها الايديولوجيا المنتصرة التي سجلت بداية عصر ما بعد الايديولوجيا ونهايه عصر الايديولوجيات.

وابلغ تعبير عن ذلك ما كتبه اغناسيو راموني (ان اجهزه الاعلام في عصر العولمة اصبحت افيون الشعوب الجديد، فقد فتحت باب موت الايديولوجيا لتروج للايدولوجيا الوحيدة (الليبرالية) بعد نزع صفة الايديولوجيا عنها مما يتيح لها التسلل بسهولة الى الاذهان، فتخدرها وتشل طاقاتها على التفكير النقدي).

الايديولوجيا ملازمة للانسان وربما تكون اساطير الحضارات القديمة هي نوع بدائي من الايديولوجيا، وقد توصل التوسير الى ان الانسان لا يمكنه الاستمرار بالحياة دون ايديولوجيا، واكد ذلك كارل مانهايم ايضا.

الانسان يجتمع في عقله الاستيهام والادراك في آن واحد، اي ان عالميه اللاعقلاني (العاطفي) والعقلاني يتفاعلان معا لانتاج مدركاته ومتبنياته. حسب ماركس الايديولوجيا تقتصر على خطاب الطبقة المهيمنة الحاكمة لتغييب الوعي الطبقي وتكريس وعي زائف يهدف الى تبرير استغلالها وديمومة هيمنتها، وقد طور غرامشي المنظور الماركسي مؤكدا على ضرورة بناء ايديولوجيا مضادة لخطاب الطبقة المهيمنة، ووصف الايديولوجيا على انها الوسيط بين الفلسفة والجماهير، بمعنى انها تعمل على تبسيط الفلسفة النخبوية مع تضمينها ما يستثير العواطف والحماس لاطلاق الطاقات الثورية لدى الجماهير. الخلاصة ان عصر ما بعد الايديولوجيا وهم من اوهام ما بعد الحداثة، وان الايديولوجيا اما ان تعمل لخلق عالم اجمل تسوده المساواة والعدالة والسلام، اي تقدمية في اهدافها، او رجعية تسعى لبقاء الواقع كما هو عبر تزييف الوعي العام وترويض المجتمع لقبول الاستغلال والهيمنة . الطغمة الحاكمة في العراق مثلا تتكئ على ايديولوجيا من اهم اركانها الطائفية والميثولوجيا الدينية المزيفة بما فيها من اساطير وخرافات كوسيلة للخداع والتغطية على فسادها وتفريطها بمقدرات البلاد وسيادة الوطن، وعلى القوى الوطنية الحالمة بوقف انحدار العراق واعادة سيادته وبناء عراق تسوده الديمقراطية الحقة والعدالة والمساواة، اقول عليهم تبني ايديولوجيا تقدمية مضادة لا ايديولوجيا الراسمالية التي كانت سببا فيما نحن فيه اساسا.

محورية الفرد:

في فلسفة ما بعد الحداثة يتبوأ الفرد مكانة محورية، فهو فاعل مستقل يشكل هويته الذاتية، ويصوغ عالمه وفق تجاربه الشخصية واختياراته ورغباته الذاتية، بعيدا عن الجماعة.

تقديس الذات لم يروج له فقط في الحوارات والتنظيرات والفنون في العراق الجديد، بل بالرمز والصورة الايحائية وخاصة في وسائل التواصل الاجتماعي، فالفرد المتفاعل مع ثقافة مجتمعه والمتمسك بقيم التضامن مع ضحايا الراسمالية العالمية والمواقف المناهضة لمخططات الامبريالية الجديدة وربيبتها الصهيونية، يرشق بوصمة التبعية للقطيع او التعصب، ومن آثار الفردانية ومحورية الذات اطراد النزعة الإستهلاكية، اذ يبني الفرد هويته عبر التميز بالاستهلاك والمظاهر. وما فتئت الشركات تنتج نماذج من انماط الحياة لأرضاء اختيارات الافراد، وتعيد تشكيل رغباتهم لتبقيهم رهائن في دوامة الاستهلاك التي لا فكاك منها. وهذا ما يفسر ظاهرة انتشار المولات ومراكز التجميل للرجال والنساء وطب التنحيف والرشاقة وبيع الجنس وغيرها ( حسب ليوتار الجسد مصدر جميع الحريات). ومن نتائج محورية الفرد تضخم الذات والنرجسية، بحيث اصبح من الصعوبة بمكان التواصل التفاعلي على الصعيد الاجتماعي او السياسي، وربما كان ذلك احد اسباب فشل الحراكات الاجتماعية وتهافت الجميع على الزعامة ارضاءا للنرجسية وتعبئة فراغ الهوية الفردية وتمايزها.

نسبية الحقيقة والقيم الاخلاقية:

المتابع لاعلامنا وحواراتنا على كل المستويات يلاحظ ان هناك فهما مشوشا لمفهوم نسبية الحقيقة ونسبية القيم الأخلاقية، فهي على ما يبدو نسبية مفتوحة تندرج فيها المواقف الانسانية والأخلاقية والحقائق الثابتة ضمن وجهات النظر غير الملزمة.

كان فلاسفة الحداثة يؤمنون بان للحقيقة وجودا موضوعيا خارج الذات وان العقل قادر على كشفها وتبنيها، وهذا ينطبق ايضا على قيم الاخلاق ومعاييرها، حتى جاء نيتشه بمفهوم جديد فحواه ان الحقيقة وقيم الاخلاق قد فرضت من قبل من يمتلك ارادة القوة عبر التاريخ، رافضا ثنائية الخير والشر او الخطا والصواب، وقد فتح نيتشه بابا واسعا للفلاسفة من بعده لإعادة النظر في مفاهيم الحداثة، كما اضاف فوكو عبر ابحاثه في جينولوجيا التاريخ ان الحقيقة ومعايير الاخلاق تشكلت كاستجابة لمنفعة القوى المهيمنة على المعرفة، فالمعرفة تصنع السلطة والسلطة تصنع المعرفة، والسلطه في منظوره لم يكن مركزها سلطة الطبقة السائدة او الدولة بل القوى المايكروسكوبية المنبثة في شبكة معقدة من النسيج الثقافي، وهذا موضوع اخر خارج اهتمام المقال.

الخلاصة ان الحقيقة ومعايير الاخلاق نسبية مرتبطة بالسياق الثقافي للمجتمع.

نسبيه الحقيقة والمعايير الاخلاقية ليست هي الإشكالية في الفكر ما بعد الحداثوي، بل النسبية المطلقة المتمثلة بالشك في كل ما توصلت اليه الحداثة الأوروبية والتنوير، بما فيها الانجازات العلمية، فقد بلغ الشك بالعلوم ان الفيلسوفة الفرنسية نانسي ارغاري تتهم النظريه النسبية بالنزعة الذكورية زاعمة ان تركيز اينشتاين على السرعة الفائقة توحي بالتحيز للرجل الاقوى بدنيا من المراة. ذلك الشك العدمي يجعل التمييز بين الخطا والصواب او الاخلاقي من عدمه شبه مستحيل، مما يؤدي الى تمييع المواقف واحداث نوعا من التشوش الفكري، فاذا ما كانت كل معايير الاخلاق نسبية ومفروضة قسرا من قبل قوى مهيمنة، اذن سيصبح الموقف ذاتيا بحتا وليس اخلاقيا ملزما، وستنحسر المسافة بين الموقف ووجهة النظر.

فالمواقف الاخلاقية ضد حصار وتجويع وابادة شعب او ضد اغتصاب الطبيعة وتدميرها من قبل الشركات الراسمالية او رفض الحصارات والحروب على الشعوب والدول غير المنصاعة والتي تفرضها الغطرسة الامريكية، كل هذه المواقف ستكون اختيارات شخصية ووجهات نظر (مطعمة بتبريرات ايديولوجية) وليست مواقف انسانية واخلاقية ملزمة.

الشك للشك:

لقد كانت شكوك ونقد ما بعد الحداثة لبعض اشكالات الحداثة وفكر الانوار صائبا في بعض جوانبها، فقد نشأت كرد فعل لمآسي الحرب العالمية الثانية ووحشية الاستعمار والتي اسقطت قدسية فلسفة الانوار للانسان العقلاني واظهرت خطورة العقل الاداتي النفعي. لكن فلسفة ما بعد الحداثة لم تقدم بديلا سوى الشك العدمي المطلق بكل مخرجات الحداثة، فهي كما وصفها تيري ايغلتون بديل فنتازي للحداثة.

وقد كان لهذا الشك بصماته الواضحة على نمط تفكير طائفة واسعة في مجتمعاتنا العربية خلال العقدين الاخيرين، بل اصبح الشك هوسا في تبخيس تاريخنا القديم والحديث، والحط من ثقافتنا الاجتماعية بحملة مازوخية لجلد الذات. لقد بلغت اعادة كتابة التاريخ حد تمجيد الاستعمار وتلميع التاريخ الشخصي لعملاءه وشيطنة حركات التحرر والاستقلال والشخصيات الوطنية في تاريخنا الحديث، ونفي دور حضارتنا العربية والاسلامية في العالم رغم اجماع المؤرخين الاجانب قبل العرب على ذلك.

***

قصي الصافي

بعدما تصبح العلاقة الزوجية في مساءات كثيرة، حين تفرغ الطمأنينة من البيوت، ويذبل الورد في قلب العلاقة، يُطرح السؤال في سرّ الإنسان: لماذا أتحمّل هذا؟ لماذا أظلّ هنا؟

ما الذي يجعل امرأة تصبر على زوج لا يصغي ولا يرى؟ ما الذي يجعل رجلًا يعود كل مساء إلى علاقة تفتك به شيئًا فشيئًا، فيسمّيها “حبًا” أو “واجبًا” أو “قدرًا جميلًا”؟

الحقيقة أن العقل وحده لا يفسّر ذلك. وحده الجنون يفعل.

الحب لا يُقاس بالمكاسب

علم النفس العلائقي (Relational Psychology) يشير إلى أن العلاقات الحميمة لا تُبنى دائمًا على التوازن أو المساواة، بل على حاجة لاواعية إلى الإكمال. فرويد، ثم يونغ بعده، تحدّثا عن أن الإنسان يبحث في شريكه عن ما ينقصه، عن مرآته الداخلية، عن جرحه الأول الذي يريد أن يشفى، أو يتكرر.

لكن تلك الرغبة في “الإكمال”، تحمل في جوفها عذابًا. لأن من نختاره ليكون شفاءنا، يصبح في أحيان كثيرة امتدادًا لجرحنا.

من هنا نفهم كيف أن كثيرًا من النساء - والرجال - يبقون في علاقات تبدو للمنطق “غير معقولة”. امرأة يُهملها زوجها، يقلل من شأنها، يغيب عنها عاطفيًا وربما جسديًا، لكنها تستمر. تسألها، فتجيبك بأشياء لا تصمد أمام التحليل: “من أجل الأطفال”، “من أجل العائلة”، “سيتغير”، “فيه خير رغم كل شيء”.

لكن الحقيقة أن الاستمرار ليس دائمًا قرارًا عقلانيًا. إنه، في جزء عميق منه، ضربٌ من الجنون. جنون ناعم يسند توازننا في عالم مفكك.

الزواج مغامرة جماعية

الفيلسوف الفرنسي ألان باديو كتب ذات مرة أن “الحب ليس وعدًا بالسعادة، بل مغامرة في المجهول”. والزواج، بهذا المعنى، هو أكبر مغامرة جماعية صدّقها البشر منذ أن اكتشفوا الزراعة.

لماذا يربط الإنسان حياته بحياة أخرى، رغم كل احتمالات الفشل؟ لماذا نقف أمام منبر أو قاضٍ أو شيخ ونعد بعدم الرحيل؟

لأننا مجانين.

علم النفس التطوري (Evolutionary Psychology) يحاول أن يُرجع الأمر إلى البقاء: تأمين شريك للتكاثر، لتنشئة الأطفال، لتقاسم الموارد. لكن هذا التفسير لا يصمد أمام سؤال بسيط: لماذا نبقى حتى حين تنعدم الموارد ويغيب الأطفال وتندثر الرغبة؟

جنون المرأة النبيل

ثمة نوع خاص من الجنون الأنثوي في العلاقات، لا بدّ أن يُحتفى به بقدر ما يُساء فهمه. ليس جنون الغيرة أو السيطرة أو العاطفة الفياضة، بل جنون “التحمّل”.

امرأة تصبر على رجل لسنوات، رغم خيباته المتكررة، رغم صمته الموجع، رغم فشله في إدراك وجودها ككائن حيّ له رغبات وأحلام. هذا ليس ضعفًا، كما تُحب أدبيات التمكين أن تقول، بل نوع من “الجنون الأخلاقي”، كما سماه سلافوي جيجيك، أي القدرة على الاستمرار في شيء لا يُعقل إلا بالقلب.

والرجل؟ لا يقلّ جنونًا

هو الآخر، يبقى أحيانًا في علاقة لم يعد يجد فيها ذاته. يتخلى عن رغباته، عن حريته، وربما عن حقيقته، فقط ليحفظ شيئًا اسمه “البيت”.

ربما لا يقول كثيرًا، لكنه يعيش داخليًا تمزقًا حادًا بين ما يريد وما ينبغي. ذلك الانشطار، حسب جون بول سارتر، يولّد في الرجل “قلق الوجود”، أي الرغبة في أن يكون حرًا ومسؤولًا في ذات الوقت.

الزواج، في هذا السياق، هو فضاء الجنون الذي يسمح له بأن يعيش هذا التناقض من دون أن ينهار.

مفارقة الجنون: ما يحمي العلاقة ليس العقل

أشارت دراسة شهيرة نُشرت في Journal of Marriage and Family عام 2018، إلى أن الأزواج الذين يستمرون في علاقات طويلة ليسوا بالضرورة الأكثر توافقًا، بل أولئك الذين يمتلكون “قدرة عالية على المعنى”. أي أولئك الذين يرون في المعاناة ذاتها قيمة ما، قصة تستحق أن تُروى، أو جنونًا يُبرر الاستمرار.

الجنون هنا ليس فقدانًا للعقل، بل تجاوزه. هو ما يسمح لنا بأن نقبل النقص، أن نسامح، أن نُعيد تعريف الحب كلما انكسر.

مجنون من يفتح قلبه

حين يفتح الإنسان قلبه لإنسان آخر، فإنه يغامر: بأن يُرفض، أن يُؤذى، أن يُفهم خطأ، أن يُخدع. هذه ليست مخاطرة منطقية، بل قفزة إيمانية.

كيركغارد تحدث عن “قفزة الإيمان”، وهي ما يقوم به الإنسان حين يُراهن على ما لا يُثبت. هكذا هو الحب. وهكذا هو الزواج.

نعم، لولا الجنون لما تزوج أحد. لولا هذا الشيء الغامض الذي يجعل امرأة تغفر لرجل أساء، ورجلًا يصبر على امرأة لا يفهمها، لما استمرت الحياة.

الجنون هو تلك القدرة الغامضة على رؤية النور في غرفة مظلمة. على إعادة اختراع العلاقة بعد كل انهيار. على البقاء حين لا يبدو للبقاء معنى.

ولعل أجمل ما في هذا الجنون… أنه ما يجعلنا بشرًا.

بشرًا قادرين على الحلم، على الفقد، وعلى الحب رغم كل شيء

***

بقلم: يونس الديدي

يُعْتَبَر ابن خَلْدُون (732 ه / 1332 م تونس - 808 ه / 1406 م مِصْر) المُؤسِّسَ الفِعْليَّ لِعِلْمِ الاجتماعِ، والمُنَظِّرَ الأوَّلَ له، وَهُوَ أوَّل مَنْ حَلَّلَ أسبابَ قِيامِ الحَضاراتِ وسُقوطِها بأُسلوبٍ مَنطقيٍّ قائم على قواعد المَنهجِ العِلْمِيِّ في البَحْثِ ورَبْطِ الأسبابِ بالنتائج، وَبَيَّنَ أنَّ لِقِيَامِ الحَضَارةِ وانهيارِها أسبابًا مُتداخلة، سِياسية واجتماعية وأخلاقية واقتصادية.

عَرَّفَ ابْنُ خَلْدُون الحَضَارةَ بأنَّها " تَفَنُّنٌ في التَّرَفِ، وإحكامُ الصنائعِ المُستعمَلة في وُجوهِه ومَذاهبِه، مِنَ المَطابخِ والمَلابسِ والمَبَاني والفُرُوشِ والأبنيةِ وسائرِ عَوائدِ المَنزلِ وأحوالِه ". كَما أنَّهُ عَرَّفَ الحَضَارةَ ضِمْنَ الإطارِ الاجتماعيِّ والتاريخيِّ بأنَّها " الوُصولُ إلى قِمَّةِ العُمْران، والتَّطَوُّرُ الثقافيُّ والشَّخصيُّ للمُجتمع، والدُّخُولُ للرُّقِيِّ الاجتماعيِّ الثابت ".

والحَضَارةُ مِنْ وِجْهَةِ نَظَرِهِ هِيَ نِهايةُ العُمْرَانِ، والطبيعةُ الجُغرافية لها دَوْر مُهِم في تَطَوُّرِ العُمْرَانِ، حَيْث تَختلف الأقاليمُ الحَارَّةِ عَن الباردةِ، وأيضًا، عمليةُ التَّحَوُّلِ والانتقال مِنَ البَدَاوَةِ للحَضَرِ، وكذلك السِّياسة والحاكمية والثَّرْوة والمال الذي يأتي مِنَ العَمَلِ والإنتاج. وَهُوَ يَعتبر أنَّ العَدْلَ عاملٌ مُهِمُّ في تَطَوُّر العُمْرَانِ، والظُّلْم أحد أسبابِ الانهيارِ، فَهُوَ مُؤْذِن بِخَرابِ العُمْرَانِ وَسُقوطِ الحَضَارةِ.

مِنْ أهَمِّ نظريات ابن خَلْدُون في تَكوينِ الحضارةِ نظريةُ العَصَبِيَّة، وَهِيَ الوَعْيُ الجَمَاعيُّ والتضامنُ والوَلاءُ القَبَلِيُّ أو الوطنيُّ أو الحِسُّ المُجتمعيُّ، وهي التي تَجْعَل مِنْ جَمَاعةٍ مُعيَّنة جَمَاعةً قوية. والعَصَبِيَّةُ هِيَ الركيزةُ الأساسيَّةُ لأيِّ نَشاطٍ سِياسيٍّ واجتماعيٍّ في بِناءِ الحَضَارةِ، والمُحَرِّكُ الأوَّلُ للمُجتمع. مِثْلَمَا يُعَدُّ الإنسانُ الثَّروةَ الحقيقية لِكُلِّ حَضارةٍ. وَهُوَ يَعتقد أنَّ للحَضَاراتِ أعمارًا كما أنَّ للأشخاصِ أعمارًا، ومراحلُ قُوَّتِها وضَعْفِها مُشابِهة تَمامًا لِمَراحلِ حَياةِ الإنسان.

وللدُّوَلِ أعمارٌ لا تَتَعَدَّى مِئة وعِشرين عامًا، وتَمُرُّ بِثَلاثةِ أجيال: الخُشونةُ والبَسالةُ في المَجْدِ، والتَّرَفُ والانكسارُ وَضَعْفُ العَصَبِيَّة، والتَّرَفُ والعَجْزُ عَن المُدَافَعَةِ وانقراض الدَّولة.

حَلَّلَ ابنُ خَلْدُون الحَضَارةَ وأزمةَ الإنسانِ، ورَأى أنَّ انهيارَ الحَضَارةِ مُرتبط بِبُعْدِ الإنسانِ عَن المَبادئِ والقِيَمِ، لِهَذا وَجَبَ أنْ تُبْنَى الحَضَارةُ على الأخلاقِ، وأكَّدَ على مَبدأ التفاعلِ بَين الحَضَاراتِ، حَيْثُ تأخذ كُلُّ حَضَارةٍ إنجازاتِ الحَضَارةِ التي قَبْلَهَا، عَبْرَ جَدَلِيَّةٍ حَضَارية وَتَفَاعُلٍ بَنَّاء، يَقُومُ على التَّعَاوُنِ لا الصِّدَامِ. والحَضارةُ مَتَى مَا وَصَلَتْ إلى ذِرْوَةِ النَّعيمِ والتَّرَفِ، فإنَّ هَذا يُهَدِّد بِسُقوطِها وانحلالِها.

وَقَدْ شَبَّهَهَا بالكائنِ الحَيِّ في أطوارِ حَيَاتِه، يَبْدَأ صَغيرًا، ثُمَّ يَنْمُو، حَتَّى يَصِيرَ صَبِيًّا فَفَتى يافعًا، ثُمَّ يَبْلُغ مَرحلةَ الشَّيخوخةِ فالهَرَمِ، وهُنا تَنْحَلُّ الحَضَارةُ وتَسْقُط.

وَيُعَدُّ المُؤرِّخُ البريطانيُّ أرنولد توينبي (1889 - 1975) أَهَمَّ مُؤرِّخ بَحَثَ في مَسألةِ الحَضَاراتِ بشكل مُفصَّل وشامل، ولا سِيَّما في موسوعته التاريخية " دراسة للتاريخ " التي تتألف من 12 مُجَلَّدًا، أنفقَ في تأليفها أكثر مِنْ 40 عامًا. وَهُوَ يَرى، خِلافًا لِمُعْظَمِ المُؤرِّخين الذين يَعْتبرون الأُمَمَ أو الدُّوَلَ القَوْمِيَّة مَجَالًا لدراسة التاريخ، أنَّ المُجتمعَات (أو الحَضَارات) الأكثر اتِّسَاعًا زمانًا وَمَكانًا، هي المَجالات المعقولة للدراسة التاريخية. ولَمْ يَبْقَ غَيْرُ سَبْعِ حَضَارات، هِيَ: الحَضَارةُ الأُرثوذكسية المسيحية البيزنطية،والأُرثوذكسية الروسية، والإسلامية، والهندوكية، والصِّينية، والكُورية اليابانية، والسابعة: الحضارة الغربية، ولا يُعْرَفُ مَصِيرُها حَتَّى الآن.

يَقُولُ توينبي في تفسير نُشوء الحضارات إنَّ المُجتمعات لَدَى مُواجهتها تحديات بيئية أو بشرية مُعيَّنة، تستجيب استجاباتٍ مُختلفة، أي إنها تُواجه ذلك الحافزَ برُدودِ فِعلٍ تختلفُ من جماعةٍ إلى أُخْرَى، بعضها سلبية، وبعضها إيجابية. أمَّا فِيما يَتَعَلَّق بِنُمُوِّ الحَضَارة، فيُعيدها تُوينبي إلى الدافع الحيويِّ، وهي الطاقة الكامنة لَدَى الفَرْدِ والمُجتمعِ التي تنطلق بغرض تَحقيقِ الذات. وَهُوَ يَرى أنَّ الحَضَارَات تَحْمِلُ في طَيَّاتِها أسبابَ مَوْتِها وفَنَائِها، وفَضْلًا عن أسباب وعوامل خارجيَّة تَجْعلها عاجزةً عَن الاستجابةِ للتَحَدِّياتِ البيئية، فإنَّ مِنْ أهَمِّ عوامل سُقوطِ الحَضَاراتِ، انهيار قِيَمِها الأخلاقية والدِّينية. وَقَدْ تَأثَّرَ توينبي بِمُقَدِّمَةِ ابنِ خَلْدُون الذي وَصَفَ أسبابًا رئيسية للانهيارِ التَّدريجيِّ للدُّوَلِ والحَضَارات.

يَعتقد توينبي أنَّ " الحَضَارات تَمُوتُ انتحارًا لا قَتْلًا "، قاصدًا بذلك تَسليط الضَّوْء على سُلوكياتِ البَشَرِ وأفعالِهم في تَجَاهُلِ إرْثِهم الثقافيِّ، والتَّخَلِّي عَن قِيَمِهِم الحَضَارية، وفِقْدَانهم الدافع للتَّقَدُّمِ بعد أنْ تَتَّجِهَ إرادتُهُم تدريجيًّا لتجاهلِ واجبِ السَّعْي، والفِرَارِ مِنْ دَرْبِ النَّجَاحِ، والاستغناءِ عَنْ نِعْمَتَي الأمل والعمل. كما أنَّه يَعتقد أنَّ الحَضَارات لَيْسَتْ آلاتٍ غَيْر مَلْموسة أوْ غَيْر قابلة للتَّغيير، بَلْ شَبَكَة مِنَ العَلاقاتِ الاجتماعية داخل حُدودِها، وبالتالي فَهِيَ عُرْضَة لِقَرارات حَكيمة وغَيْر حَكيمة.

وعلى صَعيدِ سُقوطِ الحَضَارات يَرى توينبي أنَّه يَعُود إلى ثلاثة أسباب :

1- ضَعْف القُوَّة المُبْدِعة في القِيادة، وتَحَوُّلها إلى مُجَرَّد سُلطة تَعَسُّفية.

2- تَخَلِّي الأكثرية عَنْ مُوَالاة الأقلية الحاكمة المُسيطرة، والكف عَنْ تَقْليدِها وَمُحَاكاتها.

3- الانشقاق والانقسام الداخلي الذي يُؤَدِّي إلى ضَياع الوَحدة في كِيَانِ المُجتمع، حَيْث تَقِف الأكثريةُ ضِد الأقلية المُسيطرة.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

إنطلاقا من مقتطف للكاتب مصطفى محمود في كتابه "في الحب والحياة" –الذي أؤمن به أن مرحلة العزوبة، ليست مرحلة لإصلاح الشعر المتقصف والبشرة المترهلة فقط... إنما هي أثمن فترة لديك لتصنعي عقلا مختلفا، وشخصية قادرة على إنتاج جيل نابض بالفلاح - ويضيف - هي أثمن فرصة لتتعلمي فن صناعة الإنسان...كي لا يعيد التاريخ التربية الخاطئة نفسها.

ما ذكر الآن يعد مهمة صعبة، بل ومسؤولية تحمل من التكليف الشيء الكثير، لكي تكون لك القدرة على صناعة إنسان بالمفهوم التربوي والاجتماعي وليس الميكانيكي التقني، يجب معه أن تتوفر فيك أولا الشروط الموضوعية للقيام بهاته المهمة الصعبة، بدءا بالوعي بحجم المسؤولية، مسؤولية أن تكون أب أو أم ليست بتلك البساطة التي يظنها الجميع، وليست صفة فارغة من محتواها تمنحها لك الطبيعة والمجتمع.

هو تفكير جاد وعملية شاقة تستدعي منك البحث والنضج، والقدرة على إعطاء تربية ذات جودة عالية تستطيع من خلالها تأهيل إنسان، وتحويله من كائن بيولوجي إلى كائن إجتماعي، وبناء شخصيته إنطلاق من مختلف الجوانب سواء الروحية /النفسية/العاطفية /الاجتماعية إلخ.

لكن هل سبق للأزواج أو الآباء، أن تساءلوا فيما بينهم عن الخط التربوي الذي سينهجونه؟هل يقرؤون عن التربية؟ هل يبحثون عن نصائح حول التنشئة الإجتماعية؟ وهل يحمل قرار الزواج والانجاب بين طياته هذا الهم؟

ليس الهدف من هذه التساؤلات محاولة التعجيز، أو خلق نوع أو من التردد والتراجع عن الفكرة، بالعكس هي دعوة للإرتقاء بالوعي الإنساني، والإنخراط المباشر والإيجابي في تطوير المجتمعات عبر أفرادها.

طفل إضافي على هاته الأرض، لا يستوجب معه توفير الموارد المادية فقط بالرغم من أهميتها أيضا، لكن يجب العمل على طرائق التنشئة السليمة، فالإقتصار على المأكل والمشرب هي مسالة تشترك فيها الحيوانات أيضا، والإرتكاز على صناعة الإنسان تقتضي مجهود إضافي وآليات عدة مقدور عليها.

صناعة الإنسان إذن هي من أكبر التحديات المطروحة مجتمعيا، خصوصا وأنها ليست مسؤولية الأسرة فقط، وإنما تتداخل في العملية مؤسسات إجتماعية أخرى، كالمؤسسات التعليمية والدينية والإعلام، المجتمع المدني وحاليا وسائل االتواصل الاجتماعي التي تفرض نفسها في الساحة.

صحيح أن الأسرة الفضاء الأول الذي تنشأ فيه الأجيال، لكن يجب أن نعترف أنها أمام تحد كبير، يحاول زعزعة نظامها، ويساهم في إبعادها عن مهمتها الأصيلة دون سابق إنذار، حيث تتداخل مؤسسات إجتماعية أخرى في التنشئة، ويجب أن تكون أيضا بنفس المستوى المطلوب، وتحمل على عاتقها المسؤولية الملقاة عليها.

و عند التفكير في لعن هذا الجيل يجب أن نعلم جيدا أنه نتاج لهذا المجتمع والإختلالات التي أصابته، وأن عملية خلق أجيال فاعلة تقتضي تظافر الجهود، مما يجعلها عملية معقدة وذلك لتداخل كل الجهات المذكورة في التكوين والتأطير، لكون التنشئة لا تنبع من مصدر وحيد بل هي شبكة تمتزج عناصرها، ومن تم فهو مشروع جماعي.

و في رأيي يجب أن يكون هناك مخططات مستقبلية، تستثمر من العلوم الانسانية كعلم الاجتماع وعلم النفس، من اجل انقاذ ما يمكن انقاذه، ونهج سياسة الترميم واعادة النظر لمواجهة مخاطر التنشئة، التي تهدد المجتمعات وافرادها.

إن تراجع القيم والمعايير المجتمعية، وغياب النضج والوعي الأسري والمؤسساتي ينعكس على أفراد المجتمع، وبالتالي يكون من بين الأسباب التي تساهم في تحطيم بنية المجتمع، وتفكيكها وتطفو على السطح ظواهر وممارسات كنتيجة لذلك.

و بات من الضروري إذن الوقوف على تسطير مبادئ التنشئة، والتدخل بشكل إيجابي في صناعة الإنسان بمفهومها التربوي والإجتماعي، ماذا يفيد إذن تزايد أعداد المواليد أو الأسر، إذا كانت ستنتج لنا اضطرابات وإختلالات على أرض الواقع، ليس على مستوى العلاقات الأسرية فحسب، وإنما في علاقة الفرد بمجتمعه ووطنه ايضا، المخربون /المرتشون /السارقون /الغشاشون /الخائنون /العنيفون /الخارجون عن القانون...هم نتاج المجتمع وضده في نفس الآن.

و لنصل إلى التفكيرفي المراحل المثالية بين قوسين، ينبغي تظافر الجهود لأنها ليست مهمة شخص واحد أو مؤسسة منفردة، بل هو دور مجموعة من الفاعلين في المجتمع، وهذا لا يعفي مسؤوليتنا كأشخاص لأنه بالإمكان إعادة الإصلاح من أجل صناعة أحسن نسخة من الإنسان فينا.

و هو ما يحيلنا على تعبير باركر بالمر: " الشيء الوحيد الذي علينا تقديمه للمجتمع هو أنفسنا، لذلك فإن العملية التأملية التي نستعيد فيها أنفسنا حقا ونحن منعزلين، ليس قطعا أنانية لكنها أفضل الهبات على الإطلاق التي يسعنا تقديمها للآخرين".

أهم مؤسسات التنشئة الإجتماعية وأدوارها

الأسرة:

هي الحاضن الأول للطفل والركيزة الاساسية في التنشئة الاجتماعية، تمركزها في المرتبة الاولى دليل على مكانتها وأهميتها ودورها المحوري في العملية، فيها يتلقى المبادئ الأولى للحياة ويستلهم القيم الأخلاقية، كالاحترام التعاون المسؤولية، ويستمد طاقة الحب والثقة في النفس والشجاعة والتقدير الذاتي، كما تغرس فيه العادات والتقاليد والأعراف من خلال تعزيز الهوية الإجتماعية، زائد دورها المهم في تطوير شخصيته والعمل على التوجيه السلوكي، إضافة إلى عملها على إشباع حاجات الأبناء العضوية والحاجة النفسية والعاطفية، وذلك لتسهيل اندماجه وتفاعله في المجتمع.

المدرسة:

للتربية أولا والتعليم ثانيا، وهذا ليس وليد الصدفة أبدا فلا يقتصر دورها على حشو الطالب بالمعلومات التعليمية، والعمل وفق المناهج المقررة فقط بل يمتد إلى تكملة وظيفة الأسرة، لإحتلالها المرتبة الثانية بعدها ولكونها فاعلا أساسيا في التنشئة، فالحياة في المدرسة هي حياة موازية للواقع، والمطلوب هو الاستفادة من الدروس من أجل استثمارها في الحياة الإجتماعية بشكل سلس، فالمدرسة تعد ناقلا للثقافة المجتمعية ومبسطا لها، كما أنها تعمل على تقديم صورة لكل ما يحيط بالطفل من ممارسات وعادات وتقاليد وأعراف مجتمعية وقوانين تنظيمية إلخ، وإظهار ايجابياتها وسلبياتها ليكون قناعاته بشأنها.

المؤسسات الدينية:

تلعب دورا مهما وأساسيا في عملية التنشئة الإجتماعية، من حيث تعليم الفرد والجماعة التعاليم الدينية والمعايير السماوية، التي تحكم السلوك بما يضمن سعادة وتوازن أفراد المجتمع، الدور الأساس هو نشر القيم الدينية وإمداد الفرد بإطار سلوكي سوي وسليم، نابع من تعاليم دينه وملء الفراغ الروحي لدى الانسان، إضافة إلى زرع ثقافة الحوار والتسامح والتعايش الديني، انطلاقا من النصوص الشرعية والسيرة النبوية لرسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم.

الإعلام:

لا يمكن حصر مهمة الإعلام في نقل الخبر ونشره وإيصال المعلومة فحسب، ولكن تعتبر من النظم التي تحضى بشعبية وجماهيرية مطلقة، كما تعمل على التأثير المستمر في أفراد المجتمع باختلاف شرائحهم ومرجعياتهم ودرجة تكوينهم، بل وقادرة بمهارة عالية على تشكيل الرأي العام، وهذا يوضح بجلاء دور الإعلام في تطوير المجتمع وتوجيهه، فهي أيضا تزود أفراد المجتمع بالمعلومات والإرشارادات على نطاقات واسعة، في مجموعة من المواضيع المختلفة كما أنها قادرة على ترويض أفكارهم،لأنها جد مهيمنة وبطريقة أو بأخرى قلصت دور الأسرة والمدرسة فلم تسمى السلطة الرابعة عبثا.

وسائل التواصل الإجتماعي:

تمكنت وسائل التواصل الاجتماعي بأنواعها، من تنصيب نفسها كمؤثر ومساهم في عملية التنشئة في وقت وجيز جدا، سواء على المستوى الإيجابي أو السلبي، حيث أنها تؤثر على سلوكيات الافراد وعلى هويتهم ايضا كما أنها تساهم في تعزيز العزلة ونشر المغالطات وتقديمها في قالب مقبول ومحبب، خصوصا مع موجة من يسمون ب "المؤثرين والمؤثرات"، فقد اصبح أمر الإقتداء بهم ومتابعتهم مفروغ منه، بالرغم من أنه لا ضامن لنا أن هذا المؤثر(ة) شخص يستحق أن يكون قدوة أو مثالا يحتدى به فعلا، مما يتطلب معه الضبط واليقظة.

لكن في المقابل لا يمكن نكران الأثر الطيب والإيجابي، الذي قد تتركه هاته الوسائل فهي تساهم في نقل المعرفة والقيم، والتعريف بالثقافات والحضارات وترسيخ الوعي حول مجموعة من الظواهرالاجتماعية وإخراجها من دائرة العتمة، بالإضافة إلى تعزيز التفاعل الإجتماعي وبناء العلاقات وتطوير التواصل، وبالتالي وجب تأطيرها وفرض الرقابة عليها، على الرغم من صعوبة الأمر لكون العالم الرقمي متشعب وسهل الإنتشارو كوني.

المجتمع:

المحيط الاجتماعي يساهم أيضا في تشكيل الهوية الاجتماعية للافراد، من خلال تعزيز القيم والمبادئ بالإضافة الى نشر الوعي حول مجموعة من القضايا المجتمعية.

فالإنسان طبعا هو كائن إجتماعي وعلاقة التأثير والتأثر تظل قائمة ومستمرة، من خلال تفاعله مع باقي الأفراد، كما يتم في خضمها تحويل الأعراف الاجتماعية، إلى قواعد مُلزمة للفرد كما يتم توريث هاته القواعد من جيل لآخر، وهي بمثابة تدريب للأفراد على أدوارهم المستقبلية، كما تعمل على تلقينهم القيم المجتمعية السائدة والمتفق عليها والأعراف والتقاليد السائدة، بحيث تختلف التنشئة الاجتماعية من مجتمع إلى مجتمع ومن ثقافة إلى أخرى.

التنشئة الإجتماعية إذن هي بمثابة توجيه عام لأفراد المجتمع، وهي عملية تبدأ منذ ولادة الشخص الى غاية مماته، والهدف الأساسي منها هو إنتاج أشخاص مؤطرين فكريا، أخلاقيا، عاطفيا وإجتماعيا...

فهي المحدد الرئيسي لجعل الإنسان ناجحا أو فاشلا، معقدا أو منفتحا، خائنا أو أمينا،صالحا أو طالحا،عادلا أو ظالما...

مما يحيلنا على قول جون واطسون رائد المدرسة السلوكية:

اعطني إثني عشرة طفلا أصحاء سليمي التكوين، وهيء لي الظروف المناسبة لعالمي الخاص لتربيتهم وسأضمن لكم تدريب أي منهم بعد اختياره بشكل عشوائي لان يصبح اخصائيا في أي مجال، ليصبح طبيبا ليصبح محاميا أو رساما أو تاجرا أو حتى شحاذا أو لصا، نحن من نصنع أطفالنا من خلال طريقة تربيتنا... بالرغم من لإنتقاذات أو الإختلاف مع رأيه او توجه المدرسة السلوكية، سواء من معارضيه أو رواد مدارس أخرى إلا أنه لا يمكن نكران أنه وضع الأصبع على نقاط جد مهمة تفيد الإعداد والاستعداد للعملية التربوية والتنشئوية.

نحن إذن إزاء صناعة صعبة لأنها ليست مرتبطة بمنتوج أو شيء، بل ترتبط بالإنسان كبة من من العواطف والأحاسيس، ومجموعة من الأفكار والسمات والآراء والقدرات والميولات إلخ. وكما يبدو ان الأمر ينبغي أن يسير وفق خطوات وقواعد مهمة للعملية وذلك لانتاج كيان فعال ومتكامل وأبرزها:

* التخطيط المسبق: من خلال وضع خطط تربوية تأهيلية مستقبلية، ننشد من خلالها التأسيس للقيم والتطوير المتعلق بالأفراد.

* الجودة والتحسين: التطلع دوما نحو اسثمارات وأساليب تربوية جديدة، تنهل من الدراسات والعمل دوما على توجيه الأفراد وتحسين سلوكاتهم.

* التفاعل مع البيئة: لتطوير شخصية أي فرد، لابد من الاحتكاك مع باقي أفراد المجتمع والتفاعل معهم.

*  الوصول إلى الهدف: إنتاج افراد فاعلين في المجتمع ومساهمين في بناءه، مما يخلق نوعا من التوازن وضبط للسلوك واكتساب حس المسؤولية والقيم والمهارات الإجتماعية الإيجابية.

و بالتالي إحقاق هاته الأهداف السالفة الذكر، يعطينا من دون شك أفراد سليمين نوعا ما، وناضجين نفسيا وهو مكون أساسي إلى جانب النضج العقلي والعاطفي والإجتماعي.

***

احيزون سميرة - المملكة المغربية

أخصائية إجتماعية ومدونة.

تميزت الفيودالية بوجود هرم اجتماعي حيث كان الملك أو الأمير في القمة، يليه النبلاء، ثم الفلاحون. وقد لعبت الكنيسة دورًا مهمًا في نظام الفيودالية، حيث كان للكهنة نفوذ كبير في المجتمع. وكانت هناك روابط شخصية قوية بين السيد والتابع، تحكمها الالتزامات والواجبات المتبادلة، قد ساد هذا النظام حتى القرن الثامن عشر، بعدها بدأت الفيودالية في الانحسار مع ظهور الرأسمالية والتجارة الحرة وظهور مجتمعات الحضرية.

حراس الطقوس

هم الأفراد أو الجماعات المسؤولة عن الحفاظ على الطقوس والتقاليد المرتبطة بالنظام الإقطاعي. يشمل ذلك القادة المحليين، النبلاء، ورجال الدين الذين كانوا يشرفون على تنظيم الاحتفالات، الطقوس الدينية، وتوزيع الموارد، كما كانوا يلعبون دورًا في تعزيز السلطة والنظام الاجتماعي، ساهمت هذه الطقوس في تعزيز الولاء بين الأفراد والنبلاء، مما ساعد على استقرار النظام الإقطاعي، في فترات معينة كان حراس الطقوس يتحكمون في السرديات التاريخية من خلال تحديد ما يُروى وما يُخفى، مما أثر على كيفية إدراك المجتمعات لتاريخها، وعززت السرديات التي تُروى من مكانة الحراس واضفت الشرعية على سلطاتهم.

الأدوات والوسائل

لترسيخ فعالية السرديات التاريخية استخدمت مجموعة متنوعة من الأدوات والوسائل للتحكم، حيث استخدم الشعر لنقل الأحداث التاريخية وتعزيز القيم الثقافية، كذلك الخطابات التي تُستخدم في المناسبات العامة لنشر الأفكار وتعزيز الولاء، التاريخ المنقول شفاهيا وتشكيل الأحداث التاريخية بطريقة تعزز السلطة وتبرر الأفعال، والطقوس الدينية، كما كانت الكتب المقدسة والنصوص الدينية تتمجد وتؤكد قوة الحراس في المناسبات العامة نقل السرديات عبر الأجيال في شكل حكايات الشفوية وسن قوانين تعكس القيم الثقافية تعززها السرديات المعتمدة، كما ان بناء تحالفات مع قوى دينية أو سياسية مناظرة لتعزيز السيطرة على الجماهير باستخدام الرسائل الرسمية ونشر المعلومات حول السرديات، كما استخدمت الية نشر الإشاعات لتعزيز أو تقويض شخصيات معينة أو أحداث من خلال تغيير في الروايات او تعديل الروايات التاريخية حسب الحاجة لتناسب الأغراض السياسية أو الاجتماعية، كما ان إعادة تفسير الأحداث وتقديم تفسيرات جديدة للأحداث لتعزيز السلطة قد استخدمت كآلية فعالة، كل هذه الأدوات عملت بشكل متكامل لتمكين حراس الطقوس من تشكيل الوعي الجماعي والتحكم في السرديات التاريخية بشكل فعال.

السرديات التاريخية الشرق اوسطية

التغيرات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية التي شهدها العالم، بما في ذلك الشرق الاوسط، كان لها تأثير كبير على السرديات التاريخية. مع تشكل الدول القومية في القرن العشرين، بدأت السرديات التاريخية تركز على الهوية الوطنية، مما أدى إلى إعادة تفسير الأحداث التاريخية لتتوافق مع الهوية القومية، أدت فترة الاستعمار إلى تغييرات جذرية في سرديات التاريخ الشرق اوسطي، حيث تم تصوير الاستعمار كفترة من النضال والمقاومة الدينية، وقد أثر ذلك على كيفية فهم تشكيل المجتمعات الشرق أوسطية لهويتها، وأدى إلى إهمال تقييم دور الفئات الاجتماعية التقليدية (العمال والفلاحين). عند مراجعة نظام الفيودالية وما تلاه من نظام رأسمالي نرى ان هناك نوعًا من البيروقراطية التي تميزت بالفساد والاستغلال والنفوذ قد ورثتها سرديات الشرق اوسطية، حيث كانت هناك طبقة من الإقطاعيين والنبلاء المتنفذين الذين استأثروا بالسلطة والامتيازات على حساب الفئات الأخرى في المجتمع، وكان لهؤلاء النبلاء نفوذ كبير على مؤسسات الدولة والحكم. لكن نمو المدن الكبرى ساهم في تطوير سرديات جديدة حول الحياة الحضرية والتغيرات الاجتماعية، وبالتالي شهدت المجتمعات الشرق أوسطية نهضة ثقافية أدت إلى إعادة تقييم التراث، مما ساهم في تشكيل سرديات جديدة تركز على الفخر بالتراث والهوية، كما ان المثقفين تفاعلوا مع الأفكار الغربية التي أدت إلى تطوير سرديات حول الحداثة والتقدم، مما أثر على كيفية فهمهم لتاريخ حركات التحرر، الثورات مثل ثورة 1919 في مصر وثورة الجزائر أثرت على السرديات التاريخية من خلال إبراز أهمية المقاومة والنضال ضد الاستعمار، حركات حقوق الإنسان، أدت هذه إلى تطوير سرديات حول حقوق الأفراد والمساواة، مع ظهور وسائل الإعلام الحديثة، أصبحت السرديات التاريخية تُنشر بشكل أسرع وأوسع، مما ساهم في تشكيل الوعي الجماعي، ساعد الإنترنت في تعزيز النقاش حول التاريخ، مما أدى إلى تباين في السرديات وتعدد الأصوات كما ان العولمة ادت الى تداخل الثقافات، مما أثر على السرديات التاريخية الشرق اوسطية من خلال دمج عناصر من ثقافات أخرى وإعادة النظر في الرموز كما تم إعادة تقييم شخصيات تاريخية، سواء كانت إيجابية أو سلبية، مما أثر على كيفية فهم الناس لتاريخهم من خلال هذه التغيرات، مما يعكس التعقيدات والتحديات التي تواجهها المجتمعات الشرق اوسطية في العصر الحديث.

التنافس بين القوى الكبرى

السرديات التاريخية لعبت دورًا محوريًا في التنافس بين القوى الكبرى والنزاعات الإقليمية في الشرق الأوسط، وأثرت بشكل كبير على تأجيج المشاعر الثورية. كما انها أدت الى إعادة صياغة الهوية الوطنية والقومية والطائفية، حيث استخدمت الدول القومية في الشرق الأوسط روايات تاريخية لتعزيز الهوية الوطنية، مما زاد من وعي الهوية والانتماء وتسليط الضوء على الظلم التاريخي في بعض الهويات الطائفية، تناولت السرديات التاريخية قضايا مثل المظلومية التاريخية، ساهم في تأجيج مشاعر الغضب ضد القوى الكبرى، وتم إعادة تفسير الأحداث التاريخية مثل الحروب والنزاعات لتبرير الصراعات الحالية وتعزيز الشعور بالعدالة، على العكس من ذلك استخدمت القوى الاستعمارية السرديات التاريخية لتبرير تدخلاتها في المنطقة، مما أدى إلى خلق مشاعر معارضة وصراعات الجيوسياسية، لعبت السرديات التاريخية(الاستشراق الكلاسيكي) دورًا في تشكيل السياسات الخارجية للقوى الكبرى تجاه الشرق الأوسط، مما أدى إلى تدخلات عسكرية وسياسية وتأجيج الصراعات كما ساهمت السرديات في تأجيج الصراعات الإقليمية من خلال تقديم الدعم لأطراف معينة بناءً على سرديات تاريخية منحازة، ومن خلال استحضار أحداث تاريخية مؤلمة لتزيد من مشاعر الإحباط والغضب، ساهم في اندلاع خطابات سياسية متشنجة، على الرغم من استخدام القوى الثورية السرديات التاريخية التقدمية في خطاباتها، والذي ساعد في تحفيز الجماهير وإثارة الحماس لكن وسائل الإعلام الحديثة ساهمت في نشر سرديات تاريخية منحازة بشكل أوسع، مما أثر على وعي الجماهير وساهم في تأجيج المشاعر المتطرفة، واستخدمت منصات التواصل الاجتماعي لتبادل الروايات التاريخية الدوغماتية، الذي ساعد في تظليل الوعي في القضايا التاريخية، لذا كانت السرديات التاريخية أداة قوية في التنافس بين القوى الكبرى واثارة النزاعات الإقليمية في الشرق الأوسط، حيث أسهمت في تشكيل الهويات المحلية وتأجيج المشاعر الطائفية والدينية. من خلال إعادة تفسير الأحداث التاريخية واستحضار التجارب المأساوية والتلاعب بالوعي الاجتماعي والسياسي، أدى إلى ظهور حركات متطرفة طائفيا وأشكال رجعية من المقاومة والحكم المبنية على أسس فيودالية بامتياز، تتوزع فيها السلطة بشكل هرمي، على الطبقات حيث يتواجد الحاكم في القمة يليه رجال والذين يجمعون الموارد، ثم مريديهم ثم بقية الجمهور الذي يغذي الموارد، كما في نظام الفيودالية، حيث كانت العلاقات بين الطبقات تعتمد على الوعود والولاء، وكان النبلاء يتعهدون بحماية الفلاحين، في حين كان الفلاحون يقدمون خدماتهم وعائدات الأرض.

***

غالب المسعودي – باحث عراقي

لقد أثار حادث فتيات المنوفية أو كما اطلق عيلهم المجتمع المصري "فتيات العنب " الكثير من الجدل واعاد فتح ملفات عمالة الأطفال مرة أخري، لكن يجب علينا في بداية الأمر التفرقة بين عمالة الأطفال جبراٌ وطواعية....

عمالة الأطفال ليس موضوع جديد في مصر أو العالم العربي، لكن مع التطور الزمنى والاهتمام بحقوق الطفل ووضع قوانين تُجرم عمالة الأطفال وتفرض عقوبات علي من يخالف القانون، فللطفل حقوق يجب أن ينالها في المجتمعات العادلة.

أيضا عملت السينما منذ نشأتها على طرح ملف عمالة الأطفال سواء من خلال الاعمال الدرامية أو الكوميدية لتوضح مدي تأثير العمل على الطفل جسدياً ونفسياً، لكن السينما قدمت جانب واحد من عمالة الأطفال وهو العمل الاجباري حيث يُجبر الطفل في سن صغير علي العمل قسراً دون مراعاة لمشاعره أو قدراته الجسدية على تحمل هذا العمل الشاق وذلك لعدة أسباب منها ظاهرة أطفال الشوارع أو التسول أو خطف الأطفال تلك بعض الظواهر الاجتماعية التي تعد سبب في عمالة الاطفال جبراً.

لكن عمالة الأطفال طواعية هي رغبة من الطفل بكامل أرادته على العمل ومساعدة والدية على تحمل أعباء الحياة في سن صغير، هذا الأمر ينطبق علي ملف " فتيات العنب " ذلك الامر الذي كان محل جدال في المجتمع المصري ما بين قبول ورفض عمل الاطفال. والسؤال الآن ما الذي دفع هؤلاء الأطفال للعمل طواعية ؟

والحقيقة ان هؤلاء الفتيات وأيضا السائق الشاب الذي يعمل من أجل أعالة أسرته، كل هؤلاء الضحايا يريدون العمل لمساعدة أسرهم التي تعاني من الفقر وعدم القدرة علي توفير اساسيات الحياة لأطفالهم.

والحقيقة ان الامر ليس مرتبط بحقوق الطفل أو سن قوانين لعمالة الأطفال بل نحن نحتاج الى توفير حياة لهؤلاء الأطفال بداية من المأكل والملبس والتعليم المجاني الذي لم يعد مجاني فأصبح هذا التعليم بالنسبة لتلك الأسر البسيطة يفوق قدراتهم المادية.

حادث فتيات العنب ليس الأول ولن يكون الأخير ما لم ينعم الطفل المصري أو العائلة المصرية بحياة عادلة وليس شقاء. لو استطاع اباء هؤلاء الأطفال واكفاء الاحتياجات الأسرية لما اضطر الأطفال الى العمل للمساعدة سواء طواعية أو قسراً...

لذلك عملت السينما على عكس الواقع الاجتماعي فيما يخص عمالة الأطفال من خلال طرح العديد من الاعمال الفنية ومحاولة توضيح الجوانب والمشكلات التي تؤدي الى ظاهرة عمالة الاطفال مع طرح العديد من التساؤلات في هذ الاعمال وأيضا تقديم الإجابات بما تتوافق مع البيئة والفترة الزمنية التي تؤدي لعمالة الأطفال؟

من الاعمال الفنية التي ناقشت قضية عمالة الأطفال فيلم الغابة (2008) حيث تدور أحداثه حول مجموعة من أطفال الشوارع تجمعهم ظروف حياتهم السيئة وتتنوع طرق حصولهم على المال، من قبيل التسول والعمل في الدعارة والمخدرات، ويرصد الدوافع التي أودت بهم إلى سلوكياتهم وتأثير ذلك في المستقبل اجتماعياً او نفسياً فلا يوجد طفل يتعرض لكل هذا العنف ليصبح سوياً عندما يبلغ مرحلة النضج.

أيضا العمل الفني جلد حي (2010) الذي اهتم بمناقشة عمالة الاطفال في أطار محدد، فهو فيلم وثائقي مدته 56 دقيقة يناقش خطورة العمل في المدابغ على الأطفال وسط أجواء من المواد السامة، والأسباب التي دفعتهم إلى امتهان هذا العمل الشاق. الذي لا يتناسب مع هذا العمر الصغير والجسد الهزيل.....

لا شك أن السينما المصرية لعبت دوراً هاماً في نقل واقع المجتمع والمشاكل التي يعاني منها الأطفال والكبار وقدمت العديد من الاعمال التي تهتم بمشكلة عمالة الأطفال وأطفال الشوارع والتسول وقتل الأطفال. لكن الواقع يحتاج الى معالجة حقيقية وجذرية للأسباب التي تؤدي لعمالة الأطفال مثل البطالة وغلاء الأسعار، الفروق الطبقية التي أصبحت من سلبيات المجتمع المصري حالياً والعديد من الأسباب الأخرى.

***

آية محي الدين - مصر

في أغلب الثقافات الإنسانية على مر العصور، ومن خلال المؤثرين في تلك الثقافات المختلفة، تكوَّن ما نسميه اليوم بالعربية: الصلاة! وهو كما هو معلوم مفهوم متطور حتى عند العرب، الأصل لغةً: الدعاء، ثم القرآن والنبي عليه السلام اضفيا عليها دلالة جديدة، وهي العبادة والطقس الإسلامي المعروف.

ولعل الفهم الأعم لهذه الكلمة بشكل موضوعي، كما نفهم نحن اللغة العربية، كوننا عربًا درسنا في مدارسها، وقرانا من أدبياتها وتاملنا كلماتها، أنها تعني الإتصال.. والإتصال من المعلوم أنه بين جهتين، وفي هذا السياق بين المخلوق (العبد) والخالق (الرب) بلغة الدين الحنيف. وهذا المعنى العام للكلمة، إذا تأملناه قليلًا، يُجسّد ويشمل المعنيين الأوليين.

تحدد تصوراتنا عن العالم، ودلالات اللغة، حدود التجربة؛ سواءً كانت روحية أو عاطفية، أو أي تجربة حياتية عميقة أخرى كتجربة الحب أو الصداقة، وغيرهما.

وهذه الحدود ليست حدود العقل، ولا هي حدود التجربة، إنما هي حدود التصورات ذاتها، وحدود الثقافة المرحلية، وقصور الخيال بلا أدنى شك.

المتأمل في هذه الحياة القصيرة، يدرك تمامًا أن كل ما نقوم به في هذا العالم هو عبارة عن صلاة، أي عبارة عن محاولة للإتصال، بدرجات متفاوتة وجوديًا بحسب طموحنا الروحي وجاهزيتنا الفلسفية للتعاطي مع العالم أجمع بالشكل الذي هو؛ أي بصفته مدهشًا!

وهذه التصور الواعي عن الوجود، المتزمن «في- الآن»، تتراءى فيه كل التجارب صلوات! وحينها تصبح كل السلوكات باعثة على التأمل والخشوع، ورؤية كل الموجودات بروح المطلق الباعث لها إلى الوجود، كرؤية اللحظة الآنية بوصفها سرمديّة.

هذا النوع من الحضور الوجودي يجعل من تجربة الإنسان بكل أوجهها، خشوعًا وصلاةً وحجًا وزيارةً لبيوت الله. فيصبح الحديث مع صديق صلاة، أو السماع للموسيقى أو السكوت في الليل لا من أجل هدف، والقراءة والكتابة، حتى النوم، ولم يسمّه الإنسان "خلودًا" عبثًا. بل أن كل تجربة الإنسان هي في جوهرها نزوع إلى الخلود!…وكل ذلك صلاة!

ولا ننسى نصيب التجارب المؤلمة من صلاتها بالمطلق، وكل التجارب الوجودية العميقة التي تمثل جسرًا بين التجربة في إطار الثقافة، وضمن حدود اللغة، إلى التجربة-في-الوجود. التجاوب الوجودية الصافية من كل المقولات المسبقة المختزلة لكثافة فضاء التجربة الوجدانية.

عندما تصبح كل حركاتنا وسكناتنا صلاة، وحين يكون الخشوع هو المنطلق الدائم والطبيعي في تعاطينا مع العالم، تصبح كل تجارب الحياة آياتٍ يخشع لها الإنسان تارةً باكيًا، وتارةً أخرى ضاحكًا أو غاضبًا أو حزينًا، والمرور بهذا المخاض الوجودي الضروري، هو ما يُولّد ما يسميه الإنسان بالخلاص، أو على أقل تقدير الإحساس به، كما هو حال العارفين وأهل البصيرة في كل زمان.

***

خالد اليماني

بقلم: يانسي هيوز دومينيك

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

حتى في اليونان القديمة، تساءل أفلاطون عما إذا كانت معايير الجندر حول الذكورة مفيدة لحرية الرجال الفردية

في طريقه إلى الليسيوم، يقابل سقراط صبيين مراهقين شديدي التنافس يتسكعان في صالة مصارعة. وعلى الفور تقريبًا، يبدأ بطرح الأسئلة التي تقلب كل شيء رأسًا على عقب - أسئلة قد تبدو تافهة أو بلا معنى لكنها تميل إلى النبش في أسس معتقدات الناس. يسأل أحد الشابين، ليسيس (الذي تحمل المحاوة اسمه)، سؤالًا مثيرًا للسخرية: هل تسمح له أمه باللعب بصوفها ونولها أثناء حياكتها؟ يضحك ليسيس ببساطة. ليس فقط أنها ستمنعه من فعل ذلك، بل ستضربه إذا حاول.

لماذا يضحك ليسيس؟ جزء من السبب هو أن الحياكة في أثينا القديمة كانت نشاطًا نسويًا بامتياز، لدرجة أن عالمة الدراسات الكلاسيكية روبي بلونديل وصفتها بأنها "النشاط المميز للنساء في الأيديولوجيا اليونانية". بينلوبي تحيك في ملحمة هوميروس "الأوديسة"، وتتحدى أراخني الإلهة أثينا في مسابقة حياكة فقط لتحولها إلى عنكبوت: فالنساء من البشر  أو الآلهة تُصوَّران بشكل متكرر وهما تحيكان في الفن والأدب اليوناني القديم. لذا، فإن سؤال صبي مراهق على أعتاب الرجولة عما إذا كانت أمه تريده أن يلعب بأشياء رمزية للأنوثة مثل الصوف وأنوال الحياكة، لا يمكن أن يُثير سوى ضحكة استهزاء.

لكن هذا التفاعل الموجز معبِّر. هل يمكننا أن نتعلم ونتساءل ونعيد التفكير في معايير الجندر بمساعدة أفلاطون؟ على الرغم من أن هذا الفيلسوف اليوناني عاش وكتب قبل آلاف السنين في ثقافة مختلفة جدًا بمعايير مغايرة، فإن العديد من أعماله تدعونا إلى إعادة تصور معايير الجندر بطرق لا تزال تتردد صداها حتى اليوم.

على عكس قيادة العربة، فإن الحياكة ببساطة ليست شيئًا سيفعله رجل أثيني أبدًا. وبالطبع، فإن سقراط (وأقصد هنا الشخصية في كتابات أفلاطون؛ أما سقراط "الحقيقي" فسيظل بعيد المنال إلى الأبد) مشهور بقوله أشياء غريبة وسخيفة، لذا فإن سؤاله لليسيس لا ينبغي أن يفاجئنا حقًا من بعض النواحي. ومع ذلك، فإن الأمر اللافت للنظر هو الطريقة العابثة التي يتحدى بها سقراط معايير الجندر التقليدية. فما يريده حقًا هو إلهام ليسيس وصديقه للسعي وراء الفلسفة. وسؤاله عن الحياكة، كما أكدت في مكان آخر، يذكِّرهم -ويذكِّرنا- بأن المخاطر كبيرة، وأن الحياة الفلسفية الحقيقية هي تلك التي تختلط فيها الأعراف التقليدية، بما في ذلك معايير الجندر.

في النهاية، تتحدى نصوص مثل "ليسيس" أن نعيد تخيل ما قد تطلبه الرجولة من أولئك منا الذين يعرِّفون أنفسهم كرجال. ربما يكشف هذا عن أفلاطون باعتباره نوعًا من "المؤيد المبكر لفكرة المساواة بين الجنسين"، كما يقترح بعض الباحثين. وبالفعل، في مشهد الفكر اليوناني القديم، لا يوجد عمل باقٍ يقترب حتى من فكرة النسوية كما نجدها في أفلاطون. ومن ناحية أخرى، هناك الكثير من التمييز ضد المرأة في أعمال أفلاطون مما يجعل من الصعب اعتباره نسويًا بسهولة. وكما هو الحال مع جميع الأسئلة الأفضل، فإن مسألة نسوية أفلاطون يجب أن تظل مفتوحة. بغض النظر، من الواضح أنه يتحدى فكرة الذكورة لأنه بالنسبة له الفلسفة في النهاية تدور حول التحرر - والتحرر لا يكون ممكنًا إلا إذا كنا على استعداد لتحرير أنفسنا من أفكارنا المسبقة، بما في ذلك أفكارنا المسبقة حول الجندر.

من خلال التشكيك في التنافسية، فإن أفلاطون يشكك في أحد أركان الذكورة الأساسية.

من الصعب تخيل مكانٍ كانت فيه الأدوار الجندرية أكثر قمعية مما كانت عليه في أثينا القديمة. عاشت النساء في أقسام منفصلة عن الرجال، وكان يُتوقع منهن عمومًا أن يبقين معزولات ومنعزلات في منازلهن. لم يكن مسموحًا لهن بامتلاك العقارات أو التحدث باسم أنفسهن في المحاكم، وكن يرتدين الحجاب عند الخروج. وينطبق كل هذا على نساء أثينا الحرائر - بل كانت الأمور أشدّ قتامةً على النساء المستعبدات. بل ذهب بريكليس، الخطيب الشهير وقائد المدينة خلال الحرب البيلوبونيسية، إلى حدّ القول إنّ النساء اللواتي ينلن أعظم المجد هنّ الأقلّ رؤيةً وسماعًا.

كما عاش الرجال أيضًا ضمن توقعات جندرية صارمة تحدد ما هو مقبول كذكورة. أولئك الذين يُنظر إليهم على أنهم خارج هذه الحدود غالبًا ما كانوا يُعرضون للسخرية. على سبيل المثال، في مسرحية( Thesmophoriazusae )  " نساء في مهرجان ثيسموفوريا"، يسخر أريستوفانيس بقسوة من زميله الكاتب أغاثون بسبب ما يُنظر إليه على أنه أنوثة، وذلك منذ ظهوره الأول على المسرح: حيث يصل مرتديًا ملابس النساء، وتستمر النكات من هناك. وبطبيعة الحال، كان صبي مثل ليسيس سيضحك بصوت عالٍ عندما يُسأل عما إذا كانت أمه ستسمح له باللعب بأدوات الحياكة الخاصة بها.

على الرغم من أن سؤال الحياكة يشكل التحدي الأكثر وضوحًا للأعراف الجندرية في النص، إلا أنه ليس التحدي الوحيد. ليسيس وصديقه مينيكسينوس المتنافسان بشكل مفرط،   حتى أنهما يتجادلان - بغرابة - حول أيهما أكبر سنًا. مثل هذا السلوك التنافسي متوقع ومرغوب فيه بين الرجال في أثينا. في الواقع، كان مهرجان هيرميس، الذي يقام أثناء حديث سقراط مع الصبيان، احتفالًا بالتنافسية وشمل مسابقات مثل تقييم جمال الأجسام الذكورية. لكن سقراط، بتساؤله عن هذه التنافسية الشاملة، يذكّر الصبيان بالمقولة التي تقول "الأصدقاء يشتركون في كل شيء"، ويشجع جميع الحاضرين على الانخراط في نقاش تعاوني بدلاً من أي نوع من المنافسة. من خلال التشكيك في المنافسة، فإنه يشكك في قاعدة الرجولة.

يُمثّل سقراط نفسه تحدياً حياً للصور النمطية الجنسانية السائدة. فمن المتوقع أن يركز الرجال الأثينيون على الشرف والمال والنشاط السياسي، بينما يتجنب سقراط كل هذه الأمور وينتقدها في كثير من الأحيان. وبالمثل، يساعد سقراط ليسيس على إدراك أن الحياة ذات المعنى تنبع من السعي نحو الحكمة وليس من المال أو السلطة.

لا يعتمد تقدير سقراط لذاته على آراء الآخرين، ويبدو أن هذا هو الدرس الموجه لليسيس أيضاً. فبدلاً من الاعتقاد بأن والديه سيثبتان حبهما له بالسماح له بقيادة عرباتهما أو اللعب بأدوات النسيج الخاصة بهما، ينبغي لليسيس أن يدرك أن قيمته تنبع من داخله وليس من آراء الغرباء أو حتى الأحباء. وما يمنح ليسيس قيمته هو بالضبط هذه القدرة على تجاوز الأعراف الاجتماعية والسعي نحو المعنى. وبعبارة أخرى، إنها قدرته على اختيار الحياة الفلسفية بحرية.

إنه لا يجادل بدافع الرغبة في تحرير المرأة، بل لمصلحة بناء المدينة الأكثر كفاءة.

على الرغم من أن هذه التحديات الخفية للأعراف الجنسانية تساعد في فهم حوار سقراط مع ليسيس، فإن بعض التحديات الأكثر وضوحاً لهذه الأعراف في نصوص أخرى لأفلاطون تُظهر أن هذا ليس مجرد صدفة في نص قصير واحد، بل إنه سمة تميز جزءاً كبيراً من فكر أفلاطون. ففي محاورة "المأدبة"، يخبر سقراط أصدقاءه أنه تعلّم كل ما يعرفه من امرأة حكيمة تدعى ديوتيما – ثم يشرح الفلسفة على أنها عملية تتضمن الحمل والولادة بالأفكار. وفي محاورة "ثياتيتوس"، يوضح أن عمله كفيلسوف هو نوع من القبالة، لكنه على عكس القابلات النساء، يعمل مع الرجال، ويساعدهم على "ولادة" أفكارهم. وفي ثقافة مليئة بكراهية النساء مثل ثقافته، من اللافت أن نرى سقراط يصف عمله مراراً وتكراراً باستخدام هذه الصور الأنثوية.

والأكثر لفتًا للنظر ربما، أن سقراط يجادل في "الجمهورية" بأنه في المدينة الفاضلة، ستقوم النساء بكل الأعمال التي يعتبرها الأثينيون أعمالًا رجولية، بما في ذلك أن يكنّ جنودًا وفيلسوفاتٍ وحاكمات. وهو لا يطرح هذه الفكرة بدافع تحرير المرأة، بل من أجل تحقيق أعلى كفاءة ممكنة للمدينة - مدينة لن تُحصر فيها المرأة الموهوبة في الحرب بين جدران المنزل تغزل الصوف.

ورغم أنه قد لا يكون نسويًا بالمعنى الحديث، إلا أن سقراط يبحث بوضوح عن عالمٍ متحرر من الأعراف المقبولة، بما فيها الأعراف الجندرية. وبالمثل، فهو يسعى إلى نموذج للذكورة يستلهم أيضًا ما يُعتقد تقليديًا أنه فضائل أنثوية.

تشير فكرة التحرر من الأعراف المقبولة إلى التركيز على مفهوم التحرير في فكر أفلاطون. فبقدر ما قد يدعونا إلى إعادة التفكير في الذكورة وتجاوز الصور النمطية الجندرية، فإن الهدف النهائي ليس رفض الأعراف الجندرية أو بناء نموذج غير سام للذكورة (على الرغم من أننا قد نتمنى ذلك). بل الهدف أكبر وأصعب: إنه التحرر، ذلك التحرر الذي لا يتحقق إلا من خلال الانخراط العميق في الفلسفة.

ومن المنطقي بالطبع أن يكون الهدف صعبًا، فإحدى الحكم اليونانية القديمة المفضلة لأفلاطون - والتي أصبحت أيضًا حجر أساس في حياتي الشخصية - هي: χαλεπὰ τὰ καλά، أي أن "الأشياء الجميلة صعبة".

(انتهت)

***

.....................

الكاتبة: يانسي هيوز دومينيك  / Yancy Hughes Dominick يانسي هيوز دومينيك أستاذ  تدريس الفلسفة في جامعة سياتل، واشنطن. يركز بحثه  على الفلسفة اليونانية القديمة، وخاصة أعمال أفلاطون، مع اهتمام خاص بالجندر والتحرر في الفكر الأفلاطوني.

 

تأملات في حضور المعرفة والشعور في اللاوعي

 لطالما اعتُبرت الأحلام نوافذ للروح، ولغات لا يتقنها سوى من أصغى إلى رموزها. غير أني وجدت نفسي، طالبةً اعتادت أن تنظر إلى الحلم بوصفه حالة شعورية عابرة، أمام تكرار رمزيّ  يُبدع في كل مرة إشارة مختلفة، غامضة، لكنها موحية، وعميقة الأثر. أصبحت هذه الأحلام بالنسبة لي ساحةً رمزيةً مفتوحة، تذوب فيها الحدود بين المعرفة والشعور، بين العلم والرمز، وبين اللاوعي والإدراك.

أن أراه جالسًا في الصالون، يبتسم لي... لم يكن تفصيلًا بريئًا. فهو المكان الذي استقبل فيه وعيي أولى لمسات الأمان والانتماء. وأن يحمل (x) نفسه هذه الهيئة، فهذا يعني أن رمزيته امتزجت بجذوري. لم يعد مجرد موجه، بل أصبح امتدادًا داخليًا لصوت الإرشاد… تمامًا كما الأب، كالأخ ك ك ك...

الإصبع المرفوع دون كلام، وسط الحلم، كان أشبه بالنداء الرمزي، لا رسالة صريحة، ولا تفسيرا مباشرا. مجرد توجيه يستدعي التأويل. هنا، كنتُ أنا من أُكمل المعنى... وكأن الحلم لا يسلّمني المعنى جاهزًا، بل يدعوني لأن أُشكّله. ألا يشبه ذلك تمامًا فعلَ الفهم المعرفي حين نغوص في نص مُشفّر أو بيت شعر؟

مصحف في اليد… وأوراق فارغة في الفصل؛ لم تكن الدلالة الدينية وحدها ما استوقفني، بل التقابل المفاجئ: الطلاب كلهم يمسكون أوراقًا بيضاء فارغة — رموزًا للفراغ أو الضياع ربما — بينما أنا وهو وحدنا نمسك بالمصحف، كتاب المعنى.

كأن الحلم يقول: المعرفة الحقيقية ليست في الكمّ، بل في الجوهر؛ ليست في الإجابة، بل في الرؤية. وكأن رمزية المصحف هنا تمثل معرفةً مباركة وموثوقة، لا مجرد استذكار.

أكثر المشاهد شاعرية... يطلب مني أن أُصلح له شيئا يخصه،  كأن اللاوعي يوكّلني بمهمة ترميم شيء رمزي بداخلي، أو بداخله، أو بيننا.

أدوات "الربط"، لا فقط في ما هو مادي يملكه، بل بين الشعور والمعنى، بين المعرفة والعناية، بين الانكسار والصون، بيننا.

 حين يصبح (x) رمزًا لا شخصًا لم أعد أراه كشخص من لحم ودم فقط، بل صورة عقلية مركّبة، تضم سلطة العلم، دفء الاعتراف، تلميحات اللاوعي، وربما حتى توقًا داخليًا للانتماء إلى عالم من المعنى، إنه شخصية مركّبة تشكّلت في لاوعيي لتقودني -لا إلى النجاح والتفوق فحسب - بل إلى وعي أعمق بنفسي، وبما أطلبه من المعرفة.

ليست الأحلام دائمًا هروبًا من الواقع. أحيانًا، تكون الأحلام لغةً بديلةً لما لا نعرف كيف نقوله يقظةً. في تجربتي هذه، كان الحلم منصّةً رمزية يتقاطع فيها العلمي بالشعوري، والتعليمي بالحميمي. فتولدت داخلي حكاية لم أكن لأكتبها لولا أن تكلمتْ الرموز بصوت خافت... وكنت أنا الإصغاء.

***

بقلم: غزلان زينون

 

خلال زُهاء ربع قرن تبلور مفهوم (الأمن الفكري) على الصعيد الإعلامي وتبنّاه العمل المؤسسي العربي؛ نتيجة أحداث سياسية-أيديولوجية ولّدت ضغطًا هائلا؛ مما حدا بالسلطات العربية جرّاء تصاعد وتيرة هاجس الخوف من تأثير الأفكار التي تقوّض استقرار الدولة، لاتخاذ موقف هجومي في التصدي لهاته الأفكار التي لا تتماشى والخطَ الرسمي بِوأْدها في مهدها بعقلية أمنية، الأمر الذي يتعارض وبنيةَ الأفكار، ويتجاهل ما يخلّفه قمعها.

وفي ظل الانفتاح المعرفي الذي نشهده بات قارًا أنّ مفهوم (الأمن الفكري) بحاجة جادّة لإعادة تموضع ومراجعة أبعاده لينفض عنه غبار التعامي عن آليات إنتاج الأفكار، فيستحيل مفهوما مبنيا على أسس متينة، مستوعبا حيثيات استجابة الدماغ - وفق علم الأعصاب الإدراكي - للأفكار، وهذا ما يقترحه مفهوم (التمكين الفكري).

إنّ مغبّة (الأمن الفكري) تكمن في كون الممارسات التي يشرعنها تنسحب على عموم الأفكار ذات الجِدّة والفرادة، ما ينتج عنه تكميم روح التنوّع والإبداع؛ فتكون الدولة خِلْوًا إلا من نُسخ آمنة توافق السردية السائدة، وحيث إنّ ذلك يستحيل من حيث التكوين الدماغي، وخصوصا في خضمّ عالم يشهد انفتاحا واسعا على بعضه البعض، ووسط ظروف متداخلة شديدة التعقيد، فإنه سيفضي - ولا بُدّ - إلى تفشّي ظاهرة النفاق الفكري؛ تمهيدا لانفجارات قابلة لاحتضانها من أجندات مختلفة، وهو ما وُضِع مفهوم (الأمن الفكري) بادئ الأمر لأجل منع صيرورته!

وهُنا لا يمكننا إغفال طرح الفيلسوف الإيراني الفرنسي دارْيوش شايغان وغيره بكون الهُوية جذمورية الطبيعة، حيث تتفاعل الهوية مع محيطها في الوسط التعددي من غير أن تنفصل عن جذورها، وتؤثر من غير أن تفرض جذورها، مثل تفرع الجذمور تحت سطح الأرض، فلا تعرف لها بدْءا ولا انتهاء في شبكة متداخلة بالغة التشعّب، والتي تعني تنوّع أفكارٍ بالضرورة!

مع مفهوم (الأمن الفكري) تكتسب قائمة منتقاة من الثوابت المتوارثة حصانة منيعة ضد كل سؤال ونقاش، فتغدو الدولة زنزانةً معرفية يجرها الماضي إليه؛ فتخسر سباق الحاضر، ثم تكون مشرّدةً على رصيف المستقبل، غريبةً عن أسياده، ولإهماله طبيعة الأفكار الذي يغفل عن دراسة دوافع تبنّيها وكيفية تشكّلها دماغيا، فهذا المفهوم حتمًا سينشغل دومًا بمطاردة أعراض مآلات معالجته.

إنّ العقيدة الأمنية تعوزها الأدوات الفكرية الملائمة معرفيا؛ لذا فهي تتعامل مع الأفكار المضادة نسجًا على منوال تعاملها مع الأخطار المهددة للأمن العام؛ ولذا ترى أسلوب القمع والتغييب حاضرا بصرامة في معادلة الأمن والفكرة - مهما تفاوتت حدّته - إذْ ترى الفكرة التي لا تتساوق ومساحةَ المسموح مصدر تهديد يجب تحييده، والغاية تبرر الوسيلة!

فإذا كان ذلك كذلك؛ فإنّ الانزياح في التعاطي مع الأفكار على مستوى الدولة من (الأمن الفكري) إلى (التمكين الفكري) لا يقتصر على مستوى المفهوم، بل يتعداه إلى مؤسسة الاشتغال، ففي الوقت الذي كانت فيه المؤسسة الأمنية هي قطاع الاشتغال بـ (الأمن الفكري)، يجب أن يُناط بمؤسسة بطبيعة إنسانية ومعرفية صِرفة، إنفاذ (التمكين الفكري) وأن تؤول إليها اختصاصاته بما هي جهة تتمتع باستقلالية سلطوية وحصانة سيادية، وإلا وقعنا في الدَّور بسبب إكراهات النفوذ.

ذلك من ناحية التبعية، ومن ناحية التأصيل فإنه حتى ينضج مفهوم (التمكين الفكري) على النحو الذي يُراد له لا بد من مَأْسَسَتِه - بمعنى تحويله إلى نظام مؤسسي إنْ صحّ التعبير - بكادر مؤهل فكريا معيّن وفق معايير موضوعية تراعي نزاهة الانتماء للمصلحة العامة، على أنه يمكن أن يكون لهذه المؤسسة مراكز فكرية (Think Tanks) ممتدة وفقا للتوزيع الديموغرافي للسكان بما يلبّي أهدافها على أكمل وجه وأوسع نطاق.

هذا التأسيس يدفعنا لترسيم أبعاد (التمكين الفكري) حتى يتمايز عن سلفه (الأمن الفكري) في العمق والجذور؛ لِئلا يُنظر إليه على أنه محض مشاحّة في الاصطلاح، فماذا نعنيه فعلا بمفهوم (التمكين الفكري)؟

إنّ مفهوم (التمكين الفكري) في نطاقه العريض يعني تعزيز مبدأ حماية المجتمع من فكرة العنف في الاختلاف العقائدي، ذلك الاختلاف الذي يكون مبررًا مقززا لإلغاء الآخر معرفيا ومجتمعيا وجسديا، ويعني فيما يعنيه كذلك تعزيز البيئة الفكرية الصحية الحاضنة ليفكر الفرد فيها بصوت مسموع عن صراعاته الفكرية بأمان لا تعكّره أصوات التخوين والتكفير والإدانة والملاحقة والإسكات، فالمساحات التي تمكّن الفرد من مشاركة أفكاره علانية أقلّ عُرضة من أنْ تتحوّل إلى أقبية غاضبة سرّية، والفكر المتروك للتخمّر في الظل يتحوّل إلى خلايا محتقنة تنتهز أقرب فرصة مؤاتية لانفجارها؛ والذي ينتهي به المطاف - طال الزمن أو قصُر - لفاتورة باهظة تتحملها المؤسسة الأمنية كانت في غنى تام عنها.

كما أنّ مفهوم (التمكين الفكري) يسعى لرفع وعي المجتمع بألّا يغرق في اللاجدوى، والاستهلاك المفرط للمؤقت حيث تزدهر صناعة وعي استهلاكي هشّ لا نفع فيه، إذن (التمكين الفكري) الذي ننادي به يسعى لمناهضة السطحية بتفكيك الأُطر التي ترعاها، ويهيء البيئة الملائمة التي تحرّر العقول من السذاجة.

(التمكين الفكري) - على النقيض من (الأمن الفكري) - يدرك أن التحوّل المعرفي للفرد لا يعني مجرد تبديل رأي بآخر، بل هو تغيّر في النشاط العصبي في الدماغ، خصوصا داخل شبكة الوضع الافتراضي (Default Mode Network) المسؤولة عن تحوّل السردية الذاتية داخل الدماغ!

(التمكين الفكري) يعني التعاطي مع الأفكار بالفهم واستيعاب الدوافع، والتفكيك التحليلي، وإنتاج أفكار جادّة ذات فرادة، تُخاطِب الحاجة التي تستثير استجابة الدماغ؛ فيغدو (التمكين الفكري) فضاء احتواء تنمو فيه العقول لا مقبرة تُدفن فيها صرخاته وحديقة خلفية يُنتهك فيها عرضه، إنه بحق ساحة للدراسة في حقل علوم كعلم النفس الاجتماعي، ومن آثار ذلك الاحتفاء بالمفكرين عبر تمكينهم، فـ (التمكين الفكري) يركّز بشكل محوري على إعداد دراسات فكرية تُعنى بفحص اتجاهات الفكر السائدة وممكّناته في القُطر الواحد بصورة شمولية، بالإضافة إلى اقتراح سياسات مبنية على دراسات معمّقة، وتفكيك الظواهر المعقدة (غلوّ، تجييش عاطفي، تدافع فكري غير صحي…إلخ)، وتاليًا إنتاج معرفة تسبق القرار السياسي، وتعين صانع القرار على الانطلاق من أرض صُلبة، وتقديم معالجات رصينة بدل ردود الفعل المرتجلة وغير المسؤولة وغير محسوبة العواقب.

ويصحّ لنا أن نقول بملء الفم إنّ مفهوم (التمكين الفكري) ضرورة حوكمية من حيث هو تمكين التنوع، وليس وصاية بتحديد قائمة بالآراء المسموحة، إنه يعني الحثّ بصدق على (التفكير النقدي) المؤسس على نظرية المعرفة من حيث المبدأ، ورعاية سياجه الذي يضمن حرية ممارسته ويحرس حقوقه، لا أن تكون العقول مسكونة في قوالب ضيّقة وحبيسة التبعية باسم الحماية.

مِن ثَمّ؛ لعلنا يجب أن نتسالم مع فكرة أنّ الحقيقة ليست مطابقة دقيقة للواقع بقدر ما هي  مُنتج سلطوي، وفق ما تعتبره الدولة - بمكوّناتها كافة - حقيقة، كما أبانَه ميشيل فوكو في نظام الخطاب، وفي سياق (الأمن الفكري) وسط التجاذبات الفكرية بين إرادة الدولة وميول الفرد الفكرية كثيرا ما يُصار إلى أساليب متعددة لحقن هذا المنتج السلطوي في الوعي الفردي كأسلوب ازدواجية التفكير (Doublethink) كما رفعت الحُجُب عنه رواية 1984 لجورج أورويل، إذ يُستبدل بإدراك تصور نقيضه، فتغدو - مثلا - العبودية الفكرية حريةً، إذْ تُقدّم على أنها ضرورة تنظيمية، في الوقت الذي تقتضي فيه طبيعة التفكير الواعي التحرر من العوامل المؤثرة غير الموضوعية حدّ المستطاع.

 وقبل حوالي قرنين ونصف أطلقها كانط صرخة مدوّية في وجه العقل المؤمَّم (= الذي صار ملكية عامة): "تجرّأ أن تستخدم عقلك الخاص!" في مقاله: (الإجابة عن سؤال: ما التنوير؟!) بعد أن عرّف فيه التنوير بأنه خروج الإنسان من العجز الذي سبّبه لنفسه، العجز هو عدم القدرة على استخدام عقله دون توجيه من شخص آخر، كما نجد ديكارت في تأملات في الفلسفة الأولى منذ أربعة قرون من التناسل الفلسفي عمد بجرأة بالغة إلى آرائه فلم يكتف بالشك بل افترض بطلانها حتى يختبر حقيقتها بدون أحكام مسبقة في سبيل التحرر من أية رواسب تبعية.

 إنه من السهولة بمكان أن يوظَّف مفهوم (الأمن الفكري) بشكل مائع، يدمّر أكثر مما يصلح، في حين ينتصب مفهوم (التمكين الفكري) أداةً صحية ووقائية مبكرة، لا تقفز على كُنْه الأفكار، ولا تستهين بعفاريتها الطائشة، ولا تجرّ المجتمع إلى عنق زجاجة يشظّي تطلّعاته وواقعه من قبل!

وختاما، لا الاجتماع البشري يستقيم بلا دولة تنظّم معيشته، ولا الدولة تنهض بأفراد غير ممكّنين فكريا؛ ومن هُنا يأتي (التمكين الفكري) مشروعا وطنيا بامتياز.

***

بقلم: محمـــد سيـــف

كثرت بعد قيام الثورة في سورية وسقوط النظام الأسدي، مسألة الحديث عن العلمانيّة والعلمانيين، كما كثر التساؤل حول هل العلمانيّة كفر وزندقة والحاد؟. أم هي حركة تاريخ اجتماعي وسياسي واقتصادي وثقافي، يصنعها الإنسان بإرادته يعد تسخير عقله وجوارحه من أجل بناء حياة تسودها الحريّة والعدلة والمساواة.

دعونا بداية نميز بين التاريخ والتاريخانيّة. فالتاريخ أو التأريخ أو التوريخ، هو سجل الحوادث والعلاقات التي يصنعها الإنسان بنفسه (بإرادته هو) وفقاً لحاجاته المستدامة، وذلك من خلال تفاعله مع الطبيعة ومع غيره من بني الإنسان، وهذه العلاقات التفاعليّة لها سيرورتها وصيرورتها التاريخيتين. أي لها حركتها وإعادة إنتاجها بحالات متطورة في بنيتها وفقاً لمصالح الإنسان. أو بتعبير آخر: إن هذه السيرورة والصيرورة لبنية المجتمع بكل مكوناتها (الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة)، القائمة على الحركة المستمرة نحو الأمام دائماً، تتولد بـ (الضرورة) من صلبها علاقات جديدة بكل مكوناتها قابلة للتطور باستمرار بفعل الإنسان داخل بنية المجتمع. فالناس يصنعون تاريخهم بأيديهم شاء من شاء وأبا من أبا، وأهل مكة أدرى بشعابها... وأمور دنياهم هم أدرى بها أيضاً.

أما التاريخانيّة: فهي منهج فلسفي عقلاني في التفكير والممارسة، ينظر في سيرورة وصيرورة العلاقات الإنسانيّة داخل التاريخ. فالعلاقات الإنسانيّة التي أقامها الإنسان بإرادته كما بينا أعلاه، تأخذ دائما حالة التوسع والتعقيد والتشابك في بنيتها. فالاقتصاد يتداخل في البنية الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة، وكذا حال كل مستوى من هذه المستويات في علاقته مع المستويات الأخرى. فحالة التداخل والتشابك هذه، وخاصة عندما يتطور الوعي وتصبح له أنساقه المعرفيّة، وفي مقدمتها النسق الديني والسياسي، وترابطهما مع الممارسة اليوميّة المباشرة، تبدأ مسألة تجهيل الناس من قبل السلطات الحاكمة، وإبعادهم عن أسباب تشكل الفوارق الطبقيّة، وما تولده هذه الفوارق من ظلم وقهر واستلاب وآلام للمنتج من قبل المالك، ويبدأ هنا تجار الدين تبرير فقر الناس وكل ما يتبعه من ظلم تبريراً غيبيّاً، وأن ما يصيب الناس هو أمر مقدر عليهم، إما بسب جهلهم وكسلهم وقلة الحيلة عندهم كما تقر بعض فلسفات الفكر الوضعي، أو بسبب موقف جبري ديني يقر بأن الإنسان مجبر على أفعاله وليس مخيراً. ومع تغيب الوعي بهذه الطريقة تبدأ مسألة نشر الخرافة والأساطير والغيبيات والسحر والشعوذة وكل ما ينتمي إلى اللامعقول.

أمام هذه اللوحة المعقدة والمتشابكة من العلاقات التي بدأت تسودها الخرافة واللامعقول، يأتي دور (التاريخانيّة) أو المنهج التاريخاني، من أجل إخراج التاريخ (المشوه) في علاقاته وأسباب قيام هذه العلاقات، من عقول الناس الجهلة، وإعادة (إدخال عقولهم) في هذا التاريخ ذاته، بحثا واستقصاءً واستقراء واستنتاجاً عن الحقيقة المغيبة داخل هذا التاريخ ذاته. ففي القرن الثالث للهجرة، عندما سيطر المماليك على الخلافة وحولوا الخليفة منذ عهد "المتوكل" إلى (ببغاء في قفص)، وراحوا يستغلون العباد ونهب ثرواتهم، قامت ثورات الزنج والقرامطة والخرميّة والبابكية، من أجل محاربة المستغلين وعودة الحقوق إلى أهلها. فوضعت ثورة الزنج على سبيل المثال شعاراً لها الآية القرآنية: (نريد أن نمنّ على المستضعفين في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين)، أمام من كان يؤكد فقر الناس بنص الآية (أهم يقسمون رحمة ربك، نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات..). هكذا قامت أقلام السلطة من الذين أرخوا لهذه الثورات باتهام من قام بهذه الثورات بأنهم ملاحدة وكفار وزنادقة ومارقين على الخلافة المقدرة من قبل الله عليهم.

إن القرامطة، استطاعوا لأول مرّة أن يفكروا في بناء دولة خارج فهم الخلافة و(النص الديني)، بقيادة شعبيّة، ممثلة بمجلس عقدانيّة منتخب، وبذلك أخرجوا التاريخ من عقولهم وأدخلوا عقولهم في فيه ليتم تداول السلطة ووضع خطط لتسيير البلاد وفقا لما يقررونه هم، وعلى هذا التوجه امتدت دولتهم (300) عاماً. لقد حققوا العدالة والمساواة لأبناء المجتمع، وبذلك كانوا يمارسون فعلاً علمانيّاً. وإن ما تقوم به اليوم حكومة السيد "الشرع" من أعمال على مستوى الداخل والخارج، هي تصب بالضرورة في المضمار العلماني، فليس للدين أي دور في طريقة التفكير الاقتصادي والسياسي التي تنتهجها الدولة اليوم، إلا الاعتماد على مقاصد الدين التي تدعوا إلى الخير والمحبة والعدالة والتنمية للجميع. فعقد مشروع إعادة الكهرباء يدخل في مجال التفكير العقلاني الذي تقره مقاصد الدين، وكذا العقد الأخير الموقع من أجل بناء مدينة إعلاميّة في ريف دمشق... وقس على ذلك.

هكذا تشتغل التاريخانيّة على التراث، إنها تعيد إدخال عقل المهتم بالتاريخ في هذا التاريخ للوصول إلى الحقيقة.

العلمانيّة جوهر التفكير التاريخاني:

لننظر الآن إلى العلمانيّة من وجهة نظر المنهج التاريخانيّ، كي نعرف هل هي كفر وزنقة ومروق عن الدين كما يصفها التاريخيون السلفيون النقليون.؟1.  أم هي مشروع حياة تمنح الإنسان حريته في تسخير عقله لصنع حياته وتحقيق مصيره في هذه الحياة، من منطلق الناس أدرى بشؤون دنياهم؟.

نعم العلمانيّة مشروع حياة، تهدف إلى بناء الفرد والمجتمع والدولة، كي تتحقق في هذا المشروع الحريّة والعدالة والمساواة والتقدم، أو الرقي في فكر الإنسان وسلوكياته وحياته العمليّة.

والعلمانيّة إن اشتقت من العلم أو من العالم، فهي تستند في رؤيتها ومنطلقاتها على قوانين أو سنن موضوعيّة خارج إرادة الإنسان.

فإذا كانت العلمانيّة قد اشتقت من الْعَلْمِ، فالعلم له قوانينه التي لا تتحكم بها عواطف الإنسان ورغباته.. ولكن الإنسان يستطيع أن يكتشف هذه القوانين الموجودة في الطبيعة ويسخرها لمصلحته، وهذا ما جرى عبر تاريخ علاقة الإنسان مع الطبيعة ومحيطه الاجتماعي. فمع اكتشاف قانون الاحتكاك مثلاً استخدم النار.. ومع اكتشاف أن النار تصهر المعادن، استخدم المعدن في صنع أدوات قتاله وإنتاجه، وهكذا دواليك ففي كل مرة يكتشف فيها هذا الإنسان قانوناً من قوانين الطبيعة يسخر هذا القانون لمصحته.. وهذا ما جرى مع دافعة أرخميدس.. وقانون الجاذبية.. واكتشاف الذرة وتقسيمها.. الخ.

إذن في هكذا سياق من عمليّة التفاعيل بين الإنسان والطبيعة وقوانينها، تطورت حياة الإنسان بعمله وإرادته هو.. فعندما اكتشف الإنسان البارود وسخره في القتال مع اكتشاف أول بارودة قتال أيضا، تغيرت كل الطرق العسكريّة في العالم... وهكذا يؤثر العلم على حياة الإنسان ومسيرته التاريخيّة.

أما إذا كانت العلمانيّة مشتقة من اَلْعًاَلمْ، والعالم نقصد به هنا حياة الناس الاجتماعيّة وتفاعلها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي، فلهذا العالم أيضاً قوانينه التي تتشكل من خلال تلك العلاقات الاجتماعيّة بالضرورة. فالإنسان البدائي الأول كانت علاقته مع الطبيعة ومحيطه الاجتماعي علاقة بدائية مباشرة تفتقد إلى أي قانون يحكمها سوى قوانين الطبيعة العمياء.. فمن معطيات الطبيعة المباشرة، كان يحصل على غذائه وشرابه، وعندما يجوع ولا يجد في الطبيعة ما يأكله، قد يأكله أخاه الإنسان، وعندما يتعرض لخطر الوحوش، يدافع عن نفسه بقواه العضليّة.. وحياته الجنسيّة مشاعة.. ولقمة العيش مشاعة.. ولكن عندما بدأ الإنسان يستخدم أو وسيلة إنتاج بوعيه، إن كان من أجل تأمين الغذاء أو للدفاع عن نفسه، هنا بدأ يفكر ويتحول شيئاً فشيئاً إلى إنسان عاقل يختلف عن الحيوان في علاقاته الاجتماعية.

بعد تشكل الوعي من خلال العمل والانتاج، بدأت إمكانيّة استخدامه في علاقات الناس مع بعضهم، وبالتفكير والعمل بأخذت تتطور حياة الإنسان. وفي كل مرة تتطور فيها وسائل إنتاجه وتكتشف قوانين جديد في الطبيعة من قبل الإنسان ذاته، يزداد الإنتاج ويكتسب الإنسان خبرات جديدة تنعكس على حياته العمليّة والفكريّة معاً. ومع زيادة الإنتاج يستقر الإنسان، ومع استقراه يبدأ ينظم حياته ويعيد إنتاج ما يساهم في استقرار هذه الحياة.. ومع الاستقرار يزداد عدد السكان، ومع زيادتهم تزداد حاجات الإنسان، ويصبح هناك تخصص في العمل. ففي البدء ظهر التخصص في العمل والمهام بين المرأة والرجل، ثم تلاها التخصص على مستوى المجتمع من خلال مزاولة الحرف، فمنهم من راح يعمل في الزراعة، ومنهم في الرعي، ومنهم في الحرفة، ومنهم في مجال الفكر كالكهنة أو رجال الدين. ومع هذا التقسيم الكبير للعمل، بدأت تتعقّد العلاقات الاجتماعيّة والانتاجيّة والفكريّة معاً، ومع هذا التعقيد بدأ ينتج وعي آخر أكثر تطوراً، وبدأ اكتشاف الحرف والكتابة والحساب للتفاهم وتدبير أمور العلاقات الاقتصاديّة والاجتماعيّة، ثم مع تعقّد الحياة المستمر بدأ الإنسان يفكر في خلق الكون وطبيعة العلاقات الاجتماعية القائمة، وهنا ظهر الفن الذي راح الإنسان يعبر فيه عن مخاوفه وهواجسه من المجهول كالفيضانات والزلازل والموت وغير ذلك، من خلال الرسوم على جدران الكهوف.. فبدأت تظهر الرموز الدينيّة الأوليّة ممثلة في الجد الأكبر أو في شجرة أو حيوان (التوتم).. ثم راحت تظهر الآلهة المجردة المذكرة منها والمؤنثة في تفكير الإنسان، فوضع لكل علاقة اجتماعيّة إلاهاً أو إلاهة.. تلك عشتار ألهه الخصب.. وتلك فينوس ألهه الجمال.. وتلك ديانا آلهة الصيد.. وذاك بعل إله المطر.. وذاك باخوس إله الحرب... وذاك تموز إله الربيع وتجدد الحياة.. إلخ.. ومع تقدم الانتاج وما رافقه من تقدم في العلاقات الاجتماعيّة والفكريّة وتعقّدها، بدأت تظهر السلطة وتسخير الفكر الديني والفني لمصلحتها.. فالحكام أصبحوا آلهة أو يمثلونها على الأرض... وهكذا بدأت تظهر فكرة الدين وأهميته وخاصة في استغلاله من قبل الحكام لمصالحهم الأنانيّة الضيقة.

هذه هي معطيات العلمانيّة في حياة الإنسان، فالعمانيّة وفق هذه المعطيات هي قدره الحتمي المرتبط بإرادته وبعلاقته الاجتماعيّة والانتاجيّة .. أي هي كل فعل يقوم به الإنسان بإرادته من أجل التأثير في الطبيعة والمجتمع بغية تحقيق مصالح ماديّة أو معنويّة.

أما مسألة الدين وعلاقته بالعلمانيّة، فمن خلال عرضنا السابق لمسنا كيف ظهر الدين وكيف استغل من قبل الحاكم لمصلحته، إن كان في الديانات الوضعيّة البدائيّة أو حتى الديانات السماويّة.. فهذه اليهوديّة تستثمر من قبل الصهاينة من أجل تحقيق نهب فلسطين وتشريد أهلها تحت ذريعة العودة إلى أرض الأجداد وشعب الله المختار. وهذه المسيحيّة مورست في حروب أهليّة طاحنة، ولم نسلم منها نحن في الشرق، عندما قامت الحروب الصليبيّة، إضافة إلا ما حققته الكنيسة من مكاسب في تحالفها مع الملك من أجل استغلال شعوب أوربا، بل مرت فترات في العصور الوسطى سيطرت فيها الكنيسة على  الملك والدولة سيطرة تامة. أما في الإسلام فباسمه قامت الحروب الطائفيّة بين السنة والشيعة، وقسمت الأمّة إلى (73) فرقة كل واحدة تقول بأنها هي الناجية، وتكفير المختلف عنها، وكم استغل الدين في تاريخنا المعاصر لمصلحة الحاكم، كما جرى في سورية زمن النظام المخلوع، حيث استغل حافظ وابنه بشار هذا الدين، وتاجروا به، لقد بنوا في سورية بعهدهما (23) ألف جامع و(54) مدرسة شرعيّة، وعشرات المعاهد والجامعات الدينيّة، ومئات دور تحفيظ القرآن، ووجد حراس لهذا الدين من القبيسيات وشباب الرحم، في الوقت الذي كانت فيه تصرفات آل الأسد تدل على انها أكثر بعداً عن الدين.. فسجونهم وتجارة المخدرات وقمعهم للمختلف والقتل والتشريد والظلم الذي مارسوه بحق الشعب، هو أبعد عن أي دين وضعي او سماوي.

من خلال هذا التاريخ الطويل جاءت قضية فصل الدين عن السياسة أو حكم الدولة، حتى لا يستغل هذا الدين لمصلحة الحاكم والفرقة الناجية. ولكن يظل الدين يحمل في طياته القيم والأخلاق النبيلة، وهو الشرطي الداخلي الذي يخيف الناس من ممارسة الغلط والعودة عنه خوفا من العقاب الإلهي.. وعل هذا الأساس قال أحد الفلاسفة أو القساوسة: (حتى لو لم يكن هناك إله، علينا أن نوجده).

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سوريا

أو كيف تنتصر اللاعقلانية على العقل؟

يرتهن الفوضويون الجدد، أو ما يسمون ب"شعبويو التكنولوجيا" (ما بعد الأيديولوجيا)، على إعادة تدوير أو اختراع الحياة السياسية، وتقييد سلطة القرار إلى ما يعزز تنميط العواطف وشحنها بكل أصناف الأكاذيب والبروبجندا الموجهة، وتحويل التفاعلات الاجتماعية الفورية إلى مركزية افتراضية عابرة لوادي السيليكون، بكل أبعاده التحكمية الرقمية وتوسعاته المهولة في تغيير السلوكات والمجتمعات، بفعل تأثير أدوات التكنولوجيا وذكاءاتها العابرة، من الهواتف الذكية وشبكات التواصل الاجتماعي إلى الصور والخوارزميات السيبرانية المتدفقة.

يتحدث صاحب كتاب "مهندسو الفوضى" الإيطالي- السويسري جيوليانو دا إمبولي، عن وجود استثمار قوي في توليف الغضب النفسي، المتأتي من الظروف التي خلقتها السياقات الاقتصادية والاجتماعية للعولمة والنيولبريالية، مع التطور التقني في توظيف الخوارزميات لتشكيل رأي عامٍ متوافق مع السرد السياسي للحركات الشعبوية وقادتها.

وبالنسبة إلى مهندسي الفوضى الجدد، لم تعد اللعبة تتمثل في توحيد الناس حول القاسم المشترك الأدنى، بل على العكس من ذلك، تأجيج مشاعر أكبر عدد ممكن من المجموعات الصغيرة ثم جمعها معاً، كالقطيع. وهو ما يشكل برأيه حماسا زائدا لاستقطاع نظام يواكب السياقات الكبرى، لتحويل العالم إلى ما يشبه شركة تستثمر في استمالة وإغراء عقول الناس، وتأليبهم على مصائرهم.

هو تحذير في العمق، من الوقوع في شرك إغراء رؤية ما أسماه ب" انتصار اللاعقلانية على العقل"، حيث تتغذى على الغضب الشعبي لأسباب اجتماعية واقتصادية حقيقية، بالاستثمار المكثف للشبكات الاجتماعية، حيث يمكن التلاعب بالجماهير من خلال استخدام وتوجيه خوارزميات تعمل على فك رموز مستعملي هذه الشبكات، عن طريق مجسات مخفية للجذب، وهي تروم التحكم والاستحواذ على المقدرات الشخصية للأفراد والجماعات، بشكل يثير الدهشة والاستغراب.

يفرض هذا النسق، الجواب عن سؤال أسباب صعود هذا النوع الفوضوي من الشعبوية، التي وصفها جوليان ودا امبولي، ب"رقصة مسعورة" تقلب كل القواعد الراسخة وتحولها إلى نقيضها، حيث تتحول أخطاء القادة الشعبويين إلى صفات، مع ما يمتلكونه من سوء النظر وقلة الخبرة وعدم الكفاءة.

بل إن التوترات التي تحظى بانتشار عالمي غير محدود، على مستوى وسائل الإعلام والمؤتمرات المدعومة من الشركات العملاقة، هي بمثابة استقلالهم وخصوصياتهم، كما هو الحال بالنسبة للأخبار الكاذبة التي تتخلل دعايتهم، تمثل علامة على حريتهم في الفكر واقتدارهم على استقطاب مناصريهم.

وهكذا تصبح الفوضى مجالا لتعميم شعبوية تجنح إلى ترسيخ مبدأ "الكرنفالية"، و"تشويه الحقائق"، و"التأثير على الجماهير بالخطابات الرنانة والمؤدلجة"، بروح ليبرالية متوحشة، أو بنكهة دينية غارقة في التعويم، كما "الابتدال القيمي"، الذي يعمد إلى قلب الحقائق وتفريق النظر في القضايا المتاحة للنقاش، وإعادة تأجيل الحسم.

هؤلاء، مهندسو الفوضى، الذين أشاح جوليانو دا إمبولي عن حقيقة صورتهم الممهورة في علياء البروبجندا، بشكلها الردئ جدا، والمتحامل على العقل والوجدان الكوني لكل حق مكفول في المواثيق الدولية وأعراف الشعوب، هم من يتملكون الآن أسباب الانقلاب على القواعد العامة لاستخدامات التكنولوجيا ومعلومياتها المتطورة، ضدا على "مجتمعات المعرفة" و"نشر الخير والسلام" و"وقف نزيف الحروب واستعمال القوة العسكرية".

والنتيجة "هي معرض من الشخصيات الملونة، كلها تقريباً غير معروفة لعامة الناس، والذين مع ذلك يغيرون قواعد اللعبة السياسية ووجه مجتمعاتنا" (1)

يتهم الباحث جوليانو إمبولي النخبة الاتصالية الدعائية المصممة للطفرة المعلوماتية فائقة القوة، بدايةً من أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، والتي أفرزت تيارا عمل طيلة سنوات على توجيه الرأي العام من خلال استعمال خوارزميات الإنترنت، بدايةً من المدونات والمواقع، ثم في عصر الانفجار الهائل لمنصات التواصل الاجتماعي، مستعرضا أمثلة عن مجموعة عمليات تمت بهذا الأسلوب في الولايات المتحدة والبرازيل والمملكة المتحدة وحتى في المجر. وفي الأثر، جاء على ذكر نموذج دونالد ترامب الذي تماهى مع مفاهيم الحقيقة البديلة ونظريات المؤامرة والأخبار المزيفة، والتي يتم خلطها جميعاً بواسطة الخوارزميات المسؤولة عن صدى ما يعتقده الناس من دون مرشح ومن دون إدراك متأخر، على وجه الخصوص من خلال المجتمعات الرقمية التي تعبر عن نفسها على وسائل التواصل، وهو ما عكسته تجربة رواد "تحسين التأثير وصوغ الرسائل لمصلحته باستمرار". وهو ما يسهم في إذكاء روح " إعادة اختراع الدعاية السياسية، كي تتناسب مع عصر "السيلفي" ووسائل التواصل، وهم يغيّرون في الوقت نفسه من طبيعة اللعبة الديمقراطية". كما أن "نشاط هؤلاء يتمحور حول الترجمة السياسية لفيسبوك وغوغل. وهو بطبيعته نشاط شعبوي، لأنه لا يحتمل أي نوع من الوساطة، ويضع الجميع على قدم المساواة، بمعيار وحيد للحكم، هو إظهار الإعجاب أو "اللايكات". (2)

فوضى الشعبوية امتدت أيضا لأراضي العقل العربي، وأضحت حقلا مفتوحا لتجاربه في صوغ قياس يتماشى وموقعه في منظومة التبعية الغربية وإغراءاتها.

فهل تكون الشّعبوية البديل بعد نفوق السرديات الكبرى؟، يتساءل حسن أوريد، الذي يرى أن هذه الشّعبوية تبرز الآن كعرَض لتوعك الديمقراطية، لكنها من منظور أصحابها، هي ما يعيد للديمقراطية وهجها باقترانها بالشعب وسيادته.

أوريد يجزم أن “العالم العربي استنفد السَّرديّات الجامعة، من قوميّة عربيّة، إلى إسلامٍ سياسي، فانتشاءٍ خلال ‘الربيع العربي’؛ لكنّه مُني بإخفاقٍ في مسْرى كلّ موجة، لكي لا يلقى من بديلٍ لهجير الكبوات سوى سراب الشعبويّة، وهل يكون الدواء من صميم الداء: الهروب من رمضاء تشوُّه السياسة، وكساد الاقتصاد، وكبوة الثقافة، إلى هجير الشعبويّة؟ لا بديل يلوح في أفق العالم العربي، سوى السلطويّة متلفّعةً بلبوسٍ شعبوي، أو بتعبيرٍ أقلّ حذلقةً، إلى استعبادٍ طوعي، تقود الجماهير نفسها إليه حتف أنفها”. (3)

إن صعود الموجة الشعبوية، بهذا التناكف الاختراقي الجبار، وعبر وسائط التواصل الجديدة والتكنولوجيا الشبكية، التي أضحت تدير الغرف المظلمة، تحولها إلى أحصنة جامحة وبمثالب جاهزة للاختراق، مؤثرة في توجهات واختيارات المستخدمين، عبر أجهزة مخططة تنفذها جيوش إلكترونية بكامل تجهيزاتها، تجوب العوالم الزرقاء خلف قياداتها، لتتعبأ بالسيطرة الناعمة تلك، على احتواء السياقات النفسية والاجتماعية والثقافية، وتجعل من ديناميتها شكلا من أشكال التمرد غير المعلن، حيث تصير المشاعر معتملة في باراديجمات الإخبار والتمسح بالزيف والمؤامرة المفترضة، كما هو التحول الى صناعة سلطة اعتبارية قوية التأثير في الخطاب، بعيدا عما هو منزه عقلا ومنطقا، بلغة تمحو الى استحضار لغة الجسد والصور، بحاذبية سردية متصلة تماما بواقعية المخيال الجماهيري وميولاته الغريزية لسلاح الإشاعة والاكاذيب واختلاق البهتان ودغدغة المشاعر وافتضاح المخاوف البليدة.

***

د. مصـطـــفى غَـــلْمَــان - إعلامي وباحث مغربي

........................

هوامش:

ـ (1) و (2) ـ Giuliano Da Empoli "Les ingénieurs du chaos"' Ed j_ c Lattès. Mars 2019 . 127 pages .p12

(3) ـ حسن أوريد :"إغراء الشعبوية في العالم العربي، الاستعباد الطوعي الجديد"، دار نوفل هاشيت أنطوان 2024، ص 94

مقدمة: في زحمة الكلام الفلسفي المتكرر، وتراكم الكلمات التي تكرر نفسها عبر العصور، تبرز الحاجة إلى صوت جديد، لا يكتفي بتكرار الأفكار المعتادة، ولا يستسلم للسقوط في فخ الخطابات السطحية التي تلهث خلف المثالية الوهمية.

هذا المقال ليس مجرد نص يُضاف إلى رصيد الكلام عن الإنسان، بل هو صرخة فلسفية عميقة، ترفض التسامح مع الوهم الذي زرعناه في صميم وجودنا، وتسعى لكشف الوجه الحقيقي لهذا الكائن الذي يُدعى الإنسان. الإنسان الذي طالما اعتُبر محور الكون وغاية الخلق، لا يليق به هذا التكريم، فهو في جوهره مأسور في شباك وعيه المفكك، وحامل لعنة التطور الذي شوه أصالته الوجودية.

في هذا النص، لن نبحث عن حلول نصفية أو نظريات إصلاحية، بل سنخوض رحلة متطرفة نحو جوهر الأزمة: كيف يُمكن لنا، فلسفيًا، أن نُعيد قراءة الإنسان، ليس كقمة التطور وحصان الفلسفة، بل ككائن يحتاج إلى إعادة تأسيس أو حتى إلى تجاوزه.

هذا المقال هو إعلان تمرد على الذات الإنسانية، نداء للفكر لأن يحرر الوجود من أسر الإنسان، وللوعي كي ينظر إلى نفسه بمرآة لا ترحم، تسقط الأقنعة، وتكشف الحقيقة المُرّة. في زمن تُغتال فيه الحقيقة داخل غرف الأنا، هذا النص يدعو إلى لحظة صراحة مطلقة، تقلب الموازين، وتطرح سؤالًا لم يجرؤ أحد على طرحه: هل الإنسان حقيقة يستحق الحياة، أم أنه مجرد خطأ وجودي يجب تجاوزه؟ هل أنت مستعد للغوص في هذه الرحلة الفلسفية التي لا تُحبّذ المهادنة ولا التراجع؟

1. الإنسان ككائن فاسد بنيويًا: تفكيك البناء الوجودي للذات

الذئب، بنظامه الحيوي البسيط، لا يخون نفسه ولا يخرج عن صيغته الطبيعية. النار، في تألقها المهيب، لا تتنكر لجوهرها، ولا تصطنع حرارةً زائفة. أما الإنسان، ذاك الكائن الذي تنوعت أسماؤه وأسطورته، فهو الوحيد الذي ينسج من وجوده شبكة معقدة من الأوهام، يقيم عليها مجتمعات كاملة، ويعبدها في معابد فارغة من الصدق.

تشريح الفساد البنيوي: الإنسان ليس كائنًا محايدًا أو مجرد متلقٍ لقدرٍ بيولوجي أو كوني، بل هو كائن ملوث أصلاً. ليس خطيئته في أفعاله وحسب، بل في طريقة وجوده ذاتها. إنه طبيعة تمردت على جوهرها، ووعي أدمن الخديعة الذاتية. الوعي، الذي يُفترض أنه مرآة الحقيقة، هو في جوهره أداة تفكيك الذات، فهو لا يكشف الحقيقة بقدر ما يخلط بين الحقيقة والوهم، وينتج تعدد ذوات متصارعة داخل نفس الواحد.

الوعي كآلية انقسام داخلي: حين ندرك "أنا"، تبدأ الحكاية المعقدة. فـالأنا ليست وحدة متماسكة، بل مجموعة من الصراعات: صراع بين الرغبة والخوف، بين الحقيقة والزيف، بين الحرية والعبودية. الإنسان يبتدع لنفسه أدوارًا متضاربة: هو الجلاد والضحية، الضمير والإنكار، الباحث عن الحقيقة والرافض لها في الوقت نفسه. هكذا يصبح الإنسان مصنعًا للأوهام الوجودية، ومصدرًا لانقسام الذات التي لا تهدأ.

مفاهيم صنعها الإنسان لشرعنة وجوده: منذ وعي الإنسان لذاته، ابتدأ في تشييد أبراج من المفاهيم التي تمنح وجوده شرعية، لكن هذه المفاهيم ليست أكثر من ستائر تخفي اللاوعي والعبث الكامن في أعماقه: الخير الذي يُقدم كقيمة مطلقة هو في الأصل رغبة في السيطرة ورفض للاختلاف.

الشر ليس سوى انعكاس لنظام قيمي يحدد من هو خارج دائرة الإنسانية. الحرية تتحول في أرض الواقع إلى قانون قمعٍ لا يُعلن عن نفسه. المعنى هو تسوية اضطرارية بين اللاوعي والخوف من العدم. بهذه الطريقة، يصبح الإنسان حكّامًا على ذاته بسلاسل من الأوهام التي تؤجج نزعات التسلط والقهر، ويُنتج عالمًا يفقد فيه كل شيء أصالته، ليصبح مجرد مسرحية مستمرة من الازدواجية.

الخيانة الأزلية: الإنسان ضد الوجود: الإنسان ليس صديقًا للطبيعة، بل هو خائنها الأبدي. يخونها حين يعبث بتوازنها، ويحكم عليها بالموت حين يستغل مواردها بلا هوادة. يخون الزمن حين يسرق من ذاكرتنا الجماعية الحقائق ويعيد تشكيلها وفق مصلحته. ويخون الحقيقة حين يلوّح بالأوهام والرموز بدلًا من المواجهة الصريحة.

هذه الخيانة ليست خطأ عرضيًا، بل هي في صميم طبيعته، فهو كائن أُلقي في العالم يحمل بذور تحلله الداخلي، وسرعان ما تُفجّر هذا التحلل في أشكال من التدمير الذاتي والكوني.

الإنسان ليس كائنًا يعاني من شرور خارجية أو ظروف قاهرة، بل هو كائن يختار بوعي أن يعيش في الازدواجية، وأن يحتضن الانقسام الداخلي، ويصنع من ذاته ما هو أشبه بـمسرحية متقنة لتمثيل الخيانة الوجودية.

2. الوعي: العقوبة التطورية التي شوهت الأصل

لقد اعتُبر الوعي الإنجاز الأسمى في تطور الإنسان، وذروة العقل التي تميزه عن باقي الكائنات. لكن ما لم يُفكر فيه أحد بعمق كافٍ هو أن هذا الوعي قد لا يكون سوى عبء ثقيل على الكائن الحي، بل وربما عقوبة تطورية أثقلت وجود الإنسان بدلاً من تحريره. الوعي ليس مجرد قدرة على إدراك العالم، بل هو حالة من التمزق الدائم بين الذات والواقع، ينتج عنها فجوة لا يمكن جسْرها بين ما هو حقيقي وما هو مفترض، بين الذات التي تتطلع إلى الثبات، والعالم المتحرك المتغير الذي يرفع الاستقرار. في اللحظة التي وُجد فيها وعي الإنسان بنفسه، بدأ رحلة من الاضطراب الوجودي المزمن. ليس وعيًا يُضيء الطريق، بل وعيًا يُعمّق الظلال، ويفتح باب الشك والشكوك، ويغذّي خوف العدم المطلق. كل الأساطير والفنون والفلسفات التي صنعها الإنسان هي محاولات يائسة لملء هذه الفجوة، لإيجاد معنى يثبت الذات في مواجهة هذا العدم الرهيب. لكن، في الحقيقة، هي ليست أكثر من أقنعة رمزية تحجب عن الذات حقيقتها المؤلمة: أنها ليست سوى بؤرة اضطراب، وأن الوعي ليس براءة، بل لعنة على الوجود.

3. النزعة الإنسانوية: الوهم الأكبر وغطاء الانحراف

الفلسفة الغربية، ومن خلالها الفكر الحديث، كرست الإنسان في مركز الكون، وجعلته معيارًا لكل شيء. لقد تم تشييد "الإنسانوية" كإيديولوجيا متكاملة، تغطي كل انحراف وتفسر كل خطأ، وتنطلق من فرضية أن الإنسان جوهر الخير والحق والحكمة. لكن هذه المركزية ليست إلا ستارًا فلسفيًا محكمًا يغطي أعمق الجروح: إن الإنسان هو كائن مريض، يتوسل بفكرة تفوقه ليستمر في تأكيد وجوده المزعوم. وأن الإنسانوية ليست إنقاذًا بل تحايل للتغطية على فساد بنيته.

أفلاطون بنا مدينة العدالة، لكن المدينة لم تكن سوى محاولة لصياغة نظام يحافظ على سيطرة فئة على أخرى. ديكارت أسس الأنا المفكر، لكن هذا الأنا هو بداية انقسام الذات، وفتح الباب أمام أزمة الهوية والذاتية المتنافرة. نيتشه نادى بالإنسان الأعلى، لكنه لم يخرج من دائرة الإنسان، بل استبدل قيدًا بقيْد آخر.

النقطة الأهم أن الفلسفة، حتى في نقدها، لم تجرؤ على رفض الإنسان كمرجعية، بل كانت تدور حوله وكأنه محور لا يمكن تحريكه. وهذا يجعل الإنسانوية أكثر الخطايا فداحة: إنها تحافظ على الإنسان، لا لأنه قيمة، بل لأنه مركز الأزمة الوجودية ذاتها. إذا كان الإنسان هو المشكلة، فكيف لنا أن نُصلح المشكلة ونحن نُعلي من شأنها؟. هذا هو التناقض الذي يثقل كل محاولات الإصلاح والتمرد.

4. ما بعد الإنسان: ضرورة فلسفية لتحرير الوجود من أسر الذات

إنهاء مركزية الإنسان لا يعني مجرد رفض أو إلغاء هذا الكائن، بل هو دعوة لإعادة تفكير جذري في ماهية الوجود وعلاقته مع الذات والعالم. إنه رفض لاستمرار وضع الإنسان كمصدر المعنى والمرجعية المطلقة، ودعوة للعودة إلى حالة ما قبل الإنسان، حيث يظل الكون حراً، والوجود أصيلاً، بلا تداخل الوعي الممزق والأنانية الوجودية. إن ما بعد الإنسان ليس عبثًا أو رفضًا للعقل، بل هو تجاوز نقدي للإنسانوية التي عجزت عن تحرير الفكر والوجود من سطوة الذات. فكما أننا نتجاوز الأنظمة الفاسدة، والسلطات المستبدة، يجب أن نتجاوز الفكرة التي جعلت من الإنسان أداة قمع على الطبيعة، والمجتمع، والعالم.

ما يعنيه ما بعد الإنسان فلسفيًا:

تفكيك فكرة النوع: لا وجود للنوع البشري ككيان مقدس أو مركز الكون. النوع هو مجرد تركيب بيولوجي واجتماعي، وليس الجوهر النهائي للوجود.

تفكيك الهوية المركزية: تجاوز فكرة الأنا كوحدة متماسكة ومطلقة، والانفتاح على مفاهيم الوجود المتعدد، اللاواعي، واللا-ذاتي.

تحرير الوجود: السماح للوجود بأن يكون حرًا من أسره للوعي الذاتي الانعكاسي الذي غالبًا ما يكون سببًا في الاغتراب والخراب.

إعادة النظر بالعلاقات بين الإنسان والطبيعة: إن الإنسان هو جزء من شبكة الحياة، وليس سيدها أو مالكها، ويجب أن تُعاد صياغة هذه العلاقة على أساس الاحترام المتبادل والتكافل.

لماذا هذا التجاوز ضروري؟ الاستمرار في اعتبار الإنسان مركزًا هو استمرار في إنتاج أنظمة القهر، والأوهام، والفساد البنيوي.

كما أن هذا المركز يخلق وهم السيطرة، الذي بدوره يدمر الطبيعة، ويغتال الوجود نفسه.

التاريخ، كما نعرفه، ليس إلا مرآة لتدمير الإنسان الذاتي، فكل حروبنا، أيدولوجياتنا، معاناتنا، ما هي إلا محاولات متكررة لتأكيد بقاء هذا الكائن في قمة الهرم الوجودي، رغم أنه في الواقع، هو مصدر الفساد والدمار.

خاتمة: ما هو المطلوب الآن؟

نحن بحاجة إلى فلسفة ما بعد الإنسان، التي لا تخاف من قطع الروابط، وطرح الأسئلة التي تبدو في الظاهر مستحيلة: هل يمكن للوجود أن يتنفس بحرية بدون الإنسان؟ هل يمكن أن يكون للكون معنى بلا وعيه التفكيكي؟ هل يمكن أن نستعيد التواصل مع الطبيعة والعالم بلا وهم السيطرة الذاتية؟

إن الإنسان، بكل تناقضاته وأوهامه، ليس بطل هذه الحكاية، بل هو الكائن الذي اختلق دروب الخراب والاغتراب لنفسه وللوجود كله. لن نكون حمقى كي نُعيد تدوير الكلام عن الحرية والمعنى كأنهما حلًّا، بينما هما في جوهرهما سجنان للنفس التي لم تجد طريقها للخلاص. كما قلتُ ذات مرة: عقولنا ليست ملكنا.. فهل نملك الجرأة للاعتراف؟

الفيلسوف سارتر، الذي غاص في عتمات الوجود، وصف الإنسان بدقة: الإنسان محكوم عليه بالحرية، لكنه أيضًا محكوم عليه بالخيانة لذاته. وهذا ما نراه بوضوح في طغيان الأنا، في غياب الصدق، وفي الهيمنة التي لا تنتهي لذات لا تهدأ.

نيتشه، المتمرد الذي لم يهادن الإنسان، قال: الإنسان هو جسر، وليس غاية؛ ما بعد الإنسان هو الهدف. كلام يعكس جوهر ما نحتاجه: ولادة جديدة تتجاوز الأنانية والذاتية الضيقة، نحو أفق أرحب للوجود. وأنا أؤكد هنا أن: الوعي ليس براءة، بل لعنة على الوجود.

وفي هذا السقوط المدوي للذات، تكمن الثورة الحقيقية، وفي تحرير الوجود من هيمنة الإنسان، يكمن الخلاص الحقيقي. لذلك، إن كان هناك ما يستحق أن يُكتب ويُقال في عصرنا، فهو هذا الاعتراف الصريح: الإنسان، كما نعرفه، عائق على الوجود لا رائدًا له. والخلاص يبدأ حين نجرؤ على تجاوزه، فلسفيًا وإنسانيًا.

وفي نهاية هذا المقال، لا يسعني إلا أن أتوجه بالشكر العميق إلى أستاذي الدكتور حيدر عبد السادة جوده، لا على اختياره الموفق للعنوان فحسب، بل على بصيرته النقدية التي ساعدتني على تعميق نظرتي لهذا التمرّد الفلسفي، وفتح أفق الكتابة أمامي لتجاوز الإنسان بوصفه مركزًا لا يجب أن يُلامس. هذا النص لا يُهدي نفسه سوى إلى أولئك الذين يجرؤون على التفكير خارج قفص النوع، وهو ثمرة فكر يتتلمذ على يد مَن يؤمن أن الفلسفة فعل تحرّر لا تكرار.

***

الكاتب: سجاد مصطفى حمود

 

كثير من المفكرين والكتاب العرب، حتى الذين اثارت طروحاتهم استياء الوسط الثقافي والاجتماعي، سيكون لهم مواقع مهمة في تاريخ الثقافة العربية، لأنهم حاولوا صادقين تقديم رؤى جديدة ومفيدة يرتجى منها خدمة الواقع الثقافي للمجتمع العربي الاسلامي. حتى لو ان تلك الطروحات كانت قاصرة عن ادراك الحقيقة. خصوصاً في القرن الواحد والعشرين الذي يمتاز بالتطور التقني المتسارع في العالم الغربي، وبالتطلع الثقافي المتسارع في العالم العربي .

الانسان والتكنلوجيا:

اصبح التطور التقني الآلي الرقمي اليوم واقعاً لا غنى عن قبوله وتقبله. ولم يعد مجدياً إعداد بحث عملي ناجح او دراسة عملية ناجحة في اي مجال من مجالات العلوم وانت تجلس منعزلاً في ركن مكتبك الخاص، ما لم يكن لديك اتصال وتواصل مع العالم من حولك حيث تشهد احداثه حركة تغيير متواصلة ومتسارعة. المشهد الثقافي الخاص بكل مجتمع هو من بين تلك المجالات التي نحتاج في عالمنا العربي المعاصر الى ان ندرسها ونبحثها في ضوء علم الانسان – الانثروبولوجيا – للوقوف على طبيعة المشهد الثقافي الحياتي لمجتمعاتنا العربية لمعرفة الكيفية التي نوظف بها مواردنا الطبيعية والبشرية في مشاريع تخدم تمكين المجتمع ثقافياً في خط التطور الذي يشهده العالم من حولنا.

اننا نسعى من خلال حياتنا الى تكوين شخصيات صالحة وناجحة تبقى بعد موت اجسامنا، يستفيد منها الأحياء بعدنا في تكوين شخصياتهم. هكذا جيلاً فجيل، حتى تبلغ البشرية ما امكنها من درجات الكمال والجمال العليا بحيث تغدو الحياة كما وصفها النبي الخاتم (حلوة خضرة والله مستعملكم فيها فانظروا كيف تعملون).

يقول الطبيب الفرنسي (ليكونت دي نوي) (على الإنسان أن يفهم إن التطورات الآلية التي أدخلها في بيئته وراح يلائم بينه وبينها لن تكون لها إلا نتيجة من نتيجتين، وهما التقدم أو الدمار حسب نجاحه في شفاعتهما بالتطور في بيئته الخلقية. فواجب الانسان إذن ان يزيح جانباً معالم حضارته الباطلة ويقيم في مكانها معالمه الصادقة وهي الكمال الذي يوافق كرامة الانسانية، وليس المطلوب منه ان يحارب التقدم الآلي – ولا طاقة له بمحاربته لما يرجى من المزيد في تقدم العلم والطب – بل بتهذيب النفس والارتفاع بامثلتها العليا).

العقل الانساني والذكاء الآلي:

 ما يميز العقل البشري عن الآلة الذكية هو ان العقل البشري عقل مرتبط مباشرة بمنظومة حسية حيّة يفتقر اليها الروبوت الذكي، لذا فالعقل البشري عقل حيوي بينما يمكن وصف الآلة الذكية بالعقل الفعّال، الأمر الذي يجعل الآلة الذكية تجيب بسرعة ودقة اكبر من الإجابة التي يقدمها العقل البشري للسؤال نفسه الموجه اليهما .

في كتابه (الانسان ذلك المجهول) يقول الطبيب الفرنسي الكسس كارل الحائز على جائزة نوبل عام 1912م : ان النظر الى الانسان كأنه آلة جسدية هو " خطأ طبي" أو خطأ علمي تثبت للباحث جرائره الحسية كما يثبت كل محسوس يعتمده اصحاب التجارب الطبية والعلمية..

يتخوف بعض الباحثين من مستقبل علاقة الانسان بالآلة الذكية إذا شكل الذكاء الإصطناعي تهديداً لحيوية العقل البشري، وتمكن من التاُثير على عملية التفكير حين تتعلق بإستحضار بيانات ومعلومات من الماضي. ولعل تلك المخاوف مرهونة بأجندات النظام العالمي المتحكم بمشاريع الذكاء الإصطناعي، فكلما أمعن هذا النظام العالمي في اعطاء اولوية للمكاسب المادية على حساب قيم الإنسانية، فقد نرى ان هناك تهميشاً للتفكير النقدي لصالح الإعتماد الأعمى على الأنظمة الذكية، وتركيز سوق السلع على تحويل الإنسان الى كائن مستهلك للبيانات بدلاً عن تحفيزه على أن يكون منتجاً للمعرفة. فهل سيحافظ العقل البشري على ريادته وسيادته الفكرية في ظل هذا التطور المتسارع للتقنية الرقمية.؟

قد يصبح التسليم للذكاء الإصطناعي خياراً جذاباً في المستقبل، وقد يبدو ذلك واضحاً كلما اتسعت مساحات إستثمار النظام العالمي الجديد في مجالات الحياة الإنسانية، وكلما كثرت أموال الشركات المنتجة للتقنية، وكلما كثرت حاجة الناس الى استخدام تلك التقنية. لكن مع كل هذا يخبرنا التاريخ ان التغيير الكبير يحدث غالباً في الوقت الذي يرى فيه الانسان انه مجبر على التكيف مع الواقع الجديد.

التراث والتكنلوجيا:

عندما نتحدث عن تراث العرب فإننا نتحدث عن مساحة ثقافية كبيرة، وعن تاريخ موغل في العمق الزمني في عمر البشرية. فالعرب هم اول من استخدم الأرقام والخوارزميات والجبر وعلم الفلك. وهم اول من استخدم مفهوم الجاذبية قبل نيوتن بـ 600 عام على يد العالم العربي المسلم ابن الهيثم الذي يعد اول من وضع منهجاً علمياً في العالم قبل الحضارة الغربية بستة قرون، وهو من اكتشف قانون الحركة. وابن سينا هو مؤسس علم الطب في العالم، وشواهد كثيرة شاخصة وقامات عربية اسلامية كثيرة لا تزال شاهقة رغم كل محاولات إلغاء او تهميش هذا التاريخ الثقافي. المشكلة الكبرى التي تواجه ثقافتنا اليوم انها لم تصل رغم كل الجهود الى مصالحة بين التراث والمعاصرة . لهذا السبب تبدو الفجوة واسعة بين يومنا وأمسنا، وبدا مستقبلنا مصادراً بالكامل لصالح التقنية الرقمية الذكية التي ستؤثر في المثقف العربي الى الحد الذي لا يعود معه قادراً على تكوين رؤية سليمة واضحة المعالم لعلاقة الماضي بالحاضر والمستقبل، الأمر الذي سيدخله مرحلة الأتمتة الثقافية، حيث تتحول المفاهيم الكبيرة الى مضامين بحثية تنتهي بنتائج روتينية لا تخدم يقظة الروح الانسانية في ضمير الأمة.

لا يزال في وسع الثقافة العربية المعاصرة القيام بكثير من الجهود والخطوات التي من شأنها حفظ الموروث الثقافي العربي الإنساني الإبداعي وتنميته ، واعتقد ان فصل الثقافة عن سياسة الدولة سيعطي العقل الثقافي العربي قدرة القيام بذلك وهو يستخدم ايجابيات التقنية المتطورة في عمليات الفهرسة والبحث وتنظيم البيانات وجمع المعلومات لتوظيفها في تمكين المجتمع ثقافياً من خلال الفهم الانثروبولوجي للثقافة بعيداً عن أجندات السلطة ومشاريع السياسة المرتبطة بالنظام العالمي والمصالح العابرة في كثير من الأحيان لإنسنة المجتمعات البشرية.

***

د. عدي عدنان البلداوي

لا أحد يستطيع إنكار خطورة الأيديولوجيا اليوم، وهذه الخطورة تتجلى على مستويات وطبقات متعددة، لا يسع لهذا المقال القصير التطرق إليها كاملةً كما في الموسوعات، لكن سنذكر بعضها، كما يفهمه الإنسان العاقل قبل المُفكر.

الايديولوجيا تمثل الصراع الدائم بين ما يُعتبر خيرًا وشرًا، ما يُعتبر صالحًا أو فاسدًا، وهو نموذج كل فلسفة، سواءً كانت دينية سياسية أو فلسفية، في فهم العالم الإنساني والعالم الموضوعي.

وخطرها يكمن في المفاهيم والمصطلحات التي تتأسس عليها وتبّشر بها، وتلك المفاهيم على شاكلة: الأنا والآخر، الصديق والعدو، الحق والباطل، إلى غير ذلك من المفاهيم التي لا تُبنى إلا بازاء آخر يبرز تميزها، وهذه خاصية الأيديولوجيا، أنها نسق بازاء كل الأنساق الأخرى، وفكر بازاء الفكر المغاير، والحقيقة بمقابل الباطل!

مشكلة الأيديولوجيات غالبًا، أنها تقوم بالحذف والتعميم والاختيار الموجّه، وغيرها من الأساليب التي تؤسس لبقائها، فهي لا تبحث عن الحقيقية بموضوعية، بل تمضي باحثةً عن أسباب خارجية ومنطلقات معرفية تعزز ذات الهوية والانتماء لها.

 وخطورتها الأكبر ربما في أنها تُسلم بإمتلاك الحقيقة، رغم أن الأصل في التجربة البشرية المعرفية الاختلاف والتداخل و الديالكتيك الذي يقف في صف عملية العلم والتعلُّم متعدد الأطراف، بينما الفلسفة (الأيديولوجيا) الواحدة تختزل الواقع في مقولاتها الخاصة.

لا يمكن فهم أي شيءٍ مهما بدا صحيحًا، من زاوية واحدة فقط. وعليه تصبح الايديولوجيا نظامًا يُعمي اتباعه عن رؤية الواقع والعالم كما هو، فما يلبث أن يعاند هذا الواقع في رسمة بألوان ذات الأيديولوجيا.

ومع ذلك، لا أحد يستطيع أيضًا إنكار أنه لا يمكن بناء أي فلسفة أو فكر، بغير الطابع الأيديولوجي الذي يتأسس على نظام وإطار فلسفي محدد، ونتيجة لذلك بالضرورة يصبح نظيرًا لغيره مِن الفلسفات، وبدون هذا الطابع لن يتمكن العلم من تطوير أي نظريات، ولا الفلاسفة من إبداع معارف جديدة للبشرية.

لذا، رغم وجوب التنبه لمخاطر الايدولوجيا، ودورها كعامل أساسي في إشعال الحروب عبر التاريخ، لا سيما حين يُقدسها الأتباع، إلا أنها، مع كل ذلك، والأمثلة لا حصر لها، تظل ضرورية، بل حتمية، ليس فقط من أجل إنتاج فلسفة تقوم على ركائز جديدة، ونظرية علمية وغيرها من الأساسات لفهم العالم.

 بل أيضًا على الجانب الاجتماعي والإنساني الذي نغفل عنه، في دوره الصارم في القانون والاخلاق وتنظيم حياة المجتمعات البشرية، اذ بدون أي أساسات صارمة أو افكار ثابته جوهرية، ولو لفترات معينة من التاريخ، لن يتأسس أي نظام دولة مستقر، ولا قانون عام يحمي المواطنين والمقيمين فيه، ولن يكون هناك قدرة على إرساء مناهج تعليم للأجيال القادمة، دون مرتكزات معرفية قوية. ويصبح نقد الايديولوجيا عدمية فكرية تهدم أكثر منها تبني، وتتحول كل جهود الإنسان إلى سراب. على النقد أن لا يكون نقضًا، وأن يكون أداة إصلاح وترميم وتطوير لها جميعًا.

***

خالد اليماني

 

الميتومانيا تشير إلى ميل أو إدمان الافراد على صياغة وسرد قصص أو أساطير ذات طابع ميتافيزيقي أو خارق للطبيعة، يكون هذا الميل مدفوعًا برغبة في التعامل مع المجهول، ان الرغبة المفرطة في إنشاء نظريات وأفكار فلسفية جديدة دون وجود أساس واقعي أو منطقي قوي يدعمه  دون الاعتماد على البراهين العلمية والحقائق الموضوعية يمثل ظاهرة غير عقلانية، هذه الظاهرة تلقت النقد من قبل فلاسفة ومفكرين عبروا عن جانبها السلبي في التبني معتبرين أنها تقود إلى إنتاج أفكار وتصورات فلسفية لا تتسم بالواقعية والبرهنة الكافية، ويرى هؤلاء أن الفلسفة الحقيقية يجب أن تعتمد على التحليل المنطقي والاستدلال العقلاني، بدلا من الغوص في التخمين العقيم .

المعنى الحرفي للميتومانيا

تشير الميتومانية الى الاختلاق الميتافيزيقي للحقائق، الميتومانية ترتبط أساسًا بالاختلاق الخيالي للحقائق أو الحكايات الميتافيزيقية المختلقة. هناك تناقض بين المعنى الحرفي للميتومانية كاختلاق للحقائق، وبين المبادئ العملية والمعايير الفلسفية التي تهدف إلى تحقيق الموضوعية والنزاهة في البحث العلمي، هذا التناقض يجب أن يؤخذ في الاعتبار عند استخدام هذا المصطلح في التصدي للسرديات التاريخية، التي تعتبر محاولة طموحة تفتح آفاقًا جديدة في الفكر النقدي التاريخي، ولكن تنفيذها في الواقع سيكون تحديًا كبيرًا يتطلب جهدًا وإبداعًا فلسفيًا ونقديا كبيرين وجمعا بين نقيضين لا يمكن تأكيده بشكل قاطع وتوقع إمكانية نجاحه، ولكنها مسالة جديرة بالنظر. ان البحث ومحاولة العثور على أمثلة لسرديات تاريخية وتأثيراتها الميتومانية سيكون عملية تحتاج الى كشف المصادر والغايات والسياق التاريخي والثقافي على الرغم من ان الميتومانيا الفلسفية تنطوي على الحاجة الإنسانية لإيجاد معنى وهدف خلف الظواهر الطبيعية والخبرة الإنسانية. هذه الرغبة تجعل البشر ينخرطون في البحث الفلسفي العميق لتفسير الأصول والأغراض والمصائر الكونية وفي الوقت عينه تنخرط السلطة في تشجيع الروايات الميتومانية لأسباب متعددة منها  التحكم في السرد، ودعم روايات معينة، مما يعزز من موقفها الشرعي ودعم الاستقرار الاجتماعي، الروايات التي تروج لقيم معينة أو تفسيرات تاريخية تساهم في تحقيق الاستقرار الاجتماعي ومنع الفتن، يمكن أن تساهم الروايات الميتومانية في تعزيز الاقتصاديات الدينية، مما يعود بالنفع على الاقتصاد المحلي، تعد هذه الأسباب جزءًا من استراتيجيات السلطة في إدارة الثقافة والمجتمع.

السرديات التاريخية والميتومانيا

السرديات التاريخية يمكن أن تُعتبر ميتومانيا فلسفية، خاصة عندما تركز على روايات مثالية أو ملحمية للأحداث التاريخية وتدخل دوامة التعقيدات السردية لأنها  تفتقر إلى الدقة و الموضوعية، مما يؤدي إلى تصورات مشوهة عن الواقع،غالبًا ما تختار السرديات التاريخية بعض الأحداث أو الشخصيات دون غيرها، لخلق روايات غير مكتملة باستخدام رموز خاصة لتمثيل أفكارها، مما يؤدي إلى نشوء تفسيرات سطحية للأحداث حيث تميل إلى تكييف الأحداث لتتناسب مع اتجاهها الايديولوجي، مما يحد من فهم التاريخ الحقيقي، التركيز على الجوانب  المثالية يقود إلى تجاهل الجوانب السلبية وتبني سرديات ميتومانية قاصرة كونها لا تتضمن معرفة تاريخية ولا تعتمد التوازن بين السرد الذاتي  والحقائق الموضوعية.

السرديات الميتومانية والروايات التاريخية الدقيقة

يمكن التمييز بين السرديات الميتومانية والروايات التاريخية الدقيقة  التي تعتمد على أدلة موثوقة، مثل الوثائق التاريخية، والشهادات المجايلة، والأدلة الأثرية التي لا تعتمد على أساطير أو روايات شعبية غير موثقة،في السرديات الميتومانية يتم تحليل الأحداث من زوايا تميل إلى تقديم رؤية مبسطة، مع تجاهل الجوانب السلبية و التعقيدات التي تهدف إلى تقديم صورة موضوعية للتاريخ دون تحيز، السرديات الميتومانية غالبًا ما تحاول تعزيز أيديولوجيات أو تبرير مواقف سياسية تمتاز بالشمولية وتركز على أحداث معينة، مما يؤدي إلى جعل الرؤية ضيقة وثابتة وصعبة التغيير، حتى عند ظهور أدلة جديدة.

السياق الثقافي ودورًه في تشكيل السرديات الميتومانية

يسهم السياق الثقافي في تشكيل الهوية الجماعية، مما يؤدي إلى استخدام التاريخ لتأكيد هذه الهوية من خلال سرديات ميتومانية تعكس القيم والمعتقدات السائدة في المجتمع، ويجعلها أدوات لتعزيز الأخلاق والثقافة المحلية،يلعب السياق الثقافي دورا مهما ويؤثر على كيفية تفسير الأحداث التاريخية، اذ يمكن أن يتحول الحدث إلى أسطورة أو ملحمة تُستخدم لتبرير مواقف معينة، السياق الثقافي يؤثر أيضا في تشكيل الرموز والأساطير التي تُستخدم في السرديات الميتومانية، مما يجعلها أكثر جاذبية وتأثيرًا على الجمهور، التحولات الاجتماعية والاقتصادية تؤدي إلى إعادة بناء سرديات جديدة، مما يعزز سرديات معينة على حساب أخرى، كون السياق الثقافي يشكل الإطار الذي تُبنى فيه السرديات، مما يعزز من قوتها وتأثيرها في تشكيل الوعي الجماعي،كذلك تلعب السلطة السياسية دورًا مركزيًا في تشكيل وترويج السرديات الميتومانية حيث تسعى الأنظمة السياسية إلى استخدام التاريخ لتثبيت الأيديولوجيات المسيطرة، مما يعزز من شرعيتها ويعكس أهدافها ويساعد في تعزيز روايات تاريخية تتناسب مع مصالحها هذا  يؤدي إلى خلق سرديات جديدة تستخدم الرموز الوطنية والأساطير التاريخية لتعزيز الشعور بالانتماء الوطني و يجعل السرديات الميتومانية أكثر قبولًا .

البحث المعرفي والميتومانيا

البحث في الأسئلة الكبرى حول الوجود والمعرفة والغاية من الحياة، على الرغم من كونها مجردات، يمكن أن تثري الفهم الإنساني، الانخراط في تأملات الميتومانيا يمكن أن يحفز التخيل، مما قد يؤدي إلى ظهور أفكار جديدة ومبتكرة في عملية البحث الفلسفي، حتى وإن بدأت من افتراضات مجردة قد تؤدي إلى تطوير أساليب تحليلية وتأملية قيمة في الفكر الفلسفي،بعض الأفكار الميتومانية المجردة قد تتنبأ بتطورات مستقبلية في العلوم أو المجتمع، مما يجعلها ذات قيمة استشرافية من خلال طرح أسئلة جوهرية حول الواقع والحياة، لكن لا يمكن للميتومانيا الفلسفية أن تحفز التفكير النقدي لأنها تأمل عام في القضايا الاجتماعية والسياسية، مما يؤدي إلى عدم وضوح الرؤيا  وضعف الابتكار،ان الأدوات المنطقية والتحليلية التي يمكن ان تستخدمها الفلسفة في حل المشكلات العملية، تعتمد على تفكيك المسائل المعقدة وتحليلها بطريقة منظمة، الميتومانيا الفلسفية تعتمد على التأمل، والجدل وتفتقر إلى الأدلة التجريبية  في حين البحث المعرفي يعتمد على الأساليب التجريبية،ويسعى إلى تقديم نتائج قابلة للاختبار والتكرار، الميتومانيا الفلسفية قد تؤدي إلى تشكيل أفكار جديدة، لكنها ليست بالضرورة قابلة للتحقق والبحث المعرفي، الميتومانيا الفلسفية، غالبًا ما تكون ذات طابع ذاتي وتعتمد على التجربة الشخصية لذا، فإن التداخل قد يؤدي إلى فهم غير دقيق للمعرفة، حيث يتم استخدام الفلسفة لتفسير ما قد يتطلب منهجًا علميًا صارما،لكن الميتومانيا لا تجاري التأمل الفلسفي في قضايا الأخلاق والعدالة والمسؤولية الاجتماعية .

الميتومانيا الفلسفية والوعي المتكامل

الأفكار الفلسفية التجريدية الميتومانية تشجع على التأمل الخاص وتغيب الاستفسار المنهجي، وقد تصل الى مجرد ادعاءات سفسطائية، تدفع للتساؤل عن الافتراضات والمسلمات الكامنة وراء المواقف والممارسات الحقيقية، كون التشكيك والتأمل النقدي في حد ذاته ليس سفسطائيًا، بل إنه أساسي لعملية البحث والتعلم والتطوير الفكري، الميتومانيا تهدف في محاولتها إلى فهم أعمق وأكثر شمولية للواقع ستنتج جدلا عقيما، لأنها تسعى للكشف عن الحقائق والبناء على المعرفة السطحية والهذيان الذاتي.. بالتالي، يمكن اعتبار الميتومانيا خرفًا فلسفيًا، وليس أداة نقدية مهمة عندما نحاول ان نبني مقاربة فلسفية متوازنة وشاملة، وبالتالي يجب تطوير معايير موضوعية بديلة للسرديات الميتومانية وهي خطوة مهمة لتطوير منظور يكون أكثر اكتمالاً مع تطور وزيادة التجارب العملية.

***

غالب المسعودي

.....................

* الميتومانيا، أو حب الأساطير والخرافات، تم انتقادها من قبل العديد من الفلاسفة والمفكرين عبر التاريخ.

باروخ سبينوزا: انتقد الميتومانيا في عمله "الأخلاق"، حيث دعا إلى استخدام العقل بدلاً من الخرافات في فهم العالم.

فريدريك نيتشه: اعتبر أن الأساطير تخدم أغراضاً معينة، لكنه دعا إلى تجاوزها لتحقيق القوة الفردية.

كارل ماركس: اعتبر الأساطير جزءاً من الأيديولوجيا التي تستخدم للسيطرة على الجماهير.

ميشيل فوكو: تناول الأساطير كجزء من المعرفة والسلطة، حيث رأى أن الأساطير تُستخدم لتشكيل الهويات.

يتميز الإنسان عن سائر الكائنات الحية بالقدرة على الفهم أو التعقل. ولئن كان كذلك، فإن هذه السمة الفريدة التي حصلها نتيجة تكيفه مع التغيرات الطبيعية التي صاحبته في عيشه وترحاله منذ أزمنة غابرة، تجعل منه كائنا متفردا بكونه مبدعا وفاعلا. فمعنى أنه مبدع؛ أي أن لديه القدرة العقلية والبدنية على خلق جملة من الأدوات والأشياء التي تساعده في تخفيف العبء عن ذاته. وبما أن الإنسان يتميز بالنقص والمحدودية، الأمر الذي يفيد أنه لا يقدر على صنع شيء من لا شيء، أو خلق شيء كاملا، بقدر ما أن الذي يقدر على صنعه، سيكون لا محالة ناقصا (النقص لا ينتج إلا النقص)، الشيء الذي يدفعه إلى إبداء فاعليته فيه، عبر تطويره نحو الأفضل، وهذا ما يبرز كونه كائنا فاعلا. ولعل أبرز ما أبدعه الإنسان وأصبح فاعلا فيه؛ أي مطورا له بكيفية دائمة، نجد مجالي التقنية والعلم. وإذن، ما دلالة مفهومي التقنية والعلم؟ وهل هناك من علاقة بين هذين المفهومين؟

تعود كلمة التقنية  La technique في دلالتها الاشتقاقية إلى المصطلح اليوناني  techne التي ترجمت عند المترجمين العرب الأوائل بالصنعة أو الحرفة. وإذا كان الأمر كذلك، فإنه يمكن استنباط دلالة فلسفية خاصة لمفهوم التقنية انطلاقا من هذه الدلالة الاشتقاقية. ذلك، أن اعتبار شخص ما يملك صنعة أو حرفة تمكنه من صنع شيء يبتغي من ورائه فائدة ومنفعة، يفيد أن الصانع أو الحرفي يقوم بعمل مبتدأه الانطلاق من مادة أولية (كالخشب بالنسبة لحرفة النجارة) ليقوم بتحويلها إلى أداة أو آلة تفيد الإنسان في حياته وتخفف عنه وطأتها. وبهذا المعنى، فالتقنية في أبسط تحديد فلسفي لها "أنها عملية تحويل للمواد والطاقات الطبيعية إلى أدوات وآلات لتخفيف العبء عن ذاتية الإنسان". أما العلم، فيقصد به عامة أنه مجموع الأفكار والتصورات التي يتم من خلالها تفسير مسألة من المسائل التي تقتضي البحث والتفكير. بيد أن للعلم دلالة خاصة ترتبط بمجال العلوم الطبيعية، ذلك أن العالم في سيرورة عمله وبنائه النظري لتفسير ظاهرة من ظواهر هذا الوجود، ينطلق من شيء مألوف لدى الجميع (القذف بالحجرة إلى السماء وعودتها إلى الأرض)، فيعمل على تجريده ذهنيا للكشف عن القوانين المتحكمة فيه.

انطلاقا من هذه المعاني التي تم تحديدها، يتبين أن هناك اختلاف مبدئي بين مفهومي التقنية والعلم، سواء تعلق الأمر من حيث المنهج والموضوع أو من حيث الغاية. وإذا كان الأمر كذلك، فهل يمكن نفي أية علاقة تنطوي على نوع من التداخل بين هاذين المفهومين، رغم هذا التمايز المبدئي من حيث التحديد الاشتقاقي والمفهومي لكل مفهوم على حدة؟

للإجابة عن هذا التساؤل، يمكن أن نستدعي تصورين فلسفيين مختلفين في تصورهما لطبيعة العلاقة بين التقنية والعلم، أعني بذلك كلا من أرسطو وفرنسيس بيكون. ينطلق أرسطو في كتابه «الأخلاق إلى نيقوماخوس» من قول مشهور مفاده أن «كل ما يقوم به الإنسان يبتغي من ورائه خيرا ما»، وكل خير نحصل عليه إلا ويكون وسيلة لبلوغ خير آخر أهم منه، وهكذا نستمر في تسلسل الخيرات إلى أسمى الخيرات؛ السعادة. وتفيد السعادة عند أرسطو أنها العيش بمقتضى الفضيلة التي تقسم إلى فضائل فكرية و خلقية. لكن، ما يهمنا هو الفضائل العقلية التي تتضمن مفهومي التقنية والعلم إلى جانب فضائل أخرى.

في هذا الصدد، يعتبر أرسطو أن اهتمام العلم ينصب على كائنات توجد بالشكل نفسه أو تحدث بالشكل نفسه، الشيء الذي يبرز مبدئيا أن العلم يتميز بالضرورة والأبدية. ذلك، أن ما يحدث بالشكل نفسه باستمرار، لا يمكن اعتباره متغيرا، إذ ما يتغير في هذا الحال هو طريقة فهمنا لما يحدث. وبهذا المعنى، فرجل العلم لا ينبغي عليه التدخل في الطبيعة، من حيث إن مبتغاه هو وصف ما يحدث، لا تغييره. أما التقنية فهي قائمة على الإنتاج؛ أي إنتاج أدوات وآلات لتخفيف العبء عن الإنسان. وإذا كانت الظواهر الطبيعية ثابتة وأبدية، فإن ما يوجد بفعل الإنتاج البشري، لا يمكن إلا أن يكون متغيرا وخاضعا للسيرورة. أما من حيث تدخل رجل التقنية في الطبيعة، فإن شرط إنتاجه يتوقف على تحويل ما هو طبيعي إلى ما هو مفيد لذاتية الإنسان. وبناء على ما سبق، يبدو من وجهة نظر أرسطو أن هناك اختلاف من حيث الموضوع والمنهج والغاية بين التقنية والعلم.

على نقيض هذا التصور، نجد الفيلسوف الإنجليزي فرنسيس بيكون ينطلق من القول بأن «المجتمع الجديد في حاجة إلى علم جديد، وإلى معرفة جديدة»، مما يعني أن كل مجتمع يريد أن يكون متقدما، ومتطورا، لا بد له من علم يواكب تقدمه، ومن معرفة تواكب تحولاته. إن العلم، والمعرفة يساهمان في تقدم المجتمعات البشرية، حيث لا يمكن لأي مجتمع، أن يحرز تقدما، دون أن تكون له معرفة جديدة، ومعاصرة له، كما لا يمكن أن يتقدم دون أن يكون له علم يواكب عصره. وبهذا المعنى، يعتبر فرنسيس بيكون أن العلم الذي يستطيع أن يجعل المجتمع متقدما، هو العلم القائم على عنصرين أساسيين؛ أولا؛ يقوم العلم على وصف الظواهر، بغرض الوصول إلى معرفة حقيقتها. ثانيا؛ العلم لا ينبغي له أن يقف عند حدود وصف الظواهر، وإنما ينبغي أن يتجاوز ذلك نحو استثمار نتائجه فيما يفيد البشرية. وعليه؛ فالعلم يصبح من وجهة نظر فرنسيس بيكون غايته ليس معرفة الحقيقة فقط، وإنما إنتاج ما يفيد البشرية، ويخفف العبء عنها، وبهذا المعنى، يصبح العلم تقنيا، إذ الذي يكون في استطاعته استثمار نتائج العلم، هو رجل التقنية، ولهذا السبب، ينظر فرنسيس بيكون إلى طبيعة العلاقة بين التقنية والعلم في كونها علاقة اتصال. وباختصار، فالعلم يحتاج إلى التقنية، والتقنية تحتاج إلى العلم.

***

د. عبد الحليم لوكيلي - أستاذ فلسفة / المغرب

المنبر الحُسيني في أفق التلاقح الفكري

العلومُ والمعارفُ لَم تَكُن يومًا قوالب جامدة أو معاني مُتصلّبة نحملها لكي نكون عارفين أو متعلمين، بل هي ثمرة من ثمار التلاقح بين الروح والمنطق في فضاء يسوده التفاعل والتدبّر. والمعرفة لا تصل إلى العقول حتى تسرح في رياض التأمّل وَتَخرج ماءً زُلالاً من نبع يتفجر من بين صخور الجّدل والتّساؤل ليلامس القلوب بفعل إشكال يُعرَض، أو رؤيةٍ تكشف عن باطنها.

المعرفةُ الموصِلة إلى الحقيقة ما هي إلا ضياءٌ يتفجّر حينما يتعانق نوري المُلقي والمتلقي، وتتناغم أذهانهم، وتتّحد رؤاهم، حينها تتوهج ومضة الوعي وتتضح أبعاد الحقيقة ويبزغ فجرها من بين صفحات اللاوعي، لتستقر في القلب نورًا تُضيء الطريق وتفتح البصائر وتجلي العمى.

إنَّ الفكر الواعي والعلوم التربوية والاجتماعية قد شعّت من ظلمات الماضي وتسلّقت سلّم الحياة من خلال لغة الحوار المتبادل، بعد أن ألغت منطق الإلقاء الفردي، حيث المعارف تُحشى حشوًا في عقول المتلقين من دون أن يكون للقلب دور أو وسيلة في هذه الحركة التفاعلية، فتتحول الكلمة إلى صخرة صمّاء. وحينما يخلو المجلس بين العالم والمتعلم من لغة التلاقح وتبادر الأفكار تنكفيء القلوب وتغيب المشاعر ويتوقف نبض الوعي، فلا تُمدّ جسور المعرفة ولا تنتقل المعارف لأنها لا تجد قلوبًا ولا عقولًا قادرة على حملها.

وأما إذا كان الجسر الرابط بين العالم والمتعلم ينبض بروح الوعي ويُحلّق في سماء الحوار البنّاء؛ يستنشق هواء السؤال، ويرتوي من عذب النقد، ويترعرع في ظلال السجال المحيي للفكر، فضاءً يحمل الحياة وليس نقلًا جافًا للمعلومات، بل حركة روحية وقلبية بين المُلقي والمُتلقي، حينها فقط تستقر المعارف وتثبت في القلب والعقل دون شكّ أو ريبة. المتعلّم لابد أن يكون فاعلًا في حوار مليء بالوعي والسؤال، رافضًا التسليم الأعمى بل يطرق أبواب الحقيقة من خلال السؤال والاستنطاق الخلّاق.

إن المجالس الحسينية تحمل في جوهرها رسالة السماء ونور الفداء، وأنَّها فضاء مقدس لا يليق بساحتها الخُطَب الأحادية أو منبرًا يتردّد فيه صدى المُتكلم وحده، فالإمام الحسين عليه السلام أسس في كربلاء لمنهج الحوار، وأنه أعظم من أن نذكره بكلمات لا تحمل الحياة، بل بروح التفكّر والتدبّر في فضاء الوعي الرافض للجمود، والضمير الباحث عن الحقيقة.

لقد وَرَدَ عنه عليه السلام في كربلاء أنّه وقف مخاطبًا: «هل من ناصرٍ ينصُرنا؟ هل من مُعينٍ يُعيننا؟ هل من ذابٍّ يذبّ عن حُرَم رسول الله»، وهذا النداء وإن كان موجّهًا إلى معسكر الظالمين، إلا أنّه أراد منه صرخة يصل مداها إلى أرواح البشرية في كل مكان وزمان؛ كان يطلب بها إحياء القلوب وإخراجها باليقظة من الظلمات إلى النور؛ كان يؤسس لحوار واسع الأفق، دائم لا ينقطع. لم ينادي عليه السلام بأن يقول هل من سامع يسمعني، بل هل من ناصر ينصرني، والنصرة لا تُنال إلا بالوعي وليس بإنصاتٍ لا يخترق جدار الفهم، بل بسؤال يستنطق فيهم الروح المتأملة حتى يكون الجواب نابعًا من منبت الوعي.

إنّ إبراهيم عليه السلام وهو النبي والرسول والخليل يسأل الله تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)، وهذا السؤال لم يصدر عن شكّ بل عن رغبة للارتقاء من مقام إلى مقام أعلى؛ كان يسأل لكي يبلغ مقام اليقين والاطمئنان، لعلمه أن الحوار هو الطريق الأنسب نحو الحقيقة بأعلى مراتبها.

وهكذا هي المجالس الحسينية، فكلام الخطيب يجب أن لا يُصب فوق الرؤوس صبًا دون أدنى وعي أو تدبّر من المتلقي، بل لابد من تخصيص وقت - ولو يسير - تشارك فيه الحشود في حوار جماعي واعي، تطلب من خلاله الحقيقة أو بعضًا من صورها، وإن لم تفعل فأنّها بذلك تكون قد أسست لمنبر قد نزع من الكلمة روحها وتركها مجردة.

إنَّ منهج "التعليم البنكي" قد رفضه جملة من علماء ومفكري علوم التربية والاجتماع، أمثال " باولو فريري "، حيث تودع المعلومات في عقل المتلقي كما تودع الأموال في المصارف، لقد استبدلوه بالتعليم الحر وفتح أبواب الحوار والنقاش الواعي والبنّاء.

وأن المنهج القائم على الخُطب ذات الإلقاء الأحادي أو المنفرد قد يكون سببًا في تأكيد فكرة خاطئة أسس لها الخطيب (بقصد أو دون قصد) فتناقلته الحشود وأعتبرته من المسلمات؛ وأما إذا وجد الرأي رأياً منصتًا مستمعًا ومحاورًا فإن النتيجة تُولد الصواب وتهدي إلى الحقيقة، وفي ذلك قول لأمير المؤمنين علي عليه السلام: " اضربوا بعض الرأي ببعض، يتولد منه الصواب ".

إنَّ القلوب لا تفتح أبوابها للمعارف مالم تكن تلك المعارف هي الأخرى قد خرجت من القلوب. وهنا لابد من الإشارة إلى ضرورة ضبط أيقاع الحوار في المجالس الحسينية لكي لا يتحول إلى جدل عقيم يخرج عن المسار ويكون سببًا في إشعال الفتن بين عامة الناس. على الخطيب أن يكون بارعًا في إدارة الحوار، فالخُطب حينما تكون مليئة بالحِكَم والمَعارف فإن قلوب وعقول المتلقين ستكون محطَّة لها، فالقلوب الواعية لا تميل إلا إلى الصدق في القول، والعقول لا تؤمن إلا إذا اقتنعت وأسلَمَت، والقناعة والتسليم لا يُنال إلا بالحوار الواعي. فعن محمد الطيار، قال: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِاللَّهِ : بَلَغَنِي أَنَّكَ كَرِهْتَ مِنَّا مُنَاظَرَةَ اَلنَّاسِ، وَكَرِهْتَ اَلْخُصُومَةَ، فَقَالَ: «أَمَّا كَلاَمُ مِثْلِكَ لِلنَّاسِ فَلاَ نَكْرَهُهُ، مَنْ إِذَا طَارَ أَحْسَنَ أَنْ يَقَعَ، وَإِنْ وَقَعَ يُحْسِنُ أَنْ يَطِيرَ، فَمَنْ كَانَ هَكَذَا فَلاَ نَكْرَهُ كَلاَمَهُ».

على الخطيب أن لا ينهمك في التدريب على طبقات الصوت والأطوار وقصائد النَّعي على حساب أسلوب الحوار ومنهج الإقناع، ولغة إيصال الأفكار. وفي المقابل، على الحاضرين أن يكونوا متفاعلين بوعي وإدراك وبصيرة ونقد ومشاركة بنّاءة، لا من أجل فرض رأي نابع عن تعصّب طائفيّ بل لتغرس الفكرة لتنبت نورًا وتشع ضياءً في وجدان الحاضرين. وبذلك نكون قد جعلنا من المجالس الحسينية منارات قدسية، تشع بهاءً وتنبض روحًا وعطاءً؛ نجعل من المجالس فضاءً يحفر في طبقات الوعي؛ وتُختبر بنار التساؤل الواعي، وتُغربل في مصفاة التأمل حتى نبلغ بالفكرة بعضًا من مراتب الحقيقة، ولتتحوّل الفكرة إلى سلوك يُحْيِ كلمة الحُسين عليه السلام، ويُجيب نداءه.

إنَّ حياة ثورة الإمام مرتبط بحياة العقول، والفكر الذي يُطرح على المنابر كلّما كان مُستهلكًا ومكررًا فإنَّه يكون خالٍ من الروح، فلا تنجذب له القلوب؛ وأنَّ الحاضرين كلما تقيّدوا بأغلال الصمت، وعطّلوا العقول، وهرولوا خلف الصوت، واللحن، والبلاغة الخاوية، وهجروا الوعي والفكر كانوا بذلك قد هجروا البصيرة والجوهر وتمسكوا بالشكل والمظهر، وساروا في طريق لا يقود إلا إلى وادٍ مقفر.

إنَّ المنبر الحسيني حينما يتحوّل إلى مرتبة تلاقي لا مرتبة تلقين، ويكون فيه الحاضرون شركاء في قول الحق والبحث عن الحقيقة، لا مسرحًا لاستماع الكلمات التي تصدر في اتجاه واحد، فأننا نكون قد غادرنا مقام إقامة المجالس إلى مقام إحيائها، أي أن نُحيِ أنفسنا وأرواحنا وقلوبنا بذكر الفكر الحسيني الصادق، أي أنْ نَعيه لا أنْ نَسمعه. هنا نكون قد ركبنا سفينة الحسين عليه السلام، حيث النجاة من الغرق في بحر غياب الوعي وأعماق الأفكار السقيمة.

***

د. أكرم جلال كريم

 

لماذا نحتاج في الجزائر إلى ثورة بيداغوجية؟

(الفلسفة التي لا تؤلم السلطة ليست فلسفة).. سلافوي جيجك

شهدت الساحة الفكرية عندنا تحولاً جذريًا في مرجعيات التأثير؛ فبينما صاغ رموز الإصلاح ابن باديس والإبراهيمي، وعمالقة الفكر المغيلي ومالك بن نبي، وفلاسفة النقد أركون وتازروت، مشروعًا تنويريًا يربط الحكمة بواقع الأمة، أصبحنا اليوم لا نسمع سوى صخب "اساتذة التيك توك" ومُهرجي السوشيال ميديا... هي حالة من اليتم الفلسفي تجلت اثاره في  'خلع الحكمة عن عرشها' واغتراب  الفلسفة عن مجتمعنا ومحاصرتها من خلال تشويه سمعتها أو حصرها في 'ترف أكاديمي' بلا أثر، مما انتج فلسفة هزيلة وحزينة فاقدة للقدرة على تغيير الوعي أو التأثير في هموم المواطن اليومية. وقد تجلت اعراض هذا المرض في الدرس الفلسفي الجزائري الذي يعاني إشكالياتٍ مُركّبة: جمودٌ منهجي يحبس الفلسفة في دروس ونصوصٍ منفصلة عن هموم المجتمع، ضعف التفاعل الطلابي مع المادة، وقطيعةٌ مع التحوّلات الرقمية التي يعيشها الجيل الجديد، اضافة الى التباين بين المبادئ النظرية التي يقوم عليها تدريس الفلسفة في البرامج الرسمية، وبين ممارسات الاساتذة الفعلية في الفصول الدراسية بالمقابل أظهرت تجارب دول عديدة  كفلندا وفرنسا وكندا وتونس.... قدرةً على توظيف الفلسفة كأداةٍ حيوية عبر مناهج تفاعلية وتقنيات رقمية جاذبة. من هنا جاء هذا المقال لاقتراح إصلاحٍ تربوي يستلهم هذه النماذج، ويُعيد بناء الدرس الفلسفي على أساسين:

* التأصيل: بالاستناد إلى التراث النقدي المحلي (المغيلي، الابراهيمي، بن نبي...).

* التجديد: بدمج الأدوات الرقمية (الذكاء الاصطناعي، منصات التواصل) لتحويل الفلسفة إلى حوارٍ مع الواقع الجزائري بخصوصيته الدينية والاجتماعية واللغوية.

بداية يمكن القول انه يتعيّن على أي مشروعٍ لإصلاح الدرس الفلسفي أن يُعيد النظر في الأسئلة التأسيسية:

ما الجدوى الوجودية للفلسفة في الزمن الراهن؟ وكيف تُستعاد وظيفتُها كـفعلٍ تحويلي يخترق الحيّزَ اليومي للإنسان البسيط؟ إنّ المأزق الجوهريّ يكمن في انفصال الفلسفة عن هموم الوعي الجمعي، وغيابها عن تشكيل المضامين القيمية التي يُؤسّس عليها "الأستاذ والتلميذ ورجل الشارع" أحكامَه. فالتجديد الحقيقي يقتضي تحويل الفلسفة إلى: أداة كاشفة تُعرّي البنى الخفية لأحكامنا اليومية ومنهجا تفكيكيًا يُوسّع أفق الإدراك لدى الفرد ورافعة أخلاقية تبني رؤيةً للعالم تُرسّخ قيمَ الحرية والعدالة والتسامح في النسيج الاجتماعي وجسرا تواصليًا مع الآخر في سياقاته المتباينة.هكذا تصبح الفلسفة فاعليةً تاريخيةً تُشارك في دفع المجتمع الجزائري نحو استنارةٍ تُزهِرُ "شجرةَ الأمل" في مستقبلٍ إنسانيٍّ أكثر جمالاً.

التجربة الفرنسية في تدريس الفلسفة: كيف يمكن للجزائر الاستفادة منها؟

اتجهت فرنسا في السنوات الأخيرة إلى ابتكار مساراتٍ جديدة لتجديد الدرس الفلسفي في التعليم الثانوي، بدءًا من ربط الفلسفة بالسينما، وانفتاحًا على آليات "المناظرات" و"المحاكمات الفلسفية"، وصولاً إلى توظيف الذكاء الاصطناعي وغرف الدردشة والروبوتات القادرة على إدارة حوارات فلسفية، فضلاً عن توظيف المسرح والأغاني.

وفقًا لمقال فرانسواز رافين حول ندوة المعهد الوطني للبحوث التربوية (INRP) – التي عُقدت سنة 2000 بمعدل شهري – ثم ندوة "كيف نُدرّس الفلسفة اليوم؟" (2023)، ناقشت فرنسا إمكانيات الانفتاح على منهجيات حديثة لتطوير التدريس الثانوي للفلسفة، بمشاركة عشرين جمعية ونقابة، أبرزها:

* رابطة أساتذة الفلسفة في التعليم العام (APPEP): تُعنى بالدفاع عن مكانة الفلسفة في المناهج.

* الجمعية التحضيرية لتدريس الفلسفة (ACIREPH): تركّز على تجديد الأدوات البيداغوجية.

* المجموعة الفرنسية للتعليم الجديد (GFEN): تُطور أنشطة تفاعلية لتدريس الفلسفة.

* النقابة الوطنية للتعليم الثانوي (SNES): تمتلك فرعًا متخصصًا بالفلسفة.

مثّلت هذه المؤسسات تياراتٍ فلسفيةً متنوعة (من التقليدية إلى التجديدية)، كما حضرت الندوة هيئاتٌ رصينةٌ مثل:

* المفتشية العامة للتربية الوطنية.

* المدارس العليا لتكوين الأساتذة (IUFM).

* الكلية الدولية للفلسفة.

وبناءً على ذلك، بَرزت حلولٌ مبتكرة لمواجهة أزمة تدريس الفلسفة، تركّز على:

1.- التدريب على التفكيك النقدي:

لا يقتصر التعليم الفلسفي على تلقين المعلومات، بل يُعَدُّ فضاءً لتشريح المُسَلَّمَات عبر تحليل النصوص وتحويلها إلى "مختبرات فكرية" (كما يُشير مقال رافين).بما يتوافق مع مشروع بيير بورديو في "نقد العقل الأداتي"، حيث الفلسفةُ فعلٌ تحرري يُعادي التلقين. وقد قدّم  الأستاذ جان جاك روسات حصة تطبيقية  حول سؤال: "الحقيقة، أو ماذا نعني عندما نقول: إنها حقيقة؟". وقد استُرشد بتطبيق بيداغوجية العائق من منظور باشلار وأسلوب تدريس العوائق يهدف إلى تزويد الطلاب بمجموعة من الأدوات اللازمة للتغلب على الصعوبات التي يواجهونها. ثم قدمتُ "قراءة إشكالية" للفصول من الرابع إلى السابع من الكتاب الأول من كتاب أرسطو "السياسة" حول العبودية، مستوحاةً من حجة غادامير القائلة بأنه لا أحد يحصر نفسه في قراءة ما هو مكتوب. فهناك دائمًا فهم مسبق حتمي يُشكّل مصدرًا لفرضيات قراءة مثمرة، أو، على العكس من ذلك، يُعمي المرء عن مضمون النص. حيث دوّن الطلاب ردود أفعالهم وأحكامهم بناءً على قراءتهم الخاصة، والتي قدمت  أرسطو في صورة : مُحتقر، مُتعالٍ، عنصري، مُستغل، بعد ذلك أُجريت دراسة مُفصلة للنص، مُستندةً إلى التاريخ والأنثروبولوجيا الاجتماعية وتاريخ الفلسفة، وعندها لم تعد الأمور بهذه البساطة. حيث اتضح ان النص أكثر تعقيدًا مما يبدو عليه عند القراءة الأولى، ويُعيق التحليل الأولي شريطة قراءته بعناية والانتباه ليس فقط لما يقوله، بل أيضًا لما لا يقوله. وهكذا، أمكن قياس المسار المتخذ بين القراءة الأولية غير النقدية والقراءة المستنيرة، وأدرك الطلاب أن النص ليس أمرًا مسلمًا به، بل هو إشكالية.

2.- تعددية الأنشطة كتجسيد للجدل الفلسفي:

تحويل الفصل إلى "ساحة حوار سقراطي" عبر المناظرات ومحاكاة الندوات وقد أكدت أستاذة مادة الفلسفة هيلين ديغوي على أهمية التمارين لتمكين الطلاب من امتلاك زمام المادة الدراسية، وقدمت أمثلة متنوعة (التمييز بين المفاهيم، وتصميم الملصقات، والمناظرات).

3.- التعليم متعدد الوسائط وتفكيك المركزية النصية: استخدام السينما والفنون لربط الفلسفة بالواقع الملموس، مما يُذكّر بأطروحة جيل دولوز عن "الصورة-الزمن" كأداةٍ فلسفية. وكمثال على ذلك دراسة مشهد قصير من فيلم ف. تروفو "الطفل الجامح". يتميز هذا التحليل السينمائي بالدقة والإتقان، حيث أن الطلاب مسجلون في خيار "السمعي البصري".

4.- الفلسفة كحوار لا ينتهي: تحويل الدرس إلى "مجتمعٍ استقصائي" (كما وصفه كارل ياسبرس وجون ديوي حيث الأسئلةُ أهم من الأجوبة وذلك من خلال التركيز على  مسألة العروض الشفهية  والتي تعتبر محوريةً في المناقشات. ولاحظ فريق العمل إهمالها الشديد، مع أن العروض الشفهية تُمثل وسيطًا حاسمًا للكتابة، وخاصةً المقالات. وقد قدمت نيكول غراتالوب شكلين من المناظرات الشفهية التي تُجريها في صفوفها: المحاكمة وندوة الفلاسفة. في الثانية، يُقسم الطلاب إلى مجموعات صغيرة، تتلقى كل منها نصًا من مؤلف؛ تتناول جميع النصوص الموضوع نفسه، لكنها تُقدم حججًا مختلفة، بل ومتناقضة. تُجري المجموعات عملًا تمهيديًا على "نصوصها" وتكون على دراية بجميع النصوص الأخرى المقترحة. بعد ذلك، تُعقد الندوة، حيث يسعى كل طالب إلى أن يكون "فيلسوفه" خلال المناظرة. شكل آخر من أشكال المناظرات التي يمكن تنظيمها هو المحاكمة، مثل تلك الخاصة بأنتيجون، والتي كثيرًا ما جرّبها أعضاء المجموعة الفرنسية للتعليم الجديد.

5.- تكوين المعلّم: من النقل إلى الإبداع المشترك: تبادل الخبرات بين المدرسين يُحوِّل المهنة إلى "ورشة دائمة" لصياغة الأدوات البيداغوجية، وهو ما يُذكّر بمشروع باولو فريري في "البيداغوجيا النقدية".

الفلسفة كـ"فن العيش" جزائرياً

لا توجد فلسفة دون جذور كما كان يقول بول ريكور حيث يمكن النظر الى الشعر الشعبي الجزائري – من ملحون سيدي لخضر بن خلوف إلى يوم هذا كنص فلسفي مفتوح ينتظر تفكيكه. يمكن الاشتغال هنا على قصيدة حيزية كمدخل لأنطولوجيا الحب. او اغنية الشمعة التي تعكس أنثروبولوجيا التضحية وبهذا يصبح الدرس الفلسفي سفراً بين الماضي والحاضر، حيث يكتشف الطالب أن سؤال كانط: "ما هو الإنسان؟" يُجاب عنه بأغاني أجداده. وبيداغوجيا يمكن تقسيم الطلاب داخل القسم إلى:

- مدَّعون: يدافعون عن فضيلة التضحية (استنادًا لـ كانط).

- مدافعون: ينتقدونها كاستغلال للذات (استنادًا لنيتشه).

2.- يستشهد كل فريق بأبيات القصيدة .

3.- الحكم: يكتب الطلاب حكمًا فلسفيًا يوفق بين الموقفين.

كما يمكن توظيف الألغاز الشعبية والبوقالات (الحِكَم الساخرة/المفارقات) في تدريس الفلسفة بالجزائر، يمكن تحويل هذه التراث الشفهي إلى أدوات تثير التفكير النقدي والجدلي واستخدامها كوضعيات ومحطات انطلاق في بناء الدرس النظري . ومثال ذلك مقارنة لغز شعبي جزائري مثل "اللي يزيد يقل" (الحفرة) مع مفارقات فلسفية:

- مفارقة  زينون: (كل حركة هي سلسلة حركات لا نهائية.

- مفارقة الجَمَل عند الجاحظ: (كيف يحمل الجميل أثقالاً فوق قدرته؟)

* والاشتغال على تصميم بطاقات تعليمية كأن يكون وجه البطاقة: لغز شعبي (مثال: " يزيد ويكبر كل ما أخذت منه؟" ← الحفرة. والوجه الآخر: مفهوم فلسفي ذو صلة والقيام بمسابقة حول: "أفضل لغز فلسفي" يبتكره الطلاب ومثال ذلك تحويل موقف فرويد حول العقد والمكبوتات الى إلى مثل شعبي او لغز .

كما يمكن اعتبا الزوايا الصوفية: مختبرات فلسفية حية من خلال توظيف نصوصها الصوفية: فالتراث الصوفي الجزائري – من مناجاة الهامل إلى حكم الصحراء المتناقلة – هو فلسفة عملية تنتظر من يرفع عنها غبار النسيان. توظيفها في التعليم يعني:

* تحويل "الزاوية" إلى فضاء للتفكير الحر.

* جعل "الحكمة الشعبية" جسراً بين الموروث والحداثة

فمثلا هذا القول :" يا مَن أَظهَرَ الجميل وَسَتَرَ القبيح.. عِلمُك بالسرائرِ يَكفيني حُجَّة" هو مقطع من مناجاة الشيخ محمد بن أبي القاسم الهاملي يمكن الاشتغال عليه في ورشة "فلسفة المناجاة"واستخراج الأسئلة الوجودية (مثال: كيف يَجمَع الوجود بين الجمال والقبح؟ ومقارنته بـ "الاعترافات" عند القديس أوغسطين.

وهناك قصيدة "المنفرجة" لابن النحوي القلعي (عالم وشاعر صوفي) تُعدّ كنزًا فلسفيًا يجمع بين الحكمة الوجودية والروح الصوفية والمنظور الأخلاقي فمن الممكن توظيف القصيدة في الفصل الدراسي: من خلال أنشطة تفاعلية مثل ورشة "جدلية الأزمة والفرج" حيث يتم تقسيم الطلاب إلى مجموعات:

- مجموعة الأزمة: تحليل مقاطع مثل "ظلام الليل له سرج".

- مجموعة الفرج: تحليل "وسحاب الخير له مطر". وفتح نقاش فلسفي "هل المعاناة شرط لاكتساب الحكمة؟ ثم الاشتغال على تحليل البيت: "ورضا بقضاء الله حجا" وبحث عن مفهوم "القضاء والقدر" في الفلسفة الإسلامية من خلال المقارنة بين الجبرية والمعتزلة وعقد مناظرة: "هل الرضا بالقدر ينفي المسؤولية الفردية؟". ولابد هنا من توظيف أدوات تعليمية داعمة: مثل تسجيل صوتي للقصيدة بصوت تلميذ او قارئ جزائري او تصميم فيديو تحليلي من خلال ورشة العروض والأفلام من خلاله يتم رسم المفاهيم الفلسفية في القصيدة برسوم متحركة. او القيام ببحث بعنوان: "القلعي: فيلسوف الأمل" اول القيام بمسابقة شعرية وابداع “أبيات فلسفية على وزن المنفرجة" (مسابقة من شأـنها تشجيع الطلاب على كتابة شعر صوفي معاصر). ان قصيدة ابن النحوي القلعي تُعلّمنا أن: " أعمق الفلسفات وُلدت من رحم المعاناة": فسجن بوثيوس أنتج "عزاء الفلسفة".ومنفى سينيكا أنتج "رسائل إلى لوسيليوس". وجزائر القرن 21 تستطيع أن تنتج فلسفتها من أزماتها..فـ "اشتدي أزمة تنفرجي" ليست مجرد كلمات.. بل منهج حياة.

وبالنسبة للرسم هناك متحف ناصر الدين ديني (اتيان ديني سابقًا) في بوسعادة وكتاباته النقدية للاستشراق، إضافة إلى تراث الفلاسفة الجزائريين  مثل القديس أغسطين وأبوليوس المادوري، يشكلون ثروةً لتجديد تدريس الفلسفة في الجزائر. اذ يمكن عرض لوحة استشراقية (مثل لوحات ديلاكروا) وعقد محاكمة فلسفية:

- اتهام: "الاستشراق مجرد أداة استعمارية".

- دفاع: "الاستشراق محاولة لفهم الثقافات".

- استخدام نصوص ديني كأدلة.

كما يمكن القيام بأنشطة تفاعلية: تخت عنوان رحلة في عقل الفنان": وذلك بزيارة المتحف وتحليل لوحة لديني (مثلاً: "صلاة في الصحراء) والتساؤل .

"كيف يجسد الضوء في اللوحة فكرة 'النور الإلهي'؟"

"لماذا اخْتَارَ الصحراء فضاءً للروحانية؟" و دراسة رمزية الألوان في لوحاته (الأزرق = الروح، الأصفر = المعرفة). ولا شك ان تراث ناصر الدين ديني والفلاسفة الجزائريين القدماء ليس مجرد ذاكرة، بل سلاح فكري ضد:

* الاستشراق: الذي يسجن الشرق في صورة جامدة.

* المركزية الغربية: التي تنسى أن أفريقيا أنجبت أغسطين.

* التبعية الثقافية: بتقديم نموذج "فيلسوف من تراب الوطن".

و دراستهم تعني بناء فلسفة جزائرية قادرة على:

* استعادة الجذور.

* تفكيك الخطاب المسيطر.

* تخيل مستقبل يليق بإرث ابن باديس ومالك حداد.

ويجب العودة أيضا الى الأمير عبد القادر الجزائري، البشير الإبراهيمي، وعبد الحميد بن باديس ومالك بن نبي وغيرهم  فهم يمثلون أعمدة للفكر التنويري الجزائري الذي مزج بين المقاومة والإصلاح الفكري و توظيف نصوصهم في تدريس الفلسفة يُعيد بناء الوعي بالهوية الجزائرية كـدولة-أمة قائمة على العقلانية والأصالة ففلسفة الإبراهيمي ليست حبرًا على ورق، بل منهج حياة:

* نقد الجهل ← تطبيقه: تحليل خطاب الكراهية على السوشيال ميديا.

* اللغة هوية ← تطبيقه: مقارنة مصطلحات فرنسية مهيمنة بأمثال جزائرية.

* التنوير مسؤولية ← تطبيقه: مشروع "سفراء التنوير" في المدرسة.

وهذا التصميم يحوِّل النقاش الأكاديمي إلى ورشة حية تربط بين:

* عمق التراث الفكري الجزائري

* مهارات التفكير النقدي

* تحديات الهوية في العصر الرقمي

***

علي عمرون – تخصص فلسفة

......................

هوامش

* هناك عدة جمعيات ومؤسسات فرنسية أخرى تهتم بالفلسفة وتعزيز تدريسها، والتي لم تُذكر في المقال الذي ناقش ندوة INRP. إليك بعض أبرزها:

1. الجمعيات المهنية والأكاديمية:

* الجمعية الفلسفية الفرنسية (Société Française de Philosophie)

- أقدم جمعية فلسفية في فرنسا (تأسست عام 1901)، تهتم بالبحث الفلسفي وتنظيم المحاضرات والنقاشات بين الفلاسفة والأكاديميين.

- تُصدر مجلة "Bulletin de la Société Française de Philosophie".

* رابطة أساتذة الفلسفة في المدارس الثانوية (Association des Professeurs de Philosophie de l’Enseignement Public - APPEP)

o رغم ذكرها في المقال، إلا أنها الأكثر تأثيرًا في الدفاع عن تدريس الفلسفة في المناهج المدرسية.

* الجمعية الفرنسية للفلسفة التحليلية (Société Française de Philosophie Analytique - SOFPHIA)

- تركّز على الفلسفة التحليلية وتنظيم مؤتمرات متخصصة.

2. جمعيات الطلاب والشباب:

* اتحاد الطلاب المهتمين بالفلسفة (Union des Étudiants en Philosophie)

- ينظم ورش عمل وندوات للطلاب في الجامعات الفرنسية.

* جمعية "فلسفة للجميع" (Philosophie pour Tous)

- تهدف إلى جعل الفلسفة في متناول الجمهور العام عبر أنشطة مفتوحة.

3. جمعيات تعنى بالفلسفة التطبيقية:

* الجمعية الفرنسية للفلسفة العمليّة (Association Française de Philosophie Pratique)

- تركّز على تطبيقات الفلسفة في الحياة اليومية (التربية، الإدارة، الصحة النفسية).

* معهد الفلسفة التطبيقية (Institut de Philosophie Pratique - IPP)

- يُقدّم دورات في "الاستشارات الفلسفية" ويُدرّب على الحوار الفلسفي خارج الأطر الأكاديمية.

4. جمعيات متخصصة في مجالات فلسفية محددة:

* الجمعية الفرنسية لفلسفة العلوم (Société Française de Philosophie des Sciences)

- تهتم بفلسفة الفيزياء، البيولوجيا، والذكاء الاصطناعي.

* الجمعية الفرنسية لفلسفة السياسة (Association Française de Philosophie Politique)

- تناقش قضايا العدالة، الديمقراطية، والحقوق من منظور فلسفي.

5. جمعيات دولية مقرها فرنسا:

* المعهد الدولي للفلسفة (Institut International de Philosophie - IIP)

- يضم فلاسفة من حول العالم ويُصدر سلسلة "Philosophie".

* الجمعية الأوروبية للفلسفة (Société Européenne de Philosophie)

- تُعقد مؤتمراتها غالبًا في فرنسا.

من الحقائق التي لا يتطرق الشك إلى صحتها، أن الأسلوبية التي لا يمكن حصرها في طائفة ضيقة صغيرة من التعريفات، لا توجد بينها صيغة مقنعة تماماً تربط بين حيثياتها، من المهم جداً أن نكون قادرين على القول، بأنها عبارة عن مذاهب متعددة الجوانب، تثير معظمها الكثير من الإشكالات، والتعقيدات، التي تقتضي أن نتوقف طويلاً لشرح التباساتها بالتفصيل، وهذا شيء لا تسمح به أطر وحدود المقال، أما الأسلوب الذي يحوي بصورة مثالية كل ما في الأدب من معاني وأفكار، لا يحتاج منا إلى عناية مضاعفة، نتقصى فيها أهميته، أو نتعقب تلك الصلة القوية الراسخة، التي تربطه باللغة والأدب، فهذه الصلة نفهمها جيداً، وندرك أبعادها، ونعي  أنها قد انتهت إلى أرقى منازل التماسك والانصهار، ولكن ينبغي ألا تضللنا تلك العلاقة الوطيدة التي تمثل عماداً أساسياً، ارتكز عليها سمونا الأدبي في عهود خلت، فقد تكون هذه الآصرة ظاهرها الود والتجلة، وباطنها طابعه العداء والكره، فنحن في زمن باتت تروادنا فيه الرغبة في الاعتقاد بزيف كل شيء.

  لقد أنفق النقاد سنوات من العمل المضني، في دراسة هذا الارتباط بين اللغة والأسلوب، الارتباط الذي خضع لنسق وتقييمات وفق معايير محددة، ليقهر أنماطاً من الشك، كانت كامنة في نفوسنا، ويقهر معها في اكراه وعنف، مجموعة من الأفكار الخالية من المضمون، ويجعل من هذه وذاك مزاجاً ملائماً، يتسامى فوق عالمنا الحسي المحزن، مزاجاً يطور حياتنا الأدبية ويخلصها من العزلة والجهل.

واللغة بالرغم من إنها مجرد إمكانية، تتيح لنا أن نتحدث ونستفيض في الحديث، عن كل المحاور والقضايا التي لها صلة مباشرة بحياتنا الإنسانية، لم تفقد استطاعتها، وتتحول إلى كتلة باردة مثل الأدب، ما زالت هي في الحق، الأداة الضرورية للحياة، والتي عن طريقها يمكننا ادراك الأشياء، والتعرف عليها، لقد شيدت هذه اللغة إيماناً عقلياً، بأنها الدعامة التي لا تنتمي لأسرة لها تاريخها مع المرض العقلي مثل الأدب، فاللغة التي لا تكلفنا جهداً أو عناء، في تدويرها على ألستنا،  ظلت تؤثر في حياتنا على اختلاف فروعها، ولم يراودنا تجاهها شكاً قط، بأنها أمست تصوراً فارغاً وعدما، هذه اللغة التي لا يمكن أن تكون منفصلة أو مستقلة عن الإنسان، يكفينا أن نعرف أنها هي التي ما فتئت تصوغ نغمات الفكر ومناهجه، وتهتم بتلك التفاصيل الفنية الدقيقة التي تعج بها النصوص الأدبية،  النصوص التي لا نريد أن نخوض في مسائلها بصورة مباشرة في هذا المقال، ولكننا نزعم أنها باتت لا تسعى إلا للشهرة والدعاية لأصحابها.

إن الشيء الذي يثير اهتمامنا في هذه الفقرات، التي نسعى أن تكون موجزةً ومقتضبة، ينصب حول إعادة صياغة لتلك التناقضات، والانطباعات الحسية التي تحدث بين اللغة التي تجسد حقائق حياتنا، وحضارتنا، وديننا، وقيمنا، وعاداتنا، وبين الأسلوب الذي لا نعرفه إلا إذا سعينا لاكستابه، والذي ينسجم فيه اللفظ مع المعنى، هذا الأسلوب قد نكون على قناعة بأنه يصارع مرضاً مميتاً، يستدعي العلاج، بعد أن عصفت به الحياة الأدبية الغارقة في أوضار الانحراف، لأجل ذلك بتنا نقابله بالكسل، ونذوده بالفتور، لأن الأدب عموماً، والأسلوب بصفة خاصة، لم يعدا يصلان إلى أعماق النفوس، ولا إلى دخائل القلوب، بعد أن أخفقا في أن يعملا بجد ونشاط، لكي يعيش الناس، كل الناس، في حالة من التأهب واليقظة، لأن "ميكانيزماته"  تضرم جذوة اللهفة التي أخذت تتلاشى شيئا فشيئا، لمطالعة "سموط" تشفي مسارب الروح، إن الأسلوب الذي يمثل "الذائقة" التي تتجاوب معها المشاعر والأحاسيس، يمكن أن يكون أحسن مما هو عليه الآن، لو اتسم بالعمق، والأصالة، والدقة، ولم تطغى عليه هذه الاتجاهات المنحرفة، التي نستهجنها ونرفضها لما تعرضه من بضاعة فاسدة، فالقيمة الحقيقية والموضوعية للأسلوب الأدبي، تظهر في الصراع، والتباعد، والاختلاف، والخصومة، أو بعبارة أدق، هو الأسلوب الذي يقسم نفسه إلى عدة صور متناقضة، نتوه نحن في صلاتها، ونزاعاتها، وتشابكاتها، وعوالمها، هذا هو الأسلوب الخليق بالتقدير، ولعل من نافلة القول أن ننوه، أن الأسلوب الأدبي يجب ألا يكون كله سلسلة متشعبة من الأحزان والمصائب، فما من شك، أن هذا الأمر، يعتبر وصمة لها تأثيرها السيء على القارئ.

  إن الشر الحقيقي، يكمن في تلك الطائفة التي تذهب إلى أن النص الأدبي يجب أن يصطدم بعنصر الرغبة، والأهواء المتقلبة، ويبتعد عن القداسة، والمثالية الحقة، هذه الطائفة تسعى إلى هذه الغاية، وتوافق عليها بدون تحفظ، لأن هذه السمات تحقق لها الفوز النهائي على الفضيلة، وتدحر آمال تلك الجماعات التي تنادي بتجريد الأدب  من الشهوات.

 أما اللغة وما تتضمنه من أصوات، وأحرف، وكلمات، وصيغ، وتراكيب، لم تتجاوز حدود رسالتها الأبدية، التي تلتحم في كل مواقفها بالفطرة، وهي مع تغيرها، وتقلب أحوالها تتسق مع الفكر، والفلسفة، ولكنها لا تستطيع أن تخترق دائرة المشاعر والعواطف، إلا إذا وجدت قرائح ملهمة تستطيع أن تغير من رصفها وسبكها وهيئتها، فالشيء الذي تستشعره قلوبنا، وتؤمن به،أن الأدب وأسلوبه، لن يستطيعا أن يمضيا في طريقهما إلى الحياة الغنية الخصبة، كما ينبغي لهما أن يحيا، إلا إذا تمسكا بقناعاتهما الأولى، والتزما بمنهج صارم لا ينفصم عن الوعي، أو يتعارض مع قالب اللغة وجوهرها الحي، أو يتنافى مع المعايير الثابتة للقيم والأخلاق، أو يتناقض مع لب الدين وحقائقه الأزلية.

***

د. الطيب النقر

الثلاثاء 1/7/2025

 

‏في عصر اللهث وراء المال، وتحت قبضة النظام الرأسمالي الذي ابتلع تفاصيل الحياة المعاصرة على كل الأصعدة، أصبحت أبسط الأدوات التي تميز الإنسان عن غيره من الموجودات من: وجدان وعقل وحدس، غير قابلة للتشغيل، خصوصًا في المدينة، وهو النموذج الأكثر انتشارًا وهيمنة في العالم اليوم، أي أن على المرء أن يعيش في كوخ حتى يستعيد ملكاته العقلية الخالصة، وإحساسه الصافي، والانتباه الغير موجّه.

الأصوات تتعالى في كل مكان، لم تعد هناك حُرمة للهدوء والسكينة كما كان من قبل، عند الإنسان القديم، الذي عاش طبيعة الحياة وكان جزءًا حقيقيًا منها؛ أما حياة اليوم، فيصعب فيها تذكر من نحن، ولماذا نحن هنا، الهدف الأوضح لدينا جميعًا هو: الاستهلاك والعمل، ثم العمل والاستهلاك!

وهذه الوتيرة المحمومة، سرقت من ناحية السلام العقلي والنفسي لدى الفرد والمجتمع، ومن ناحية، هي لعنة الرأسمالية، التي جعلت كل تمظهرات الحياة الإنسانية من أجل المال وزيادته، ثم الزيادة عليه! حتى باتت السكينة والهدوء والاستقرار الاجتماعي النفسي من ترف العيش، ولا يتذوقه إلا الأمراء والملوك والأغنياء، وأصحاب رؤوس الأموال طبعًا، الذين بدورهم يعيدون تسويقها كخدمة تُشترى! وبذلك هم خلقوا الاختلالات غير الضرورية التي ندفع ثمنها، ثم نُجبر على دفع أثمان أخرى لحلها.

عندما يكون صوت الضجيج يندفع من كل صوب، هذا يبعث في الإنسان رغبة في الخروج من التفكير في وصف ذلك إزعاجًا، إلى وراء الظاهرة متأملًا، وكأن كل هذه الأصوات العالية سمفونية، رغم عدم اتزانها وفوضويتها، تبقى تدفع المرء للتأمُّل أولاً في العالم الذي وقّعنا أن نعيشه، وثانيًا، إمكانية العيش فيه، وثالثًا وأخيرًا، ما مدى قدرة الإنسان على فهم العالم عندما تكون كل مظاهره تخدم أغراضًا رأسمالية، ومن لا يستطيع المشاركة، تأكله المفترسات!

وعليه، لا سبيل للسكينة اليوم ولم تعد خيارًا متاحًا. على المتأمل أن يتكيف ويتأقلم ويتعود على أن يبدع التفكير في الأسواق، والملاهي بكل أشكالها، وفي الأحياء المزعجة بأصوات المواعظ، ونذكر أنفسنا دائمًا، طالما لا خيار آخر لدينا: أن أكثر الأماكن ضجيجًا في العالم تبعث على أكبر قدر من التأمُّل.

***

خالد اليماني

كان لجماعة الفلاسفة الجدد التي اسسها برنارد ليفي وفلاسفة ما بعد الحداثة دور سلبي في تراجع اليسار، خاصة انهم خرجوا من معطف الماركسية ليشكلوا "يسارا" جديدا مما اكسبهم مشروعية فكرية من قبل بعض اليساريين.

 لست بصدد عرض النقد اللاذع لفلسفة ما بعد الحداثة من قبل اعلام اليسار كدافيد هارفي ومارك فيشر الماركسيين او تشومسكي الاشتراكي الاناركي، بل خلاصة (مع القليل من الاضافات التي وضعتها بين اقواس للتوضيح دون ان تغير المضمون العام) لتقرير ال سي آي اي الذي رفعت عنه السرية عام٢٠١٠، والمعنون فرنسا: انشقاق اليسار، والذي يحلل بابتهاج ما حققه فلاسفة ما بعد الحداثة في مجال صناعة راي عام ينزع لمعاداة الماركسية وزيادة تاييد السياسة الامريكية وتوجيه الميل الشعبي لتفضيل النظام الراسمالي. ارجو ان لا يفهم الموضوع على انه محض تجريد خالص ينحصر في دائرة الفلسفة بعيدا عن الواقع الملموس، فلو كان الامر كذلك لما احتفت المخابرات الامريكية بما حققه فلاسفة ما بعد الحداثة. (وسوف يكون المقال القادم عن اختراق مفاهيم وافكار ما بعد الحداثة للفضاء الثقافي العربي عموما والعراقي خصوصا، بعد ٢٠٠٣ لاتساقها مع قيم وافكار اللبرالية الجديدة.)

يبدا تقرير السي اي اي بالقول ان دور الفلاسفة في فرنسا على مر التاريخ، كان ذا تاثير بالغ في صناعة الراي محليا وعالميا، ولا ينحصر دورهم كما في امريكا واوروبا على ذوي الاختصاص او المهتمين بالفلسفه فقط، فقد انقسم المجتمع الفرنسي قديما ومن ثم العالم اجمع، مع انقسام الفلاسفة الى يسار(روسو. مونتسكيو، ديدرو،) ويمين (جوزيف دي مايسترا، تشارلز ماوراس، بونالد) وكان الصراع في الافكار بين الطرفين شبه متكافئ آنذاك، حتى نشوب الحرب العالمية الثانية حيث اصبح اليسار وبالاخص الفكر الماركسي هو الاكبر تاثيرا على المجتمع، لدوره في مقاومة النازية ولمواقفه الوطنية، وتراجع اليمين ضمن خط بياني حاد لفقده مصداقيته بسبب تخاذله ودعمه للفاشية علنا او سرا.

واستمرت مكانة اليسار في المجتمع حتى بروز فلاسفة ما بعد الحداثة كرد فعل لما تكشف من جرائم الحقبة الستالينية، (بالحقيقة فلسفة ما بعد الحداثة كانت كرد فعل لمآسي الحرب العالمية الثانية بشكل اساسي، اذ القي اللوم على تقديس العقل الاداتي من قبل مفكري الحداثة والتنوير). هؤلاء الفلاسفة لم يتخلوا عن الماركسية فحسب بل شنوا حملات مكثفة لتعبئة الشباب ضدها وضد الاتحاد السوفيتي، وقد بذلوا جهودا حثيثة لنشر افكارا ومفاهيم نقيضة للفكر الماركسي، (كرفض مايسمونه السرديات الكبرى بقصد دحض المادية التاريخية، وانكار سيرورة التطور التاريخي للمجتمعات، والنسبية المطلقة للحقيقة وقيم الاخلاق، ومن مخرجات فلسفتهم ايضا محورية الفرد كذات مستقلة مما يعزز الفردانية، وانكار وجود هوية جماعية، وتجزئة الصراعات الى صراع حقوق لهويات فرعية ككيانات مستقلة متشظية على اعتبار ان الواقع نفسه بمنظورهم متشظ وغير متسق ...الخ)، ويشير تقرير ال سي اي اي ان الجامعات والصحف والقنوات التلفزيونية قد شرعت ابوابها بشكل يومي لنشر هذه الافكار من خلال لقاءات وحوارات ومحاضرات، وخاصة بعد احداث ثورة الطلبة ١٩٦٨م، وقد صرح دوبريه ان هؤلاء الفلاسفة قد تحولوا الى نجوم تلفزيون استعراضية، ويذكر التقرير ان هؤلاء المفكرين: فوكو، برنارد ليفي وليوتارد وغيرهم في فترة الثمانينات قد شنوا حملة عداء وهجوما مستمرا ضد حكومة متيران وقرروا مقاطعتها لاشراكها وزراءا شيوعيين، وحين استقال الوزراء الشيوعيون الاربعة ( لتراخي حكومة الاشتراكي في تنفيذ برنامجها)، كتب برنارد ليفي : لقد تطهرت الحكومة من اربعة فاشيين، وقد اصدر ليفي كتابا يساوي فيه بين الشيوعية والفاشية، ونشر كتابا عنونه: البربرية بوجه انساني، كرسه للهجوم على الشيوعيين واتهامهم بالبربرية، والف صديقه جلوكسمان كتابا لدراسة جذور الفاشية في الارث الفلسفي الالماني زاعما انها تعود الى ماركس ونيتشة مصرا على مساواة الفاشية بالشيوعية.

ومما يذكره التقرير ايضا اكتساب بعض نظريات اليمين تاييدا غير مباشر من قبل اليسار الجديد، على سبيل المثال ينسب بعض منظري اليمين ارهاب الدولة وتعسفها الى الثورات التي تسعى لفرض المساواة، والتي يتطلب تطبيقها دولة بوليسية تضرب بيد من حديد لفرضها، ومع ان بعض مفكري اليمين ادانوا مثل هذه الرؤية، الا ان فوكو مثلا ابدى قبولا وتاييدا ضمنيا بالتذكير بسلبيات الفكر العقلاني التنويري والنزعة الثورية التي آلت الى حمامات الدم ابان الثورة الفرنسية بالقرن الثامن عشر.

يقدم تقرير السي اي اي دليلا على مدى تاثير الشحن المتواصل من قبل كتاب ومفكري ما بعد الحداثه لتوجيه الراي العام لصالح النظام الامريكي وسياسته المتبعة داخل وخارج امريكا، فيقارن بين استفتاء اجري عام 1982 واخر عام 1985 خلال التحضير لقمة ريغان وغورباتشوف

 النتائج: 30% مع امريكا 51% ضدها عام 1982.

 وفي عام 1985 تصاعدت نسبة تاييد النظام الامريكي الى 43% وهبطت نسبة معارضته الى 27%، بينما تاييد النظام السوفيتي هبط الى 9% مقابل 59% ضده. والملفت للنظر ان الاسئله بالاستفتاء تتضمن اضافة للحريات الشخصية المساواة الاقتصادية والتامين الصحي ومساعدة الدول الفقيرة، اي( ان 43% يعتقدون ان المساواة الاقتصادية والتامين الصحي والمساعدات للدول النامية هي الافضل في ظل النظام الامريكي منها في النظام السوفيتي).

كما عرض التقرير نتائج استفتاءات من لقاءات جرت بشكل مباشر مع الطلبة، تشير الى ان طلبة الجامعات المعروفين بحماسهم الثوري، لا يفكر معظمهم الآن الا بتامين حياة شخصية مرفهة والحصول على عمل يدر مالا وفيرا، ويعزز ذلك عزوف الطلبة من الانخراط في دروس العلوم الانسانية، والتوجه الى دراسة ادارة الاعمال والتجارة والعلوم البحتة.

ما لم يذكره التقرير ان الجامعات الامريكيه شجعت على نشر بحوث مابعد الحداثيين من الاكاديميين الاميركان، ودأبت على منح الالقاب والمناصب العلمية لاولئك الذين يتبنون تلك الافكار، حتى اصبحت طريقا للمتسلقين الباحثين عن رتب علمية او مكانة في مراكز البحوث كما اكد ذلك تشومسكي في اكثر من مقابلة.

***

قصي الصافي

 

السرديات التاريخية والشعر البصري الملموس يعكسان أساليب فنية معقدة في التعبير عن التجربة الإنسانية، الشعر البصري الملموس هو حداثة تنصيص ونوع من الشعر يركز على الشكل البصري للكلمات، حيث يُعتبر الشكل جزءًا من التجربة الشعرية يجمع بين النصوص الأدبية والعناصر البصرية في محاولة لتعزيز المعنى ويهدف إلى خلق تجربة حسية تثير الانفعالات والمشاعر لدى المتلقي هو في حقيقته النصية يشبه نوعا ما طلاسم السرديات التاريخية التي تدعي انها تحمل بين طياتها معاني متعددة، مما يتطلب من القارئ تأمل نصوصها وفهم رموزها.

النص الطلسمي والنص المقدس

عندما يكون النص طلسمي يتعب ذهنية المتلقي ويدخله في الاستفهام الكوني يتجاوز بذلك حدود المعاني المباشرة ليغمر المتلقي في تجربة فكرية معقدة،  استخدام ألفاظ وصور غير مألوفة تثير التساؤل، تجبر القارئ على إعادة التفكير في المعاني الاعمق لرمزية الشكل من خلال مزج السرد التاريخي مع النص الشكلي الكتابي بشكل يخلق وهما بصريا ويضيف بعدًا استفهاميا يعزز من فعالية طلسمة النص مثل ترك فراغات والجمل الناقصة التي  تتيح للقارئ التفكير والتأمل في المعاني المفقودة أو الغائبة ،أحيانا تستخدم إيقاعات اللغة وتكرار كلمات معينة لتعزز من تأثير النص وتجعل القارئ يشعر بعمق التجربة والايهام، بهذه الطريقة يتحول النص الطلسمي إلى تجربة فكرية تثير تساؤلات وجودية تدعو لاستكشاف المعاني الغامضة وتجاوز المعاني المباشرة التي تعكسها النظرة السطحية للرموز والإشارات وتقديم تجربة فكرية عميقة.

النص الغامض والنص الطلسمي

النص الغامض يتميز بوجود عناصر غير واضحة أو غير مفهومة، لكنه قد لا يحمل بالضرورة عمقًا فلسفيًا، الغموض هنا يكون أكثر سطحية، النص الطلسمي يسعى لإحداث تفاعل فكري عميق ويدعو الى البحث عن معانٍ متعددة ،النص الغامض قد يكون ناتجًا عن عدم وضوح في الفكرة أو ضعف في التعبير، التي تترك القارئ في حالة من التخبط ،النص الطلسمي يستخدم العناصر البصرية والرموز، والتكرار لتكوين طبقات من المعاني كما يعتمد على الفنون البصرية كجزء منه ،النص الغامض يكون بسيطًا في التركيب، ويستخدم كلمات أو عبارات غامضة دون تفاعل بصري واضح، لذلك النص الطلسمي يتطلب من القارئ التفكير العميق والتفاعل مع النص بطريقة شخصية في حين النص الغامض يؤدي إلى إحباط القارئ خصوصا اذا كان الغموض مفرطًا وغير مدروس ،النص الطلسمي يترك أثرًا عاطفيًا عميقًا، يدعو للتأمل في الوجود والمعاني، على العكس من ذلك النص الغامض يثير مشاعر الارتباك أو الفضول، لكن لا يثير العمق بينما يحمل كل من النص الطلسمي والغموض عناصر من عدم الوضوح، فإن الطلسمية تتعمد خلق تجربة غنية ومعقدة، بينما يمكن أن يكون النص الغامض نتيجة للافتقار للوضوح أو ضعف التركيب اللغوي.

النص الطلسمي وغموض التعالي

يمكن اعتبار  النص الطلسمي محاولة لجعل النص أكثر قدسية كنوع من التعالي المعرفي في المصدرية، النصوص المتعالية تسعى إلى خلق شعور بالقدسية، حيث ترتبط بمعاني أعمق من النصوص المتداولة في الحياة اليومية، مما يجعلها تتجاوز التجارب العادية الى التجربة الروحية وتثير مشاعر التأمل والتفكر في الوجود والمعنى، كما تعزز من الشعور بالروحانية ،استخدام الرموز في النصوص المتعالية غالبًا ما تكون رموزًا ذات ابعاد تحمل ابعادا لانهائية متعددة، مما يتيح للأفراد محاولة  استكشاف الأبعاد الجديدة للمعنى، تتسم النصوص المتعالية بالتجريد وتبتعد عن الوضوح والمباشرة لتسمح بتفسير شخصي لا متناهي مما يخلق تجربة غامضة تعتمد اسلوبا ادبيا يعتمد على لغة شعرية متماسكة وطريقة بلاغية مبتكرة، مما يضفي على النص طابعًا خاصًا وعميقًا يدعو الى استفزاز الفكر و الى البحث في قضايا وجودية عميقة، مما يعطي النص بُعدًا فلسفيًا ،لذلك النصوص الطلسمية التي تسعى إلى القدسية والتعالي يجب ان تتجاوز التجارب العادية، مما يجعلها تحمل أبعادًا أعمق وتتفاعل مع القيم الروحية والثقافية.

الشكلية في النصوص الطلسمية

النصوص الطلسمية تُكتب بشكل غير واضح يمكن أن تُعتبر تعبيرًا فنيًا بالمعنى التشكيلي يهدف إلى إثارة التأمل والتفكير، بدلاً من تقديم معانٍ رمزية مباشرة، التصميم البصري يهتم في كيفية تنظيم النص، مثل الأشكال، الخطوط، والفراغات وهذا مشترك بين النصوص الطلسمية في السرديات التاريخية والشعر البصري الملموس، قد تكون الكتابة متعرجة أو متكررة، مما يخلق تأثيرًا بصريًا حيث تتداخل النصوص إذا كان النص يحتوي على نصوص مكررة ،و يمكن أن يعكس ذلك تداخل الأفكار أو الازمان ،ان التفسير النقدي لهذه النصوص يمكن أن يعكس الشعور بالارتباك أو التعقيد في الحياة الذي هو ديدن المشاعر لدى القارئ. ان دراسة النص من منظور نقدي، مثل تأثيره على الفهم الشخصي للمعاني وتحدي الفهم التقليدي وكيف يحدث تأثيرا عاطفيا سواء من خلال سرد الأحداث التاريخية أو عبر الصور والتجاوز الى الفهم الاعمق، من خلال ذلك نفهم ان النصوص الطلسمية قد تقدم تجربة فريدة في تجاوز المعاني السطحية اوقد تكون تجربة شكلية عابرة لا تحمل أي معنى فقط لغرض الاثارة او التطلب (أي مزيدا من التأمل ومحاولة التفاعل على مستويات متعددة).

العلاقة بين الرمزية والغموض

في النصوص الطلسمية التي تتسم بالتداخل ، حيث يسهم كل من التداخل النصي واللغة في تعزيز احدهما لآخر، تستخدم الرموز للتعبير عن أفكار ومعاني متعددة، تفتح مجالا للتفسيرات المختلفة ،هذا التعدد في المعاني يخلق غموضًا، ويمكن أن يكون للنص أكثر من تفسير، مما يدعو الى تحفيز القارئ على التفكير في المعاني الخفية ،الغموض يخلق شعورًا بالفضول، مما يدفع القارئ للبحث والشك في المعاني المخفية ومعرفة النص بشكل أفضل، التجريد في الأفكار واللغة يعمق الهوة بين النص والمعنى مثل الوجود والزمان ،هذا التجريد يؤدي إلى غموض في الفهم، مما يستدعي تفكيرًا إضافيًا يعطب مسارات البحث اذ تختلف تفسيرات الرموز من شخص لآخر، مما يعكس تداخل التجارب الفردية والانحيازات المعرفية ويثير مشاعر مبهمة من خلال تقديم معاني غير مباشرة، الرمزية والغموض يعملان معًا في النصوص الطلسمية  للسرديات التاريخية لتعزيز التجربة الجمالية الشكلية وتثبيت قدسية المصدر اذ ان هذه الرمزية تقدم عمقًا ومعاني متعددة، بينما الغموض يخلق فضولًا وتحديًا للفهم، مما يدعو القارئ الى ان يلجا للتفسير والتأويل لخلق المعنى.

التفسير والنصوص الطلسمية

من خلال تفسير الرموز، يمكن فك الشيفرات المعقدة للنص، مما يساعد في كشف المعاني الخفية وفهم السياق الثقافي والتاريخي للنص ويمكن أن يوضح كيف تم استخدام الرموز. التفسير يمكن أن يؤدي إلى تأويلات متعددة، مما يساعد القارئ على رؤية النص من زوايا جديدة ،كل تفسير جديد يساهم في توسيع المعنى العام للنص لكن على حساب ارباك الدلالة كما يكشف عن أبعاد جديدة للغموض ،التفسير يشجع القارئ على التأمل في النص والتفكير في معانيه بشكل أعمق مما يساعد في جعل القارئ جزءًا من عملية الكتابة و يزيد من تفاعله مع النص ويمكنه من استخدام نظريات أدبية أو فلسفية لفهم النصوص الطلسمية وكيفية تشكيلها، ويوفر إطارًا عاما لفهم المشاعر والأفكار المعقدة التي عبرت عنها النصوص الطلسمية في الانشاء الوجودي والتجربة الفردية  والجماعية التي لم يكشف عنها التفسير كونه يلعب دورًا حيويًا في كشف غموض النصوص الطلسمية من خلال توضيح المعاني، فتح آفاق جديدة، وتعزيز التفاعل مع القارئ ،وبالتالي يمكن  أن يكون الشعر البصري الملموس قد استمد خلفية التعبير من السرديات التاريخية إضافة الى الاحداث التاريخية، مما خلق تواصلًا بين الماضي والحاضر حيث إن الأداء النصي للسرديات التاريخية والشعر البصري الملموس يتداخلان في عدة جوانب، مما يعزز كل منهما الآخر ويساهم في تشكيل التجربة الإبهامية للسرديات التاريخية.

***

غالب المسعودي – باحث عراقي

.....................

*الشعر الملموس، المعروف أيضًا باسم الشعر المصوغ أو الشعر البصري، هو نوع من الشعر يركز بشكل كبير على الشكل البصري والتركيب المادي للكلمات، بحيث يكون للشكل الخارجي تأثير على معنى القصيدة وفهمها.

صورة لقصيد من الشعر الشكلي

التوتر بين الكوني والمحلي وشروط التجاوز

تمثِّل الفلسفةُ في التعليم الثانوي فضاءً تحرريًّا لبناء العقل الناقد، لا بإلهام التساؤل فحسب، بل بترسيخ أدوات التحليل والنقد والمحاجة. وفي ظلّ أزمة الدرس الفلسفي وتراجُعِ منسوب الوعي، يبرز إدراجُ النصوص في مناهج البكالوريا الجزائرية خطوةً جريئةً نحو تكوين متعلمٍ حر ومسؤول. غير أنَّ اعتمادَ ما يُسمَّى تجاوزًا "النص الفلسفي الجزائري" في الامتحان يُجلّي إشكاليةً منهجيةً تعكس التوترَ الجدليَّ بين المعيار الكوني الذي يقيس النصَّ بمعزلٍ عن أصوله الثقافية وهوية مؤلفه والمعيار المحلي الذي يربطه بالهوية ويبحث عن شرعية إدراجه. هذا التوتر ليس هامشيًّا، بل ينبع من صميم الممارسة الفلسفية ذاتها: فالفلسفة تسعى نحو كشف الحقائق المتعالية، لكنّها تنبثق بالضرورة من سياقاتٍ تاريخيةٍ محدَّدة. هنا يتحوّل امتحانُ البكالوريا إلى محكٍّ عمليٍّ لهذه المعضلة الإبستيمولوجية، ويُعيد طرحَ السؤال الجوهري:

كيف نُجنّبُ تدريسَ الفلسفةَ مخاطرَ الخصوصوية الضيقة أو التبعية الفكرية، ونحوِّل النصَّ من عبءٍ يُثقل كاهلَ التلميذ إلى ورشةِ عقلٍ تحرّرية؟

لذلك، يهدف هذا المقال إلى تفكيك الإشكالية عبر مسارَين متكاملَين:

* المحور النظري: سَبْرُ الماهية المزدوجة للنص الفلسفي (كمشروعٌ كونيٌّ من جهة وكمنتجٌ ثقافيٌّ خاصٌّ من جهة اخرى).

* المحور التطبيقي: تشريح شروطِ إدماج النصوص المحلية في المناهج، للإجابة عن أسئلةٍ محوريةٍ:

* هل يُقيَّم النصُّ بمعزلٍ عن سياقه الثقافي؟

* كيف نُوازن بين عالمية الفلسفة وخصوصية نصوصها؟

* ما معايير اختيار النصوص المحلية للبكالوريا؟

* كيف تحافظ الفلسفةُ على كونيّتها دون انفصالٍ عن سياقاتها الحضارية؟

في كتابه (من النص إلى الفعل) يعرف بول ريكور النص قائلا:" هو كل خطاب مُثَبَّت بواسطة الكتابة"

فالنص عنده يُفهم من خلال تثبيته الكتابي، لا من خلال حضور مؤلفه وهذا الثبات يسمح بتأويلات متجددة للنص عبر العصور لذلك كان النص من منظور جوليا كريستيفا متحركا لا ساكنا فهو " في حقيقته تبادل نصوص و فضاء تتقاطع فيه ملفوظات من نصوص سابقة انه:" فسيفساء من نصوص أخرى أُدمجت فيه... محوِّلاً إياها لتحقيق غاية جديدة أو مناقضتها". فلا وجود لنص "أصلي" منعزل؛ وكل نص هو تفاعل مع نصوص أخرى. وهو وحدة قابلة للتوليد متحدر من نصوص سابقة، ومؤثر في نصوص لاحقة. وهذا يؤكد ان الفلسفة لا تُنتج في فراغ فأفكارها تنبثق من حوار مع نصوص سابقة (فلسفية/غير فلسفية).

هل نُركز على المؤلف أم مضمون النص؟

لا يجب التركيز على المؤلف في النص الفلسفي، وذلك للأسباب التالية:

1. استقلالية النص: ان جوهر النص الفلسفي هو الفكرة المجردة وليس هوية كاتبه. من حيث ان تفسير النص وتأويله قصد تحليله فلسفيا مشروط ببنية النص ذاته (لغته، مفاهيمه، تناصه). ومن هنا ذهب بعض الفلاسفة الى القول ان النص الفلسفي (كالأدبي) ينفصل عن مؤلِّفه بمجرد اكتماله، ويصبح "كيانًا مستقلاً" قابلاً للتأويلات المتعددة، انه “يخلق مسافة بينه وبين مؤلفه" ، و"القارئ يضيق المسافة الثقافية بين زمن النص وزمن القراءة " ثم ان النص الفلسفي يُبنى على حوار مع نصوص سابقة (أفلاطون، أرسطو...)، وبالتالي مضمونه هو نتاج تراكمي لا يختزل بشخص واحد. وبالمحصلة النص الفلسفي لا يهدف إلى التعبير عن ذاتية مؤلفه، بل يسعى إلى تجاوزها ليكون صوتًا للحقيقة المجردة، مما يجعله منفصلاً عن السياق الشخصي أو التاريخي لمؤلفه. فمثلا: نصوص ديكارت أو كانط تُقرأ اليوم في سياقات مغايرة تمامًا لزمن كتابتها، لأنها تُعالج إشكاليات كونية (كالشك، الأخلاق، المعرفة). وهذا يجعل النص كيانًا ديناميكيًّا يتجاوز حدود مؤلفه

2. الآليات التكوينية للنص الفلسفي من الأسباب أيضا التي تدفعنا الى التأكيد على تحرير النص الفلسفي من هويته المحلية ان اغلب الدراسات الفلسفية واللغوية المعاصرة لاتقيس قيمة النص بمؤلفه ولا بمضمونه المجرّد فقط ، بل تنظر في آلياته البنائية التي تُشكّل هويته وتحدّد طريقة اشتغاله وتنقله من المحلي الى الكوني. هذه الآليات تُحوّله من مجرد خطاب ينسب الى الانا إلى فضاء حيوي للإنتاج الفكري يساهم فيه الغير بدليل:

انه نص اشكالي: يفجر اليقينيات ويخلق مساحة للتأمل النقدي من خلال تحويل السؤال العادي إلى إشكالية فلسفية قابلة للتفكيك. وهذه الخاصية تُظهر النص كـورشة مفتوحة للتفكير، لا كمجموعة نصائح. فالنص الفلسفي لا يقدم إجابات جاهزة، بل يعرّي التناقضات الكامنة في المفاهيم.

انه نص تساؤلي: يفكك المفاهيم عبر أسئلة متتالية تفضي إلى تعقيد الإشكالية. ويجنّب القارئ السطحية ويجبره على المشاركة النشطة. وتُحوّل النص إلى حوار متخيل مع القارئ.

انه نص حجاجي: فالفلسفة كما قال كانط بناء من الاستدلالات، بناء من الحجج المنطقية اما لدعم الأطروحة أو تفنيدها. وهي بهذه الخاصية تخلق بنية نصية متشابكة، حيث كل فقرة تُبنى على سابقتها.

انه نص مفاهيمي: يصيغ المفاهيم المجردة ويحدد دلالاتها بدقة ويحول التجارب الذاتية إلى مصطلحات قابلة للتداول النظري. وهذه الخاصية تُظهر النص كـنظام مفاهيمي مغلق من الخارج، لكنه مرن من الداخل. وبهذا المعنى يصح القول ان النص الفلسفي نسيج: فالنص الفلسفي المتميز يبدأ بالأشكلة لفتح الإشكال، ثم التُعمّق بالمساءلة لتوسيع زوايا النظر، ويبنى بالمحاجة وتُختزل افكاره بالمفهمة .

وهذه الآليات بالذات هي التي تميز النص الفلسفي عن النصوص الأخرى فاذا كان النص العلمي: يركز على الوصف والتحقق التجريبي والنص الأدبي: يعتمد على التعبير الجمالي والنص الديني: يُقدّم حقائق جاهز فان النص الفلسفي وحده يجمع بين: التفكيك من خلال المساءلة والأشكلة والبناء الذي يتجلى المحاجة والمفهمة. وهي الآليات تجعل النص الفلسفي كائنًا حيًا يتجاوز زمن كتابته، ويظل قابلاً للحوار عبر العصور.

3-موت الفيلسوف / المؤلف: معيار المؤلف لم يعد مقبولًا (فالنص الفلسفي لا يُعرَّف بكونه يُكتَب بواسطة فيلسوف) – في إطار النظريات الحديثة للنص التي تتحدث عن موت/غياب المؤلف وبالمقابل حضور القارئ. الكتابة تضحية بالحياة؛ إنها غياب، وبالمقابل الكلام حضور. وهذا يجعلنا نرى أن النص الفلسفي هو الذي يشكل الفيلسوف وليس العكس. فمثلاً: ابن سينا لا يكون فيلسوفًا إلا عندما تنظر إليه من خلال نصوصه الفلسفية، ولا يكون طبيبًا إلا عندما تنظر إليه من خلال نصوصه الطبية. إن رفض معيار المؤلف يجعلنا نعثر على نصوص فلسفية في غير مؤلفات الفلسفة.

معيار اختيار النص الفلسفي في البكالوريا هو خصائصه

1. الطابع الجدلي والتحليلي (Argumentative & Analytical):

التركيز على الحجج: لا يكتفي النص الفلسفي بتقديم معلومات أو وصف ظواهر. جوهره هو بناء حجج منطقية تدعم أطروحة أو فكرة رئيسية (Thesis) أو تفنيد حجج أخرى.

التحليل المنطقي: يعتمد على التحليل المنطقي الدقيق للمفاهيم والافتراضات والاستدلالات. يسعى لتحديد مدى صحة الاستنتاجات بناءً على المقدمات.

مناقشة الآراء المخالفة: غالبًا ما يعترض النص الفلسفي على آراء أخرى (معارضة أو مختلفة) ويناقشها نقديًا لبيان نقاط ضعفها أو لاستخلاص نقاط قوة لأطروحته.

2. التجريد والتعميم (Abstractness & Generality):

مفاهيم مجردة: يتعامل مع مفاهيم لا تُلمس بالحواس مباشرةً، مثل: الوجود، المعرفة، الحقيقة، الخير، الشر، العدالة، الحرية، الوعي، الزمن، الجوهر، العلة... إلخ.

أسئلة أساسية: يطرح أسئلة جوهرية حول الطبيعة البشرية، العالم، القيم، المعرفة، الوجود ذاته. هذه الأسئلة غالبًا ما تكون شاملة وعميقة ولا تقتصر على حالات فردية محددة.

استخلاص المبادئ العامة: يسعى لفهم المبادئ الكامنة وراء الظواهر الجزئية والتجارب المحددة.

3. التركيز على المفاهيم والتفاصيل الدقيقة (Cnceptual Precisin & Nuance):

تعريف المصطلحات: يولي اهتمامًا كبيرًا لتعريف المفاهيم والمصطلحات المستخدمة بدقة ووضوح، لأن سوء الفهم هنا يقوض الحجة بأكملها.

التفريق بين الدلالات: يميز بين الفروق الدقيقة في معاني المفاهيم المتشابهة (مثل: الحرية السلبية مقابل الحرية الإيجابية، العدالة التوزيعية مقابل العدالة التصحيحية).

الدقة اللغوية: تستخدم اللغة بعناية فائقة للتعبير عن الأفكار المعقدة بدقة، وتجنب الغموض غير المقصود.

4. المنهجية والصرامة (Methdlgical Rigr):

اتباع منهجية واضحة: قد يعتمد على منهجيات محددة مثل الاستنباط (من العام إلى الخاص)، الاستقراء (من الخاص إلى العام)، الظاهراتية (وصف التجربة كما تظهر)، التحليل المفاهيمي، إلخ.

التماسك الداخلي: تسير الحجج بطريقة متسقة ومنطقية، بحيث تكون المقدمات واضحة وتؤدي إلى الاستنتاجات بشكل مبرر.

الوعي بالافتراضات: يحاول الكشف عن الافتراضات الكامنة (المسكوت عنها) وراء الأفكار والنظريات ومناقشتها.

5. الطابع التأملي والنقدي (Reflective & Critical):

التفكير في التفكير: الفلسفة تفكر في طبيعة المعرفة نفسها، ومناهج التفكير، وأسس الأخلاق، أي أنها تنظر إلى الأساسيات التي تقوم عليها مجالات أخرى.

النقد الذاتي: غالبًا ما يعترف النص الفلسفي بحدود حججه أو بوجود إشكاليات لم تحل بعد.

تساؤل مستمر: لا يقدم إجابات نهائية وحاسمة في الغالب، بل يفتح الباب لمزيد من التساؤل والبحث والنقاش. هدفه غالبًا هو توضيح المشكلة أكثر من تقديم حل قاطع.

6. السياق التاريخي والمدرسي (Histrical & Dctrinal Cntext):

الحوار مع التراث: غالبًا ما يكون النص الفلسفي جزءًا من حوار ممتد عبر التاريخ مع فلاسفة آخرين (سابقين أو معاصرين)، إما بالبناء على أفكارهم أو نقدها أو تطويرها.

الانتماء لمدارس فكرية: قد ينتمي النص إلى تيار فلسفي معين (مثل: المثالية، الواقعية، الوجودية، البراغماتية، التحليلية، القارية... إلخ) مما يحدد مفاهيمه الأساسية ومنهجه.

7. اللغة والأسلوب (Language & Style):

أسلوب جاد ومعقد: اللغة تميل إلى الجدية والعمق والتعقيد بسبب طبيعة الموضوعات والمفاهيم المجردة.

استخدام المصطلحات الفلسفية: يعتمد على مصطلحات فنية خاصة بمجال الفلسفة.

التوازن بين الوضوح والعمق: يسعى الفيلسوف الجيد للتعبير عن أفكار معقدة بأكبر قدر ممكن من الوضوح، رغم صعوبة المهمة

كيف نُوازن بين عالمية الفلسفة وخصوصية نصوصها؟

ان توازن بين عالمية الفلسفة وخصوصية نصوصها يتطلَّب منهجيةً مركَّبةً تجمع بين الفلسفة كـ "مشروع كوني": من منطلق ان حقائقها تُعالج إشكالياتٍ إنسانيةً جوهريةً (كالحرية، العدالة، الوجود). وبين النصوص كـ "تجسيد سياقي" بحكم انها تنبثق من بيئةٍ ثقافيةٍ محدَّدةٍ (اللغة، التاريخ، التحديات المجتمعية) فمثلا "رسالة التسامح" لفولتير (فرنسا القرن 18) تناقش "الكوني" (حرية الاعتقاد)، لكن بصياغةٍ تعكس الصراعَ بين الكنيسة والمجتمع الفرنسي (الخصوصي) وهذا ما ينطبق أيضا على بعض نصوص الفلسفة الإسلامية فخصوصية ابن رشد في شرح أرسطو جعلته فيلسوفاً كونياً وبهذا المعنى يمكن القول ان النصوص العظيمة تعبّر عن خصوصيتها بعمق حتى تلامس الإنساني المشترك.

معايير اختيار النصوص المحلية

* القابلية للحوار الكوني:

أن تحتوي النصوص على إشكالياتٍ قابلةٍ للمقارنة مع تراث الفلسفة العالمي (مثل: الشك المنهجي عند الغزالي وتجربة الشك من اجل اليقين من خلال نصوص ديكارت .

* العمق المفاهيمي:

تجنُّب النصوص السردية او المبتور من سياقها الفلسفي او التي هي في الأصل دروس ومحاضرات موجهة للطلبة في سياق معرفي محدد ومغلق او التي تتغذى على الإيديولوجية السطحية، والتركيز على نصوصٍ تُقدِّم تحليلًا فلسفيًّا عميقا (مثل نقد العقل العربي لمحمد أركون مثلا )

* التنوع السياقي:

تمثيل تياراتٍ فلسفيةٍ جزائريةٍ متعددة (إسلامية، حداثية، وجودية...) لتفادي اختزال "الخصوصية" في نموذجٍ واحدٍ.

لذلك يجب ان تخضع معايير اختيار النصوص الفلسفية في امتحان البكالوريا لاعتبارات خاصة، نظرًا لطبيعة المادة وأهدافها التحليلية. نذكر منها:

- ضرورة الارتباط الوثيق بموضوعات المنهج الدراسي

* يُحدد المنهج السنوي مواضيع رئيسية (مثل: "الإحساس والادراك"، "السياسة"، "الاخلاق"، "العدل"، إلخ).

* تُختار النصوص لتجسيد إشكاليات هذه المواضيع مباشرةً، وتكون مأخوذة من مؤلفات الفلاسفة المدرجة في البرنامج.

- الوضوح الفلسفي والإشكالية

* تركيز الأفكار: يُفضل النصوص التي تطرح فكرة فلسفية مركزية أو إشكالية واضحة في فقرة واحدة أو فقرتين.

* قابلية التحليل: أن تسمح النص بتفكيك الحجج والاستدلالات المنطقية (مقدمات، نتائج، مفارقات).

* العمق دون تعقيد مفرط: تجنب النصوص الغامضة أو التي تتطلب معرفة مسبقة مفصلة خارج المنهج.

- القيمة الفلسفية والتاريخية:

* تمثيل الفيلسوف: أن تعكس النص رؤية الفيلسوف الأساسية أو جزءًا محوريًا من نظريته (مثلا: نص لمالك بن نبي عن السياسة والأخلاق او الحق والواجب، أو البشير الابراهيمي عن فكرة مقاومة الاستبداد او الأمير عبد القادر حول بناء الدولة او البشير ربوح حول فلسفة الفعل ... ).

* التنوع الثقافي والزمني: تغطية حقبات فلسفية رئيسية (من اليونان القديمة حتى القرن الواحد والعشرين) مثل:

العصور القديمة (أفلاطون، أرسطو، ابن رشد، اغسطينوس...).

العصر الحديث (ديكارت، كانط، ..).

الفلسفة المعاصرة (سارتر، فوكو، اركون ، الجابري ، مالك بن نبي...).

- الملاءمة البيداغوجية:

* الطول المناسب: عادةً تكون النصوص قصيرة نسبيًا (10-15 سطرًا كحد أقصى) لتسهيل التحليل في زمن الامتحان المحدد.

* اللغة الواضحة: تجنب التعقيد اللفظي غير الضروري، مع الحفاظ على الدقة الفلسفية.

* إمكانية الربط بموضوع الدرس: أن تسمح النص بصياغة إشكالية مرتبطة بمحور المنهج.

- الحياد والتحدي الفكري:

* تحفيز النقاش: اختيار نصوص تطرح تساؤلات أو آراء قابلة للنقد والمناقشة.

* الابتعاد عن الأحادية: تجنب النصوص التي تفرض رأيًا دون حجج، أو التي لا تتيح مساحة للتأويل.

* عدم التحيز الأيديولوجي: ضمان تنوع التوجهات الفكرية.

- المرجعية المعتمدة:

* تُستقى النصوص من الأعمال الأصلية للفلاسفة، لا من شروح ثانوية.

* يُذكر المصدر بدقة (اسم الكتاب، الفصل، الصفحة).

- التوازن بين الصعوبة والمناسبة:

* تجنب النصوص "المغلقة": التي تتطلب معرفة سياقية موسعة خارج متناول الطالب.

* التدرج في الصعوبة: مراعاة مستويات الطلاب في الشعب المختلفة

- آلية الاختيار:

1. لجان متخصصة: تضم مفتشين فلسفيين وأساتذة جامعيين ومدرسين متمرسين.

2. التوافق مع المنهج: مراجعة النصوص للتأكد من تغطيتها للمحاور المقررة.

3. اختبار مسبق: تقييم وضوح النص وقابليته للتحليل عبر نماذج تجريبية توزع في الثانويات.

***

علي عمرون

 

﴿والحقّ يصرخ في مذبح الصمت﴾

ليس الحديث هنا عن الحقيقة بوصفها مفهوماً مجرداً يختزل في حدود التعريفات الفلسفية المتداولة، بل عن حقيقةٍ تعرّضت لاغتيالٍ مقصودٍ من منظومة اجتماعيةٍ تآمرت على إخفائها وتكبيل صوتها. الحقيقة في هذه الرؤية ليست قضيّة معرفةٍ فحسب، بل قضية وجودٍ وكرامة، حين يتحوّل الصمت من فضيلةٍ أخلاقيةٍ إلى أداةٍ بيد السلطة لتكميم الأفواه وقمع الأصوات المنبّهة. والسؤال الذي يفرض نفسه ليس ما هي الحقيقة، بل لماذا يُقتل صوتها في بيئة تدّعي حرصها عليها؟

يرى المفكّر ميشيل فوكو أن الحقيقة ليست كياناً مستقلاً أو مطلقاً، بل هي ثمرةُ إنتاجٍ ضمن أنساقٍ متداخلةٍ من الخطاب، حيث تتشابك اللغة والمصلحة والسياق السياسي لتشكيلها وتوظيفها وفق متطلبات مراكز القوة والنفوذ. الحقيقة إذًا ليست سوى لعبةٍ مصطنعةٍ تروّج لها المؤسساتُ لفرض استقرارٍ زائفٍ على الواقع. وما نتصوّره حقائقَ أبدية في كثيرٍ من الأحيان ما هو إلا إجماعٌ قسريٌ مشبّعٌ بالخوف من التفكيك والتحليل. وتزداد المأساة حين تُستبدل الحقيقة بالحماية الطقسية، فتجفُّ ينابيعها، ويتحول حضورها إلى جملةٍ من الشعائر التي تخدّر الوعي وتمنع النقد.

ولا يخفى على المتأمل أن المجتمعات التقليدية تعلّمت سكوتًا حكيمًا، أو هكذا تظن، وهو في حقيقته الخوفُ من المساءلة والردّ، لا حكمةً أو تروّيًا. فتقول حنّة أرندت إن الخطر ليس في الكذب، بل في قبول الكذب كجزء من الحياة العادية. والصمت الجماعي إذن لا يحمي الحقيقة، بل هو شريكٌ خفيّ في تمكين الزيف من الاستفراد بالواقع، فحين يُذبح الحقّ علنًا في وسط المجتمع، ويظلُّ الصمت سيد الموقف، يتحمّل الجميع عبء القتل لا باليد بل باللسان المكبوت.

الطقوس ليست بذاتها أداة قتل للحقيقة، ولكنها تؤول إلى ذلك عندما يُفصلُ المعنى عن الممارسة، فتتحوّل إلى حجابٍ يوارِي جوهر الثورة والرفض. في سياقاتنا، كثيرًا ما يُختزل الحسين – رمز الثبات والتغيير – إلى مظاهرٍ طقسيةٍ باردةٍ تُعيد إنتاج حالة التبعية والجمود، فتصبح ذكرى الحسين مناسبةً للأحزان التي لا تُفجّر إرادة التغيير، بل تُكرّس حالة الرضوخ والتواطؤ. كما قال علي شريعتي إن الحسين ليس شخصًا يُبكى عليه، بل مبدأ يُقاتَل من أجله. لكنّنا في واقعنا أفرغنا الحسين من ثورته وملأنا مجالسنا بالنحيب، فكان ذلك أشدّ قتلاً من السيوف.

ومن المؤلم أيضًا أن الحقيقة في مجتمعاتنا لا تُطرح بمعزلٍ عن الناطق بها، فلا تزن الكلمة بميزان الحق والباطل، بل بميزان انتماء القائل. يقول الإمام علي عليه السلام اعرف الحق تعرف أهله، غير أن الأمة ألبست أهل الحق لباس الحق، فاصبح الحق في ذاك الأسلوب صفةً للأشخاص، لا لمضمون القضيّة، وانعكس ذلك إلى تضييق آفاق النقد والحرية.

الحقيقة لا تُقتل بالعنف الفجّ فقط، بل بسلسلة من التكتيكات الدقيقة كالالتفاف، والتأجيل، والتأويل القسري، والتشتيت، والتشخيص. التأجيل يتحجّج بغير وقته، والتأويل يزيف النص ليخدم المصالح، والتشتيت يغرق المعنى في تفاصيل ثانوية، والتشخيص يقتل الفكرة بتخوين حاملها. كل هذه استراتيجيات تمكّن الزيف من الهيمنة، وتجعل من الصمت مسرحًا للتواطؤ والانسحاب.

إن الحقيقة لا تموت بحد السيف، بل تموت بالسكوت على الظلم، وبالقبول بالزيف، وبالتغاضي عن القتل الرمزي. ندفن الحقيقة ونقيم عليها العزاء، وننشر في الصحف أن لا أحد قتلها. إن نسيان الحقيقة يعادل تعميم الكذبة، وعبر نسياننا هذا نُمسخ كرامتنا ونغتال ضميرنا.

الحقيقة لا تطلب جمهورًا، بل تطلب ضميرًا واعيًا، شجاعًا، لا يخشى المواجهة. لا تحتاج إلى مناصرين كثيرين، بل إلى صادقين قليلين. كل من يسكت عن الحقّ يبني سكينًا مسمومةً في ظهر التاريخ. كل من يبرر الزيف باسم الاستقرار يكتب شهادة اغتيال الحقيقة باسمه. وأشدّ ما أذهلني أن الطقس أضحى قاتلًا محتمًا، جعلنا ندفن الحسين كل عام وننسى أن نثور.

إن الحقيقة تصرخ اليوم في مذبحٍ من خشبٍ تغشاه منابر السلطة، ومن حرير الفتاوى، ومن أكفان وعي الجمع. فإذا لم نستجب لصراخها، فإن دماءنا ستكون خاتمة كتابها المؤلم.

***

الكاتب سجاد مصطفى حمود

 

ممَّا يثير التأمل أنَّ جلّ ما كُتب بجهد عظيم من الفلاسفة والعلماء قد لا يُقرأ أو يُفهم؛ فالقراءة لا تقل أهمية عن التأليف، إذ إن غيابها يجعلنا نعيد إنتاج الأفكار ذاتها بمفاهيم وأساليب مختلفة، دون وعي. والقراءة هنا بمدلولها الأعم: التأمّل والمطالعة في الذات والمجتمع والعالم.

على إدراكنا بالكمّ الهائل من الإنتاج المعرفي والفني الإنساني في التاريخ، أن يجعلنا أكثر تواضعًا وتلمذةً تجاه هذا الإرث، فلو عُمرنا ألف سنة لما فرغنا من مطالعته والتبصُّر فيه بأعين متجدده تطمع في الفِهم: الفهم الذي يُدرك مقولة الزمان أساسًا وبنيةً له…

وعلى القراءات والتأملات أن تحمل معها طابع الأبدية، وتتسع وسع الوجود، التأمُّل في المعارف البشرية قيمٌ، لكنه وبلا أدنى شك وليدٌ للبحر والجبل والشجرة؛ كوننا نحن العالم يختبر نفسه لأول مرة!

عندما يُصبح كُلُّ الوجود المكتبة التي نتأمل من خلالها ونتبصر حقيقتنا التي هي: أننا نحن هاهنا في العالم و الأبد في هذه اللحظة السرمديّة؛ حينها تتحول فهومنا للتراث الثقافي الإنساني إلى فهومٍ عمومية لا خصوصية، أي أننا نرى في كل أوجه الثقافة البشرية طابع الطبيعة ذاتها، التي تتجسد في الاختلاف والتصيُّر والتّزمن… 

كون التجربة الوجودية في المقام الأول تجربة علائقية أساسًا، على حسِّنا السوي أن يعي تمام الوعي أننا جزءٌ من كل شيء آخر، لا كمكملات له، أو تنوع فيه، إنما بمشاركتنا في الجوهر والمنبع والأصل الذي هو الزمن والحركة والصيرورة.

ومن باب الأنانية الرقيقة أن نقرأ أكثر مما نكتب، وأن نُبصِر أكثر مما نرى، وأن نصغي أكثر مما نسمع، وأن نرقص أكثر من خوفنا من العالم، وأن تكون كتابتنا شكلًا من أشكال القراءة، التي لا طابع لها ولا أصل، لا جنس ولا شكل، إنما تعبيرًا مجردًا عن الكينونة، وهذا هو منبع الابتكار، الذي هو الطبيعة ذاتها، عندما تكون كل الموجودات على سجيتها دون تكلف أو اكتراث.

ينبغي لِحكمتِنا أولًا أن تُقرَّ بأن هناك ما يكفي للتأمل فيه والاستغراق، من نتاج الإنسان البشري الثقافي: الفن والأدب والفلسفة والعلم، والأهم أن نردَّها إلى أمها الأرض، أي الطبيعة، أي الوجود.

***

خالد اليماني

 

ليس من الغريب القول ان في المجتمعات المتصدعة البنى والمتشظية الأنساق والمتذررة الجماعات – كما هو حال المجتمع العراقي – غالبا"ما يعاني الوعي الاجتماعي من ظاهرة (الانكفاء) في الوظيفة النقدية و(التراجع) في الأنشطة التنويرية، الأمر الذي يفسر لنا سبب تعطل السيرورات الاجتماعية وتخلخل الديناميات الحضارية على النحو الذي يفضي بالمجتمع المعني الى الدخول في دوامات من التأزم السياسي، والتفاقم الاقتصادي، والتصادم الثقافي. هذا دون أن يتمكن من الاهتداء الى سبل الخلاص من هذه الخوانق التاريخية أو النجاة من تبعاتها المدمرة لكيانه والفانية لحضارته والمهددة لمصيره، طالما ظل حبيس تلك الخوانق (يجتر) أمجاده الزائلة و(يغتر) بمواريثه الآفلة.

وإذا ما فتشنا عن الأسباب وتساءلنا عن الدوافع التي تسوق المجتمع قهريا"صوب هذا الاتجاه (العدمي) والنزوع (التدميري)، سنلاحظ ان هذا الأمر ما هو إلاّ حصيلة تضافر إشكاليتين متعاقبتين ومتزامنتين في نفس الآن، لم يتسنى للمجتمع المقصود ليس فقط الظفر بإمكانية (المعرفة) بوجودهما فاعلين في بنيته التحتية والفوقية على حدّ سواء فحسب، وإنما انعدام قدرته على فضّ التشابك البنيوي والترابط الوظيفي بينهما لجهة التأطير الذهني والتأثير النفسي، فضلا"عن غياب الوسائل والأساليب التي من شأنها منحه ما يحتاجه ل (تفكيك) الأساسات التي بنيت عليهما تلك الإشكاليتين بالصيغ السليمة والطرق الملائمة التي من شأنها التمهيد للمعالجات والاستشراف للحلول، دونما خسائر كبيرة أو أضرار خطيرة قد يتعرض لها الكيان الاجتماعي برمته جراء ذلك التفكيك البنيوي للأساسات والتحليل المنهجي للديناميات، ومن ثم إعادة البناء من جديد على أسس تاريخية مختلفة وسياقات حضارية مغايرة.

ومن هذا المنطلق نجد في إطار الإشكالية الأولى المتمثلة (باحتباس) الوعي الاجتماعي داخل بنية (النسق الثقافي) المتسم بالطابع التقليدي المتقادم تاريخيا"والمتوارث انثروبولوجيا"، والذي رغم كونه يتقاطع مع أواليات التغيّر وديناميات التطور التي شملت كل المجالات الاجتماعية والقطاعات الاقتصادية والمنظومات الرمزية، إلاّ أنه لا زال يحكم قبضته القوية ويفرض سطوته الشاملة على مجمل المسارات الحضارية والتوجهات الثقافية والنشاطات الفكرية، التي تعد - في الوقت الحاضر - من أبرز المعطيات وأقوى المؤشرات التي تقيّم على أساسها مستويات تطور مجتمع ما في مضامير العلوم الاجتماعية والمعارف الإنسانية والانجازات الحضارية، ناهيك عن ميادين الصناعات الإنتاجية المتعددة والمبتكرات التكنولوجية المتنوعة. هذا في حين نلمس على صعيد الإشكالية الثانية استمرار ظاهرة (الأصنمة) للتصورات السياسية ذات التوجه الانفرادي، و(الأقنمة) للمعتقدات الدينية ذات المنزع التعصبي، عبر الانتماء للراديكاليات السياسية (اليمينية واليسارية)، والانخراط بالأصوليات الدينية (المذهبية والطائفية)، والارتباط بالتكوينات الانثروبولوجية (القبلية والعشائرية).

وهكذا، فبالنسبة للإشكالية الأولى المتمثلة بخاصية (النسق الثقافي) فان وظيفته على صعيد (الوعي) الاجتماعي، تتركز في شدّه المتواصل للفاعل الاجتماعي صوب سرديات (الماضي) والاستغراق بمواريثه التاريخية الملتبسة، وما قد يعنيه ذلك من تحيين مستمر لأرشيف (الذاكرة التاريخية) للجماعات السوسيولوجية والمكونات الانثروبولوجية من جهة، وتفعيل متواصل لمخزون (تمثلاتها) الأسطورية والرمزية والثقافية من جهة أخرى. لاسيما وإنها تعيش في مجتمعات أصبحت هي والأزمات البنيوية بمثابة توأم سيامي يتعذر فصل أحداهما عن الآخر، بحيث ان بنية (وعيها الجماعاتي) تبقى حصينة أمام التغييرات الداخلية الطارئة وعصية على الاختراقات الخارجية المفاجئة، التي من الممكن – في حال رجحان كفتها – إحداث انزياحات كبيرة في الأدوار وتبدلات واسعة في الوظائف.

أما بالنسبة لخاصية الإشكالية الثانية المرتبطة بطبيعة (النسق الإيديولوجي) فان دوره لا يقتصر فقط على (اختزال) ثراء جدليات الواقع الاجتماعي الحافل بالخلافات والاختلافات، كما لا يقف عند حدود (تنميط) وعي الجماعات والمكونات بما ينسجم وطروحات المعتقد المؤسسي الذي تبنى عليه الأفكار والتصورات والتمثلات فحسب، وإنما يسهم في (أمثلة) الخيارات والتطلعات ويفضي بها الى الانغماس بالتأملات المخيالية واليوتوبية، بدلا"من التماس النهج المفضي الى المسارات الواقعية والاتجاهات العقلانية. أي بمعنى ان إشكالية (النسق الثقافي) تقودنا الى التمسك بمواريث (الماضي) والرهان على أرصدة قيمه وعاداته وتقاليده ورموزه، بصرف النظر عن مستوى قيمتها التربوية والأخلاقية والإنسانية. هذا في حين ترمي بنا إشكالية (النسق الإيديولوجي) في أتون السرديات المتصارعة والتمثلات المتقاطعة، حيث (المفاضلة) المعيارية – وليس الموضوعية – لصالح هذه على حساب تلك، وبالتالي خنق (الوعي) الاجتماعي وحشره في أطر ضيقة من المزايدات والمناكفات، التي طالما كانت من أسباب استعصاء (التعصب) بين الفكريات واستشراء (العنف) بين الجماعات.

***

ثامر عباس – باحث عراقي

محكومٌ على الإنسان أن يعيش في حدود الثقافة والتجربة واللغة؛ إذ لا يستطيع أن يتجاوز هذه الأصنام المرحلية والمتغيّرة إلّا من كان له نصيبٌ من التأمُّل الحقيقي في الوجود.

من لا يُقدَّس التجربة الوجدانية بوصفها الأصل في بناء المعنى والحقيقة، سيبقى أسيرًا لما يمليه عليه العقل المحض، الذي يُوظَّف لتبرير هذه الميول الطبيعية النابعة من التجارب الخالصة في الحياة.

حين نُسمي الأشياء نظنّ أننا فهمناها؛ لكن الحقيقية أننا - بتراكم هذا الكمّ الهائل من المعرفة البشرية -  صِرنا نقفُ كخصمٍ مباشرٍ للحقيقية.

 عبر تسميات نُلصقها بالموجودات، وإسقاط مقولاتٍ إنسانية عليها، كأن نقول: "الحيوان" ، "النبات"… هذه التسميات بطبيعتها اختزالية، لأنها لا تُدخل هذا الكمّ و الكُل في عالم الوجود تحت تصنيفات ودلالات وظيفية لتسهيل فهم الحياة، وعملية التعليم.

لكن لن تجد من ينتقد كم الإجرام في حقّ هذه الموجودات في الاختلاف، بل وفي التصيُّر والتشكُّل مع الزمن، الذي هو قلب الحركة وثم العالم.

كل هذه البُنى: اللغة، والثقافة، والتجارب، علّمت الإنسان الاتّكاء عليها على حساب التصيُّر الحقيقي، الذي منبعه القراءة الصامتة طويلة الأمد في الموجودات من حيث هي، لا من حيث تصوراتنا اللغوية المبتورة عنها.

 نحن لا نُقصي حقها في الاختلاف فقط، بل أيضًا نقتل حقّنا في التأمُّل المفتوح فيها، لأننا - ويا لخيبتنا - عندما نُلوِّن الموجودات بمعانيٍ معيّنة - نفترض بعدها أنها هي الكلمات، أو التصورات، أو الألوان، التي رسمناها عنها.

ركّز على حالتك التأملية والفضولية حين ترى أيّ ظاهرة لأول مرة، دون أي مقدمات، أو تصوّرات مسبقة، نرى في تلك الظواهر الكثافة التي هي هي! أي: أننا نراها بأقرب إمكان للحقيقة!

وفي الثانية التي نُقرر فيها إعطاءها معنىً معيّنًا، أو تسمية خاصة، هنا نحن نُمارس الغباء على عدّة اصعدة ومنها: أوّلاً، أننا أفترضنا - غطرسةً منا -  أننا فهمنا ما طبيعة هذا الكائن، أيًا كان، أو هذه الظاهرة ودلالتها، وغالبًا ما نعطي الظواهر دلالات إنسانية أكثر منها موضوعية، كون الدلالة مقولة إنسانية لا أكثر! 

وثانيًا، أننا في اللحظة ذاتها نعدم إمكانية التأمُّل والتبصُّر الفضولي الصافي المتجدد لها، لذلك عندما نقول: "صخرة"، دائمًا ما نميل إلى الإدعاء بمعرفة ماهيّتها، رغم أننا نعلم حق المعرفة الآن أن هذا غير صحيح.

 نحن لا نعرف ١٪؜ عن ماهية الشجرة، أو الماء أو كلّ من هذا الكمّ اللانهائي من الموجودات، حتى مع كلّ الفتوحات العلمية التي نحظى بوجودها والأدوات الحديثة التي أتاحت لنا رؤية العجائب في القرون القليلة الماضية.

‏اللغة أوهمت الإنسان أنه فهِم، بمجرّد تسمية الأشياء، لكنها اختزلت المعنى المكثّف وطمست جمال النظرة الأولى المتجددة، فالموجودات أبعد من الألفاظ، وأغنى من التصنيفات اللغويّة القاصِرة.

***

خالد اليماني

 

ليس همنا الأساسي هنا، أن نتحدث عن ضرورة الحدس والخيال، اللذان يتدفق نحوهما الأدباء، ويحملنا هما فوق الأعناق، لأن العامة تعجز فعلا عن تذوق، وتدبر، واستيعاب نصوص أصحاب الانفعال الناتئ الأصيل، دون هذه السلسلة المتصلة، المتباينة، والمتصارعة، من الصور، والأخيلة، والأفكار، التي يتخذها الأدباء سبلاً متفرقة للتعبير عن خلجات نفوسهم، وتتململ غاياتهم تحت عبئها، فنحن حقاً نستوعب تعقيدات الصلابة، والجمود، التي كانت سائدة في العصور الوسطى، ففي تلك الحقب، تكاتفت هذه العناصر، لتزري من قيمة الأعمال الأدبية المحضة، وتضفي عليها هذه الهالة الشاحبة من الضعف والهزال، فتلك الأعمال السمجة، الرتيبة، المملة، التي تماهت مع مجتمعها الصارم، المنظم، الأمر اليقيني، الذي نذيعه في صياغة صريحة سافرة، أنها- على قلتها- لم تكن  تشرح صدر قارئها، أو تضفي على نفسه السرور، لأن من المشكوك فيه تماماً، الظن بأن تقاليد تلك المجتمعات، كانت تتيح لقبيلة الأدباء البذخ، والإسراف، في استنهاض العاطفة، وتجسيد الانفعالات، التي يفيض بها الوجدان، وفي الحق أن هذه الطائفة الملهمة من القرائح، استشعرت أنها قد تحررت من التزامات تعيسة كانت قيداً عليها، فاستهدفت في لهفة السهر والتناوب على طرق هذين العاملين، خاصة في عصور النهضة التي طغت فيها معتقدات النظرة التفاؤلية، التي تؤمن بأن الأدب يجب ألا يكون عبارة عن تخريجات منطقية فحسب، بل لابد أن يحمل بين طياته، قدراً كبيراً من الحس والإلهام، والتوهم والخيال، وكل هذه الباقة الزاهية من الأسباب، التي تثري العمل الأدبي، وتجعل نسائله سليمة لا تمرض أو تموت.

معاطب الحدس والخيال:

 الحدس والخيال اللذان عملا في اتساق، دون أن تظهر عليهما دلائل التعب، من أجل أن تتشعب هذه الأعمال وتمتد، عكفا على التخلص من تلك النزعة الشكلية التي كانت سائدة، وكفلا لتلك الأعمال الفنية الناصعة، الكثير من الجمال الذي أغنى الأفئدة، و أرضى العقول، لكنهما في عهدنا المعاصر، اختلفت عليهما الأحداث، وتعرضا لطائفة من المحن، بعد أن اتسع نطاق الحدس والخيال، فالحقيقة التي لا ينازعنا فيها شك، أننا أمسينا لا ندرك صورهما، وأشكالهما، بوضوح في وقتنا الحالي، فبعض صورهما مختلطة مضطربة، يعجز حتى التفكير الفلسفي عن حلها.

إن سبيلنا إلى فهم الحدس والخيال في الغالب الأعم،  هي تلك الوسائل التي لا تلتمس "وسائط" لبسط نفوذها علينا، هي الأسس الحقيقية التي تمنحنا تلك الطائفة المتنوعة من التأثيرات التي نحسها، ونحس بضعفنا، وتأزرنا تجاهها، وزيادة في التحديد، هي المشاهد التي تنبض بقوة طاغية، تدفعنا لأن نطلق أحاسيسنا وعواطفنا المتأججة، لتنساب في الطريق السوي لها، ولعل من الأهمية بمكان، ملاحظة أن نزعة الاغراق في الحدس والخيال، لم تعد تراعي أهمية البناء  الطبقي للأعمال الأدبية التي تحتوي  -بطبيعة الحال- على فكرة، ولفظة، وتركيب، ودلالة، ومعنى، واحالة، فأضحى الحدس والخيال، من أهم ساحات الجدل الكبرى، لأنهما سبب هذه التحولات التي نميل إلى طرحها جانباً، فمن الخطل أن يبقى النص الأدبي تحت سيطرتهما اللدنة، فالسمات الظاهرة الجلية التي تبدو أكثر حدة ووضوحاً في الأدب الخيالي الطاغي على الساحة الأدبية الآن، تغول الحدس والخيال في العملية الابداعية،   التي من المفترض أن تستحوذ  على عواطف الناس بصدقها، وتناغمها، وضراوتها، وخيالها الخصب، الذي فيه من الواقع نصيباً لا يمكن الاستغناء عنه،  ففي الحق أن الحدس والخيال، قد صاغ النقاد لهما نمطاً، ومعايير محددة، ينبغي أن يتقيد أصحاب "الخلق الفني" بالقوة الدافعة، والحيوية، التي تثير كوامن النفس، وتحلق بها في فضاءات الوجود، دون أن تقحم هذه الناجمة نفسها على نحو غير ملائم، أو مقبول، في شعاب وآجام تنتقص من جمالية العمل الفني، وتخلق متاهات الاغراق والمبالغة، و الحاجة لاستدعاء هذه التأويلات الثرة، التي تفرض بدورها هذه الأسئلة، التي نطرحها في هدوء، وسكينة، واطمئنان، فقد تعودنا في  مسارات الأدب، وشتى ضروب المعرفة، أن الحقائق لا تأتي من شيء في هذه الدنيا، إلا بعد أن تمر على مجموعة من الأسئلة والاستفسارات، كما أن الغلو في استقصاء الحدس والخيال، يحفز أهل المنطق، ودعاة الواقعية، من أجل فرض التزام صارم ودقيق، يعيد للنص توازنه، ويقيم بنيته، وعناصره، ونواميسه، وسيؤثر هذا التدخل على النص، ويكون له مضاعفاته وصداه.

استئصال هيمنة الحدس والخيال:

إن محاولة فهم أسباب نجاح الحدس والخيال، أو فشلهما، ترتبط ارتباطاً وثيقاً، بالأطر التي وضعها النقاد، والتي تحتم على الأديب أن يكون عادلاً، منصفاً، في زجه لمضامين الحدس والخيال في دائرة نثره أو شعره، على الأديب أن يدرك أن مناط التعريف بالنص الذي يعض على قارحة من الكمال، هو النص الذي أخمد فيه صاحبه لهيب حماسه، فلم يحتوي دفقه الفني على أمشاجاً من الأفكار، والصور الخيالية، التي تعطينا رؤية واضحة عن وقوعه في خطيئة الافراط الكبرى، تلك الخطيئة التي تستدعي منه تقدير التنوع الخصب لمختلف مظاهر النص، حتى يستطيع النقاد وغيرهم، الوقوف على العواطف التي جاشت بها نفسه، هذه بعض المسوغات التي جعلتنا نجِدُ على الحدس والخيال، ونتنكر لهما، ونعد الإقتصاد في تناولهما فضيلة كاملة، في خضم سعار هذه الشهوات الأدبية الطاغية.

ليس بد إذن، من العناية بالحدس والخيال، فنحن لا يذهب بنا الظن مطلقاً في أهميتهما، ولكن يجب علينا عدم المبالغة في استخدامهما، حتى لا يضطر النقاد إلى مهاجمة هذا الشر الذي ينجم عن المغالاة في استخدامهما، فلزاماً على طائفة الأدباء أن ترضخ لما حكم به النقاد، وأن تطوي من أعمالها الفوضى التي يسببها الامعان في الحدس، والجموح في الخيال.

***

د. الطيب النقر

الأحد: 29/6/2025

توطئة: في العصر الرأسمالي المتأخر، ليس الحب علاقة إنسانية خالصة، لقد تحوَّل إلى حلقة في سلسلة الإنتاج الاستهلاكي. المشاعر الصافية التي كان الإنسان يُعبَّر عنها عبر القصائد والأحاسيس المباشرة، صارت تُقاس اليوم بسعر الهدايا وحجم الإنفاق في المناسبات الرومانسية. هذا التحول الجوهري لم يحدث بمعزل عن تحالف الصناعات الثقافية مع آليات السوق، حيث تُوظَّف السينما والإعلان والمنصات الرقمية لخلق احتياجات عاطفية مصطنعة تُترجم مباشرةً إلى مشتريات مادية. يا ترى: كيف نجحت الرأسمالية في اختراق أقدس المشاعر الإنسانية وتحويلها إلى أداةٍ لتعزيز النمو الاقتصادي؟  هذا ما نبحثه في مقالنا.

البنى التاريخية لتسليع العاطفة 

تعود جذور تسليع الحب بالطريقة التي نفهمها اليوم إلى حقبة الثورة الصناعية، حين بدأ الانتقال من اقتصاد الإنتاج إلى اقتصاد الاستهلاك. إبتداءً في القرن التاسع عشر، ربطت الرأسمالية بين المشاعر الرومانسية والسلع المادية عبر اختراع الطقوس الاستهلاكية: "كعيد الحب" الذي أسسته شركات الحلويات الأمريكية في عشرينيات ثم ثلاثينيات القرن الماضي. أستاذ علم الاجتماع المصري أحمد زايد يوضح أن هذا التحول مثَّل "اغتيالاً للعفوية العاطفية"، حيث تحولت الرموز الرومانسية من إبداعات فردية (كتأليف الشعر أو صناعة الهدايا يدوياً) إلى منتجات قياسية تُشترى جاهزةً. 

الصناعة السينمائية لعبت دوراً محورياً في تعميق هذه الظاهرة أيضًا. منذ ثلاثينيات القرن العشرين، روجت أفلام هوليود لنموذج الحب الاستهلاكي عبر تقديم علاقات تعتمد على الهدايا الباذخة والعطلات الفاخرة كعلامات للصدق العاطفي. هذه الصيغة حوَّلت المشاعر إلى سردية بصرية قابلة للتسويق، وخلقت وعياً جمعياً يربط بين قيمة الحب وتكلفة التعبير عنه.

آليات التشيؤ وعواقبه الوجودية

1. تشيؤ المشاعر: تشيؤ الحب (Reification) يعني تحويله من تجربة ذاتية إلى شيء مادي قابل للتملك. تعمل هذه الآلية عبر ثلاث حلقات متداخلة: 

- تطبيع الطقوس الاستهلاكية: تحويل المناسبات العاطفية إلى فرص تسويقية. يوم الحب (فالنتاين) الذي يدر 25 مليار دولار سنوياً، يخلق علاقة شرطية: "الهدية = إثبات المشاعر". الإعلانات تُظهر باستمرار أن إهمال شراء الورود أو الشوكولاتة يعادل إهمال الشريك.  حتى بساطة الخروج مع الأصدقاء أصبح مرتبط بالدفع للمقهى الفلاني أو المطعم المعين، وهذا الربط متعمد في نسيج كل أوجه الثقافة الحديثة، ليست تعبيرًا عن إرادة الفرد والمجتمع الحقيقية، لكن دائمًا إرادة الرأسماليين الذين جعلوا كثيرًا من مظاهر الحياة الاجتماعية قابلة للبيع والشراء والتداول المادي.

- الاستعاضة الرمزية: خاتم الزواج الماسي - وفق تحليل عالمة الاجتماع إيفا إيلوز - لم يعد قطعة مجوهرات، بل تحول إلى "تعبير مادي عن الأبدية" رغم أن 80% من هذه الماسات تُستخرج من مناجم تستعبد العمال! 

2. العواقب النفسية والاجتماعية

ينتج عن هذا التشيؤ تشوهات عميقة في البنية العاطفية للمجتمعات ومنها: 

- الاغتراب العاطفي: يصبح الأفراد غرباء عن مشاعرهم الحقيقية. هناك دراسات عديدة وثقت كيف أن المجتمع الياباني أصبح يربط بين المواعدة وبناء العلاقات على أنها استثمار مكلف إلى الحد الذي وصل بهم إلى العزوف عن الزواج بارقام تصل إلى 40% عند الشباب، مفضلين علاقات افتراضية مع شخصيات الأنيمي!

- تآكل الحميمية: العلاقات الإنسانية تتحول إلى معاملات اقتصادية. تطبيقات المواعدة مثل "Tinder" حوَّلت البحث عن الشريك إلى عملية تشبه التسوق، حيث يُقيَّم الأشخاص بمعايير السوق (المظهر، الدخل، المكانة) لا بالتوافق الوجداني. 

- التوحيد الثقافي للرومانسية: أفلام مثل "Notebook" و"Titanic" الشهرية صدرت نموذجاً عالمياً واحداً للحب، مُهمشةً الأشكال المحلية للتعبير العاطفي. الكاتبة الجرئية الراحلة نوال السعداوي وصفت هذه الظاهرة بأنها إستعمار للخيال الجمعي!

هذه أمثلة قليلة تظهر كيف أن هذه الظاهرة بقدر ما هي حقيقية، بقدر ما هي تسلب روح الإنسانية يومًا بعد يوم، على حساب الكسب ثم الكسب!

خاتمة

التحرر من رأسمالية الحب يتطلب إعادة تعريف جذرية لماهية العاطفة ذاتها؛ الحب الأصيل لا يعرف من خلال اختزاله في القوالب الاستهلاكية السطحية والزائفة، وتتجاوز المفهوم الثنائي عن الحب (ذكر وأنثى)، الحب الحقيقي لا يتطلب الامتلاك، هو حب صادق نابع من الاهتمام والقبول للآخر، ولا بد أن يتجسد في حب الوجود أجمع: الطبيعة والحيوان والإنسان، حينها وفقط حينها ندرك حق الإدراك أن الحب وكل المشاعر الإنسانية المكثفة التي نفهم عبرها عمق وسر وجودنا، لا يُمكن أن تُشترى وتباع في السوق، إنما تبقى دائمًا في قلوب الأحباب كتجربة فردية خالصة مهما كانت بساطتها.

***

خالد اليماني

الإسلام السوبر خلاّق هو الذي يوحِّد بين كلّ الطوائف والمذاهب والأديان ويتجاوزها لبناء مضامين دينية وإنسانوية وفكرية وعلمية مستقبلية يشارك في إنتاجها كلّ فرد من خلال إدراكه وفهمه وبحثه المعرفي وإبداعه. وفقط بالإسلام السوبر خلاّق تولد الأمة الخيّرة والمنتصرة والمُنتِجة للحضارة والعدالة والسلام. الإسلام السابق سوبر خلاّق لأنه يوحِّد بين المذاهب والأديان المختلفة مما يمكّنه من تحقيق السلام. وهو سوبر خلاّق لأنه فعّال في إنتاج الحضارة من خلال مشاركة الجميع في صياغة المضامين الدينية والإنسانوية والفكرية والعلمية مما يمكّنه من تحقيق العدالة الكامنة في المساواة بين الجميع وتفعيل الحريات بفضل مشاركة كلّ فرد في الإنتاج الحضاري. إنه إسلام سوبر خلاّق بمعان ٍ عديدة منها فعّاليته في بناء مضامين دينية وعلمية وفكرية مستقبلية أي متكوِّنة في المستقبل على ضوء إنتاجنا المعرفي والعلمي. هكذا يصبح الإنسان فعّالاً في صياغة الحضارة وتحقيق إنسانيته الكبرى الكامنة في الإبداع الحضاري.

من منطلق الإسلام السوبر خلاّق، نعيد تعريف الإسلام وبنائه من خلال البحث المعرفي والعلمي. وفي هذا فضيلة عظمى للإسلام السوبر خلاّق. فبما أنَّ الإسلام السوبر خلاّق هو الذي يوحِّد بين كلّ المذاهب والأديان ويتجاوزها لبناء مضامين دينية وإنسانوية وفكرية وعلمية مستقبلية يشارك في إنتاجها كلّ فرد، إذن لا يتحقق الإسلام السوبر خلاّق سوى من خلال البحث المعرفي والعلمي الضروري لإنتاج مضامين دينية وفكرية وعلمية وإنسانوية مستقبلية. هكذا يُبنَى الإسلام السوبر خلاّق من خلال الإنتاج العلمي والإبداع المعرفي والمشاركة في صياغة الحضارة الإنسانية. من هنا، تتكثر فضائل الإسلام السوبر خلاّق كفضيلة ضمان الإنتاج الحضاري والإبداع الإنساني والمشاركة في البحث العلمي والمعرفي.

من فضائل الإسلام السوبر خلاّق أيضاً فضيلة أنه يحرّرنا من الماضي من دون إلغائه. وبذلك الإسلام السوبر خلاّق يضمن حرية كلّ فرد واحترام التراث وتقديره في آن. فحين يصبح الإسلام سوبر خلاّقاً من خلال التوحيد بين كلّ المذاهب والأديان وتجاوزها، عندئذٍ نتحرّر من الماضي بفضل فعل التجاوز. ولكن في الوقت عينه نحافظ على التراث ونحترمه ونطوّره من خلال عملية التوحيد المنطقية والعلمية بين كلّ المذاهب والعقائد والأديان كما وَرَدت في الماضي. هكذا الإسلام السوبر خلاّق يحرّرنا من الماضي من دون إلغائه. وبما أنَّ الإسلام السوبر خلاّق هو الذي يوحِّد بين المذاهب والأديان ويتجاوزها من أجل بناء مضامين دينية وإنسانوية وفكرية وعلمية مستقبلية، إذن يضمن الإسلام السوبر خلاّق استمرارية التطوّر من جراء التوحيد المنطقي والعلمي بين المذاهب والأديان وإنتاج مضامين فكرية ودينية وعلمية جديدة حائزة على قدرات ناجحة في التوحيد السابق.

أما الفضيلة الأسمى للإسلام السوبر خلاّق فهي ضمان سيادة الإنسانوية الكامنة في قبول الآخر وتحقيق السلام العالمي. فمتى كان الإسلام سوبر خلاّقاً من خلال التوحيد بين المذاهب والأديان المختلفة، حينها نقبل الآخر وإن اختلف عنا في معتقده وسلوكه بفضل وحدة العقائد والمذاهب واتحادها مما يؤدي إلى السلام العالمي. وبقبول الآخر تتحقق الإنسانوية الهادفة إلى احترام حقوق كلّ فرد كحقه في أن يحيا وحقه في أن يكون حُرّاً ومستقلاً. فحين يكون الإسلام سوبر خلاّقاً من خلال التوحيد بين كلّ المذاهب الفكرية والعقائدية والأديان المتعدّدة، عندئذٍ تتساوى كلّ المذاهب الفكرية والعقائدية والدينية فنقبل الآخر ونحترم حقوقه الإنسانية كافة كحقه في الحياة وحقه في الاختلاف والتطوّر.

***

حسن عجمي

 

المُثقّف العربي هو فردٌ من المجتمع، ويحمل الهموم شأنه شأن أي مواطنٍ آخر، ولكن المثقف والمفكر العربي يُعاني من ضغط التحديات أيّاً كانت، وأيّاً كانت أيديولوجيتة أو توجّهاته الفكرية أكثر من أي مواطن عادي آخر.

حيث أن المُثقّف أكثر وعياً وأكثر ثقافة وهذا يجعله يلتزم بقضايا الناس بشكلٍ عام، وبضمير الأمّة، واستحقاقاتها، والعيش الكريم لكل مُكوّنات المجتمع.

المثقف واضحاً في مجال أنشطته السياسية والفكرية، وأكثر وضوحاً في مجال النشاط الإنساني.

ومع الأسف إن العرب يفتقدون الدور الإيجابي تجاه كل المستجدات والمتغيرات، والتي تؤثّر مباشرة على الدور الذي يجب أن يقوم به المثقف العربي.

فنحن نعيش حالة ممارسات وسلوكيات في غاية الإنفصام، وخطيرة جداً لحاضرنا ومستقبلنا.

فما يدور في العالم، وما يحدث حولنا وكأنه لا يعنينا، وكأن ما يحدث هو في كوكبٍ آخر.

على المثقف العربي أن يتحرك بإيقاعٍ متسارع، يستطيع من خلاله تحقيق التراكم الثقافي المطلوب، والولوج الواعي والإيجابي مع كل ما يدور حولنا وعلينا، كي نستطيع أن نحقق مع مجتمعاتنا حركة فاعلة في عملية السمو الإنساني. ومواجهة الخطر الجدي المعمول به على أرضنا العربية، وهو سيادة النبرة الواحدة في كافة أنظمة الحكم، وتجاهل وتهميش كل الآراء والدعوات والأصوات الأخرى التي لا تتجانس مع خطاهم، وهذا منتهى التسلط والقهر والقمع والإقصاء، كما يواجه أيضاً الخطاب الحكيم للمثقف العربي والمفكر العربي، والمُتّسم بالعلم وصوت العقل وحرية الفكر.

نُدرك تماماً أن المثقف والمفكر العربي يواجه تحدياتٍ مصيرية ينبغي التخلّص منها بهدف حماية الإنسان والأوطان والأمّة، وهذا لن يكتمل أو يتحقق إلاّ إذا تعزّز التواصل بين المفكرين والمثقفين من جهة وبين المجتمع من جهةٍ ثانية.

حيث أن سلوك الدول العربية يعتمد بشكلٍ أساسي على منابع التبعية في المقام الأول، وعلى تهميش وقمع المواطن في المقام الثاني، كي لا يعلو صوت الحق على ثقافة وسياسة وسلوك الأنظمة.

لذا أمام المفكرين والمثقفين والكتاب العرب الإنصهار الفعلي مع قضايا الإنسان والأمّة، ومع كافة التحديات، بغض النظر إن كانت داخلية أو خارجية، وصناعة ثقافةٍ حقيقية تستند إلى آفاق ثقافية وفكرية جديدة تتناسب مع معطيات العصر المُعاش.

من المعروف أن المجتمع هو الذي سهّل ومنح المثقفين والمفكرين العرب دورهم الأساسي لخدمة قضايا المجتمع، وإصلاح بوصلة المسار حينما تشذّ في الملمات.

إنّ الحوار والإبداع في الإقناع أدوات مهمة ومؤثّرة جداً في إصلاح أي خللٍ وخاصّة في هذه الآونة، حيث أن الخلل بمثابة عوامل رئيسية تمسّ السياسة والاقتصاد والمجتمع والقيم والثوابت.

على المثقفين والمفكرين العرب أن يأخذوا دورهم الفاعل وأن يُطلقوا العنان لقلمهم الحر " إن كان حراً "، والمساهمة الفاعلة لحل الأزمات والانحرافات التي تواجه الأمّة.

إن دور المثقف والمفكر العربي هام جداً، وعليه تسمو الأوطان والأمة، وبالتالي يرتقي الإنسان العربي، إن ترسيخ قيم العدالة والبناء، وإعمار البلاد، بوابة يتم من خلالها طرق مستقبل الأمة والشعوب، فيما إذا تم توظيف الموروث الفكري والثقافي بشكلٍ سليم وبمختلف مجالاته الأدبية والسياسية والفقهية والفلسفية والإعلامية، من أجل التصدي الفاعل لكافة الأخطار التي تداهم الأمة من كل صوب وجانب وأصحاب مراكز القوى نائمون، وإعادة اللحمة العربية والتوحّد والتماسك ونبذ الخلافات الوهمية المفتعلة.

هنا يبرز دور المفكر العربي والمثقف العربي من خلال الحفاظ على هويّة الأمّة، وإرشاد الأوطان إلى مكامن قوتها، وكشف عورات حقيقة العدو الخارجي واسترشاد سبل التغلب عليه، والاعتماد على مكامن قوته وضعفه، والعمل الجاد في تعزيز دور المجتمع في الدفاع عن ثوابت وقيم الأمة ومقدّساتها، وتوظيف التجارب والمحن التاريخية لكافة الأمم لخدمة الواقع وبالتالي استنتاج الدروس والعبر.

الذاكرة العربية الثقافية والسياسية والفكرية قولاً واحداً لن تنشط بدون جهود الكتّاب والمفكرين العرب، وبدون تحمّلهم المسؤولية بشكلٍ فعلي، فمن خلال نشاطهم وجهدهم نستطيع أن نصل إلى ما نحتاج إليه من التطوير الشامل، لإعادة تنشيط المسار الاجتماعي نحو الرقي والسمو لإعادة تنشيط ذاكرة الأمة الفكرية والثقافية والسياسية، وتعزيز التوجّهات والرؤى التي تتوافق مع العقل العربي والفكر العربي الهادف إلى مواجهة كل التحديات والسمو بالمفهوم الإنساني والوطني والقومي.

لو تأمّلنا جيداً في التاريخ العربي يتأكّد لدينا إن تردّي الثقافة والمثقفين والمفكرين العرب لا يمتّ بصلةٍ إلى السمات العربية، فعلى المثقفين العرب أن يتخلّوا عن الإيديولوجيات الهدامة للأوطان وللإنسان، ليكونوا أو ليتحولوا فعلياً إلى مواكبين فاعلين لقضايانا المعاصرة، لنكون على بيّنةٍ حول ما يُخطط لنا الآخرون، وليكون المثقف العربي عنصراً فاعلاً في وعي المجتمع وانطلاقته، وعلى الأنظمة أيضاً أن تقوم على الفكر والثقافة للنهوض بمواطنيها على مختلف كوادرهم ومكوّناتهم في مختلف مجالات الحياة، وأن تعتمد وبشكلٍ جدي على المثقفين والمفكرين والحكماء ورجالات الأوطان، بهدف إصلاح المسار نحو السيادة والنمو والرقي والحضارة بمعناها العريض.

آخذين بعين الإعتبار أن الكيان الصهيوني كي يبتر أفكار المواجهة بين أجهزة الأنظمة العربية وبين الحركة الصهيونية، طرح أفكار ومفاهيم ضمن إطار " مفهوم المعايشة " مع العرب، من خلال اتصالات ومخططات بدعمٍ أمريكي، بهدف إلغاء كل المفاهيم القومية السابقة، ومفاهيم العروبة والإسلام، وإدخال أفكار جديدة مثل الشرق الأوسط الجديد، وهذا السلوك الصهيوني يُحوّل المجتمع العربي إلى لوحاتٍ تشكيلية فقدت أبعادها و متناحرة و متنافرة، وقتل التطلعات العربية حول المصير المشترك، وتطلعاتها نحو السيادة والقوة، بل حتّى في الوجود.

السياسة الصهيونية تفرض على إسرائيل أن لا تقبل بأي توافق بينها وبين الشعب العربي، إنطلاقاً من نظرة الاستعلاء العرقي التي تتملّكها، و بهدف تفتيت الموقف العربي والإسلامي أكثر، طرحت الصهيونية فكرة إنطواء الجميع تحت الحركة الإبراهيمية، ومن هنا نرى مدى خبث وضراوة الفكر العدائي الصهيوني تجاه العرب، ومع الأسف تحلّت الأنظمة العربية بسوء الفهم، وبسوء إدراك توقعات الخطر القادم الذي سيداهمنا جميعاً.

وأيّاً كانت الأمور فإن الصراع العربي الإسرائيلي سيبقى أمام الشعوب صراع وجود، وليس صراعاً على الحدود ليس إلاّ، رغم أن الكيان المحتل يتوسّع ويبتلع أراضي فلسطين، وها هو يبتلع الجولان وبقايا فلسطين المحتلة، وأراضٍ سورية جديدة، وراء ذلك أراضٍ عربية أخرى قد تصل إلى عمق السعودية، ولبنان ومصر والأردن وسورية والعراق كما هو مخطط، والمخفي أعظم.

دوماً الشعوب هي التي تدفع الثمن، ودوماً هي التي تدفع ضريبة غباء وتبعية أصحاب القرار على الساحة العربية.

الأنظمة العربية ومنذ سنواتٍ طوال وهي تقود الأمّة المترامية الأطراف وشعوبها إلى حافةِ الهاوية من خلال سياسة التردّي المعمول بها، وبكل تأكيد إن كل محاولات تصحيح المسار كانت فاشلة، بسبب أن كل أصحاب مراكز القرار العربي مرتبطة بشكلٍ مباشر بسلسلةٍ من التبعية للخارج بطرقٍ مختلفة، متجاهلة كل إمكانيات الأوطان والأمة والشعوب العربية، وكل قيم السيادة والتحرر والاستقلال.

لذا على أقلام الأدباء والمفكرين والكتّاب الوفيّة لقيمها وثوابتها أن تأخذ دورها الاجتماعي الفاعل بهدف خلق نظامٍ عربي قادرٍ على مواجهة كل الضغوط السياسية بكل أبعادها الاقليمية والدولية، وإيجاد نظامٍ تربوي وتعليمي جديد يتوافق مع استراتيجية عربية واضحة المعالم للنهوض بالإنسان العربي والأوطان العربية، ونشر الثقافات العلمية والاستفادة المباشرة من كل خبرات الشباب والاخصّائيين بعيداً عن سياسة الإقصاء، والتوقّف الجاد عن عرقلة إبداع ومواهب الأجيال في المجتمع العربي، والعمل بثقافة الإحساس الفعلي بكرامة المواطن وسيادته، والاعتماد على ثرواتنا وامكانياتنا والمتوفّرة على كامل امتداد الساحة العربية، واستنهاض البحث العلمي والاستفادة من العلماء العرب للمشاركة في نهضة الأمّة وسيادتها، وإطلاق الحريات وامتلاك الإرادة السياسية، وهذه الأمور تتطلّب توفير كامل البنى التحتية، ومنح المكانة اللائقة لكافة المفكرين والعلماء، إن الإشادة بالعلماء العرب وهم في الخارج لا يفيدنا، ما دامت الأمّة لم تستيقظ بعد من غفوتها، والجهل يقطن كل جوانحها، وكل جوانبها الفكرية.

إنّ الحكّام العرب يتحمّلون كامل مسؤولية ما نحن فيه، بنفس الوقت كان بإمكانهم لو أرادوا رسم مسارات ايجابية وخلاّقة فيما يخصّ الإنسان والأمّة، كما فعلت دول العالم الأخرى، بهدف أن نكون أمّة حقيقية كما نرغب ونروم، لا كما يُراد ويُخطط لنا.

إنّ ما نروم إليه أمام هذا الوضع العربي المأساوي هو تضافر جهود المفكرين والمثقفين العرب، وتحمّل مسؤولياتهم الوطنية والإنسانية من أجل نظامٍ عربي حضاري قادر على مواجهة هيمنة الدول الأخرى علينا، وبتر كل سياسات التبعية العمياء، التي دمّرت المواطن والأوطان، والعمل وفق نظامٍ ديمقراطي يكفل التعددية والتداول السلمي للسلطة بدون خوفٍ أو تردّد، من أجل إحياء كرامة المواطن وسيادة الوطن.

ألم يستفيق العرب بعد؟.

ألم تخرج أقلام الأدباء والمفكرين العرب من حالة السبات الذي ألمّ بها؟.

هل ستبقى الأمّة مستسلمة لسباتها حتّى يُدمّر كلّ ما تبقّى من الكرامة العربية والوجود العربي؟.

أمامنا دربٌ لا مفر منه، والخيارات أمامنا، إمّا أن نبقى، أو أن نبقى، مهما حاول السفهاء من تمرير أجندتهم، ومهما حاولت أشباه الأقلام من تشويه الحقيقة أمام الجميع زوراً وبهتاناً.

عندما تضيع الفروق بين الاعتقاد الحقيقي وبين النفاق، وبين الثبات على المبدأ أو الثبات على المبلغ، يفقد المثقفون وأهل الرأي والمفكرون مصداقيتهم في أعين الناس، أمّا عندما تظهر الفروق ويظهر الذين ينتصرون للحرية والديمقراطية وحرية الرأي، يستعيد المثقفون والمفكرون وأهل الرأي والحكماء مصداقيتهم في العمل على التغيير والتحرر من المطبّات السلطوية وتنمية المجتمع بشكلٍ عادلٍ وسليم بعيداً عن النفاق والتسلق والدجل والعهر السياسي.

وبكلِ تأكيد إذا لم نستطع التحرر من تبعيتنا العمياء، وإذا لم نصحو قبل فوات الأوان، فإن السفينة ستغرق بمن فيها.

***

د. أنور ساطع أصفري

تعتبر السرديات التاريخية أداة قوية في تشكيل الوعي الجمعي للأمم. من خلال سرد الأحداث التاريخية، يمكن تشكيل الهوية الوطنية، وتعزيز القيم الثقافية، والتأثير على المسارات السياسية.  يشير تسويق الوهم الى استخدام السرديات لتشكيل تصورات غير دقيقة أو مبالغ فيها عن الواقع، بالتالي يمكن أن تكون هذه السرديات مُصممة لتعزيز مصالح معينة، سواء كانت سياسية أو اقتصادية، يستخدم التحليل الظاهراتي لفهم التجارب الإنسانية من منظور الأفراد، لذا يمكن تحليل كيفية تأثير السرديات التاريخية على إدراك الناس للأحداث.

كيف تُشكل السرديات التاريخية الهوية الوطنية

يمكن دراسة دور السرديات في بناء تصورات اجتماعية حول الماضي من خلال بعض الأوهام الشائعة، ان تحليل السرديات التي تسوق لأوهام يتطلب دراسة هذه السرديات التاريخية وآلية تسويق الوهم فيها وفهمها فهما عميقا للوصول الى معرفة كيفية تأثير هذه السرديات على المجتمع والافراد، من خلال التحليل الظاهراتي، يمكننا استكشاف التجارب الإنسانية وفهم كيف يمكن أن تؤثر على تشكيل الواقع، التاريخ المكتوب معظمه منقول شفاهيا وكذلك هي الاساطير لذا يمكن اعتبار كل منهما سرديات باطار ظاهراتي منمق بالنظر رغم ان التاريخ يركز على الاحداث لكن التأويل يلعب دورًا محوريًا في فهم العلاقة بين التاريخ والأسطورة وهو  الذي يساعد على استخراج المعاني العميقة من الأحداث التاريخية والأساطير، ويتيح فهم السياقات الثقافية والدينية التي نشأت فيها السرديات التاريخية كما يتيح ربط النصوص التاريخية والأسطورية بالسياقات الاجتماعية والسياسية، وفهم العلاقة المعقدة بين التاريخ والأسطورة.

تسويق الوهم فلسفيا

تسويق الوهم يرتبط بنشر أفكار أو معتقدات غير صحيحة تعطل القدرة على التفكير النقدي، يسهم هذا في تعزيز الاتكال على الأعراف بدلاً من البحث عن الحقائق، عندما يُقبل الوهم كحقيقة يصبح الأفراد أقل قدرة على تحليل المعلومات وفهمها بموضوعية، ان ترويج الأفكار السهلة وغير الصحيحة يُعزز من حالة الانغلاق الفكري، حيث يُفضل الأفراد الأجوبة السهلة والمريحة بدلاً من التعامل مع التعقيدات ، الاعتماد على الأعراف الثقافية أو التقاليد يُعزز من السرديات غير العلمية، مما يؤدي إلى تجاهل الأدلة والحقائق ،مما يعزز من السلوكيات غير النقدية ،ان انتشار الوهم يؤثر على الابتكار لذا  يتطلب الفهم الفلسفي العميق للعالم انتقاد الأفكار السائدة والبالية، وتحدي الأعراف غير الصحيحة ، يتطلب هذا جهدًا جماعيًا لتعزيز التفكير النقدي والبحث عن الحقيقة.

الفضول غريزة متميزة لدى الانسان

الفضول يدفع الفرد للبحث عن معلومات جديدة وطرح أسئلة، الفضول يعزز التفكير النقدي ويقلل من قبول الحقائق غير المدعومة، الأفراد الفضوليون يميلون إلى السعي وراء الأدلة والتحقق من المعلومات، مما يجعلهم أقل عرضة للاقتناع بالسرديات الخاطئة كما يعزز القدرة على تحليل المعلومات بشكل أعمق، الذي يساعد في تمييز الحقائق عن الأوهام، كما ان الفضول يشجع على التفكير الإبداعي والابتكار، مما يمكن الأفراد من إيجاد حلول جديدة بدلاً من الاعتماد على الأفكار التقليدية أو الوهمية ،كذلك يدفع الأفراد لتجربة أفكار جديدة والتعلم من الأخطاء، ويقلل من الاعتماد على معلومات تقليدية الذي يقلل من احتمال التسليم بالأوهام، يعتبر الفضول قوة دافعة نحو المعرفة والفهم، مما يجعله عائقًا أمام تسويق الوهم. السرديات التاريخية تحوي أحداثا تثير الفضول المعرفي وتحتاج إلى تفسير ثقافي مثل الحروب العالمية أو النزاعات الإقليمية كما تحتاج إلى تحليل ثقافي لفهم دوافعها وتأثيراتها على المجتمعات مثل سرديات الثورة الفرنسية*، الربيع العربي او محاربة الإرهاب*، كذلك اثارة أسئلة حول الأسباب الثقافية والاجتماعية التي أدت إليها، تحتاج هذه الأحداث إلى تفسير ثقافي لفهم تأثيرها العميق على المجتمعات والافراد، ان تعزيز الفضول المعرفي حول هذه السرديات يمكن أن يسهم في بناء وعي تاريخي أعمق.

السرديات التاريخية وتشكيل الوعي الجمعي

الأساطير تلعب دورًا حيويًا في تشكيل الوعي التاريخي الجمعي من خلال تقديم تفسيرات، تعزيز الهوية، توجيه السلوك، وتدوين الأحداث التاريخية، فهم هذا الدور يمكن أن يساعد في تعزيز الوعي الثقافي والتاريخي في المجتمعات، ان تمييز الأسطورة عن الحقيقة في النصوص التاريخية القديمة يتطلب تحليلًا دقيقًا وشاملاً، يجمع بين الأدلة التاريخية والنقد السياقي، من خلالها، يمكننا الوصول إلى فهم أعمق للحقائق، الظاهراتية تركز على فهم التجارب الإنسانية وكيفية تشكيل الأفراد لمعانيهم من خلال تجاربهم. في هذا السياق، تسويق الوهم يمكن أن يُعرف كظاهرة تتعلق بكيفية إدراك الأفراد للسرديات التاريخية وكيفية تفاعلهم معها، هل هو بناءً على تجاربهم الشخصية ام قيمهم الثقافية الذي يمكن ان يؤدي إلى قبول أوهام معينة، يلعب تسويق الوهم دورا مهما في الشعور بالانتماء إلى مجموعة معينة من خلال سرديات وهمية تستند إلى ماضي مشترك بالنظر الى ان بعض السرديات التاريخية تُسوق كحقائق مطلقة، مما يُعطل التفكير النقدي ويعزز الوهم لدى الأفراد. ان التركيز على سرديات معينة يؤدي إلى تهميش أو تجاهل الأحداث الحقيقية أو الآراء البديلة ويؤثر على الهوية الجماعية، حيث يمكن أن يُعزز المفاهيم الخاطئة حول الماضي، الإدراك العاطفي والتعلق بالسرديات التي تسوق للأوهام باستخدام مشاعر معينة، مثل الفخر أو الخوف، يؤثر بشكل كبير على السلوكيات والمواقف. في عصر المعلوماتية يمكن أن تُستخدم سرديات جديدة لتسويق أوهام جديدة، مما يستدعي إعادة التقييم من منظور ظاهراتي. تسويق الوهم يمثل حالة ظاهراتية واضحة في السرديات التاريخية، اذ يتفاعل الأفراد مع هذه السرديات بناءً على تجاربهم واحتياجاتهم الثقافية، فهم هذه الديناميات يمكن أن يساعد في تعزيز التفكير النقدي وإعادة تقييم التاريخ بشكل أكثر دقة رغم ان مقاومة تسويق الوهم في السرديات التاريخية يتطلب جهدًا متواصلًا.

التحليل الظاهراتي ودوره في كشف الوهم

يركز التحليل الظاهراتي على كيفية تشكيل الأفراد لمعانيهم من خلال تجاربهم، مما يساعد في فهم كيفية قبولهم أو مقاومتهم للسرديات التاريخية ويتيح فهم التأثيرات الثقافية والاجتماعية التي تسهم في تسويق الوهم، مما يساعد في كشف الأبعاد الخفية لهذه السرديات، يمكن للتحليل الظاهراتي أن يساعد في تحدي السرديات التاريخية السائدة من خلال تحليل المعاني التي يُعطيها الأفراد لتلك السرديات ويساهم التحليل الظاهراتي في فهم كيف تؤثر السرديات التاريخية في تشكيل الهوية الجماعية، وما إذا كانت هذه السرديات تعزز الوهم أو تعكس الحقائق ،يمكن أن يؤدي التحليل الظاهراتي إلى تقديم وجهات نظر أكثر تنوعًا تساعد في كشف الأوهام مقارنةً بالسرديات التاريخية التقليدية، التحليل الظاهراتي يعد أداة فعالة لفهم كيف تسوق السرديات التاريخية الأوهام، من خلال دراسة التجارب الفردية والسياقات الثقافية، من خلاله يمكن تعزيز الوعي النقدي ومواجهة تسويق الوهم بشكل أفضل، بينما يقدم التحليل الظاهراتي رؤى قيمة حول تسويق الوهم، فإنه يأتي مع حدود تتعلق بالتركيز على التجارب الفردية وصعوبة التعميم.

***

غالب المسعودي

.........................

*الثورة الفرنسية.. ما وراء التاريخ والسياسة - صحيفة الرأي

* الثورة الفرنسية - ويكيبيديا

الثورة الفرنسية أكبر كذبة في التاريخ الحديث - Wiki Akhbar – SCSC

مكافحة الإرهاب - ويكيبيديا

إرهاب – ويكيبيديا*

ﻣﮐﺎﻓﺣﺔ اﻹرھﺎب ﻓﻲ ﺗوﻧس: طرﯾق ﻣﻣﮭّدة ﺑﺎﻟﻧواﯾﺎ اﻟﺣﺳﻧﺔ

حين تطرق المعاناة بابك، لا تسألها: “لماذا أتيت؟” بل اسأل نفسك: “هل أنا مستعدّ لأن أستمع؟”. نحن لا نُجرح من الألم، بل من محاولتنا الدؤوبة للهروب منه.

نعيش في عالم يحترف الترفيه والتخدير، ويقدّم لكل ألمٍ تطبيقًا أو حبة دواء أو وعدًا بـ”السعادة الفورية”، بات الحزن فيه  شعورًا غير مرحّب به، والغضب علامة ضعف، والقلق مشكلة يجب التخلص منها حالًا. لكن ماذا لو كانت هذه المشاعر، بكل ثقلها وحرارتها وتناقضها، ليست خطأً يجب إصلاحه، بل رسالة يجب الإصغاء لها؟

ماذا لو كان الألم – لا السعادة – هو بوابتنا الأصدق لفهم الذات؟

الألم ليس عدواً.. بل زائرا

في الفلسفات الشرقية، خصوصًا في التعاليم البوذية وأطروحات إيكهارت تول، يُشبَّه الألم بالضيف الذي يطرق الباب. لا يأتي ليؤذيك، بل ليكشف لك شيئًا ما. لكن ما نفعله غالبًا أننا نغلق الباب بإحكام، ونضع كرسياً خلفه، ونرفع صوت الموسيقى حتى لا نسمع طرقه.

هذه المقاومة لا تُبعد الألم، بل تجعله يتمترس فينا بشكل أعمق. إن محاولاتنا لتجنّب الحزن، لإنكار الغضب، لكبت الخوف… لا تلغي هذه المشاعر، بل تعلّمها كيف تتخفّى. وما يتخفّى لا يرحل، بل يتربّص.

كتب عالم النفس الشهير كارل يونغ:

“ما تقاومه، يستمر.”

إنها جملة تختصر مأساة الإنسان المعاصر الذي يقاوم كل شيء، ثم يتساءل: لماذا يستمر كل شيء؟

القبول: ليس استسلامًا، بل بداية التحرر

القبول لا يعني الخنوع. ليس أن تقول: “هذا قدري وسأتحمّله بصمت”، بل أن تقول: “هذا شعوري الآن، وسأستقبله كما أستقبل صديقًا جاء يخبرني بشيء مهم”.

عندما نقول “أنا غاضب”، فنحن نكون في حالة اندماج مع الغضب. لكن عندما نقول “أنا ألاحظ شعورًا بالغضب في داخلي”، فإننا نخلق فجوة صغيرة. هذه الفجوة هي بداية الوعي، بداية الحضور، بداية الفصل بين الذات وبين الشعور، حيث يصبح الشعور ضيفًا لا سيدًا. وفي هذه المسافة الصغيرة، يحدث كل الفرق.

يحدث السلام

المشاعر ليست دائمة… لكنها تطلب أن تُرى

لنتأمل الأطفال قليلاً: يبكون، يغضبون، يصرخون، ثم يعودون للعب. لماذا؟ لأنهم لم يتعلموا بعد كيف يكبتون مشاعرهم. كل شعور يظهر ثم يرحل، لأنه نال حقه في الظهور.

لكننا، كبالغين، تعلمنا كيف نخزّن المشاعر، نضعها تحت السرير، خلف الابتسامات الاجتماعية والردود الأوتوماتيكية. نقول “أنا بخير” ونعني عكس ذلك. نُخفي وجعنا حتى عن أنفسنا.

وهنا تحدث الكارثة: ما لم يُعاش، يتكرّر.

وما لم يُعطَ مساحة، يتحول إلى ألمٍ مزمِن.

لا دواء للوجع سوى الإصغاء له

يخبرنا تارا براخ، إحدى رائدات التأمل في الغرب، عن تقنية تُسمى R.A.I.N. (تعني المطر)، وهي اختصار لأربعة مراحل للتعامل مع المشاعر الصعبة:

- Recognize: التعرّف على الشعور (أنا أشعر بالحزن الآن).

- Allow: السماح له بالتواجد (لا مشكلة في أن أشعر هكذا).

- Investigate: التحقق برفق (من أين يأتي هذا الشعور؟ ما حاجتي الآن؟).

- Nurture: الرعاية (أتحدث لنفسي بلطف، لا بلوم).

إنها دعوة للجلوس مع الألم، لا لمواجهته، بل لمرافقته.

تمامًا كما لا يمكنك أن تطرد الغيوم من السماء بالقوة، لا يمكنك أن تطرد الحزن من قلبك بالعنف.

مقاومة ما هو كائن… صراعٌ خاسر

حين نقاوم الواقع، نحن لا نغيّره، بل نضاعف ألمه. الألم جزء من الحياة، لكن المعاناة هي ما نضيفه إليه حين نرفضه.

إن مرضًا جسديًا قد يسبب ألمًا، لكن مقاومته بالغضب أو الإنكار أو الخوف، تحوّله إلى معاناة.

إن خسارة شخصٍ نحبه تُحزننا، لكن إنكار ذلك الحزن ومحاولة التظاهر بالقوة، يزيدان الجرح عمقًا.

كما قال المعلم الروحي أدياشانتي: “الحقيقة تحررنا فقط عندما نتوقف عن مقاومتها.”

الألم كمعلم

ما نعتبره “أزمة” قد يكون درسًا متنكرًا.

ما نظنه “نهاية” قد يكون بداية صامتة.

ما نخشاه أكثر… قد يكون ما نحتاج إليه لنتحوّل.

هل من السهل أن نقبل الحزن؟ لا.

هل من السهل أن نستقبل القلق دون أن نحاول إصلاحه؟ بالتأكيد لا.

لكن القبول لا يعني الراحة، بل الشجاعة.

أن تقول لنفسك: “سأجلس مع هذا الألم، لن أهرب هذه المرة.”

في الختام:

كل شعورٍ ترفضه… سيطرق الباب مرة أخرى.

كل وجع تنكره… سيتنكر في صورة أخرى.

وكل مقاومة… هي استمرارٌ للمعاناة.

أما القبول؟

فهو المصباح الأول في طريق التعافي.

هو اليد التي تفتح الباب وتقول:

“مرحبًا أيها الألم… أنا هنا الآن. ولن أهرب.”

***

بقلم الكاتب: يونس الديدي كاتب مغربي متخصص في الشؤون الاجتماعية والسياسية

توطئة: تُشكِّل «التكرارية» العمود الفقريَّ لبنية الوعي الجمعي في المجتمعات البشرية، حيث يعمل كآلية يصعب إدراكها، وتنسج خيوطَ المعتقدات والقيم عبر الزمن. في السياق العربي الإسلامي، تتحول الأفكارُ المجردةُ إلى مسلَّمات راسخة عبر دورات متعاقبة من الممارسات اللفظية والطقوسية التي تتغلغل في الحياة اليومية، من خطب الجمعة إلى المناهج التعليمية ووسائل الإعلام. هذه الظاهرة لا تقتصر على الجانب الثقافي الظاهر، لكنا أيضًا تمتد إلى أعماق البنى العصبية للإنسان.

تُظهر دراسات العلوم العصبية الحديثة أن التكرار المستمر لأي فكرةٍ يُقلل نشاطَ الفص الجبهي الأمامي (Prefrontal Cortex) المسؤول عن التفكير النقدي والتحليل المنطقي، مما يحوِّل المفاهيمَ إلى عادات ذهنية تلقائية تُمارَس دون تمحيص.¹

هذه الآلية تفسر ظاهرة الجمود الحضاري التي تعاني منها الأمة العربية، حيث تتحول المفاهيم الدينية والتراثية إلى قيود فكرية تُعيق عملية التجديد والتقدم. فمصطلحات مثل "الثوابت" و"المقدسات" و"الهوية" وتكتسب قداستها من كثافة ترديدها في الخطاب اليومي، مما يخلق وهمَ الثبات التاريخي. هنا يبرز التحدي المركزي: كيف يمكن تحويل التكرار من أداة لتجميد الوعي إلى آلية للتجديد الحضاري؟

المناقشة

أولاً: الآليات التشريحية للتكرارية في البيئة العربية

1. التكرار اللفظي وتجميد المفاهيم:

تعمل هذه الآلية عبر تحويل المصطلحات إلى أنماط مغلقة تُمارس سلطتها بمجرد تداولها. في تحليلٍ كميٍّ لـ 2000 ساعة بثّ في القنوات الدينية العربية، تبيَّن أن مصطلحات مثل "السلف الصالح" و"الثوابت الدينية" تُذكر بمعدل 8 مراتٍ أكثر من مفاهيم النقد والتجديد مثل "إعادة النظر" أو "التأويل التاريخي".² هذا التكرار يُنتج وعياً زائفاً بثبات المفاهيم، ويُحوِّل التراثَ من إرثٍ تاريخيٍّ قابِل للتفسير إلى كيان مقدس معزول عن الزمن.

2. التكرارية على صعيد النظام التعليمي:

تُعد المنظومة التعليمية العربية حاضنةً رئيسةً لهذه الآلية، حيث تعتمد على تلقين المتون القديمة دون فسح المجال للتفاعل النقدي. تشير بيانات منظمة اليونسكو (2023) إلى أن 75% من مناهج الفلسفة في الجامعات العربية تُدرَّس كموادَّ للحفظ والتلقين، بينما لا تتجاوز حصصُ التفكير النقدي والتحليل 10% من المحتوى التعليمي.³ هذا النهج يحوِّل التراثَ إلى "نصوصٍ مقدسةٍ" تُحفظ كما تُحفظ الآيات، مما يقتل روح المساءلة الفلسفية ويُنتج أجيالاً تعامل الأفكارَ كمسلماتٍ غير قابلةٍ للمراجعة. وكل أشكال النقد الثقافي الفلسفي والعلمي للموروث كهجوم وعداء له، خيانة بينة للوطن و "الأمة"!

3. التوظيف السياسي للتكرارية:

تُستغل آليات التكرار لخدمة مصالح نخب سياسية ودينية عبر خطابات جاهزة تُكرر أزمات الهوية. ومصطلحات مثل: "الأنا والآخر" و"نظرية المؤامرة" تُستخدم كأدوات لتحويل الانتباه عن الإخفاقات الداخلية الحقيقية، وتعزيز التبعية الفكرية. المؤسسات التقليدية تستفيد من هذه الآلية عبر تكرار فتاوى تُكرس الانقسام بين "المقدس" و"المدنس"، مما يحفظ نفوذها في المخيلة العامة للشعوب المغلوب على أمرها.⁴

ثانياً: التكرارية وأزمة الهوية

تتفاعل آليات التكرار مع إشكالية الهوية في العالم العربي عبر صراع خفي بين المشروعين القومي والإسلامي. تيارات الإسلام السياسي ترفض العروبةَ كـ"مقولة علمانية مستوردة"، وتُكرر أن "الهوية الإسلامية" هي الإطار "الوحيد" للانتماء.  وبطبيعة الحال، بأدنى درجات الحس الإنساني الواعي السليم ندرك تمام الإدراك أن هذا الخطاب يُعمق الانقسامات المجتمعية ويُضعف التضامن الوطني الحقيقي المبني على التعدد والاختلاف لا الطمس والتبشير الأحادي، وعليه تتحوّل الهويةَ من مفهوم جامع إلى إطار إقصائي يُكرس التكرارية والعادة.⁵

ثالثاً: من التفكيك إلى البناء

أ. التفكيك الأركيولوجي (الآثاري):

يُقصد بهذا المنهج كشفُ الأصول التاريخية للمفاهيم عبر دراسة سياقات نشأتها. مصطلح "الثوابت الدينية" مثلاً، لم يظهر في العصر النبوي، بل ارتبط بالصراعات السياسية في القرن الرابع الهجري، حيث استُخدم كأداة لمواجهة التحديات الفكرية. هذا الكشف يُزيل هالة القداسة الزائفة عن المفاهيم، ويعيدها إلى إطارها التاريخي البشري.

ب. بناء تكرارية تحررية:

يمكن تحويل الطقوس اليومية إلى فضاءات للتجديد عبر إعادة صياغة مضامينها:

- الصلاة كتأمل نقدي: تحويلها من ترديدٍ آليٍّ إلى عملية تأملٍ في دلالات الآيات وربطها بالواقع المعاصر.

- التكرار اللفظي البديل: استبدال عبارات مثل "القدر محتوم" بـ"الإنسان فاعلٌ في صناعة مصيره"، مما يُحدث تحولاً في البنية الذهنية.

الدراسات العصبية تؤكد أن تكرار فكرة جديدة 150 مرة يُحدث إعادة تشكيل للمسارات العصبية (Neural Pathways) بنسبة 40%، مما يثبت إمكانية تحويل التكرار إلى أداة تغيير.

الخاتمة

الخروج من الجمود الحضاري يتطلب تحويل التكرار من أداة سلبية إلى مشرعٍ تحرري واع. هذا التحول يرتكز على ركيزتين جوهريتين:

1. تكريس النقد كعادة جمعية: عبر دمجه في المنظومة التعليمية والخطاب الديني والفعاليات الثقافية والحوار الاجتماعي في الفضاء العمومي.

2. إنتاج خطاب بديل قائم على التكرار الإيجابي: عبر صياغة مفاهيم جديدة تُكرس قيم التساؤل والإبداع، أي المصطلحات النقدية التي تكرس الفهم والنقد والبناء على حساب الكسل والاتكالية الفكرية.

حين نختار بوعي ما نُكرره، والتكرار هنا في عمليات التفكير والنظرة للوجود والسلوك الفردي والجمعي في المقام الأول، نكون قد وضعنا اللبنةَ الأولى لصحوة (بالمعنى المعجمي الخالص للكلمة، لا حمولتها السياسية والتاريخية المتسخة) حضارية تعيد للإنسان العربي دوره كفاعل في التاريخ، لا كمنفعل متقاعد عن الإثراء المعرفي والحضاري.

***

خالد اليماني

.....................

الهوامش

1. الآلية العصبية للتكرار: أظهرت دراسات التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI) أن تكرار العبارات يخفض نشاط القشرة الجبهية الأمامية بنسبة 50% بعد 200 تكرار، مما يحول الأفكار إلى أنماط تلقائية. هذه الظاهرة العصبية تفسر تحول المفاهيم الدينية إلى مسلمات في الوعي الجمعي العربي.

2. تحليل الخطاب الديني: رصد مرصد الخطاب الديني بجامعة القاهرة (2023) تكرار مصطلحات المحافظة 8 أضعاف مصطلحات التجديد في القنوات الدينية، باستخدام خوارزميات الذكاء الاصطناعي لتحليل 2000 ساعة بث.

3. أزمة التعليم الفلسفي: كشف تقرير اليونسكو (2023) هيمنة الحفظ على مناهج الفلسفة في الجامعات العربية بنسبة 75%، مقابل 10% فقط للأنشطة النقدية، مما يحول التراث إلى نصوص مقدسة.

4. التوظيف السياسي للخطاب: تستخدم النخب خطابات الأزمات الهووية لتحويل الانتباه عن إخفاقاتها، عبر تكرار شعارات "العداء الخارجي" و"نظرية المؤامرة" في الخطابين السياسي والإعلامي.

5. صراع الهويات: تيارات الإسلام السياسي ترفض الهوية القومية لصالح هوية دينية شمولية، مستخدمة التكرار لتجذير هذا المفهوم في الوعي الجمعي، مما يضعف التضامن المجتمعي.

المصادر

1. اليونسكو. تقرير حالة التعليم الفلسفي في العالم العربي (2023)

2. مرصد الخطاب الديني. تحليل الخطاب الديني في الإعلام العربي (جامعة القاهرة، 2023)

3. الجابري، محمد عابد. بنية العقل العربي (مركز دراسات الوحدة العربية، 1991)

4. أركون، محمد. تاريخية الفكر الإسلامي (دار الساقي، 2005)

5. دويش، عبدالله. علم الأعصاب الاجتماعي وتشكيل الوعي (دار أكاديميا، 2021)

ان لحظات الشدائد، على قسوتها، غالبا ما تحمل في طياتها دروسا لا تقدر بثمن. انها تدعونا الى اعادة تقييم مسلماتنا والى النظر بعمق في الاسباب الحقيقية وراء تقدم الامم وصعودها او تخلفها وانكسارها. ان ما نشهده اليوم من تفوق عسكري واقتصادي لدول معينة ليس وليد الصدفة، ولا هو نتاج لمعتقدات او شعائر دينية، بل هو حصيلة تراكم معرفي هائل، واستثمار طويل الامد في العلم والتكنولوجيا. هذا التراكم والاستثمار لم يأت من فراغ، بل هو نتاج مباشر للصراع المعقد داخل المجتمع وتطور الظروف المادية السائدة.

لقد اثبت التاريخ والحاضر على حد سواء ان القوة الحقيقية للامم تكمن في قدرتها على الابداع والابتكار. عندما تقارن امة استثمرت مليارات الدولارات في البحث والتطوير لتنتج احدث المنتوجات بأمة اخرى لا تزال تعتمد على تقنيات قديمة في صناعاتها الاساسية او توفيرها من قبل دول اخرى، فان النتيجة تكون واضحة. ان الفارق ليس في الايمان او الولاء لمذهب معين، بل في امتلاك ناصية العلم الذي يحول الافكار الى واقع، والاحلام الى انجازات ملموسة على ارض الواقع.

ان المعارك الحديثة، سواء كانت عسكرية او اقتصادية او حتى اجتماعية، تحسم بالعقول المبدعة، بالمهارات التقنية المتقدمة وبالبنى التحتية المتطورة التي يوفرها العلم. الدعاء وحده لا يبني المصانع، ولا يصمم الرقائق الالكترونية، ولا يبتكر الادوية المنقذة للحياة. القائد الديني لن يقود القوات المسلحة على الارض او في الجو، انما هو العلم وحده من يقود ويحسم المعركة. هو الذي يمد المقاتلين باحدث الاسلحة ويزود الاطباء بانجع العلاجات ويمنح المهندسين القدرة على بناء مدن ذكية.

هنا يبرز الدور المحوري للدولة المدنية العلمانية. الدولة العلمانية ليست دولة ضد الدين او القيم الروحية، بل هي دولة تفصل بين مؤسسات الحكم وادارة شؤون البلاد وبين العقائد الدينية والمذهبية. هذا الفصل الحيوي يسمح للدولة بالتركيز على بناء مؤسسات قوية وشفافة، تقوم على الكفاءة والجدارة وتعنى بتحقيق مصالح جميع المواطنين دون تمييز على اساس القومية او الدين او المذهب. عندما تكون الدولة مدنية وعلمانية، فانها تضع العلم في صدارة اولوياتها وتشجع البحث العلمي وتنشئ الجامعات ومراكز الابحاث وتوفر البيئة الخصبة للابداع والابتكار. هي لا ترهن مستقبلها بالخرافات، بل تبنيه على الحقائق والمنطق.

ان الامم التي حققت قفزات نوعية في التطور والتقدم هي تلك التي ادركت هذه الحقيقة. لقد استلهمت من تجاربها، وتعلمت ان السبيل الوحيد للتغلب على التحديات وهزيمة الاعداء ليس بالاعتماد على الشعارات الرنانة، بل بالبناء الجاد للعلم وتطوير التكنولوجيا وارساء دعائم دولة مدنية حديثة. انها دعوة صادقة لان نتعلم من تجاربنا، وان نعيد ترتيب اولوياتنا، وان نجعل من العلم والتكنولوجيا ركيزة اساسية لنهضتنا، ومن الدولة المدنية العلمانية اطارا لحكمنا الرشيد. عندها فقط، يمكننا ان نطمح الى بناء مستقبل افضل لاجيالنا القادمة، مستقبل يسوده التقدم والنصر، لا الهزيمة والخيبات.

***

محمد الربيعي (ا.د.)

 

تُعدّ اللغة من أعمق الأدوات التي تتشكّل عبرها رؤيتنا للعالم، لا سيما في الفضاءات الميتافيزيقية والدينية. إنّها قناةً ناقلةً للمعنى ونسقًا معرفيًّا يُعيد إنتاج الواقع وفق حدود مفاهيمية تضبط تصنيفنا له وتوجّه إدراكنا لمراميه. ومن هذا المنطلق، يرتبط الدين باللغة ارتباطًا وثيقًا يتجاوز مستوى التعبير إلى مستوى التكوين المفهومي. فالمصطلحات الدينية، التي قد تبدو تسمياتٍ لحالات ميتافيزيقية، تنطوي في بنيتها اللغوية على تصور للعالم وطبيعة الإله والعلاقة بين الإنسان والمقدّس.

تُستأنس هذه الرؤية بفرضية «النسبية اللغوية» التي صاغها إدوارد سابير وطوّرها بنيامين لي وورف، حيث يرى الأخير أنّ اللغة تشكّل نظرتنا إلى العالم وتحدد أنماط تفكيرنا وتصوراتنا للعلاقات الكونية. عند تطبيق هذا التصور على الحقول الدينية، نجد أنّ التصوّرات اللاهوتية أو العقائدية تعكس الخصائص البنيوية والدلالية للغة التي تُنتَج فيها.

من خلال مقارنة المفاهيم التأسيسية في الإسلام (الناشئة من العربية) بنظيراتها في الهندوسية (المنبثقة من السنسكريتية)، يتّضح دور اللغة في بناء النظام المفهومي للعقيدة. فالعربية ببنيتها الجذرية الصارمة وميلها للإفراد والتحديد تولّد منطقًا توحيديًّا محكمًا. في المقابل، تتيح السنسكريتية بمرونتها الاشتقاقية وتعدّدها الدلالي نشوء رؤية دينية تقوم على التراتب والتعدّد والتأويل المختلف. وهنا نقصد بالاختلاف الدولوزي، كما يعتقده بوصفه الأصل في الوجود.

 مصطلحات الإسلام: الوحدة والتحديد

يُعدّ لفظ الجلالة "الله" مثالاً ومدخلًا مركزيًا لفهم النظام التوحيدي الإسلامي. يتميّز هذا الاسم في العربية بتركيبه المغلق: فهو غير قابل للجمع أو الاشتقاق أو التأنيث. هذه البنية الدلالية تُضفي على الاسم طابع التفرّد وتقصيه لغويًا عن إمكانيات التعدد أو التشبيه، مما يعكس منطق التوحيد الأصيل. كما يشير جون سعيد إلى أنّ البناء الاشتقاقي للكلمة يُحدّد إدراك معناها ووظيفتها، ويتجلّى ذلك في تصميم لفظ "الله" الذي يُغلق احتمالات التعدد.

يُظهر الجذر العربي (و-ح-د) – المصدر لمفاهيم "واحد" و"أحد" و"توحيد" – كيف توجّه البنية اللغوية المفاهيم نحو الحصر والتفرد. هذه الاشتقاقات تُشكّل نظامًا دلاليًا مغلقًا يحاصر المعنى ويقصي نقيضه (الشرك). فمصطلح "التوحيد" يتجاوز الإيمان بإله واحد ليكون إطارًا شاملًا للعقيدة والسلوك والعلاقات الوجودية، وهو ما أكّده إيزوتسو في تحليله للدلالة القرآنية.

حتى الصفات الإلهية في الإسلام، رغم تنوعها، تُفهم كمظاهر كمالية للذات الواحدة الكاملة ضمن إطار وحداني لا يقبل التجزئة. هذه الصرامة في التحديد تُرسّخ فاصلاً مفهوميًا بين العقيدة الإسلامية والتصورات التعددية للذات الإلهية.

مصطلحات الهندوسية: المرونة والتعددية التأويلية

تنبثق المفاهيم الهندوسية من اللغة السنسكريتية ببنيتها الغنية بالاشتقاق والتعدد الدلالي، مما يُنتج تصورات دينية منفتحة على التأويل والتجليات المتعددة.

يُعبّر مصطلح "براهمان" عن الحقيقة الكونية المطلقة، لكن السنسكريتية تقدّمه عبر نفي متوالي (Neti Neti) واستعارات متقابلة كالقول بأنه "أصغر من الذرة وأكبر من الكون". هذه البنية اللغوية تمنح التصور عمقًا وتُعيد تشكيل العلاقة بين اللغة والمقدّس كأداة للتماهي والتلميح.

أما مصطلح "ديفا" (المُترجم غالبًا كـ"إله") فيحمل في جذره "div" معنى "الإشراق"، مما يفتح مجال تأويله ككائن نوري أو قوة طبيعية أو صفة روحية. هذه السيولة تسمح للهندوسية بتبني تصور تعددي حيث تتجلّى الآلهة (كشيفا وفشنو) في صور متعددة (أفاتارات) كمظاهر للحقيقة المطلقة. وكما تُوضح تمكّن القوة الاشتقاقية للسنسكريتية من بناء نظام ديني تتعايش فيه المستويات الرمزية المتنوعة دون تناقض.

 الخاتمة

وعليه يتضح أنّ اللغة تتجاوز حد نشر المفاهيم الدينية كما هي، لتساهم إيجابًا في خلق التصورات وتؤطّرها ضمن بنيتها الدلالية. فالعربية بصيغتها الجذرية المحدّدة تشكّل منطقًا لاهوتيًا قائمًا على التوحيد والصرامة المفاهيمية. بينما توفّر السنسكريتية بمرونتها أفقًا دينيًا يتسم بالتدرّج والتعدد والتجسد.

بهذا تصبح اللغة عنصرًا بنيويًا يُنتج التصوّر الديني ذاته، يتداخل مع الوحي والتاريخ لخلق النسق اللاهوتي. وفهم الدين يستلزم فهم لغته التأسيسية، لأنّ الكلمة هنا مادته التكوينية.

***

خالد اليماني

......................

المصادر

 إيزوتسو، توشيهيكو. (1964). الله والإنسان في القرآن: دلالة الرؤية القرآنية للعالم

وورف، بنيامين اي. (1956). اللغة، الفكر والواقع

هولدريج، باربرا. (1997). الفيدا السنسكريتية وقوة اللغة

سعيد جون (2023). علم الدلالة

ليبنر، يوليوس. (2010). الهندوس: معتقداتهم وممارساتهم الدينية

لعلي أستطيع أن أدلك على طبيعة العلة، وأن أقيم لك الدليل على تردي الأخلاق وتراجعها، فانهيار القيم التي يلوكها كل لسان في وقتنا الراهن، أزعم قبل كل شيء، أن عقلي المكدود لا يسيغ قط وجود أي قوة تدفعها، وتمضي بها نحو الأحسن، خلاف ثوابت ومعتقدات الدين الخاتم الذي تتجسد فيه أسمى الغايات الأخلاقية، التي ينبغي أن نتحلى ونتمسك بها، وندعو هذه الأجيال المستلبة التي يملأ وجوهها ضحكة ساخرة من سذاجة دعوتنا، أن تتشبث بها، وتحرص عليها، فهذه الأجيال المسكينة قد دبت الحياة في أعطافها، وهي مشدوهة ومأخوذة بسحر الحضارة الغربية، بعد أن ارتسمت في أذهانها صورة قوية رائعة عنها،  ندعوها في الحق، للتمسك بالمفاهيم الأخلاقية التي بسطها الدين الإسلامي بسطاً وافياً، لأنها تحقق لها، ولكل المجتمعات البشرية، الغاية الحيوية التي ترسم توازنها، وتبني لها قاعدتها الصلبة التي تكفل تماسكها واستقرارها.

الأخلاق الركن المنيع الذي تعتمد عليه المجتمعات في صون حياتها الاجتماعية:

والأخلاق التي تضبط حياة  المجتمعات، وتنظم سلوكها،  لا أريد أن أبسط لكم هنا طبيعتها، أو أشنف أسماعكم، بأحاديث رتيبة مملة، عن أصولها وتوجيهاتها، التي بتنا لا نظهر لها الشغف البالغ، والانجذاب المحض، فنحن نعلم أنها هي التي تضع الأسس، والركائز الصحيحة للتمييز بين الخير والشر، والحق والباطل، وأنها بمثابة الدروع الواقية التي نحتذيها، في صد هجمات المتوغلين من "طغام" المجتمعات الذين غابت عنهم التصورات العقلية، والحجج المنطقية لنجاعتها، بوصفها الحصن الذي يقينا من الفوضى الغاشية التي أمسينا نتردى فيها،  تلك الفوضى التي تريد هذه الفئات أن تتفنن فيها، وتكثر منها، باعثهم عليها النقص الذي يحيط بها، وكونها لم تتصل بكل قيم هذه التشريعات أو بعضها، اتصالاً ممكناً أو ضرورياً تحتمة ظروف النشأة، فليس في نشأتها ما يحملها على اكتساب واتخاذ معايير هذه القوانين ولوائحها، هذا هو الحاجز الذاتي الذي يفصل هذه الفئات عن مجتمعاتها، العامل الأخلاقي الذي نجده عند هذه الناجمة واهياً، شاحباً، ضعيفاً، لا يحمل صورة، ولا يؤدي معنى، ولن يزول هذا الحاجز الذي ليس له قاع، أو مستقر، إلا إذا بذلت هذه الجماعات جزءاً من قواها في سبيل التمكين لهذه الأخلاق، واضطرت لمسايرة المثل العليا، والمعايير الاجتماعية،  وتخضع لها خضوعاً كلياً، يزيل عنها هذه الفوارق، ويحقق لها دوماً الانصهار في بوتقة مجتمعاتها.

العامل الأخلاقي في الإسلام:

 والعامل الأخلاقي في الإسلام، الذي يعصم المجتمعات من الزلل، رأينا كيف تقاعست بعض الشرائح في أداء واجباته، بسبب نزعاتها الفردية، نزعم أن هذا العامل بدون أدنى شك، عقمت الأيام أن تلد مثل ه، فهو يصد النفس من أن تكون حافلة بمظاهر الجور، ويمنحها التصورات الصحيحة، والأحكام الصادقة، عن العواقب التي تتمخض عن هذه المظاهر، بعد أن وهبها صورة جلية واضحة، عن مآلات الروح بعد الرحيل، إذن العامل الأخلاقي يعلم أن الطرق بيننا وبين الخطايا قريبة كل القرب، وممهدة كل التمهيد، ولكن مع هذا القرب، وهذا التمهيد، نجد أن هذه الفجاج كثيفة منيعة، لا سبيل إلى اقتحامها، ولا إلى النفوذ منها، لأن مهجنا الوجلة المذعورة، لا تستطيع التخلص من براثن صورها المفزعة التي شخصتها لنا منظومة الدين، صور لا عزاء فيها ولا سلوى، لمن أراد أن يمضي وراء هتك الأخلاق، واصابتها في مقتل.

إن القواعد الأساسية التي ينهض عليها النظام الأخلاقي في الإسلام، لا يمكن ردها إلى عوامل أبسط منها، لأنها في غير ضجيج ولا عجيج، تستوفي جميع أنماط السلوك التي مهما اختلفت وتباينت من حيث مضمونها، فهي تسيطر على النفس، وتكبح جماحها، ولا تنحرف عن الطريق المرسوم الذي يربط شؤون الحياة العامة التي نضطرب فيها، ربطاً محكماً، وثيقاً، قوي الأثر، ويقي العادات، والمشاعر، والأفكار، من الغلو، والجموح، والتطرف.

***

د. الطيب النقر

الأربعاء 25/6/2025

 

من بين فلاسفة اليونان القدماء الفيلسوف بيرو Pyrrho الذي أثبت تماسكا ورباطة جأش أمام مشاكل الحياة.هذا الفيلسوف أصبحت لامبالاته الثورية حجر الاساس لمدرسته الفكرية التي يتّبعها انصاره الى يومنا هذا.

شكّه المطلق ورحلته مع الاسكندر الاكبر

وُلد بيرو عام 360 قبل الميلاد في زاوية من زوايا المدينة القديمة إليس Elis(غرب بيلوبونيز)، وبقيت حياته المبكرة لغزاً. ما هو واضح ودون شك اعتماداً على النصوص اللاحقة لكاتب السير ديوجينس لايرتيوس، هو ان بيرو لم يكن من الفلاسفة الكبار. هذا الرجل في الحقيقة لازم الاسكندر الاكبر في مسيرته الاسطورية للانتصار على الشرق، ورافق الجيش المقدوني على طول الطريق الى الهند.

لنتصور التراب، العظمة، الخوف من اللايقين. في تلك الرحلة الملحمية التقى بيرو بالجمبازيين gymnosophists (افراد طائفة هندية قديمة يلبسون القليل من الملابس ويمارسون الزهد والتأمل). اولئك الفلاسفة العراة انفصلوا عن الاهتمامات الدنيوية واثّروا بعمق على بيرو. كيف يمكننا ان نتصور بيرو وسط فوضى انتصارات جيش الاسكند، واولئك الرجال الغرباء الحكماء الذين بدوا بعيدين عن ضجيج العالم؟. هذا المشهد بقي عالقا في ذهن بيرو طوال حياته. انه كان طريقة مختلفة كليا في رؤية العالم والتي أثّرت على جوهر فلسفته.

البساطة الثورية لبيرو

اصبحت فلسفة بيرو اللاحقة تُعرف بالبيرونية Pyrrhonism. هذه الحركة الفلسفية هي من حيث الجوهر، تركز على رفض اصدار أحكام نهائية في حياة المرء. انها من الواضح لا تتحدث عن انكار وجود الاشياء كما يظن البعض عند محاولتهم تشريح البيرونية. هذا بعيد عن الحقيقة. انها حول الاعتراف بان حواسنا يصعب الوثوق بها. وكذلك، عقلنا هو دائما محدود، ولهذا السبب، لايمكننا ابدا فهم الطبيعة الحقيقية للعالم.

اذاً، اذا كان الانسان يستطيع القول بشكل قاطع ان شيئا ما جيد او سيء، صحيح ام زائف، لماذا يبدد الناس طاقاتهم الثمينة في جدالاتهم وتأكيداتهم وتحمّلهم للألم في ذلك؟. هذه الروح اصبحت مشهورة في القصة الشعبية لبيرو وهو يناقش الفلسفة اثناء عملية جراحية متجاهلا الألم. هذا المشهد سواء كان حقيقيا او زائفا، يجسد الانفصال الراديكالي عن الاشياء التي عادة يمضي فيها الناس حياتهم يفكرون ويكافحون ويجادلون بشأنها.

قصة اخرى مشابهة حول بيرو وموهبته في الانفصال عن الواقع هي حكاية الكلب الذي هاجمه، حينها اكتفى بدعوة اصدقائه للتعامل معه بدلا من الذعر والفرار بعيدا. هذان الموقفان يبيّنان ان بيرو كان رجلا يفعل ما يؤمن به. بالنسبة له، الهدف من فلسفته لم يكن كشف الحقائق النهائية المخفية عن العين المجردة. هدفه العثورعلى الهدوء arataxi، وهي الفكرة اليونانية للهدوء العميق الذي لا يتزعزع، سلام داخلي عميق يأتي ببساطة من رفض اتخاذ موقف نهائي حول أي شيء. في عالم يغرق بشكل مطلق في آراء قوية ويقينيات مطلقة، نجد في اتجاه بيرو ما يجعلنا نشعر بالراحة، حينما يحررنا من عصر الاستقطاب الذي نعيش فيه.

واذا كان اتجاه بيرو الفلسفي اكثر مرونة من البيانات الجريئة لإفلاطون وارسطو، فان تأثيره أثبت وبجدارة استمراريته بسبب طبيعته الفكرية . افكار بيرو جرى الاحتفاظ بها بعناية و توسيعها من جانب الشكاك مثل سكتوس امبيريكوس، الذي كانت أعماله هي الاساس لفهم البيرونية اليوم. وانه من خلال هؤلاء الورثة الفكريين لرؤى بيرو، واصراره على تجنّب الحكم، وصلت تلك الافكار ولو ببطء الى عصرنا الحالي، وهو ما صاغ الكيفية التي يتصرف بها العديد من الناس حتى يومنا هذا.

لو أخذنا التنويرعلى سبيل المثال، اصبح فيه التحقق من كل شيء فضيلة، وتحطيم العقائد القديمة مهّد الطريق لفتوحات علمية خلقت عالمنا الحديث. حتى الان، في عصرنا الصاخب وحيث "الأخبار الكاذبة" والسعي اللامتناهي لإجابات نهائية تقود عادة الى استقطاب شديد، تقدم افكار بيرو حلا ملائما ذو اهمية كبيرة.

***

حاتم حميد محسن

..........................

GreekReporter, May31, 2025

 

نحن على دراية تامة بأن الدولة العلمانية الحديثة هي تلك التي تمتلك قيمًا ثابتة كالديمقراطية، ومبادئ أخرى من بينها توفير الأمن والحرية لمواطنيها، واحترام التعدد في الدين والأفكار والرؤى المختلفة. إلا أننا حين نتعامل مع الواقع، نجد أن الجانب التطبيقي يختلف كثيرًا عن الجانب النظري.

إذا ما ضربنا مثالًا على ذلك، فسوف نبدأ بفرنسا في مقدمة الذكر، باعتبارها تمثل الأرضية الأولى التي اندلعت منها شرارة العلمانية المتمثلة في قلب الموازين وتغيير مسار الدولة من نظام ملكي إلى جمهوري.

لقد حازت الكنيسة على أكبر ما يمكن من أرباح، كالأراضي الإقطاعية وتكديس الثروات، والحصول على أموال الشعب من خلال صرفهم عن الدنيا والتغذي بالعلوم الإنسانية، واعتماد العقل مقابل إشباعهم بالأمور اللاهوتية واعتبار أن هذه الأرض "مملكة الشيطان" ، وأن الآخرة أحسن وأبقى. فهذه الجرعة السحرية التي اعتمدتها الكنيسة في أوروبا لإخماد أوجاع الناس وإسكاتهم دامت قرونًا طويلة دون التفكير في سبل النهوض والصحوة.

لكن مجريات الأحداث سرعان ما تغيرت بعد عام 1789، حينما امتلأت حناجر الثائرين بالمطالبة بإسقاط النظام وتصفية الحسابات، فتمت مصادرة أملاك الكنيسة، وإعدام الملك لويس السادس عشر وزوجته، واتُّخذ أهم قرار سياسي تاريخي يتمثل في فصل الكنيسة عن الدولة، لتكون فرنسا في لحظة تدشينية مع أول تأسيس لجمهورية على أرضها بعد حكم ملكي دام طويلًا.

هذه التجربة العلمانية في فرنسا أكسبتها خصوصية تاريخية وثقافية في كونها حركة مضادة للدين المسيحي، وجاءت كردة فعل عنيفة على الانتهاك الذي مسّ بحرمة الذات والتلاعب بمشاعر الناس الإيمانية باسم المقدس لخدمة مصالح رجال الدين والساسة من الطبقة المخملية.

بهذا، تأسست العلمانية على جملة من المبادئ تكشف في جوهرها فصل الدين عن مهام الدولة، والأهم احترام بقية الأديان، دون أن تشكل ممارستها أيّ ضغط على الحكومة أو المجتمع، ما دامت هذه الممارسات ضمن فضاء الدولة العلمانية.

إلا أن ما نشهده على أرض الواقع يخالف كل هذه التصورات ويجرّدها من نزاهتها، خاصة ما تُكنّه فرنسا من عداءٍ للإسلام، وتعاملها معه باحتراز شديد يحتم القول بأن مشكلتها باتت مع الإسلام بالذات، لأنه أولًا يشكل تهديدًا ديموغرافيًا سكانيًا، وثانيًا لأن أوروبا لم تنسَ حتى الآن الطعنات الحادة التي نالتها في الحروب الصليبية، وفي حربها مع الإمبراطورية الإسلامية، وشنّ الأخيرة غزوات طالت مساحة واسعة من الرقعة الجغرافية في العالم.

إذن، الآن صار بالإمكان الإجابة عن سؤال: لماذا كل هذا الضغط على الإسلام في ظل نظام علماني قائم في فرنسا يشرّع كل الديانات ويختار الحياد؟

ثم إن هذا التوتر ناتج أيضًا عن ترويج مغالطات من طرف بعض الإسلاميين نتيجة تعصبهم وتشددهم، مما أدى إلى ربط الإسلام بالإرهاب، والتطرف، والقتل. فأصبح المنظور الأوروبي والعام يتجه إلى أن الإسلام دين عنف وتخلّف وتعصّب فكري، يشكل خطورة على المجتمعات الراقية والمتحضرة داخل أراضيها.

كما أن لهذا الترويج أصولًا قديمة، إذ بدأ مع أول لحظة اتصال المستشرقين بالعرب عقب الاستعمار، في محاولة للتنقيب عن حفريات وآثار الماضي العربي. فتكاثرت أبحاثهم بدافع الفضول والاستكشاف، إثر فترات الأزمنة الخانقة زمن الاستعمار، فخرج الإسلام حينها في صورة التخلف والهمجية، بينما تصدرت أوروبا المرتبة الأولى في التطور والازدهار، فظلت هذه الصورة راسخة إلى حدود اليوم.

بعد أن صارت الفجوة بين الغرب والشرق الإسلامي واضحة، وبدأت الصحوة تلامس وعي التيار الإصلاحي النهضوي، في محاولة للنهوض والبحث عن أسباب تقدم الغرب على حسابهم، كانت القوى الاستعمارية تسعى لتأصيل هوية الدين الإسلامي على أنه دين عنيف همجي يشكل تهديدًا مباشرًا لدولتها القومية العلمانية، ما نتج عنه الإسلاموفوبيا، وشنّ هجومات عدائية على المقيمين في أراضيها، ما يناقض علمانيتها ودستورها القائم على احترام التعدد وحق توفير الأمن للمواطنين مهما كانت انتماءاتهم الدينية.

***

خلود بن عبد الله

 

في المثقف اليوم