قضايا

بقلم: ليديا ويلسون

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

في ليلة حارة ورطبة من شهر يوليو/تموز 2018، سافرت إلى مطار بيروت، ممتنًا للسائق الذي استقبلني بسيارته المكيفة. كان شابًا شيعيًا متدينًا من جنوب لبنان، ولم يصافحني، لكنه كان ودودًا، وإن كان جادًا. وبينما كنا نسير على طريق المطار، تحدثنا عن حياته في لبنان، بما في ذلك انتقاله مؤخرًا إلى بيروت من قرية عائلته وآماله في المستقبل الآن بعد انتقاله إلى المدينة الكبرى. لكن سؤاله التالي فاجأني.

"هل سمعت عن طبيب نفساني كندي يُدعى جوردان بيترسون؟"

لقد كنت أعرف ذلك بالفعل، وذلك في الأغلب بسبب الدعاية - أو الشهرة - التي حظي بها دليل المساعدة الذاتية الذي أصدره مؤخرًا، والذي حمل عنوان "القواعد الاثنتي عشرة للحياة". كانت صحيفة نيويورك تايمز قد نشرت للتو ملفًا شخصيًا طويلًا يستند إلى الوقت الطويل الذي قضاه بيترسون في منزله وفي العمل، بعنوان "جوردان بيترسون: حارس النظام الأبوي". لكن لم تكن مواقفه بشأن الأدوار الجنسانية التقليدية هي التي تسببت في تنافر إدراكي لدي؛ فقد أدركت كيف كان ذلك يتناسب تمامًا مع وجهات النظر العالمية المحافظة في العديد من الأديان والبلدان. كان دفاعه عن الثقافة الأوروبية بأصداء تفوق العرق الأبيض هو ما جعل حماس صديقي الجديد صعب الفهم. لم يكن بيترسون قد ظهر بعد مع شخص يرتدي قميصًا مكتوبًا عليه "أنا فخور برهاب الإسلام!" (هكذا)، لكن الاتهامات كانت في الهواء.

بالنسبة لي، يمثل بيترسون الجانب اللين من الذكورية السامة في الغرب، التي أدت إلى عدد من المظاهر (التي قد تكون قاتلة أحياناً)، ولعبت دورًا في نشر ثقافة مناهضة للنسوية والحقوق المدنية. لكن بالنسبة لهذا الشاب الشيعي اللبناني، فقد قدم له بيترسون تفسيراً لوضعه في الحياة، والأهم من ذلك، طريقة للخروج من إحباطاته مستندة إلى "العلم" (علم النفس التطوري، مصحوبًا بادعاءات زائفة كتبت عنها في مقال سابق في "نيو لاينز")، بالإضافة إلى لغة المساعدة الذاتية التقليدية (قف بشكل مستقيم، نظّف غرفتك، تحمل مسؤولية نجاحاتك وإخفاقاتك).

تقدم الزمن بضع سنوات: عندما حاولت إجراء مقابلات مع هؤلاء المعجبين أنفسهم، وجدتهم متحفظين. في الفترة الفاصلة، أصبح جوردان بيترسون شخصية مثيرة للانقسام، وعنصرًا رئيسيًا في حروب الثقافة التي تقسم العديد من البلدان. العديد منهم رفضوا التحدث معي، قلقين من أنني سأصورهم كجزء من المشكلة في العالم، وهم يعرفون آرائي عن بيترسون — والنسوية، والحقوق المدنية، وحقوق المتحولين جنسيًا، وما إلى ذلك. لجأت إلى الاتصال بأصدقاء كانوا في الماضي يرسلون لي مقاطع فيديو، مع وعدهم بالسرية.

قالت لي صديقة إماراتية في الخمسينيات من عمرها: "لقد ساعد الكثير من الناس". والأدلة على ذلك موجودة في كل مكان: الناس يصطفون لسماعه يتحدث، ويقتربون منه لتوقيع نسخ من كتابه، ويتحدثون عنه بإعجاب في غرف الدردشة، ويشاركون مقاطع الفيديو الخاصة به عبر "واتساب". (تلقيت مقاطع الفيديو الخاصة به من أصدقاء في الهند والأردن ولبنان، بالإضافة إلى صديقتي في الإمارات). نظرة سريعة على التعليقات تحت مقاطع الفيديو الخاصة به تُظهر مدى امتنان الناس له.

"هذا الرجل المذهل قد أضاء لي الضوء لأجد معنى في وجودي"؛ "التاريخ سيذكر هذا الرجل كنور مطلق في وقت مظلم"؛ "لحظة البصيرة بالنسبة لي كانت عندما استمعت إليه يتحدث في برنامج روغان عن المسؤولية، وكيف أن الشفقة على الذات غير مجدية. خرجت واشتريت كتاب "12 قاعدة" في نفس اليوم. غير حياتي." هناك حرفياً ملايين من مثل هذه التعليقات، تعبر عن الامتنان للتمكين الذي منحهم إياه في جميع أنحاء العالم.

ولكن ليس استجابةً لرسالته الأخيرة "للمسلمين". الرسالة الفعلية تحتوي على بعض محتوى المساعدة الذاتية المعتاد، حيث يخبر مستمعيه بأن "العدو في المكان الخطأ" وأن أفضل مكان للعثور على الشيطان هو داخل أنفسهم. نصيحته؟ "أفضل رهان لك على جبهة الحرب الروحية هو أن تجعل من نفسك ومن ممارستك الإسلامية شيئًا يستحق الإعجاب إلى درجة أن الضوء الذي يشع من سيكولوجياتك المتوازنة وأفعالك المنتجة والكريمة والحكيمة يكون قويًا جدًا لدرجة أن الناس يعتنقون دينك من شدة الإعجاب. هذا هو الهدف!" كل هذا ينتمي إلى مناطق مألوفة لدى بيترسون. ثم ينتقل إلى "الرسالة" نفسها، التي تدور حول بناء السلام، وتحث المسلمين على تجاوز الانقسامات الطائفية والدينية. "أيها الشيعة، ابحثوا عن صديق سني بالمراسلة. تواصلوا مع شخص من الجانب الآخر. أيها السنة، افعلوا الشيء نفسه. ثم ربما تواصلوا، بحذر، مع مسيحي، أو حتى، لا قدر الله، مع يهودي!" (تم تحويل الكلمات الأربع الأخيرة على الفور إلى صورة متحركة، انتشرت على نطاق واسع).

في وقت كتابة هذه السطور، هناك حوالي 39,000 تعليق وأكثر من 2 مليون مشاهدة، وبينما ليست جميع التعليقات سلبية، إلا أن الفرق مع مقاطع الفيديو الأخرى له كان لافتًا. كتب أحد المعجبين السابقين: "إذا كان عليّ اختيار ثلاث كلمات لوصف ما رأيته للتو، فسأختار متعالٍ، محبط، والأهم من ذلك، مخيب للآمال."

كتب آخرون: "على الرغم من أن محتوى 'المحاضرة' مقبول في معظمه، إلا أنه يبدو لي، كمسلم، مهيناً بطريقة ما" و" كنت أنظر إلى الدكتور بيترسون كأفضل مفكر في عصرنا، لكنني أشعر الآن بخيبة أمل."

وهكذا دواليك. شعر المعجبون المسلمون بالإهانة والاستياء من نبرة المحاضرة، التي — ربما دون قصد — تصور جميع المسلمين كمعادين للسامية وطائفيين.

هناك أيضًا مشكلات سياسية تتعلق بالفيديو. في توجيه هذه "الرسالة" إلى معجبيه المسلمين، تعثر بيترسون بشكل غير مقصود في موضوع مثير للجدل: اتفاقيات التطبيع بين إسرائيل والأنظمة العربية الاستبدادية التي توسط فيها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب. أشاد بيترسون بشدة بـ "اتفاقيات إبراهيم الاستثنائية، التي فتحت إمكانية السلام بين جميع شعوب الكتاب بطريقة غير مسبوقة." هذه الاتفاقيات ليست شائعة — على أقل تقدير — في شوارع العديد من الدول ذات الأغلبية المسلمة، وباختياره لبناء رسالته على هذا "الإنجاز"، دون معرفة ما تعنيه للمسلم العادي، يسحب بيترسون الهزيمة من فك الانتصار.

مستوحى من شعبيته بين المسلمين، فإن "الرسالة" التي سجلها في الواقع قللت من عدد متابعيه المسلمين.

هذا هو جوهر رد قناة "المسلم المتشكك"، وهي قناة يوتيوب يديرها المتشدد دانيال حقيقتجو، الذي يعتقد أن القيم الإسلامية تتماشى مع قيم اليمين المتطرف — مما يجعلها مناسبة بشكل طبيعي لجوردان بيترسون. في الواقع، نداء بيترسون لـ "أهل الكتاب" للتوحد يستند إلى اعتقاد مماثل بأن جميع الديانات الإبراهيمية تواجه تهديدات وأعداء مشتركين: "فماذا لو توقفنا جميعًا عن الجدال حول الأمور التافهة والتفاصيل وواجهنا المشكلة الحقيقية؟" يسأل، والمشكلة الحقيقية هي "الأفكار الانتقامية الشيطانية، التي تواجه حاليًا كل ما هو متعالٍ وتقليدي وذو قيمة." وهذا يعني: "الأفكار اليقظوية، والتصحيح السياسي، والأفكار النيوماركسية المنحطة." كان من المفترض أن يكون كل هذا من صميم اهتمامات حقيقتجو، نظرًا لأنه يشارك بيترسون وجهة نظره حول هذا العدو المشترك (الليبرالي)، لكنه بدلاً من ذلك رد بغضب في فيديو حصل على أكثر من 200,000 مشاهدة.

يبدأ الفيديو بقوله: "أريد أن أعتذر، لأنني في الماضي قلت إن المسلمين يمكن أن يستفيدوا من انتقادات بيترسون للفيمينية وأيديولوجيا المتحولين جنسيًا. لكنني أتراجع عن كل ذلك. لا تأخذوا شيئًا من هذا الرجل. إنه سم خالص." والأسباب؟ "لأنه بمجرد أن يكتشف بيترسون أن لديه بعض المتابعين من المسلمين، ما هو أول شيء يفعله؟ يرسل رسالة إلى المسلمين يدفع فيها باتفاقيات إبراهيم."

شاهدت رسالة بيترسون بنفسي. من الصعب أن يفوت المرء النبرة المتعالية التي وصفها الكثيرون في التعليقات والردود. كما أنه يظهر جهلاً بالإسلام وسياسات المنطقة. بدأت في إرسال الرابط إلى الأشخاص الذين أوصوا لي ببيترسون في الماضي. لكن، مرة أخرى، فوجئت بردود فعل من أعرفهم. تساءلت المرأة الإماراتية عمن سيستجيب لدعوته: "لنرى من هم الواعيون والشجعان الذين سيتقدمون للأمام." وجد صديق بريطاني مسلم أن الرسالة "قوية" لكنه تساءل عن مدى تأثيرها. لم يأخذها أي منهما بسوء.

بالنسبة للكثيرين، لا يُعتبر بيترسون فقط شخصية الأب الصارمة التي تشجعهم على تحمل المسؤولية وبذل قصارى جهدهم، بل هو أيضًا مفكر كان سابقًا ناقدًا للإسلام، لكنه انخرط منذ ذلك الحين مع مجموعة متنوعة من المفكرين المسلمين. "ما يمكن أن نتعلمه جميعًا من القرآن والإسلام" هو نقاش مدته 1.5 ساعة مع "المتحول النيومحافظ" حمزة يوسف (صدر في مايو 2022 وحصل حاليًا على 1.8 مليون مشاهدة). "الإسلام وإمكانية السلام"، أيضًا لمدة 1.5 ساعة، يضم محمد حجاب، الذي يواجه مشكلة بسبب مجموعة من الآراء الأصولية (صدر في ديسمبر 2021 وحصل على 3.1 مليون مشاهدة). "الإسلام والمسيح والحرية"، مدته أقل من 1.5 ساعة، يضم الكاتب الليبرالي مصطفى أقيول (صدر في أكتوبر 2021، بأكثر من 600,000 مشاهدة). يُظهر قناة بيترسون على اليوتيوب تفاعلًا واسع النطاق مع الأفكار الإسلامية، مع التركيز غالبًا على أوجه التشابه مع الديانات الإبراهيمية الأخرى والتساؤل حول قيم "الحداثة". يتم تجاوز الأسئلة المتعلقة بمواقفه تجاه "الحضارة الغربية" والحاجة إلى إعادة إحياء الليبرالية التقليدية؛ القيم التي في صميم دعوته مشتركة، بينما يتم تجاهل الآثار — تفوق الثقافة الغربية.

تم تجاهل المشكلات الشخصية لبيترسون أيضًا. بعد أن بدأ يعاني من الاكتئاب كمراهق، تدهورت حالته بشكل ملحوظ في عام 2018، وانتهى به الأمر على كوكتيل من الأدوية قبل أن يسافر إلى روسيا — ضد نصيحة الأطباء — ليتم إدخاله في غيبوبة طبية مستحثة. بعد تجربة مراكز إعادة تأهيل أخرى، لجأ بيترسون في النهاية إلى النظام الغذائي الذي كانت ابنته ميكايلا تروج له، والذي يتكون فقط من اللحوم الحمراء (وفي الممارسة، بشكل شبه حصري لحم البقر)، والملح والماء. هو الآن خارج مضادات الاكتئاب تمامًا، ويبدو أن العديد من المشاكل الأخرى قد اختفت أيضًا، بدءًا من مشاكل الهضم إلى الصدفية، ورائحة الفم الكريهة والشخير — بل ويدعي أن النظام الغذائي تخلص من العوامات في عينيه. لكن هذا الحل غير موجود في كتابه "12 قاعدة للحياة" أو في الجزء الثاني "12 قاعدة أخرى للحياة"، ولم يوضح لماذا لم تساعد قواعده ونظرياته الكثيرة الآخرين في أدنى نقاط حياته — فقط الأنظمة العلاجية القاسية والأنظمة الغذائية جعلت حياته محتملة.

ربما تفسر صعوبات السنوات القليلة الماضية سبب توجهه ضد المؤسسة الطبية، حيث قال في محادثة مع بريت وينشتاين في مارس 2021: "أعتقد أنه إذا قمت بإجراء الإحصاءات بشكل صحيح، فإن الطب، بمعزل عن الصحة العامة، يقتل أكثر مما ينقذ." هذا التصريح يشير إلى أنه ابتعد كثيرًا عن أصوله، عندما كان يجادل من أجل العقلانية والعودة إلى القيم الليبرالية لعصر التنوير الأوروبي. (الطب الحديث، باستخدام المضادات الحيوية فقط، أنقذ أرواح الكثيرين أكثر مما قتل).

لم يبدو أن أياً من هذا يؤثر على معجبيه. قال أحد المؤيدين لي: "لديه إدماناته الخاصة، وشياطينه الخاصة، لكن هذا فقط يثبت أنه إنسان، مثلنا". "لماذا نحتاج إلى وضع الأشخاص الذين نعجب بهم على قاعدة تمثال، ونتوقع منهم أن يكونوا فوق البشر؟" كتبه تستمر في البيع؛ ومقاطع الفيديو العديدة الخاصة به تحقق أرقام مشاهدة كبيرة، غالبًا ما تتجاوز المليون. لقد منح الكثيرين شعورًا بالقدرة على التحكم في حياتهم، إلى جانب مبررات لقيمهم "التقليدية" (والتي غالبًا ما تتجه نحو التعصب، كما يظهر في تعليق عابر للمعلق "المسلم المتشكك" على اليوتيوب المذكور أعلاه الذي أيد "أيديولوجية بيترسون المناهضة للفيمينيزم والمتحولين جنسياً").

وعندما لاحظ ذلك، اكتشف أن العديد من أتباعه المخلصين كانوا في العالم الإسلامي. واكتسب هؤلاء المعجبين دون أن يحاول حقاً، فجاء ليحتضن المفكرين والنشطاء المسلمين في برنامجه الصوتي. مدفوعًا بإعجابه الواضح من المسلمين حول العالم ونجاح العديد من هذه التسجيلات، توجه إلى معجبيه المسلمين مباشرة. ومع نبرة التعالي، والجهل بالإسلام، وتجاهل الحقائق السياسية والحساسيات، فقد أضعف قاعدة المعجبين التي لم يسعَ إلى اكتسابها ولكن قدرها مع ذلك. وبما أن المسلمين انجذبوا إليه بسبب قيمه، التي تتشابه إلى حد كبير مع الفكر المحافظ، فإنهم الآن يتخلون عنه، ليس لأنهم يرون من خلال إصلاحاته للمساعدة الذاتية، بل لأنه انغمس في منطقة لا يفهمها. لدى المسلمين رسالة إلى بيترسون، لكن من المشكوك فيه ما إذا كان سيستمع إليها.

***

..........................

الكاتبة: ليديا ويلسون/  Lydia Wilson  ليديا ويلسون هي رئيسة قسم الثقافة في مجلة "نيو لاينز" وزميلة زائرة في قسم دراسات الشرق الأوسط بجامعة كامبريدج، وزميلة بحثية في مركز حل النزاعات المستعصية بجامعة أكسفورد، ورئيسة اللجنة الدائمة لمراقبة الإرهاب والنزاعات في الاتحاد العالمي للعلماء، وزميلة فولكان في مبادرة الحوار الدولي. حصلت ليديا على بكالوريوس في العلوم الطبيعية، ثم درجة الماجستير في تاريخ وفلسفة العلوم، ودرجة الدكتوراه في الفلسفة العربية الوسيطة، وجميعها من جامعة كامبريدج. بين الدرجات العلمية، حاولت ليديا تعلم اللغة العربية في دبي، لكنها اكتشفت أن القليل من العربية يُستخدم هناك، لذا حاولت مرة أخرى في سوريا وحققت نجاحاً أكبر.

بعد الدكتوراه، التي ركزت التى فيها: ليديا ويلسون على ترجمة وتأطير أعمال الفارابي (وخلالها شاركت في تأسيس مجلة "كامبريدج ليتيراري ريفيو"، وهي مجلة متخصصة في الكتابات التجريبية)، تركت ليديا دراسات العصور الوسطى وذهبت إلى العراق بتمويل بحثي لدراسة متى وأين يقوم الناس بأقصى التضحيات من أجل قضية ما، وبدأت بإجراء مقابلات مع عناصر من حزب العمال الكردستاني. وعندما أعلنت جماعة الدولة الإسلامية الخلافة، توسعت أبحاثها لتغطية ظاهرة الانضمام إلى الخلافة الناشئة، وإجراء مقابلات مع سجناء داعش، وعائلاتهم، والمجندين، وآخرين في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وأوروبا. استمر هذا العمل خلال فترة زمالات ما بعد الدكتوراه في كامبريدج ونيويورك وأكسفورد ثم العودة إلى كامبريدج، وتوسع ليشمل تقديم الاستشارات لوكالات الأمم المتحدة والحكومات والمنظمات غير الحكومية حول مكافحة التطرف العنيف.

خلال هذه الفترة، كتبت ليديا مقالات صحفية وأكاديمية عن النزاعات والإرهاب والثقافة، وظهرت مقالاتها في مجلات مثل "تايم"، "نيويورك ريفيو أوف بوكس"، "ذا نيشن"، "تايمز ليتراري سبلمنت" والعديد من المنافذ الأخرى. كما خاضت تجربة الصحافة الإذاعية، وقدمت سلسلة تلفزيونية من ثلاثة أجزاء على قناة بي بي سي بعنوان "التاريخ السري للكتابة"، وكانت تتحدث بانتظام كخبيرة على قنوات دولية مختلفة. خلال فترة الإغلاق، مع استحالة السفر، انضمت ليديا إلى مختبر الحاسوب بجامعة كامبريدج للعمل على أنماط التطرف عبر الإنترنت، وفي هذه الفترة أيضًا انضمت إلى "نيو لاينز" كمحررة مساهمة. لم يكن هناك عودة بعد هذه الخطوة إلى "نيو لاينز"، وتزايدت المسؤوليات حتى أصبحت تعمل بدوام كامل في أبريل 2022.

https://newlinesmag.com/argument/how-jordan-peterson-ruined-his-image-with-muslims

 

بقلم: لاين سيدوني تالا مافوتسينج

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

يمتد إرث فونميلايو رانسوم-كوتي إلى ما هو أبعد من كونها والدة الموسيقي النيجيري الأسطوري والناشط السياسي فيلا كوتي أو أول امرأة نيجيرية تقود سيارة. يكشف فيلم السيرة الذاتية للمخرجة بولانلي أوستن بيترز عن دورها في استقلال نيجيريا وحركات تحرير المرأة.

بنهاية الحرب العالمية الثانية، كانت الاقتصاد النيجيري على حافة الانهيار. الأعباء الاقتصادية التي عانت منها حياة النيجيريين العاديين خلال فترة ما بين الحربين قد تفاقمت فقط بسبب القيود الاقتصادية للحرب، التضخم المرتفع، والنقص الحاد في الموارد. في أبيوكوتا، المدينة التي أسسها شعب اليوروبا في عام 1830 وتعد الآن عاصمة ولاية أوجون في جنوب غرب نيجيريا، كانت النساء اللائي شاركن في الأسواق المحلية وبيع المواد الغذائية أكثر تأثراً - وليس لأول مرة. لكن هذه المرة كانت النساء سيجدن من يدافع عن قضيتهن: فوميلايو رانسم كوتي. لم يقتصر نهجها على تعزيز النضال ضد الاستعمار والنظام الأبوي، بل ألهم أيضًا العديد من حركات العدالة الاجتماعية الأخرى في نيجيريا، وفي إفريقيا وحول العالم.

عندما فرض المسؤولون الاستعماريون البريطانيون الضرائب في أبيوكوتا لأول مرة في عام 1918، كانت النساء مستهدفات بشكل غير عادل. لم يكن الأمر أنهم فقط فرضوا عليهن ضرائب بشكل منفصل عن الرجال وفي عمر مبكر (كانت الفتيات يدفعن الضرائب من سن 15 بينما الأولاد لم يدفعوا حتى سن 16)، بل كانت طرق جمع الضرائب التي استخدمها تنفيذ القانون المحلي عنيفة ومفرطة. تم اقتحام منازلهن وتعرضن للاعتداء الجسدي، وأحيانًا تم تجريدهن من ملابسهن لتحديد أعمارهن لأغراض الضرائب. تعرضت نساء السوق لمصادرات من قبل الشرطة لمنتجاتهن دون تعويض أو بأسعار أقل من تلك التي حددتها الإدارة الاستعمارية.

على الرغم من تلقي بعض التعاطف من بعض الرجال ومؤسسات أخرى يقودها الرجال، استمرت النساء في أبيوكوتا في المعاناة. ومع ذلك، لم يكن بالإمكان تحريك الإدارة المحلية. لقد جلبت نساء السوق في أبيوكوتا مرارًا وتكرارًا شكاواهن إلى الحاكم التقليدي المحلي، العلكي لأيجبالاند، أدامولا الثاني، ومجلس الإيجبا، دون أي نتيجة. كان لا بد من إيجاد وسيلة أخرى لسماع شكاواهن وفهمها.

هنا تبدأ قصة صعود رانسم كوتي كمدافعة عن حقوق النساء حقًا. لأولئك الذين يعرفون تاريخ نيجيريا، غالبًا ما يُختصر قصتها في أمرين: كونها أول امرأة في البلاد تقود سيارة وكونها أم الفنان الأسطوري فيلا كوتي. لكن تأثير رانسم كوتي في نيجيريا كان دائمًا وأستمر في كونه أكبر من هذين الأمرين من حياتها. باعتبارها مؤسسة نادي نساء أبيوكوتا، الذي أعيد تأسيسه لاحقًا كاتحاد نساء أبيوكوتا (AWU)، قادت رانسم كوتي حركة مقاومة نسائية ضد الضرائب غير العادلة التي فرضتها الحكومة الاستعمارية البريطانية على نساء السوق. في فيلمها الوثائقي الجديد عن الناشطة السياسية، "فوميلايو رانسم كوتي"، تظهر المخرجة الكينية والكاتبة بولانلي أوستن-بيترس جانبًا آخر من حياة رانسم كوتي، حيث أن إرثها وعملها أثرا بشكل كبير على بداية حركة استقلال نيجيريا ودخول النساء في ذلك الصراع.

الفيلم عبارة سلسلة من الومضات الزمنية التي ترويها رانسم كوتي الأكبر سنًا (التي تؤدي دورها الممثلة المخضرمة جوك سيلفا) لصحفي فرنسي وهي ترقد في سرير المستشفى بعد أن ألقيت من نافذة في الطابق الثاني بواسطة جنود مسلحين اقتحموا مجمع ابنها فيلا، وهي حادثة حدثت في عام 1977 وأدت في النهاية إلى وفاتها في العام التالي عن عمر يناهز 77 عامًا. تروي الحلقات حياة رانسم كوتي من أيام طفولتها كواحدة من أولى الفتيات اللواتي حضرن مدرسة أبيوكوتا الثانوية إلى قيادتها لثورة نساء أبيوكوتا في عام 1946.

تبدأ رانسم كوتي الأكبر سنًا، المولودة في عام 1900، قصتها بأخذنا إلى أيام طفولتها، حيث يخبرها والدها، الرئيس دانيال أولوميويوا توماس، أنه لديه أحلام لها تتجاوز ما هو متوقع من فتاة شابة تعيش في أبيوكوتا في ذلك الوقت. ويقنع الإدارة في المدرسة بقبول رانسم كوتي الصغيرة في عام 1914، حيث تظهر وعدًا فكريًا كبيرًا. خلال سنوات دراستها الثانوية، تلتقي بزوجها المستقبلي، إسرائيل أولودوتون رانسم كوتي، ابن رجل دين. غالبًا ما يتم تقليص رحلة علاقتهما إلى الخلفية، وهي خطوة من أوستن-بيترس تتيح لحياة رانسم كوتي أن تتكشف بطريقة تركز على نشاطها، على الرغم من أن دعم زوجها يظل حاضرًا.

وفقًا لشيريل جونسون-أوديم، مؤرخة ومشاركة في تأليف "من أجل النساء والأمة: فوميلايو رانسم كوتي من نيجيريا"، فإن حقيقة أن رانسم كوتي وزوجها كانا يتشاركان في السياسة بشكل مشابه كانت نادرة للغاية في ذلك الوقت.

قالت جونسون-أوديم لصحيفة نيو لاينز. " لقد كان ناشطًا أيضًا"، "كان مؤسس اتحاد المعلمين النيجيريين وأيضًا يساريًا للغاية. دعمها، ولا يوجد الكثير من الرجال الذين كانوا سيسمحون لها بأن تكون في طليعة ما تحتاج إلى القيام به." بطريقة ما، لم يكن دعم زوجها يمنح رانسم كوتي الحرية لتكون نشطة فقط، بل عزز أيضًا جهودها، مع العلم أن لديها شريكًا يتشابه عمله وأخلاقه مع عملها. بين والدها وزوجها، كان لدى رانسم كوتي حليفين ذكرين حاسمين في حياتها عندما يتعلق الأمر بالنضال ضد النظام الأبوي وتعزيز المساواة بين النساء في نيجيريا.

بعد إكمال دراستها الثانوية، بدأت رانسم كوتي رحلتها للدراسة في إنجلترا، حيث تم توثيق أنها لم تستمتع بوقتها هناك بسبب العنصرية والتمييز. ومع ذلك، كانت هذه الفترة هي التي اكتشفت فيها الاشتراكية ومعاداة الاستعمار. بالإضافة إلى ذلك، بدأت تنشط في بلدتها. عندما عادت إلى أبيوكوتا في عام 1922 للعمل كمعلمة، أصبحت أيديولوجيات رانسم كوتي وأخلاقياتها أكثر وضوحًا. يظهر ذلك بشكل واضح في مشهد حيث تكون رانسم كوتي الشابة على العشاء مع عائلة إسرائيل (زوجها)  وتدخل في محادثة متوترة مع والده حول التعليم والدين. بينما يعتقد والد إسرائيل أن المدرسة ليست ضرورية للجميع وأن البريطانيين جلبوا المسيحية إلى نيجيريا وقد كان هذا شيئًا جيدًا، تتحداه رانسم كوتي قائلةً إن الآباء يجب أن يسمحوا لأطفالهم باستكشاف إمكانياتهم التعليمية قدر الإمكان وتسأل، "لماذا يجب علينا أن نعتقد أن الطريق الوحيد للخلاص هو عبر المسيحية البيضاء؟" على الرغم من اختلافاتهما، أكدت رانسم كوتي لاحقًا أن العلاقة بينهما كانت رائعة في النهاية.

في عام 1932، أسست رانسم كوتي نادي نساء أبيوكوتا، وهي منظمة مكونة من نساء من الطبقة المتوسطة تركزت بشكل رئيسي على العمل الخيري وتقديم دروس تعليم الكبار. بحلول الأربعينيات، بعد أن طلبت منها صديقة أمية أن تعلمها القراءة، اتخذت المنظمة موقفًا سياسيًا واضحا. من خلال تقديم دروس محو الأمية لمجموعة من نساء السوق، تعلمت رانسم كوتي المزيد عن الظلم الذي تتعرض له هؤلاء النساء من قبل الحكومة الاستعمارية. في الفيلم، تكون أول مواجهة لرانسم كوتي مع معاناة النساء أثناء زيارتها للسوق للحديث مع والدة طالبة لم تحضر إلى المدرسة ذلك اليوم. هناك، شهدت كيف كانت النساء يعاملن بشكل غير عادل وعنيف من قبل حراس "الألاكي"، الذين ظهروا دون سابق إنذار لأخذ وتدمير بضائعهن.

لكن هنا، أخذ الفيلم بعض الحرية الفنية. في الواقع، كانت نساء السوق هن اللائي ذهبن إلى رانسم كوتي طلبًا لمساعدتها وأخبرنها عن وضعهن. قد يُفسر هذا التعديل في السرد على أنه خلق صورة المنقذة لرانسم كوتي، لولا أن الفيلم يظهر باستمرار - كما كان الحال في الحياة الواقعية - أن رانسم كوتي كانت دائمًا حازمة في أن هذه كانت صراعًا تحرريًا جماعيًا ضد حكومة استعمارية تختبئ خلف "الألاكي" لتنفيذ سياساتها القمعية. لكن عند الحاجة، كان استعداد رانسم كوتي لمواجهة العلكي ومجلسه الذي يتكون من الرجال فقط نيابة عن النساء، خاصة في بيئة كان فيها القيادة السياسية النسائية شبه معدومة، مرحبًا به ومدعومًا من قبل نساء السوق.

بحلول أواخر الأربعينيات، كانت الحكومة الاستعمارية قد تبنت عدة سياسات صارمة تتعارض مع مصالح نساء السوق. وفقًا لجونسون-أوديم، في مقالها “‘من أجل حرياتهن’: النشاط المناهض للإمبريالية والفميني الدولي لفوميلايو رانسم كوتي من نيجيريا”، فرضت الحكومة ضوابط أسعار على جميع السلع المباعة في السوق، وطلبت من النساء تسليم حصص من السلع للحكومة لتعويض النقص الناتج عن الحرب العالمية الثانية وفرضت ضرائب إضافية على النساء. تم اتخاذ هذه الإجراءات دون أي تمثيل نسائي في أي من الهيئات الحكومية الاستعمارية. كانت هذه السياسات غير الشعبية والقيود مفروضة على هؤلاء النساء من خلال العلكي ومجلسه، الذي كان يعمل كامتداد للحكم الاستعماري.

لم تقتصر هذه السياسات على استمرار إقصاء النساء في بيئة كانت فيها حقوق النساء محدودة بالفعل، بل أضاءت أيضًا التباين الشديد بين حياة نساء السوق وحياة النساء من الطبقات المتوسطة والعليا. كانت الأولوية الأصلية لنادي النساء هي العمل كجمعية خيرية، وكانت العضوية مقتصرة على النساء من فئات سكانية معينة. لكن الأمور تغيرت عندما فهمت رانسم كوتي أنه لم يكن كافيًا فقط تقديم دروس للنساء من خلفيات اجتماعية واقتصادية أخرى، خاصة نساء السوق: كن بحاجة للعمل معًا.

كان إعادة تسمية النادي رسميًا إلى اتحاد نساء أبيوكوتا في عام 1946 تعكس هذا التغيير في الأيديولوجية. ليس موثقًا ما إذا كان هناك اعتراض داخل نادي النساء على هذا التغيير. لكن الفيلم يقترح هذا في مشهد حيث تقول رانسم كوتي إن النادي يجب أن يُحل ويُعاد تشكيله ليشمل جميع النساء، لكن بعض الأعضاء يقاومون. تسأل إحدى النساء، "تريدني ... أنا ... أن أختلط بالكتلة الجماهيرية؟ أن أتنفس نفس الهواء؟" هذا المشهد هو اختيار إبداعي من أوستن-بيترس لإظهار أن ليس الجميع تقبلوا التضامن الذي رأته رانسم كوتي ضروريًا للصراع.

في نفس العام، قادت رانسم كوتي اتحاد نساء أبيوكوتا في أول احتجاج لها ضد الضرائب غير العادلة على النساء، مما مهد الطريق لثورة نساء أبيوكوتا (المعروفة أيضًا بانتفاضة ضرائب إيجبا)، التي استمرت حوالي ثلاث سنوات. حضر آلاف النساء الاحتجاجات الجماهيرية. وفقًا لجونسون-أوديم، نظمت رانسم كوتي أيضًا جلسات تدريب حيث علمت النساء كيفية حماية أنفسهن من الغاز المسيل للدموع وشجعتهن على التقاط قناني الغاز المسيل للدموع وإلقائها على الشرطة. كان اتحاد نساء أبيوكوتا والنساء اللواتي انضممن إلى الاحتجاجات يحيطون بمنزل أو مكتب رجل وينشدون أغاني الاحتجاج. في عدة مناسبات فعلوا الشيء نفسه في قصر أدامولا، حيث تعرضوا للغاز المسيل للدموع، والضرب من قبل الحراس، وتم اعتقال بعضهم. يعيد تصوير الفيلم إحياء هذه اللحظة المهمة في تاريخ النساء الأفريقيات.

ما يفتقر إليه أوستن-بيترز، مع ذلك، هو أن الثورة تجاوزت الصراع ضد الضرائب. كانت رانسمو-كوتي مناهضة للاستعمار بشدة، وقد تساءلت علنًا عن طبيعة الحكم الاستعماري البريطاني وكيف أثر ذلك على العلاقات الاقتصادية والاجتماعية للنساء مع الدولة. كما اعترضت رابطة نساء أبيوكوتا على عدم وجود نساء في الهيكل السياسي المحلي وعلى مبدأ فرض الضرائب دون تمثيل. وقد ناضلت رابطة نساء أبيوكوتا ورانسمو-كوتي من أجل أن تحمي الدولة مصالحهن ورفاههن، سواء كان ذلك يتعلق بالضرائب أو الرعاية الصحية أو التعليم. إن نظرة أكثر شمولية لعمل رانسمو-كوتي مع رابطة نساء أبيوكوتا كانت ستوفر للجمهور فهمًا أعمق لكيفية تأثير حياة النساء الشخصية على عملهن وعمل الآخرين.

على الرغم من أن ابن رانسمو-كوتي الشهير، فيلا، معروف بتأثير موسيقاه على الخطاب الاجتماعي والسياسي وانتقادها لتأثير الاستعمار في نيجيريا، فإن القليل كتب عن الطريقة التي كانت بها والدته وعملها مع النساء في السوق مصدرًا كبيرًا للإلهام لعمله. تكتب عالمة الإثنو-موسيقى ستيفاني شونيكان في مقال بعنوان "أسس فيلا: دراسة الأغاني الثورية لفونميلايو رانسمو-كوتي وحركة نساء أبيوكوتا في غرب نيجيريا في الأربعينيات" أنه لفهم فيلا، من الضروري التركيز على نضالات رانسمو-كوتي ونساء سوق أبيوكوتا.

وفقًا لجوديث أ. بايفيلد، أستاذة التاريخ الإفريقي والكاريبي في جامعة كورنيل، لم تكن النساء في السوق مدفوعات للانضمام إلى رابطة نساء أبيوكوتا والصراع ضد الضرائب غير العادلة لأنهن كان لديهن طموحات للوصول إلى نفس مستوى النساء النخبة في المنظمة؛ بل ناضلن من أجل تحسين حياتهن كما كانت.

قالت بايفيلد لمجلة "نيو لاينز": "كن يرغبن في اكتساب المهارات التي ستساعدهن على التنقل في مجالاتهن المهنية المختارة. كن يرغبن في التعليم لأنفسهن ولأطفالهن ليصبحن أفضل في إدارة أعمالهن".

انتهت ثورة النساء في عام 1949، مع تنازل أديكولا، وتعليق الضريبة الثابتة على النساء، وقبول النساء في المجلس المحلي. على الرغم من أن بعض هذه النجاحات تم عكسها في النهاية — حيث عاد الألاكي إلى السلطة بعد عامين وأعيد فرض الضريبة — فإن الثورة كانت مهمة في إظهار ما يمكن أن تفعله النساء من جميع الفئات الاجتماعية في مواجهة القمع. كما عززت من إرث رانسمو-كوتي باعتبارها "أسد" حقوق النساء في نيجيريا.

حتى وفاتها في عام 1978، واصلت رانسوم-كوتي عملها كمعلمة وسياسية وناشطة في مجال حقوق النساء. قالت جونسون-أوديم: "أعتقد أن أحد الأشياء التي لا يتحدث عنها الناس بما فيه الكفاية هو التأثير الذي كانت لها على نضالات النساء حول العالم". من جنوب أفريقيا إلى غانا وحتى إنجلترا، أثرت أعمال رانسمو-كوتي مع رابطة نساء أبيوكوتا على العديد من حركات حقوق النساء، خصوصًا في القارة وخصوصًا في نيجيريا. أوضحت جونسون-أوديم: "أخذت رابطة نساء أبيوكوتا من كونها شيئًا محليًا إلى إنشاء رابطة النساء النيجيريات". "كانت تتلقى رسائل من النساء في الشمال يتحدثن عن نضالهن من أجل حق التصويت، لأن النساء في الجنوب حصلن على حق التصويت قبل النساء في الشمال".

كما أكد تفانيها في تحدي ومقاومة القيم الاستعمارية الراسخة ومشاركتها في حركة الاستقلال النيجيرية على الطرق المهمة التي كانت النساء نشطات بها في التنظيم السياسي. من خلال سرد قصة رانسوم-كوتي في الفيلم، تقدم أوستن-بيترز للجمهور فرصة لفهم أن النساء الأفريقيات كان لديهن دائمًا القدرة على سرد قصصهن الخاصة.

تقول أولولادي فانيي، طالبة دكتوراه في قسم دراسات المرأة والجندر والجنس في جامعة إيموري والمؤلفة المشاركة للمقالة العلمية "التحالف النسائي في نهاية SARS: استكشاف استمرار حركات النساء عبر الأجيال النسوية" مع الباحثة والفيلسوفة شارون أديتوتو أوموتوسو، إن هناك رابطاً وُراثياً ومرادفاً بين العمل الذي قامت به رانزوم-كوتي مع اتحاد نساء أبيوكوتا والعمل الذي تقوم به المنظمات النسوية المعاصرة في نيجيريا اليوم. بنفس الطريقة التي أدت بها تغيير الأهداف إلى تحول نادي نساء أبيوكوتا إلى الاتحاد النسائي، فإن منظمات مثل التحالف النسوي (المعروف أيضاً باسم FemCo)، وهو تجمع من النسويات النيجيريات الشابات اللاتي يهدفن إلى تعزيز المساواة بين الجنسين في جميع جوانب المجتمع النيجيري، قد تكيفت أيضاً أهدافها الأولية بناءً على احتياجات مجتمعها خلال حركة نهاية SARS 2020. كانت نهاية SARS حركة اجتماعية وسلسلة من الاحتجاجات الجماهيرية ضد وحشية الشرطة، وبشكل محدد ضد وحدة مكافحة السرقة الخاصة، التي حدثت أساساً في أكتوبر 2020.

وبالمثل، فإن فهم  فهم رانسوم-كوتي للتقاطع بين الطبقات، خاصة عند الاحتجاج ضد الدولة أو الحكومة، هو أمر حاسم لنجاح الحركة الاجتماعية. في مقالهم، يكتب أوموتوسو وفانيي أن وعد الطعام والترفيه قد يكون قد أثر على قرارات الأفراد من ذوي الدخل المنخفض للمشاركة في احتجاجات المنظمة، "لكن مشاركتهم المستمرة عكست وعيًا متزايدًا وتضامنًا مع المتظاهرين الآخرين"، حيث بدأوا في التعرف على المشاكل النظامية في نيجيريا التي كانت تؤثر على جميع الناس.

"قالت جونسون أوديم: "إن مفهومها للصراع الطبقي وحق المرأة في اتخاذ القرارات بشأن نفسها لا يزال يشكل أكثر أشكال النسوية تقدمًا". وعلى الرغم من أن رانسوم-كوتي كانت متقدمة جدًا على عصرها، وخاصة في أدوارها في المجال السياسي، إلا أن نيجيريا لم تشهد بعد امرأة تتنافس بجدية على رئاسة الحكومة. في عام 2022، نزلت النساء إلى الشوارع في أبوجا للاحتجاج على رفض التعديلات الدستورية المقترحة التي كانت ستعزز المساواة بين النساء والمشاركة السياسية في البلاد. وفي أغسطس 2024، عاد النيجيريون إلى الشوارع للاحتجاج على الصعوبات الاقتصادية تحت هاشتاج #EndBadGovernance. لا تزال الصراعات النظامية التي خاضتها رانسوم-كوتي واتحاد نساء أبيوكوتا تتردد صداها بطرق مختلفة.

تضيف جونسون-أوديم: "أعتقد أن هناك العديد من الطرق التي تكون فيها مواقف رانسمو-كوتي التقدمية ذات صلة إيجابية، وفي بعض الجوانب، للأسف ذات صلة."

لقد قدم فيلم "فونميلايو رانسوم-كوتي" نظرة مرضية لحياة وعمل أيقونة لا يزال تأثيرها مهمًا في الطرق التي يواجه بها النيجيريون عدم المساواة في سياق معاصر.على الرغم من وجود مجال لدفع القصة إلى أبعد من ذلك، فقد أظهر الفيلم ما يمكن فعله عند سرد القصص القوية للنساء الإفريقيات.

وأضافت جونسون-أوديم: "من الضروري للغاية أن ندرك أن فكرة النساء اللواتي يناضلن من أجل النساء وحقوق النساء ليست شيئًا له جذور فقط في الغرب. هناك أشياء يمكن أن تعلمها النساء الأفريقيات 'التاريخيات' لحركات النساء في نيجيريا اليوم."

(تمت)

***

..............................

الكاتبة: لاين سيدوني تالا مافوتسينج /  Line Sidonie Talla Mafotsing صحفية مستقلة كاميرونية تقيم في مونتريال، كندا.

https://newlinesmag.com/essays/how-funmilayo-ransome-kuti-championed-womens-rights/

المفاهيم والآراء والأفكار التي تطرح كمشاريع ثقافيَّة أو بديل ثقافي، ظاهرة صحية تستحق العناية والتأمل، وإن جاءت بمتبنيات عراقيَّة الآن،  فتلك الأطر النظرية تناولها مفكرون عرب (عبد الله العروي، الجابري، طرابيشي، ادونيس، اركون) وغيرهم، كانت لهم أفضليَّة الريادة في صياغة رؤاهم عبر نظريات جديدة في ميداني الفكر والثقافة، لاقت قبولاً ايجابياً وانتشاراً سريعاً في الأوساط الثقافيَّة، لأنَّها تصدت للظواهر الثقافية وواجهت بضرواة اساليب مصادرة العقل، لذا تأتي المحاولات  في الاتجاه نفسه، امتداداً لتلك المحاور المعرفيَّة التي شغلت المثقف لعقود من الزمن وما تزال في تشكيل وعي الإنسان وتحقيق ذاته ووجوده، من دون خضوع لتأثيرات أيديولوجية.

نحن إذن بإزاء إرادة إنسانيّة تسعى الى تغيير واقع ما، ذاتاً أم مجتمعاً، وإزاء معطيات فكريّة ذات ارتباط بحقل المعرفة يراد بلورتها كمنطلقات نحو الإصلاح.

هذه المحاولات في محاورها المختلفة، وخطاباتها المتعددة تستجيب إلى سؤالين: سؤال عن ماهيةالثقافة، وآخر عن الذات سواء على مستوى الفكر، والفلسفة والسياسة، والتاريخ، أو الإبداع أم في مناقشة الأفكار بوعي نقدي مختلف. لأنّنا بالسؤال نختبر حيوية المعرفة، وفي تعدد الأسئلة يكون الجدل اللانهائي في مفاهيم أخرى: الأصالة والمعاصرة، الذات والأنا والهوية، التراث والتجديد.

القراءة المتأملة للأفكار تدعو منذ البدء الى عدم التسرّع في اطلاق الأحكام، إنّما واقع الحال يقتضي مناقشتها بنظرة واعية وعميقة، فكثيرة هي المشاريع الثقافيّة والفكريّة والنقديّة التي حاولت البحث في أسباب أزمة الثقافة.

والمثقف كونه مبدع القيم والأفكار لا يختبر المقولات فحسب، انما يختبرها في حركة الثقافة في الذهنية الثقافية، وتحولات المجتمع، نعني الاحتكام الى الواقع، لأنه في هذين المختبرين يكتشف فاعليته وأثره ومدى استجابة "مشروعه" لتحولات الواقع وحركة التاريخ. المثقف ذاته أحد وجوه الازمة، حين يظن انه يقبض على المعنى، أو يمتلك مفاتيح الحقيقة، وحده لاشريك له، في امتلاك الحلول للاصلاح، أعني تحديداً المثقف المتألّه، الواقع فريسة نرجسيته.

باعتقادي ان محاولة حصر تفكيرنا فيما يسمى بمشاريع هي محاولة للتأطير كذلك، بينما ينبغي أن يترك الفكر حراً طليقاً من دون قيود.

ولما كان الخطاب الإصلاحي غالباً ما يبحث عن معادل موضوعي له في صميم الحياة المجتمعيَّة، فإنّه يتوجه الى أزمة الثقافة في بداية الأمر. والمثقف أولاً. لأن مفهوم الازمة ملازم لمفهوم الثقافة، وموضوعة الاصلاح هي موضوعة فكرية - فلسفية، تتطلب دائماً بناءً عقلياً يصوغ الرؤى التي تنشد تغيير الواقع الذاتي للإنسان وتغيير المجتمع الذي ينتمي اليه، وقصدنا المثقف لان وعيه يجعل تفكيره خارجاً عن إطار ما هو متحقق بالفعل، بل ان المثقف كان في معظم العصور خارجاً عن إطار القيم الشائعة، هذه الأزمة مزدوجة بطبيعتها، فهي من جهة تعبّر عن عجز الواقع من مسايرة الفكر، وربما بالضد من هذا المعنى حين يكون الواقع هو الأسرع تطوراً من الفكر، في المجتمعات سريعة التطور، ونتيجة لهذا التعارض تتلاحق الازمات الثقافية، وتتخذ في كل جيل شكلاً جديداً، او تطرح مفاهيم جديدة.

المهم في الأمر أن مفهوم الازمة ينتج عن التصادم بين الفكر والواقع، ويبدو أنه ملازم للتطور الحضاري للإنسان، بل ربما كان علامة صحيَّة تدلّ على يقظة الوعي الإنساني ورهافة إحساسه بالظروف المحيطة به.

ولكن للأزمة معنى آخر أشدّ مضاءً، تكون فيه تعبيراً عن مرض أو اختلال، يتمثل في القيود الشديدة على حرية التعبير بوجه عام، أو أن توكل الثقافة الى الجهلة الذين يتعمّدون تخريبها، أو نشر التفاهة، ان جزءاً من هذه الأزمة في بلداننا العربيّة ينتمي الى هذا النوع الأخير. وغالباً ما تكون مقدمات أسباب فشل مشاريع الثقافة هي في إحالتها الى عناصر وإدارات تقف بالضد من الثقافة.

هنا يتبين لنا أنّ العلاقة بين الثقافة والسلطة هي التي تتحكم الى حد بعيد في ازدهار الثقافة أو وضع المعوقات في طريقها، والأخطر في هذا النهج أن يكون المثقف الوجه الآخر للسلطة السياسية في ارتكاب المفاسد والمساوىء

ويبتعد ممثلوه عن أداء مهماتهم الحقيقية، في الهرولة نحو السلطة، حينذاك يفقد هؤلاء  استقلاليتهم المهنيّة وتتفاقم الأزمة وتتعقد حين يتفق اطراف المعادلة جميعاً على إبعاد المثقف الحقيقي عن أداء دوره الفاعل، المؤثر في المشهد الثقافي، واقصائه عنه بشتى الوسائل والأساليب، فتضيع المعايير، والرؤى الوطنية المسؤولة، ويتسلل أولئك الهامشيون ، ..الطارئون ، البعيدون عن الهمّ الابداعي الحقيقي  إلى ادارة تلك المؤسسات، لتحقيق منافع شخصية، ومكاسب وامتيازات من أجل البقاء . من البديهي أن لا يمضي الطارئ بخديعته الى النهاية.

تتعدد وجوه الأزمة في الشرط الأول للإبداع هو الحرية، كيف للمثقف أن يتنفّس هواء الحرية وهو مكبّل بقيود سلطات :  سياسية ودينية .والأمضى حين يكون هناك قيد آخر يفرضه الجمهور الجاهل، فالمثقف الحقيقي يتجنّب المساس بهذه الجماعات التي تترصّد أي فكر مجدد يخرج عن إطارها الخاص، أو معارض ومختلف معها، وحتى الرأي الآخر يصبح تهمة تهدد   صاحبه. بمعنى آخر أن رجل الشارع الجاهل يصبح رقيباً أكثر شراسة من رقابة السلطة.

هذا التعارض مرتبط من دون شك بالتخلّف الثقافي، وغياب الوعي، وحين تكون النخب وحدها القادرة على تذوق الأعمال ذات المستوى الرفيع، وتكون الغالبيّة عاجزة عن الاستمتاع إلّا بالأعمال السطحيّة المبتذلة، في مثل هذه الأوساط، تتخذ هذه المشكلة صيغة حادة، يكون فيها الباب مفتوحاً على مصراعيه أمام المزيفين لخداع الناس بثقافة سطحيّة تتملق غرائزهم وعواطفهم، أو تشلّ عقولهم وتغيّب  وعيهم.

الخلاصة،  أن البحث في أوضاع المثقف والمثقفين يقتضي إبداء اهتمام أكبر بنوع العقل الذي يراد تكوينه للإنسان، وهل هو عقل مشدود الى الخلف؟ أم جامد في مكانه؟ أم هو عقل قادر على التطلع بأمل إلى مستقبل أفضل؟.

***

د. جمال العتابي

 

من الملاحظ إن التدين الذي نراه في واقعنا، ونلمسه في حياتنا، هو تدين على نوعين: تدين شكلي (ظاهري)، وهو تدين بلا روح يَختصر رؤيته بالممارسة الشكلية، وغالباً ما تكون موسمية، وأقرب ما تكون كمظهر كرنفالي، متعدد الدوافع والغايات، وهي بالطبع دوافع لا علاقة لها بالتعبد، وحياة الروح والتي تتراوح بين العادة والتقليد، ومنها ما يكون ذو نزعة ذات مردود شخصي نفعي، وهناك تدين يتسم بالروح والحياة، غايته التسليم لله وتعمير الحياة الروحية، وتهذيب المشاعر الإنسانية، وهو تدين يشمل باطن وظاهر الإنسان، ويملء عليه كل حركاته وسكناته، الحركة الجسدية وما ينطوي عليه الضمير من قيم وأخلاقيات، وما تضمر النفس من أهداف، والعقل من تطلعات، وهو تدين يستحضره صاحبه في كل لحظة، وفي كل مكان، في حركته وسكونه، في ظاهره، وفي باطنه، وللأسف النوع الأول واسع الأنتشار، وهو من لونَ التاريخ بلونه، وهو المهيمن في الصورة العامة لحركة التدين عند الناس، وصوته أصدح، ورنينه أعلى، وبريقه ألمع، وبسبب ذلك ما جعل للدين معناً ومحتوى، وهو على النقيض من دين الحق الخلاق، الذي يدفع بحالة من الحركة التصاعدية  باتجاه تكاملي، وبصيرورة أيجابية . حين بدأ  الأفتراق ما بين الشكل والمضمون حدثت الفاجعة التي عانت بالأمس وتعاني الإنسانية اليوم معاناة هذا الأفتراق، بسبب البون الشاسع بينهما ، وهكذا ترى وراء كل ظاهرة علة تنتهي أليها أسباب ظهورها . النوع الأول هو بالحقيقة تفريغ مروع لمعنى الدين، وانحراف لوظيفته الحقيقة في تقويم أخلاق الإنسان، وتشكيل ضميره الإنساني، وبالتالي ترشيد حركته، وذلك بجعلها حركة بنائية،  ذات توجه أرتقائي، تضفي على الوجود الإنساني معناً متقدماً يستحق عليه لقب خليفة الله في أرضه، أما أنزواء المعنى الثاني وتقهقره أمام المعنى الأول، فهو بالحقيقة أطفاء لشعلة التدين التي عمل الأنبياء على أشعالها، لتنور على البشرية بأنوارها الساطعة، ولذلك يكون التدين الشكلي هو حركة مضادة لحركة كل الأنبياء، واتجاه معاكس لجهودهم الحثيثة طوال الزمن، وتشتيت لمنجزاتهم العظيمة . اليوم هناك قوى دولية، وبحركة دؤوبة  تُستعمل بها كل الأسلحة، الخشنة والناعمة بالوصول لهذا الانحراف لنهايته، والمجيء بدين جديد تضع هذه المراكز الدولية أبجديته ليصنعوا عالماً يقبضون عليه من تلابيبه،  ويقودونه حيث شاءوا هم، وعلى أيديهم ينهي التاريخ فصوله الأخيرة، كما صوره السياسي الأمريكي فرانسيس فوكوياما، عند مخطط نهاية التاريخ والإنسان الأخير، الذي تُهيمن بها حضارتهم الليبرالية في ظاهرها، واليهودية - الصهيونية في باطنها على العالم أجمع حسب زعمهم، وما يخططون له .

***

أياد الزهيري

 

جحودي لك تقديس

وظني فيك تهويس

*

وقد حيرني حب

وطرف فيه تقويس

الحلاج

***

انتشر التصوف الاسلامي في القرنين الثالث عشر و الرابع عشر الميلاديين وحركه التصوف طارئة على البلاد العربية آنذاك فقد ان ذكرت كتب التاريخ ابراهيم بن ادهم هو اول متصوف في الاسلام وانه من مدينة (بلخ) التابعة الى افغانستان اليوم وانتقل منها الى العراق والحجاز والشام وقد لاقت افكاره تأييدا في العراق في ظل الدولة العباسية الاستبدادية حيث دشنت الخلافة هذه بلقب (السفاح) من قبل اول خليفة لها ثم تلاه (المنصور) الذي افتتح برنامجه السياسي بقوله ..(ايها الناس انما انا سلطان الله في الارض..) وقد سار خلفاء بني العباس على نهجه حتى سقوط اخر خليفة (المستعصم بالله) تحت حوافر جيش هولاكو، لذلك اتخذ التصوف منحنى المعارضة للسلطة العباسية كما ان الفقهاء اكدوا للخليفة انه غير مسؤول عن اعماله الدنيوية امام الله في الاخرة وان دخوله الجنة امر حتمي لانه ظل الله على الارض.

معرفة الله عند المتصوفين

يرى المتصوفة ان الله لا تدركه حواس الانسان وان العقل له طاقة محدودة لا يستطيع ان يتجاوزها ولكن القلب يتسع لمعرفة الحقيقة، فالله يدرك عن طريق القلب او مايسمى بالحب الالهي وقد عبرت المتصوفة رابعة العدوية عن هذا الاتجاه شعرا بقولها:

 احبك حبين حب الهوى ..وحل لانك اهلا لذلكا

كما يرى المتصوفة ان الانسان عندما يبتعد عن ملذات الحياة: المأكل والمشرب والجنس ويخلص الى الله يصبح جوهرة نقية تتحد روحه مع روح الله وقد عبر الحلاج عن هذا بقوله .. (مزجت روحك في روحي كما..تمتزج الخمرة بالماء الزلال

فاذا مسك شيء مني .. فاذا انت انا في كل حال

وقد ادعى بعض المتصوفة الالوهية، مثل: البسطامي والتستري والحلاج

*الحلاج: سيرة ومسيرة

ذكر المؤرخون ان الحلاج ولد في مدينة (البيضاء) في بلاد فارس عام 244هـ وان جده كان مجوسيا ثم انتقل الى واسط ومنها الى بغداد والبصرة ومكة وقد تتلمذ على يد (التستري) ثم الجنيد وعاش طوال فترة تنقله في حالة عدم استقرار حتى استقر اخيرا في بغداد وقضى فترة من الزمن متنقلا بين سجن وسجن في ظل الخليفة العباسي المقتدر وشاعت اخباره بين الناس فاختلفوا في امره فمنهم من قال انه زنديق ومنهم من قال انه ساحر ومنهم من رماه بالكفر والالحاد حتى حوكم وحكمت عليه المحكمة العباسية بالصلب فصلب عام 309 هـ .

شطحات الحلاج وخوارقه

اهتم المستشرق الفرنسي (لويس ماسنيون) بالحلاج واخباره وكتب عنه مؤلفا اسماه (اخبار الحلاج) ذكر فيه شطحاته وصلبه،  وقد ذكر احدى شطحاته في ص155من كتابه قال .. (دخل بعض الرجال الى الحلاج في السجن لامتحانه فسلمنا عليه وقال احدهم له: اريد منك رمانة فنظر الي بعين الغضب ثم حرك شفتيه واذا بشجرة رمانة قد نبتت في السجن فقطع منها عشرة رمانات ثم قال لها اذهبي فذهبت الشجرة .

اما انصاره ومؤيدوه فقد ذكروا له خوارق كثيرة منها قولهم: انه ساعة يمشي على الماء وساعة يطير في الهواء وانه يحيي الموتى وانه يأتي باثمار الصيف في الشتاء واثمار الشتاء في الصيف .

صلب الحلاج

في صلب الحلاج قال ماسينون  في كتابه (اخبار الحلاج) عندما اتي بالحسين بن المنصور ليصلب راى الخشبة والمسامير فضحك كثيرا حتى دمعت عيناه ثم التفت الى القوم فرأى صديقه (الشبلي) فقال له يا ابا بكر هل معك سجادتك فقال بلى يا شيخ قال افرشها لي ففرشها فصلى الحسين بن منصور عليها ركعتين فقرأ في الاولى فاتحة الكتاب وقوله تعالى (لنبلونكم بشيء من الخوف والجوع) وفي الثانية (كل نفس ذائقة الموت) وفي رواية اخرى ان الحلاج ضرب الف سوط وبعد ذلك قطعوا يده اليمنى ورجله اليمنى ويده اليسرى ورجله اليسرى ثم ربطوه الى اعلى الخشبة الى اليوم الثاني وبعد ذلك قطعوا راسه وحرقوا جسده حيث تحول الى رماد وقد ذروا رماده في نهر دجلة ونصبوا راسه على الجسر حتى يراه اتباعه وانصاره وقد طافوا براسه في الشوارع والمحلات التي يتواجد فيها انصاره واتباعه ويكون لهم عبرة يعتبرون بها ويقطعون املهم بالحلاج .

موقف انصاره

اما انصاره فقد قالوا ان الحلاج لم يصلب وان الذي صلب هو شبيه له ولم يكتفوا بهذا القول بل قالوا نحن رأينا الحلاج بعد ثلاثة اياما من صلبه وهو يركب على ظهر بقرة ويقول للناس ان الذي صلب هورجل يشبهني واني ساعود اليكم ان ظاهرة (الشبيه) ظاهرة قديمة –حديثة: فقد انكر القران صلب المسيح وان الذي صلب شبيه له كذلك قال بعض المؤرخين ان الذي نفي الى جزيرة (سانت هيلانه) ومات فيها ليس نابليون بونابرت وانما شبيه له وان الذي انتحر ليس هتلر وانما شبيه له وان هتلر استقل طائرته الخاصه وهرب الى الارجنتين وانطبق هذا الامر على صدام حسين بعد اعدامه حيث ذكر انصاره ان الذي اعدم ليس صدام حسين بل شبيه له المسيحي ميخائيل رمضان .فهذه الشائعات وجدت لها مناخا ملائما لتنبت وتنمو وتنتشر وتصدق لملائمة الظروف  السياسية والدينية لتصديقها فقد تعددت الاشباه والموت واحد.

***

غريب دوحي

 

التجربة السنغافورية

سنغافورة، دولة صغيرة تقع في أقصى جنوب شبه جزيرة الملايو، تُعرف بتنوعها الثقافي والعرقي، حيث يعيش فيها مزيج من المالاويين والصينيين والهنود وغيرهم. تتمتع سنغافورة باقتصاد قوي ومزدهر، يعتمد بشكل كبير على التجارة والخدمات المالية. كما انها تُعتبر واحدة من اكثر الدول امانا ونظافة في العالم، بفضل القوانين الصارمة والبنية التحتية المتطورة.

لا أخفي سرا اذا قلت إنني من أشد المعجبين بنظام التعليم السنغافوري، وكثيرا ما كتبت عن هذا الموضوع وشرحت تفوق هذا النظام على الأنظمة التربوية العالمية الأخرى. وبسبب ارتباطي الكبير بهذه الجزيرة لسنوات عديدة، والذي بدأ في بداية التسعينات من القرن الماضي، حيث ساهمت بشكل فعال في تطوير علم البيولوجيا التطبيقية ومساعدة جامعة سنغافورة الوطنية في بناء القاعدة العلمية لانتاج العقاقير الطبية. وقد أشار إلى ذلك "لي كوان يو"، مؤسس سنغافورة الحديثة، حيث قال ان سنغافورة قامت "بتأسيس المعهد العالي للجينات البيولوجية، واستقدمت خبراء من بريطانيا والسويد واليابان، وعملوا معهم بجد ومثابرة على مستوى دولي، مما أدى إلى تطوير صناعة متقدمة للعقاقير الطبية". هذه إشارة واضحة إلى العمل الرائد الذي ساهمت به في تلك السنوات (راجع مقالنا: سنغافورة صرح كبير للعلم والتكنولوجيا، 2014).

مميزات نظام التعليم السنغافوري

- نظام التعليم في سنغافورة هو بلا شك الأفضل في العالم. في الواقع، إن الطلاب السنغافوريين هم الأفضل أداءً في جميع أنحاء العالم والذين يسجلون باستمرار درجات عالية في التقييمات الدولية مثل برنامج تقييم الطلاب الدولي (PISA) ودراسة الرياضيات والعلوم الدولية (TIMSS)، مما يعكس فعالية النظام التعليمي في إعداد الطلاب لمواجهة التحديات العالمية.

- بالإضافة للتفوق الأكاديمي، يولي نظام التعليم في سنغافورة أيضا أهمية كبيرة لتعليم القيم الانسانية وتنمية الشخصية وتعزيز المهارات المهمة للقرن الواحد والعشرين مثل التفكير النقدي والتعاون والإبداع.

- تضع سنغافورة قيمة عالية على استقطاب وتطوير والاحتفاظ بمعلمين عاليين الجودة. يخضع معلمون في سنغافورة لتدريب شاق وتطوير مهني لضمان أنهم مجهزون لتقديم تعليم عالي الجودة للطلاب.

- تم تصميم المنهج الدراسي في سنغافورة بعناية لتزويد الطلاب بأساس قوي في المواد الأساسية مثل الرياضيات والعلوم واللغة. يتم مراجعة وتحديث المنهج الدراسي بانتظام لضمان بقائه ذو صلة وتلبي احتياجات عالم متغير.

- يشدد نظام التعليم في سنغافورة على أهمية التعلم مدى الحياة والتحسين المستمر. يتم تشجيع الطلاب على اعتناق نمط العقل التوسعي ومتابعة فرص التعلم خارج الفصول الدراسية.

- تستثمر سنغافورة بشكل كبير في التعليم، وتوفر للمدارس مرافق حديثة وتكنولوجيا محدثة ومجموعة واسعة من الموارد لدعم التدريس والتعلم.

- يتمتع نظام التعليم في سنغافورة بشراكات قوية مع الصناعة والجهات الحكومية والمنظمات المجتمعية لتوفير للطلاب تجارب تعلم عملية وفرص للتدريب العملي والإرشاد المهني.

ماذا يمكن أن يكون السبب في أن نظام التعليم في سنغافورة هو الأفضل في العالم؟ وما هي الدروس التي يمكن أن نتعلمها منهم؟

تهدف وزارة التعليم السنغافورية إلى "تطوير شغف التعلم لمساعدة الطلاب على تحقيق إمكاناتهم الكاملة واكتشاف مواهبهم ومساعدتهم على التفوق". وقد اختارت منهجا فريدا من نوعه للتعليم مع التركيز الأساسي على ضمان نمو الفرد النفسي والاجتماعي. يعتمد تعليم سنغافورة على  الأساليب المهنية النوعية والماهرة، وهذا هو سبب إنفاق 20 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي على التعليم.

جودة التعليم السنغافوري فريدة من نوعها من حيث طرق التدريس والتعلم وتميز نفسها عن البلدان الأخرى من خلال التركيز على جودة التعليم بدلاً من كميته.

رواتب المعلمين سخية وليس عليهم أن يتحملوا وطأة السياسات الاقتصادية القاتلة للحكومة. يتم منحهم مكانة أكثر شرفاً في المجتمع من أي مسؤول حكومي آخر. من النادر العثور على أي خطأ في المدرسة فالمرافق مجهزة بأفضل التجهيزات، ونسبة الطلاب إلى المدرسين هي 15: 1 في المرحلة الابتدائية و 11: 1 في المرحلة الثانوية، اما معدل التسرب فهو لا يكاد يذكر ونظام القبول صارم للغاية. وسيلة التدريس هي اللغة الإنجليزية فقط ويعد "التعلم المبهج" و"الإحساس بالوطنية" لدى الأطفال و"تعلم أقل لتعلم المزيد" من السمات المهمة لنظام التعليم في سنغافورة.

إذا تحدثنا عن المنهج، فقد اعتمدت الدولة منهجا يمكن مواطنيها من مواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين. على الرغم من أن هذه الدولة كانت تحت الحكم البريطاني لفترة طويلة، إلا أنها لم تتبنى نظام التعليم الغربي بالكامل. يركزون على قراءة وتدريس الرياضيات والعلوم واللغة الأم من المستوى الابتدائي والى المستوى الاعدادي، وتم تبني المواد المهنية الأكثر توجهاً عملياً بدلاً من الموضوعات التقليدية في سنوات الثانوية وما بعدها فمعظم المدارس في سنغافورة هي مدارس موجهة للتطوير المهني. ومن ثم، يوجد حد أدنى لعدد ساعات التدريب المهني لكل معلم.

يعتبر عدم قيام الوالدين بإرسال أطفالهم إلى المدرسة جريمة جنائية بموجب قانون الحق في التعليم لعام 2010. والتي بموجبه يمكن معاقبتهم أو تغريمهم. كما يجب توفير "التعليم المنزلي" والموافقة عليه بصورة خطية من إدارة التعليم. لأن الحكومة هناك ملتزمة ومسؤولة عن التطوير النوعي لمواطنيها.

وفي مقابلة مع صحيفة الفاينانشيال تايمز اللندنية، قال رئيس الوزراء السنغافوري "لي هسين لونج": "إن نظام التعليم مصمم لتدريب الطلاب على الوظائف التي يمكنهم شغلها. ولهذا السبب، عندما يتخرج الطلاب، يحصلون على عمل على الفور."

ولكن هذا ليس إلا غيض من فيض، حيث يوجد الكثير لنتعلمه من التعليم في سنغافورة. ومنه ما يلي:

- يعلم المنهج مهارات حل المشكلات والتفكير الإبداعي.

يهتم التعليم السنغافوري بالجوهر الحقيقي للتفكير النقدي ويدرب الطلاب على تعزيز مهاراتهم بشكل كامل لحل مشاكل مكان العمل ذات الصلة، بالإضافة إلى ايجاد الحلول بفعالية. ويقدم مجموعة متنوعة من أساليب التفكير التي يمكن الطالب من استخدامها لصالحه. ويكتسب الطلاب من خلاله نظرة ثاقبة حول كيفية تقييم عبارات المشكلة المختلفة بشكل فعال وتقديم استنتاجاتهم بطريقة منطقية ومقنعة.

- يركز منهج سنغافورة على تعليم الطلاب مهارات إبداعية وحل المشكلات.

- يتم تعليم الطلاب موضوعات محددة توفر المعرفة العملية والمهارات التي تمكنهم من حل تحديات العالم الحقيقي.

- بالإضافة إلى ذلك، يقوم جميع أصحاب المصلحة في مجال التعليم بتقييم وتحسين النظام المدرسي باستمرار لتحسين الأداء.

معايير التعليم العالي للمعلمين

- قبل أن يتم توظيف المرشحين من الحاصلين على شهادات جامعية في التعليم بشكل كامل، يتم اخضاعهم لتمرين وفحص صارم.

- يتم أيضا تأهيل المعلمين وتطويرهم بكفاءة قبل تلقي التدريب.

- بمجرد اختيار المرشحين لمنصب معلم، يتم نقلهم إلى تدريب مهني كامل أوصى به المعهد الوطني للتعليم.

- بعد الانتهاء من التدريب، يأخذ المعلمون المرشحون دورة تدريبية في التطوير المهني تستغرق 100 ساعة.

برنامج إنكليزي لا مثيل له

أنشأت هيئة التعليم في سنغافورة برنامج تعلم وقراءة اللغة الإنجليزية في عام 2006 لمساعدة الطلاب متعددي اللغات على تعلم اللغة الإنجليزية والتي هي اللغة الاولى في البلاد، ويشتمل البرنامج على تقنيات الدراما ولعب الأدوار لتحسين المهارات اللغوية للطلاب.

مناهج الرياضيات الرئيسية

على الرغم من أن الرياضيات هي أصعب موضوع للعديد من الطلاب حول العالم، إلا أن نظام التعليم في سنغافورة ينتج أفضل الطلاب في الرياضيات في جميع أنحاء العالم. وهذا يرجع إلى النهج الكفء للمؤسسة التعليمية الذي يشجع الطلاب على تعلم الرياضيات باستخدام الوسائل البصرية والعملية مثل المخططات الشريطية والكتل وما إلى ذلك.

مسارات تدريب مختلفة

نجاح سنغافورة كدولة، يعود إلى كون السياسات الاقتصادية والتربوية براغماتية، وليس أيديولوجية بحيث تؤكد دائما على أهمية الجهود ومعايير الجودة. وتؤكد سياسات التعليم على تحقيق الجدارة في مواضيع ثلاث رئيسية وهي العلوم والرياضيات واللغة الإنكليزية. أما في التعليم العالي فتؤكد سياساتها على التعليم التكنولوجي والمهني في معاهد تقنية وبولي تكنيك. وهناك خمس جامعات تضم 27% فقط من الطلبة المؤهلين لولوج التعليم العالي.

يوفر النظام التعليمي في سنغافورة للطلاب مسارات و تفصيلات تعليمية مختلفة. وتم تصميم نظام التعليم لتشجيع الطلاب على إيجاد شغفهم واهتماماتهم.

يحصل الطلاب السنغافوريون على مسارين للتدريب المهني، وكليات الفنون التطبيقية، وكليات المبتدئين التي تؤدي إلى التعليم الجامعي.

تم تصميم النظام المدرسي لتعزيز قدرات التعلم ونقاط القوة لدى الموهوبين مع إنه يمنح جميع الطلاب فرصًا متساوية في العالم الحقيقي.

الخلاصة

نظام التعليم في سنغافورة يتميز بعدة جوانب تجعله من بين الأفضل في العالم. تستثمر سنغافورة حوالي 20% من ميزانيتها الوطنية في التعليم، مما يعكس التزام الحكومة بتوفير تعليم عالي الجودة لجميع الطلاب. يركز النظام التعليمي في سنغافورة على تطوير مهارات وقدرات كل طالب بشكل فردي، مما يساعد في تنمية مواهبهم الفريدة وتوجيههم نحو المجالات التي يبدعون فيها. يتم تدريب المعلمين بشكل مستمر لضمان أنهم يستخدمون أحدث الأساليب التعليمية وأكثرها فعالية، مما يضمن أن الطلاب يحصلون على أفضل تعليم ممكن. بالاضافة الى ذلك، المدارس في سنغافورة مجهزة بأحدث التقنيات التعليمية، مما يساعد في توفير بيئة تعليمية محفزة وممتعة للطلاب.

اخيراً، لا يسعنا إلا التأكيد على أن سنغافورة تتمتع بأفضل نظام تعليمي بسبب نظام التربية والثقافة من الدرجة الأولى في البلاد. وليس سراً أنه يمكننا تعلم الكثير من سنغافورة فيما يتعلق بأساليب التعليم والتعلم لتحسين قطاع التربية والتعليم العالي في بلداننا العربية.

***

ا. د. محمد الربيعي

.......................

ملاحظة: هذه المقالة مبنية على مقالة للكاتب نشرت لاول مرة في 7.4.2023 بعنوان "لماذا تفوقت سنغافورة في التعليم؟".

مقالات سابقة في هذه السلسلة:

1) التجربة البريطانية:

https://www.almothaqaf.com/qadaya/976386

2) التجربة الصينية :

https://www.almothaqaf.com/qadaya/977101-2

3) التجربة الكورية:

https://www.almothaqaf.com/qadaya/977233-3

ـ الضرورة الوجودية القصوى.. صحوة العراق:

يفصل بين المحطتين والزمنين "الانسايواني" الانتقالي، و "الانسان" الغاية والمقصد الوجودي، فاصل على مستوى الادراكيه والوعي البشري، موضوعه المحوري مكان من المعمورة يحتل موقع الابتداء على مستوى التبلور المجتمعي في ارض سومر جنوب ارض الرافدين حيث مجتمعية الازدواج النهري والمجتمعي، والكينونة اللاارضوية اللاكيانيه الكونيه المتعدية للوطنيات وللدولة، ولمجمل التفارقية البشرية المجتمعية، وهو مايظهركابتداء منطو على وحدة الكائن البشري خارج التباينات الموضعية المحلية الكيانيه، ودولة التمايز، تحول دون تحققه في ساعته، وطاة الانتاجية "اليدوية" الموافقة للارضوية الكيانيه ومجمل بناها، ماديا، يضاف له النقص الادراكي العقلي،  وحدود اعقال الوثبة الاولى  المنطلق غير المكتمل العناصر، بانتظارالتاريخ الارضوي في تفاعليته المديده، وايهاميته الجسدوية الارضوية، الى ان  تتوفر الاسباب الضرورية بناء على الانقلاب الالي/ العقلي.

على مدى الطور اليدوي، يتعذر على العقل البشري الاحاطة بسبب القصور كينونة، باللاارضوية السومرية الرافدينيه،  بما في ذلك ضمن حدودها هي بالذات، وهو مايبقى ساريا على مدى الطور اليدوي الكيانوي، مكرسا الغلبة النموذجية الارضوية بنمطها البدئي النيلي المقابل المتوافق كليا مع اشتراطات الانتاجوية اليدوية، بما هي حال انتكاس موافق للاشتراطات الغالبه ابتداء، واقعا وعقلا، مع مايحايثها من قصور ونقص موضوعي مانع للانتقال الى مابعد ارضوية، ومابعد "انسايويانيه".

وقتها، وعلى مدى تاريخ ارض اللاارضوية يتعذر على المكان منطوى الهدف من المجتمعية ادراك ذاتيته،  وان هو عبر عنها بما متاح له في حينه، وخلال مسارات تاريخه المحكوم للدورات والانقطاعات، باشكال من التعبيرية الاولية الدنيا، من قبيل النبوية الحدسية الاولى الابراهيمه، او الانتظارية والقرمطية وصولا للمهدوية التي ختمت الدورة الثانيه العباسية القرمطية باحالة المطلوب الى دورة قادمه ثالثة،  مع انتهاء الزمن النبوي الحدسي من ساعتها، فالقصورية العقلية الموضوعية حاضرة هنا ايضا، وتفعل فعلها وان باختلاف يضعها بموضع النمطية الاخرى غير الارضوية وبمقابلها، محققا الازدواج مع اختراقه الشامل لبنية الارضوية ومجتمعاتها خارج ارضها، ويبقى الامر محكوما لاشتراطات التعذر والنقص، فلا ارض رافدين واعية بذاتها، الى ان تدخل زمن التحولية العظمى المواكبة، والتي تبدا مع الانتقال من اليدوية الى الالية.

ان ابرز مايرافق الانقلاب الالي، واخطر مايتولد عنه، حال التوهمية الكبرى اليدوية المغلفة بغلاف الالة، وهو مايكون حصة الانقلابيه المستجدة  بناء لوقوعها كابتداء في الكيانيه الارضوية الاعلى ديناميات ضمن صنفها ونمطيتها، اوربا ببنيتها  الازدواجية"الطبقية" مادون المجتمعية، والتي تعرف بمناسبة انتقالها الافتتاحي الى الالة، منظورا وممكنات محدودة حكما وبنيويا بحدود ممكنات الرؤية والادراكية الارضوية، مولدة طبعة اخرى من تلك اليدوية المتقدمه خطوة، والتي تكرر وتؤكد ممكنات وموضوعات واستهدافات اليدوية السابقة، من دون انتباه او مجرد تحسس بالاحتمالية الانقلابيه المستجده  مع الالة مجتمعيا، من الارضوية الى اللاارضوية،  وعمليا من الجسدية، الى العقلية، وهنا تستعاد مرة اخرى وطاة القصورية العقلية والنكوص التاريخي المديد ازاء الظاهرة المجتمعية، طبيعتها ومنطوياتها وسيرورتها التاريخية.

دخل العالم مع الاله وحضورها الاستثنائي، ليس عصر التحول من اليدوية وتكرارها نوعا مع تغير الوسائل،  بل لحظة وعصر الانتقال من "الانسايوان" الى "الانسان"، وحكما من المجتمعية الارضوية الغالبة، الى اللاارضوية السماوية الوطن/ كونية، وهو مالم يكن واردا التحول اليه بين ليلة وضحاها، ومن دون حضور لاجمالي التراكمات المترسبة والمتراكمه من النقص والقصور التاريخي، يكرسها نوع المجتمعية التي تنبجس  بين ظهرانيها الالة   بمايتيح  لوطاة الماضي الطويل ان تحضر بصيغة بداية ايهامية، ومفتتح يعززه مستوى القصور طويل الامد وفعله  التاريخي والراهن.

تحضر الاله مع القرن السابع عشر بينما يكون الطور اللاارضوي الازدواجي الثالت بدا قبلها  ومع طلائعها بالانبعاث في ارض سومر التاريخيه، بعد بضعة قرون من الانقطاع، تستمر من الثالث عشر 1258 مع انهيار الدورة الثانيه العباسية القرمطية المهدوية بسقوط عاصمة الامبراطورية الازدواجية الثانيه بعد بابل، مع دخول هولاكو بغداد المركز الكوني ضمن الازدواج المجتمعي بدورته الثانيه بعد الاولى السومرية البابلية الابراهيمه المنتهية، وهكذا  تتهيأ عمليا وابتداء خارج الملاحظة والمعلوم، اسباب التوافقية الالية بصيغيتها التكنولوجية العليا مع اللاارضوية العقلية، كهدف ومنتهى للانقلاب الالي، بينما تبدا العملية المذكورة ابتداء وبحكم الواقع المعاش، ودعم القصورية العقلية، حالة كبرى من التوهميه تعززها الممكنات التي تتيحها الاله وتمنحها كمصدر قوة هائلة للبنى الارضوية الطبقية الاوربية، فلايرد على الاطلاق بحكم الكينونة  القصورية العقلية الموروثة في البال، لاداخل ارض الوطن/ كونية نفسها، ولا بالطبع ضمن موضع انبجاس الاله، اي اعتبار لممكنات واحتمالات ومستوى اثر وفعالية الاله الفعلي وليس المباشر الاني، وهكذا يفعل القصور الموروث فعله، ويتسبب باحتدامات كبرى وتناقض واقعي ادراكي هائل الاثار على المجتمعات والعالم وصولا لمنتهيات تفاقم الخطر التفارقي العقلي الواقعي الحاصل اليوم ومن هنا فصاعدا.

وليس ماتقدم بالاحرى خارج الديناميات والسياقات التحولية التاريخيه الاصطراعية الكبرى الارضوية اللاارضوية، فالغلبة النموذجية والتصورية الغربية، وماتتمتع به بفعل الالة من تسارع استثنائي في الديناميات المجتمعية ومايواكبها من تعد للكيانيه "الوطنيه" الى  الامبراطوريات، وحكم راس المال وبنيويته الاستغلالية التسلطية  المكرسه للتبعية كخاصية ملازمه، ليست بدون اثر، او هي  غير منطوية على اسباب تحريك محفز للانقلابيه العقلية الملائمه للعصر، تلك  الالية الفعلية والانتهائية، وليس الافتتاحية التوهمية الغربية ومبالغاتها الارضوية ومنها ادعاءات العلمية والعقلية، فالغرب اذ يشمل ارض الرافدين المتشكله منذ القرن السادس عشر مع ظهور "اتحاد قبائل المنتفك" مترسمه قانون تشكلها التاريخي، ويمارس مهمة الافناء والسحق النموذجي عليها بالفبركة الاكراهية ل" الدولة" الكيانيه الوطنيه على النموذج والنمطية الغربية المكرسة، فانه انما يؤجج الاسباب الضرورية للانتقال الى التعبيرية الكونية الثانيه العظمى المنتظرة، بعد تلك الحدسية الاولى الابراهيمه والتوسطية المهدوية، حيث فك الازدواج المجتمعي، وبداية تبلور  المنظور اللاارضوي العلّي السببي،  الذاهب بالكائن البشري من "الانسايوان" الى " الانسان"، المنتظر منذ الوثبة العقلية الاولى الى اليوم.

يتبع: الغرب التوهمي والصحوة  اللاارضوية العظمى.

***

عبد الامير الركابي

 

تُشكل الثقافة في قيام الدول وبناؤها أساساً هاماً في استقرار الشعوب، وتشخص بأن لها حدود ومعالم، وماضٍ وحاضر، وآمال وطموحات تسهم في تمليك شعوبها الثقة والعلم في صناعة الواقع وتقدمه، وعلى ترسخ حسن العلاقات بين الدول المختلفة، والكيانات الحادثة، التي باجتماعها ومواقفها وتحضرها تزدهر الأمم، ويعلو البناء،والحكومة المخلصة تشرف في إدارة شؤونها، وترفع راية عزتها ونهضتها و' تشكل الثقافة العمق الوجداني في حياة الشعوب والأمم، وإذا كانت التنمية في جوهرها تعمل على تعزيز مستويات العيش المشترك بين الناس، والنهوض بحياة الأفراد في المجتمع، فإن الجهود التنموية لا يمكنها أبدا أن تنفصل عن التكوينات الثقافية للمجتمع، والثقافة تؤدي دورا محوريا في العملية التنموية، وهذا أمر لا يختلف فيه اثنان في الميدان التنموي المعاصر بالنسبة للباحثين والمختصين'.

ان الدولة بتكامل سمات ثقافتها التي تعني كيان قائم، فاعل، ومنظومة حضارية لتحكيم مصالح الأمة فتكون اعمالها متقدمة ومنظمة، وذلك من خلال الحكومة المدركة لمصالحها التي تشرف عليها، وتتابع إدارتها للمؤسسات السياسية والثقافية المختلفة، ولا ترقي الحضارات، وتتقدم الشعوب إلا من خلال الدولة ونظام حكومي واعي والاستقلال السياسي الكامل الغير منقوص.

ان للثقافة التي تعني مجموعة من السمات المادية والفكرية والعاطفية ولغة وتاريخ وتراث وانتاجات فكرية وعاداة وانماط فكرية وسلوك تلك الدول 'التي تتميز بها باتجاهاً عاماً ينعكس على ارتقاء الأذواق والتقدم الحضاري، والتمثيل الصادق لعادات المجتمع وتقاليده وعقائده وديانته، وتراثه وواقعه بما يكشف النقاب عن الآمال والطموحات، التي تأخذ كلَّ أمة من خلالها مركزها ومكانتها، وتقدير الشعوب الأخرى لها، وذلك هو التطور المشاهد في فعاليات المجتمع الدولي، الذي يعبر عنه ويكشف عن بعض تفاصيله: الإعلام والمؤتمرات، وتوصيف مقدار السبق والبروز، وحدود التقدم الحضاري الذي أخذت الدول الناهضة تنشده وتسعى إليه؛ حتى لا تتراجع من المقدمة إلى المؤخرة، أو من الأمام إلى الخلف.

لا احد يشك من كون ان الثقافة هي قوة مؤسسة وداعمة في البناء، وتوطين البشرية المستدامة، وخالقة المجتمعات المسلمة القائمة على مبدأ المساواة والحقوق والواجبات، إضافة إلى إسهامها في الحفاظ على النمو الاقتصادي وبالتالي القضاء على الفقر. ولهذا فإن الثقافة تُعد اليوم لها الركيزة الأساسية لتنمية المجتمعات، وبناء القدرات، وتعزيز الروابط والعلاقات بين القطاعات التنموية المختلفة، لأنها تحمل أبعادًا اجتماعية واقتصادية وبيئية وإذا أردنا تحقيق الأهداف التنموية الوطنية المستدامة علينا العناية بالثقافة ودعمها، وتمكين الصناعات الإبداعية، التي تُعد اليوم الملاذ الآمن للاقتصادات الواعدة في المستقبل، ولن تتمكن من ذلك سوى بتقييم واقع هذه الصناعات وكيفية النهوض بها في ظل التطور الهائل في منظومة التقنية وتنمية الابتكار، ويمكن للتكنولوجيا الرقمية الحديثة الدور الأسرع بعد ما أصبحت أداة رئيسية مكتشفة في العقود الاخيرة للتعبير الفني والثقافي والإبداعي وتحديات الفجوة الرقمية وتبدو وكأنها تتجاوز الجوانب التقنية، ومن ثم توضع في منظورها الاختلافات الاقتصادية والاجتماعية . اذاً للثقافة كما يقول الفيلسوف الألماني عمانويل كانت ' مجموعة من الغايات الكبرى التي يمكن للإنسان تحقيقها بصورة حرة وتلقائية، انطلاقا من طبيعته العقلانية وهي أعلى ما يمكن للطبيعة أن ترقى إليه'.

لا تقف فعاليّة الثّقافة في مساراتها المحلية بل تتجذر وتأخذ فعاليتها وتقوى في قلب المجتمعات العابرة للقارات، أي في عمق الحياة الثقافية للعالم على مختلف تشعباتها وامتداداتها. ويتم هذا التفاعل الثقافي في المستوى العالمي بتأثير التكامل الفعال بين التنوعات الثقافية والبيولوجية في العالم، وهو نوع من التفاعل الذي لا يمكن أن تنفصم عراه. وقد تشكل هذا التكامل الثقافي من خلال عمليات التكيف الثورية المستمرة بين الإنسان ووسطه الطبيعي عبر التاريخ.

من المخاطر التي تهدد هي إن أية ثقافة أو لغة تتعرض للانقراض أو تهدد بالزوال هي خسارة للبشرية وللإرث البشري وأن وعي البشر يتشكل من خلال المعطيات اللغوية أولا. من هنا اختلاف الوعي البشري وتنوعه الذي هو مصدر غني للبشرية،لكن هناك وعيًا بذلك الخطر ودلالاته المستقبلية، ونحن نعتبر مسألة الاختراق الثقافي حقيقة جلية في هذا العصر، عصر الثورة المعلوماتية والاتصال الرهيب، ولكن المواجهة وعدم القبول بكل ما يفد إلينا، ليس والتقوقع والانعزال بل بالفرز والانتقاء والاستعداد والتكيف مع الواقع والدعوة إلى الخصوصية الحضارية والتمايز الثقافي والفكري، مع الانفتاح على الآخر والتفاعل مع الجديد المفيد

***

عبد الخالق الفلاح - باحث واعلامي

ذكرت في مقال الأسبوع الماضي أن عقل الإنسان ليس مرتبة واحدة. فثمة عقل عملي يدير حياتك اليومية، وثمة عقل نظري يتأمل حقائق الأشياء ويفكك معانيها.

هذا التقسيم ليس جديداً، فقد شاع في كتابات الفلاسفة اليونانيين، ومنهم انتقل إلى علماء المسلمين، على يد أبي نصر الفارابي، كما أظن. واشتُهر الفارابي بلقب «المعلم الثاني» مقارنة بأرسطو المعروف باسم المعلم الأول، وقد جمع تعريفات العقل من مختلف كتب أرسطو، ورتّبها بإيجاز في رسالته المعروفة باسم «رسالة في العقل».

وثمة مؤشرات إلى أن هذا التقسيم، إضافة إلى القول بالعقل الفطري، كان معروفاً في عصر الإسلام الأول، قبل تعرف المسلمين على الفلسفة اليونانية، حيث تظهر نصوص صريحة وإشارات قوية للمستويات الثلاثة في روايات عن النبي محمد - عليه الصلاة والسلام - وعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وآخرين، وجميعها منشورة، ومنها ما هو قوي الإسناد ومنها الضعيف.

وأشارت الروايات إلى العقل الفطري باسم عقل الطبع أو العقل المطبوع، أي السابق للتجربة. وأشير إليه في الفلسفة المعاصرة باسم «المبادئ القبلية». وهي – في الأصل - مجموعة القواعد التي يولَد الإنسان وهو مجهَّز بها تكوينياً، وتعدّ لازمة كي يخطو خطواته الأولى في الحياة، ومنها الغرائز الضرورية للبقاء على قيد الحياة، ومنها التمييز بين البشر (الأم والأب مثلاً) وبين الجمادات. وكذا طريقة التعبير عن الفرح والألم، وأمثال ذلك. لكن الفلاسفة أضافوا إليها أيضاً قضايا عقلية بحتة، مثل إدراك العقل لاستحالة اجتماع المتناقضات وربطه بين الحدث وسببه، وأمثال ذلك. والمفهوم أن هذه القضايا، وإن أدركها الإنسان بالحدس، إلا أنها لا تتبلور وتتضح قبل سن الرشد. ورفض الفلاسفة التجريبيون مثل جون لوك وديفيد هيوم هذا الرأي؛ بناءً على أن كل المسائل العقلية نتاج للتجربة، ولم يكن في العقل قبل ذلك سوى الغرائز البحتة، التي لم يعدّوها عمليات عقلية بالمعنى المتعارف.

ثم نأتي إلى التقسيم الثنائي بين العقلين النظري والعملي. أما العقل العملي فهو الذي يستعمله الناس كافة من دون استثناء. ولا أظن أحداً لا يستعمل هذا المستوى، فهو يحتاج إليه في كل جزء من أجزاء حياته، من المأكل والملبس إلى الوظيفة والعلاقة مع الناس وغيرها. وحين نتحدث عن خضوع الإنسان لإملاءات الجماعة وانسياقه مع الحشد (سلوك القطيع)، فإننا نتحدث عن هذا المستوى من التعقل، أي التعقل المستعمل عادة في تدبير الحياة اليومية المنتظمة، وهو – بالتعريف – محدد في إطار العلاقة مع المحيط الطبيعي أو الاجتماعي، انفعالاً بمقتضياته أو تفاعلاً معها.

أما العقل النظري، فإنه يستعمل في أبسط مستوياته عند غالبية الناس، حين يواجهون مشكلات فيسعون للبحث عن حلول، من خارج الصندوق كما يقال، أي حلول غير معتادة أو متعارفة، لمشاكل حياتية أو وظيفية أو معرفية، حين يجب على الإنسان أن يتخلص من تناقضات في فكرة أو في موقف.

أما في المستويات الأعلى، فلن تجد إلا «زبدة الزبدة» كما يقول الفرنسيون، أي زبدة العلماء والمخترعين والمكتشفين والفنانين والفلاسفة والخبراء ورجال المال والسياسة.

إن تميز هذه الفئة القليلة عن عشرات الملايين من أصحاب العقول في شرق الأرض وغربها، لم يأتِ اعتباطاً ولا لأنهم يملكون واسطة قوية، بل لأنهم نجحوا في اختراق جدار المألوف والمعتاد، وطرحوا أفكاراً جديدة تسهم في تغيير مسار الملايين من الناس وتحسين حياتهم. وجود هذه الفئة على وجه الخصوص، ووجود المبدعين وأهل العلم عموماً، دليل على القيمة العظيمة للعقل ودوره في تغيير الحياة، وهو دعوة لكل عاقل كي يثق في العقل وقدرته على تغيير الحياة، وهو – بطبيعة الحال – رد على أولئك المرتابين في قابليته لإدارة المجتمع البشري وإصلاحه.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

يوما بعد يوم تَتَّسِعُ الفَجوة وتَزداد الهُوة بينك وبين الآخرين، تتساءل أنتَ «لماذا؟»، لماذا أنتَ دون الآخرين، لكنك لا تَدري شيئا.. لا تَدري كيف وصلتَ إلى هذه الحقيقة الْمُرَّة التي لا تَستكثرها عليكَ تجربتُكَ في الحياة.

الحياة هذه التي تَسلبك حقك في الحياة ما أشقاها ما أشقاها! وأنتَ الواقف فيها على قدم واحدة تنتظر لحظة سقوطك الحقيقية بعد أن سَقَطْتَ من عين الأغلبية دون أن تُضْمِرَ حِقدا أو تُبَيِّتَ نِية.

نِيةُ الغَوْغَاء والرِّعَاع والهَمَج الذين يَزحفون على أرضك زحفا نهايتُها الطمع في مَسحك من الوجود عن إصرار، وأنتَ لا تدري لِمَ هذه الضغينة التي تَجعلك غير مرغوب فيه، بل تَجعلك بطلَ الرفض الاجتماعي.

الرفض الاجتماعي نتيجة، أما السبب الخَفِيّ فلا يخرج عن البطولة المطلقة التي يَلعبها واقعيا هُواةُ نَقْلِ الكلام الذين يُجَنِّدُونَ نُفوسَهم الأمَّارة بالسوء وقلوبَهُم التي أعماها الحِقد، يُجَنِّدُونَها للمَجزرة التي تُذْبَحُ فيها أنتَ وإحساسك، يُجَنِّدُونها للمحرَقة الكبرى التي يُحْرَقُ فيها قلبك وعيناك الباحثتان عن شيء مِن العدل لإنصافك في غير زمن العدل الذي صَنَعَ الأبطال.

أبطال لُعبة نَقْلِ الكلام يَتَسَلَّوْنَ بِمَضْغِ إحساسك ليَزْرَعُوا الفتنة الأكبر من القتل وهُمْ يُفَجِّرُون المشاكل الْمُفْتَعَلَة بينك وبين الآخرين ويَقطعون العلاقات بينك وبين الآخرين ويُعَبِّئُون ضِدَّك (بالبُغض) قلوبَ الآخرين لِتَحْدُثَ القَطيعة.

القطيعة تَبْدَأُ مِن حيث انتهى نَقْلُ الكلام الذي لا يُؤَدِّي إلى غير الحرب الباردة والخصام، وإذا بكَ تسأل نفسك: أينَ هُم مِن مَداخِل العِزَّة وتَحصين النفس؟! أين هُم من قاعدة «لا أرى، لا أَسمع، لا أتكلم» التي يُنْتَظَرُ مِن المسلِم أن يَعمل بها وهو الذي يَجْدُرُ به أن يُسَلِّمَ أمره لله حتى يَسْلَمَ.

يَسْلَمُ حقيقةً من سَلِمَ لسانُه وعيناه وأذناه، يَسلَم من نأى بنفسه عن أن يكون من صُنَّاع نَقْل الكلام، يَسلم من لا تَستدرجه عيناه إلى مُسْتَنْقَع الهَمْز واللَّمْز رغبة في السخرية والانتقاص من سواه (ويل لكل هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ)، يَسلم من لا يُسَلِّمُ أذنيه لغيره وهو يَجتهد في تفصيل القِيل والقال طلبا لإعفاء مَن لا يستحق مِن حقه في التقدير والاحترام سواء.

سواء بالـ«كوليرا» أم «الطاعون» أم «سارس» أم «كورونا» أم بالفقر الملعون، فإننا كُلنّا إلى الله راجعون.. راجِعٌ إلى الله أنتَ وليس في انتظارك أكثر مِن حُفرة، حُفرة تَتَمَدَّد فيها وحدَك: لا مال ولا «عيال» ولا ذَوات الحُسْن والجَمال ولا ذهب أصفر ولا أسود.. وحدَها حَسَنَاتُك تُضيء قبرَك المعتَّم إن لم تَسبقك إليه ذُنوبك ومعاصيك لتَفْتَرِشَها وتَلْتَحِفَها وتَتَوَسَّدَها مِن حيث تدري أو لا تدري.

نافِذَةُ الرُّوح:

- «بَريق الدنيا كاذِب».

- «كُنْ أكثرَ صلابة مِن الأرض التي تَقف عليها حتى تَصمد في وجه الأيام».

- «مَعتوه مَن يرى جَنَّتَه في إحراق سِواه».

- «شَتَّانَ بين الورد واليَد الخَشِنَة التي لم تَتَعَلَّمْ كيف تُحافظ عليه!».

- «بين شَفَتَيْن موتُك أو حَياتُك».

- «نَسِيتَ أنْ تُرَتِّبَ حُجراتِ عَيْنَيْكَ بعد جريمةِ قَتْلٍ لَمْ تَنَمْ».

- «الإِبَادَةُ الحقيقيةُ بَطَلُهَا فَمُكَ».

***

د. سعاد درير

 

في قلب الكون البعيد، حيث تتناثر النجوم كحبات اللؤلؤ على ثوب الليل، يكمن سر الحب، ذلك الإكسير الذي يتجاوز حدود الزمان والمكان. الحب هو اللحن الأصيل الذي يترنم به كل كائن، يعزف على أوتار الروح بديع الألحان، ويشعل في القلوب شعلة من الأمل والحنين.

أفلا ترى أن الحب هو تلك اللحظة التي تتلاقى فيها الأرواح في عمق فوضى الوجود؟ هو التصاقٌ خفي بين الأنفاس، حيث يذوب الزمان وتختفي الحدود. في كل نبضة قلب، ينسج الحب خيوطه البراقة، ينسج من الحلم سجادةً نعبر عليها نحو الغد، ومن الفراق حكايةً نبني بها قصور الأمل في سماء الوجود.

ولكن، كيف يمكننا تفسير هذا السر الغامض؟ هو ليس مجرد شعور عابر، بل هو روح متجددة تتغلغل في كل زاوية من زوايا الذات.  هو الفوضى التي تضع النظام في كل شيء، هو الإلهام الذي يبعث القوة في الضعيف، والهدوء في العاصفة. هو الغوص في عمق البحر المظلم، ثم العودة إلى السطح مع كنز من الإضاءات الروحية.

وفي كل مرة نتحدى فيها الموت بأحلامنا، نجد الحب مرشدنا. في كل لحظة نرتب فيها أفكارنا، يكون هو النور الذي يقودنا نحو الفهم. هو الثقب الذي نرى منه نور الحقيقة، وأحيانًا هو الضباب الذي يغطي عيوننا ليسمح لنا بالبحث والابتكار.

الحب، إذن، ليس فقط تواصلًا بين قلوب، بل هو فلسفة تعيد تعريف وجودنا، وتمنح للحياة معنىً أعمق. في النهاية، هو قوة تُشعرنا بإنسانيتنا، تُجدد فينا الإيمان بأننا، رغم كل التحديات، قادرون على بناء عالم أكثر نورًا، عالم يحتضن كل الأحلام.

لكنه يحمل في طياته ألم الفراق، هو ذاك الشوق الذي يشتعل في الليل البهيم، ويترك القلب وحيدًا في بحر من الذكريات، يهيم على وجهه بين طيات الماضي والحاضر. في كل دمعة تذرفها عيون العاشقين، يختبئ الحب كما يختبئ القمر خلف السحاب، ينير الطريق للحظات، ثم يختفي ليترك النفس تائهة في ظلمة الوجد.

 هو ذاك الانصهار بين الفرح والحزن، بين البدايات والنهايات. هو رقص الأرواح في مشهد سرمدي، حيث لا مكان ولا زمان. ولكن في النهاية، الحب هو القصة التي نحياها ونكتبها، هو القلم الذي يخط على صفحات العمر كلمات تحمل في طياتها كل المعاني، معاني لا تنضب ولا تذبل مع مرور الأيام.

في أعماقه، نجد أنفسنا نعانق المجهول بشغف الأطفال، نتخلى عن يقيننا لنخوض في بحر من التساؤلات، علنا نجد في الحب إجابة لكل ما يثير فينا الحيرة والقلق.  هو المرآة التي تعكس ضعفنا وقوتنا، هو المراوغة التي تخفي حقيقتنا، ولكنه أيضًا الحقيقة الوحيدة التي لا يمكننا الفرار منها.

في حضرته، تصبح الحياة أكثر وضوحًا، والعالم أكثر إشراقًا، حتى وإن كانت أيامنا تغمرها غيوم الشك والخيبة. ولكنه أيضًا هو الامتحان الذي نواجه فيه أنفسنا، نختبر في ضوءه مدى قدرتنا على التسامح والتضحية، على العطاء بلا حدود، وعلى الاستمرار رغم كل ما يعترض طريقنا.

ففي النهاية، الحب ليس فقط ما نأخذه، بل هو ما نعطيه. هو الزهرة التي نزرعها في أرض قاحلة، ونرويها بدموعنا حتى تزهر بألوان الأمل. في قلب الحب، نكتشف أن الحياة ليست مجرد رحلة، بل هي تجربة عميقة للفهم والإحساس، للنمو والاكتمال. الحب هو المدرسة التي نتعلم فيها أن نكون بشرًا، بكل ما في الكلمة من معنى.

***

عبد الرحيم طالبة - المملكة المغربية

 

تشغل مسألة بناء وتنظيم المجتمع إهتمام العقل الإنساني الثقافي، وتصل الى درجة من الصعوبة تجعلها من أصعب مشكلات عصر التقنية اليوم، فمعطيات الواقع تفيد بأن التغييرات الإقتصادية والتطور التقني والتحولات الإجتماعية والميول الشخصية تتحرك بشكل أسرع من قدرة الثقافة على اللحاق بها. وتكمن مضار ذلك في أن تلك التغييرات قد تتمكن من التدخل في إعادة هيكلة البناء الإجتماعي بما يسمح بإدراج ثقافات جديدة تحددها التغييرات المتسارعة المحكومة بالسوق الإستهلاكية، وبالمشاريع السياسية العالمية، ومشاريع الاقتصاد الصناعي التقني، لذا أخذت بعض السلوكيات الغريبة والطارئة على المجتمع تنتشر بين الناس بسرعة اكبر اذا ما قورنت بسرعة انتشار فكرة هادفة، أو نظرة موضوعية.

عندما أتاحت وسائل التواصل الإجتماعي ومواقع الإنترنت في ظل المتغيرات العالمية، حرية التعبير دون ضوابط ثقافية وأطر أخلاقية ومسارات أدبية للنشر، دخلت شركات استثمارية تقنية على خط الحرية الرقمية فوظفت المال لتنمية تلك الحريات، مما حمل كثيرين على النزول بمحتويات سلبية تنوعت ما بين تافهة وهابطة وفاشلة، ومحتويات إيجابية تنوعت ما بين نافعة وقيّمة وناجعة. وأعطت حق تقييمها لجمهور المتلقين عبر إعجاباتهم وكثرة مشاركاتهم وعديد مشاهداتهم من خلال وسائل التواصل الإجتماعي، فكانت أعداد المتابعين معياراً لتزكية المحتوى حتى وان كان ذلك المحتوى بعيداً عن الضوابط الثقافية المتعارف عليها فكرياً ولغوياً وانسانياً وأدبياً وإجتماعياً. بسبب ذلك استطاع بعض منشئي المحتويات الرقمية فرض حضورهم على المشهد الإعلامي ثم الثقافي في المجتمع بقوة جمهورهم الداعم والمشجع والمتابع. وسواء أكان ذلك الجمهورعلى قدر كافي من الوعي بما يقوم به من مسؤولية في التقييم أم لا، فإن النتيجة صارت لصالح كبسة زر يقوم بها هذا المستخدم وذلك المتابع، دون الأخذ بنظر الإعتبار ما إذا كانت تلك الكبسة قد تمت بتأثير إنفعال عاطفي أو مرحلي أو تفاعل موضوعي. المهم ما يسجله عدّاد الشاشة الرقمية، لذلك لم يعد بوسع الثقافة ان تتطور، بل هي في اعتقادي قد تأكل بعضها في السنوات القادمة وتتحول من مشروع رسالي الى نشاط جمالي يضفي على صاحبه بعض اللمسات الإجتماعية والتمظهر الحضاري.

أزمة الثقافة في عالمنا العربي في عصر التقنية المتطورة ومشاريع الذكاء الإصطناعي أكثر تعقيداً مما كانت عليه ثقافة الدول الصناعية في القرن التاسع عشر وهي تواجه صعوبة في التوفيق بين الجانب المادي المتمثل بالعلم المجرد والجانب الروحي المتمثل بالإبداع الثقافي. واذا كانت الثقافة قد احتاجت الى نصف قرن لكي تميل بالمجتمع الغربي الى الواقع المادي بعدما استطاع العلم ان يوفر اجوبة مقنعة لكثير من اسئلة الناس خصوصاً الشباب منهم فيما يتعلق بشؤون حياتهم التي كانت الكنيسة قد فرضت قوالب جامدة إزاءها خصوصاً ما تعلق منها بشؤون المرأة وغيرها. فإن ثقافة مجتمعنا العربي اليوم تواجه أزمة عميقة تتمثل في ان المجتمعات العربية لم تصنع تطورها العلمي والتقني، ولم تشهد مرحلة انتقالية تسمح لها بترتيب الأولويات، فضلاً عن إن البعد الديني عند العربي يتمدد على خارطة حياته الشخصية والإجتماعية والثقافية والنفسية.

بالاضافة الى ان النظام السياسي العربي فشل في مختلف الظروف تقريباً في توفير أجواء آمنة لظهور ثقافة قادرة على فهم التغيير الذي يمر به المجتمع والمتعلق بالتغيير الحاصل في النظام العالمي، لذا لم يتمكن المثقف لوحده من اللحاق بركب التطور المتسارع للتقنية ولم تتمكن انظمة الحكم المسؤولة عن بلدان العالم العربي من توفير مستلزمات ذلك اللحاق، كما لا ننسى ان للعادات والتقاليد والأعراف العشائرية حضور أقوى من حضور الثقافة بمعناها المتمدن، ومن شأن هذا ان يقيد الثقافة كرسالة تنمية في المجتمع، فقد نجد كثيراً من المتعلمين والمثقفين وهم بمارسون انماطاً سلوكية لا تختلف كثيراً عن تلك التي يمارسها من هم أقل نصيباً منهم في التعليم والمعرفة والثقافة والمكانة الإجتماعية، وقد نجد أستاذاً أكاديمياً وطبيباً ومهندساً ومعلماً في صف واحد مع الآخرين أمام سلطة العرف العشائري.

إذا كان المجتمع الغربي قد تجاوز النقد الهدّام الذي أودى في القرن التاسع عشر بحياة كثير من العلماء والمجددين مثل غاليلو، فإن العالم العربي لا يزال الى يومنا هذا ونحن في القرن الحادي والعشرين، لم يتجاوز مرحلة النقد الهدّام وقد نجد مصداق ذلك فيما تواجهه بعض شخصيات المفكرين والكتّاب والمثقفين من نقد لاذع وتسقيط خطير ونيل يطال الكرامة ويهدد الحياة.

يعاني المجتمع العربي عموماً وخلال فترة غير قصيرة من عمره من انه لم يفسح له المجال للتمكن من الأدوات التي تلائم طبيعته وفلسفته للحياة، تجعله أو تساعده على تحويل تعلقه بالماضي الى تجربة حياتية يستثمرها في حاضره لكي لا يغدو الحاضر نسخة جامدة عن الماضي، والأغرب من كل هذا ان في مجتمع اليوم من يعمل على تمكين الماضي من الحاضر اذا توفرت لديه القوة اللازمة لذلك، فمنهم من يرى في الزمن الماضي ما هو اجمل من الحاضر على الرغم من الفارق الكبير بين أدوات الماضي البسيط وأدوات الحاضر المتطور. ذلك لأن مخرجات عصر التطور التقني لم تتمكن من الدخول الى حياة الناس في العالم العربي دخولاً يبعث على الطمأنينة وراحة البال، بل على العكس فقد كان الموقف مضاداً، خصوصاً بعد أن وظفت السلطة السياسية هيمنتها على القرار توظيفاً أضرّ بسلامة البناء الإجتماعي عندما أعطت للحرية الشخصية مساحة أكبر من طبيعة الشخصية العربية والمجتمع العربي، فقد صار العربي المسلم من حيث يرضى ولا يرضى، ومن حيث يدري ولا يدري، يرى صوراً ومقاطع فديو ويقرأ أفكاراً غريبة بعيدة عن احتياجات واقعه، ينشرها أشخاص لا يعرف شيئاً عن حقيقة ثقافتهم وسلامتها، يستخدمون حق النشر وحرية النشر عبر تطبيقات الكترونية توفرها شركات إنتاج رقمية غربية تجارية هدفها كثرة عدد المتابعين والمشاركين ومستخدمي مواقعها الإفتراضية.

اختلف الناس في تعاطيهم مع التغيير الحاصل في عصر التقنية بين الشرق والغرب من حيث ان التعريف العملي للحكومة في كثير من بلدان الغرب هو السلطة بينما هو التسلط في كثير من بلدان العالم العربي، وهذا الإختلاف في التعريفين عوّق جهود نهضة المجتمعات العربية المسلمة وتسبب في حرمان ثقافتها من التطور، فمما لا شك فيه ان الثقافة تتقاطع مع كل ما هو لا إنساني أو مع كل ما يعرض الإنسان للإستهلاك وللإستثمار والتسليع، أو للإستحمار كما قال المفكر الإيراني علي شريعتي. فالعربي وان كان مستهلكاً لمنتجات الغرب، فبوسعه ان يستخدم تلك التقنية لتطوير ثقافته فيما لو تنازلت الحكومة في بلاده عن مفهوم التسلط لصالح مفهوم السلطة، وقد نجد ذلك واضحاً حين مارست السلطة السياسية نشاطات ثقافية في العالم العربي من خلال وزارة الثقافة أو من خلال أي نشاط ثقافي تقوم به دوائرها ومؤسساتها المتنوعة. لقد فشلت ثقافة السلطة السياسية في تمكين المجتمع ثقافياً واقتصرت أدوارها وأنشطتها على مهرجانات ومؤتمرات وندوات ونشرات وصحف ومجلات خاضعة بشكل كبير لروتين وأجندات سياسة السلطة الحاكمة، فقد صار وزير الثقافة ناطقأ باسم الحكومة، وصار الشاعر مستشاراً ثقافياً للرئيس، وصار الأستاذ الجامعي لساناً حزبياً أكاديمياً. يضاف الى ذلك ان المجتمع العربي عموماً مرّ بفترة اضطراب سببتها أحداث الربيع العربي ثم موجة الإرهاب، الأمر الذي صرف إهتمام ثقافة المجتمع الى البعد الأمني حفاظاً على البعد الحياتي لوجود الناس، وتهددت ثقافة الجيل الجديد من الشباب بعد اجتياز تلك المحن، فهي اليوم ثقافة قلقة متوترة متمردة، استطاعت باضطرابها أن تتجاوز نوعاً ما على سلطات دينية وعشائرية وأسرية باستخدامها تقنيات عصر التطور الرقمي في التعريف والتعبير عن ذلك التجاوز، فصرنا نسمع عن تطاول على رموز دينية وثقافية واجتماعية بمساعي يقوم بها اشخاص ينتمون أو يدّعون انتماءهم الى الوسط الثقافي والاجتماعي، وقد نجد في مواقع التواصل الإجتماعي كثيراً من الفديوهات التي يظهر فيها أشخاص وهم ينالون من هذا المفكر وذلك الكاتب تحت عنوان حرية التعبير وحرية الرأي وحرية النشر وحرية التفكير وحرية النقد.

مشكلة الثقافة في عالمنا العربي متعلقة بثلاث سلطات: دينية، وحكومية، وعشائرية، وقد انقسم الوسط الثقافي الى قسمين: قسم يريد إحداث تغيير أو تحديث في سلطة الدين بما يتوافق مع قوة التطور العلمي وتوسعه في مناخ سياسي يتناغم مع تسلط الحاكمين. وقسم آخر يريد تحريك التطور العلمي والنظام السياسي في إطار سلطة الدين، وبينما لا تزال هذه المشكلة قائمة أخذت مشاكل الناس الشخصية والإجتماعية تكثر وتكبر، وأخذ الضغط النفسي يزداد على المواطن العربي المسلم، فهو في طبيعته يريد ان يصل الى حالة اتزان في جوانب شخصيته الروحية والمادية والسلوكية والنفسية والاخلاقية ويبحث في بيئته عن كل ما يمكنه من ذلك.

في داخل الوسط الثقافي تظهر مشكلة الثقافة في نوعين من التفكير، نوع خاضع لإرادة سلطة الحكومة، ينظر بعين الإعتبار الى الوظيفة الثقافية كنشاط إبداعي فردي لا يتعدى حدود الشكر والإشادة، والتكريم و.. ونوع آخر مضاد، يرى في الثقافة مشروع مجتمع ينبغي له أن يتجاوز كل حدود منع تمكينه ثقافياً. الثقافة الرسمية التي ترعاها السلطة السياسية تؤدي ادواراً داعمة لجهود أعضاء رسميين في مؤسساتها، فهي تطبع كتبهم وتنمحهم الألقاب والأوسمة والهدايا والتكريمات وتنشر مقالاتهم في صحفها الرسمية وتعقد لهم المهرجانات والمؤتمرات وتنظم لهم الندوات واللقاءات، لكننا لا نرى كل ذلك إنجازاً ثقافياً بالبعد الأعمق الذي يمتع الثقافة بحق معالجة الواقع وانقاذه من التراجع.

لا شك ان هذا الكلام سيكون موضع انتقاد المثقف الرسمي، لأنه يرى ان الثقافة فيما تقوم به هي موضع تطور وازدهار مثلما وصف بعضهم العصر العباسي بالعصر الذهبي مقارنة له بعصور خلت لم تشهد فيه الثقافة ما شهدته من اهتمام سياسي بلغ في عهد هارون الرشيد تأسيس بيت الحكمة الذي تقول المصادر عنه ان مكتبته ضمت قرابة 300 الف كتاب. كل ذلك كان الى جانب الإعتقالات والإغتيالات وركود الثقافة الحرة في المجتمع فقد كانت الثقافة ثقافة الحكومة التي رأت في ثقافة الإمام موسى بن جعفر ما يضرها فألقت به في مطامير السجون ثم قتله فيما بعد.

الحكومة العربية اليوم لا ترى في نفسها عائقاً أمام الثقافة، فهي تشيد بالثقافة والمثقف وتدعم نشر الكتاب وتحث على البحث والتعلم وتحفز على التطور. لكن أي نوع من العقل أرادت هذه الحكومات صناعته في المجتمع العربي ؟ انه العقل المادي الروتيني الذي يقرأ الكتاب ويشكر الحاكم ويشيد بحكمته ورعايته للثقافة، وفي احسن حالاته ينتقد الحكومة دون ان يكون لنقده اذناً واعية في أروقة السلطة، والمشهد العراقي حافل بكثير من الكتابات النقدية البناءة والأفكار المتطورة على مدى عشرين عاماً من بداية القرن الحالي، لكنها لم تستطع ان تغير شيئاً في الواقع الذي يتراجع اكثر واكثر في الوقت الذي تشهد فيه انشطة المؤسسة الثقافية الرسمية عقد مهرجانات وافتتاح معارض ومكتبات وإلقاء محاضرات وإقامة مسابقات و... هذا هو العقل الذي تريد السلطة الحاكمة صناعته في مؤسساتها الثقافية الرسمية. انه عقل حر في حدود القيود التي تضعها مصلحة الحكومة في التسلط. هكذا عقل لا يمكنه ان يفرق بين التطوير والتبرير. هو عقل قادر على رسم ملامح المستقبل الذي ترسمه اجندات تلك الحكومات، وليس عقلاً حراً بالقدر الذي يصنع في صاحبه ذاتاً ثائرة متمردة قادرة على تغيير واقعها السيء، عارفة بقيمة الكلمة وبدورها في نهضة الامة.

في الواقع يمكن ان نشخص نوعين من العقل الثقافي العربي، عقل يعمل بآلية الولاء الفكري، وعقل يعمل بآلية التجرد الفكري.

ينجذب كل من العقل الديني والعقل السياسي الى العقل الثقافي ذو التفكير الولائي، فنجد الحكومة تقرب اليها المثقفين الذين يشيدون بها، ويبررون لها، خاضعين تماماً لروتينها الإداري القائم على المظهر الإعلامي الذي يقدم الحقائق للناس بالصورة التي تظهر وجه الحكومة أبيضاً ناصعاً في جميع الأحوال. كذلك العقل الديني، فالمؤسسة الدينية تقرب اليها المثقفين الذين يحملون ايديولوجيتها ويتكلمون بعقيدتها.

قبل عصر التقنية كانت الحصة الأكبر في الاختيار بين الانفتاح أو الإنغلاق، بين التراث أوالمعاصرة، من نصيب القوة الأكثر غلبة في ساحة الحياة العامة في المجتمع العربي الاسلامي.

وكان العقل الديني هو الأكثر قوة، فقد كان الخليفة والحاكم والامير ظل الله على الأرض، وعلى هذا الإعتقاد مضت المجتمعات، فالحاكم هو ولي الأمر واليه يرجع الأمر كله كونه الأدرى بمصلحة العامة. أدى هذا الإعتقاد الى منع تطور الثقافة في عالمنا العربي، خصوصاً بعد أن تمكن العقل السياسي من إحتواء العقل الديني وإيهام الناس بأنه يفكر بعقل ديني. اكتشف الناس ذلك الوهم عندما شاهدوا دائرة الظلم تكبر في محيط ديني يحكمه عقل سياسي يُقسم أمام الجماهيرعلى ان الإسلام دينه ومنهجه ودستوره ومصدر تشريعه. المشكلة تكمن في ان المجتمع العربي حين اكتشف هذه الحقيقة المزيفة لم يكن يتمتع بقوة مواجهتها مواجهة رادعة.

اما في عصر التقنية فقد تقلصت فاعلية قوة العقل السياسي واقتصرت على الجانب الأمني والجانب العسكري والجانب الإداري والمالي. واقتصرت قوة العقل الديني على قضايا المصير. أما شؤون الحياة الاجتماعية فلم يعد الخيار محدوداً بالعقل السياسي والعقل الديني. لقد صار لكل عقل بشري حرية الإختيار بين الولاء والعداء. بين الإتباع والإمتناع. بين القبول والعدول. لذلك كثرت مشاكل الناس وتأزمت الأمور كثيراً ودخل المستثمرون على خط الأزمات، وصاروا يروجون لبضاعتهم من خلال حاجة الناس، فمثلاً يعيش أغلب الناس في العالم العربي تحت ضغوط إجتماعية وإقتصادية كبيرة وكثيرة، فشل العقل السياسي في ازالتها أو تخفيفها لجهله أو لعدم اكتراثه بطبيعة المجتمع، الأمر الذي جعل الناس يبحثون في الإتجاه السلمي عن كل ما يمكنه أن يخفف عنهم هذه الضغوط الكبيرة، وكان من بين أقرب تلك الحلول هو السخرية أو الطرفة أو الترفيه اللفظي والحسي، فظهرت محتويات ثقافية كانت موضع قبول واقبال كثير من الناس وان كانت تلك المحتويات تنطوي على الفاظ شعبية غير مقبولة، أو تنطوي على غايات مريضة، أو تنطوي على عادات سيئة. مع كل ذلك وجدت من يتقبلها، بل ان كثيرين كانوا يروجون لها بمشاركتها على حساباتهم الخاصة في مواقع التواصل الاجتماعي لمجرد انها محتويات مضحكة، مسلية، ساخرة. هنا تظهر الخطورة التي تواجهها الثقافة العربية المعاصرة، فعلى الرغم من الجهود الكبيرة التي يبذلها كتاب ومفكرون صالحون ومصلحون لا تجد جهودهم تجاوباً جماهيرياً يرتقي بطروحاتهم الى مستوى المنهج العملي المؤثر، إلا في نطاقات محدودة جداً إذا ما قورنت بالتجاوب الكبير الذي يبديه كثيرون لمحتوى ضعيف أو تافه. وهنا أمر اخر، هو ان المجتمع ولشدة الضجر الذي يعيشه افراده بسبب فشل العقل السياسي في إنعاش الموقف، فقد صار كثير من الناس يمل من، أو يميل عن سماع النصيحة والحكمة ويعدّها سلعاً قديمة جميلة مكانها في رفوف المكتبات أوعلى الحيطان أو في صفحات الكتب، وليس في الواقع، لأن الواقع مريض الى الحد الذي تورم فيه جسم المجتمع، ومما يعمق المشكلة اكثر هو إظهار إعلام السلطة أورام المجتمع على انها عافية ومنجز يشيران الى حسن إدارة البلاد.

تواجه الثقافة اليوم مسألة تحوّل أزمة الفكر الى إشكالية، ودخول الوسط الثقافي مرحلة خطيرة من شأنها ان تلقي بالمجتمع خارج الوجود الإنساني وتحيله الى ركام حضارة، وبقايا دين، وتجمعات بشرية فاقدة لمعنى المجتمع ولمفهوم المجتمع. يبدو ان مشكلة ثنائية الدين والدولة تكمن في ان السلطة الحاكمة لا تعادي الدين بقدر ما تجد في مواقع التسلط قدرتها على تجاوز وحدة الإنسان التي هي هدف دين التوحيد، الى التعامل مع موضوع وحدة الانسان على انها حاجة وليست هدفاً وهي بذلك ترتكب الشرك في مناخ التوحيد، الأمر الذي تسبب في إرباك جو العقيدة في المناخ الاجتماعي والثقافي والسياسي، الأمر الذي دفع ببعض المثقفين الى تبني فكرة فصل الدين عن الدولة، او جعل الدين على هامش الحياة، وسط دعوات عالمية الى ثقافة كونية تذوب فيها كل الخصوصيات الثقافية في قالب أمركة الثقافة العالمية.

لعل بقاء الثقافة مرتبطة بالسياسة في ادارة الدولة حتى بعد انحراف السلطة عن مشروع الإمامة والقيادة الذي بدأه النبي الخاتم، قد أدى الى انقسام مصادر ثقافة المجتمع الى دينية وسياسية، الأمر الذي نتج عنه فشل حضور الدين كباعث للنهضة الثقافية في المجتمع العربي المعاصر واقتصار سعة الحضور الإجتماعي للدين على ممارسة الطقوس والعبادات. وفي الوقت نفسه فشلت السياسة في حضورها الإجتماعي كقوة حقيقية ساندة وداعمة ومحركة لمشروع تمكين المجتمع ثقافياً، واقتصار دورها في علاقتها بالمجتمع على تمشية وتنظيم امور الناس الحياتية اليومية في جوانبها الامنية والمعاشية.

ان من بين اسباب تأخر المجتمع العربي هو ان الصراع على السلطة يبدأ سياسياً ويستمر سياسياً حتى في جوانب الحياة الثقافية والاجتماعية والدينية و...

في المجتمع الإنساني لكي تتطور الثقافة ينبغي على السلطة التي تبدأ نشاطها سياسياً ان تستمر ثقافية، ولأن هذا الأمر غير متحقق في المجتمع العربي الإسلامي، لذلك تصيب الصدمة جيل الشباب العربي اليوم في عصر التقنية المتطورة والانفتاح على العالم، وهو يرى في بيئته العربية الإسلامية طبيباً بلا إنسانية، أو معلماً بلا ضمير، أو معمماً بلا قيم، أو أكاديمياً بلا اخلاق، أو موظفاً حكومياً بلا أمانة.

في القرن الثامن عشر، قال الكاتب والفيلسوف الألماني فولتير ان بمقدوره إحداث ثورة كبرى في العقول في ظرف سنتين او ثلاث اذا وجد الى جانبه خمس أو ست فلاسفة ومطبعة. أما اليوم ونحن في القرن الحادي والعشرين، عصر التقنية ومشاريع الذكاء الإصطناعي فيمكنني ان اقول ان بوسعنا احداث ثورة في العقول اذا تمكنا من فصل الثقافة عن سياسة الدولة ومنحها سلطة مستقلة.

***

د. عدي عدنان البلداوي

بقلم: أبيجيل تولينكو

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

كل من الحكايات الشعبية والفلسفة الرسمية تزعزعنا وتجعلنا نعيد التفكير في قيمنا الثمينة ونظرتنا للعالم.

كانت الحكاية الشعبية المجرية "الفتاة الجميلة إيبرونكا" تثير رعبي وتشويقي عندما كنت طفلة. ففي هذه القصة، يتعين على الفتاة إيبرونكا أن تربط نفسها بالشيطان بخيط من أجل اكتشاف حقائق مهمة. وفي هذه الأيام، كطالبة دكتوراه في الفلسفة، أشعر بالقلق أحياناً من أنني فعلت الشيء نفسه. ما زلت أؤمن بقدرة الفلسفة على البحث عن الحقيقة، ولكنني أدرك أنني قيدت نفسي بتراث أكاديمي مبتلى بشياطين هائلة.

تأتي شياطين الفلسفة الأكاديمية في أشكال مألوفة: التفرد، والهيمنة، والاستثمار في أسطورة العبقرية الفردية. وكما لاحظ عالم الأخلاق جيل هيرنانديز، كانت الفلسفة أبطأ في التغيير من العديد من التخصصات الشقيقة في العلوم الإنسانية: "قد يكون ذلك مفاجأة للكثيرين... نظرًا لأن اللاهوت، وبالتأكيد، الدراسات الدينية تميل إلى أن تكون شاملة، لكن الفلسفة في الغالب تقاوم تضمين الأصوات المتنوعة." وفي الوقت نفسه، أصبحت الفلسفة متخصصة بشكل متزايد بسبب الضغط من أجل الاحتراف. يركز الأكاديميون بشكل متزايد على موضوعات ضيقة لإنشاء مجالات فريدة من نوعها. وفي هذه العملية، فإن ما كان ذات يوم نظامًا يبحث عن إجابات لأسئلة الإنسانية الأكثر جوهرية، أصبح لغزًا مليئًا بالمصطلحات اللغوية لمجموعة ضيقة من المطلعين على بواطن الأمور.

في السنوات الأخيرة، أصبح "التوسع الفلسفي" موضوعًا ساخنًا، حيث وجد الفلاسفة على نحو متزايد أن حصرية هذا المجال تتعارض مع تطلعاته العالمية. وكما يشير جاي جارفيلد، فمن غير العقلاني "تجاهل كل ما لم يُكتب في الفضاء الأوروبي" كما هو الحال مع "قراءة الفلسفة التي تُنشر يوم الثلاثاء فقط". ومع ذلك، فقد فعلت الفلسفة الأكاديمية ذلك إلى حد كبير. فقط في العقود الأخيرة بدأ التيار السائد في التعامل بجدية مع أعمال النساء والمفكرين غير الغربيين. في كثير من الأحيان، يتضمن هذا الجهد النظر إلى ما هو أبعد من حدود ما كان يسمى تاريخيا "الفلسفة".

إن توسيع نطاق المجال الفلسفي بشكل عام ليس بهذه البساطة مثل إعادة ظهور أطروحة فلسفية معاصرة "قياسية" على طراز الذكور البيض والتي تصادف أن كتبها شخص خارج هذه الفئة الديموغرافية. يحدث هذا أحيانًا، كما في حالة مارغريت كافنديش (1623-1673)، التي حظيت أعمالها بتقدير أكبر في السنوات الأخيرة. لكن كافنديش كانت دوقة نيوكاسل، وهي من أنصار الملكية التي تنتقد نظريتها السياسية الحراك الاجتماعي باعتباره تهديدا للنظام الاجتماعي. كان بإمكانها الوصول إلى التعليمات التي كانت غير عادية إلى حد كبير بالنسبة للنساء خارج بيئتها، مما أعطى عملها أسلوبًا وهيكلًا "قياسيًا". للعثور على أصوات خارج هذه النخبة، يتعين علينا في كثير من الأحيان أن ننظر إلى ما هو أبعد من هذا الأسلوب والبنية.

إن النصوص التي صُنفت سابقًا على أنها لاهوتية بحتة كانت من بين النصوص الأولى التي جذبت اهتمامًا متجددًا كبيرًا. الكتابات الكاثوليكيات مثل تيريزا أفيلا أو الأخت خوانا إينيس دي لا كروز، اللائى تم تجاهل أعمالهن إلى حد كبير خارج الدوائر اللاهوتية، يعاد الآن فحصهن من خلال عدسة فلسفية. وبالمثل، تقوم أقسام الفلسفة تدريجيًا بتضمين المزيد من أعمال الفلاسفة البوذيين مثل ديجناجا وراتناكيرتي، اللذين كانت مساهماتهما المعرفية ذات أهمية خاصة في الآونة الأخيرة. يمكن لهؤلاء المفكرين الآن الجلوس في المناهج الدراسية جنبًا إلى جنب مع أوغسطينوس أو توما الأكويني، الذين، على الرغم من ميولهما اللاهوتية، اعتُبرا لفترة طويلة "جديرين" بالمشاركة الفلسفية.

فيما يتعلق بموضوع "الجدارة"، فأنا حذر من استخدام مصطلح "الفلسفة" باعتباره تشريفًا. من المهم للغاية أن اهتمامنا بتوسيع نطاق القانون لا يعني أن "الفلسفي" يجلب درجة معينة من الدقة إلى اللاهوتي والأدبي، وما إلى ذلك. إن القيام بذلك يعني الانخراط في نقاش قصير النظر وغير مثير للاهتمام حول الحدود الأكاديمية. سؤالي المحفز ليس ما يمكن أن تمنحه تسمية "الفلسفة" لهذه النصوص، بل ما يمكن أن تقدمه هذه النصوص للفلسفة. إذا كانت الفلسفة تسعى إلى الحصول على نظرة ثاقبة لطبيعة موضوعات عالمية مثل الواقع والأخلاق والفن والمعرفة، فيجب عليها أن تسعى للحصول على مدخلات من أولئك الذين يتجاوزون قلة محدودة. يعد التعامل مع اللاهوت بداية رائعة، لكن هؤلاء المؤلفين ما زالوا يمثلون إلى حد كبير نخبة ديموغرافية متعلمة، ويثيرون العديد من نفس المخاوف فيما يتعلق بالنزعة المهيمنة والحصرية والفردية.

وكما قال هيرنانديز ساخرًا: "نحن نعلم أن الرجال الغربيين البيض لم يحصروا السوق في أسئلة فلسفية إنسانية عميقة". "التحديق في السرة من أجل البقاء ... في وقت صعب على نحو متزايد بالنسبة للتخصصات الأكاديمية المتجانسة والحصرية. "في ضوء شياطيننا المذكورة أعلاه، يبدو أن الفلسفة في حاجة ماسة إلى طرد الأرواح الشريرة.

أقترح أن إحدى الطرق للمضي قدمًا هي العودة إلى الطفولة، إلى قصص مثل قصة إيبرونكا. يعتبر الفولكلور مستودعًا مهملاً للفكر الفلسفي المستمدة من أصوات خارج نطاق الشريعة التقليدية. وعلى هذا النحو، فهو يوفر نموذجًا للمناهج الجديدة التي تستجيب بشكل مباشر للمشاكل التي تواجه الفلسفة الأكاديمية اليوم. إذا وجدنا أنفسنا، مثل إيبرونكا، مقيدين بالشيطان، فقد تكون إحدى الطرق لفك تشابك أنفسنا هي تأليف قصة.

لقد نشأ الفولكلور وتطور شفهيا. فقد ازدهر لفترة طويلة خارج طبقات النخبة، ومعظمهم من الذكور، المتعلمين. يمكن لأي شخص لديه قصة يرويها ويستمع إليها صديق أو طفل أو حفيد أن ينشئ حكاية شعبية. وعلى الرغم من المخاطرة بذكر ما هو واضح، فإن "الشعبي" هو قلب الفولكلور. كانت النساء، على وجه الخصوص، تاريخياً المبدعات الرئيسيات والحافظات للفولكلور. في كتابها : من الوحش إلى الشقراء/ From the Beast to the Blonde (1995)، كتبت المؤرخة مارينا وارنر أن "النمط السائد يكشف أن النساء الكبيرات سنا ذوات المكانة الأدنى ينقلن المواد إلى الأشخاص الأصغر سنا".

يوجد الفولكلور بشكل ما في كل ثقافة، وقد أدى إلى ظهور المجموعات الممثلة تمثيلاً ناقصًا في كل ثقافة. وبينما نسعى إلى توسيع نطاق التراث الشعبي، يعد الفولكلور مصدرًا غنيًا للفكر حول موضوعات ذات أهمية فلسفية، مع إمكانية إحياء مجموعة واسعة من الأصوات التي استُبعدت إلى حد كبير.

الحكايات الشعبية لغز ومفاجأة وقنص. إنها تجعلنا نتساءل "لماذا؟"، وتدعونا إلى تخيل طرق جديدة للاستجابة

في قصيدته الساخرة «لغز ورش العمل» (١٨٩٠)، يصف روديارد كيبلينج أول رسم تخطيطي لآدم مخدوشًا بعصا في تراب عدن:

... [كان] فرحًا لقلبه العظيم،

حتى همس الشيطان خلف أوراق الشجر: "إنها جميلة، لكن هل هي فن؟"

ولذا قد نتساءل: قد يكون الفلكلور شاملا، لكن هل هو فلسفة؟

إن الإجابة على هذا السؤال تتطلب على الأقل تعريفًا فضفاضًا للفلسفة. إن تقديم هذا أمر شاق، لكن إذا ضغطت علي، فسأتوجه إلى أرسطو، الذي يقدم كتابه الميتافيزيقيا تلميحًا:" وبسبب دهشتهم، بدأ الناس الآن، وبدأوا في البداية، بالفلسفة." في رأيي، الفلسفة هي طريقة للمشاركة العجيبة، وهي ممارسة يمكن ممارستها في الأوراق الأكاديمية، وفي النصوص اللاهوتية، وفي القصص، وفي الصلاة، وفي محادثات مائدة العشاء، وفي التأمل الصامت، وفي العمل. وهذا الشعور بالدهشة هو الذي يجذبنا إلى تجاوز المظاهر ذات القيمة الاسمية والنظر إلى الواقع من جديد.

بالنظر إلى هذه العدسة، ليس من المستغرب أن يكون أحد الحلول لأزمة الفلسفة موجودًا في هواية الطفولة. في مرحلة الطفولة، نرى العالم حرفيًا بعيون جديدة؛ هنا، يتم الشعور بالدهشة بشدة. لقد سمعنا جميعًا طفلًا يسأل "لماذا؟"، وأدركنا ليس فقط أننا لا نعرف الإجابة، ولكننا نسينا كم كان السؤال محيرًا بشكل إعجازي في البداية. ترتبط العجائب والحكايات الشعبية بالمثل. Wundermärchen - الكلمة الألمانية الأصلية للحكاية الخيالية - تُترجم حرفيًا إلى "حكاية رائعة". ولعل هذا هو السبب وراء حب الأطفال للحكايات الشعبية. ولعل هذا هو السبب وراء حب الأطفال للحكايات الشعبية. في معظم الثقافات، تسبق الحكايات الشعبية الفروق الاجتماعية الواسعة بين ترفيه البالغين والأطفال. ولكن بما أن وسائل الترفيه الأخرى قد تجاوزت إلى حد كبير مجال البالغين، فقد حافظت الحكايات الشعبية على تأثيرها على الأطفال. يتحدثون لغة الطفل. إنهم يحيرون ويفاجئون ويطاردون. إنها تجعلنا نتساءل "لماذا؟" وتدعونا إلى تصور طرق جديدة للرد.

لم تكن رؤية أرسطو للفلسفة المبنية على الدهشة مقبولة من الجميع. رفض الراحل هاري فرانكفورت هذا التحليل لما يجعل السؤال فلسفيًا، حيث رد في كتابه أسباب الحب (2004):

وليس من المناسب وصف هذه الأشياء بأنها مجرد محيرة. إنها مذهلة. إنها عجيبة. لا بد أن الاستجابة التي ألهمتها كانت أعمق، وأكثر إثارة للقلق، من مجرد "التساؤل عما إذا كان الأمر كذلك"، على حد تعبير أرسطو. لا بد أنها اتسمت بمشاعر الغموض والغرابة والرهبة.

لكن العجب والخوف والرهبة أصدقاء قدامى. مثل أي تلميذ كاثوليكي، تعلمت أن "الخوف من الله" كان مجرد اسم آخر لـ "العجب والرهبة". ويبدو أن الفولكلور والفلسفة يلتقيان عند هذا التقاطع، حيث يلتقي العجب والخوف في شيء مقلق ورائع. كتبت عالمة الفولكلور ماريا تاتار أنه في عالم الحكاية الشعبية، "أي شيء من الممكن أن يحدث، وما يحدث غالبا ما يكون مذهلا للغاية ... لدرجة أنه غالبا ما يؤدي إلى هزة". تتطلب الفلسفة أن نواجه أعمق مخاوف البشرية وأشواقها. سواء قمنا بإخفائها باستخدام phis وpsis، فهي تهتم بشدة بارتجافاتنا وتنهداتنا. ولعل التراث الشعبي، بغاباته وأشباحه، هو المخزون التاريخي الأوسع نطاقًا لهذه المخاوف.

يذهب عالِم الفولكلور ريت هييمائي إلى حد القول إن "الخوف البشري" هو الذي "أدى إلى ظهور وتشكيل الظواهر الفلكلورية". الفلكلور هو محاولة خيالية لفهم ما لا يُفسر. من خلال التفاعل مع ما يخيفنا، نتعرف على هويتنا. وإذا أردنا أن نكتشف ما يخيفنا، فإن الغابة السوداء/ المظلمة هي أول مكان يجب أن نبحث فيه.

إن الفلسفة والفولكلور يثيران هذا الشعور بالخوف العجيب والرهبة المذهلة. كما يشتركان في هدف مزدوج، عبر عنه برونو بيتلهيم في في كتابه فوائد السحر/ The Uses of Enchantment (1976). بالنسبة له، فإن الغرض من الفولكلور هو مساعدتنا "ليس فقط على العيش لحظة بلحظة، ولكن في الوعي الحقيقي لوجودنا". وهنا، كما هو الحال في الفلسفة، هناك البحث عن الحقيقة، وهو الاهتمام بشكل هادف ببنى الواقع التي غالبًا ما نعتبرها أمرًا مفروغًا منه، وإدراك العالم على أنه أكثر من مجرد مشهد.

ثانياً، هناك هدف الحياة الطيبة، والرغبة في أن يخدم استقصاؤنا الفكري تجربتنا المعاشة، وأن نعيش ونتنفس فلسفتنا فضلاً عن التأمل فيها. والواقع أن التطبيق الفلسفي الأكثر وضوحاً للفولكلور يتلخص في الأخلاق. فمعظمنا على دراية بالدروس الأخلاقية الوداعية التي نجدها في نهاية حكايات الطفولة المألوفة. تقول وارنر إن أحد الجوانب الأكثر قيمة في هذا الوسيط هو تركيزه على الأصوات المهمشة في النقاشات الأخلاقية. تكتب أن "طرقًا بديلة لفصل الصواب عن الخطأ تحتاج إلى مرشدين مختلفين، قد يكونون غير موثوقين أو مهملين". إذا كانت الفلسفة في أزمة جزئيًا بسبب دائرة ضيقة من "المرشدين"، فإن الفلكلور هو مكان غني للبحث عن مرشدين جدد. يشير بيتلهايم أيضًا إلى أن الحكايات الشعبية محملة بالقيم على المستوى الجوهري العميق:

يقول تولكين في معرض حديثه عن سؤال "هل هذا صحيح؟": "ليس من الممكن الإجابة على هذا السؤال بتهور أو تكاسل".  ويضيف أن السؤال الأكثر أهمية بالنسبة للطفل هو: "هل كان طيبًا؟ هل كان شريرًا؟" أي أن الطفل يهتم أكثر بتوضيح الجوانب الصحيحة والخاطئة.

قبل أن يتمكن الطفل من التعامل مع الواقع، يجب أن يكون لديه إطار مرجعي لتقييمه. عندما يسأل عما إذا كانت القصة حقيقية، فهو يريد أن يعرف ما إذا كانت القصة تضيف شيئًا مهمًا إلى فهمه، وما إذا كانت تحتوي على شيء مهم لتخبره به فيما يتعلق بأعظم مخاوفه.

عند التمحيص في الفلكلور، من السهل العثور على قصص تتطابق بشكل جيد مع اهتماماتنا المعاصرة - العديد منها يعكس حتى بنية التجارب الفكرية الأخلاقية الأساسية. على سبيل المثال، في الحكاية الروسية التقليدية "إيليا مورومتس والتنين"، يجب على البطل أن يختار بين مساعدة ملك في بلد بعيد تعاني مملكته من هجمات التنانين، والعودة لخدمة وطنه، الذي يعاني من احتياج أقل. وفي هذه الحكاية، تبرز موضوعات التحيز والمجتمع والقومية. فهل تتغلب الحاجة الشديدة على تحيز المرء لأسرته أو أمته أو مجتمعه؟ يمكننا أن نرى أوجه التشابه في العديد من التجارب الفكرية المعروفة في الأخلاق المعاصرة. فسواء كان المرء يقفز من رصيف لإنقاذ امرأة تغرق، أو يقود عربة، أو يفسد حذائه الجديد في بركة لإنقاذ طفل، فقد كان الفلاسفة منذ فترة طويلة منشغلين بما إذا كانت التزاماتنا تجاه المألوف والغريب تتباعد وكيف تتباعد. وعندما يكون كل منهما متعارضاً، فهل ينبغي لنا أن ننقذ حياة صديقنا أم حياة شخص غريب؟

مثال قوي آخر يظهر في الحكاية الشعبية الهايتية "بابا الله والجنرال الموت". هناك أدب أخلاقي واسع يتناول طبيعة وقيمة الموت؛ حيث يقدم كتاب فريد فيلدمان "المواجهة مع المحصِّل" (1992) مقدمة شاملة لمختلف جوانب النقاش حول هذا الموضوع. هل الموت شر عظيم؟ هل هو نوع من الظلم؟ تقدم هذه الحكاية حججًا تدافع عن الموت. يزعم بابا الله أن الناس يحبونه أكثر من الموت لأنه يمنحهم الحياة، بينما الموت يأخذها فقط. ولإثبات صحة هذا الزعم، يطلب بابا الله من أحد السكان المحليين الماء. وعندما يعرف الرجل أن الطلب جاء من الله، يرفض أن يقدم له الشراب. وعند الاستفسار، يوضح الرجل أنه يفضل الموت على الله.

لأن الموت ليس له مفضلين. فالأغنياء والفقراء والشباب والكبار كلهم سواء بالنسبة له... الموت يأخذ من كل البيوت. أما أنت فتعطي كل الماء لبعض الناس وتتركني هنا على حماري لأقطع عشرة أميال من أجل قطرة واحدة فقط.

تقلب هذه القصة افتراضاتنا رأساً على عقب، وتجادل بوضوح ضد الافتراض الشائع بأن الموت شر أخلاقي. ففي عموميته، يشكل الموت في الواقع شكلاً من أشكال العدالة على نحو لا يمكن للحياة أن تكون عليه أبداً.

في العديد من الثقافات، يتمتع الفولكلور بأهمية أخلاقية أكبر. على سبيل المثال، يزعم الباحثان أولوول كوكر وأديسينا كوكر أن الفولكلور في ثقافة اليوروبا يلعب دورًا كبيرًا في "توليد القوانين التي تحكم العلاقات الشخصية والداخلية، والتماسك المجتمعي، والنظام الأخلاقي ونظام العدالة". ويطلقان على هذه العلاقة "القانون الشعبي"، موضحين أن الفولكلور يعمل كنظام أخلاقي يشبه القانون ويستند إلى الممارسات الاجتماعية. كما يؤكدان على أن الفولكلور هو "مسار للفلسفة الوجودية بين اليوروبا"، حيث يتم استكشاف المعضلات الأخلاقية في المقام الأول من خلال القصة. لطالما أخذ اليوروبا الفولكلور على محمل الجد كمصدر للتفكير الأخلاقي.

ما وراء الأخلاق، يتناول الفولكلور جميع فروع الفلسفة. فيما يتعلق بدلالته الميتافيزيقية، يوفر الفولكلور البوذي مثالاً بارزاً. عندما يُستوعب الدارما – أي، الطبيعة الأساسية للواقع – فإنه يُعلم بشكل طبيعي عبر القصص الشعبية: حكايات الجاتاكا في البوذية الكلاسيكية، والكوآنات في الزن، كما يكتب المعلم زن روبرت آيتكين روشي. يقدم الفيلسوفان جينغ هوانغ وجوناردون غانيري تحليلاً فلسفياً مثيراً لحكاية بوذية يبدو أنها تعود إلى القرن الثالث قبل الميلاد، والتي ترجموها بعنوان "هل هذا أنا؟". يجادلان أن الحكاية تطرح معضلة ميتافيزيقية مشابهة لتجربة "سفينة ثيسيوس" التي قدمها بلوتارخ، مما يدفعنا للتساؤل عن طبيعة الهوية الشخصية.

تروي القصة حكاية لقاء غير سعيد لمسافر مع زوج من الشياطين، أحدهما يحمل جثة. بينما يقوم الشيطان الأول بتمزيق ذراع من ذراعي الرجل، يأخذ الشيطان الثاني ذراعاً من الجثة ويستخدمه كزراعة. تستمر هذه اللعبة حتى يتم استبدال جسم الرجل بالكامل، ممزقاً عضوًا تلو الآخر، بأجزاء من الجثة. ويبدأ الرجل في التساؤل: "ماذا أصبح مني؟"

هذه الحكاية تختبر حدسنا حول العلاقة بين أجزاء الكيان والكل. في أي نقطة تصبح كتلة الأجزاء هي الرجل؟ ما أنواع الاستبدال المادي التي تستدعي تغييراً في الهوية؟

لقد لعبت الحكايات القديمة دورًا محوريًا في تحدي الافتراضات المعرفية التي لم تكن موضع شك من قبل

إن خاتمة القصة تسلط الضوء على نهج بديل لنظرية المعرفة. فوفقاً لتقليد "المادياماكا" البوذي الذي يعتمد على "المعضلة الرباعية"، تحدد القصة أربع استجابات محتملة للمعضلة: هل الجسد المستبدل هو الإنسان الأصلي؟ 1) نعم، هو الإنسان. 2) لا، ليس الإنسان. 3) هو الإنسان وليس الإنسان في الوقت نفسه. 4) ليس هو الإنسان ولا ليس هو الإنسان. وتتقدم القصة لتكشف أن كلاً من هذه الخيارات يؤدي إلى قدر من العبث. وهذا يعمل كحجة اختزالية ضد مفهوم الهوية الشخصية برمته، مما يشير إلى أن المفهوم كان منذ البداية فارغاً أو مُعرَّفاً بشكل غير صحيح. وتؤكد حكايات أخرى الفكرة الأكثر تطرفاً والتي مفادها أنه من المنطقي رفض أو قبول جميع الاستجابات الأربع في وقت واحد.

لقد ألهم هذا النهج غير التقليدي في التعامل مع نظرية المعرفة عالم المنطق جراهام بريست مفهوم "الحوارية"، الذي يفترض تماسك "الحواريات" ـ وهي عبارة عن مقترحات مشتركة تتضمن بياناً ونفيه. ويقدم لنا تطور الحوارية مثالاً لحالة لعبت فيها الحكايات القديمة بالفعل دوراً محورياً في تحدي الافتراضات المعرفية التي لم تكن موضع شك من قبل. فما هي الأفكار الفلسفية الأخرى التي قد تكون مدفونة في الفولكلور؟ وما هي الأسئلة الجديدة التي قد تطرحها، وكيف قد تعمل على توسيع فهمنا لنطاق الإجابات المتاحة؟

ثم هناك مسألة المنهجية: عندما يواجه الفيلسوف المتعاطف حكاية شعبية، كيف يمكنه المضي قدمًا؟ فالحكايات عادة لا تقدم لنا حججًا جاهزة في شكل مقدمة ونتيجة. سنحتاج إلى بذل جهد تفسيري لفهم السمات السياقية والأسلوبية الضرورية لاستخلاص الرؤى الفلسفية. ستكون هناك حقائق تفسيرية وأدبية وأنثروبولوجية يجب أخذها في الاعتبار. ربما يكون الفلاسفة غير مجهزين بشكل كافٍ للقيام بهذا العمل بمفردهم – وهذا أفضل! فالتفاعل بين التخصصات يعزز نطاق بحثنا ويثري الجميع. كم سيكون رائعًا لو تعاونت الأقسام الأكاديمية بشكل أكبر، لو رأينا أوراقًا علمية مشتركة بين علماء الفولكلور والميتافيزيقا، لو تجاوز بحثنا عن الحقيقة الانقسامات البيروقراطية الأكاديمية وقادنا عبر مسارات القصص المتعرجة، تلك المسارات التي شاركناها في طفولتنا، ولكن طالما نسيناها.

لكن قبل أن نُبري أقلامنا للبحث عن البراهين، أدعو زملائي الفلاسفة إلى أن يكونوا منفتحين على أساليب بديلة للتعامل مع الأفكار الفلسفية. لا تفهموني خطأ، فأنا أحب شكل المقدمة والنتيجة بقدر الفتاة التالية (وربما أكثر بكثير، إلا إذا كانت الفتاة التالية أيضًا طالبة دراسات عليا في الميتافيزيقا). لكن سيكون من غير المنطقي تمامًا أن نفترض أن الفهم الفلسفي كله مسجل في هذا الشكل. (ونحن عشاق البراهين نكره اللاعقلانية بشكل مشهور).

في الحكايات الشعبية، قد لا نجد دائماً حججاً، على الأقل كما تُفسَّر عادة. وهذا ليس دليلاً على العجز الفلسفي. فالتحيز الأوروبي للنصوص التقليدية يميل إلى تفضيل بنية حججية معينة. ولكن القصص ليست جديدة على الفلسفة: فقد كان أفلاطون وفريدريك نيتشه وسورين كيركيجارد جميعاً من رواة القصص الأذكياء. واليوم، حتى الفلسفة التحليلية الأكثر صرامة من الناحية المنهجية ليست محصنة ضد إغراء السرد. ولنتأمل هنا وصف بيتلهيم لوظيفة الحكايات الخرافية، والذي قد يخطئ البعض في اعتباره وصفاً للتجربة الفكرية المعاصرة:

من سمات القصص الخيالية أنها تعرض معضلة وجودية بإيجاز وبشكل واضح ... [من أجل] التعامل مع المشكلة في شكلها الجوهري العميق  ...

إن السرد القصصي مرتبط بالتقليد الفلسفي، رغم تراجعه في العصور الحديثة. ولكن لا يقتصر مبرر السرد على سابقة التاريخ فقط. ربما يكون تأثير الفلكلور الأكثر فائدة في اختلافه عن الفلسفة. الفلكلور مليء بالتحولات السحرية، ويجب علينا أن نسمح لهذه التحولات بالتأثير علينا. أقوى توسع في الفلسفة لن يكون مجرد إضافة، بل من خلال تغيير المنهجية.

يقدم الفولكلور نموذجًا جديدًا للاستقصاء يتمتع بالقدرة على تحويل التخصص بطرق مثيرة، وإعادة إحيائه من الداخل. كيف يمكن أن تبدو الفلسفة خارج افتراضات الأوساط الأكاديمية المعاصرة؟ كيف يمكن للفولكلور أن يلقي الضوء على طرق بديلة للتفكير، ويثير ألغازًا جديدة، ويوسع نطاق الإجابات في الأفق؟

زعم لودفيج إيدلشتاين،، الباحث في أفلاطون، أن رواية القصص تلعب دوراً تفسيرياً مهماً: فمن خلال القصص "نواجه السحر بالسحر". وهو يزعم أن البحث البشري عن المعنى يتحقق على أفضل نحو عندما نشارك طبيعتنا العقلانية والعاطفية. ولأن "الفيلسوف لابد أن يهتم بهذين الجزئين من الروح البشرية على قدم المساواة"، فإن القصص تشكل أداة قيمة لنقل الأفكار بأقصى قدر من التأثير.

إن هذه القيمة مفيدة في سعينا إلى توسيع نطاق الفلسفة إلى ما هو أبعد من قِلة متخصصة ضيقة. والفولكلور هو وسيلة للشمول الموسع ــ فهو يتجاوز الحدود الطبقية والتعليمية. وكما لاحظ كاتب الخيال كارل تشابيك: "الحكاية الخيالية الشعبية الحقيقية لا تنشأ عندما يدونها جامع الفولكلور، بل عندما ترويها الجدة لأحفادها". والغرض من هذه الحكاية هو إشراك واسع النطاق، وبنيتها المألوفة والممتعة تجعل الأفكار المعقدة في متناول مجموعة من الجماهير في مختلف التخصصات، وخارج الأوساط الأكاديمية.

من السمات البارزة الأخرى للفلكلور تركيزه على الجماعية. بالنسبة للكثيرين، تثير كلمة "الفلسفة" سلسلة من العباقرة: مثل أرسطو، وسارتر، وكانط. فقد مجّدت هذه التخصصات الأفراد بشكل مستقل، وصوّرت إسهاماتهم الثورية كأنها جاءت في فراغ. في السنوات الأخيرة، شكّك كثيرون في هذه الرواية. يصرح عالم الاجتماع سال ريستيفو: "إذا أعطيتني عبقريًا، فسأعطيك شبكة اجتماعية." هناك اتجاه متزايد نحو الاعتراف بأن التقدم هو نتاج تعاون، وليس ملكية فردية.

السرد القصصي يتعامل مع الفوضوي والواقعي بطريقة تعجز عنها الهياكل النقية للفلسفة.

للفولكلور تقليد طويل بهذه الروح. في كتابه "الجلوس عند أقدام الماضي" (1992)، وهو عبارة عن مجموعة مقالات عن الحكايات الشعبية في أمريكا الشمالية، كتب ستيف سانفيلد: "لا أحد يملك هذه القصص... إنها تتغير في كل مرة تُروى فيها". الحكايات جماعية بطبيعتها، وليس لها مؤلف واحد. يغير المستمعون القصص، ويخطئون في تذكرها، ويزينونها، ويغيرون معناها مع كل رواية. وبهذه الطريقة، فهو أسلوب في التفكير بشكل عبر الزمن، وهو بحث تعاوني يستمر عبر القرون.

يتناقض نموذج الفولكلور الجيلي أيضًا مع عمى الفلسفة الأكاديمية، المؤسف كثيرًا، عن تاريخها، وسياقها، واحتمالاتها. وكما لاحظ الباحث الأدبي كارل كرويبر في إعادة السرد/إعادة القراءة: مصير رواية القصص في العصر الحديث (1992):

جميع الروايات المهمة يُعاد سردها، ومن المفترض أن يُعاد سردها - على الرغم من أن كل عملية إعادة سرد هي بمثابة صناعة من جديد. وهكذا يمكن للقصة أن تحافظ على الأفكار والمعتقدات والقناعات دون السماح لها بالتحول إلى عقيدة مجردة. يسمح لنا السرد باختبار مبادئنا الأخلاقية في مخيلتنا حيث يمكننا إشراكها في حالات عدم اليقين والارتباك الناجمة عن الظروف الطارئة.

إن الفولكلور تاريخي بشكل واضح، وهو في حالة تغير مستمر. تتطور الحكايات مع مساهمات الرواة المتعاقبين، ومع ذلك، فيما يستمر، يمكننا أن نشهد عمليات فكرية تقترب من الرنين الخالد. يقدم هذا الأسلوب مزايا مقارنة بالنموذج الفلسفي الأوروبي، الذي يمكن أن يحجب التاريخ الأوسع للأفكار في إصراره على السعي المجرد والفردي إلى العالمية. لا يخشى سرد القصص التعامل مع السياق والفوضى وخصوصية الواقع بطريقة تكافح الهياكل الفلسفية الأصلية من أجل القيام بها. وعلى هذا النحو، فهو يوفر طريقًا تم فحصه بشكل أكثر شمولاً لما يمكن تسميته بالعالمي. إن الفولكلور هو في نفس الوقت انعكاس للحاضر الذي يُروى منه، كما أنه سجل لما يستمر عبر دهور من العصور المتعاقبة.وإذا استعرنا استعارة كرويبر، فإن الفولكلور يحافظ على الأفكار بهدوء. إنه وضع الزهور في مزهرية بدلاً من تجفيفها - السرد المائي يتحرك دائمًا، في حالة تدفق مستمر، لذلك تظل الأفكار خضراء ولا تصبح هشة.

لقد أثرت نهاية "الفتاة الجميلة إيبرونكا"  دائمًا في نفسي. تقف عند مقبرة القرية، فتاة صغيرة تواجه الشيطان متخفيا فى  صورة رجل مثقف.يتوقع المرء منها أن تصرخ، أو تركض، أو تقاتل. وبدلاً من ذلك، تروي له قصة تحتوي على الحقيقة. إنها تبدأ من بداية القصة، وتستولي على دور الراوي، مما يجعل القصة في حلقة مفرغة.. فقط عندما تفعل ذلك يُهزم الشيطان وتستعيد حياة ضحيته.

***

..................

الكاتبة: أبيجيل تولينكو/ Abigail Tulenko طالبة دكتوراه في الفلسفة بجامعة هارفارد. عندما لا تقرأ الحكايات الشعبية، تستمتع بالتصوير الفوتوغرافي والطباعة على النمط الأزرق والكتابة. يمكن العثور على المزيد من أعمالها على موقع abigailtulenko.com.

 

هو من المواضيع المعقده وقد تم دراسته من قبل الفلاسفه في نختلف المدارس الفكريه عبر التاريخ، والموت من وجهة نظر الفلسفه هو موضوع متعدد الأبعاد، وتتعامل الرواقية مع فكرة الموت بطريقة عملية وبلا أنفعال، حيث يرى الرواقيون أن الموت جزء طبيعي من الحياة، ويجب قبوله بلا خوف أو قلق، وبالنسبه لهم الموت ما هو إلا نهايه طبيعية ويبغي على الإنسان أن يعيش حياة فاضله بحيث لايخشى الموت عند قدومه. أما الابيقوريه فهي ترى الموت شيء يجب أن نخاف منه لأنه ببساطه نهاية الوعي، وهو غائب عن الشعور الإنساني. وسقراط يرى في الموت إنتقال إلى حاله من المعرفة الكاملة. ويقول سقراط في هذا الصدد أنه لايخشى الموت، لأن هناك أحتمالين، الأول هو أن الموت هو حاله من عدم الوعي كما في الأحلام. والثاني يمثل الإنتقال إلى عالم آخر حيث يمكنه مواصلة البحث عن الحقيقه. وفي كلتا الحالتين لا يوجد شيء يستحق الخوف. كما يرى أفلاطون أن الموت هو إنتقال من عالم مادي إلى عالم أكثر واقعيه وثبات، وهو عالم الأفكار أو الأرواح. ويرى أفلاطون أن الحياة البشرية ماهي لا مرحله من مراحل الوجود، والموت هو بوابة نحو حياة أسمى. وفي العديد من الفلسفات الدينية ينظر إلى الموت على أنه إنتقال إلى حياة أخرى، سواء كان ذلك من خلال التناسخ كما في الهندوسية أو البوذية، أو الحياة الأبديه التي يوجد فيهاجنه وجحيم كما في الديانات الإبراهيمية، حيث أن الموت ليس نهايه بل هو حياة جديده تختلف طبيعتها حسب سلوك الإنسان في الحياة الدنيا. أما الفلسفه الوجودية فهي تعتبر الموت جزءاً لا يتجزأ من تجربة الإنسان، مثال على ذلك الفيلسوف الوجودي جان بول سارتر يعتبر أن وعي الإنسان بالموت يعطي لحياته معنى، حيث يدفعه لمواجهة حريته ومسؤليته في إختيار مصيره. والموت في الفلسفه الوجوديه يمثل الحد الذي يعرف حدود وجودنا ويجعلنا ندرك أهمية الحريه الشخصيه والاختيارات ألتي تقوم بها. والفيلسوف الديني بليز باسكال في رهان باسكال يقترح فكرة التعامل مع الحياة والموت من منظور الإيمان بالله، وهو يرى أن الإنسان في مواجهة عدم اليقين بشأن مايحدث بعد الموت، من الحكمه أن يراهن على وجود الله والحياة بعد الموت، أذا كان الله موجود، فإن المكافأه ستكون الأبدية، وأذا لم يكن موجود، فلن يخسر الشخص شيئاً.أما الفيلسوف هنري برغسون في كتابه الزمان والإرادة الحره، يعتبر أن الوعي البشري محكوم بالزمان، وأن هذا الوعي يتغير ويصبح معقداً بمرور الزمن. والموت يمكن أن ينظر إليه على أنه التحرر من قيود الزمن المادي، بحيث ينتقل الكائن من عالم الزمن إلى عالم أزلي أو ماوراء الزمن. أما في الفلسفه العدمية فالموت يمثل النهايه المطلقه، وأن الحياة خاليه من أي معنى وغاية، ومن هذا المنظور لايوجد شيء بعد الموت، وبالتالي يجب على الإنسان أن يقبل عدم وجود أي هدف نهائي للحياة.والفيلسوف فريدريش نيتشه هو أبرز من تحدثوا عن العدميه، وهي الفكره التي تعني أن الحياة لا معنى لها في ظل غياب القيم المطلقه أو الإلهية. والموت بالنسبه لنيتشه ليس مجرد نهاية الحياة، بل أنه يعكس الحاله التي تكون فيها القيم التقليديه للحياة قد تآكلت أو فقدة معناها، ويمكن أن يقود الوعي بالعدم إلى نوع من أعادة تقيم القيم، حيث يسعى الفرد إلى خلق معنى جديد للحياة في مواجهة غياب القيم الثابتة.أما الفيلسوف آرثو شوبنهاور يرى أن الحياة هي صراع مستمر للإرادة من أجل البقاء، والموت يمثل النهايه الحتميه لهذا الصراع، . مع ذلك يعتبر شوبنهاور أن الموت ليس بالضرورة شيئاً سلبياً.بل أنه يمكن أن يكون نوعاً من الراحة من معاناة الحياة. وفي النهاية فأن السؤال حول الموت هو سؤال شخصي وذاتي حسب وجهات النظر الفلسفه المختلفه، واطارها في التفكير ومعتقداتها الخاصه.

***

قائد عباس حمودي

نحن أمام صعلوك أسطوري أغريقي الأصل يدعى (أيسوب) رضع العبودية مع حليب أمه وعاش مفردات الظلم والقهر طيلة حياته. فقد قال يوماً ما: إن بطني لم تشبع ولو لمرة واحدة.

ناضل منذ نعومة أظفاره من أجل حريته فقد كان عبداً مملوكاً لأحد الإقطاعيين يعمل في حديقة قصره وكان مجرداً من كل حقوق المواطنة.

ولد أيسوب عام 700 قبل الميلاد وبدأ بكتابة خرافاته الشهيرة عام 620 قبل الميلاد. وقد تضمنت الكثير من الحكمة في الحياة والنصائح في السلوك وهي على بساطتها تعد من روائع الأدب العالمي وترجمت إلى مختلف لغات العالم. كتب أيسوب خرافاته على لسان الحيوانات وذلك بسبب طبيعة النظام الدكتاتوري السائد في اليونان في ذلك الوقت الذي يقوم على سياسة كم الأفواه فكان الناس يخشون التحدث صراحة خوفاً من العقاب. وقد نشأ نفس هذا النوع من القصص الحيواني في بلاد سومر وبابل والهند لنفس الأسباب. ولهذا نجد أصداء خرافات أيسوب في كتاب كليلة ودمنة الذي كتب في القرن الثالث الميلادي وهو عبارة عن كتاب في الإرشاد وفن السياسة ألفه حكيم هندي يدعى (بيدبا) وأهداه إلى ملك الهند وقد ترجمه ابن المقفع إلى الفارسية ومن ثم إلى العربية. كما نجد صدى خرافات أيسوب في الأدب الأوربي كما في رواية الكاتب (جورج أورويل) (1903-1950) وهو كاتب أنكليزي في روايته (مزرعة الحيوانات) وهي رواية ابطالها من الحيوانات التي تثور على الإنسان وتقوم بتاسيس مزرعة تديرها ذاتياً وقد أتخذت طابعاُ سياسياً حيث نجد أورويل قد أتخذ من الحيوانات جسراً إلى النقد السياسي.

لقد أصبح أيسوب شخصية عالمية حتى إن ملك بابل والذي يبدو إنه الملك الفارسي (كورش) الذي قام بإحتلال بابل عام 539 قبل الميلاد واصبح حاكماً عليها (طلبه ليكون مستشاراً وظل مدة (20) عاماً مستشاراً حتى تأمر عليه حاشية الملك فأضطر إلى الرجوع إلى اليونان) هذا ما ذكره كتاب (أيسوبوس الحكيم المظلوم) لمؤلفه (رعد صادق الحلي) (ثم اشتراه أحد فلاسفة اليونان فأعتبر هذا الحدث ميلاده الجديد وأخذ يحضر الجلسات الفلسفية والفكرية التي كان يقيمها هذا الفيلسوف وأصبح بمثابة صديق له وليس خادماً). نفس المصدر.

إن تاريخ العبودية يرجع إلى زمن بعيد وعرفته معظم المجتمعات كمرحلة من مراحل التطور المجتمع الإنساني فقد أدى تقدم الصناعة والعمل في بلاد الأغريق إلى الأيدي العاملة فأستوردوا الرقيق بأعداد كبيرة من آسيا وأفريقيا وأصبحت تجارة النخاسة مصدراً للربح وعلى الرغم من تقدم الديموقراطية اليونانية في القرن الخامس إلا إن الأنظمة السياسية بما فيها أفكار الفلاسفة تعتبر الرقيق أداة مهمة لرفاهية المواطن الأغريقي.

أما في روما فقد شهدت أكبر ثورة قام بها العبيد عام 73 قبل الميلاد حيث تصدى لزعامتهم رجل يدعى (سبارتاكوس) فقد كان جندياً في الجيش الروماني وقد ذاق مرارة العبودية وتعرض للإضطهاد والتعذيب في مستعمرات العبيد المصارعين ذلك إن أباطرة روما كانوا يدربون العبيد ويستخدمونهم في مصارعة الحيوانات المفترسة ليتسلوا بمنظر الدماء وهي تراق في ملاعب روما غير إن هذه الثورة أجهضت بعد حصار أستمر ستة أشهر وأنتهت بمقتل قائدها (سبارتاكوس) عام 72 قبل الميلاد.

كما عرف ألإسلام نظام الرق وورثه من العصر الجاهلي ولم يضع الإسلام حداً له وكان مصدره الحروب والشراء حيث أسواق النخاسة. كما أعتبر الرق في العصرين الأموي والعباسي مصدراً للرفاهية والجاه حيث أنتشر الرقيق الأبيض من الروم وغيرها في قصور الخلفاء والامراء الأغنياء.

مصرع أيسوب

بعد أن غادر ايسوب بابل توجه إلى مدينة (دلفي) اليونانية التي يوجد فيها معبد (دلفي) الشهير وحيث الكاهنة العذراء التي تقرأ طوالع الناس. في هذا المعبد الذي يحج إليه سنوياً آلاف الحجيج من مختلف أنحاء بلاد اليونان يوجد مئات من الكهنة الدجالين الذين يستغلون الناس بتعاويذهم وحركاتهم البهلوانية من أجل كسب الأموال من الناس البسطاء كما يحدث اليوم. ثار أيسوب ضد هؤلاء الكهنة وفضح أعمالهم فما كان منهم إلا أن تآمروا عليه فدبروا له مؤامرة وهي سرقة الكأس المقدس من ذلك المعبد وقد أخفوه في حاجاته بدون علمه وتنص عقوبة هذه السرقة على أعدام من يرتكبها وبذلك إودع أيسوب السجن ثم حكم عليه بالإعدام وكان إثناء مكوثه في السجن يقص على السجناء قصصه ومواعظه وعندما حانت ساعة إعدامه رماه أحد الكهنة من مبنى شاهق وقبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة تفوه قائلاً:

(أن بابل سوف تنتقم منكم لقتلي)

وأخيراً، فأن بعض المؤرخين من يقول إنه شخصية خيالية لا وجود لها رغم إن أسمه كان قد ذكر في كتابات المؤرخ اليوناني (هيروتدت) 484-425 قبل الميلاد. ولم تجمع أساطير أيسوب في كتاب واحد إلا بعد أربعة قرون من وفاته حيث جمعها أحد الفلاسفة اليونان وكتب سيرة حياته في كتاب واحد أودعه في مكتبة الأسكندرية ونشر في أيطاليا عام 1479 ميلادية باللغة الإيطالية.

***

غريب دوحي

بقلم: مايكل لاشمان وسارة ووكر

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

القطة على قيد الحياة، والأريكة ليست كذلك: نحن نعرف ذلك. لكن الأريكة أيضًا جزء من الحياة. نظرية المعلومات تخبرنا السبب.

على الأريكة في زاوية الغرفة، تخرخر قطة. يبدو واضحًا أن القطة هي مثال للحياة، في حين أن الأريكة نفسها ليست كذلك. لكن هل يجب أن نثق بحدسنا؟ خذ بعين الاعتبار ما يلي: افترض إسحاق نيوتن وقتًا عالميًا يتدفق دون تأثير خارجي، ووقتًا نسبيًا يُقاس بالساعات - تمامًا كما تخبرنا حواسنا. وبعد قرنين من الزمان، تخلى ألبرت أينشتاين عن مفهوم الوقت العالمي وقدم بدلاً من ذلك مفهومًا للوقت يُقاس محليًا فقط بالساعات.  من كان قبل أينشتاين يظن أن الوقت على الشمس، والقمر، وحتى على كل ساعة من ساعاتنا يمر بمعدلات مختلفة قليلاً - وأن الوقت ليس مطلقًا عالميًا؟ ومع ذلك، يجب على هواتفنا المحمولة اليوم أن تأخذ ذلك في الاعتبار حتى يعمل نظام تحديد المواقع العالمي (GPS).

لقد قطع العلم خطوات مذهلة، حيث كشف عن فهم عميق وغير بديهي في كثير من الأحيان للواقع المادي. نحن نفهم الكثير عن الذرات الموجودة في جسم الإنسان والنجوم في سماء الليل: أكثر بكثير مما نفهمه عن الإنسان الفردي كمثال للحياة. في الواقع، يواصل علماء الحياة مناقشة التعريف الدقيق للحياة. كان أرسطو هو أول من قال أن الحياة شيء ينمو ويتكاثر. لقد كان مفتونًا بالبغل، وهو خليط بين الحصان والحمار الذي يكون دائمًا عقيمًا. ولكن لمجرد أن البغل كان عقيمًا، فلا يمكنك تسميته ميتًا. الجدال لا نهاية له: يقول البعض أن الحياة يجب أن تتم عملية التمثيل الغذائي، أي أن تأخذ مركبات، وتحولها إلى طاقة، وتطلق بعض النفايات. لكن هل المحركات النفاثة مؤهلة؟ باختصار، لا توجد نظرية، وبالتالي لا يوجد جهاز قياس يمكنه تأكيد أو دحض افتراضنا بأن القطة على قيد الحياة والأريكة ليست كذلك، ولا حتى أنك على قيد الحياة عندما تقرأ هذا.

وهذا ليس بسبب عدم المحاولة. خطوة مهمة لفهم المبادئ الأساسية التي يمكن أن تفسر الحياة طرحها إيروين شرودنغر، أحد آباء فيزياء الكم. ربما يكون شرودنغر معروفًا بتجربته الفكرية لقطط تكون حية وميتة في نفس الوقت، وبالتالي توجد في حالتين في وقت واحد (تسمى التراكب في الفيزياء). لكنه يحظى أيضًا بتقدير كبير لسلسلة من المحاضرات التي ألقاها عام 1943 في معهد دبلن للدراسات المتقدمة تحت عنوان مثير للتفكير "ما هي الحياة؟"، نُشرت المحاضرات في شكل كتاب في العام التالي، واكتسبت شهرة كبيرة بسبب كتابه "ما هي الحياة؟". إلهام أجيال من العلماء لفهم الحياة على مستوى أعمق. والأكثر شهرة هو تأثيره على علماء الأحياء الجزيئية جيمس واتسون وفرانسيس كريك للبحث عن بنية الحمض النووي، والتي تنبأ بها شرودنغر على أنها "بلورة غير دورية تشكل المادة الوراثية".

في كتابه "ما هي الحياة؟"، أوضح شرودنجر عدم التوافق الواضح بين الحياة والقانون الثاني للديناميكا الحرارية، الذي ينص على أن الإنتروبيا أو الاضطراب في النظام الفيزيائي يتزايد دائمًا. كيف يمكن للحياة أن تزيد من نظامها بينما يجب على الكون دائمًا أن يقلل من نظامه، كما يتطلب القانون الثاني؟ وكان رد شرودنغر هو أن الحياة يجب أن تتغذى على "الإنتروبيا السلبية" أو الطاقة الحرة، وهو ما نسميه عادة الغذاء وضوء الشمس. ويقضي القانون الثاني بأن مقدار النظام الناتج عن ضوء الشمس الذي يتم تدميره عندما يسخن كوكبنا يجب أن يكون أكبر من مقدار النظام الناتج عن نمو النبات.

ومع ذلك، هناك فرق بين إظهار أن الحياة متوافقة مع قوانين الفيزياء وبين الادعاء بقوة أكبر بأن الحياة تفسر بها. كان شرودنجر على وجه الخصوص مفتونًا بكيفية تصرف الحياة بهذه الطريقة المنظمة على الرغم من التعرض المستمر للضوضاء المتأصلة في الديناميكيات الجزيئية، وهو الأمر الذي يظل سؤالاً بلا إجابة حتى يومنا هذا. والأصعب من ذلك هو شرح كيف تنشأ الحياة من اللاحياة.

كان شرودنجر نفسه في حيرة من مثل هذه الأسئلة وعلق عليها في نهاية كتاب ما هي الحياة؟ أنه ربما يكون هناك "نوع جديد من القانون الفيزيائي" ضروري لتفسير الحياة. في أكثر من 70 عامًا منذ نشر كتاب شرودنغر، كانت هناك محاولات عديدة لتعريف الحياة أو على الأقل تحديد خصائصها الرئيسية. لكن، حتى الآن، يظل من الصعب العثور على نظرية تفسيرية.

ربما يكون حدسنا للحياة خاطئًا، ومبنيًا على تصورات خاطئة لأننا لا نستطيع رؤية العلاقة بين القطة والأريكة بشكل مباشر. انطلاقًا من فكرة أن القواعد أو القوانين العالمية صحيحة في كل مكان، وليس فقط بالنسبة للقطط أو الأرائك أو الذرات أو المجرات، فإن الفيزياء لديها تاريخ طويل في اكتشاف البنية المخفية في عالمنا. لنأخذ على سبيل المثال قانون حفظ الطاقة: لا توجد عملية تخلق أو تدمر الطاقة، سواء كانت مجرة أو قطة. وكانت الخطوة المهمة في التعرف على هذا القانون هي إدراك إمكانية توحيد الطاقة الحركية والحرارة. عند محاولة تحديد فيزياء الحياة، يجب علينا أن ننظر بشكل أساسي إلى جميع أمثلة الحياة كجزء من نفس الظاهرة العالمية. وبخلاف ذلك، فإن "الحياة" ليست خاصية موضوعية، بل هي مجموعة من الحالات الخاصة. إذا كان "نوع جديد من القانون الفيزيائي" ضروريًا بالفعل لتفسير الحياة، وكيف نفكر، وكما اقترح شرودنجر، فنحن بحاجة إلى إعادة التفكير بشكل جذري ليس فقط في نهجنا في الحياة، ولكن أيضًا في الفيزياء. يجب أن تكون "قوانين الحياة" عالمية بنفس معنى قوانين الفيزياء. يجب أن نفترض أنها لا تنطبق على الحياة على الأرض فحسب، بل على عوالم أخرى أيضًا، وليس على علم الأحياء فحسب، بل أيضًا على الفيزياء بشكل عام.

إن الجدل الدائر حول ما إذا كانت الحياة محكومة بقوانينها الخاصة، أو ما إذا كانت نفس القوانين تنطبق داخل الحياة وخارجها، ليس بالأمر الجديد. زعم الفلاسفة الحيويون أن هناك شيئًا خاصًا يتعلق بالكائنات الحية -قوة حيوية- تفصل الحي عن غير الحي، وفي الكيمياء تفصل العضوي عن غير العضوي. كان من المفترض أن تفسر القوة الحيوية سبب عدم ظهور البكتيريا تلقائيًا في الأوساخ. في عام 1859، أظهر لويس باستور، الذي سُميت عملية البسترة باسمه، أن البكتيريا لا يمكن أن تتكاثر تلقائيًا. وكان استنتاجه أن كل أشكال الحياة يجب أن تنشأ من حياة أخرى.

لكننا نعلم اليوم أن الافتقار إلى القوة الحيوية ليس هو ما يمنع التولد التلقائي للبكتيريا. وبدلاً من ذلك، هناك شيء آخر مفقود: المعلومات. ونعني بهذا بنية الخلية البكتيرية، ومحتويات الجينوم الخاص بها. لقد تم الحصول على هذه المعلومات على مدى مليارات السنين من التطور ولا يمكن إعادة توليدها على الفور من أنظمة لا تحتوي على معلومات، بغض النظر عن كمية الأوساخ الموجودة لديك. بطريقة ما، هذه المعلومات هي القوة الحيوية الحقيقية: فهي ما يفصل الحي عن غير الحي. ومع ذلك، بدلًا من كونها قوة غامضة تمتلكها فقط أجزاء خاصة من المادة، فإنها تظهر عبر الزمان والمكان من خلال عملية الاختيار. لفهم أصل الحياة، يجب علينا أن نتعلم ما هي أجزاء المادة التي يمكنها الحصول على مثل هذه المعلومات، وكيف تفعل ذلك.

للإجابة على هذا السؤال، يتعين علينا أن نذهب إلى ما هو أبعد من أفكار كلود شانون، الذي قاد نظرية المعلومات في عام 1948 جزئيا من خلال تجاهل المعنى.على سبيل المثال، في دراسة إشارات الراديو أو الاتصالات الأخرى، لم يكن شانون مهتمًا بمحتوى الرسالة المرسلة. وبدلًا من ذلك، كان مهتمًا بمعرفة ما إذا كانت البتات/ bits ترسل قدرًا أقل من عدم اليقين في جهاز الاستقبال بشأن حالة المرسل.     ولتحقيق ذلك، كان يحسب الاحتمالات فقط. إذا كان من المحتمل أن يشهد الغد هطول أمطار أو سطوع الشمس، وكلاهما محتمل بنفس القدر، وشاهدت تقريرًا دقيقًا بنسبة 100% عن الطقس يقول إنها ستمطر، فإن عدد الاحتمالات ينخفض بمقدار الضعف. يمكنك الحصول على بت واحد من المعلومات. وينطبق الشيء نفسه إذا رميت عملة معدنية وتعرفت على الجانب المواجه للأعلى، أو إذا لاحظت ثقبًا أسودًا لترى ما إذا كان يدور إلى اليسار أم إلى اليمين.   في كل هذه الأمثلة، يمكنك الحصول على بت/ bit واحد من المعلومات من خلال ملاحظتك. المعلومات هي ببساطة تقليل عدد الاحتمالات المتوقعة، وفي جوهرها تقليل عدم اليقين. وهذا صحيح بغض النظر عما تقوله الرسالة، فمعنى الإشارة لا علاقة له بنظرية شانون.

إذا عثرنا على قطط مريخية ميتة، فسنكون قد وجدنا حياة على المريخ

لتطوير نظرية للحياة، نحتاج إلى إعادة المعنى الذي تجاهله شانون إلى المعلومات، وبالتالي إلى الفيزياء أيضًا. عندما تصطدم كرات البلياردو ببعضها البعض، فإنها تصبح مترابطة - يمكنك التنبؤ بشيء يتعلق بكرة واحدة من خلال النظر إلى الأخرى. هذه معلومات بمعنى شانون: إنها تتعلق فقط بتقليل عدد الحالات المحتملة التي يمكن أن تكون فيها الكرة الأولى بمجرد أن تعرف شيئًا عن الثانية. من ناحية أخرى، عندما تكتسب الحياة معلومات حول بيئتها، فإن هذه المعلومات لا تتعلق بالتنبؤ باحتمالات الحالات التعسفية. إنها ما نسميه "المعلومات الوظيفية" - معلومات حول كيفية البقاء على قيد الحياة بشكل أفضل في البيئة، وكيفية إعادة إنتاج هذه المعلومات في الجيل القادم.

نظر عالم موسوعي آخر من القرن العشرين إلى التكاثر ونقل المعلومات من منظور رياضي. كان جون فون نيومان رائدًا في العديد من المجالات، بما في ذلك التطوير المبكر لأجهزة الكمبيوتر ونظرية الألعاب والاقتصاد. لقد أدرك أن جعل الكائنات الحية أو الآلات التكاثرية - التي أطلق عليها اسم البنائين العالميين - لبناء نفسها يتطلب برنامجًا يخبرنا بكيفية القيام بذلك ووسيلة لنسخ تلك الخطة ونقل النسخة إلى الكيان الجديد. المصممون أكثر تطوراً من أشياء مثل الأرائك. لا يمكن إنشاء الأرائك إلا من خلال المعلومات، ولكن يمكن للمصممين أيضًا إنشاء أشياء جديدة عن طريق معالجة المعلومات (بما في ذلك الإصدارات المتحولة من أنفسهم والتي تسمح للتطور بالعمل في المقام الأول) - أي أنه يمكنهم استخدام المعلومات.وبهذا المعنى، فإن القطة عبارة عن مُنشئ قابل للبرمجة، وكذلك أنت، لكن الأريكة ليست كذلك. ومع ذلك، في جميع هذه الحالات (الأرائك والقطط، وما إلى ذلك) تكون عملية تطورية ضرورية لإنتاجها.

وبالتالي فإن نظرية المعلومات التي يمكنها تفسير الأنظمة الحية يجب أن تأخذ في الاعتبار جانبين من المعلومات - كيفية الحصول على المعلومات، وكيفية استخدامها. تم الحصول على هذه المعلومات عبر الزمن التطوري، على سبيل المثال من خلال الاختيار، عبر البقاء للأصلح. يتم استخدام المعلومات، كما أشار شرودنغجر، عن طريق استنزاف الإنتروبيا السلبية لتغطية تكاليف الزيادة في التنظيم الذي تحتاجه الكائنات الحية للبقاء على قيد الحياة، وهو ما يمكنها القيام به لأنها بنَّاءة ولديها معلومات حول كيفية إنتاج نفسها.

في هذه المرحلة، من المفيد التمييز بين مفهومين متعلقين بالحصول على المعلومات واستخدامها: سنشير إليهما باسم الحياة/ والبقاء على قيد الحياة / . على قيد الحياة يشير إلى الاستخدام المستمر للإنتروبيا السلبية. وهو عكس الميت. أثناء حياتها، يمكن للقط أن يستخدم الإنتروبيا السلبية التي اكتسبها في شكل طعام لتوليد النظام في خلاياه، ولبناء نفسه. الأشياء التي هي على قيد الحياة هي منشئون. القطة الميتة لم تعد قادرة على فعل ذلك بعد الآن. يتطلب البقاء على قيد الحياة عملية الحفاظ على التوازن، أي التغلب على الاضطرابات والحفاظ على توازن الكائن الحي بشكل عام.

ومن ناحية أخرى، تشير الحياة إلى العملية التي تولد المعلومات المطلوبة. كما أنه يولد الأشياء الحية والمعلومات اللازمة لإنتاجها. وتتضمن الحياة أيضًا الحالات التي يتم فيها الحصول على المعلومات لتوليد أشياء غير حية، مثل الأرائك. هذه هي العملية التي تولد المعلومات التي يتم نسخها بمرور الوقت وعبر أشياء مادية مختلفة: من الوالدين إلى الأبناء أو بين الأفراد. تولد الحياة خيوطًا طويلة من المعلومات عبر الزمن - ما يسميه علماء الأحياء التطورية السلالات: سلالات القطط، بدءًا من أسلاف جميع القطط إلى القطة الجالسة على الأريكة؛ سلالات من المعلومات تمتد من المقاعد الأولى إلى الأريكة؛ والأنساب المؤدية من أصل الحياة إلى البكتيريا الموجودة في أمعاء القطة. هذه السلالات هي التي يسميها العلماء "ذات النهاية المفتوحة"، أي أنها مرشحة للتطور المستمر وتوسيع الحداثة. الحياة المعروفة هي محيطنا الحيوي، بما في ذلك جميع الأنساب التي كانت موجودة على الأرض والأنساب المستقبلية التي ستتطور منها. الأشياء الحية هي الأنظمة المولدة لتوسيع هذه العملية في المكان والزمان من خلال بناء إمكانيات جديدة. وبالتالي، فإن القطة والأريكة هما الحياة، ولكن القطة فقط هي التي على قيد الحياة.

لمعرفة سبب فائدة التمييز بين الحياة/ life والبقاء/ alive، يمكننا أن نتأمل في مثال شائع يستخدم في المناقشات حول تعريفات الحياة: الفيروسات. هناك خلاف في علم الأحياء حول ما إذا كانت الفيروسات حية أم لا. ليس لديهم آلية التوازن الخاصة بهم، ويعتمدون على آلية الخلايا المضيفة لاستعارة الآلات اللازمة لتوليد المزيد من الفيروسات. وفقًا للمعايير الشائعة، فإن الفيروسات ليست حية لأنها ليست بنَّاءة قادرة على إعادة إنتاج نفسها. لكن لا يزال بإمكانهم أن يكونوا الحياة.تظهر الفيروسات، مثل الخلايا أو القطط أو البشر، من خلال عملية طويلة تجمع معلومات وظيفية. إذا أردنا أن نفسر أصل الحياة، علينا أن نكون قادرين على شرح كيفية ظهور هذه العملية. القطة الميتة ليست على قيد الحياة، ولكنها حياة - لقد ظهرت أيضًا من خلال عملية طويلة من الحصول على معلومات وظيفية. إذا تمكنا من تفسير أصل القطط الميتة، نكون قد شرحنا أصل الحياة، وإذا وجدنا قطط مريخية ميتة، نكون قد وجدنا الحياة على المريخ. ومن ثم فمن المهم التمييز بين الكائن الحي، الشيء الحي، وبين العملية ــ الحياة ــ التي ولدت المعلومات التي يستخدمها.

من الممكن أنه في كل مرة تنشأ فيها الحياة في الكون، ستظهر أشياء يمكن أن نسميها حية، أو تشترك في بعض سمات ما نعتقد أنه كائن حي. من المحتمل أن يستخدموا المعلومات والإنتروبيا السلبية للحفاظ على أنفسهم.لكن ليس من الواضح على الإطلاق أن كل أشكال الحياة ستؤدي إلى أشياء حية في كل مكان توجد فيه الحياة، كما أنه ليس من الواضح ما هي سمات الحياة الضرورية للتطور المفتوح وتوسيع المحيط الحيوي.

تخيل أنك قمت ببناء طابعة ثلاثية الأبعاد متطورة تسمى أليس، وهي أول طابعة قادرة على طباعة نفسها بنفسها. كما هو الحال مع منشئ فون نيومان، فإنك تزوده بالمعلومات التي تحدد خطته الخاصة، وآلية نسخ تلك المعلومات: أصبحت أليس الآن منشئًا كاملاً لفون نيومان. هل خلقت حياة جديدة على الأرض؟

قد تكون السلالات البيولوجية، مثل سلالتنا التي يبلغ عمرها حوالي 4 مليارات عام، من أقدم الهياكل الفيزيائية على وجه الأرض لأنها تستمر في تجديد نفسها

لنفترض أنك قمت بعد ذلك بتجهيز أليس حتى تحصل (من خلال تصميمك) على المزيد من المعلومات: يمكنها استخدام الصخور والمعادن المشتقة منها كمواد خام لصنع طابعات ثلاثية الأبعاد جديدة. هل أصبحت أليس وذريتها (بوب وتشارلي وديزي وإيف) على قيد الحياة الآن؟ بعد أن شعرت بالانزعاج من الاضطرار المستمر إلى العثور على مواد خام لجميع الطابعات ثلاثية الأبعاد الصغيرة الموجودة حولك، قررت تزويد نسل واحد، إيف، بمزيد من المعلومات المكتسبة: الألواح الشمسية للطاقة التي تمكن إيف من الخروج بنفسها واستخدام تلك المعلومات المكتسبة للبحث عن المعادن. هل إيف الآن هي الحياة؟

بالنسبة لهذا التصميم الأخير، فقد اكتسبت شهرة كبيرة لهندسة أول طابعة ثلاثية الأبعاد ذاتية الإنتاج ومستقلة تمامًا ولا تتطلب إشرافًا. أنت تضع الكثير من المعلومات والبرمجة في صنع مُنشئك. على الرغم من اهتمامك العميق بإنشائك، إلا أن شركة التأمين الخاصة بك تشعر بالقلق بشأن الخسائر غير المواتية إذا استولت حواء على الأرض.

لذلك، تكتشف طريقة لإرسال طابعتك الصغيرة ثلاثية الأبعاد المستقلة في المهمة التالية إلى المريخ كمسافر خلسة. تخيل أن إيف تتمتع بوجود سعيد في واد مخفي على سطح المريخ، وتستمر في إنتاج العديد من النسخ من نفسها. تكتشف البشرية الوادي بعد بضعة ملايين من السنين لتجد أن عملية التطور على الطابعات ثلاثية الأبعاد قد أنتجت مجموعة واسعة منها تختلف تمامًا عن تصميمك الأصلي - صغيرة، وكبيرة، وزرقاء، وحمراء،، وتلك التي تبحث عن طابعات ثلاثية الأبعاد أخرى للحصول على الموارد، وما إلى ذلك.

قيمة هذه التجربة الفكرية هي أنها تسمح لنا بالتلاعب بمفاهيم الحياة وقيد الحياة. بشكل حدسي، نشعر أن الحياة قد ظهرت، أو ربما أن الروبوتات الجديدة لا تزال على قيد الحياة. هل أصبحت الطابعات ثلاثية الأبعاد هي الحياة؟ إذا كان الأمر كذلك، ففي أي نقطة أصبحت الحياة؟ هل هى على قيد الحياة؟

تشكل الطابعات ثلاثية الأبعاد سلالة. على المريخ، تم اكتشاف وظائف جديدة عبر التطور، وتفرعت سلالات جديدة، لكل منها وظائف مشتقة بشكل مستقل تم تطويرها من خلال الاختيار. لكن بالعودة إلى الأرض، كان أصل هذه السلالة هو هندستك. وأنت نفسك جزء من سلالة عمرها ما يقرب من 4 مليارات سنة تعود إلى أصل الحياة على الأرض. لاحظ أن نسب الطابعة ثلاثية الأبعاد ونسبك ليسا منفصلين حقًا. لم تكن الطابعات ثلاثية الأبعاد لتظهر بدون تاريخ طويل من تراكم المعلومات الوظيفية على الأرض، تمامًا كما لم تكن لتظهر بدون هذا التاريخ الطويل. ولهذا السبب، لكي ندرس أمثلة مستقلة للحياة حقًا، يجب علينا اكتشاف الحياة الغريبة وليس مجرد صنعها في المختبر.

من المستحيل أن نتخلص من قوتنا في محاولات خلق حياة اصطناعية: كل ما نصنعه هو جزء من سلالتنا وبالتالي يمثل نفس الحياة. قد تكون السلالات البيولوجية مثل سلالتنا، والتي يبلغ عمرها حوالي 4 مليارات سنة، من بين أقدم الهياكل الفيزيائية على الأرض لأنها تتجدد باستمرار. ليس هذا فحسب، بل إنها مدعومة أيضًا بالمعلومات للتوسع والتطور باستمرار.

ولكن دعونا نلقي نظرة على المعلومات الوظيفية التي تشكلنا. لقد تم اكتساب بعضها منذ حوالي 4 مليارات سنة عندما بدأت الحياة، ولكن تم اكتساب معظمها عبر الزمن التطوري. لقد تعلمنا كيفية بناء أجسامنا منذ حوالي 540 مليون سنة، وربما هضم الطعام المطبوخ في المليون سنة الماضية. نحن عبارة عن حزمة من المعلومات، نكتسبها في مراحل مختلفة، بعضها نكتسبه عن طريق البكتيريا الموجودة في أمعائنا، والبعض الآخر نكتسبه عن طريق الثقافة. من وجهة نظر السلالة، كانت الطابعات ثلاثية الأبعاد هي الحياة دائمًا، ولم يكن هناك انتقال بين اللاحياة والحياة في تجربتنا الفكرية. لكن شيئًا ما تغير على مدار تطورها - فقد اكتسبت معلومات وظيفية على مدى ملايين السنين على المريخ، وكانت قادرة على استخدام هذه المعلومات للقيام بأشياء جديدة - أي أنها اقتربت مما يمكن أن نطلق عليه الأحياء. وبهذا المعنى يمكننا أن نعتبر الطابعات ثلاثية الأبعاد بمثابة أمثلة جديدة للأشياء الحية، كل منها يولد إمكانيات جديدة للحياة.

هدفنا هو فهم الحياة على الأرض وفي العوالم الأخرى، وفهم أصلها. ولكن من أجل تحقيق ذلك قد يتعين علينا تغيير الطريقة التي نفكر بها في الحياة بشكل جذري. القطة هي مثال لكائن حي. ولكنها أيضًا سلالة عمرها 4 مليارات سنة من المعلومات الوظيفية المشتقة بشكل مستقل. إن السؤال حول ما إذا كانت قطة شرودنجر حية أم ميتة قد لا يكون هو السؤال الصحيح - وفي كلتا الحالتين، إنها الحياة.

في ركن الغرفة تجلس سلالة عمرها 4 مليارات سنة، وهي الآن على شكل قطة. هذه هي الحياة.

(انتهت)

***

........................

المؤلفان:

1- مايكل لاشمان / Michael Lachmann: أستاذ في معهد سانتا في في نيو مكسيكو. وهو مهتم بالتفاعل بين التطور والمعلومات، وخاصة أصول الحياة.

2- سارة ووكر /Sara Walke: عالمة أحياء فلكية وعالمة فيزياء نظرية في جامعة ولاية أريزونا، حيث تشغل منصب نائب مدير مركز بيوند للمفاهيم الأساسية في العلوم وأستاذة في كلية استكشاف الأرض والفضاء وكلية الأنظمة التكيفية المعقدة. وهي عضو في هيئة التدريس الخارجية في معهد سانتا في وزميلة في معهد بيرجروين.

الرابط على أيون:

https://aeon.co/essays/what-can-schrodingers-cat-say-about-3d-printers-on-mars

.

يشير الظلم في الخطاب الإجتماعي إلى مجموع الممارسات التي تخترق الفرد وتسلبه القدرة على الفعل والسلوك واتخاذ القرارات والمواقف والمبادرات الفاعلة لصالح الجماعة، مما يخلق تجاوزات عبثية داخل المجتمع.

فيمثل بذلك الظلم حدود كل فاعلية إنتاجية خلاقة وواعية ليؤثر بشكل سلبي على الحرية.

والظلم من هذه الناحية ضد كل فاعلية اجتماعية وقيمية لأنه يُحِدُّ حرية الأفراد ويشعر المظلوم بأنه عبد في يد الظالم، فيخلق التوتر والقلق والملل بين الأفراد من حيث كونهم أشخاصا مجردون.

وإرادة الظلم تكرس الاختلال بين قوى المجتمع، مما يتيح انعدام قبول واحترام حرية كل فرد ككيان مجرد، فيكرس بذلك لمجموعة من المفارقات والتناقضات التي توسع من تعارض الأفراد فيما بينهم.

ويحمل الظلم مجموعة من التقابلات تعكس مطاطيته وتعقيده. قوته وغناه: فهو يعبر عن الجهل والقسوة وعن القوة المؤسسة والمشروعية وعن الوضاعة، واليأس والخيبة والعنف والاحتيال والذاتية والاستبداد ... إلى آخره.

ويمكن إرجاع الظلم إلى حالة الطبيعة أو حالة التوحش أو يمكن كذلك اعتبار أن مستوى ثقافة المجتمع هي أفضل تعبير عن هواجسه وانشغاله الأساسي بالفاعلية الإنسانية.

فالظلم تعبير عن شيمة الشيم، وحقيقة إنسانية الإنسان التي يدعيها، ومظهر من مظاهر الحقارة والخضوع والخنوع والسفول  والخساسة والنذالة والمهانة والذل  والتذلل، ولهذا من الضروري دراسة أبعاده: الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والقانونية ...

إن كل كلام عن الظلم هو كلام عن الإنسان لأن الحيوانات لا تظلم بعضها البعض من قريب أو من بعيد، لهذا من المنطقي إيثار نقاشات عن ما يحمله من أخطار ومعيقات، إن كل تفكير فيه لابد وأن يثير تساؤلات حول مصدر جاذبيته والأساس الميتافيزيقي الذي يقوم عليه، فالظلم كرذيلة الرذائل يشكل أصل كل الشرور الاجتماعية، إنه المحرك الأول للأفراد والمجتمع والدولة.

إن كل كلام عن الظلم إذن لا يستقيم، من وجهة نظر فلسفية، إلا في حدود ارتباطه بالإنسان وبما له علاقة به، يمكن في هذا الصدد النظر إلى علاقة الإنسان بالطبيعة والحيوان على أنها علاقة ظلم، وهذا ما أثار حفيظة المدافعين عن حقوق الحيوان، والبيئة.

إذا كان الشر كمبدأ قد أصبح مكسباً لا يثير أي جدال أو سجال، فلا يمكن اعتباره سوى دليلا قويا على بداوة الأمم، كما أن الأسس التي يقوم عليها تعكس القوى العمياء: الغرائز والنزوات والميولات والممارسات المشينة التي تتحكم فيه، وتتغير أوضاع الظلم بتغير ميزان القوى ولا يمكن للحرية المفرطة والظلم بهذا المعنى إلا أن يكونا مصدراً للشر.

إن الإنسان لا يعرف حقا غير قوة الظلم ولا يعرف ماهية وحقيقة العدل ولا رحمة الضعيف.

والشر المتأصل في الطبيعة الإنسانية يكمن في كون الفرد يتوهم الحرية في فعل كل ما في استطاعته للحفاظ على غريزته الخاصة حتى ولو كان ذلك على حساب الآخرين.

ولربما كان الظلم والأذى والاجحاف والاستبداد والإضرار والتجاسر والتحكم والتسلط والتعدي على الغير والتعسف وتعذيب الآخرين والحيف في الحقوق وشطط استعمال السلطة وضيم الناس وطغيان الرياسة وعسف الأفراد وغصبهم على الخضوع وقهرهم واهلاكهم، ... إلى آخره، غالباً على الطبيعة الإنسانية، لأن إعطاء الظالم الحرية في فعل ما يريد سرعان ما ستؤدي به أهوائه إلى اغتيال الناس واستمالة النساء والغلمان والاستيلاء على السلطة.

ليس الشر سوى رذيلة في نفوس الأفراد والظلم يرتكب عبر التاريخ حينما تتوفر شروط وظروف ارتكابه.

فكل فعل إنساني هو فعل يبحث عن مبدأ لتبريره ويكمن الظلم في الحرية التي يتمتع بها الإنسان في أن يفعل كل ما تقتضيه صيانة حياته ومصلحته، والتي ستؤدي بالضرورة إلى نشأة الحروب والصراعات بين الناس، فالإنسان قادر بقدرة قادر على إستعمال كل الوسائل والأدوات والمعارف والمباحث المتاحة لديه من أجل المحافظة وتحقيق غريزته الخاصة.

إن الإنسان وككل كائن عاقل يسلك في حياته طبقا للقوانين التي وضعها سلفا، والتي توفر له قدرات يكون الظلم بالنسبة للذات مطابقا لقدرتها، بحيث يتحدد الظلم في الذات بقدر ما له من قوة، ويجد الفعل الإنساني تبريره في فعل الذات ذاتها، ويكون الشر بالتالي غير قابل للتجاوز إذ يبقى هو الوحيد الذي يحكم حياة البشر، فكل ما يراه الإنسان شراً تكون له القدرة على فعله إلا الخير.

وهذا الفعل الظالم هو ما يهدد حياة الإنسان واستقراره على الدوام. كما يدفعه إلى التفكير في أن يحيا حياة مطابقة لمقتضيات العقل، والتنازل عن جزء من حريته في حدود ما يسمح به العقل والتعايش مع الآخرين.

لهذا يجب على الإنسان أن يدافع عن كيانه دون تعد على الغير، لأن كل تعد عليه ظلم، والتنازل عن قسط يسير من حريته، اختيار أنجع للدفاع عن مصالحه.

يتوق كل إنسان إلى العيش في أمن وأمان مما يضطره إلى تجاوز حالة الظلم الحالية وتقبل فكرة التعايش والتضامن مع الآخرين.

كما يدرك الإنسان مصالحه في حالة اختيار العيش طبقا لمقتضيات العقل، ولن يحدث هذا إلا في حالة تجاوز حالة الظلم، ولا ننسى المنفعة التي نتبادلها مع جميع الأفراد، وتخلي الإنسان عن قسط من مبادراته وحرياته لسلطة ذات سيادة ومتعالية على الأفراد مما تجعله يردع كل مغامرة ويمنع كل تهور.

ورغبة الإنسان في التعايش والاحتكام إلى سلطة العقل، نتج في الحقيقة عن حالة التوحش التي عاشها ولازال يعيشها، كون الفرد مجبولا على التفردن لكن فرض عليه التعايش مع الغير، وترتب عن هذا إفلاس كل خطاب عن زوال الظلم، لأنه متجذر في الطبيعة الإنسانية ولا يستقيم إلا على حياة الأفراد الخاصة، إنه يترجم محورية الذات وأنانيتها المطلقة مقابل تساكنها مع غيرها من الذوات.

ومن ثم يكون أساس كل ظلم اجتماعي هو كونه ظلم محايث لطبيعة المجتمع الذي يتميز بخاصية الجماعة، ولا يعوض الأفراد في الأضرار التي قد تلحقه من جراء عبث الغير وهي ظلمات قد تشتت قدرات جميع الأفراد وتشجع على الثورات والانقلابات الاجتماعية.

لأن الإنسان لم يلج المجتمع من أجل أن يتعرض للظلم والاقصاء الإجتماعي أو لتسوء أحواله الفردية ويتعرض لظلمات المجتمع ويعيش حالة التوحش والجهل وعنف الذات والآخرين.

ولعل أهم ما يكسبه الإنسان من حالته الراهنة هي القيود الأخلاقية والقيمية التي تحد من حريته وتجعله عبد نفسه وشهوته، وهذا دليل على استعباده وامتثاله للقوانين الظالمة التي هي ضد الطبيعة وتحرم حقه في الحياة وفي الكرامة.

يرتبط الظلم كذلك بالثقافة ومن ثم لا يستطيع المظلوم المساهمة في اتخاذ الإجراءات والقرارات والمبادرات الفاعلة لصالح المجتمع، كما يسبب الظلم الإجتماعي حرمانه وتهميشه واقصائه من الخدمات التي تقدمها الدولة.

يمثل الظلم معياراً أو نسقا تراتبيا يحتل المظلوم مكانة محددة لا قيمة لها إلا داخل هذا النسق، والظلم هو تعبير لصالح القوة والاختلال الديناميكي الذي يقوم عليه كل مجتمع، وقيام الحياة الاجتماعية على الظلم يعني عدم خضوعها لأي قانون أو ضابط يؤطر سلوكات وتصرفات وأفعال وأفكار الأفراد وعلاقاتهم الاجتماعية ويترجم الظلم إلى حالة قاهرة معيشة.

وينتج الظلم عن حرمان الأفراد من قدراتهم الفعلية على الحياة وفقا للعقل السليم، ومن ثم لا يستطيع المظلوم العيش طبقا لقوانين الذهن الصحيح.

إذ أن الظالم لا يقتصر تفكيره على قوانين العقل الإنساني ويعمل جاهدا على جلب الضرر الحقيقي للأفراد وتعريض حياتهم للخطر.

والواقع أن المظلوم يعيش في حالة قلق وسط العداء والكراهية والغضب والمخاتلة والخداع، ويواجه شقاءً عظيماً ويظل عبداً لضرورات الحياة إن لم ينمي عقله ويحرره من الاستبداد الذي يخضع له.

إن أقوى الناس لا يكون قويا بالشكل الذي يمكنه من أن يكون دائما سيدا على الآخرين ما لم يحول قوته إلى شر وظلم الآخرين، ويبتز في الوقت نفسه مصالح الأغيار من أجل التمهيد لاستعبادهم واستبدادهم، هكذا يفكر الظالم والطاغية، وينظر إلى الظلم والشر شيئا واحد، ويؤكد على أن القوة تخلق الظلم لهذا وجب على الكل الخضوع له.

يستطيع الظالم من خلال الكلام والخطاب أن يجلب الناس ويغويهم لصالحه، عبر إيهامهم أن الكثير من المشاكل سيعمل على حلها بواسطته، وبالتالي لا ولن يستطيعوا الاستغناء عنه، فيهرع جميع المظلومين إلى أغلالهم، وهم يعتقدون أنهم يضمنون بذلك حريتهم، لو كان لديهم اليسر القليل من العقل لأدركوا خطورة الظالم وثاروا عليه، والتضحية بكِسْرٍ من الحرية حفاظا على الحياة ما هو سوى استعداد قبلي لعيش حياة أبدية رغيدة بالظلمات.

وفي زمن الظالمين سجن الضعفاء وهم أحرار بقيود جديدة، ومنحت الظالم قوة وحرية جديدين، فاستحالة الحرية في عصر الظالمين استحالة نهائية، وامتد التفاوت بين الطبقات الاجتماعية، وتعرض المظلومين للاغتصاب اللبق في حقوقهم وحرياتهم، وخضعوا بالتالي إلى السجن الأبدي والعبودية المختارة والبؤس والتعاسة والشقاء الدائمين لصالح طموح وأطماع الظالم.

إن الظلم الوحيد فعلا هو ذلك الذي يكون ضداً لمقتضيات العقل القويم ويفرض على الأفراد انتهاكا لمصالحهم الشخصية.

إن الدولة الظالمة هي الدولة التي تمارس بشكل عنيف سلطتها على الأفراد، وتحد من الحريات مما يؤدي إلى اختلال النظام السياسي وانغلاقه على مجال الحريات العامة.

إن سلطة الدولة الظالمة تتخذ ملمح خرق قوانين المجتمع وظلم الأفراد، كما لا تفصل بين السلط ولا تفرق بينها في الأساس.

كما لا نجد للأفراد أي حقوق تذكر داخل النظم السياسية الظالمة، وتظل لصيقة السلطة الاجتماعية التي تمسها وتطغى عليها.

ونحذر من امتثال الأفراد للقوانين الظالمة لأنها قوانين استبدادية وأكيد سيؤدي هذا بالضرورة إلى الانقلابات الثورية والحاق الأضرار بالمجتمع.

إن حالة الإنسان الذي وصفه طوماس هوبز بحالة "حرب الكل ضد الكل" في كتابه الشهير الليفياثان يعكس واقع الدولة الظالمة أو الحاكم الظالم المستبد بالأفراد.

لقد مثل الظلم دائماً استحضاراً للعنف وتمثيلا له، فالعنف لا يمكن أن يوجد إلا داخل الظلم، ويحث على ضغينة الانتقام، ولهذا وجب أن يبدو غير قابل للخرق، وبهذا المعنى تصون العقوبات العنيفة كيان الظالم، وتبين مدى شراسته وشراهته الخصيبة، لا يسعى الظلم إلى السلم بقدر ما يسعى إلى التأصل والتجذر في طبيعة المجتمع.

النظام الظالم هو كل نظام لا يضمن الحرية الفردية، وهو يفترض وجود مبدأ يقول بأن الإنسان يجب أن يكون عبدا، إنه يفترض هذا المبدأ بكيفية مباشرة، فلا يضمن الأمن والأمان والاستقرار الإجتماعي التي تدفع الفرد إلى تفضيل الخضوع على الحرية الفردية.

لكل مجتمع ظالم مثل وقيم ومعايير تتساوى في ذلك مع المجتمعات المتوحشة التي هي مجتمعات حزينة وكئيبة تعجز عن ممارسة كل تفكير نقدي، وأكيد أنه بمجرد التساؤل عن قيمة معايير وقيم المجتمع الذي نعيش فيه، سرعان ما يثبت وجود شيء ما في الإنسان يرفض رفضا قاطعا كل ظلم.

كما أن الأهواء تلعب دوراً مهما في حث الانتقام في النفوس وتجمل صفو الظلم وصبغة التعسف لأن الظالم ينساق دائما إلى العواطف والدوافع الذاتية، وهكذا يكتسي الظلم الذي يتخذ شكل الانتقام بدوره صبغة إساءة جديدة، ويدرك كسلوك فردي يثير انتقامات لا تغتفر، وإلى ما لا نهاية له.

باختصار، الظلم لا بداية له ولا نهاية، ويتجسد في تصرف السيد الذي يسيء معاملة العبد، وفي الدولة الاستبدادية التي تحتقر مواطنيها أو في الاحتلال الصهيوني الذي نلحظه في قطاع غزة ويذل الناس.

ختاما، الظلم هو كل فعل قد يقوم به الظالم أو غيره كما لو كان وحده في المجتمع أو الدولة أو العالم، وكأن باقي العالم لا يوجد إلا ليستقبل ذلك الفعل، والقوة هي من تخلق الظلم وتجعل الظالم يسلك وفق شهواته وينساق إلى ميولاته.

***

بقلم: محمد فرَّاح – أستاذ فلسفة / المغرب

 

اللغة العربية أرقى اللغات وأسماها وأجلّها وأعلاها، وما زادها طيبة وعذوبة أنّ القرآن بها يُتلى، وأن الأذان بها يُرفع، وأن الصلوات بها تفتتح وتُختتم، لكن أرى نفسي في دولة لم تمكّن لغتها ولم تفعّلها، ولم تدخلها في لغة البرمجيات وفي جميع مفاصل الحياة كجزء من شخصية وطنية استقرت بسماتها وترسخت.

فوضعية اللغة العربية في عصرنا الحديث تطرح إشكالات مهمة ضمن منظومة التواصل، وهي وضعية تدفعنا للتساؤل عن كفاياتها من خلال النظر إلى المعاجم والقواميس كمصادر يمتح منها الدارس والمتعلم مفرداته وكمرجعٍ للكلم ودلالاته. لكن المفارقة العجيبة التي نستخلصها، هي أن المرء سيجد في اللغة العربية عشرات المفردات والأسماء لحيوانات الصحراء، ولكن لن يجد فيها أي من المفردات التي تروج في في عصرنا التكنولوجي والتي تتعلق بوسائل التكنولوجيا الحديثة، بهذا المعنى تصبح اللغة العربية فقيرة المفردات والتعبيرات، عاجزة عن اللحاق بالاختراعات وأسمائها التي أنتجها العالم الأول وما زال ينتجها في وفرة هائلة.

وبالتالي فاللغة العربية تواجه عدة تحديات منها التغيرات اللغوية، حيث تتعرض اللغة العربية للتغيرات اللغوية المستمرة، خصوصًا في اللغة العامية والمصطلحات الحديثة، مما يؤدي إلى التشوه في البنى اللغوية الأصيلة للغة العربية. كذلك الاستخدام الخاطئ، حيث يتم استخدام اللغة العربية بطرق خاطئة وغير مقبولة من قبل الناطقين بها، مما يؤدي إلى تأثير سلبي على اللغة ويجعلها أقل قدرة على التعبير بالشكل الصحيح. ونشير أيضا للتأثيرات الثقافية الأخرى، حيث إن اللغة العربية تتأثر بالثقافات الأخرى، خصوصًا فيما يتعلق بالمصطلحات الجديدة والكلمات الأجنبية، مما يؤدي إلى تأثير سلبي على فهم اللغة العربية واستخدامها.

ومن أهم التحديات أيضا التي تعيشها لغتنا العربية في المجتمع المغربي في عصر التكنولوجيا هو ثنائية اللغة أو الإزدواجية، بمعنى أن نتكلم لهجة نتداولها في التعامل اليومي، أي ما يعرف بالعامية، ولغة تدريس الآداب والعلوم، أي اللغة العربية؛ ما يميز هذه الثنائية وجود تقارب وتشارك بينهما، لكون العامية منها ما هو منحدر ومأخوذ من اللغة العربية في صيرورة تطورها، ومنها ما هو مستورد من لهجات محلية، إذ أغلب مفرداتها مستقاة مما ذكر، بها يعبر أفراد المجتمع عن حاجاتهم اليومية بعفوية وتلقائية وطلاقة، ويمكن القول بطريقة فطرية، كما أن للعامية نصوصاً أدبية شفوية وغنائية، وأمثال شعبية متداولة.

يعد هذا التقارب دعامة لما هو مشترك بينهما، مما يقوي الاشتغال الوظيفي لكليهما، أي وظيفة التداول العام الذي تؤديه العامية، ووظيفة الدرس اللغوي أو العلمي الذي تؤديه اللغة العربية.

هذا الواقع لم يلغ وجود لغة رسمية، هي اللغة العربية، لغة لها رصيدها اللغوي وقواعدها النحوية، ومعاجمها المتعددة، تدرس بها المواد الدراسية في المدرسة والجامعة، كما أنها تستخدم في أجهزة الإعلام المكتوبة والمرئية والمسموعة، فضلاً عن استعمالها في الأجهزة الإدارية، والخطب الرسمية. هذا جانب فقط من الثنائية اللغوية التي يعرفها الواقع اللغوي بالمغرب كما تعرفها المجتمعات العربية.

تعد هذه الحالات من التعدد أو الازدواج اللغوي بمجملها جد طبيعية، تعرفها أغلب دول العالم، بآسيا وإفريقية وأمريكا اللاتينية، وحتى في بعض الدول الأوروبية، مثل إسبانيا وسويسرا وبلجيكا، وكندا ومنطقة الألنراس بفرنسا.

يمكن القول في ضوء الدراسات اللغوية السوسيولوجية والنفسية إن الثنائية أو الازدواجية اللغوية من شأنها تقوية مدارك الأفراد، وجعلهم متفتحين على مختلف الأنظمة اللغوية، لكنها قد تحدث اضطرابات لغوية رغم أنها عابرة، كما أن أشكالاً من الاضطرابات اللغوية قد تحدث حتى عند الأطفال الوحيدي اللغة.

فالدراسات اللسانية الحديثة تنظر إلى اللغة كأداة للاستعمالات المتنوعة، وفي سياقات تفرض أن تكون الحمولات الدلالية مبحثا تواصليا، يراعي خصوصية العلاقات التي تربط مستعملي اللغة كنظام من الأبنية الصوتية والتركيبية والدلالية سياقيا. هكذا يصبح الإنجاز فضاء للتواصل، يكون فيه المعجم وحدة  تؤطرها مجموع العلاقات الذهنية والنفسية والاجتماعية واللغوية التي تتقاطع كنظام تواصلي في تشكيلة زمنية متكاملة، تحقيقا للتوافق بين الباث والمتلقي حول مرجعية أساسها الكفاية التواصلية القائمة على سيرورة مختلف الاستعمالات المعجمية .

وإن حاولنا البحث باختصار في الحقب التي مرت بها العربية والأدب العربي؛  نبدأ بالعصر الجاهلي الذي ظهرت فيه المعلقات بأغراض شعرية عادية والتي أصبحت نهجا سار عليه الشعراء حتى يومنا هذا (الغزل، الرثاء، الهجاء، المديح، الوصف... الخ) وشعر الفروسية نتيجة الغزوات بين القبائل، وظهور الخطابة، وظاهرة الصعاليك...

وفي العصر الإسلامي جاء المديح النبوي كما عند حسان بن ثابت الانصاري، والشعر الديني، فتطورت الأغراض الأخرى.

أما العصر الأموي ظهر شعر الفتوحات والنقائض كما عند جرير والفرزدق والاخطل، ثم الشعر السياسي وشعر الغزل العذري،

وحديثنا عن العصر الأندلسي يذكّرنا بالموشحات والوصف بسبب طبيعة الأندلس، أما العصر العباسي فامتد على أكثر من خمسة عقود وظهر فيه الغزل الصريح والمقامات والفتوحات وشعر الحروب والوقائع الحربية، كما شهد رثاء الممالك والمدن بعد غزو التتار والمغول، فتطور غرض الفتوحات، وعند اقتراب انهيار الدولة ظهر الغزل الفاحش وشعر المجون والفتن والخلاعة وفي المقابل ظهر التصوف والزهد، وتطور فن الرسائل، وتطور حركتي الترجمة والتأليف.

وبخصوص العصر الحديث فقد شهد ظهور المعارضات بشكل أوضح، فجاء أدب المقاومة، الشعر المسرحي، أدب السجون، الأدب المهجري، مدرستا الإحياء والديوان، شعر التفعيلة (الشعر الحر)، الشعر الوطني والقومي وظاهرة الاغتراب، الأدب الشعبي...

فعلا مرت العربية بحقب زمنية عصيبة، لكن علينا أن نطوّرها أكثر، فيماذا تنفع هذه اللغة في عصرنا الرقمي الحالي، لقد أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الإخبارية الإلكترونية جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية.

وفي هذا السياق، فإن كل الدول وضمن مناهجها التربوية تعتمد سياسة لغوية واضحة المعالم، أي الانطلاق من اللغة الوطنية، والتدرج الدقيق لإدراج تعليم اللغات الأجنبية حسب أوصافها وقواعدها، ووفق المستويات الدراسية المطلوبة، مما يفرض بالضرورة اعتماد مقاربة دهنية ونفسية في علاقتها بالقدرات الذهنية للطفل.

يمكن القول أنّ اللغة العربية اليوم، تواجه خطرا يهددها في سياق التحولات التي يتعرض لها العالم العربي، بإقبال كُتّابه ومثقفيه ونسائه ورجاله على اللغات الأجنبية الأخرى، كاللغة الإنجليزية، نظرا لما تتيحه من مزايا متعددة، حيث إن أغلب البحوث العلمية على المستوى العالمي تصدر باللغة الإنجليزية ولغات أجنبية أخرى، وهذا الأمر ليس ناشئا عن خلل في اللغة العربية نفسها، وإنما سببه هو أن البحث العلمي والإنتاج الأدبي والثقافي بشكل عام يخضع لتحكم ذوي الاقتصاد القوي، وبما أننا في عصر اقتصاد المعرفة، فكل شيء صار له ثمن، وأصبحت المعلومات والبيانات أيضا بضاعة تباع وتشترى كسائر البضائع الأخرى.

في الختام، يظل دور كل فرد في المجتمع محوريًا في مواجهة ظاهرة الزوائف. من خلال التحري الدقيق والتفكير النقدي. لكن ومما لا شك فيه أن اللغة العربية في ظل الظروف الراهنة تعيش حربا مع التكنولوجيا ومع اللغات الحية الأخرى، بحيث إنه من المنظور الديني يلزمها البقاء، أما من المنظور الاجتماعي فأهلها تخلفوا معرفيا، بحيث إن الاعتماد على الأجنبي بديلا ولّدَ عجزا أمرض العقل العربي.

وتظل أي لغة انعكاسا للمستوى الحضاري لأي أمة من الأمم، ومرتبط وضعها بوضع أهلها الناطقين بها، وهي كذلك صورة حقيقية لهذا المستوى قوةً وضعفاً، وفاعلية وعجزاً وصعوداً وهبوطاً.

ولا بد من إجراءات أقترحها؛ إجراء دراسات أكثر تفصيلاً حول تأثير التكنولوجيا الحديثة على اللغة العربية، واستثمار التقدمات التكنولوجية واستخدام الذكاء الاصطناعي في البحث العلمي إلى تحسين وتطوير دراسات اللغة العربية، كما يجب توفير قاموس لغوي حديث في كل مرحلة من مراحل التعليم العام.

***

ذ. فؤاد لوطة

 

مهما قيل في التأثير الهائل لأنظمة الدعاية الحديثة على تفكير الناس وميولهم، فلن تستطيع تحويل الإنسان إلى شبه آلة، تحركها تلك الأنظمة. بل أزعم أن التسليم المطلق بهذه الفكرة، يناقض الحكمة وتجربة البشر التاريخية. نعلم جميعاً أن التقدم المستمر كان سمة ثابتة في تاريخ البشرية. وما ينتجه البشر اليوم من المعارف والمنتجات المادية، دليل صريح على الفارق العظيم بين حالنا وحال البشرية قبل ألف عام مثلاً. تزيد العلوم التي ينتجها إنسان اليوم في عام واحد، عما كان ينتجه الأسلاف في عشرات السنين. وينتج من الغذاء ومصادر الطاقة ووسائل المعيشة، ما لم يصل إليه الأسلاف حتى في الخيال المجرد.

- حسناً... تأملوا معي في معنى التقدم، أليس جوهره هو التمرد على الأفكار السائدة والقناعات المعتادة والأعراف المعهودة.

تخيل أن نيكولاس كوبرنيكوس لم يتمرد على المبدأ الموروث، القائل بأن الأرض مركز الكون وأن الشمس تدور حولها، فهل كان علم الفيزياء والفلك سيقفز تلك القفزة العظيمة التي نعيش نتائجها اليوم، في حقل الاتصالات والطيران وتنبؤات المناخ وتطوير الإنتاج الزراعي... إلخ؟ في تلك الأيام كانت الكنيسة تعتمد نظرية الفلكي اليوناني القديم بطليموس، وفحواها أن الأرض مركز الكون. ولهذا جوبه كوبرنيكوس بالعزل والتكفير، فتردد كثيراً في نشر كتابه المتضمن نظريته الجديدة، حتى الأشهر الأخيرة من حياته.

تخيل أيضاً أن آلان تورينغ لم يتمسك بنموذج الحاسبة الذكية التي طوّرها في 1938 رغم إخفاقاته الأولية وسخرية زملائه وأرباب عمله، فهل سيكون لدينا الكومبيوتر والإنترنت التي باتت محرك حياة العالم في هذا الزمان؟ هذا وذاك، بل تاريخ البشرية كله، دليل على أن فطرة الإنسان الأولية، هي التمرد على السائد والمتعارف، وليس الانصياع له.

أقول هذا رغم أني - مثلكم - أنظر للحياة الواقعية الماثلة أمامي، فأرى غالبية الناس، تتأثر - كثيراً أو يسيراً - بتوجيه «الأيدي الخفية» التي تدير المسرح من وراء الستار.

- كيف نوازن إذن بين الاستنتاج المثبت علمياً، عن تأثير الدعاية والبيئة الاجتماعية على تفكير الإنسان وسلوكه، وبين رفضنا التسليم بهذا القول على نحو مطلق؟

لاستيضاح المفارقة، دعنا نستعن برؤية إيمانويل كانط، رائد الفلسفة الحديثة، حول الفارق بين حقيقة الأشياء وصورتها في الذهن.

أدرك قدامى الفلاسفة أن صورة الأشياء في الذهن، لا تطابق دائماً حقيقتها الواقعية. حين يخبرك شخص عن فرس سباق، فربما تتخيل صورة أجمل فرس رأيته. لكن حين ترى الفرس في الواقع، ستجده مختلفاً عن صورته في ذهنك.

أولئك الفلاسفة قالوا أيضاً إن معاينة الشيء تنهي تلك الازدواجية، حيث تتطابق الصورة الذهنية مع الواقع. وقالت العرب قديماً «فما راءٍ كمن سمعا». لكن إيمانويل كانط وجد أنك حين تنظر للشيء فإنك تراه من خلال الصورة التي في ذهنك، والتي غالباً ما تخالف الواقع قليلاً أو كثيراً. أي أن الفارق يبقى حتى لو رأيت الشيء بعينيك. هذه النقطة هي موضوع عمل الدعاية، التي تحاول تثبيت صورة ذهنية عن الأشياء، بغض النظر عن واقعها.

لكن كانط يقول أيضاً – وهو بالتأكيد صادق تماماً – إن عقل الإنسان ليس مرتبة واحدة. فهناك العقل العملي الذي يدير حياتك اليومية، وهناك العقل النظري الذي يتأمل حقائق الأشياء ويفكك معانيها، باحثاً عما وراء ظاهرها كي يتجاوزه، فيتحرر من الحاجة إليه، أو يستبدله بما يغني عنه. الدافع لاختراع الطائرة – مثلاً – كان شعور الناس بأن السيارة عاجزة عن تجاوز قيود الجغرافيا، مع أن أحداً ربما لم يتخيل يومذاك إمكانية أن يطير الحديد فوق الهواء. هذا العقل هو الذي يتمرد على تأثير الدعاية والتربية والبيئة ويختار طريقه المنفرد.

سوف أعود لهذا الموضوع في وقت لاحق. لكن يهمني التأكيد على لب الموضوع، أي وجود حالتين متوازيتين في واقع الحياة: سلوك القطيع ومسايرة الناس، مقابل الشك في هذا الواقع والتمرد على مسلماته. الأولى تكرّس النظام والراحة النفسية، والأخرى تؤكد قيمة العقل وكونه ماكينة التقدم الإنساني.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

علاقة اللغة العربية بالحاسوب من أحدث التخصصات المشتركة بين العلوم الإنسانية والعلوم الصرفة. ونشير هنا إلى حقيقتين تتعلقان بطرفي هذه المعادلة، أولهما:ـ المكانة التي تحتلها اللغة العربية في نفوسنا فهي ذاتنا، وعماد اصالتنا، وهويتنا التي نقدمها للعالم. والثانية:ـ المكانة التي يحتلها الحاسوب في هذا العصر، فالعالم يعيش في عصر المعلوماتية بمعناها الواسع. وتعدّ معالجة اللغة البشرية آليا احد المجالات التطبيقية للسانيات الحاسوبية.

اللسانيات: تعني الدراسة العلمية للغات. وتقوم على معرفة أصوات اللغة، وصفاتها، ومخارجها، والإحاطة بممفرداتها، ومعرفة دلالاتها، والقواعد المتعلقة بتركيب المفردات فيما بينها؛ لإنشاء جمل صحيحة، ودراسة الخطاب اللغوي من حيث الدلالة المباشرة، والدلالات السياقية الممكنة.

اما اللسانيات الحاسوبية: علم من العلوم البينية المستقلة المهمة، جوهره قائم على على ثنائية اللسان وعلوم الإنسان العربية والتعليمية، والحاسوب. يتطوّرهذا العلم بتطوّر الوسائل التكنولوجية الحديثة، وتعمل اللسانيات على تطوير استعمال اللغة العربية في مختلف مجالات الحياة العصرية، وترقيتها وبناء نظرية معرفية تساعد في معالجة القضايا اللغوية من خلال قولبة اللغة إلى رموز رياضية يفهمها الحاسوب؛ حتى يتأتى له القيام بأنشطة لغوية كثيرة يؤديها العقل البشري تسمى (مقاربات لغوية حاسوبية).

أول من نظّر لهذا العلم (الدكتور عبد الرحمن الحاج صالح) إذ ربط التراث العربي باللسانيات الحديثة؛ فأبدع في إعادة قراءة التراث اللساني العربي ممّا تركه لنا اسلافنا.

تعدّ اللسانيات الحاسوبية مرحلة توصيف اللغة للحاسوب، أي وضع القواعد والقوانين اللغوية والحاسوبية لنمذجة اللغة ومن ثم توظيف هذه النمذجة للتحقق من صحة تلك الظواهر اللغوية، ثم تأتي المعالجة الآلية للغة التي تستمد إطارها النظري من اللسانيات الحاسوبية، وتقنيات الذكاء الاصطناعي؛ ليتم تصميم أنظمة آلية لمعالجة المعطيات تحليلا وتركيبا. أما من الناحية الحاسوبية: يعدّ هذا المجال أحد فروع علم الذكاء الاصطناعي، تتم فيه الاستفادة من مزايا معطيات الحاسوب؛ لتوظيف التطبيقات الذكية، منها: معالجة اللغات البشرية التي مفادها تصميم وإنجاز أنظمة حاسوبية تحاكي قدرة الانسان في التعامل مع اللغة الإنسانية،والتحقق من صحة الفرضيات النظرية الخاصة باللغة. أهمية اللسانيات الحاسوبية:ـ تعدّ من اهم العلوم الحديثة التي واكبت التقنيات وتتمثل أهميتها بآستثمار نتائجها في مجالات كثيرة منها: مجال التعريب، وصناعة المعاجم العامة والمختصة، والإحصاء اللغوي، والترجمة الآلية،والمعالجة الآلية وتعلم اللغات، وخدمة هذا العلم الحديث لعديد من مصطلحات اللغة الفنية لمختلف العلوم؛ مما أدى إلى إنشاء بنوك للمصطلحات تهدف إلى خلق مصطلحات أخرى معرّبة، ومن ثم توفيرها، وتوثيقها، وتوحيدها؛ من أجل الارتقاء باللغة البشرية من خلال الاسنفادة من مزايا الحاسوب ومعطياته وادواته المتاحة لتوظيف قواعد بيانات اللغة، والاستفادة من علوم أخرى كالرياضيات والمنطق.

البذرة الأولى للسانيات الحاسوبية على مستوى العالم زُرعت في تربة الحرب العالمية الثانية إذ أخذت شكل الترجمة الفورية بآلة تسمى (أنكما) أنجزتها المانيا في إطار منظومتها العسكرية لالتقاط رسائل دول الأعداء، وترجمتها الى الألمانية. أما في الوطن العربي، بدأ العمل بهذا العلم عندما عُقدت عدة مؤتمرات، وورش عمل، وندوات، أولها: الندوة الدولية لجمعية اللسانيات في المغرب العربي في العاصمة الرباط في سنة 1987بجامعة محمد الخامس، ناقشت موضوعات في اللسانيات النظرية والتطبيقية،وحصيلة البحث اللساني في اللغة العربية، ومشكلاتها الواقعية والنظرية.

مهام علوم اللغة الحاسوبية:

1ـ تقسيم النص الى كلمات.

2ـ معرفة نوع الكلمات.

3- الإعراب.

 4 ـ معرفة أسماء الاعلام، والتعبيرات الزمنية،والأحداث (اجتماع او مباراة مثلا).

 5- تحليل المشاعرفي النص مثل (هل الشخص مؤيد لفكرة معينة أم لا).

6ـ العلاقات بين الأشياء مثل (تحديد تاريخ عمل الشخص في شركة معينة من... إلى...).

7ـ الترجمة الآلية.

ـ في أحدث استعمالات توظيف الحاسوب في خدمة اللغة العربية نحتاج الى تصريف اللفظ بتصريفاته كلها. مثلا الفعل (ابتسم) ينبغي ذكر الأوجه التصريفية والاشتقاقية للفعل، وتفصيلات حالاته الاعرابية، ولواصقه (سوابقه ولواحقه) ثم نغذي الحاسوب بهذا الكم الهائل من التجريد والتصريف لبيان ماهية اللفظ؛ لان الحاسوب لا يمكنه معرفة المراد من لفظ (ابتسم) فقد يكون فعلا ماضيا، او فعل أمر، أو ماضيا مبني للمجهول. إذا لم يكن مشكولا (أي لم توضع عليه حركة اعرابية) لأننا لا نستطيع أن نجعل من الآلة (الحاسوب) ما يحاكي كلام الانسان. وبهذا نكون قد قدمنا نسخة من الذكاء الاصطناعي في التنظير اللغوي، والاستعمال الفصيح، وزوّدنا الحاسوب بثلاثة أمور:ـ الضبط الإملائيّ، والضبط الصرفيّ، والضبط النحويّ؛ لمعرفة ماهية اللّفظ. إذ يحل الحاسوب هذا الإشكال بما يمكن أن يبينه الضبط لتلك الأمور الثلاثة في توضيح معنى اللفظ. وكذلك الحال في لفظ (ذهب) هل هي اسم، ام فعل. نحتاج الى توضيحها للحاسوب؛ كي يزودنا بالمعلومات الصحيحة عنها.

ومن أوسع مظاهر التلاقح بين الحاسوب والتنظير اللغوي (علم العروض) فكأن هذا النظام العروضيّ مجهّز للتعامل مع كلّ مستجدات التطوّر الرقميّ، إذ ان الشعر العربيّ هندسيّ في تفعيلاته،يُبنى على المتحرك والساكن، بمعنى (ثنائية رقمية) فلو ادخلنا أي بيت شعري الى الحاسوب؛ سيخبرنا من أي بحر، وماتفعيلاته، وما ضربه، وما الزوائد والاشكالات فيه، بل سيخبرنا هل هذا البيت الشعريّ صحيحا ام مكسورا. ولظهور المقطع الصوتي في اللسانيات الحديثة أثر في إدخال البرامج الى الحاسوب (البرمجيات الصوتية) إذ نستطيع دراسة ظواهر الأصوات من خلال الخطوط البيانية التي يرسمها الحاسوب، فالسلسلة الكلامية يمكن تمثيلها بمخطط بياني تظهر فيه أكثر الظواهر الصوتية. فنعرف طول موجة الصوت أو قصرها،ومواطن النبر، ومقدار الخفة او الثقل في تلك الموجة، وشدّة الصوت كذلك.

- أهم الإنجازات المبهرة في هذا المجال: وسائل الاتصال الرقمي، الحواسيب، الروبوتات، السيارات ذاتية القيادة.

ـ اما الرسالة الأساسية للسانيات الحاسوبية: إثراء اللغة العربية من خلال تقديم مواد علمية باللغة العربية في مجال اللسانيات الحاسوبية. و انشاء تعليقات حاسوبية لمعالجة اللغة العربية. وتنمية المهارات في مجال اللسانيات الحاسوبية والبرمجة والمجالات النظرية والعلمية المتصلة بذلك، وانشاء قاعدة بحثية؛ لخدمة الجوانب الاكاديمية والتجارية.

ان اللغة العربية مقبلة بصدق على ما يسمى (الهوّة الرقمية) التي تفصل بين دول العالم المتقدم، والعالم النامي. ونعني بها قدرة العربية على الاستفادة من المعطيات المعاصرة، والتكنولوجبا الحديثة في البحث العلمي، وفي دراسة العربية وتدريسها. ـ من جانب اخر اذا نظرنا الى المساحة التي تحتلها لغتنا على شبكة المعلومات العالمية،نجدها ضئيلة لا ترقى الى مستوى العربية ومكانتها. إذا نظرنا الى هذه المساحة لأيقنا ان العربية مقبلة على مايسمى (الهوّة اللغوية).

فاللغة العربية لن تجد مكانا يناسبها، ويناسب تاريخها، وعدد المتكلمين بها على شبكة المعلومات العالمية، إذا لم نبدأ بشكل جاد وواضح في تقديمها بشكل يتناسب مع معطيات عصر المعلوماتية،من خلال حوسبة علومها بشكل صحيح وسريع، بل وسريع جدا. لاسيما ان المشكلات التي تواجهها العربية هي مشكلات ثقافية،وعلمية متولدة من أوضاع واحوال عالمية مثل: محاربة العربية وإبدالها بالعاميّة،وإدخال المصطلحات الأجنبية إليها. وفي الخاتمة: لابدّ من التأكيد على ضرورة الإيمان أن أي تقدم في أي علم ومن بينها علوم العربية، مرهون بقدرة المتخصص على استغلال الطاقات الإبداعية اللامتناهية للحاسوب، وتحديد أهم المشكلات التي تواجهه في مجال تخصصه،وقدرته على ابتكارالحلول والتطبيقات التي تمكنه من حلّ تلك المشكلات حاسوبيا. وإنّ معالجة اللغة تقنيا يُثبت بشكل واضح ان اللغة بخصائصها وميزاتها قادرة على تطويع قدرات الحاسوب،وأنظمته، وآلياته لمواءمتها بكافة مستوياتها، لاسيما ان الجيل الأخير من الحاسوب والأجهزة الذكية الأخرى تتواصل كلاميا مع الانسان، وهذا من أرقى أنواع التواصل وأنجعها وأسهلها على الاطلاق. ويأتي إدخال الحوسبة في خدمة العربية من جوانب متعددة في مقدمة المهمات العلمية المعاصرة والملحّة؛ لتواكب لغتنا العربية التطور العلمي ّ، العالميّ المتسارع. وما التدريس الألكترونيّ في مدارسنا وجامعاتنا، والتواصل بين سائر الناس على الرغم من بعد المسافات،في زمن (جائحة كورونا) إلّاشاهد ماثل إلى يومنا هذا على تأكيد العلاقة الوثيقة بين لغتنا العربية، والحاسوب الذي أصبح محورالحياة العلمية والعملية.

فللّه درّ لسان الضاد منزلة ً

فيها الهدى والندى والعلم َ ماكانا

***

م.د. بتول أحمد سليم

استرعى انتباهي منذ تسعينات القرن الماضي الصراع المحموم على تولي سلطة العشيرة ودار في بالي أن يكون هناك رأي للمثقف الحامل للشهادة، ‏ولكن قواعد لعبة القبائل تحول دون ذلك. ولم يكن في هذه القبيلة من حملة الشهادات العليا الا دكتور خالد سهر وكنت الثاني في الدخول الى هذا المعترك.

‏فعملت منذ نهاية التسعينات من القرن الماضي على تبني ودعم منهج طولي بالقياس إلى المنهج العرضي والذي يمثل الصراع المحموم على قيادة القبيلة، ‏بمعنى أن السير العرضي للمنافسات يقابله البناء الطولي والذي يتمثل به تنمية حملة شهادات العليا في القبيلة.واثارة الغيرة العلمية للسباق على الشهادات العليا وقمت بدعم كل فرد لديه رغبة الدراسات العليا ومن اي جهة كانت.

ويمكن لكل قبيلة في العراق استخدام هذه الالية وتبنيها وتطويرها، ‏على لا تكون القضية قضية صراع بين حملة الشهادات وبين تولي خدمة القبيلة، فشيخ العشيرة ليس أكثر من محامي يدافع عن من يقوم بتوكيله، ‏مع ارتباط ذلك بالإعلام،فالمنافسة هنا لا تشبه الصراع، والغاية الأساسية من ذلك هو تكوين إعلام طويل المدى وليس الاعلام القصير المدى،الذي ينتهي بنهاية الظهور الاعلامي لصاحبه، ونحن نريد ما يرتبط بالفكر ولا ينسى، ويمكن أن يكون نافعا للمجتمع فهو ليس ذاكرة مؤقته، يمكن نسيانها بعد سنوات نتيجة لتبدل الجيل، بل ذاكرة طويلة الأمد تحفظها المكتبات او المؤسسات العلمية المختلفة.اي الانتقال من ذاكرة الانسان بعلاقاته الاجتماعية ذات المصالح الدنيوية الى ذاكرة التاريخ العلمية ومن الذاكرة المحلية الى العربية والعالمية.عبر المنتج العلمي وعبر المكتبات العربية.

‏و كل فعل من شيوخ القبائل سوف ينسى بمرور الوقت، إلا فعل المنتج الثقافي أو الفكري، ولهذا لا يمكن لك نسيان المؤلفين او المفكرين او الكتاب والشعراء والروائيين الذين دون التاريخ منتجهم، وكان لهم المنتج الحقيقي وليس الوهمي، ‏معنى أنه منتج ثقافي يمكن الاطلاع عليه فيما بعد والاستفادة منه.

‏ولا يمكن اعتبار عملية تنظيم العلاقات الإنسانية في قبيلة ما، وحل مشاكلهم، والتواصل الاجتماعي فعلا فكريا تاريخيا يمكن أن يذكر فيما بعد ‏مثل كما يحدث في حل المشاكل الاجتماعية أو حتى القتالات الجانبية، ابدا ؛ لان ذلك يدرج ضمن نظام المعيشة وضمن الفعل الانساني الذي لا ميزة حقيقية فيه.

وورد عن سيد البلاغة علي ابن ابي طالب ‏"العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، العلمحاكم والمال محكوم عليه، هلك خزان الأموال وبقى خزان العلم، أعيانهم مفقودة وأشخاصهم فىالقلوب موجودة.

‏وهنا يمكننا السؤال، عن المنتج او الفعل الذي يدوم طويلا اكثر من وجود صاحبه، ولايموت هذا المنتج، سواء عند الله، او في ذاكرة التاريخ.

وسوف اتحدث على سبيل المثال عن منتج قبيلتنا وهو منتج يمكن أن يدوم طويلا أكثر من سيرة شيوخ القبيلة، الذين ستضمحل سيرتهم بمجرد تبدل جيل الى اخر لا ذاكرة لديه لتذكر ما مر قبل ١٠٠عام. وعلى سبيل المثال يبرز.

‏1-المنتج الخاص بالرواية ‏وبرع فيه الأستاذ احمد هاشم سالم ولديه عدد من الروايات المهمة التي طبعت في بيروت،منها ابنة الثلج الذي اراد منها ان يؤسس لثنائية بلاد الشمس وبلاد الثلج؛ وهي قراءة للإنسان الذي يقود لثقافة التقاطع والقتل، ولديه رواية ذاكرة التلاشي وايضا كتاب لا ادري، وكتاب ما قل ودل، ورواية نوارس هائمة،والموت ونصف مجنون.

2- كما برع د.خالد سهر رئيس قسم اللغة العربية في الجامعة المستنصرية، في الادب المقارن

وصدر له اﻟتداولية واﻟسرد،اﻟدراﺴﺎت اﻟثقافية مدخل تطبيقي وايضا كتاب ما وراء السرد في رواية الحمار الذهبي وترجمة كتاب معجم مصطلحات ما بعد الكولونيالية وكتاب التاثر والتاثير بين النص والنمط، وعشرات البحوث المنشورة.

3- ويبرز ايضا د.صباح عبد الكاظم، ويحمل لقب دكتوراه في القانون وهو مستشار وزير النفط السابق للشؤون القانونية ولديه كتاب دور السلطات العامة في مكافحة الفساد الاداري في العراق.وكتاب النظام القانوني لعقد التطوير والانتاج النفطي في العراق.

4- سامي حمادي علي وهو صاحب الرواية الشهيرة ليالي ابو غريب، والتي تدرج ضمن الادب السياسي او ادب السجون او الادب المقاتل، وتمثل مساحة مفتوحة من العواطف والوصف والالم والبقاء من اجل الحياة، وتحولت فيما بعد الى مسلسل عراقي.

5-الشيخ نديم الساعدي وله كتاب منية الصائمين، وهو كتاب فقهي يتماس والمجتمع العراقي، ايضا لديه اداب المسجد الحرام بما جاء من سيد الانام وايضا كتاب مسالتان فقهيتان وكتاب الربا القرضي والمعاملي.ولديه كتب اخرى مخطوطة.

6- د.رحيم محمد الساعدي، وفيما يخصني فقد حاولت التنوع في كتاباتي الفلسفية فكتبت في الاتجاهات الفكرية عند الامام علي - ودراسات في الفكر القراني - وكتاب مدخل الى علم الدراسات المستقبلية - والمستقبل في الفكر اليوناني والاسلامي - وكتاب فلسفة التاريخ بين علم الكلام والمستقبل - وكتاب فلسفة الخيال - وكتاب مدخل الى فلسفة الاخلاق التطبيقية - وكتاب بواكير المصطلح الاسلامي - وكتاب حضور الفلسفة اليونانية في الفلسفة الاسلامية - وترجمت كتاب حمل عنوان المسائل الفلسفية الكبرى - وكتاب حول سيدني هوك البطل والانثربولوجيا - وكتاب مشترك مع كتاب من امريكا الجنوبية - وكتاب اشعار من الفلكلور الجنوبي - ومجموعتان شعريتان، وعشرات الكتب المشتركة مع كتاب عراقيين وعرب طبع بعضها في هولندا وبيروت والجزائر وتونس بالاضافة الى عشرات البحوث العلمية.

7- د.عارف الساعدي، وهو مستشار رئيس الوزراء للشؤون الثقافية، وله العديد من الدووين الشعرية مثل مدونات وجرة اسئلة وادم الاخير وغيمة في قميص ورواية زينب و الكتب منها مسارات المعرفة الادبية وكتاب لغة النقد الحديث في العراق من المقالية الى النسقية.

8- د.فؤاد عجمي علي وله كتاب الشعور والاحساس، للمعاني اللغوية في سورة يوسف(ع)، وكتابه المهم النظير الصوتي في العربي دراسة في ضوء علم اللغة الحديثة.وكتاب

الاستنتاج في التواصل اللغوي قراءة في كتاب العقد الفريد لابن عبد ربه الاندلسي

9- د.بشار سعدون هاشم، وهو مستشار رئيس الوزراء وله كتاب الفكر السياسي عند سبينوزا وهو رسالته للماجستير و الفكر السياسي الديني الغربي في العصر الوسطي " أوغسطين أنموذجا"وهي اطروحة الدكتوراه.

10- الشيخ رياض عجم خلف:وله عدة مؤلفات في مسائل دينية مختلفة.

11- احمد الشيخ مزهر وله كتاب اطراف الرياحين في رثاء الامام الحسين (ع).

وبانتظار طباعة منتج حملة الشهادات العليا وهم كل من:

١- مصطفى اسامة: رسالته في علم الاقتصاد من ماليزيا.

٢- د. قصي مجبل شنون وكتب رسالة ماجستير في المسؤولية الدولية عن التحريض الإعلامي

٣- د.صفاء عائد حامد المتخصص في الفيزياء عن رسالة الماجستير

Design and Fabrication of Nano Structure Edge Filter Using PLD Technique

و اطروحة الدكتوراه

Improving of nano-compounds Lithium-Ion battery using graphene as additive to electrodes

٤- فادي حمود وكتب رسالة ماجستير في الفيزياء

٥- بهاء احمد هاشم ورسالته (الأبيات التي انفرد بها السمين الحلبي في عمدة الحفاظ على الراغب الأصفهاني في المفردات -دراسة لغوية-)

٦- ماجد علي طعمة رسالة ماجستير في القانون من لبنان.

٧- د.جلال علي طعمة

٨- عبد الامير حمادي وله رسالة ماجستير كتبها في كندا.

٩- د. رافد صباح وله رسالة ماجستير( أثر النظام الضريبي في تمويل النفقات العامة مع رؤية مستقبلية ).

١٠- احمد خيون هاشم ودرس الماجستير في الصين.

١١- حيدر نوري ويكتب في اللغة العربية.

١٢-يسرى صباح ولها رسالة ماجستير في الترجمة.

١٣- يقين عباس حمود ولها رواية مطبوعة بعنوان نوى.

١٤- ضحى رشيد محي.

١٥- اسيل فريد حمود وكتبت رسالة ماجستير في المحاسبة.

وهذا المنتج العلمي الفكري والثقافي، يدوم اطول من عمر صاحبه، وهو يرفع صورة صاحبه طويلا فهي علاقة تشاركية متبادلة، ولا يمكن مقارنته بالاموال او الصحة او المنصب، او مقارنته بوهم العلو في الارض، والتي لابد ان تنتهي في يوم من الايام كما اشار الامام علي.

***

ا. د. رحيم محمد الساعدي

ذكر المؤرخ العربي ابن عبد الحكم في كتابه "فتوح مصر والمغرب" في القرن التاسع الميلادي، في معرض حديثه عن "النيل"، أن لدى المصريين عادة إلقاء فتاة جميلة في مياهه لاسترضاء النهر كي يفيض ويعم عليهم بالخير في شتى مناحي الحياة اليومية. وقد أصبحت تلك الأسطورة، من أبرز الأساطير التي رُوّجت عن علاقة المصريين القدماء بنهر النيل، والتي تقول إنهم كانوا يلقون بعروس جميلة عذراء، ترتدي أفخر الثياب والحلي، ويزفونها إلى نهر النيل، بعد أن يُلقوها حية لتبتلعها المياه، وأن هذا التقليد أصبح متواترا للوفاء بفضل النيل على أرض مصر.

وعندما سمع  الخليفة الثاني " عمر بن الخطاب "، بتلك الأسطورة بادر على الفور بدحرها والقضاء عليها، وذلك حسب رواية ابن كثير  في كتابه (البداية والنهاية، المجلد 7، ص114-115(، والذي قال: " من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى نيل أهل مصر: أما بعد، فإن كنت إنما تجري من قبلك ومن أمرك فلا تجر فلا حاجة لنا فيك، وإن كنت إنما تجري بأمر الله الواحد القهار، وهو الذي يجريك فنسأل الله تعالى أن يجريك "

وإذا كانت الأديان قد نشأت وارتبط مفهومها البشري بفكرة القرابين، وفق المعتقدات القديمة، فقد ظن الناس قديما كما قلنا أن القرابين بجميع أنوعها هي أقرب طريق لنيل رضا الإله ودفع الضرر عنهم، ولم تختلف الحضارة المصرية القديمة عن باقي الحضارات بهذا الأمر، وظلت هذه الفكرة ملاصقة لدى الكثيرين المهتمين بتلك الحضارة العريقة لتظهر من جديد مؤخرا في يومنا هذا .

فقد فوجعت مصر بجريمة قتل طفل يبلغ من العمر 8 سنوات، حيث وُجد مذبوحا، ومبتور الكفين في جريمة كشفت تحقيقات الشرطة أنها مرتبطة بالتنقيب غير الشرعي عن الآثار في إحدى قري صعيد مصر .

وقد خيمت حالة من الغضب والحزن بعد  العثور على جثة الطفل، والتي وجدت في قرية الهمامية التابعة لمدينة البداري بمحافظة أسيوط في صعيد مصر، حيث عثر عليها الأب في أرض زراعية بعد غيابه عن المنزل لساعات معدودة .

الشرطة المصرية قالت في بيانا لها أنه تم القبض على مرتكبي الجريمة، وهم 3 أشخاص، واعترف الاثنان منهم بارتكابها بالاتفاق مع منقب شرعي عن الآثار، وتقول تحقيقات الشرطة أن الاتفاق بين الجناة والمنقب غير الشرعي يقضي بالحصول على كفي الطفل لاستخدامها كقربان تساعد المنقب للوصول إلى الآثار، وهذا  هو داقع ارتكاب الجريمة .

فُوجع المصريون أكثر حين علموا أن الجناة هم أبناء عم والد الطفل الضحية، وما زاد الطين بلة، أنهم مثلوا دور الحزن، وساعدوا والد الضحية وأهل القرية في البحث عن الطفل لإبعاد الشبهة عن أنفسهم، حتى كشفتهم الشرطة، وألقت القبص عليهم .

وبالبحث والتقصي تبين أن هذا النوع من الجرائم التي تتداخل فيها القسوة والجشع والخرافة، تقوم على طقوس خاصة، مفادها أن فتح أي مقبرة فرعونية للبحث عن التماثيل الفرعونية الصغيرة، يتطلب وجود شخص يدعي أنه شيخ متخصص في فك طلاسم فرعونية أساسية لفتح المقبرة، وهذا الشيخ يعرف لدينا في صعيد مصر بـ "شيخ العزيمة"، والعزيمة هي قراءة الطلاسم واستحضار الجن، الذي يحرس المقبرة .

ولتنفيذ هذه  المهمة يطلب الشيخ مبالغ مالية كبيرة، أو دماء طيور أو حيوانات، أو دماء بشرية أيضا؛ وخصوصا دماء الأطفال، وكلما وقعت جريمة من هذه النوع قد تبين أن شيخ العزيمة مجرد دجال لا أكثر .

وفي رحلة البحث عن الآثار تُفقد كثيرا من الأرواح، إما بخرافة قرابين آلهة، أو تورط في الجريمة، تلبية لطلبات "شيح العزيمة"، ـو حتى تُفقد الأرواح خلال التنقيب عن الآثار بشكل غير شرعي بسبب انعدام الخبرة والمعلومة والافتقار في الأدوات اللازمة للبحث ؛ فتحدث الإصابات القاتلة .

والقرابين البشرية والجريمة لم تكن حالة فريدة في مصر، ففي شهر أيلول في عام 2021، اهتزت مصر بجريمة ذبح شاب، وتقتطيع أوصاله، وتقديمه قربانا لفتح مقبرة أثرية بحسب اعتراف الجناة، والمفارقة أنهم أقارب الضحية أيضا، وهم عمه، وزوجة عمه، وابناؤهما وفق تحقيقات الشرطة .

وللأسف تستيقظ مصر كل فترة على جريمة مماثلة يكون ضحيتها في الغالب من الأطفال، ولاشك أن هذه الجرائم لا ترتبط بمصر القديمة، لأن المصري القديم بشهادة أستاذي " زاهي حواس" : لقد أخفى المصري القديم أماكن الدفن التي تحتوي على الأثاث والمتاع الجنائزي، يعيدا عن العيون بغرض تأمينها ضد السرقة، علاوة على أن المصري القديم لم يسخر جنا أو رصدا لحراستها، والدليل على ذلك المقابر التي نقوم باكتشافها وفتحها من خلال الحفائر العملية والتنقيب الأثري بدون قرابين أو إراقة دماء.. وللحديث بقية..

***

د. محمود محمد علي - كاتب مصري

 

التجربة الكورية

تجربة كوريا الجنوبية في التعليم تعتبر واحدة من أنجح التجارب العالمية فقد استطاعت أن تحقق قفزة نوعية في مسارها التنموي، فحوّلت نفسها من دولة فقيرة إلى قوة اقتصادية عظمى في غضون بضعة عقود. وسر هذا النجاح يكمن في رؤية ثاقبة اعتمدت على التعليم كركيزة أساسية لبناء المستقبل.

تعليم متميز

أولت كوريا الجنوبية اهتماما بالغا بقطاع التعليم، معتبرة اياه استثمارا في حاضر ومستقبل كوريا، فخصصت ميزانيات ضخمة لتطوير البنية التحتية المدرسية وتوفير أحدث الوسائل التعليمية، كما حرصت على تطوير المناهج الدراسية وطرق التدريس بشكل مستمر لتواكب التطورات المتسارعة في العالم ومن خلال المعهد الكوري للمناهج والتقويم الذي يرتبط مباشرة برئيس الوزراء. ويتم قبل اعتماد اي منهج جديد بتجربته في عدد من المدارس وتقييم نتائجه قبل تطبيقه على نطاق واسع ليتماشى مع التطورات العلمية والتكنولوجية والاجتماعية.  وما يميز التعليم الكوري هو اعتماد التعليم متعدد اللغات وذلك بتدريس اللغة الانكليزية بشكل مكثف بالاضافة الى لغات اخرى مثل الصينية واليابانية.

ولم تتوقف كوريا عند هذا الحد، بل ركزت على تحسين جودة التعليم، فاعتبرت المعلم أهم ركن في العملية التعليمية، وقامت بتدريبه وتأهيله بشكل مستمر، كما عملت على تهيئة بيئة تعليمية محفزة للإبداع والابتكار وركزت على تدريس الرياضيات واللغة الانكليزية. ولم تغفل عن دور التكنولوجيا في التعليم، فاستثمرت بكثافة في تطوير التعليم الإلكتروني وربط المدارس بشبكة الإنترنت وتوزيع الأجهزة الذكية على الطلاب والمعلمين، مما ساهم في رفع كفاءة العملية التعليمية. لم يتوقف الحد عند بناء نظام تعليمي متميز أكاديميا، بل امتد ليشمل تحويل العملية التعليمية نفسها إلى حاضنة للابداع والابتكار. فاصبح الطالب ليس مجرد متلقٍ للمعلومات، بل هو شريك في عملية بناء المعرفة.

صناعة العقول

امتدت الرؤية الاستراتيجية لكوريا الجنوبية لتشمل الاستثمار بقوة في البحث العلمي والتطوير، فخصصت جزءا كبيرا من ميزانيتها السنوية لدعم مشاريع البحث والتطوير الطموحة، التي تغطي مجالات واسعة كصناعة الرقائق الإلكترونية المتطورة والتكنولوجيا الحيوية وتكنولوجيا الكم وغيرها من المجالات الواعدة. وجعلت من الاستثمار في البحث والتطوير أولوية وطنية، فخصصت نسبة كبيرة من ناتجها المحلي الإجمالي لهذا الغرض، متجاوزة بذلك العديد من الدول المتقدمة حيث تستثمر حوالي 4.5% من ناتجها المحلي الاجمالي في البحث والتطوير، وهي نسبة اعلى بكثير من دول مثل الولايات المتحدة (2.7%) والصين (2.0%) وبريطانيا (1.7%). أسفر هذا الاستثمار الضخم عن نتائج مبهرة، حيث أصبحت كوريا الجنوبية قوة عالمية في مجال التكنولوجيا، وتتمتع بمكانة مرموقة في صناعة الشرائح الإلكترونية والاتصالات، وغيرها من الصناعات المتقدمة. وتخطط الحكومة لانفاق ما لايقل عن 4 مليار دولار في مشاريع البحث والتطوير مع شركاء اجانب خلال السنوات الثلاث المقبلة.

التعليم المهني وصناعة المهارات

وبشأن التعليم المهني تم انشاء شبكة واسعة جدا من المدارس الثانوية والجامعات المتخصصة في مختلف المجالات كالمدارس المهنية والجامعات التقنية والكليات المهنية، والتي توفر للطلاب تدريبا عمليا مكثفا إلى جانب المعارف النظرية. كما سعت إلى بناء شراكة قوية بين المؤسسات التعليمية والقطاع الصناعي، مما أتاح لها تطوير برامج تعليمية تواكب احتياجات السوق بشكل مستمر، وتضمن توظيف الخريجين في وظائف مناسبة. وامتدت الرؤية الاستراتيجية لتشمل تطوير العنصر البشري القائم، لذا تم توفير مجموعة متنوعة من البرامج التدريبية المدعومة، والتي تشمل دورات قصيرة وطويلة الأمد تغطي مختلف المجالات، كما أنشأت شبكة واسعة من مراكز التعليم المستمر التي تقدم برامج مرنة تناسب احتياجات العاملين. واستغل التطور التكنولوجي في خدمة التعليم، فتم الاعتماد بشكل كبير على التعليم الالكتروني، مما أتاح للجميع فرصة التعلم من أي مكان وفي أي وقت. وشجعت الشركات على توفير برامج تدريبية داخل أماكن العمل، مما ساهم في ربط النظرية بالواقع، وزيادة كفاءة العاملين.

تربية وطنية

لم تكتفِ كوريا الجنوبية ببناء نظام تعليمي متميز أكاديميا، بل امتدت رؤيتها لتشمل بناء مجتمع أخلاقي قويم، فآمنت بأن غرس القيم الأخلاقية في نفوس الأجيال الشابة هو الاستثمار الحقيقي في مستقبل البلاد. فقد دمجت التربية الأخلاقية في صميم النظام التعليمي، حيث أصبحت جزءا لا يتجزأ من المناهج الدراسية في مختلف المراحل التعليمية، بحيث يتعلم الطلاب القيم الأساسية كالأمانة والاحترام والالتزام والعمل الجماعي، ويتدربوا على تطبيقها في حياتهم اليومية.

استند النظام التعليمي الكوري الى القيم الكونفوشية التي تشدد على الانضباط والاجتهاد والاحترام، والتي غُرست في نفوس الطلاب منذ الصغر، وعززت من خلال الأنشطة المدرسية والتعامل اليومي بين المعلمين والطلاب. ولم تقتصر التربية الأخلاقية على الفصول الدراسية، بل امتدت لتشمل المشاركة في الأنشطة المجتمعية، حيث شجعت المدارس طلابها على التطوع والخدمة المجتمعية المجانية، مما ساهم في تنمية روح التعاون والتضامن لديهم.

ثورة تعليمية

أحدثت كوريا ثورة في المدارس، حيث حوّلتها من أماكن جامدة إلى بيئات مرنة تشجع على الحركة والتفاعل، مما يخلق جوا محفزا للابداع ويساعد الطلاب على اكتشاف قدراتهم الكامنة. كما استثمرت بكثافة في التكنولوجيا الحديثة، وجعلت منها اداة اساسية في العملية التعليمية، مما اتاح للطلاب التعلم بطرق مبتكرة وممتعة، ووسع آفاقهم المعرفية. ولم تقتصر على ذلك، بل شجعت على التفكير النقدي والابداعي، فدرست الطلاب على استخدام التفكير النقدي التصميمي لحل المشكلات، مما جعلهم قادرين على ابتكار حلول جديدة للتحديات التي يواجهونها. كما اعتمدت على منهجية التعلم القائم على المشاريع، حيث يتعلم الطلاب من خلال تطبيق المعرفة النظرية على مشاريع عملية، مما يعزز من مهاراتهم العملية ويشجعهم على العمل الجماعي. ولم تنسَ أهمية الاستقلالية، فمنحت الطلاب مساحة واسعة لاتخاذ القرارات وتطوير أفكارهم الخاصة، مما حفز روح المبادرة لديهم.

وبفضل هذه الاستراتيجيات المبتكرة، تمكنت كوريا الجنوبية من بناء جيل جديد من المبدعين والمبتكرين، القادر على مواجهة تحديات المستقبل، والمساهمة في دفع عجلة التنمية في بلاده.

الخلاصة

تعتبر تجربة كوريا الجنوبية في التعليم من أنجح التجارب العالمية، حيث حولت نفسها من دولة فقيرة الى قوة اقتصادية عظمى بفضل التعليم. استثمرت كوريا في تطوير البنية التحتية المدرسية وتدريب المعلمين وتعزيز التعليم الإلكتروني والتربية الاخلاقية، وتحديث المناهج وبالخصوص التركيز على التفكير النقدي والعلوم والتكنولوجيا والرياضيات والهندسة والفنون. كما ركزت على التعليم المهني والشراكة مع القطاع الصناعي، مما ساهم في توظيف الخريجين. بالإضافة إلى ذلك، دمجت القيم الأخلاقية في المناهج الدراسية، وشجعت على التطوع والخدمة المجتمعية، مما ساهم في بناء مجتمع صناعي وأخلاقي قويم. 

***

ا. د. محمد الربيعي

......................

تجارب اخرى:

1) التجربة البريطانية:

  https://www.almothaqaf.com/qadaya/976386 

2) التجربة الصينية:

  https://www.almothaqaf.com/qadaya/977101-2

لا تزال اللغة العربية احد أبرز عناصر هوية الأمة . وبإهمال الإرتقاء بها، وتدني مستوى حضورها في الاستخدام الفصيح في الحياة اليومية، وفي الكتابة، وفي الاعلام، بل وفي الأروقة العلمية، إنما يعرضها للتنحي، وتراجع أهميتها بين اللغات، إضافة مسخ أصالة الهوية وطمسها.

ولعل انتشار ظاهرة لغة ما بات البعض يصطلح على تسميته (بالعربيزي)، او(الفرانكو عربية)، بين الجيل الجديد من الشباب، وشيوعها بينهم في الاستعمال اليومي، في وسائط التواصل الاجتماعي، (بالسوشيال ميديا)، من خلال الفضاء الرقمي المفتوح في كل الاتجاهات بلا قيود، إنما يهدد فصاحة اللغة العربية بالرطانة، ويشوهها بالعجمة، حيث باتت الدردشة والمراسلات عبر الإنترنت، والهواتف الذكية، تجري من قبل أجيال الشباب باللغة الانكليزية، أو الفرنسية (بالفرانكو عربية)، وهي الدردشة المهجنة ببعض مفردات اللغة الانجليزية، المقحمة بالمفردة العربية، حيث شاع هذا النمط من التواصل في الاستخدام اليومي للأجيال العربية الشابة، على أوسع نطاق .

وهكذا باتت اللغة العربية الام، تواجه تحديات كبيرة لمسخها، بسبب هيمنة الثقافة الرقمية في التواصل، والتي تتمثل بطبيعة تقنيتها الاجنبية المتمركزة، في هيمنة مفردات اللغة الإنجليزية، وسيادة مصطلحاتها وايقوناتها، بدلالاتها التعبيرية باللغة الاجنبية، التي باتت شائعة الاستخدام في الساحة العربية، حتى جرت بعض ألفاظ اللغة الإنكليزية على ألالسنة في المحادثات، والدردشات اليومية، بصورة تلقائية، إذ اعتاد البعض ان يبادرك بالترحاب، بكلمة (هالو)، ويودعك بالسلامة، بكلمة(كود باي) دون أي حرج .

لذلك يتطلب الامر من الجميع، الانتباه بجدية، الى خطورة الحال بانعكاساته السلبية، في مسخ اللغة العربية، وطمس الهوية، والإهتمام التام باللغة العربية، وحث الجيل على اتقانها، وتداولها بالفصحى في كتاباتهم، ودردشاتهم، ورفع مستوى تلقيهم لعلومها، دون إهمال الإلمام باللغات العالمية الأجنبية الأخرى، باعتبارها نافذة الإطلال على ثقافة، وعلوم، وتقنيات الآخرين .

ولا بد من الإشارة في هذا المجال، إلى أن نهج مسخ اللغة العربية، من خلال اشاعة وهيمنة استخدام مفردات اللغة الأجنبية، والتساهل في استخدام العامية الركيكة، يصب في ذات أهداف استراتيجية العولمة الرقمية، بشيوع استخدام اللغات الأجنبية، والإنكليزية بالذات، في الفضاء الرقمي، وبكل ابعادها الثقافية والحضارية، التي بدأت تعبث باللغة العربية في كل مجالات الاستخدام، مثل حالة الاعتياد على كتابة لوحات اسماء المعارض، والمحلات التجارية، باللغة الإنجليزية، ونشر الإعلانات التجارية بها، ناهيك عن كونها لغة تدريس العلوم في المعاهد، والجامعات، إضافة إلى عولمة استخدامها في البرامجيات، وشبكة الإنترنت، والمواقع العنكبوتية، والقنوات الفضائيات، وغيرها، من وسائل الاتصال الإجتماعي، والفضاء المعلوماتي، مما يزيد الطين بلة، ويضاعف تداعيات المسخ والتشويه .

وإذا كان الأمر في ضوء تلك التحديات، يتطلب الانتباه إلى مخاطر تداعيات استخدام اللهجة العامية، والحذر من التأثيرات السلبية لوسائل العولمة المفتوحة على لغتنا العربية، التي تتجسد في فرنجة مقرفة، ورطانة لاحنة، تؤثر على سلامة اللغة، وتهدد فصاحتها، بالمسخ والتشويه، فلا بد إذن من اعتماد خطة عربية شاملة، تستهدف التوسع في دراسات علوم اللغة العربية، ونشر كليات اللغة العربية، ومعاهد تعليمها، وتشجيع الدارسين فيها، والعمل على وضع استراتيجية عربية مكملة لها في نفس الوقت، لتعريب الدراسة في الجامعات العربية، والتوسع في إنشاء المواقع الحاسوبية الخادمة للغة العربية، وإدخال مفرداتها في الإستخدام في التقنيات الرقمية، رديفا لنظيرتها في اللغة الإنكليزية.

***

نايف عبوش

(قراءة في بنية العقليَّة الاتِّباعيَّة)

يقول (ابن عبدربِّه)، في «عِقْده الفَريد»(1): «وكانوا يتمادحون بالموت قَعْصًا، ويتهاجون بالموت على الفِراش، ويقولون فيه: مات فلانٌ حَتْفَ أَنْفِه، وأوَّل من قال ذلك النبيُّ، عليه الصَّلاة والسَّلام...».  ثم أَعْقَبَ هذا بقوله: «وقال (السَّمَوْأَل بن عادياء):

ما مات مِنَّا سَيِّدٌ (حَتْفَ أَنْفِهِ)  :::  ولا طُلَّ مِنَّا حَيثُ كانَ قَتيلُ.»

فانظر كيف نقضَ غزله أنكاثًا من فوره، بعد ثلاثة أسطر.

هكذا استهلَّ بنا (ذو القُروح) مساقنا هذا.  فسألته:

- مَن الأوَّل؟  وكيف لنا أن نعرف أوَّل من قال قولًا؟!

-  ثمَّ إنَّ هذه العبارات التي تجري مجرى الأمثال لا تأتي تأليفًا فرديًّا، بل هي مأثورات شَعبيَّة متداولة، لا يُعرَف قائلها الأوَّل غالبًا؛ فإمَّا أن تكون الرواية الأُولى، التي تَنسِب إلى الرسول أنَّه أوَّل من قال «مات حَتْفَ أَنْفِه» غير صحيحة، وهو الراجح، وإمَّا أنَّ بيت (السَّمَوْأَل) غير صحيح النِّسبة. وبالرغم من هذا فإنَّ المؤلِّف، ومحقِّقي كتابه بعده، يَمضون هنا بلا توقُّفٍ أو تعليق!

- لكن...

- وكان ممَّن زعمَ أيضًا أنَّ تلك العبارة أوَّل من قالها الرسولُ: (الجاحظ)(2)، و(الثعالبي)(3).

- ثلاثة شهود عدول، «وشهادة كلِّ قضيَّة اثنان»! أتزعم، يا (ذا القُروح)، أنَّ هؤلاء لم يتنبَّهوا إلى ما تنبَّهتَ أنت إليه؟

- هؤلاء، يا صديقي، صُحفيُّون، غالبًا، حاطبو ليل، كما وصفهم (المسعودي)؛ لا يفكِّرون تفكيرًا نقديًّا في ما يروون ويتناقلون. على أنِّي وجدتُ- بعد تسجيل هذه الملحوظة- (الزَّبيديَّ)(4) قد تنبَّه إلى هذا، حيث قال: «قلتُ: وقد جاءَ في بَيْتِ السَّمَوْأَلِ أَيضًا، وهو يُخَالِفُ ما سبَقَ مِن قَوْلِ رَاوِي الحَدِيثِ: إِنَّهَا كلمةٌ لم يَسْمَعْها مِن أَحَدٍ مِن العَرَب قَطُّ قَبْلَ رسولِ الله، صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّم.  وأَجابُوا بأَنَّه لم يَسْمَعْهَا، أَو أَنَّ الرِّوَايَةَ ليْسَتْ كذلكَ، كما نَقَلَهُ شَيْخُنا، وفيه نَظَرٌ وتَأَمُّلٌ.»

- فالمسألة بدأت، إذن، بقائلٍ قال: «ما سمعتُ بهذا التعبير قبل سماعي إيَّاه من رسول الله»، فتناقلوا هذا، وإنْ أوردوا ما ينقضه على الصفحة نفسها، كما فعل (ابن عبدربِّه)!

- وطبيعيٌّ أن لا يكون أحدٌ قد سمع كلام العَرَب كلَّه. ثمَّ دار قول القائل بين الرُّواة على أنَّه تأريخ لمنشأ تلك العبارة! والشاهد أنَّ مَن تأمَّل شأن الرواية في تراثنا العَرَبي، وغفلةَ الناقلين، وجدَ العَجَبَ العُجاب، واقتضى منه ذلك التحرُّزَ كثيرًا قبل الأخذ من سُوقها المزجاة بشيءٍ ذي قيمة أو موثوقيَّة.

- وإشكال هذه «السوالف» التراثيَّة عامٌّ طامٌّ، في المراجع الدِّينيَّة، والتاريخيَّة، والأدبيَّة.

- نعم؛ لأنها، غالبًا، حكاياتٌ، وسوالف مجالس، وروايات رُكبان، دُوِّنت، وتوارثها الناس، ومن ثَمَّ دُرِّست لنا على أنها وقائع، وحقائق، ودرَّسناها لطلبتنا، وبُنِيت عليها الأحكام، والأطاريح. وتدور بنا تلك الدوائر إلى يوم الدِّين!

- ستُتَّهم بأنك تُشكِّك في علماء التراث، وعنهم أخذنا تراثنا، وإذا شككنا فيهم لم نعد نثق في شيء!

- من حَسَبَ لكلام الناس حسبانًا، فليعشْ شيطانًا أخرس! ولا عِلم حقيقيًّا بلا شك، بل هو حينئذٍ الاجترار والتقليد؛ فالشكُّ مفتاح الحقيقة، والعِلم، والعقل!

- الأغلاط الفرديَّة واردة في كلِّ زمان ومكان، وكُلٌّ يؤخَذ من كلامه ويُرد، والتعميم خطيئة!

- صحيح! غير أنَّ السؤال: لِـمَ يضطلع محقِّقٌ بتحقيق كتاب، ثمَّ لا تجد له إلَّا المقارنة بين ما ورد في نُسخ المخطوطات من اختلافات؟

- يقولون: إنَّ هذا هو الأصل في التحقيق؛ أن تُخرِج المخطوط في صورته الأقرب لوضع صاحبه، بلا تدخُّل؛ فالمحقِّق غير الدارس.

- لا تتدخل في المتن، لكن عليك التدخُّل في الحاشية. وإلَّا فإنَّ هذا يعني الإسهام في نشر الضَّلالات!  تلك مدرسة العَجَزة والكُسالى من المحقِّقين، أمَّا مدرسة التحقيق الحقيقي، فهي (مدرسة التحقيق النقدي)، التي يتوقَّف فيها المحقِّق، ويناقش، ويحلِّل، ويعلِّق، ولاسيما حينما تبدو المزالق أمامه من الوضوح بمكان.  خذ مثالًا آخَر شاهدًا من مجال الأدب:  فلقد نقل (مُحْيي الدِّين بن عَرَبي، -638هـ= 1240م) في كتابه «محاضرة الأبرار، ومسامرة الأخيار، في الأدبيَّات والنوادر والأخبار»(5) قوله: «حكَى لنا بعض الأدباء عن ابن الجهم، وكان بدويًّا جافيًا، لمَّا قَدِم على المتوكِّل، وأنشده يمدحه بقصيدته التي يقول فيها، يخاطب الخليفة:

أَنتَ كالكَلبِ في حِفَاظِكَ لِلوُ 

دِّ، وكالتَّيْسِ في قِرَاع الخُطُوبِ

*

أَنتَ كالدَّلْو، لا عَدِمتُكَ دَلْـوًا 

 مِن كِبَارِ الدِّلا كَـثيرِ الذنُـوبِ!

فعرفَ المتوكِّلُ قُوَّته، ورِقَّة قَصده [كذا!]، وخُشونة لفظه، فعرفَ أنه ما رأى سِوَى ما شبَّهه به لعدم المخالطة وملازمة البادية، فأمر له بدارٍ حَسَنةٍ على شاطئ الدجلة، فيها بستان حَسَن، يتخلَّله نسيمٌ لطيف، يغذِّي الأرواح، والجِسر قريب منه، وأمر بالغذاء اللَّطيف أن يُتعاهَد به، وكان يركب في أكثر الأوقات فيخرج إلى محلَّات بغداد، فيرى حركة الناس ولطافة الخضر [كذا! ولعلَّ الصواب: الحَضَر]، ويرجع إلى بيته، فأقام ستة أشهر على ذلك، والأدباء والفضلاء يتعهَّدون مجالسته ومحاضرته، فاستدعاه الخليفة بعد مدَّة ليُنشِده، فحضرَ وأنشد:

عُيُوْنُ المَهَا بَيْنَ الرُّصافةِ والجِسْرِ 

 جَلَبْنَ الهَوَى من حيثُ أدري ولا أدري

فقال المتوكِّل: لقد خشيتُ عليه أن يذوب رِقَّةً ولَطافة«.

- حكاية لطيفة!

- وما أفسد تراثنا شيءٌ كما أفسدته الحكايات المستلطفة والأقاصيص المستعذبة، الفارغة من حذق القَصِّ أصلًا! وقد فَشَتْ منذ ازدهار الأقاصيص على ألسنة الوُعَّاظ والإخباريِّين ومن شابههم في العصر الأموي. وتلقَّف هذه الأقصوصة بعض المتأخِّرين، ومنهم (عبدالملك بن حسين بن عبدالملك العصامي، -1111هـ= 1699م)، في كتابه «سِمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي»(6).  وهي- كما أرى- حكايةٌ واضحة الاختلاق من وجوه:

1- مهما قيل في بداوة الشاعر، فلن يبلغ به الأمر ذلك المبلغ من الفجاجة في الخِطاب في مقام المديح.  ودُونك شِعر الجاهليِّين، ففي معظمه من اللَّباقة ما ليس في شِعر بعض الإسلاميِّين.  لكنَّه التصوُّر المبالغ فيه عن البداوة وجفائها.  وإنَّما قد يقع الخروج ممَّا يناسب المديح إلى ما هو بالهجاء أشبه، جرَّاءَ فجاجة الطبع في الشاعر نفسه لا في بيئته، أو لتكلُّف الصنعة عند بعض الشُّعراء، لا بسبب البداوة وجفائها. ومن هذا، على سبيل النموذج، قول الشاعر الحَضَري المعتَّق (البحتري)(7)، في مدح الوزير (إسماعيل بن بُلبُل):

أَتعَبْـتَ شُـكْرِي فأَضـحَى مِنكَ في نَصَبِ  :::  فـاذهَبْ! فمـالِيَ فـي جَدْوَاكَ مِن أَرَبِ!

فكيف لشاعرٍ- يفطن إلى أنَّ لكلِّ مقامٍ مقالًا- أن يخاطب ممدوحه: بـ«اذهبْ!»، ثمَّ يقول له: «فمالِيَ في جَدْوَاكَ مِن أَرَبِ»؟!  هذا ما لا يليق بمقام المديح، مهما كان من بَعْدُ من تأويل.  وممَّا يؤكِّد جفاء (البحتري) في أمدوحته هذه إتْباعه ما سبق ببيته:

لَأَشْـــكُرَنَّكَ إِنَّ الشُّـــكْرَ نَـــائِلُهُ  :::  أَبقَـى عَلـى حالَـةٍ مِن نَائِلِ النَّشَبِ

ممتنًّا على الممدوح بشُكره إيَّاه!  ذاهبًا إلى أنَّ شُكره شِعرًا أبقَى من معروفه إليه. 

- قوله صحيح، لكنه لا يليق بالمديح. 

- حتى كاد الشاعر أن يخرج من مقام المديح إلى التعريض بالوزير، بل إلى هجائه!  ومهما يكن، فإنَّ من يوازن خِطاب البحتري الشِّعري بخطاب صنوَيه في الثلاثيِّ العباسي، أعني (أبا تمَّام) و(المتنبِّي)، يخيَّل إليه أنَّه كمن يوازن ثَمِلًا يترنَّح بعقلَين راجحَين!  أو قل: إنَّما هو «عَبَثُ الوَليد»، على حدِّ نعت (المَعَرِّي). وتلك مسألةٌ أخرى.

2- لا يمكن أن يتحوَّل أسلوب المرء اللُّغويُّ ذلك التحوُّل النقيض، الذي زعموه لدَى (ابن الجهم)، على كِبَر، وبالطعام، والنسيم العليل، والعيش في حاضرة، لمدة ستة أشهر! هذا تصوُّر ساذج حقًّا!  كما أنَّ عامل البيئة ليس إلَّا أحد العوامل في الأسلوب.  واقرأ شِعر (أبي تمَّام) أو شِعر (المتنبِّي)، لتلحظ ما في بعضه من حُزونةٍ وتوعُّر؛ لأسباب من الطبع والذِّهن، لا من البيئة وحدها. 

3- إنَّ لُغة الشِّعر أوسع وأعقد من أن تقاس بمقياس لغة الحياة اليوميَّة المتباينة بين لغة المجتمع الحَضَري والمجتمع البدوي. فبعيدًا عن حكاية (الكلب) و(التيس) و(المها)، وعن مسطرة اللائق وغير اللائق، فإنَّ الشاعر الحاذق مصوِّرٌ لآفاق الحياة، ومشاعر النفس البَشَريَّة، المتلوِّنة المتقلِّبة، وليس بناطقٍ رسميٍّ باسم مجتمع بعينة.  ومَن قاسَ بهذا المقياس، لا يفرِّق بين لغة الأدب- فضلًا عن لغة الشِّعر- وغيرها من اللُّغات. 

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

.........................

(1)  (1983)، تحقيق: أحمد أمين؛ أحمد الزين؛ إبراهيم الإبياري، (بيروت: دار الكتاب العَرَبي)، 1: 101.

(2)  يُنظَر: (1975)، البيان والتبيين، تحقيق: عبدالسَّلام محمَّد هارون، (القاهرة: مكتبة الخانجي)، 2: 15.

(3)  يُنظَر: (1983)، التمثيل والمحاضرة، تحقيق: عبدالفتَّاح محمَّد الحلو، (القاهرة: الدار العَرَبيَّة للكتاب)، 1: 22.

(4)  يُنظَر: تاج العروس، (حتف).

(5)  (مصر: مطبعة السعادة، 1906)، 2: 3- 4.

(6)  (1998)، باعتناء: عادل أحمد عبدالموجود، وعلي محمَّد معوَّض، (بيروت: دار الكتب العلميَّة)، 3: 469.  وللباحث (غازي بن أحمد الفقيه) مقالٌ حول المؤلِّف والكتاب وطبعاته، بعنوان «سمط النجوم العوالي: هل تعرَّض للتزوير؟!»، صحيفة "الجزيرة"، السُّعوديَّة، الاثنين 21 سبتمبر 2020، على الرابط: https://bit.ly/2Rg76Fp

(7)  (1977)، ديوان البُحتري، تحقيق: حَسن كامل الصيرفي، (القاهرة: دار المعارف)، 120/ 10.

تعد ظاهرة تزييف التاريخ وتأليف الأكاذيب شائعة في ثقافتنا الحاضرة، وتعتبر حالياً من المعتقدات الصحيحة والراسخة في عقولنا، وأصبح الكثير منا يؤمن جازماً أن التاريخ العربي والإسلامي هو تاريخ مزيّف مملوء بالأكاذيب!! وأتساءل هنا، هل حقاً أن تاريخنا الاسلامي كاذب ومزيّف؟ لو سألنا محرك البحث جوجل عن حقيقة التاريخ المزيف فسوف يدلّنا على موقع ويكيبيديا، ومنه أقتبس ما يلي "عملياّ، التاريخ المزيّف (Pseudohistory) هو كذبة كبيرة تتميز بمزاعم عظيمة عن وقائع تاريخية تحاول تفسيرها بطرق غير نزيهة علمياً خلال المراجعة التاريخية". ويُعَرِف الكاتبان مايكل شيرمر وأليكس غروبمان التاريخ الزائف بأنه "إعادة كتابة الماضي لأغراض شخصية أو سياسية حالية".

إن مصطلح التاريخ المزيّف يشير إلى عملية خلق ونشر روايات أو ادعاءات خالية من الأدلة الصارمة لأثبات صحتها، وينقصها الدليل العلمي. وغالباً ما يعتمد، من يحاول تزييف التاريخ، على حكايات أو مرويات غير موثقة، أو نظرية مؤامرة، بينما يعتمد العاملون في مجال البحث العلمي التاريخي على تحليل دقيق للمصادر الأولية وتدقيق صارم من قبل علماء ومؤرخين آخرين لتأكيد صحة المعلومة التاريخية. وهذا ما يجعل كتابة التاريخ المزيّف مكشوفة وواضحة في عيون الباحثين والمؤرخين.

يتضمن تزييف التاريخ، عملية تغيير أو تعديل الوقائع التاريخية بشكل مقصود ومتعمّد، للحصول على هدف معيّن أو غاية خاصة. وعامل التَعَمد والإصرار في تزييف التاريخ هنا مهم، لأنه يؤكد إصرار الشخص الذي يُزيّف التاريخ على التعمّد في إضافة معلومة كاذبة لحدث تاريخي معيّن، أو تشويه ممنهج للحدث التاريخي. ولو انعدم عامل التعمّد في إضافة المعلومة غير الصحيحة، لكان اجتهاداً خاطئاً ولا يعتبر تزييف أو تشويه للتاريخ.

ظهر مصطلح التاريخ المزيّف في أوروبا، في بداية القرن التاسع عشر. ويتفق الجميع على أن المجتمع الإسلامي والعربي في هذه الفترة كان في حالة سبات عميق، مما يوحي بأن المجتمع العربي والإسلامي ليس له دور في ابتداع هذه الأكاذيب والأعمال المشينة. من ذلك يمكن الاستنتاج أن فكرة تزييف التاريخ هي صناعة غربية (أوروبية). ومن الأمثلة التي ذُكِرت عن محاولات تزييف التاريخ، الفرضية التي روّج لها الكاتب غراهام هانكوك، أن المعالم الحضارية القديمة كالأهرامات المصرية وستون هنج، بُنيت بحضارات قديمة سابقة لها تملك تقنيات تفوق ما يملكه البشر في الوقت الحاضر. وكذلك يُصَنّف إنكار الهولوكوست على أنه تاريخ زائف حسب المرويات الغربية.

والمهم عندنا هو صحة التاريخ الإسلامي. يُعَرّف التاريخ لغوياً بأنه التوثيق الزمني للأحداث، كقولنا "كتابكم المؤرخ في كذا، وقولنا زارنا فلان بتاريخ كذا". إن توثيق الأحداث التاريخية المعروفة بشكل واضح ومتفق عليه عند المؤرخين يُخرجه من دائرة الشك والتشويش إلى دائرة اليقين. لكن الاحداث التاريخية لا تُنقل دائماً بشكل كامل، بل يوجد في معظم الأحيان نقص أو خلط أو اختلاف في كتابة الحدث التاريخي وتوثيقه، وهذا يشكل مدخلاً للتلاعب بالتاريخ، وهو طبعاً مكشوف ومعروف عند المؤرخين. يُمكن استغلال هذا الفراغ التاريخي لإدخال معلومات تاريخية كاذبة معيّنة أو إهمال متعمّد لأحداث معيّنة، وتشويه معلومات أخرى، وبهدف معيّن. والمعروف إن من يقوم بمثل هذه الاعمال هم فئة من الناس لها مآرب ومقاصد خاصة، قد تكون شخصية أو طائفية أو مادية أو غيرها. بالطبع، هناك مجموعة من العلماء والباحثين والمؤرخين، يعملون بجد وإخلاص من أجل توثيق التاريخ الصحيح، لكن هناك أيضاً مجموعة تعمل على تزييف وتشويش التاريخ لأهداف معينة كما ذكرنا ذلك.

التاريخ يكتبه المنتصرون

الملاحظ أن مؤرخي العصر الحديث، يغلب عليهم التأثُر بميولهم وأفكارهم الشخصية دون التجرد والحيادية في كتابة التاريخ، مما يجعل المقولة التاريخية متضاربة بين مصدر وآخر، ويقلل من مصداقيتها، وبالتالي تُحدِث بلبلة في المعلومات وتقلل من ثقة القارئ بالتاريخ. وهذا ينقلنا إلى مقولة أخرى شائكة هي " التاريخ يكتبه المنتصرون" والتي اكتسبت مصداقية واسعة في عقول الناس وأصبحت حقيقة مقبولة، لكن الصحيح أن هذه المقولة قد أُسيء فهمها، فالمنتصرون هنا هم رجال السياسة والاعلام وهم ليسوا مؤرخين. من ذلك يتضح أن كلام المنتصرين يشوبه التشتت وانعدام الثقة والمصداقية، كونهم لا يعملون في مجال العلوم التاريخية. يُذكر أن هذه المقولة (التاريخ يكتبه المنتصرون) ظهرت في عام 1940، ونسبت إلى المفكر الألماني والتر بنيامين، من أجل أن يُفَرِّق بين المؤرخ الصادق الذي يلتزم بالحيادية، سواء أن كان منتصراً أم مهزوماً، وبين مُدوّن الأخبار الذي يتأثر بالمنتصر، علماً أن المدونين لا يعتبرون مؤرخين بالمقياس العلمي. والحقيقة، أن التاريخ لا يكتبه المنتصرون وإنمّا يكتبه المؤرخون الذين هم علماء يتمتعون بمصداقية ونزاهة العلم ويسعون لكتابة التاريخ الصحيح حصراً.

إن أحداث التاريخ المعروفة لا يمكن تغييرها، فمثلاً انتصار اليابانيين على الامريكان في معركة بيرل هاربر لا يمكن التشكيك فيه، ولا يمكن قلب الحقيقة لتُظهِر أن اليابانيين خسروا المعركة، وكذلك استسلام اليابانيين بعد قنبلة هيروشيما. إن كل ما يفعله المنتصرون، المتمثلين بوسائل الاعلام والتواصل الاجتماعي أو بعض الأشخاص المغرضين (وهؤلاء لا يعتبرون مصادر تاريخية معتمدة) يهدف إلى إظهار شجاعة وبسالة مقاتليهم وجُبن وانهزام قوات العدو في قصص وروايات مبالغ فيها أو كاذبة، وتكون مكشوفة. ولنا حالياً مثال حيً، متمثلاً بحرب غزّة ومحاولات الاعلام الغربي في تبرئة الجيش الإسرائيلي من جرائم الحرب والابادة الجماعية، وتحميل الفلسطينيين مسؤولية الحرب وجرائمها، لكن المحاولات مكشوفة وواضحة للمتابعين.

ويجب التفريق بين تزييف أو تشويش التاريخ وبين تضارب أو اختلاف المعلومات حول الحدث التاريخي، فعندما يتعَمّد المؤلف كتابة معلومات تاريخية غير حقيقية لسبب أو قصد معين، فانه يَكذب ويزيّف التاريخ، والمهم في هذه الحالة وجود عامل التعَمُد وسوء النية في تزييف المعلومة التاريخية. لكن هناك معلومات تاريخية قد لا يتفق المؤرخون على صحتها، وليس القصد فيها الكذب أو التزييف. وهذا التضارب في المعلومات يستوجب البحث عن صحة أو دقة المعلومة التاريخية. فمثلا توصف الحروب الصليبية عند مؤرخي المشرق بأنها هجمات بربرية وحشية ضد المد الإسلامي، بينما يصفها الاوربيون بانها حرب مقدسة ضد الشر والاشرار، وليس في هذا كذب أو تزييف من الطرفين بل تعبير عما يشعر به كل طرف تجاه الآخر وتجاه الحرب.

يمكن اعتبار المؤرخين الإسلاميين القدماء، كالطبري والبلاذري وابن الاثير وغيرهم، من أصدق من كتب التاريخ الاسلامي، ذلك لأنهم عاشوا في زمن أقرب نسبياً من غيرهم لأحداث التاريخ التي كتبوها، وكانوا مدفوعين بمصداقية وروح العلم والعلماء، ولم يكن لهم دافع أو مصلحة في كتابة أكاذيب أو تزييف للتاريخ.

والملاحظ، كما ذُكر سابقاً، إن الكلام عن كذب أو تزييف التاريخ لم يظهر إلا في العصر الحديث ومن أشخاص ليس لهم مصداقية علمية في كتابة أو توثيق الأحداث التاريخية، وذلك بسبب انتشار وتوفر وسائل الاعلام وسهولة استعمالها من دون مانع ولا رقيب.

الخلاصة أنه لا يوجد تاريخ مزيّف، بل محاولات بائسة لتشويه التاريخ، يقوم بها اشخاص لهم نوايا سيئة واهداف معينة. وهي في الغالب محاولات مكشوفة، لا تخفى على كل من له اطلاع أو معرفة بالأحداث التاريخية، ولو بسيطة، لتاريخ الحدث. ونشهد اليوم مثالاً حياً على تزييف التاريخ، الحرب الأوكرانية، حيث ينشر الاعلام الغربي اخباراً وقصص كاذبة عن الهجوم الروسي على أوكرانيا بهدف تجريم روسيا من ناحية وإضفاء المعايير الأخلاقية والإنسانية على الجانب الأوروبي الاوكراني. ولا يفوتني أن أذكر أن تاريخ العالم العام هو تاريخ غير كامل يشوبه نقص كبير للأحداث التاريخية، وهو أمر طبيعي ومعروف، وما زال المؤرخون والعلماء يعملون جاهدين وبإخلاص لإكمال الصورة التاريخية. ولو كان التاريخ كاملاً لأنتفت الحاجة إلى دراسات وابحاث المؤرخين وعلماء الآثار والمنّقبين.

***

صائب المختار

 

في ليل عميق، حيث تأخذ الهمسات شكل الأصداء المفقودة، تجد الروح نفسها محاصرة بين أطياف الماضي وغموض المستقبل. كل خفقة قلب هي سفينة تسير على بحر لا نهاية له، أمواجه تتلاعب بأحلامنا وتداعب خيالاتنا.

في هذا السكون الكوني، حيث تُعزف سيمفونيات السكون على أوتار النجم، ينبعث السؤال الأعمق: ما هي الحقيقة؟ هل هي مجرد سراب نلاحقه أم أنها نغمة خفية في لحن الوجود؟ هل الحقيقة هي ضوء يتسلل بين ثنايا العتمة، أم أنها غمامة تغطي الشمس، تجعلنا نبحث عن دفء غير ملموس في كل ظل نمر به؟

وها هي الروح ترفرف بين أكوان من الشك واليقين، تبحث عن معنى في كل قطرة ندى ونسمة هواء. نحن في رحلة لا تنتهي، نُبحر في محيط من الأسئلة، حيث تتلاشى الحدود بين الذات والعالم، وبين الأحلام واليقظة. وكل لحظة هي فرصة لتفكيك أسرار الروح وفهم تداعيات الزمن.

في عمق الفلسفة، حيث يتداخل العقل مع الوجود، نكتشف أن الحقيقة ليست سوى انعكاس لأسرار داخلية، وأن المعرفة هي مفتاح لفتح أبواب لا تُعد ولا تُحصى من التساؤلات. وفي النهاية، ربما نجد أن الفلسفة ليست سوى رحلة بحث مستمرة عن الذات، وارتقاء نحو فهم أعمق لحقيقة الحياة.

وفي هذه الرحلة، نتعرى من ثياب اليقين، نترك وراءنا قوالب الأفكار الجاهزة ونسبح في محيط من الاحتمالات اللانهائية. فنكتشف أن كل فكرة هي مجرد محطة في طريق طويل، وأن كل إجابة تحمل في طياتها أسئلة جديدة، كما تحمل الرياح رائحة الأرض البعيدة.

عندما نتأمل في مرآة الوجود، نرى في أعيننا انعكاسات الأحلام المحطمة والطموحات غير المحققة. هل نحن سوى أفكار تتصارع في عقولنا، أم أن لنا كينونة أعمق تتجاوز حدود الفكر؟ وهل الروح هي الحقيقة الوحيدة التي تنبض في هذا العالم، أم أن لها وجه آخر مخفي وراء ستار الزمن؟

وكلما اقتربنا من فهم أعمق لذواتنا، نجد أنفسنا نعود إلى نقطة البداية، حيث تبدأ الأسئلة من جديد. هنا ندرك أن الحياة ليست معادلة نحلها، بل قصيدة نثرية نكتبها، حيث الكلمات هي أفكارنا، والمعاني هي تجاربنا، والحقيقة هي شعورنا العميق بالوجود.

فكل خطوة نخطوها في هذه الرحلة الفلسفية هي حوار مع الزمن، حيث نصغي إلى همساته ونستمع إلى أسراره المكنونة. ربما لن نجد الإجابات التي نبحث عنها، لكننا سنكتشف جمال الطريق، وسحر الغموض الذي يكتنفه. وفي النهاية، ندرك أن الروح، في عمقها، هي انعكاس للكون كله، وأن الحياة، بكل تناقضاتها، ليست سوى قصيدة لا نهائية، نكتبها بأفكارنا وتجاربنا وتأملاتنا.

وفي هذا العمق، تصبح الفلسفة ليست فقط بحثًا عن الحقيقة، بل تجربة غنية من التأمل والإبداع، حيث نخلق معاني جديدة وننسج نسيجًا معقدًا من الأفكار والمشاعر. هنا نلتقي بأنفسنا في كل لحظة، ونكتشف أن الروح، في سعيها المستمر، هي الحقيقية الوحيدة التي تستحق البحث والاكتشاف.

واكيد انها ستبقى في علم الله الواحد الأحد، تلك الحقيقة التي تتجاوز عقولنا، وتلك الاسرار التي لا نراها إلا بعيون الإيمان. مهما بحثنا وتعمقنا في فلسفات الحياة، تظل هناك حجب لا يرفعها إلا النور الإلهي. فنحن، في نهاية المطاف، مجرد مسافرين في بحر الزمن، نحاول فهم لغز الوجود، بينما يكمن السر الأعظم في يد الخالق، العالم بكل شيء.

إن سعي الإنسان المستمر للمعرفة والفهم هو انعكاس لشوقه للوصول إلى الحقيقة الكبرى، تلك التي تتجاوز حدود العقل وتصل إلى جوهر الروح. ولكن يبقى في علم الله ما لا يمكننا إدراكه، وما يظل لغزًا محاطًا بهالة من القداسة. وهكذا، تستمر رحلتنا بين الشك واليقين، بين السؤال والجواب، بينما يبقى سر الكون في علم الله الواحد الأحد، الذي يعلم كل شيء، ويرى ما لا نراه، ويسمع همس قلوبنا ونداء أرواحنا

***

عبد الرحيم طالبة - المملكة المغربية

 

كلنا ندرك، من خلال قراءةِ التاريخِ البشريّ، التحولات الجذريةَ والتطورَ المطّردَ في كلّ مفاصلِ الحياةِ، والطبيعة. وهذه التحولاتُ لم تأتِ دفعةً واحدةً أو في زمان قصير. بعض علماءِ الإنسانِ والباحثين في مجال التطور البشري، بل وعلماء الآثار والانثروبولوجي، على درجةٍ عالية من اليقين بأن الإنسانَ مرّ بمراحلَ تاريخيةٍ مختلفةٍ أخذت منه آلاف السنين حتى وصل إلى هذه الدرجة من التطور. إذن حقيقة تطور الإنسان بمعارفهِ وآلاته وفنونهِ وآدابه وتفكيره حقيقةٌ لا يمكن التعتيمُ عليها أو إنكارها. وكلنا نعلمُ أن الإنسانَ سبقَ الآلة زمنياً. ومن خلال الاستغراق في البحثِ عن وسائل تريحه في عمله وتجواله، اخترعَ العجلة، وآلات نقل الأخشاب والأحجار الثقيلة من مكانٍ إلى آخر. ولما يتمتع به من عقلٍ، أخذ يتطلع إلى التطور دون قصدٍ منه، بل استجابة للحاجة وتحقيق لما يستدعيه أمرُ الدفاع عن سلامته وراحته. تطورت المعارفُ وترسخت في أذهانِ صناعِ الحضارات القديمة نزعة الاختراع أو البحث على الأقل عن وسائل الدفاع، وممانعة غضب الطبيعة. ولا نريد الإطناب في هذه الجنبة التاريخية حتى لا تضيع الفكرةُ الأهم والمبتغى الأعم.  وصل الإنسانُ في تطوره إلى محاولة خلق إنسانٍ آليّ يحاكي الإنسانَ الحقيقي، فاخترع الروبوت الذي يشبه البشر جسماً لا روحا واستعان به على قضاء مهماته في البيت أو في المصنع. الهدفُ من هذه المقالة، هو إبراز ما وصل إليه الإنسان المعاصر من تطور، وهل أنه حقق ما يصبو إليهِ من راحةٍ وصفاء بال، أم أنه زاد الطين بِلَّةً كما يقول المثلُ العربي القديم؟ وهل أفادته الآلة أم زادت من تعاسته؟

لو استعرضنا ما وصل اليه الطب في الوقت الحالي من استخدام للآلة والروبوتات في إجراء العمليات الجراحية المعقدة في جسم الإنسان، وما قدمته المعامل ومراكز الأبحاث في كثير من بلدان العالم المتقدم من أدوية ولقاحات ضد الأمراض التي كانت تحصد ملايين البشر قبل مئات من السنين، ووسائل الفحص والتشخيص الدقيق للأمراض، لوجدنا أن الآلة بدأت تأخذ مكان الإنسان الحقيقي وكأنهم يقولون لنا إن عصر الآلة الذكية قد حان، لكنهم لم يتساءلوا إلى أي حدٍّ سوف تصل إليه هذه الآلة؟ وهل أنها سيقدَّر لها أن تتحكم في مصير الإنسان وتأخذ مكانه من خلال الاستقلال بالتفكير وعمل ما تشاء؟

هذا سؤال ربما يجاب عنه من خلال ما سيقدمه الإنسان في السنين القادمة من صراعه المحموم من أجل الغلبة والسيطرة على الآخرين. نسمع مراراً في الأخبار أن العامل في اليابان يموتُ واقفا على آلته بسبب الإرهاق والتعب الشديد. و"أظهر تحقيق حديث في الصين أن ضغوط العمل الكبيرة تؤدي إلى وفاة 600 ألف شخص سنويا بسبب الإرهاق المفرط، أي بمعدل 1600 وفاة يوميا"[1]. وهذه الظاهرة أصبحت تدعى في اليابان باسم "كاروشي"[2] أي الوفاة بسبب الإرهاق الشديد. ومن التدقيق في مثل هذه الأحداث يتبين لنا أن الآلة استعبدت الإنسانَ ووظفتهُ بدلا من مساعدته في العيش براحة. وهذه الآلة ساعدت البشر كثيرا ولا غنى له عنها، لأنها وفرت له مصدرا من مصادر العيش والاستقرار. حينما أستقل سيارتي وأقصد مكانَ عملي، أشعرُ وكأنها تحملني في حضنها كما تحملُ الأم وليدها. تبردني في الحرّ، وتدفئني في البرد. ولا أغلو حين أقول: إن علاقة حب تنشأ بيني وبينها ومن جانب واحد بالطبع. وكأنني أتكلمُ بلسان حالها فأقول: بسطتُ ظهري إليك وأنا في خدمتك ما دمت لم تقصر معي بالوقود والصيانة!! هذا القلمُ الذي أكتبُ به رسائلي وكتبي وأنجز به كل معاملاتي، أجده جديراً بالاحترام والتقدير وكأنه بشر يجلس معي ويقدم إلي المساعدة في كل وقت. جهازُ الحاسوبِ الذي يصحبني أكثر من تسعِ ساعات في اليوم رفيقاً مخلصاً يساعدني بصمت شديد، ويخدمني متى احتجته أو طلبت منه الخدمة. ولن أكون مغاليا حينما أصفهُ بأعز الأصدقاء أو الرفقاء. وهناك أمثلةٌ لا حصرَ لها يمكنكم التأمل فيها ما شئتم.

كل هذا الذي تقدمه الآلات هو من أفضل ضروب المنفعة التي يلهثُ جلّ البشرِ خلفها دون التفاتٍ أو شعور. وقيمة كل شيء تكمن في مقدارِ ما يقدمه من نفع وفائدة، أو ما يدعوه علماء الفلسفة بالخير المحض. وما دام الخير كامن وظاهرٌ في كل هذه الآلات والأشياء، فإنها تندرج في قاموس الضروريات التي تلبس مثالية الخلق الإنساني التي بحث عنها الفلاسفة المثاليون، أو الباحثون عن الخير والسعادة، وبناة المدن الفاضلة عبر التاريخ. حينما نتحدث عن إنسانية الإنسان، فإننا نقصد منها الرحمة والتعايش وفائدة الآخرين، وإلا فمتى كان الإنسانُ إنسانياً؟ أو قل رحيما لأخيه الإنسان. سنة التدافع التي سنها الخالق في البشر ظهرت في سلوكياتهم عبر التاريخ بأشكال كانت تتسم بالظلم والدموية والإلغاء، وحب السيطرة، والإفناء. هذا التزاحم لا يوجد في الآلات، فهي تحت سيطرتنا وكأن الإنسانَ ابتكرها حتى يستعين بها على السيطرة على الآخرين، كأنواع الأسلحة المدمرة. وهذا هو الجانب المظلمُ من الآلة تماما كالجانب المظلم للإنسان. إذن كأنني بالآلة ظل البشر والخالق لها.

***

بقلم د. علي الطائي 

........................

[1] خبر في "الجزيرة نت" بتاريخ 3-10-2013.

[2] ويكيبيديا. الموسوعة الأضخم على الشبكة العنكبوتية. مادة "كاروشي".

 

بقلم: بيبر ستيتلر

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

تستكشف بيبر ستيتلر كيف يساعدنا البحث في فهم الماضي لخلق مستقبل أفضل

لقد شهدت خلال الأعوام الأربعة عشر التي مرت منذ حصولي على درجة الدكتوراه وتولي منصب أستاذ تاريخ الفن، إعادة تنظيم سريعة لأهداف وقيم التعليم العالي، الأمر الذي جعلني أتساءل عن مكاني فيه. لدي مسيرة مهنية أفتخر بها، وأؤمن أن ما أدرسه يحسن حياة طلابي بطرق غير ملموسة وعملية. ولكنني كافحت لتحديد مكانة البحث والكتابة في التاريخ في هذا العالم الجديد من التعليم العالي الذي يروج لوعود النجاح الفوري بعد التخرج والعائد على الاستثمار. قبل بضع سنوات، بدأت أفقد رؤية أهمية البحث.

إن البحث التاريخي يشكل أهمية بالغة بالنسبة للتعليم العالي وللعالم أجمع. ولكن من الصعب في كثير من الأحيان أن ندرك الروابط ذات المغزى. فقد يبدو البحث وكأنه مسعى نخبوي، أو تمرين يتم إنجازه للحصول على وظيفة، أو الحصول على وظيفة دائمة، أو التقدم في مهنة أكاديمية. وفي بعض الأحيان، قد تبدو موضوعات البحث منفصلة تماماً عن عالمنا وأزماته العاجلة بحيث يصعب فهم مساهمتها. وإذا لم يكن الغرض من البحث التاريخي واضحاً وعملياً على الفور، فإن الساسة وإداريي الجامعات يزعمون أنه لا قيمة لتوفير مكان له.

أدركت أن فكرة ترك البحث للخبراء فقط لم تكن صحيحة. في الواقع، بدأت أشعر أن البحث أشبه بحق من حقوق الإنسان.

في الصيف الماضي، قامت جامعة غرب فرجينيا بإلغاء عشرات البرامج في العلوم الإنسانية وطرد 143 من أعضاء هيئة التدريس.

تحت ضغط الميزانية وتراجع التمويل الحكومي، يبدو أن التعليم العالي أصبح أقل اهتمامًا بالنضال من أجل الخير العام. يتم التضحية بهذا الهدف من أجل ملاحقات قصيرة النظر تبدو وكأنها تبرر التكلفة الباهظة للتعليم الجامعي. في الجامعة التي أدرس فيها، يمكن للطلاب التخصص في المالية والمحاسبة وحتى العقارات. ولكن الدعم المؤسسي لتخصصات العلوم الإنسانية والبحث آخذ في التراجع. من السهل أن نفقد رؤية أهمية دراسة الماضي عندما تربط الجامعات بشكل متزايد القيمة بالربح المالي. التمسك بشغفي للبحث أصبح أشبه بالصمود في عاصفة على متن قارب متهالك. كل يوم عمل بدا وكأنه معركة لكي يُعترف بقيمة ما نقوم به أنا وزملائي.

ولكن التحول الذي شهده التعليم العالي ليس الشيء الوحيد الذي جعلني أتساءل عما هو ممكن في ظل قواعد البحث التي وضعتها الجامعات التي تحركها الأرباح. كنت قد كتبت أطروحتي ونشرت على نطاق واسع عن التصوير الفوتوغرافي الألماني في عشرينيات القرن العشرين، لكنني بدأت أشعر بأنني محاصرة. كنت أؤمن بأن جميع الباحثين الجيدين يدرسون نفس الموضوع طوال حياتهم المهنية. كانت الرحلة المستمرة في التعمق لاكتشاف كل تفاصيل موضوع ضيق هي ما يجعل شخصًا ما خبيرًا موثوقًا. لكن ماذا لو أردت دراسة شيء مختلف؟

ما أردت حقًا التحدث عنه هو ابنتي واختبارات الذكاء التي كان لزامًا عليها إجراؤها في المدرسة. تعاني ابنتي من متلازمة داون، وقد خضعت لأول اختبار ذكاء لها قبل أن تبدأ روضة الأطفال. أخبرني طبيب نفس المدرسة أن الاختبار كان مطلوبًا لخطة التعليم الفردية الخاصة بها، وهي وثيقة قانونية تحدد الاحتياجات والأهداف والتسهيلات المحددة لمساعدتها على مواكبة أقرانها.

كنت على دراية عامة بالصلة بين اختبارات الذكاء وجنون تحسين النسل في أوائل القرن العشرين. أليس من الغريب أن هذه الاختبارات لا تزال مستخدمة حتى الآن؟ زملائي الذين أخبرتهم عن تقييم ابنتي كانوا مندهشين لسماع أن اختبارات الذكاء تلعب دورًا في حياتي. كانت وجوههم تعكس سلسلة من ردود الأفعال: اعتراف عابر، دهشة طفيفة، ثم حيرة مشوبة بالقلق. كنت أحب الحديث عن ابنتي، لكنني كنت أيضًا أستمتع بمشاهدة الارتباك الذي ينشأ عندما أفعل ذلك. كان هناك قانون غير معلن يقضي بضرورة إبقاء البحث والحياة الشخصية للباحث منفصلين. لكنني أدركت أنني أرغب في اختراق هذا الحاجز بين هذين الجانبين من حياتي.118 Intelligence

لقد بدأت في إجراء أبحاث حول اختبارات الذكاء، وقيمتها الحالية واستخدامها في مجال علم النفس، فضلاً عن تاريخها. كنت أدرك باستمرار أنني أتعامل مع هذا البحث باعتباري شخصًا غير متخصص، ومؤرخًا فنيًا يتمتع بفهم محدود للإحصاءات والانحرافات المعيارية. لكنني كنت أدرك أيضًا أن ما كنت أبحث عنه كان ذا مغزى بالنسبة لي بطريقة لم أختبرها من قبل. كنت أكتشف تفسيرًا للطريقة التي ستشكل بها اختبارات الذكاء حياة ابنتي . لكنني اكتشفت في نفس الوقت أن هذه الاختبارات تؤثر علينا جميعًا. فقد أرست الأسس للطريقة التي لا نزال نفهم بها ونقيم الذكاء، ولمن تُعطى الفرص للنجاح ومن يُحرم منها، ومن يُمنح الوصول إلى أفضل تعليم ممكن. واجهت عقبات ونظرات فضولية من علماء النفس الذين اعتقدوا أنني أطرح أسئلة أكثر مما ينبغي للوالد أن يطرحها. لكنني أدركت أن الفكرة القائلة بأن البحث يجب أن يترك للخبراء لم تكن صحيحة. في الواقع، بدأت أشعر أن البحث هو حق من حقوق الإنسان.

في أحد أيام أواخر الصيف، سافرت بسيارتي من الريف في جنوب غرب ولاية أوهايو إلى المنطقة الصناعية في شمال شرقها لزيارة مركز كومينجز لتاريخ علم النفس. رغم أن الموضوع بدا لي جديدًا وغريبًا، إلا أن البيئة كانت مألوفة. وبعد أن سجلت موعدي، جلست على أحد المكاتب الكبيرة العشرين المصفوفة في شبكة. ثم أخرج أمين الأرشيف عدة صناديق من الملفات التي طلبتها ووضعها بالقرب من مكتبي.

لقد قمت برحلة إلى أكرون لدراسة أوراق هنري جودارد، عالم النفس الذي حول اختبار الذكاء إلى طريقة منهجية للتصنيف الاجتماعي. لقد قرأت بالفعل العديد من أوراق جودارد المنشورة قبل القيام بالرحلة، لكنني أردت أن أرى الأرشيف بنفسي. كنت آمل أن يساعدني الاطلاع على مسوداته وأوراقه الخاصة ورسائله في فهم أفضل لكيفية تأثير أبحاث جودارد على مستقبل ابنتي، وكيف يمكن أن تختلف عن حياة الأطفال الذين درسهم جودارد.

بعد أن أجرى جودارد اختبارات الذكاء على آلاف الأطفال، اقترح استخدام كلمة "أحمق" لوصف أولئك الذين أظهروا ذكاءً لا يتجاوز ذكاء طفل في الثانية من عمره. أما أولئك الذين تتراوح ذكاؤهم بين ثلاث وسبع سنوات فيُعَدون "بلهاء". وبالنسبة للمجموعة الثالثة، أولئك الذين تتراوح أعمارهم العقلية بين ثماني سنوات واثني عشر عاماً، اقترح جودارد مصطلحاً جديداً، وهو "الأبله". وكتب جودارد: "إن أنظمة مدارسنا العامة مليئة بهؤلاء الأطفال، ومع ذلك فإن المشرفين ومجالس التعليم يكافحون لتحويلهم إلى أشخاص عاديين". ويمكن لاختبار الذكاء تحديد هؤلاء الطلاب ووضعهم في المؤسسات التي يعتقد جودارد أنهم ينتمون إليها. وقد مهدت توصياته، القائمة على درجة الذكاء، الطريق للمؤسسات والفصول الدراسية المنفصلة لذوي الاحتياجات الخاصة طوال معظم القرن العشرين.

قمت بمراجعة سجلات سريرية باردة للأطفال الذين درسهم جودارد في مدرسة التدريب في فينيلاند، نيو جيرسي. درست صور الأطفال الذين كانوا يرتدون ملابس نظيفة وبدلات مكوية، وهم جالسون على المقاعد. بدا هؤلاء الأطفال كأشباح في ذهني، وكنت أفكر في كيف أن حياتهم ربما كانت تقتصر على الظهور كأشباح لعائلاتهم أيضًا. كانوا موجودين ولكنهم مُعزولين، بعيدين عن الأنظار، ودون فرصة حقيقية للعيش والنمو والتعلم.. بينما كنت أستعرض هذه الصور، شعرت بالامتنان لعدم عيشي في هذه الحقبة المظلمة من التاريخ، ولكنني كنت أيضًا أشعر بالقلق من تأثيراتها المستمرة في الوقت الحاضر.

لا يمكن للمستقبل أن يفلت من تأثير الماضي، لكن البحث يساعدنا على تصور عالم أفضل.

إن ابنتي تتعلم في الفصل الدراسي بين أقرانها. ولم أشعر قط بأن حقها في التعليم مهدد. ومع ذلك، أظهرت لي أبحاثي أن تاريخ اختبار الذكاء يؤثر على عالمنا بطرق ملحة للغاية. بدا تعصب جودارد مألوفًا ومقلقًا بالنسبة لي. فقد قرأت مصطلحات مثل "العمر العقلي" في تقارير ابنتي الطبية منذ كانت طفلة صغيرة، وهي طريقة لشرح تطورها الإدراكي عبر مقارنته بطفل أصغر سناً. عانيت من الرسوم البيانية والخرائط التي تخبرني بأن ابنتي تملك إتقاناً محدوداً للمواد في اختبار معياري، بينما تتجاهل تماماً نقاط قوتها العديدة. شاهدت كيف أن جهود الأطفال اليائسة في التواصل تُفهم بشكل خاطئ على أنها انحراف وسلوك سيئ. يظل اختبار الذكاء اليوم مقياساً مبسطاً للقيمة الإنسانية، وفرصة لاستحضار الإهانات الطفولية مثل "المعتوه" و"الأحمق" التي نشأت عن سعي الاختبار لتصنيف الناس. لقد قدم للعالم تبريراً إحصائياً لتفضيل الذكاء على الأخلاق، والإنتاجية على التعاطف.

إن الحاضر ليس مثل الماضي، ولكن هذا لا يعني أن التاريخ يجب أن يُنسى. يتطلب البحث التاريخي حسابات معقدة. الحسابات تعني التفكير، ولكنها أيضاً تعني تسوية الحسابات. إنها تتعلق بتحديد ما يمكننا وما لا يمكننا التحكم فيه بشأن كيفية ظهور الماضي في الحاضر، وكيف يمكننا تحسين الأمور في المستقبل. أظهرت لي الأبحاث أن ممارسة استبعاد الأشخاص ذوي الإعاقات الذهنية—من التعليم، والعمل، والحياة المدنية—تعود إلى منطق وقرارات خاطئة من أشخاص مثل جودارد. كما علمتني أنه لا يجب أن يكون الأمر كذلك.

لا أعتقد أن كل بحث يجب أن يكون شخصيًا ليكون ذا مغزى. ولكن البحث هو شكل قوي من أشكال الوعي الذاتي وهو أساسي للديمقراطية. البحث التاريخي يكشف كيف يتشكل عالمنا بفعل الأفعال البشرية. بعضها صغير، وبعضها كبير. بعضها عادل وبعضها مشوه بشكل رهيب. لكن جميع هذه الأفعال كان يمكن أن تكون مختلفة—معانيها ونتائجها ليست أقل طبيعية من أي فعل آخر. وهذا له تأثير عميق على كيفية رؤيتنا لظروفنا الحالية. لماذا نفترض أن الأشخاص ذوي الإعاقات الذهنية لا يستطيعون التعلم بين أقرانهم؟ لماذا نفترض أن اختبارات الذكاء تقدم معلومات ذات مغزى حول إمكانات الشخص المستقبلية؟ بسبب جودارد وغيره من علماء تحسين النسل الذين استخدموا اختبار الذكاء لعزل أولئك الذين لم يعتبروهم طبيعيين. لأن منطقهم لا يزال معنا اليوم. لكن هذا لا يعني بالضرورة أن الأمر كذلك. فالبحث العلمي يمكّن المواطنين من تفسير ظروفهم الخاصة ومناقشة ما يعتبره الآخرون طبيعياً أو عادياً. وينبغي أن يتمتع جميع البشر ــ بما في ذلك المحاسبون ووكلاء العقارات في المستقبل الذين أقوم بتدريسهم ــ بالحق في معرفة كيف تشكل عالمهم. ولا يستطيع المستقبل أن يفلت من تأثير الماضي، ولكن البحث العلمي يساعدنا على تصور عالم أفضل.

***

..............................

مقتطف من كتاب "قياس الذكاء: مواجهة أم مع اختبار الذكاء" للكاتبة بيبر ستيتلر

الكاتبة: بيبر ستيتلر/ Pepper Stetler: بيبر ستيتلر أستاذة مشاركة في تاريخ الفن والمديرة المساعدة لمركز العلوم الإنسانية في جامعة ميامي في أكسفورد، أوهايو. وقد كتبت بكثرة واهتمام واسع عن القضايا التي يواجهها الأشخاص ذوو الإعاقات الذهنية ومقدمي الرعاية لهم، في منشورات مثل نيويورك تايمز، وأتلانتيك، وسليت، وبلوشيرز، وجلف كوست. كما كتبت ستيتلر عن الفن والتصوير الفوتوغرافي في أوروبا في أوائل القرن العشرين.

يمكن القول أنّ المفكرين والأدباء والفنانين، أصحاب الضمير الحيّ، يتآلفون مع نضال الثوار في كلّ أنحاء العالم، من أجل إحقاق الحق وردع الظلم. غالبية النتاج الفكري والإبداعي المستنير في العالم قاطبة يستلهم مبادىء ارتكزتْ عليها كبريات الثورات، تلك التي لها آثارٌ كبيرةٌ في تاريخ الإنسانية، فقد سعتْ وبقوّة السلاح والفكر الوضّاء إلى نشدان العدالة الاجتماعية واحترام كرامة الإنسان والذود عنها. نرى تلك المبادىء تتوهّج من فيوضات المعرفة الإنسانية الحقة. ونجزم هنا أنّ الثوار الشهداء أحياءٌ في ضمائرنا، دماؤهم وتضحياتهم تغذّي أسس الحضارة .

من هنا ننطلق في الحديث عن استلهام الفكر والأدب المعاصرين لثورة الإمام الحسين (ع) على أرض الطف في كربلاء المقدسة، هي الثورة الإصلاحية الأولى في التاريخ العربي والإسلامي، حين قال الإمام الثائر قولته الكبيرة، التي ظلّت ترنّ أصداؤها على مدى ألف وأربعمئة عام، ولمّا تظلّ تتصادى في أرجاء المعمورة " والله إنّي ما خرجت أشِراً ولا بطِراً ولا ظالماً ولا مفسداً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في اُمّة جدّي، لآمر بالمعروف وأنهى عن المنكر".

أثرها في الفكر الإنساني

ومن ذلك ما قاله مفكرون أجانب في الخلود الأبدي للإمام الحسين (ع) وثورته ضد الظلم والطغيان، ومن أجل مقاصده الروحية والإنسانية في إعلاء كلمة الحق وإزهاق الباطل.

الفيلسوف والمؤرخ الإنجليزي توماس كارليل، يتحدّث عن الدرس الحسيني الكبير للإنسانية جمعاء، وكيف أنّ الفئة القليلة تهزم الفئة الكبيرة بعلوّ إيمانها بالحق وانتصاره الحتمي على الباطل، إذ قال" أسمى درس نتعلمه من مأساة كربلاء هو أنّ الحسين وأنصاره كان لهم إيمانٌ راسخٌ بالله، وقد أثبتوا بعملهم ذاك أنّ التفوق العددي لا أهمية له حين المواجهة بين الحقّ والباطل والذي أثار دهشتي هو انتصار الحسين رغم قلّة الفئة التي كانت معه". وعلى ذلك يوثّق المسترق الأميركي غوستاف غرونييام، بأنّ واقعة الطف باتت واقعةً أممية، استشهد فيها وأصحابه، خالقاً أثراً ثورياً لم تصنعه أيّة شخصيّةٌ إسلاميّةٌ أخرى منذ ألف وأربعمئة عام، فيذكر" الكتب المُؤلّفة في مقتل الحسين تعبّر عن عواطف وانفعالاتٍ طالما خبرتها بنفس العنف أجيالٌ من الناس قبل ذلك بقرونٍ عديدة. إنّ واقعة كربلاء ذات أهميةٍ كونيّة، فلقد أثّرت الصورة المحزنة لمقتل الحسين الرجل النبيل الشجاع في المسلمين تأثيراً لم تبلغه أيّة شخصيةٌ مسلمةٌ أخرى". وتلك العبارة الثورية التي قالها عالم الآثار الانكليزي وليم لوفتس، بأنّ ما قام به الحسين (ع)يمثل أروع مآثر الاستشهاد في سبيل الحق والصلاح " قدّم الحسين بن علي أبلغ شهادةٍ في تاريخ الإنسانية، وارتفع بمأساته إلى مستوى البطولة الفذة".

وعلى هذا النحو، وأبعد من ذلك، كتب كبار مفكّري الغرب ومستشرقيه، من الألمان والفرنسيين والانكليز والأميركان؛ كارل بروكلمان، وإنطون بارا، ولويس ماسينيون، وادوار دبروان، صابرينا ليون ميرفن، وفيليب حتي وغيرهم.

استثمارٌ أدبي

شأنه شأن نخبة الثوار الشهداء في العالم قديماً وحاضراً، لايزال استثمار واقعة استشهاد الإمام الحسين(ع) يتجدّد في الأدب المعاصر. فهو من الذين ربحوا الخلود الإنساني. توّجوا مبادئهم الثورية على المدى الطويل، على صراط القيم الخيّرة . هم نخبةٌ في كلّ زمانٍ ومكان، همُ الخلاصة الحقيقية لكلِّ عصر.

من فضائل ثوار العالم وشهدائه إنّنا نستدعيهم عناصر قوةٍ وجمالٍ وعدالة، كلما حلّت بنا المكاره والشدائد، ومن رذائل طغاة العالم إنّنا نلعنهم وندعو ونعمل إلى أن يؤول إلى مصائرهم ذاتها، كلّ من يستبدّ الآن في أرجاء المعمورة. يستجير المفكرون والأدباء والفنانون، بشهداء الكلمة وثوّار الواقع، ويستنهضون مواطني زمنهم من أجل استمرار ديناميّة الثورة.

القصائد الخوالد لا تموت أبد الدهر، لا سيّما إذا كانت عن رجالٍ عظام، لهم بصماتهم في تاريخ النضال الإنساني ضد الباطل والظلم والزّيف، مشيرين هنا إلى عينية شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري، تلك العينية التي كتبت خمسة عشر بيتاً منها بالذهب على الباب الرئيس الذي يؤدي إلى الرواق الحسيني في مرقد الإمام الحسين(ع) في كربلاء، لمهابة معانيها وتوظيفها الوقوف المقدّس في حضرة سيّد الشهداء، فاجتمعت هنا جزالة المفردات وقوّة المعاني والأنوار القدسيّة وضوع الجنان، والخلود الأبدي لواقعة الطف، والدعاء بأن تكون أرض الشهادة خيراً ونماءً لأنّها تحتضن أعظم الشهداء:

فِدَاءً لمثواكَ من مَضْــجَعِ

تَنَـوَّرَ بالأبلَـجِ الأروَعِ

*

بأعبقَ من نَفحاتِ الجِنـانِ

رُوْحَاً ومن مِسْكِها أَضْـوَعِ

*

وَرَعْيَاً ليومِكَ يومِ "الطُّفوف"

وسَقْيَاً لأرضِكَ مِن مَصْـرَعِ

كما وظّف أشهر الشعراء العرب المعاصرين أدونيس الثورة الحسينية في عديد قصائده، مبرزاً أنّ مفاصل القسوة والهمجيّة في قتل الإمام الحسين(ع)، تنبت ضديدها النقيّ المشرق المغذّي للأمل البشري في حياةٍ حرّةٍ كريمة:

"حينما استقرّتِ الرماح في جسم الحسين/ وازّيّنتْ بجسد الحسين/ وداستِ الخيول كلّ نقطة في جسد الحسين/ واستلبتْ، وقسّمتْ ملابس الحسين/ رأيتُ كلَّ حجرٍ يحنو على الحسين/ رأيتُ كلَّ زهرةٍ تنام عند كتف الحسين/ رأيتُ كلَّ نهرٍ يسيرُ في جنازة الحسين".

عديد الشعراء العرب الكبار من مختلف أنحاء العالم العربي، ثوّروا في قصائدهم قضية الحسين، وتراها تصبُّ في تخليد مكان الفاجعة، كربلاء المقدسة، حيث ينشد الشاعر اليمني الراحل عبد العزيز المقالح لهذه المدينة الطهور، بوصفها بؤرة انطلاق الثورة ضدّ الشرّ منذ الأزل:

"نحن من كربلاء التي لا تخون

ومن كربلاء التي لا تخون وُلدنا

ومن دم أشجارها خرجتْ للظهيرة أسماؤنا

منذ موت الحسين

مدينتنا لا تصدّر غير النجوم

ولا تصطفي غير رأسٍ تتوّجهُ

بالنّهــــار الشّـــهادة

وتغسلهُ بالدماء العيون الجريحة" .

لقد وظّف شعراء مسيحيون قضية الحسين، إسوةً بنظرائهمِ المسلمين، لأنّ القضيّة بمعانيها الكبرى عابرةٌ للأديان والقوميات، على سبيل المثال، الشاعر اللبناني الراحل جوزيف حرب، إذ تستنهض قصيدته مظلوميّة الحسين وتقاربها مع مظلوميّات الأنبياء والرسل واضطهادهم من قبل أقوامهم، حين يبشّرون بقيم التوحيد والعدل وإحقاق الحق:

"هناك تداخلٌ حتى الذوبان بين راس المسيح بعد الصلب ورأس الحسين بعد القطع.

بين رأس يوحنا على طبق ورأس الحسين على رمح .

بين خيل العطش على الصليب وملح العطش في عاشوراء .

بين زينبيّات الحسين ومريمات المسيح.

وأن الذين رغبوا إلى اقتسام ثياب المسيح على الجلجلة هم أنفسهم الذين رغبوا إلى اقتسام ثياب الحسين في كربلاء .

وأنّ الشهوات التي في أعماق هيرودس هي ذاتها الشهوات في أعماق يزيد.

وأنّ الراقصة التي طالبت بقطع رأس يوحنا هي ذاتها الدولة التي طالبت بقطع رأس الحسين" .

وغير ذلك تناصَّ شعراء آخرون مع إضاءات الثورة الحسينية، وخلودها في ذاكرة الإنسانية، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر، العراقيون بدر شاكر السياب ومظفر النواب ومصطفى جمال الدين وعبد الرزاق عبد الواحد، والمصريون أحمد عبد المعطي حجازي وأمل دنقل وفاروق جويدة. استلهامات الفكر والأدب لثورة الحسين وشهادته، ينبغي أن تحفّزنا على الإفادة من أفكارها الإنسانية والإصلاحية. دروسٌ كبيرة، علينا التمسّك بجوهرها فقط، فبالجوهر المتجدّد نحترم الإمام الحسين "ع" ونخلّد ثورته.

***

باقر صاحب

عندما نفكر في التصورات المجردة تلتبس بعض المفاهيم، وهو طبيعي إلى حد ما، في الإطار الثقافي الذي لا يفرض سلطة الدقة بالمصطلح كما هو الحال في الإطار العلمي الدقيق، لكن بقدر الإمكان تتم محاولة تحديد المفاهيم على وفق تصورات وانطباعات لا تخلو من المراجعة، ومفهوم الهوية من المفاهيم الفضفاضة ذات السمة النسبية التي تخضع المفهوم إلى تأثير التوجهات الذاتية أحيانا، وهو ما يشكل عقبة ما في طريق تناول هذا المفهوم في جوانبه المختلفة.

وقد تعمدت أن أفرد الهوية من دون إضافة إلى كونها هوية دينية أو سياسية أو اجتماعية أو ثقافية، ذلك أن تلك المسميات لا تعدو كونها عناصر مكوّنة لهوية الإنسان، وفي ظني أن الإنسان لا يمكن أن تتشكل هويته في مجال محدد من دون تداخل بقية المجالات، فلا يمكن أن تتحدد هوية الإنسان بصفته الفردية أو الاجتماعية في قالب ديني فحسب أو سياسي فقط، وإنما تتداخل تلك الأطر فيما بينها لتخلق كيانا يتضمن الهوية ويحدد نمطها وطبيعتها، فالدين أحد أهم عناصر الهوية في مجتمعاتنا كما أن الثقافة أيضا تعد من عناصر بناء الهوية، نعم قد يغلب عنصر عنصرا آخر، وهذا طبيعي إلى حدما، واستثنائي في حالات خاصة، يتم تناولها لاحقا.

ويمكن تحديد الهوية بما لخصه أحد الباحثين في الموضوع بأنها: (أن الهوية تعبر عن كل من الميزات الفارقة والعلامات المميزة التي تمنح الخصوصية وترسم الحدود بين الديموغرافيا البشرية، وعن السقوف الجامعة ومناطات الاشتراك والاتفاق عند جماعة أو أمة ما. وعموما؛ هي مجمل السمات التي تخص عنصرا أو جماعة دون غيرها، والهوية فلسفيا تراكمية فلا توجد هوية الفرد حتى توجد هوية الجماعة والخلفية الجماعية التي يشغل الفرد مخيطا في نسيجها الكبير، ويعبر المنظور الفلسفي عن الهوية على أنها فرصة المطابقة والتشابه والتي تصنع بتظافرها هوية ثقافية لشعب لا يشركه فيها بكل محدداتها شعب آخر وإن اشترك معه ربما في بعضها. وللهوية مكونات أساسية تحدد ملامحها في كل جماعة أو أمة دون غيرها)1، والمشتركات يمكن إجمالها بنوعين من العناصر:

العناصر الثابتة: (اللغة، المكان، الجغرافية، الاقتصاد، التاريخ..)

العناصر المتغيرة: (الدين، المذهب، الثقافة، الوطن، القومية..)

وسبب التمايز ربما يكون نسبيا وضئيلا، لأن التغيير في الفئة الأولى يمكن أن يحدث ولكن بنحو نادر، في حين يطال التغيير –في الغالب- الفئة الثانية، فالصراعات الدينية والمذهبية والسياسة تفضي إلى تحولات في بنية وتكوين الهوية، وهو أحد أبرز تحديات الهوية.

ويمكن تحديد إشكالية الموضوع من نواحٍ عدة:

أولا: صراع الهويات، رغم تداخلها، فالهوية الوطنية يمكن أن تصطدم بالهوية القومية أو الدينية.

ثانيا: مخاوف التبديد، وهو ما يشكل هاجس الهوية المفقودة، وضمور المسمى الثقافي للإنسان، وتلاشي أصالته التي تشير إلى تاريخه وتراثه ومصادر قوته تجاه المجتمعات المباينة.

ثالثا: منعطفات التجديد، وهو ما يطرأ على الهوية من إضافات بنيوية إما بنحو من التراكم التاريخي، او التأثير القسري، وكلاهما محل اختلاف واسع.

يبدأ هذا صراع الهويات من إشكالية تحديد الهوية، وغالبا ما يتم تناول الهوية الوطنية والتي تمثل المحك الحقيقي لصراع الهويات، إذ تتجلى فيها أوجه الصراع بين الدين والعلمانية، وبقية الانتماءات القومية والقبلية، ومدى أولوية كل منها على الآخر، لذلك نجد أن الهوية الوطنية تتبدد وتذوب في الجوانب الدينية أو القبلية أو غيرها من الأطر التي تشكل هوية الإنسان.

في الشرق الأوسط تحول الصراع من صراع ديني قومي، إلى صراع ديني علماني، وكلا النمطين من الصراع يؤثر بنحو بالغ في رسم معالم هوية الإنسان، بين كونه مسلما أو عربيا، أو علمانيا، مما ينعكس على الأوضاع السياسية، ومن الطبيعي أن تلعب السياسة دورا واضحا في ذلك الصراع كما أنها تتأثر به في الوقت نفسه، يتحول صراع الهويات إلى هاجس من المخاوف التي تسكن عقول النخب السياسية والثقافية على حد سواء، وتدفع تلك المخاوف إلى خلق أزمات سياسية على مستوى دولي ومحلي في مختلف البلدان.

وتلك المخاوف تقف حاجزا منيعا أمام أي محاولة للتجديد، فالتطور سنة كونية، تجري على الفرد والمجتمع، وغالبا ما تحدث منعطفات في تشكل هوية الإنسان/المجتمع/ الأمة، وهو ما يمثل فضاءً خصبا للنقاش والحوار الفكري الذي يتحول أحيانا إلى صراعات وحروب باردة.

وقد أثرت العولمة في أواخر القرن العشرين في تعميق المخاوف حول الهوية، فالنموذج الغربي حاول أن يعمم نماذجه الجاهزة في شتى بقاع العالم، نتيجة لتسليمه بأن النموذج الغربي يعد نموذجا نهائيا إلى حد ما، ويمكن تصديره إلى الأمم الأخرى، مما أنتج صراعا جديدا بين الهويات الراسخة والهويات الوافدة، وامتد ذلك في ميادين التفكير في العالم العربي وعلى صلة متينة بسؤال النهضة، وما افرزه من قراءات ومدونات طيلة نص قرن مضى.

من المشكلات الرئيسة في هذا المجال هي ثنائية التحديات، فالتحديات التي تواجه الهوية على صعيدين:

الأول: صراعات داخل الهوية، والمتمثل بصراع العناصر والمكونات، ومحاولات التغليب بين مكون الدين والعرق والقومية والقبلية وغيرها.

الثاني: صراع خارج الهوية، والمتمثل بصراع الوجود، أمام موانع الاستمرار، فالعولمة بددت كثيرا من الخصوصيات، الدينية والثقافية والقومية..، والهوية تختزل خصوصيات بالغة الأهمية لأي أمة، أو مجتمع، والعلمانية من جهة أخرى تحاول فرض هوية أعلى وأشمل، تحت مسمى الإنسان، وهنا يكمن صراع بمسحات واسعة ومتنوعة، فلم تكتف العلمانية مثلا بفصل الدين عن السياسة، كما هو رائج، بل يمكن استحضار كثير من الشواهد على فصل الحياة عن كل الخصوصيات الدينية والثقافية ومحاولة تعميم نماذجها الغربية الجاهزة، كما فصل في ذلك المفكر الراحل عبد الوهاب المسيري في نقده للعلمانية الغربية.

ومن ناحية أخرى فإن ازدواج النظر إلى الهوية بين كونها وسيلة أو غاية، وعلى كلا الفرضين ثمة إشكاليات متفرعة، فيمكن أن توظف الهوية سياسيا، مما يفضي إلى تبديدها بنحو تدريجي، كما في توظيف العقائد الدينية في الصراعات السياسية التي من شأنها أن تضعف الهوية الدينية، من خلال النتائج العكسية التي يفضي إليها الفعل السياسي من خلال توظيفه السيء للعقائد الدينية.

كما أن الخوض في وسائل شتى لتحقيق الهوية كغاية، يفضي إلى تبديدها أيضا، وهنا ربما لا يسع المجال إلى الخوض في تفاصيل كلا النمطين، لكن المهم هو كيفية تفادي تلك المخاوف، وهو ما يستدعي السعي إلى ضم المشتركات في عنوان جامع تتجلى فيه الهوية والنأي به عن مختلف الصراعات السياسية والثقافية، ولا يتسنى ذلك مالم يتم التعاطي مع الموضوع بنحو من الواقعية، والاعتراف بمساحات التنوع والاختلاف.

إن الوعي السياسي الذي يقود إلى وعي مجتمعي ناضج من شأنه أن يبرز عناصر الهوية بنحو من العقلانية بعيدا عن التطرف المفضي إلى الصراع الذي من شانه أن يعمق فرص التبديد وفقدان الهوية.

تمثل الهوية الجامعة إرثا حضارية أو ثقافيا هاما للأجيال اللاحقة، وهذا يستدعي رؤى استراتيجية من خلال مراكز أبحاث مختصة تسعى إلى تحقيق الأمن الفكري، من خلال رسم معالم لسلم الأوليات في البنى التي تتشكل منها الهوية، ولا يمكن التفريط بأي عنصر من عناصر الهوية مهما تعددت وتنوعت الثقافات والانتماءات، ويتحقق ذلك بأنحاء عدة:

الأول: العمل  والسعي من خلال المبادرات الجادة على مستوى السلطات والمؤسسات العلمية، والبدء بنحو استباقي.

الثاني: الاستفادة  من التجارب، والتراكم التاريخي، الذي تنتجه الأحداث علو مستوى المكاسب والخسائر عبر الزمن، مما يجعل المجتمع بشتى صنوفه مرغما على الاستجابة إلى متطلبات الهوية، وسبل حفظها وتطويرها، عبر استجلاء الخصائص والسمات الأصيلة في المجتمع، واستثمار الجديد مما يفرزه الحاضر من سمات إيجابية ممكن أن يتصف بها المجتمع.

الثالث: كبح جماح التغليب، لأي عنصر على آخر، فلايمكن أن تنحصر الهوية على وفق الانتماء الديني أو القومي أو الطائفي أو القبلي..، ومحاولة الموازنة بين تلك الثنائيات دعما باتجاه الموائمة فيما بنها، وترتيبها طوليا بنحو لا يستدعي التعارض كما لو كان ترتيبها عرضيا، فالانتماء للقبيلة يأتي في طول الانتماء للقومية، والانتماء للقومية يأتي في سياق الانتماء للدين، مما يحقق نوعا من التوازن.

الرابع: تجنب التطرف والغلو، على مستوى الدين أو المذهب، وحتى الانتماءات القومية والثقافية، فالتعصب غالبا ما تكون نتائجه عكسية، في مختلف المجالات.

وثمة مداخل أخرى للموضوع تستدعي بحثا موسعا، وبهذا القدر يمكن أن تشكل هذه الورقة مدخلا أوليا، على أمل أن يتبع بمساحات معرفية أوسع.

***

د. أسعد عبد الرزاق الاسدي

......................

- ظ: علي محمد الصلابي، الهوية الوطنية ركن من أركان الدولة الحديثة المسلمة، مقال/موقع الجزيرة

 

في جلسة يوم الثلاثاء 31 – 10-2017 جرى التصويت المبدئي على مشروع تعديل قانون الأحوال الشخصية رقم 88/1959 بالبديل " مشروع قانون الأحوال الشخصية الجعفري " وأرسل إلى مجلس شورى الدولة ثم يرسل إلى مجلس الوزراء لأقراره، وكان تحدياً للرأي العام الشعبي العراقي الرافض لهذا المشروع القابل للجدل وكذلك أعتُبر أهانة للحراك الجماهيري الرافض لمثل هذه المشاريع المأزومة، كقانون الأحوال الشخصية الجديد والذي بمثابتة رصاصة رحمة إلى ماتبقى للحياة المدنية، والعودة للطائفية بجريمة مشرعنة، والظاهر هناك وراء أثارة هذا المشروع الطائفي ثانية الذي رُفض في الطرح السابق جملة وتفصيلاً والأنتخابات قريبة فالجهات الراعية للمشروع الجديد أعتبروها مادة أجتماعية ذات طابع ديني تطرح في الأعلانات الأنتخابية بديماغوجية دعائية سمجة بغية تحويل مسار توجهات الناخبين، وبالمناسبة قد كتبتُ في هذا الموضوع مقالة موسومة (المرأة في أسر العبودية المعاصرة) بتأريخ 8-3-2015 لأهمية هذا الحدث الجلل في حياة المجتمع العراقي.

من عيوب القانون الجديد وتداعياته: أنهُ يمنح رجال الدين في الأوقاف الدينية سلطة مطلقة في التحكم بتزويج الفتيات القاصرات بعمر 9-13 وربما سيتجاوز الأمر وفق هذا التكييف القانوني تزويج فتيات بعمر 7سنوات، حيث ينص القانون في المادة 16 سن البلوغ 9 سنوات هلالية للبنت و15 سنة هلالية للولد (حسب الظرف المناخي المداري للعراق)، ويجبر القانون الزوجة على السكن مع أهل زوجها وهي نكسة لمكتسبات المرأة العراقية التي حصلت عليها قبل نصف قرن بفاتورات سجن وأعتقال وفصل من الوظيفة، فالقانون (نكسة للمرأة العراقية) لأرجاعها لعصر الجواري والجاهلية وحريم السلطان، ولكل فرد يرجع إلى دينه أو مذهبه في تطبيق الأحوال المدنية، وربما تطالب المذاهب الأخرى بقانون أحوال يمثلهم، لذا رأت منظمة هيومن رايتس أن القانون يغذي الطائفية، فالقانون وتكريساً لها، وعند التطبيق يتجاوز السلطة القضائية وهي أضعاف للفصل بين السلطات، وهو أهانة لملف حقوق النسان المنصوص في المواثيق الأممية، ويتعارض مع مباديء الديمقراطية في خرق الدستور في مادته 2 أولاً (ج) التي تنص على أنهُ لا يجوز سن قانون يتعارض مع الحقوق والحريات الأساسية الواردة في الدستور العراقي، ويشكل مخالفة صريحة لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 1325 المتعلق بتعديل التشريعات التميزية ضد المرأة والذي يؤكد على المساواة بين الجنسين، ثم لم يلتفت إلى مكونات الشعب العراقي ليس فقط من نواحي الطائفة بل هناك ديانات وطوائف أخرى، وبالتالي فهو مسعى آخر لتكريس الأنقسام الأجتماعي في العراق وتعزيز الطائفية و(شرعنتها) بالقانون، وهو أنتهاك خطير لحقوق الأنسان وحقوق المرأة بالذات، والكارثة الكبرى القانون الجديد ألتزم (الصمت) المطبق أزاء جرائم الشرف وختان البنات وتأجير الأرحام للحصول على الأم البديل.

وهي محاولة للألتفاف على قانون رقم 88/ 59 الذي كان عاملا مساعدا على التقارب بين الطوائف المذهبية وجسور تفاهم بين فقهاء تلك المذاهب، والذي يعتبر أهم أنجازات ثورة تموز 1958 على الصعيد الأجتماعي والذي يعتبر من أكثر القوانين عدالة ورقياً وتمدناً في المنطقة، لكون جميع فقراته جاءت مطابقة في المشتركات الفقهية المتفق عليها بينهم، فكان القانون المذكور حقاً ضد التحكم الذكوري، وفك عزلة المرأة وكسر قيودها ومحو ما أدينت بها من تعسف وظلم (قبرك دارك.. واجباتك مربية مرضعة خادمة توفري الحق الشرعي للرجل في المتعة الجنسية)، وجمع القانون 88/59 أهم الأحكام الشرعية المتفق عليها في الزواج والطلاق والأرث والتبني، فأعطى الحق لكلا الزوجين في طلب التفريق عند أستحالة العيش معاً.

أخيرا / .. أن مجتمعاتنا بحاجة إلى تحرك سوسيولوجي جمعي لأزاحة الرواسب القبلية ومحو الذكورية السائدة واللحاق بالأمم المتقدمة في عالم العصرنة الحداثوية المتسارع، وتقع مسؤولية التصدي لمثل هذه القمبلة الصوتية العدوانية البغيضة على عاتق الشعب العراقي من اليساريين والديمقراطيين ومنظمات حقوق الأنسان والمجتمع المدني في تثقيف وتنوير المجتمع العراقي بسلبيات وتداعيات هذا القانون المجحف والمستلب لشرائح المجتمع العراقي بالخصوص حقوق المرأة والطفل في العراق.

***

عبد الجبار نوري

كاتب عراقي مقيم في السويد

أكتوبر - 2017

 

هل توفر الأعمال الفنية التي تتنبأ بالمستقبل فكرة عن طبيعة الإبداع؟

بقلم: إريك وارجو

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

كان فيكتور براونر رسامًا رومانياً عاش في باريس في ذروة السريالية. خلال أوائل ومنتصف ثلاثينيات القرن العشرين، أصبح مهووسًا بموضوع العمى، ورسم عدة صور حيث كانت إحدى عينيه عمياء أو مخوزقة، بدءًا من صورة شخصية عام 1930 بعين منزوعة النواة. بعد ثماني سنوات من رسم هذه الصورة الذاتية الشبحية والغريبة، توسط براونر لفض شجار بين زميلين من الرسامين، أوسكار دومينجيز وإستيبان فرانسيس. ألقى دومينجيز كأسًا على فرانسيس لكنه أخطأ، وضرب براونر في عينه اليسرى بدلاً من ذلك، مما تركه أعمى في تلك العين بقية حياته. وغني عن القول إنها كانت نقطة تحول كبيرة، بل وكارثية، في حياة هذا الفنان ومسيرته المهنية، والتي تنبأ بها "بشكل غريب" في أعماله على مدار ما يقرب من عقد من الزمن.

وكان هناك شيء مماثل صحيح، بل وأكثر مأساوية، بالنسبة للنحات الأمريكي من أصل جامايكي مايكل رولاندو ريتشاردز. في السنوات التي سبقت الألفية، ابتكر ريتشاردز مجموعة رائعة من الأعمال باستخدام زخارف الطائرات التي تتحطم وتتصادم والأشخاص الذين يسقطون من السماء. عبّرت أعماله عن الإحباطات التي عاشها كفنان أسود مكافح في عالم الفن في نيويورك الذي يهيمن عليه البيض. أشهر أعماله هي صورة ذاتية منحوتة عام 1999 تسمى Tar Baby vs. St. Sebastian (أدناه): جسده الذهبي البرونزي، في بدلة الطيران الخاصة بطيار توسكيجي، يقف منتصبًا ويرتفع عن الأرض، وجذعه مخوزقة من قبل العديد من الطائرات. إنه تمثال مذهل حتى لو كنت لا تعلم أن الفنان قُتل في الاستوديو الخاص به في الطابق 92 من البرج الأول في 11 سبتمبر - استشهد حرفيًا بالطائرات، إلى جانب 2800 شخص آخر كانوا قد بدأوا يوم عملهم في مركز التجارة العالمي فى ذلك اليوم.108 art

"قطران بيبي ضد سانت سيباستيان" - للنحات مايكل ريتشاردز. مجموعة من متحف نورث كارولينا للفنون.

يدرك العديد من محبي المخرج الروسي أندريه تاركوفسكي أن تحفة الخيال العلمي التي قدمها عام 1979 بعنوان "المطارد" أنذرت بشكل غريب بكارثة تشيرنوبيل التي أخلت المنطقة المحيطة ببريبيات في أوكرانيا السوفيتية بعد 7 سنوات. يدور الفيلم حول رحلة محفوفة بالمخاطر إلى منطقة مدمرة نشأت في وقت ما في الماضي بسبب "انهيار في المخبأ الرابع" غير محدد. بدأت كارثة تشيرنوبيل بانهيار المفاعل رقم أربعة في محطة توليد الكهرباء، وأنتجت "منطقة الحظر" التي أصبحت تبدو تمامًا مثل المناظر الطبيعية المدمرة في إستونيا حيث تم إطلاق النار على ستوكر. "الملاحقون" الشباب، على غرار الحارس في فيلم تاركوفسكي، يقودون الآن العملاء الذين يدفعون إلى المنطقة المشعة حول بريبيات من أجل الإثارة.

ما هو أقل شهرة هو أن تصوير اللقطات الخارجية لـ Stalker في اتجاه مجرى النهر من مصنع كيميائي أدى إلى الوفاة المبكرة لنجم تاركوفسكي أناتولي سولونيتسين بسرطان الرئة في عام 1982 (كان عمره 47 عامًا فقط)، وبعد ذلك بعامين، في وفاة تاركوفسكي نفسه. من نفس سرطان الرئة الذي لا يمكن تفسيره (لم يكن مدخنًا). يحتوي Stalker على نبوءات غريبة عن هذه المأساة المزدوجة، بما في ذلك قصة عن مطارد رئيسي يُدعى "Porcupine" قاد شقيقه إلى وفاته في المنطقة ثم قتل نفسه بسبب الشعور بالذنب. تنذر أفلام المخرج الغامض الأخرى بالمأساة أيضًا. تم تصور فيلمه الأخير، "التضحية"، في الأصل (قبل وقت طويل من مرض سولونيتسين، ناهيك عن مرضه) كقصة عن فنان يحاول بطريقة سحرية إنقاذ حياته بعد تشخيص إصابته بالسرطان في مراحله النهائية. (في النسخة النهائية، غيّر تاركوفسكي التهديد الوجودي الذي يمثله هرمجدون النووي).

معظم الأمثلة على هذا النوع تأتي من الكتاب، وذلك بفضل ميلهم إلى ترك أثر ورقي كثيف لحياتهم مع أعمالهم. كتب فيليب ك. ديك العديد من القصص والروايات التي توقعت الميمات الثقافية في المستقبل القريب، أو نقاط تحول فريدة في حياته الخاصة، أو مجرد مقالات حول موضوعات مقصورة على فئة معينة كان سيقرأها قريبًا في المجلات. على سبيل المثال، في عام 1962 كتب رواية عن المهندسين ورجال الأعمال الذين قاموا ببناء الروبوت أبراهام لينكولن؛ لم يكن أي ناشر مهتمًا، ولكن بعد عامين كشفت ديزني، وسط ضجة كبيرة، عن فيلمها الكرتوني أبراهام لنكولن. حدث هذا النوع من الأشياء كثيرًا في حياة ديك لدرجة أنه أصبح يعتقد أنه كان "متخيلًا" مباشرة من قصته الكلاسيكية المبكرة "تقرير الأقلية" التي تدور حول وحدة شرطة مثيرة للجدل تستخدم الوسطاء للكشف عن الجرائم ومنعها قبل حدوثها.

أشهر مثال على النبوءة الأدبية المزعومة هو رواية مورجان روبرتسون "العبث" الصادرة عام 1898، والتي تتحدث عن أكبر سفينة محيطية تم بناؤها على الإطلاق، تيتان، التي اصطدمت بجبل جليدي في إحدى ليالي أبريل في شمال المحيط الأطلسي، حيث يموت معظم الركاب بسبب عدم توفر سوى عدد قليل جدًا من قوارب النجاة. كما واجهت سفينة تايتانيك المتطابقة تقريبًا نفس المصير بعد 14 عامًا في إحدى ليالي شهر أبريل. لكن من الشائع في الروايات التنبؤ بالكارثة. إذا كنت كبيرًا في السن، فقد تتذكر أيضًا الضجة الإعلامية القصيرة التي أحاطت برواية دون ديليلو "الضوضاء البيضاء" لعام 1985، حول "حدث سام محمول جواً" أدى إلى إخلاء مدينة جامعية. قبل شهر واحد فقط من نشرها (على الرغم من أنه بعد بضعة أشهر من كتابة الرواية)، وقع حادث في مصنع يونيون كاربايد في بوبال، الهند، وأطلق سحابة سامة أدت إلى مقتل 8000 شخص - ولا يزال أكبر حادث صناعي على الإطلاق (أكبر حتى من حادث تشيرنوبيل).

ربما يكون من الأسهل تجاهل أو رفض مثل هذه المصادفات الظاهرة عندما تأتي من خيال علمي منخفض المستوى (ديك وروبرتسون) أو حتى من موجة ما بعد الحداثة (ديليلو) ولكن ماذا يحدث عندما يحدث هذا للكتاب الحقيقيين، أي "العظماء"؟

لا أجد فكرة مقنعة جدًا بأن فرانز كافكا تنبأ بالصعود النهائي للشمولية والمحرقة في رواياته مثل المحاكمة - وأنا أتفق مع معظم كتاب السيرة الذاتية في اعتقادهم أنه كان يصف حقًا سخافات دولة المراقبة البيروقراطية التي عاش فيها بالفعل، إمبراطورية هابسبورج في سنواتها الأخيرة. لكن كاتب براغ كان معتادًا على كتابة مستقبله في رواياته. على سبيل المثال، يصور مشهد الذروة في قصته الملهمة "الحكم" بدقة خارقة مواجهة حقيقية مع والده بعد عدة سنوات، بعد أن تقدم بسرعة كبيرة لخطبة فتاة يهودية تشيكية من الطبقة الدنيا (جولي ووريزيك) لم يوافق والداه عليها.

مما لا شك فيه أنه بسبب ذلك الأب النرجسي المسيء، كانت لدى كافكا علاقة فكرية قوية بين الحب والكراهية مع أفكار فرويد التي حظيت بشعبية كبيرة آنذاك، كما كتب أيضًا قصصًا بدت وكأنها "تسرق" كتابات المحلل النفسي الفييني التي لم تُنشر بعد. وفي أكثر من قصة من قصصه – "المسخ" و"فنان الجوع" – وصف كافكا أبطال الرواية يموتون جوعا، وهو بالضبط كيف مات هو نفسه في نهاية المطاف في مصحة نمساوية في عام 1924: مرض السل الذي تم تشخيص إصابته به في عام 1917. وعادة ما يؤثر بشكل رئيسي على الرئتين ويؤدي إلى وفاة غير مؤلمة نسبيا، لكن العدوى انتشرت بشكل غير متوقع إلى حلقه في أشهره الأخيرة. لقد كان يتضور جوعا حتى الموت في اليوم الأخير من حياته، لقد كان يتضور جوعا حتى الموت في اليوم الأخير من حياته، بينما كان يصحح بروفات "فنان الجوع"، وكان يبكي من السخرية الحزينة المستحيلة للحقيقة.

حدث هذا النوع من الأشياء لفيرجينيا وولف الإنجليزية المعاصرة لكافكا أيضًا. على سبيل المثال، أمضت صيف عام 1922 في كتابة وصقل قصة قصيرة بعنوان " السّيدة. دالواي في شارع بوند" حول نسخة خيالية لصديقة عائلة من المجتمع الراقي تُدعى كيتي ماكس، والتي لم ترها منذ سنوات.. كانت وولف منشغلة جدًا بهذه الشخصية لدرجة أنها قررت فور الانتهاء من القصة تحويلها إلى رواية. فكرت في البداية في تسميتها "الساعات"، وكانت فكرتها هي أن شخصية ماكسي، كلاريسا دالواي، إما أن تنتحر في النهاية أو تعلم بحدوث انتحار لشخص آخر. في نفس اليوم الذي بدأت فيه وولف صياغة الفصل الثاني مما أصبح في النهاية واحدة من روائعها، ماتت السيدة دالواي، السيدة دالواي الحقيقية، كيتي ماكس، بعد سقوطها على درابزين منزلها والذي كان على الأرجح متعمدًا. كتبت وولف في مذكراتها كيف أصيبت بنوع من الشلل الذهول عندما قرأت هذه المصادفة المأساوية التي لا تصدق.

عادة ما يتم رفض الادعاء بأن الفنانين والكتاب يتنبئون في بعض الأحيان بحجة أن الناس سيئون للغاية في تقييم الاحتمالات – في عالم أكبر (بما في ذلك عالم الفن والأدب الأكبر)، تحدث المصادفات، وهي تبرز من بين مجموعة الأشياء هذه ليست من قبيل الصدفة. ومع ذلك، كما أحاول أن أبين في كتابي الجديد من لا مكان، فإن الوجود المطلق لأمثلة هذه الظاهرة يقوض "قانون الأعداد الكبيرة" الذي وضعه الإحصائيون. تمامًا كما تمت كتابة الكتب بالكامل بناءً على إدراك ديك المسبق، فقد تم تأليف كتب تجمع العديد والعديد من النبوءات الغريبة عن أحداث 11 سبتمبر وكارثة تيتانيك. تلقى مئات أو آلاف الأشخاص هذه الأخبار الوشيكة وقاموا على ما يبدو بدمجها في فنهم (ناهيك عن أحلامهم) قبل أشهر وسنوات. وكان من المفترض أن تكون تلك "الأعداد الكبيرة" في المقام، ولكن عندما تم النظر في الموضوع بموضوعية، تبين أنها موجودة بالفعل في البسط.

الواحد فى المئة:

كتابي الذي اشتريته مؤخرًا هو "العمل الفني" لآدم موس، وهو عبارة عن مجموعة سميكة ومصممة بشكل جميل من المقابلات مع فنانين حول عمليتهم الإبداعية، مكتملة بالرسومات التخطيطية والدفاتر والشطب والكلمات المحذوفة. إنه يخدش أقدم حكة فكرية وجمالية. أحب دفاتر ملاحظات الكتّاب ورسومات الفنانين أكثر بكثير من المنتج النهائي. أنا من النوع الذي يلتهم السير الذاتية للروائيين حتى لو لم أقرأ حتى رواياتهم. بطريقة ما، يعد كتاب موس بمثابة احتفال بـ "العرق" الذي ادعى توماس إديسون أنه الجزء الأكبر (99 بالمائة) من العبقرية - كل عملية صنع النقانق التي تقف بين البذرة الأولية لفكرة والمنتج النهائي في نهاية المطاف. الأشياء التي يحاول الفنانون عادةً إخفاءها. العنوان الفرعي هو "كيف يأتي شيء من لا شيء".

يبدأ المحرر السابق لمجلة نيويورك ومجلة نيويورك تايمز، موس كتابه بالاعتراف بمرح بنهجه "العلماني" في الإبداع، متجنبًا الأعمال المغرية والغامضة للإلهام، ذلك الجزء الآخر الذي يمثل 1 %.يقول: "الفكر عندما بدأت بالتساؤل عما إذا كان بإمكاني تجريد الإبداع من رومانسيته وتقسيمه إلى أجزاء منفصلة وملموسة، هل يمكن أن يساعدني ذلك (ويساعدك) في رؤية الفن كمنتج عمل، أو عملية عقلية منظمة؟ » عنوان موس، العمل الفني، له معنى مزدوج.

إنه على حق إلى حد ما: من المفيد، خاصة بالنسبة لشخص يتعلم حرفة ما لأول مرة، أن يرى كيف يحول المبدعون الآخرون الأكثر رسوخًا أفكارهم إلى واقع ملموس.* ولكن إذا شعر موس أنه يحاول أن يكون جديدًا أو أصليا بتأليف كتاب عن الإبداع الذي يتجاوز الإلهام، فلدي أخبار سيئة له. الفكرة الكبيرة لدى كل من يكتب عن الإبداع تقريبًا - حرفيًا، على مدى القرنين الماضيين - هي أن الأمر كله يتعلق بالعرق والعمل. من حسن الحظ أن  قراءة أي كتاب عن علم الإبداع لا يختزل الإلهام إلى قصص بيولوجية عصبية حول كيفية تجديد الدماغ لنفسه. من حسن الحظ أن قراءة سيرة فنان عظيم لا تخفف من أوصاف لحظاته الملهمة، وبدلاً من ذلك تسلط الضوء على جميع الطرق التي كانت فريدة من نوعها حقًا (أي تتبع تأثيراته، والكثير من الأعمال التي تعرضت لانتقادات)، وتحد من خياله الإبداعي. لدوافع غير واعية، أو يركز على سياقاتهم وارتباطاتهم الاجتماعية. الإلهام، وخاصة الإلهي أو ما وراء الفراغ، لا يتناسب مع إحداثيات علم التنوير أو علم النفس أو التفكير الأكاديمي الجاد.

هذه نظرة مشوهة لأعظم هدية للبشرية. إنها تعكس، في الواقع، بالضبط التحيز الذي يهيمن على الأكاديمية ما بعد الحداثة، والذي يلخصه صديقي جيفري ج. كريبال بقول: "يجب أن تكون الحقيقة محبطة". كريبال يشغل كرسي ج. نيوتن ريزور في الفلسفة والفكر الديني في جامعة رايس، وهو مؤلف لعدة كتب حول ما يسميه "المستحيل" - أي التجارب الصوفية والظواهر الخارقة للطبيعة التي غالبًا ما تُوصم والتي تقف في قلب التقاليد الدينية والتيارات الثقافية الأخرى. في كتبه الحديثة مثل "العلوم الإنسانية الخارقة"، يتصور كريبال أكاديمية متجددة تأخذ التجارب المستحيلة كحقائق حقيقية للحياة الفردية والاجتماعية.

أعتقد أن الإلهام الإبداعي هو واحدة من تلك التجارب المستحيلة. تشير تلك القصص عن النبوءات المذهلة الناشئة عن اللحظات الملهمة للفنانين إلى شيء أكثر إثارة للاهتمام وعمقًا حول الإبداع مما تريدنا معظم الكتابات حول هذا الموضوع أن نصدقه.

سهام الزمن

أتابع الكثير من الكتاب والفنانين والموسيقيين الأقل شهرة على تويتر، ويبدو أنه في كل يوم، يعلق بعض الأشخاص المبدعين في مدونتي حول بعض الطرق المفاجئة التي يكتبون بها أو شيء تم إنشاؤه يتنبأ بأخبار في وقت ما أو بعض التحولات غير المتوقعة في حياتهم الخاصة. منذ أن بدأت البحث في الإدراك المسبق والأحلام التنبؤية منذ أكثر من عقد، تلقيت أيضًا العديد من الرسائل الإلكترونية من الفنانين والكتاب يشاركون قصصًا مشابهة.

في السنة الأخيرة من المدرسة الابتدائية الإنجليزية في عام 1984، على سبيل المثال، طلب معلم كيفن آرتشر من الطلاب كتابة قصة من وجهة نظر سلف خيالي، في فترة تاريخية معينة. كان كيفن دائمًا فضوليًا بشأن أصول لقبه، آرتشر، لذلك كتب عن كونه جنديًا خياليًا في العصور الوسطى. أقتبس من منشور حديث على مدونته:

"كتبت بإسهاب عن معداتي، بما في ذلك سيفي وقوسي وسهامي. كنت أصف بتفصيل شعري غير المغسول، وجلدي المتسخ، وملابسي المهترئة، وكشفت عن العواطف العميقة التي عذبت محاربًا متعبًا ولكنه صامد. رويت أنني قاتلت بشجاعة، وشرحت التكتيكات التي ساعدتنا على الفوز في المعركة ضد جيش أكبر بكثير. اختتمت القصة بالقول إنه كان نتيجة مذهلة وغير متوقعة لدرجة أن الملك هنأني شخصيًا على مهاراتي القتالية؛ ابتسم، وربت على قوسي، وأمرني بتبني لقب 'آرتشر' تكريمًا لهذا الانتصار."

يتذكر كيفن أن معلمه كان معجبًا جدًا بالواقعية الحية لقصته لدرجة أنه التقى بوالدي كيفن واقترح عليهما أن كيفن من المحتمل أن يتجه إلى دراسة التاريخ أو أن يصبح كاتبًا..

وبعد مرور أربعين عامًا، حتى يومنا هذا: أصبح كيفين كاتبا وكذلك رسامًا وأبًا. وبدأت ابنته الصغيرة تتساءل عن تراثها. أثارت فضول ابنته كيفن ليبدأ البحث على موقع للأنساب. (من الواضح أن هذه المواقع لم تكن موجودة في عام 1984. وسرعان ما تواصل كيفن مع قريب بعيد كان قد جمع معلومات مفصلة عن شجرة عائلة آرتشر تعود إلى أوائل القرن الخامس عشر، وتحديدًا إلى معركة أجينكور الشهيرة. في يوم القديس كريسبين، عام 1415، حقق الجيش الإنجليزي الذي كان يفوقه عددًا كبيرًا الجيش الفرنسي نصرًا مستحيلاً تحت قيادة هنري الخامس، وذلك بفضل الرماة المتفوقين. (قد تتذكر الخطاب الحماسي الذي وضعه شكسبير على لسان الملك قبل هذه المعركة: "نحن القليلون، نحن القليلون السعداء، نحن الفرقة من الإخوة"، وما إلى ذلك.)

الإدخال الأول في جدول البيانات الشامل الذي أرسله إليه قريب كيفن في علم الأنساب كان اسمه سيمون دي بويز. قيل إن هذا الرجل كان أحد رماة السهام في جيش هنري الخامس الذين ضمنوا النصر الإنجليزي رغم الصعوبات الطويلة. وإليك ما أذهل كيفن عندما قرأ خلية جدول البيانات على دي بويز: قيل إنه بعد المعركة، منحه الملك معاشًا سنويًا مثيرًا للإعجاب قدره خمسة ماركات بشرط واحد: أن يغير لقبه إلى آرتشر. لقد كانت في الأساس القصة التي كتبها كيفن على شكل قصة خيالية، عندما كان في العاشرة من عمره، لمهمة مدرسية.

كيف كان هذا ممكنا؟ هل كانت ذكريات كيفن عن اختراع القصة من العدم خاطئة؟ هل ربما سمع، في ذلك الوقت، نسخة ما من هذه الخلفية الدرامية لأسلافه، وأعاد إنتاجها في قصته، ثم نسيها ببساطة؟ فعل كيفن ما كان سيفعله أي شخص يشكك في هذه المصادفة الغريبة: اتصل بوالديه وسألهما عما إذا كانا يعرفان حقًا أيًا من هذه القصة عن اسم آرتشر عندما كان طفلاً وربما أخبراه به. لم يفعلا ذلك - فما أخبرهما به الآن عن سيمون دي بويز وهنري الخامس ومعركة أجينكور كان بمثابة خبر جديد بالنسبة لهما كما كان بالنسبة له.**

حقيقة الإدراك المسبق

على الرغم من أن كيفين كان مندهشًا وسعيدًا لأن نفسه وهو في العاشرة من عمره قد اكتشف بطريقة ما اكتشافًا حقيقيًا حول تراثه بعد أربعين عامًا، إلا أن الأمر لم يكن بمثابة صدمة كاملة. كان حالمًا متعطشًا ومسجلًا للأحلام، وقد شهد العديد من الأحلام المذهلة على مدار حياته البالغة والتي أنذرت بحدوث غير متوقع في مستقبله. وقد شاركني بعضًا منها خلال بحثي حول موضوع الأحلام الإدراكية منذ عدة سنوات. لقد أدرجت واحدًا منها (تحت اسم مستعار) في كتاب حول هذا الموضوع - حلم دقيق مستحيل عن الظروف المحيطة بفوز اليانصيب والذي حدث في الواقع لأحد أقارب كيفن المقربين بعد وقت قصير من تحقيق الحلم.

كما زعمت قبل عدة سنوات في كتابي الأول "الحلقات الزمنية"، فإن التدرب على التراجعات المتشككة المتمثلة في الوهم، والتفكير بالتمني، والاستدلال الاحتمالي الضعيف لم يعد يمثل موقفاً صادقاً أو مستنيراً بشأن مثل هذه التجارب. إن جبال الأدلة المختبرية على مدار الجزء الأكبر من قرن من الزمان تدعم حقيقة الإدراك المسبق. التحليل التلوي للبيانات يضع النتائج في مجال الأهمية "الفلكية". ولكن نظرًا لأن الفيزيائيين لم يتحققوا بعد من صحة فكرة الأسباب أو المعلومات التي تنتشر في الاتجاه العكسي الزمني، فقد تم رفض الأدلة باعتبارها مستحيلة. ليس بسبب وجود مؤامرة لقمع واقعنا النفسي؛ ذلك لأن جميع العلوم، بما في ذلك علم النفس، تستمد زمام المبادرة من الفيزياء، ولم يتوصل الفيزيائيون بعد إلى إجماع حول إمكانية تأثير الأحداث المستقبلية على الماضي.

قد يكون هذا على وشك التغيير، إذ يعتقد عدد متزايد من الفيزيائيين أن ما اعتبره المجال بشكل خاطئ على أنه عشوائية هو في الواقع أسباب تنتقل عكسيًا عبر الزمن، من المستقبل إلى الماضي. الجزء غير القابل للتنبؤ من سلوك الإلكترون يتعلق بالتفاعل التالي الذي سيحدث له؛ وبطريقة أخرى، يمكن القول إن قياس الفيزيائي للإلكترون هو في الواقع ما يتسبب في بعض سلوك الجسيم السابق. هيو برايس (جامعة كامبريدج) وكين وارتون (جامعة ولاية سان خوسيه) يجادلان بأن السببية العكسية توفر حلاً أنيقًا (وبسيطًا) للعديد من الألغاز الكمومية الأخرى مثل التشابك. إن التفكير بهذه المصطلحات يسبب لنا صداعًا (حتى للعديد من الفيزيائيين)، ولكننا سنحتاج فقط إلى زجاجة أكبر من الأسبرين.

قد تؤدي الإعدادات الخاصة التي تتشابك فيها جسيمات متعددة (أو تعمل في انسجام تام) إلى زيادة هذا التأثير الرجعي على أصغر المقاييس وجعله متماسكًا وقابلاً للاستخدام. قد تكون أجهزة الكمبيوتر الكمومية بمثابة "كاشفات مستقبلية" أو أجهزة اتصال بين المستخدمين المستقبليين والسابقين - وهو الاحتمال الذي تخيله ويليام جيبسون في روايته "المحيط".ويشير عمل ستيوارت هاميروف والعديد من زملائه إلى الهياكل الجزيئية في الخلايا العصبية التي تسمى الأنابيب الدقيقة باعتبارها أجهزة كمبيوتر كمومية بيولوجية فعلية. يعمل هاميروف مع الفيزيائي روجر بنروز الحائز على جائزة نوبل على إيجاد حل للوعي يتضمن الأنابيب الدقيقة. وسواء أكانت نظريتهم ستنجح كما يأملون، فمن المرجح أن يكون التأثير الجانبي الصدفي لبحثهم عن الوعي هو صورة نهائية لكيفية استجابة الخلايا العصبية مسبقًا لحالاتها المستقبلية - الأساسيات الخلوية للإدراك المسبق.

باختصار، أعتقد أننا جميعًا نتلقى إشارات غير واضحة وضبابية من أنفسنا المستقبلية عندما نقوم بالإبداع، تمامًا كما يصر الفولكلور على أننا نفعل ذلك عندما ننام. سواء كان طفلًا يبلغ من العمر 10 سنوات ينذر بتجربة تعليمية مستقبلية في مهمة مدرسية عشوائية، أو رسامًا رائدًا يصور إصابة غيرت حياته في لوحاته، أو عبقري أدب معترف به يتنبأ بطريقة ما بطريقة وفاته، فإن الإبداع يبدو أن الناس في كثير من الأحيان يعملون كأجهزة قياس الزلازل للزلازل المقبلة.

حتى موس يعترف بأن تجربة الإلهام هي تجربة حقيقية، وقد وصفها عدد لا يحصى من المبدعين على مر القرون، وخاصة في عصرنا هذا، بأنها شيء غامض أو خارق للطبيعة، شيء لا يمكن تفسيره مثل رؤية شبح أو جسم غامض. . لذلك لا أعتقد أنه يكفي، وليس من الصدق، تحويل هذه التجربة إلى وهم، أو التظاهر بطريقة أو بأخرى بأنها في العرق (أو تلك القصص العصبية الحيوية) حيث تكمن أهم الإجابات على لغز الإبداع. هذا هو الحال بشكل خاص عندما تؤدي تجارب الإلهام هذه إلى نبوءة مستحيلة عن المستقبل.

أنا متحمس للمستقبل حيث لم يعد الفن يقتصر على العمل، حيث تؤخذ النبوءة الإبداعية على محمل الجد، وحيث ترسم أقسام العلوم الإنسانية الفائقة تيارات وأنهار التأثير المستقبلي الذي يشكل الفنون (والعلوم) الحالية. إن سهم الزمن، كما قال كيفن آرتشر في مدونته، سوف ينكسر أخيرًا.

***

............................

ملحوظتان:

* لا أعرف أين قرأت هذا، منذ فترة طويلة - ربما كان ذلك في شيء كتبه جون جاردنر عن الكتابة الروائية - لكن معرفة أن همنغواي كان يشحذ ستة أقلام رصاص بشكل طقسي قبل الجلوس للكتابة كل صباح قد لا يعطي رؤية قيمة للعملية. الكتابة، لكنها تجعل حياة الكتابة حقيقية. من خلال طابعها الملموس الدنيوي، فهي تساعد الكاتب الطموح على معرفة أنه من الممكن أن يكون كاتبًا. الفنان هو إنسان عادي يجلس على مكتب (أو على حامل، أو أي شيء آخر) ويعمل

** قد يقترح بعض الأشخاص المنفتحين على الخوارق بدلاً من ذلك أن كيفن كان في الواقع سيمون دي بويز في حياة سابقة، وأن كيفن الشاب كان "يتذكر" حقًا حياته كرامي قوس في أجينكورت. ولكن عندما تعمق كيفن في قصة سيمون دي بويز، اكتشف شيئًا آخر مثيرًا للاهتمام، والذي بدد مثل هذا الاحتمال بشكل فعال: ما سجله ابن عمه في علم الأنساب في جدول البيانات المذهل هذا لم يكن صحيحًا في الواقع. لقد حدث تغيير الاسم إلى آرتشر قبل عقود من معركة أجينكورت - لذا فإن قصة أصول لقب آرتشر كانت عبارة عن تقاليد أو صناعة أساطير، وليست تاريخًا حقيقيًا. إذا لم نعزو الأمر برمته إلى "مجرد صدفة" أو ربما إلى ذاكرة زائفة من جانب كيفن (وعائلته)، فمن المرجح أن كيفن البالغ من العمر 10 سنوات كان يتعرف مسبقًا على شيء ملفت للنظر قرأه بعد عقود، في سن الخمسين.

الكاتب: إريك وارجو / Eric Wargo حاصل على درجة الدكتوراه في الأنثروبولوجيا من جامعة إيموري ويعمل كاتبًا ومحررًا متخصصًا في العلوم في واشنطن العاصمة، وهو مؤلف ثلاثة كتب: "الحلقات الزمنية"، و"الحلم المسبق"، و"الذات الطويلة"، ومؤخرًا كتاب "من لا مكان". يكتب وارجو في أوقات فراغه عن الخيال العلمي والوعي وعلم التخاطر في مدونته الشهيرة The Nightshirt

الفن كالفلسفة كلاهما ثورة على كل ما هو تافه وسطحي في الحياة ذلك ان الفن في جوهره ثورة مرتكزها الأول إرادة الفنان، إرادة حرة فاعلة ومبدعة تستهدف التحرر من عبودية المادة واكراهات الواقع في سطحيته وابتذاله، تجربة ذوقية تتغذى على الخيال الذي يشن غاراته على الواقع ليس فقط من اجل اعادة تجميله او تغييره بل من اجل تحرير الانسان، أوليس هدف كل ثورة حقيقية هو الحرية التي هي ميراثها وكنزها المفقود.

الفن في ظاهره مرآة عاكسة لتجربة إنسانية تنطلق من الذات المبدعة لترتمي في أحضان الغيرية تستهدف الاحتفال بالحياة والتأسيس لثقافة العيش المشترك ثقافة يصبح فيها الفن دالا والجميل مدلولا لأجل ذلك عشق الانسان الفن وتجددت عبر التاريخ مدارسه ولأجل ذلك كان محكوما على كل عمل فني لا يستهدف تحرير الانسان بأنه عديم الجدوى ويفتقر الى البعد الجمالي واستقراء تاريخ الفن واعمال كبار الفنانين العظماء شاهد على ذلك ومنهم ناصر الدين ديني الذي كان رجلا متحررا ثائرا ورسولا للسلام والحرية وفنانا عاشقا للجمال. امتلك روحا سخية وشجاعة، بارعة وطفولية، شهوانية وعفيفة، رقيقة وروحية، وفي نفس الوقت عنيفة ورهيبة.

قضى ناصر الدين ديني- المولود بـ "باريس" بتاريخ 28 مارس 1861-  ثماني سنوات في الدراسة بعد بلوغه العاشرة من عمره ليتخرج سنة 1879 من ثانوية "هنري الرابع" متحصلا على شهادة البكالوريا."  السنوات الثماني التي قضاها في الثانوية كانت الأسوأ في حياته، لأنه شعر بإبعاده من حضنه الطبيعي ولمعرفته بتفكير والده المسبق الذي يريد منه أن يكون رجل قانون او سياسة. قضى تلك السنوات في جو کدر ومزاج متعكر ورتابة طوال اليوم ولا ينتشله من قوقعته الا تلك الزيارات العائلية التي كانت تقوم بها والدته رفقة اخته وتتذكر اخته كيف كان يستقبلهم ببرودة وجفاء، لا يتجاوب معهم في الحديث ولا يسترسل ولا يتكلم الا حينما يسأل من طرفهما بإجابات مقتضبة، واعتقدت أخته أن زيارتهم له لم تفده كثيرا على مستوى توازنه النفسي."

دخل دينيه عالم الفنون الجميلة سنة 1879، وكانت بدايته الأولى في ورشة "جالان"، حيث درس باهتمام كبير مادة التشريح وكثيرا من المعارف الأساسية، لكن ما لبثت هذه المدرسة أن أغلقت أبوابها بعد سنة من التحاقه بها، مما اضطره إلى الالتحاق بأكاديمية "جوليان" الحديثة العهد، حيث مكث فيها أربع سنوات، وقد استفاد أيما استفادة من التكوين النوعي، والمتين الذي كانت توفره هذه المدرسة لطلبتها.حيث أنجز مبكرا، وتحديدا سنة 1881 لوحته الأولى الموسومة بـ "الأم كلونيد " التي تصور فلاحة فرنسية بلباسها الريفي التقليدي، وهي على ضفاف نهر السين"، عدت لوحة الأم كلوتيد " بمثابة شهادة ميلاد الفنان "ديني"، الذي تشجع بعد ذلك، ورسم لوحتين دخل بفضلهما عالم الشهرة، والتألق؛ وهما: "صخرة صامو"، و"القديس جوليان الكريم".

سافر ناصر الدين ديني لأول مرة إلى الجزائر سنة 1884 ضمن بعثة إيكولوجية. وقد أتاحت له التعرف عن كثب إلى عوالم جديدة لم يألفهـا من قبل: عالم الأضواء الخلابة والظلال الصامتة التي تعكسها الصحراء برمالها وواحاتها وسرابها وعالم الألوان الجذابة التي تنبض بها الطبيعة في الجزائر، ومـا يحفـل بـه عـالم الجزائريين من الأفراح والأحزان والعادات والتقاليد ومشاغل الحياة ومظاهر الإيمان الروحي العميق، الذي يطبع حياتهم بالبساطة والمودة والتسامح وسمو الأخلاق. والذي يعبرون عنه بطقوس وعبادات بسيطة، تصلهم مباشرة مع الله.

تأثر ناصر الدين ديني إلى حد بعيد بالوجودية الصوفية، ففي رحلته إلى حافة الصحراء كانت رحلته إلى حواف الروح، في بحثه عن حياة دينية تستجيب لمتطلباته الروحية. من أجل اعتناق حياة جمالية فنية روحية أبسط وأرحب، حياة خلاقة عاشقة للجمال. تخرجه من بؤرة الضجيج والهيجان السائدين في كبريات المدن الغربية. وهذا ليس مفاجئًا جدًا، لأن دينيه انتهى به الأمر إلى أن يجسد في نفسه الروح العربية بأكملها، هذه الروح بسيطة جدًا ومعقدة جدًا، وغامضة، وتبدو بالنسبة لنا، غير قابلة للاختراق.

اضطرت الظروف ناصر الدين ديني إلى زيارة مصر في شتاء سنة 1897م، بهدف البحث عن شيء جديد في عاصمة الثري تثير احساسه وتلهم فرحته لكنه عاد منها بخيبة أمل كبيراً ووجدها دون تطلعاته وأقل جمالا من مشاهد الجزائر وعبر عن ذلك في رسائله لأخته بعد عودته من مصر :" كانت خيبة املي واضحة وسخطت على نفسي من غيابي في مصر التي لم أحضر منها الا بعض اللوحات والدراسات ليس لها أي معنى.."   في رسالة الى صديقه Léonce Bénédite  بتاريخ01-08-1897 اخبره ان رسالته قد اخرجته قليلا من دائر اليأس وسمى سفر إلى مصر هربا اذ كان يعتقد انه يجد في مصر بشكل طبيعي واصلي مشاهد ومناظر لمجتمع مسلم، غير أن طموحه في مصر عاد بالخيبة، وقارن ذلك بما هو موجود بالجزائر، فمصر قد دخلت عليها مظاهر التطور مما اخفى كثير من معالمها، فالفلاح مخبول ورجل الدين هناك يرتدي عباءة من الصوف تفتقر لأي ذوق جمالي والأكثر بشاعة في نظره الافندي في اللباس الأوربي، ونساؤهم رغم جمالهم فإنهن لا يضاهين الجزائريات في الجنوب، سماءها صافية دون عمق وسحب دون أشكال وبدون قوة وليال بدون نجوم انه الوهم .

أثرت فيه زيارته الى مصر الى درجة انه وصفها في أحد رسائله بتاريخ 27 /07/1897/ بأنها جعلته يمر بأزمة نفسية تمثل مرحلة متقدمة من اليأس لم يتعرض لها من قبل" هذا السفر البغيض والكريه الى مصر منعني من انجاز لوحاتي مثل العادة، ومنذ 15 يوما من العمل المضنى من الصباح الى المساء لم أصل الى نتيجة وبالكاد استطعت استرجاع حبل افكاري واستئناف مشاريعي التي كانت ترتسم في أفقي وفي دراساتي وملاحظاتي." وقد نشرت اخته العديد من الرسائل المتبادلة بينها وبين اخيها عبر من خلالها عن قلقه وحيرته ومخاوفه وقد وصل به الأمر الى الاختفاء عن الانظار منعزلا في بيته.

عقب عودة دينيه من مصر انكب على تدوين (قصة عنترة بن شداد). وقد كانت اول عمل سردي نثري، يقوم بإصداره. فمن شدة إعجابه بالقصة وفضلا عن كتابة فصولها. فقد خلدها في العديد من اللوحات، منها لوحة سماها " انتقام أبناء عنترة"، الذي قتل بسهم مسموم في كمين نصب له ". ومن أعماله الروائية أيضا: رواية " خضراء راقصة أولاد نايل "، ثم روايته " الصحراء" وهي روايات مستوحاة من الموروث الشعبي الجزائري. ومن مؤلفاته في هذه المرحلة، كذلك كتاب " آفات الرسم "، وهو يتعلق بتقنيات الرسم والمواد المستعملة. وخلال هذه المرحلة من حياته بدأ اهتمامه بالجانب الفني الإسلامي. فقد نشر موضوعا حول الفن الإسلامي بعنوان " ملاحظات حول الفن الإسلامي." وتعتبر هذه المرحلة مرحلة بحث واستكشاف للموروث الثقافي والروحي والاجتماعي للمجتمع الجزائري.

اختار ديني مدينة بوسعادة للإقامة بها سنة 1904م، حيث اشترى منزلا؛ تتوفر فيه المواصفات التي يبحث عنها، فهو يقع في وسط الحي العربي الموامين، قريب من الواحة والوادي، ويطل منه على افق واسع. رغم استقرار بوسعادة واقباله على العمل بكل عزم الا انه شعر دائما بانتقاص الاخرين دوما منه، فبعد الحرب العالمية الأولى افضى الى اخته بما يختلج في صدر أنه قر الاستقرار ببوسعادة نهائيا، مبينا لها العدوات الشخصية التي يحارب ضدها، فقد أشاعوا أن حياته الموزعة بين باريس وبوسعادة خلال السنة الواحدة هي للتهرب من دفع الضرائب ويعيش في بوسعادة لأنه لم ينجح فنيا في باريس ولوحاته لا تباع. استقر "ديني" بمدينة "بوسعادة"، التي قال عنها: «لو كانت الجنة فوق السماء لكانت فوق مدينة "بوسعادة"، ولو كانت تحت الأرض لكانت تحت أرض "بوسعادة".ولا ينكر أحد أن اعتناق "دينية" للإسلام، سنة 1913م، يعود أساسا إلى تأثير صديقه "سليمان بن إبراهيم "  ودخوله الى الإسلام لم يكن مجرد انطفاع عاطفي بل كان عملا مدروسا  اخذ وقتا طويلا بعيشه وسط اجتماعي بما يحمله من ممارسات دينية وسلوكات اجتماعية وعادات وتقاليد وقيما تأملها ديني حتى فهمها واصبح مدافعا عنها، ثم اخذ يقرأ ويقارن، وهو ما نستشفه من وصيته: « لقد عرفت ما في المسيحية من خرافات واباطيل فهجرتها ونبذتها. ودرست الاديان المختلفة. فلم أجد فيها غير الاسلام يوافق العقل وتطمئن اليه النفس. هو الدين الذي اسلمت روحي له وتعلقت به وبذلت جهودي في سبيله واقيم على تنفيذ وصيتي مسلما» وشاءت الأقدار أن يتوفاه الله بعد عودته من الحج بفترة قصيرة، وتحديدا في 25 ديسمبر 1929، حيث أقيمت له تأبينية كبيرة بمسجد "باريس"، بحضور كبار رجالات الدولة، ومشاهير العلماء، ونزولا عند وصيته نقل جثمانه إلى بوسعادة" ليدفن فيها يوم 12 جانفي 1930م، بحضور الرسميين، وممثلي "جمعية العلماء المسلمين"، وممثلي الزوايا، والشخصيات المعروفة.

عبقريته

ناصر الدين ديني فنان واقعي، لاحظ وبكل دقة وجوه وحياة سكان الصحراء في الاغواط بسكرة وبوسعادة...، تحت الضوء القوي لجنوب الجزائر. رسم هذه الوجوه وخلد تلك المواقف برؤية انطباعية ولمسة رومانسية دون تحريف للواقع، تفاصيل رسمها بكل دقة وابداع ولم يحاول تضخيمها وفي نفس الوقت عمل على تجميلها .استمد موضوعاته من الحياة اليومية في جنوب الجزائر، وتحول الى شاهد على عصره عايش من خلاله بؤسا لا مسمى له ولمس في نفوس من عاشرهم سكينة لا حدود لها  كان يراقب بعين الفنان مشاهد: ألعاب الأطفال، الاحتفالات الدينية، مشاهد الشوارع،الصلاة ... وهذا يجعله شاهدا ثمينا على أنماط الحياة والتقاليد الصحراوية، وفنانا فريدا في مدرسة الرسامين المستشرقين.

الشخصيات التي رسمها كانت جميلة ونموذجية (الفتاة الصغيرة الضاحكة، الشاب الرجولي، الرجل العجوز، الطفل في عفويته واحتفاله بالحياة)، والناظر والمتأمل في  لوحاته، يرى "صورة" للجزائر الخلابة والخالدة، صورة تسامى من خلالها معبرا عن حالة البؤس والواقع الاستعماري المدمر رسمها بفرشاة الامل، رسم العنف والبؤس واليأس والتواضع، ولكن بنفس القدر الفرح والشجاعة والكرامة. ومن الخصائص الفنية التي يمتاز بها فن "ديني: " ترجمة الأحاسيس، والمشاعر من خلال رسم ملامح الوجه، ومكونات الجسم بتفاصيلها ودقتها، بعيدا عن المبالغة في التصور، وابتعاده عن الصور النمطية الجاهزة ورسوماته لم تكن جامدة، ومحنطة للواقع، بل غاص في أعماق التراث. " وقد ذكر ماريو شويري استاذ تاريخ الفن في جامعة السوربون وأبو ظبي ومدرسة اللوفر، أن دينيه "أكثر من مجرد رسام" إنه لغز سياسي، فرنسي " رسم ديني أول صورتين جزائريتين وكانتا بعنوان شرفات الأغواط ووادي المسيلة بعد العاصفة.

علاقته بصديقه سليمان بن إبراهيم

تعرف "ديني " في الجزائر على "سليمان بن إبراهيم" سنة 1888م، عندما كان يقيم بفندق بمدينة "بوسعادة". وقد ذكرت كتب سيرة "ديني" جملة من الخصال الحميدة التي جعلت "سليمان" يتبوأ مكانة رفيعة عند الرسام منها: المروءة والشجاعة، والإخلاص والصدق والوفاء والحكمة، وروح التضحية، والمعرفة العميقة بالناس، والاطلاع الواسع على الموروث الثقافي الجزائري.

تعرض ديني لاعتداء جسدي من طرف بعض اليهود من سكان بوسعادة الذين زعموا أنه يرسم نساءهم وهم في الوادي وانفردوا به وحيدا حين وجدوه، يعكف على رسم لوحة لأحد مشاهد بوسعادة La Montée de Bou-Saada)) دافع على نفسه ولكنه لم يتمكن من مقاومتهم بسبب كثرتهم، وفي هذه اللحظة شاءت الاقدار ان يظهر الشاب سليمان بن ابراهيم الذي كان يتجول بالمكان، مدافعا عن إتيان ديني، ولم ينس اليهود لهذا الشاب  أن يتدخل في شأن يخصهم، فقرروا الاعتداء عليه ذات يوم واصابوه، بجراح وقرر ديني حين علم بالأمر أن يعود الى الجزائر ويحضر معه سليمان بن ابراهيم الى باريس لأنه شعر بمسؤولية اخلاقية تجاه ما حدث له، بعد هذه الحادثة توطدت علاقة الرجلين وأصبحا لا يفترقان كالشيء وظله.

بعد ذلك التقي ناصر الدين ديني مع سليمان بن ابراهيم من أجل توفير مسكن له واتخذه دليلا ومرشدا في بوسعادة، والتقى به مرة ثانية لما زار ناصر الدين ديني الاغواط سنة 1889 م، حيث قدم له مساعدات سهلت له العثور على مواضيع ونماذج للوحاته، بفضل العلاقات التي يملكها سليمان في الاغواط مع الميزابيين واهل الاغواط بصفة عامة.

في احدى مقالاته تحدث Léonce Bénédite عن شخصية سليمان بن إبراهيم وكتب قائلا :" أنت بالتأكيد تعرف صديقي سي سليمان بن إبراهيم. إنه هذا العربي الشاب الأنيق الذي يراه سكان الضفة اليسرى، من ساحة سان جيرمان دي بري Saint-Germain-des-Prés أو رصيف فولتير إلى ساحة بون مارشيه، يتجول طوال فصل الشتاء في ساعات منتظمة، بثبات مستقيم. خطوة ومظهر مهيب وبسيط. وجهه المسمر بحرارة جاد، وجفونه الكبيرة نصف السفلية تحجب عينيه اللامعتين اللتين تبدوان بعد ذلك وكأنها تنظران إلى الناس والأشياء بطريقة مشتتة للغاية وغير مبالية. من شفتيه القويتان إلى حد ما، المؤطرة بلحية مجعدة رقيقة، يهرب دخان السيجارة في لوالب مكسورة. وعادة ما يرتدي ملابس داكنة مميزة، ملفوفًا بشكل رائع في ثنيات بورنوسه الأسود. لكن في أيام الأعياد، في حفلات الكسكس الحميمية الصغيرة أو في الاحتفالات الكبرى لافتتاح معرض الرسامين المستشرقين، يحب صديقي العزيز سليمان أن يرتدي ملابس فاخرة. ثم يرتدي بيرنوسًا من البياض الناصع وقماشًا ناعمًا للغاية بحيث تكون الطيات أكثر سحرًا وغير متوقعة؛ عمامته مصنوعة من وشاح مخطط من الحرير الذهبي القديم، وحزامه العريض مصنوع من قماش جميل باللونين الأحمر والأصفر ومغطى بالذهب، وسرواله الأسود الواسع مدسوس في حذاء من القطيفة المغربية. وعلى صدره يتلألأ نجمان، أو بالأحرى نجمة صغيرة ونخلة صغيرة. إنه صليب نشام الأنوار والنخيل الأكاديمي.

العنوان الحقيقي لسي سليمان بن إبراهيم هو أن يكون الرفيق المخلص للرسام إتيان ديني. عمره حوالي ثمانية عشرة سنة، إذا كنت أتذكر بشكل صحيح، في الأغواط أو بالأحرى في بوسعادة حيث ولد سنة 1870، لعائلة مزابية، وهو عرق عربي من الجنوب، منشق دينيا وذو موهبة، كما نعلم، مع فضائل خاصة للذكاء العملي والاستقامة التجارية. كان ذلك في بوسعادة، ذات يوم، وسط انتفاضة محلية صغيرة، في أعمال شغب بين طرفين معاديين، شارك في أحدهما ديني رغمًا عنه بسبب بعض علاقاته، وكان سليمان بن إبراهيم يواجه خطرًا. وخاطر بحياته وأنقذ حياة ديني. علامة الشجاعة والتفاني هذه جعلت مصيره من الآن فصاعدًا مصير الفنان الذي شارك معه جميع الرحلات، وبطريقته الخاصة، كل العمل، كصديق ومتعاون، يبحث عن النماذج ويجمعها، وهو أمر صعب للغاية في هذا البلد، بحكمة ولباقة فنان حقيقي: شرح العادات وترجم مع ديني بعض قصائد وروايات الأدب العربي الذي يغذي فكرياً ملايين الرجال، «لقد سخر "سليمان" كل جهوده من أجل جمع الرصيد الثقافي الجزائري الهائل، ووضعه في متناول "ديني": فهو الذي يجمع الأشعار من الصحراء، ويشرح الحكايات والأساطير، ويفسر العادات والتقاليد ويتولى كذلك تفسير الكتب الدينية، وبفضل هذه المكانة المرموقة أصبح له رأي في الأمور التقنية للرسم لقد كتب "ديني" عن الشاعر العربي "عنتر"، بعد أن لقيت قصصه رواجا كبيرا في أوربا في القرن التاسع عشر، في تشبه ملاحم "اليونان"، والرومان.

مساهمة ناصر الدين ديني في نشر الوعي التحرري.

1- بعد الحرب العالمية الأولى اصبحت المواقف السياسية لديني واضحة جدا بشأن وضعية الجزائريين تجاه القانون الفرنسي، فهو يعتبر في رسالة كتبها لأخته بتاريخ 02 اوت 1928م أن سياسة فرنسا المتبعة في الجزائر وصلت الى مستوى من الحماقة لم تصل اليه من قبل وفقد فيها كل امل في المستقبل، الذي سيكون خطيرا بفضل عناد المعمرين الذين يتفننون كل يوم في توسيع وتعميق الخندق الفاصل بين المسلمين والفرنسيين ومن الصعب ردم هوته.

2- يضيف ديني ان الاهالي استطاعوا ابتلاع كل الغزة والفاتحين الذين تعاقبوا على هذا البلد (ما عدا العرب) ومصيرنا سيكون اسرع نهاية مما كان للرومان بسبب سياستنا غير المناسبة تجاههم، وهذه الاحتفالات المئوية فرصة لإصلاح الخلل وتعزيز اسمنت الوحدة بين المسلمين والأوربيين بفضل دماء الأبطال من الطرفين التي سالت واختلطت خلال الحرب العالمية الأولى، وينبه ديني السلطات الى خطر محدق بالشعوب اذا لم تتداركها سياسة الاصلاحات فإنها ستكون فريسة سهلة للدعاية البلشفية ( الشيوعية ) في شمال افريقيا.

3-  في عام 1915، حول قلعته الباريسية هيريسي إلى مستشفى لاستقبال جرحى المسلمين في الحرب العالمية الأولى، ثم قام بحملة من أجل إقامة شواهد قبور للمسلمين الذين قتلوا في المعركة، وبعد ذلك، لبناء ما سيصبح المسجد الكبير في باريس. في عام 1923، أصبح مالكا لفيلا في الجزائر العاصمة، تم شراؤها بفضل بيع قلعته الباريسية، حيث عرض أعماله. على الرغم من الحظر المفروض عليهم من قبل منتقديها، فقد حققوا نجاحا كبيرا.

4- قصة "عنترة" كما تراءت في ذهن "دينية" تحمل طابعا تحرريا، وثوريا، فهي تشبه حكايات "ألف ليلة وليلة"، فهذه الشخصية تحمل دلالات رمزية في مجال التحدي والثورة على القوانين الجائرة في عصره، والمتمثلة في احتقار الإنسان الأسود من طرف الإنسان الأبيض، فهذه الشخصية تحمل مواصفات عدة منها. التغني بالشجاعة، والبطولة، والفروسية، وروح التضحية في سبيل إنقاذ الجماعة من ظلم، واحتقار

5- تعاون "ديني" مع "سليمان بن إبراهيم" في إعداد الكتاب الموسوم بـ "محمد رسول الله"، وقد اعتمدا على المصادر الإسلامية مثلى: "كتب الصحاح"، و"سيرة ابن هشام"، و"طبقات ابن سعد". يتوزع الكتاب على عشرة فصول، تتمثل وفق التسلسل التاريخي من البداية حتى النهاية. يعد هذا الكتاب أول ما كتب باللغة الفرنسية في السيرة النبوية الشريفة، من منطلقات السيرة الأصلية المشهورة، والمعتمدة من علماء المسلمين، والتي تختلف تماما عن كتب المستشرقين الذين لم يحترموا مشاعر المسلمين، وراحوا يدرسون الظاهرة الإسلامية كجثة هامدة بدون روح».

6- كتاب " الحج إلى بيت الله الحرام": هذا الكتاب الذي ألفه بعد مسار طويل وشاق من البحث عن الحقيقة، ليصبح من كبار المدافعين عن الإسلام والمسلمين بريشته وبقلمه، وبنضالاته السياسية. وقد ترجمت خاتمته، ونشرت في مجلة "جمعية العلماء المسلمين، بقلم الأستاذ توفيق المدني». تصدى في هذا الكتاب للدفاع عن الإسلام والمسلمين.

7-  ألف كتابا موسوما بـ "الشرق في نظر الغرب": وقد ترجمه الأستاذ "عمر فخوري" .

8-   فشل مشروعه لتأسيس متحف في عام 1929 بسبب ضغوط من الجماعات الاستعمارية.

كتخريج عام حاول ناصر الدين ديني احداث تقارب بين قيم الحياة العربية البسيطة للغاية ومبادئها الأخلاقية والروحية السامية، وقيم الحضارة الغربية الحديثة ببعديها المادي والعقلاني والتاسيس لثقافة كونية تستمد قوتها من ثقافة العيش المشترك، لقد عاش ديني بين من احبهم حياة إنسانية ظلت، في طابعها الحميم، وفي مظهرها، وفي ديكورها، كما كانت في زمن المجتمعات الأولى التي أسسها الإنسان. حياة حافظت على نقائها وكرامتها واصالتها حياة جمعت كما قال مالك بن نبي رحمه الله بين البؤس والسكينة. هذا التناقض أصاب باستمرار جميع الفنانين الذين أقاموا في الجزائر ومنهم ناصر الدين ديني .

***

علي عمرون

............................

الهوامش

* اسمه في شهادة الميلاد «ألفونس إتيان دينية" ولد بـ "باريس" بتاريخ 28 مارس 1861م ينحدر من عائلة بورجوازية كاثوليكية عندما بلغ العاشرة من عمره، وتحديدا سنة 1871م، وضعته العائلة في ثانوية "هنري الرابع" في قلب "باريس"، وقد وقع الاختيار على هذه الثانوية لاعتبارات أيديولوجية، واستراتيجية مهمة؛ ذلك أن هذه المؤسسة المتميزة لها تاريخ عريق ضارب الجذور في أعماق الماضي، ولأنها الوحيدة المؤهلة لاستقطاب أبناء النخبة الأرستقراطية الفرنسية. كما تعد أول ثانوية للجمهورية الفرنسية. وبعد اعتناقه الإسلام اختار لنفسه اسم ناصر الدين ديني.

بالعنوان اعلاه..كانت اصبوحة يوم(16 آب 24)، والمفاجأة انها كشفت عن حقيقتين: تجاوز عدد التعليقات المئة والخمسين، واتفاقهم على ان المثقفين لديهم فعلا شهية لقضم سمعة الآخر..اليكم نماذج منها كما هي:

علي الفواز: ربما بسبب مركزية الذات المتعالية باوهامها، وربما بسبب طبيعة تشكيل ظاهرة المثقف بوصفه فردا خارج الجماعة، وربما بسبب علاقتها بالأيديولوجي التي تفقد قوتها في صناعة الخطاب.

صالح الطائي: صدقت والله.لي تجارب لا تحصى معهم.لكن السؤال: بماذا تفسر ذلك الأسلوب القبيح من خلال علم النفس وهل للحسد والغيرة دور فيه؟

أصيل داوود سلوم: من الفراغ، وقلة الفكر، والثقافة، والا المثقف اذا عمل على بناء صرح ثقافي لمؤلفاته و تطوير معلوماته وذاته، فانه لا يجد متسعا من الوقت للحديث عن الاخرين.المشكلة ان بعضهم يرى نفسه بمرتبة أعلى ناسه ومن مجتمع.

خضير الحميري: ربما لأن صوتهم مسموع.

عبد الجبار العتابي: واذا سمعة الاخر مطينة ويعامل الناس من برجه العالي، هل يسكتون عليه؟

Rafid Rasool: عندما تصبح الثقافة مهنة فيتحول المثقف من حالة ترفع منسوب الوعي لدى المجتمع إلى اداة تسقيط وحقد وغل لاسقاط الانموذج والرمزية في المجتمع.

عاصم الأمير: مرضى بالانوية.

مهند الياس: اذا كان المثقف اكثر فئات المجتمع شهية في قضم الاخر، كيف يتصف بهذه الصفة وهو مثقف؟ اليست الثقافة من الاخلاق، اللهم الا اذا كان ذلك المثقف له ازدواجية شخصية في التعامل مع الحياة.

حسن ابراهيم: وسط مريض ومنافق.

Afeefa Suleman: مع الأسف الشعب العراقي بكل فئاته نساءا ورجالا بحاجة إلى معالجة نفسية..ومن أين ناتي بهذه الاعداد من الأطباء النفسيين لمعالجة ٤٣مليون ليفوا بالغرض.

Raadaldlaimy Raad:هكذا هم البشر بكل صنوفهم...التحاسد والتباغض سنة كونية...لاتزول الا بزوال الخلق.

Aziz ALaziz:اجتمعت كل امراض الشخصيه ونوبات الازدواجيه لدى معظمهم، ولا يطرون بعضهم الا بالتنابز، واظنهم خير من يمارس حفر النگر، بل هم ابعد الناس عن العمل الديمقراطي ويتجلى ذلك في بعض المناصب، ولن يحمل أخاه على سبعين محمل بل يجيدون التسلق على بعض وبكل وقاحه، وهؤلاء هم انصاف المثقفين.

ثابت عباس المفرجي :التحاسد ياسيدي الكريم وجعبة التاريخ تنوء بحمل ثقيل من الامثلة.

طامل الربيعاوي:شيسوون إذا كان المثقف يستگدي عبر القلم والكلمة فلكل مايستحق أن ينال .

Falah Al Ani:اعتقد ان هذا السلوك أسبابه نفسيه، يهاجم الاخر ويحمله صفات غير حميده لرغبه دفينه عنده بأن يظهر نفسه بأنه غير ذلك .هو يستعرض نفسه من خلال هذا السلوك، نرجسيته تغذي هذا السلوك.هو ابن بيئته واذا كانت هذه البيئه تغذي اعلاء الذات المفرط نجد ان هذا السلوك ليس غريبا .جرب ان تسأل سؤالا بسيطا اجابته لا تتحمل اكثر من عدة جمل يأتيك الجواب وسط حديث طويل جله استعراض المتحدث لذاته هو ولمعلوماته التي يمتلكها بغض النظر ان كانت هذه المعلومه لها صله بالموضوع او لا.

Jaafer Al-waaeli:لأنهم ليسو مثقفين بل يدعون الثقافة.كلما زادت معلومات الشخص وكبر عقله ابتعد عن الصراعات والتحدث عن الاخرين.

Yousif Aliraqi: تمام لانهم متسلحون بأدوات القضم (اللسان والقلم).

التحليل

يعزو معظم الذين استطلعت اراؤهم، وبينهم أكاديميون ومفكرون، اسباب ذلك لحالات سيكولوجية: الحسد، التباغض، تضخم الأنا(الذات) ...

وقبل ان نشخص الأسباب لنبدأ بهذا التساؤل: كيف هو حال المثقف العراقي بعد عشرين سنة عاشها في ظلِّ نظامٍ ديمقراطي تحكمه عمليَّة سياسيَّة تقومُ على المحاصصة والطائفيَّة؟

استطلاع رأي

لأنني اعتبر الرأي الآخر اهم مصدر في معرفة الحقيقة، فأنني اجريت عام 2018 استطلاع رأي عن حال المثقف بعد التغيير، إليكم نماذج من إجاباتهم:

* المثقف العراقي يواجه ثقافة دينيَّة طائفيَّة عشائريَّة مدججة بالسلاح والمال والنفوذ لكنه رغم ذلك يعمل ويبدع ويقاوم.

* بدون زعل، لأنَّهم لم يسمعوا كلام غادة السمان، فهاجروا ثم ذبلت أزهارهم هناك ولم يدركوا أنَّ الأشجار لا تهاجر.

* المثقفون، منهم من وجد ذاته بعيداً وغادر الوطن ولم يتذكره، والموجودون في وادٍ والجماهير في وادٍ آخر، ومنهم من انساق وراء مغريات السلطة للأسف.

* لا يوجد تأثيرٌ للمثقف في سواد الناس الذين يمثلون قاعدة الجهل العريضة ويتأثرون بخزعبلات الملّا والمشعوذ، والبعض منهم يعدُّ المثقف بأنه ينشر الكفرَ بين الناس.

* لا يوجد مثقفون في العراق، بل يوجد متعلمون يجيدون الكتابة و”اللغوة” في المقاهي والمطاعم والفنادق الشعبيَّة.

وبعد خمس سنواتٍ وفي العام (2023) أعدنا الاستطلاع ذاته، إليكم نماذجَ من إجابات حرصنا أنْ تحملَ أفكاراً مختلفة:

* حسب رأي غرامشي: الأكثريَّة في المجتمع هم مثقفون لكنْ بثلاثة أصناف: التقليدي المهني مثل الموظف والمعلم، والثاني الذين يعرفون الأخطاء ويقبلون بها طمعاً بعطاءٍ من السلطة وهم الأغلبيَّة في العراق من كتاب وفنانيين وآخرين، والثالث هم الذين يشخصّون الأخطاء ويعملون على تصحيحها ويدافعون عن التغيير نحو الأفضل.

* المثقف العراقي الحقيقي غائبٌ أو مغيبٌ في وسط هذا التزاحم والفوضى وقلة الوعي وانتشار الخرافة والتدين الزائف والجهل المدقع والتدليس والأمية بكل أنواعها. هناك مثقفٌ اجتماعيٌّ يحملُ همومَ الناسِ ويسعى إلى تغيير الواقع، وآخر لا يهمه سوى منجزه الأدبي. أما الانتهازيون والمتكسبون فهم الفئة الأكبر الآن، وهؤلاء يلعقون ما ترميه لهم السلطة ويعتاشون على فتاتها.

* صنف ابن المؤسسات السياسيَّة، وصنفٌ غارقٌ في العزلة، وصنفٌ مهووسٌ بوجع الوطن.

* المثقفون في وقتنا الحاضر قليلون جداً، والسبب هو تغليب النزوات والغرائز على العقل بسبب ظروف الحرب وقساوة الحياة وتدمير عقل الإنسان. المثقف هو الذي يعملُ بكل الاتجاهات ويوازن بين التوافقات لحل لغز الحياة والحديث يطولُ يا دكتورنا الغالي.

* المثقف العراقي إنسانٌ أولاً، منهم النرجسي والموضوعي والذاتي والمتواضع والمتكبر الذي لا تغير ثقافته من طبعه. الكم الهائل من ثقافة العصر جعلت من الصعب على المثقف الحفاظ على موقعه، ولا أعتقد أنَّ على المثقف أنْ يطلبَ من الآخرين جلد ذواتهم، وهو الأمر الذي يحدث لدينا ولا يحدث في العالم المتقدم الذي يعدُّ المشاركة الثقافيَّة فخراً لصاحبها.

* المثقف العراقي اليوم نتاج بيئة مجتمعيَّة وسياسيَّة متدنية، ومثل هذه البيئة ستنتجُ عقلاً ثقافياً يحاكيها، لذلك أمثالكم نتاج بيئة مستقرة كان فيها الحراك الثقافي والسياسي يستطيع الحركة. اليوم المثقف متعالٍ لا ينزل الى الشارع وكأنَّ الثقافة تقول له: تثقف لتعلو على الآخرين.

* المثقف ما زال بعيداً عن الناس والناس بعيدة عن المثقف، وحين يتحققُ الاستقرارُ السياسي عند ذاك سيصل صوته والناس ستقترب منه، أما في ظل بيئة شائكة معقدة كالتي نشهدها فإنَّ السعي وراء المال هو الهدف. وللأسف الكثير يحملُ صفة المثقف لكنه لا يزال يفكر بعيونٍ طائفيَّة وما أنْ يمسَّ طائفته (يعوج براطمه).

* المثقف الحقيقي ذو الكرامة والإحساس الوطني منزوٍ (بإمكاني أنْ أعطي أسماءً ولكنْ أخشى أنَّ أصحابها لا يوافقون). أما البقيَّة فهم مثقفو الطموح. أنْ يكون مستشاراً في سوق بيع وشراء المثقف والثقافة والتجارة بها كما التجارة بالدين وهم كثر.

* لا يوجد مثقفون في العراق، لأنَّ الثقافة تعني الوعي والفكر والمحتوى المثمر، من يدعي الثقافة في هذا البلد إما أنْ يكون جزءاً من ماكنة التجهيل أو تراه صامتاً.

استنتاج

ثمة حقيقة..ان نوعية النظام السياسي الحاكم هو الذي يصنع نوعيىة مواطنيه.. بمعنى، ان قيم واخلاق وسلوك المثقف العراقي بعد التغيير هي انعكاس لنظام اشاع الفساد الذي كان يعد خزيا في القيم العراقية الصيلة أدى الى تخدير الضمير الأخلاقي لاسيما بين فئة المثقفين بوصفهم اكثر فئات المجتمع تعاملا مع النظام والناس بما يؤمن مصالحهم واعتبارهم الشخصي وخلاصهم من تغييب وتهميش اتعبهم وأضر بهم أخلاقيا ..والحل يكون في تشريع قانون لرعاية المثقفين كنا تقدمنا به في آذار 2023 باركه مفكرون واكاديميون واعلاميون..وليت اتحاد الأدباء والكتّاب في العراق يتبنى هذا المقترح ويخضعه لدراسة مستفيضة ورؤية ناضجة، لتقديمه الى البرلمان العراقي واقراره..فبه سيعيد للمثقف دوره في بناء الانسان والوطن..ليمارس دوره المشروع في (قضم) سمعة من يسيء للشعب والثقافة.

***

أ. د. قاسم حسين صالح

الشرق الأوسط منطقة غارقة في التقاليد والتاريخ، حيث ترسخت المحرمات المحيطة بموضوعات مثل الله والجنس والسياسة في المجتمع. تلعب هذه المحرمات دورا حاسما في تشكيل المشهد الثقافي والاجتماعي للمنطقة، وتؤثر على كل شيء من العلاقات الشخصية إلى السياسات الحكومية. من خلال فهم وفحص هذه المحرمات، يمكننا اكتساب رؤى قيمة حول تعقيدات المجتمع في الشرق الأوسط والعوامل التي تحرك عاداته ومعتقداته. أحد الأمثلة على المحرمات في الشرق الأوسط هو القواعد الصارمة المحيطة بالجنس والسلوك الجنسي. في العديد من بلدان المنطقة، تعتبر ممارسة الجنس قبل الزواج والمثلية الجنسية والعلاقات خارج نطاق الزواج خطيئة وتدينها السلطات الدينية. غالبا ما يؤدي المحرمات المحيطة بالجنس إلى معايير مجتمعية قمعية وعقوبات صارمة لمن يعصون، مما يؤدي إلى ثقافة السرية والعار. بالإضافة إلى ذلك، فإن التشابك بين الدين والسياسة في الشرق الأوسط يخلق طبقة أخرى من التعقيد عند مناقشة المحرمات. غالبا ما يمارس الزعماء الدينيون نفوذا كبيرا على القرارات السياسية، مما يؤدي إلى عدم وضوح الخط الفاصل بين السلطة الدينية والحكومية. من خلال استكشاف هذه المحرمات وتأثيرها على مجتمع الشرق الأوسط، يمكننا اكتساب فهم أفضل للنسيج الثقافي الغني للمنطقة والقوى التي تشكل مؤسساتها ومعتقداتها. المحرمات في الشرق الأوسط: الله والجنس والسياسة

المحرمات في الشرق الأوسط:

في الشرق الأوسط، تعتبر بعض المواضيع من المحرمات وتثير ردود فعل قوية من المجتمع. تدور هذه المحرمات حول الله والجنس والسياسة، وتشكل المناظر الثقافية والاجتماعية للمنطقة. يلعب الدين دورا محوريا في حياة الناس في الشرق الأوسط، وأي مناقشات أو أفعال يُنظر إليها على أنها لا تحترم الله أو الشخصيات الدينية تُقابل بانتقادات شديدة. يعتبر انتقاد الممارسات أو المعتقدات الدينية، أو التشكيك في الزعماء الدينيين، أو حتى الانخراط في ممارسات دينية غير تقليدية من المحرمات. غالبا ما يؤدي هذا الالتزام الصارم بالمعايير الدينية إلى حرية تعبير محدودة وتوقعات مجتمعية صارمة. تعد الحياة الجنسية موضوعا محرما آخر في الشرق الأوسط، حيث تملي المعايير المحافظة قواعد سلوك صارمة عندما يتعلق الأمر بالعلاقات والجنس. تعتبر المناقشات حول التربية الجنسية، والجنس قبل الزواج، وقضية المثليين جنسيا، وحتى العري مواضيع حساسة للغاية يمكن أن تؤدي إلى ردود فعل عنيفة من المجتمع. إن هذا المحظور حول الجنس ينبع من المعتقدات والقيم التقليدية التي تضع أهمية كبيرة على الحياء والعفة وشرف الأسرة. والسياسة موضوع مثير للجدال في الشرق الأوسط، حيث يمكن أن تؤدي المناقشات حول سياسات الحكومة أو الزعماء السياسيين أو الآراء المعارضة إلى الرقابة أو الاعتقال أو العقاب. وغالبا ما يُقابَل أي شكل من أشكال النقد للحكومة أو السلطات الحاكمة بمعارضة شديدة، حيث يُنظَر إلى المعارضة باعتبارها تهديدًا للاستقرار والأمن. ويعكس هذا المحظور حول السياسة المشهد السياسي المعقد في المنطقة، حيث تسود الأنظمة الاستبدادية والرقابة. وفي الختام، تعكس المحظورات في الشرق الأوسط المحيطة بالله والجنس والسياسة المعتقدات والقيم والأعراف المجتمعية الراسخة التي تشكل النسيج الثقافي والاجتماعي في المنطقة. وتعمل هذه المحظورات على الحفاظ على النظام والحفاظ على التقاليد وحماية الوضع الراهن. ومع ذلك، فإنها تحد أيضا من حرية التعبير وتنوع الرأي والتقدم الاجتماعي. ومن الأهمية بمكان تحدي هذه المحظورات ومعالجتها من أجل تعزيز الحوار المفتوح والتفكير النقدي واحترام الحقوق والحريات الفردية.

الله،

إن أحد أبرز المحرمات في الشرق الأوسط يدور حول مفهوم الله. فالدين يحتل مكانة مهمة في حياة الأفراد في هذه المنطقة، وأي مناقشة أو تصوير لله يعتبر غير محترم أو تجديفا محظور تماما. وفي العديد من الثقافات في الشرق الأوسط، يُبجل الله باعتباره السلطة العليا ومصدر التوجيه. وأي شكل من أشكال عدم الاحترام تجاه الله، سواء كان متعمدا أو غير متعمد، يُقابَل بانتقام سريع وإدانة شديدة من المجتمع. ونتيجة لذلك، غالبا ما يتردد الأفراد في الانخراط في مناقشات أو سلوكيات قد يُنظر إليها على أنها عدم احترام تجاه الله. إن المحرمات المحيطة بالله في الشرق الأوسط متأصلة بعمق في المجتمع ويتم دعمها من خلال المؤسسات الدينية والممارسات الثقافية والأعراف الاجتماعية. يعمل هذا المحرم كوسيلة للحفاظ على قدسية الله واحترامه في نظر المؤمنين والحفاظ على الهوية الثقافية والدينية للمنطقة. من المهم أن ندرك الحساسية المحيطة بمناقشات الله في الشرق الأوسط وأن نتعامل مع الموضوع باحترام وتفهم. ومن خلال الاعتراف بالمحرمات المحيطة بالله في هذه المنطقة واحترامها، يمكننا تعزيز التفاهم الثقافي وتعزيز التعايش السلمي بين الأفراد ذوي المعتقدات المختلفة.

الجنس،

في الشرق الأوسط، غالبا ما يُعتبر موضوع الجنس من المحرمات ويكتنفه قدر كبير من السرية. وقد ترسخ هذا الموقف الثقافي بعمق لأجيال، مع وجود معايير مجتمعية صارمة تملي كيفية التصرف فيما يتعلق بالجنس. ومع ذلك، من المهم تحدي هذه المحرمات وإجراء مناقشات مفتوحة حول الجنس من أجل تعزيز التعليم والتوعية وتمكين الأفراد. عند مناقشة الجنس في الشرق الأوسط، هناك خوف شامل من الحكم والعار المرتبط بأي شيء ينحرف عن المعايير التقليدية. يمكن أن يؤدي هذا إلى قمع الرغبات الفردية، والمواقف غير الصحية تجاه الجنس، وحتى إدامة الممارسات الضارة مثل تشويه الأعضاء التناسلية للإناث وزواج الأطفال. من خلال كسر الصمت المحيط بالجنس، يمكننا تحدي هذه الممارسات الضارة والعمل على خلق مجتمع أكثر انفتاحا وشمولا. من المهم أن ندرك أن الجنس هو جانب طبيعي وجوهري من الهوية البشرية، ولا ينبغي قمعه أو شيطنته. من خلال المشاركة في مناقشات مفتوحة وصادقة حول الجنس، يمكننا تمكين الأفراد من اتخاذ خيارات مستنيرة بشأن أجسادهم وعلاقاتهم. إن التثقيف حول ممارسات الجنس الآمن، والموافقة، والصحة الإنجابية أمر بالغ الأهمية من أجل تعزيز التجارب الجنسية الصحية والمُرضية. وعلاوة على ذلك، فإن كسر المحظورات حول الجنس يمكن أن يساعد أيضا في تفكيك الصور النمطية الجنسانية القديمة وتمكين الأفراد من تبني حياتهم الجنسية دون خوف من الحكم أو التمييز. من خلال تحدي هذه المحظورات وتعزيز الحرية الجنسية والاستقلال، يمكننا العمل نحو خلق مجتمع أكثر شمولا وتقدمًا في الشرق الأوسط. في الختام، من الأهمية بمكان كسر الصمت المحيط بالجنس في الشرق الأوسط من أجل تعزيز التعليم والتوعية وتمكين الأفراد. من خلال تحدي المحظورات وإجراء مناقشات مفتوحة حول الجنس، يمكننا العمل نحو خلق مجتمع أكثر شمولا وتقدما حيث يكون الأفراد أحرارا في التعبير عن حياتهم الجنسية دون خوف من الحكم أو العار. دعونا نسعى جاهدين لإنشاء مجتمع يتم فيه الاحتفال بالحرية الجنسية والاستقلال، بدلا من إدانته.

السياسة

في الشرق الأوسط، تُعَد السياسة موضوعا شديد الحساسية ومحظورا. وللمنطقة تاريخ طويل من الاضطرابات السياسية والصراعات، مما يجعلها موضوعا غالبا ما يتم تجنبه أو مناقشته بحذر. من الأنظمة الاستبدادية إلى الحروب المستمرة، فإن المشهد السياسي في الشرق الأوسط معقد ومحفوف بالتوتر. أحد الأسباب الرئيسية لكون السياسة محظورة في الشرق الأوسط هو التأثير الثقيل للأنظمة الاستبدادية والرقابة الحكومية. يحكم العديد من البلدان في المنطقة قادة استبداديون يقمعون المعارضة ويحدون من حرية التعبير. إن التحدث ضد الحكومة أو التشكيك في سياساتها يمكن أن يؤدي إلى عواقب وخيمة، بما في ذلك السجن وحتى الموت. ونتيجة لذلك، يتردد العديد من الناس في الشرق الأوسط في التعبير عن آرائهم السياسية خوفا من الانتقام. وعلاوة على ذلك، فإن الانقسامات العميقة الجذور والتنافسات بين الفصائل السياسية المختلفة والجماعات الدينية في الشرق الأوسط تجعل مناقشة السياسة مسألة حساسة. في بلدان مثل العراق وسوريا ولبنان، غالبا ما ترتبط الانتماءات السياسية بالهويات الطائفية، مما يزيد من تعقيد الخطاب السياسي. إن هذه الانقسامات قد تؤدي إلى مناقشات ساخنة وحتى العنف، مما يجعل من الصعب على الناس التعبير بحرية عن معتقداتهم السياسية دون خوف من ردود الفعل العنيفة. وعلى الرغم من هذه التحديات، فمن الأهمية بمكان أن يشارك الأفراد في الشرق الأوسط في حوار مفتوح وبنّاء حول السياسة. ومن خلال كسر المحرمات المحيطة بالمناقشات السياسية، يمكن للناس العمل نحو بناء مجتمع أكثر شمولاً وديمقراطية. ومن المهم تحدي الأنظمة الاستبدادية، ومحاسبة الحكومات، والدعوة إلى الإصلاح السياسي من أجل خلق مستقبل أكثر عدالة وإنصافا للجميع. في حين أن السياسة قد تكون موضوعا محظورا في الشرق الأوسط، فمن الضروري أن يتغلب الأفراد على مخاوفهم ويشاركوا في محادثات هادفة حول القضايا السياسية التي تواجه منطقتهم. ومن خلال تعزيز الحوار المفتوح وتعزيز المشاركة السياسية، يمكن للناس في الشرق الأوسط العمل نحو بناء مجتمع أكثر ديمقراطية وسلاما. دعونا لا نخجل من مناقشة السياسة، بل نغتنم الفرصة لإحداث تغيير إيجابي في المنطقة.

إن المحرمات المحيطة بالله والجنس والسياسة في الشرق الأوسط متأصلة بعمق في النسيج الثقافي والمجتمعي للمنطقة. إن هذه المحرمات تخدم في الحفاظ على القيم والمعتقدات التقليدية التي توارثتها الأجيال. ومع ذلك، فمن المهم أن نفحص هذه المحرمات ونتحداها بشكل نقدي من أجل تعزيز التقدم والمساواة وحرية التعبير. ومن خلال كسر هذه الحواجز، يمكننا العمل نحو مجتمع أكثر شمولا وانفتاحا يحترم المعتقدات والقيم الفردية. لقد حان الوقت لطرح الأسئلة حول المحرمات التي أعاقتنا لفترة طويلة وتبني منظور أكثر استنارة وتقدمية.

***

محمد عبد الكريم يوسف

....................

المراجع:

1.     Haeri, Shahla. "Law of Desire." Feminist Studies, vol. 15, no. 1, 1989, pp. 123-139.

2.     Kazemi, Farhad. "The Politics of Gender and Sexuality in the Middle East." Journal of Middle East Women's Studies, vol. 12, no. 3, 2016, pp. 321-340.

3.     Fernea, Elizabeth Warnock. "In Search of Islamic Feminism: One Woman's Global Journey." University of Texas Press, 1998.

4.     Kandiyoti, Deniz. "Women, Islam, and the State." Temple University Press, 1991.

5.     Mir-Hosseini, Ziba. "Gender and Equality in Muslim Family Law: Justice and Ethics in the Islamic Legal Tradition." IB Tauris, 2013.

6.     Nugent, Jeffery B. "Arab Socialist Taboos: The Case of the Sex Question in Syria." Middle Eastern Studies, vol. 11, no. 3, 1975, pp. 267-289.

7.     Tuastad, Dag Henrik. "Politics of Violence, Truth, and Reconciliation in the Arab Middle East." Routledge, 2014.

8.     "Sex and Politics in the Middle East." Mordechay Lewy, 2017.

9.     "Middle Eastern Taboos: Understanding the Cultural Norms." Maryam Al-Kubaisy, 2019.

10.   "Religion and Society in the Middle East." Tamara Sonn, 2018.

في السنوات الأخيرة، شهدت الفلسفة تراجعًا داخل الأوساط الأكاديمية. ولقد أصبحت الفلسفة التي كانت ذات يوم تخصصًا مزدهراً خارج حدود الجامعة، معزولة بشكل متزايد داخل الأقسام الأكاديمية والمجلات العلمية. وقد ترافق هذا التحول مع التخصص المفرط الذي غالبًا ما ينتج نثرًا غير قابل للاختراق وقاحلًا من الناحية الأسلوبية. في حين قد يجادل البعض بأن القوى الأكبر التي تؤثر على العلوم الإنسانية كلها هي المسؤولة عن هذا التراجع، فمن الواضح أن الطرق التي يتم بها متابعة الفلسفة وإدارتها تلعب أيضًا دورًا مهمًا. لكي تستعيد الفلسفة أهميتها ومكانتها في الأوساط الأكاديمية، يجب عليها إعادة التعامل مع جوهرها الحقيقي: طرح أسئلة ذات معنى واستكشاف الادعاءات الجريئة.

يمكن إرجاع تراجع الفلسفة إلى الأوساط الأكاديمية إلى أوائل القرن العشرين عندما بدأت التطورات التكنولوجية والثورات العلمية في تحولات المجتمع الغربي. وكان لهذه التغييرات آثار بعيدة المدى على مختلف التخصصات، بما في ذلك الفلسفة، وبينما سعت المجالات الأخرى إلى محاكاة العلم بطريقة ما، خضعت الفلسفة أيضًا للاحتراف والتخصص.

ومع ذلك، على عكس التخصصات العلمية حيث يمكن حل الخلاف من خلال الأدلة التجريبية، فإن الخلافات الفلسفية تميل إلى أن تكون غير قابلة للحل في نهاية المطاف لا توجد طريقة محددة لتأكيد أو دحض وجهات النظر الفلسفية بخلاف تقديم أسباب اعتناقها، هذه الطبيعة المتأصلة للفلسفة تجعلها مناسبة لطرح الأسئلة بدلاً من تقديم الإجابات. لسوء الحظ، عندما أصبح الفلاسفة أكثر رسوخًا في المساعي الأكاديمية، أصبح عملهم منفصلاً عن الخطاب العام. كان تراجع الفلسفة داخل الأوساط الأكاديمية يعني أن عددًا أقل من الأشخاص تعرضوا للأفكار الفلسفية خارج دورات المستوى التمهيدي التي تتطلبها برامج التعليم العام. وبالتالي، غالبًا ما واجه الطلاب " الفلسفة" كوسيلة لكبار أعضاء هيئة التدريس للتخلص من واجبات التدريس بدلاً من اعتبارها مجالًا محفزًا فكريًا للبحث.

أدى تراجع الفلسفة في الأوساط الأكاديمية إلى التركيز على التخصص الفائق بدءًا من كلية الدراسات العليا فصاعدًا، لقد تعمق الفلاسفة بشكل متزايد في مجالات بحثية ضيقة، مما أدى إلى مشاريع تقنية تتميز باللغة التي لا يمكن اختراقها والجفاف الأسلوبي. في حين أن هناك مكانًا للعمل الفني والتحليلي في الفلسفة، فإن هيمنة مثل هذا العمل قد طغت على الجوانب الأوسع والأكثر تأملية في هذا التخصص.

تاريخيًا، أنتجت الفلسفة أعمالًا كانت في متناول جمهور أوسع وتناولت القضايا الاجتماعية والثقافية والسياسية الملحة. وابتكر مفكرون مثل بيكو ديلا ميراندولا وإيراسموس ومونتين أعمالًا فلسفية لاقت صدى لدى الناس من جميع مناحي الحياة. لم تكن هذه الأعمال صارمة فكريًا فحسب، بل كانت أيضًا جذابة بشكل إبداعي.

لاستعادة مكانتها الاجتماعية وأهميتها داخل الأوساط الأكاديمية، يجب على الفلسفة إعادة اكتشاف قدرتها على التعامل مع الأسئلة الكبيرة واستكشاف الادعاءات الجريئة. ينبغي تشجيع الفلاسفة على متابعة مشاريع تأملية أكبر لتستحوذ على الخيال وتتخطى الحدود. ومن خلال إعادة التأكيد على الإبداع إلى جانب مخرجات البحوث في تقييم أعضاء هيئة التدريس، تستطيع المؤسسات الأكاديمية أن تعمل على تعزيز بيئة مواتية للتساؤل الفلسفي الذي يتجاوز الجوانب الفنية الضيقة.

ما يميز الفلسفة عن التخصصات الأخرى هو قدرتها على طرح أسئلة عميقة تتحدى المفاهيم المسبقة حول العالم الذي نعيش فيه. غالبًا ما تقودنا الاستفسارات الفلسفية إلى إعادة تقييم معتقداتنا وافتراضاتنا الأساسية. تفتح عملية التساؤل هذه طرقًا جديدة للاستكشاف وتساعدنا على فهم أنفسنا ومكانتنا في العالم بشكل أفضل.

في حين أن الفلاسفة قد لا يقدمون إجابات محددة على هذه الأسئلة، إلا أنهم يلعبون دورًا حاسمًا في تشكيل الخطاب العام من خلال إثارة قضايا مهمة يجب على المجتمع التعامل معها. إن رؤاهم في الأخلاق، والسياسة، وعلم الوجود، ونظرية المعرفة، وعلم الجمال - من بين مجالات أخرى - تقدم وجهات نظر قيمة حول التجارب الإنسانية المعقدة.

تمتد مساهمات الفلسفة إلى ما هو أبعد من الأوساط الأكاديمية؛ لقد أثروا في مجالات متنوعة مثل الأدب، والفن، والعلوم، وتطوير التكنولوجيا، وصنع السياسات، ومن خلال إدراك هذه الإمكانات متعددة التخصصات المتأصلة في اتساع موضوعات البحث الفلسفية، فمن الممكن للفلسفة أن تستعيد مكانتها كمجال حيوي داخل كل من الأوساط الأكاديمية والمجتمع ككل.

هل يكمن إعادة تصور دور الفلسفة:

لتنشيط الفلسفة داخل الأوساط الأكاديمية، من الضروري إعادة تصور دورها والغرض منها. ولا ينبغي للفلسفة أن تقتصر بعد الآن على جدران المؤسسات الأكاديمية فحسب؛ وينبغي أن تشارك بنشاط في المجال العام. و يجب على الفلاسفة المغامرة خارج نطاق المكتبية الخاصة بهم والإنشغال بإيصال أفكارهم بطرق يسهل الوصول إليها والتي يتردد صداها مع جمهور بطريقة واسعة .

وبدلاً من التركيز فقط على التفاصيل التقنية، يجب على الفلاسفة أن يتبنوا مشاريع تأملية أوسع تستكشف الروابط بين التخصصات وتعالج التحديات المجتمعية، وهذا يتطلب الابتعاد عن الاتجاه الحالي للتخصص المفرط نحو نهج أكثر شمولية وإبداعا.

إن تراجع الفلسفة داخل الأوساط الأكاديمية لا يرجع فقط إلى عوامل خارجية تؤثر على العلوم الإنسانية؛ كما أنه يتأثر بمشاكل الفلسفة الداخلية، من خلال إعادة الاتصال بطبيعتها الجوهرية كمجال يثير أسئلة مهمة ويستكشف الادعاءات الجريئة، وبهذا تتمكن الفلسفة من استعادة أهميتها داخل الأوساط الأكاديمية والمجتمع ككل.

ولكن وسط هذا التفاؤل الذي يبقى قائماً ما دام الإنسان حياً ومفكراً، تعلن الأوساط الفلسفية العربية والمصرية مفاجئتها من قرارات وزارة التعليم العالي والتربية في مصر من إلغاء الدرس الفلسفي من الثانويات العامة. ونرى أن لا محل لهذه المفاجئة ما دام هناك تاريخ من التفاوت والمفارقات في التعامل مع الفلسفة في قرارات وزارات التعليم العالي والتربية في البلدان العربية عامة. فبلداننا تتعامل مع الفلسفة والدرس الفلسفي في خجل ووجل، بين محرم لها كما كان حالها في السعودية، وبين من يبيحها ويسمح بها ولكن لا يرى جدوى عملية منها. ولعل انعدام الجدوائية العملية هي التي دفعت الحكومة المصرية إلى إلغائها من التعليم الثانوي في عامها الدراسي 2025. ولعله نفسه جعل الحكومة العراقية ووزارة التربية لم تدخل الدرس الفلسفي بشكل موسع في الثانويات العامة. وأبقت على درس هامشي لم يدخل حتى في التقييم العام للطالب طيلة عقود من تاريخ (الفلسفة المؤسسية) في العراق، وللإضافة لا يوجد في العراق إي جمعية فلسفية على الرغم من وجود 6 أقسام فلسفة، وهناك أعداد كبيرة من خريجي الفلسفة فيه. فهناك تفاوت كبير في العراق في التعامل مع الفلسفة، يضع الفلسفة في موقف اللاجدوى، وهذا التفاوت هو بين وجودها المؤسسي في وزارة التعليم العالي وتقليصها المؤسسي في وزارة التربية، مما يضعها مخرجاتها في موضع البطالة أو البطالة المقنعة . على عكس الأمر في دولة مصر العربية الشقيقة فيها كرسي اليونسكو للفلسفة، وفيها جمعيات فلسفية، وهذا ما يمكنها من توسيع تشاطها مجتمعياً تعوض به إلغاء (الفلسفة المؤسسية) من ثانوياتها. أما موقف الفلسفة في الجزائر الشقيق فعل هناك مساحة جيدة بين التعليم الجامعي للفلسفة والتعليم الثانوي، فضلاً عن انتشار الجمعيات الفلسفية فيه ولاياتها. ولعل موقفها في المغرب العربي مشابه للحالة الجزائرية، أما موقف الفلسفة في لبنان فهو أيضا متأرجح في الإهتمام الحكومي بين التعليم الجامعي والثانوي على مستوى المناهج وجدواها. أما في سوريا فالأمر مشابه تقريبا للحالة اللبنانية، أما في الخليج العربي فهو يتعاطى معها بشكل محدود جداً على مستوى الدراسة والبحث، ولعله لأسباب إيديولوجية كما هو الحال في السودان.

وما يُثير الأشكال أكثر في تعاطي البلدان العربية المتفاوت مع الفلسفة بالطريقة "المؤسسية" هو إن هناك تيارات فكرية تصنف بما يعرف (تيارات الفكر العربي المعاصر) إي أنه نتاج منظومة فكرية عربية مؤسسية تبعاً للإيديولوجيا التي تحملها سواء كانت قومية، أو شيوعية _ ماركسية، أو وجودية، أو ناصرية، أو مادية، أو عدمية، الهم إن يكون هناك متبنيات فكرية تحمي الدرس الفلسفي في إطاره المؤسسي، ليكون نافذتها للخطاب النخبوي والعام. ولكن حتى هذه البنية في التكوين الإيديولوجي للفلسفة داخل العقلية العربية لم يعد له وجود في الغالب. لذلك الفلسفة فقدت جدوائيتها العملية في التداول العام. وما يزيد الأمر تعقيداً هو ذلك الاختراق الكبير لعالم التكنولوجيا الرقمي والذكاء الأصطناعي وما يقدمه من بدائل عملية لتساؤلات طارئة وحلول سريعة. جعل الأمر يختلف تماماً عن العقلية التقليدية في التعاطي مع الفلسفة وقيمها الغنوصية. وهذا الواقع الجديد الذي وقعت به الفلسفة لا يخص (الفلسفة المؤسسية) عربيا ًبل حتى غربياً، وقد نوهنا لهذا الأمر في بداية المقال.

لذلك نعتقد ان الأمر مرتبط بالدرجة الأسس في الجدوى الفعلية من قيمة (الفلسفة المؤسسية) داخل المؤسسة أولاً، ورغبة الطلبة ثانياً، ولو المؤسسات المصرية عملت استبيان عن رأي الطلبة في قرار الوزارة بشأن إلغاء درس الفلسفة، نعتقد أن الإجابة ستعكس مستوى الرضا عن هذا القرار وتأييده.

***

الدكتور رائد عبيس

التجربة الصينية

عرضت مؤخرا التجربة البريطانية في التعليم، والتي يتميز نظامها بتعليم الطلاب المهارات الأساسية والتركيز على التفكير النقدي وحل المشكلات والتعلم التعاوني والتقييم المستمر وخلق بيئة محفزة للعمل (مصدر 1). في هذه الحلقة، التي تغيرعنوانها قليلا، سانتقل الى تجربة مختلفة تماما، وهي تجربة الصين، لاستعراض ايجابياتها وسلبياتها، وساتطرق باختصار الى عملية الاصلاح الجارية.

يمتاز النظام التعليمي الصيني بالعديد من الايجابيات، مثل التركيز على التفوق الاكاديمي والانضباط والهيكلية. ومع ذلك، يواجه ايضا تحديات مثل الضغط العالي على الطلاب والاعتماد على الحفظ والتلقين. هناك اتجاه نحو تحقيق توازن بين التفوق الاكاديمي وتطوير مهارات التفكير النقدي والابداعي لضمان نجاح الطلاب في المستقبل.

الايجابيات

يتميز النظام التعليمي الصيني بتركيزه الكبير على التفوق الأكاديمي، خاصة في المواد الأساسية مثل الرياضيات والعلوم واللغات، مما يساعد الطلاب على تحقيق نتائج ممتازة في المسابقات والاختبارات الدولية. يتصف هذا النظام بانضباطه وهيكليته الصارمة، مما يعزز مهارات إدارة الوقت والانضباط والتنظيم لدى الطلاب، وهي مهارات أساسية للنجاح الأكاديمي والمهني في المستقبل. ويتم إعطاء أهمية كبيرة للمواد الأساسية مثل العلوم والرياضيات واللغات، مما يوفر للطلاب أساسًا أكاديميا قويا يمكنهم البناء عليه في مسيرتهم الأكاديمية والمهنية. بالإضافة إلى ذلك، يولي النظام التعليمي الصيني أهمية كبيرة لتعليم مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة  (STEM)، مما يساعد الطلاب على التأهل للعمل في مجالات ذات طلب عالٍ مثل التكنولوجيا والهندسة. تنجح الصين أيضا في خلق أبطال رياضيين من خلال برامج رياضية متخصصة منذ سن مبكرة، واستخدام التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي لتحسين الأداء، والتوازن بين التعليم والرياضة، والدعم الحكومي الكبير. هذه الاستراتيجيات المتكاملة تساعد في تحقيق نجاحات رياضية كبيرة رغم التركيز على التعليم الأكاديمي والضغط العالي على الطلاب.

السلبيات

النظام التعليمي الصيني معروف بضغطه العالي والمنافسة الشديدة بين الطلاب، مما يؤدي إلى مستويات عالية من التوتر والقلق، ويؤثر سلبا على الصحة النفسية للطلاب. أحد الانتقادات الرئيسية لهذا النظام هو اعتماده الكبير على الحفظ والتلقين بدلاً من تعزيز التفكير النقدي والإبداعي، مما يحد من قدرة الطلاب على التفكير بشكل مستقل وحل المشكلات بطرق مبتكرة. وبالرغم من أن الطلاب الصينيين يظهرون مهارات تفكير قوية في المرحلة الثانوية، إلا أنهم يفقدون هذا التفوق في المرحلة الجامعية بسبب نقص التحفيز والتحديات الأكاديمية في الجامعات. كما يركز النظام التعليمي الصيني بشكل كبير على الامتحانات، خاصة امتحان القبول الجامعي الوطني  (gaokao)، مما يمكن أن يقتل الإبداع ويحد من تطوير مهارات أخرى غير أكاديمية. هذا التركيز يؤدي غالبا إلى حياة رتيبة "من المنزل إلى المدرسة إلى المنزل"، مع ساعات دراسية طويلة والعديد من الامتحانات لكل مادة، مما يترك القليل من الوقت للأنشطة اللامنهجية أو الهوايات.

التاثيرات السلبية للتعليم القائم على الامتحانات على طلاب المدارس في الصين

في دراسة لروبرت كيركباتريك ويويبينغ زانغ  يشير فيه الباحثين الى الاثار الضارة لنظام التعليم القائم على الامتحانات في الصين على طلاب المدارس الثانوية. سلطت دراستهم الضوء على عدة قضايا رئيسية، منها:

- الاثار السلبية:  يمكن ان يعيق النهج القائم على الامتحانات خيال الطلاب وابداعهم واحساسهم بالذات. هذه الصفات ضرورية للنجاح داخل وخارج الفصل الدراسي. يمكن ان يؤثر الضغط للتميز في الامتحانات ايضا سلبا على الصحة النفسية والاجتماعية للطلاب.

- تاثير الارتداد: يشير مفهوم "الارتداد" الى تاثير الاختبارات على التدريس والتعلم. يناقش المقال كيف يمكن ان يكون لهذا التاثير جوانب ايجابية او سلبية، اعتمادا على السياق. في حالة الصين، يكون تاثير الارتداد سلبي الى حد كبير، حيث يعيق تركيز نظام التعليم على الامتحانات التعلم والتطوير الاوسع.

- الحجج السياسية: يستكشف الكاتبان الحجج السياسية والافتراضات الكامنة وراء النهج القائم على الامتحانات. يقترحون ان الضغط المعتدل للتميز، الى جانب تقليل التركيز على الامتحانات ذات المخاطر العالية، يمكن ان يحفز الطلاب بشكل افضل ويحسن النجاح الاكاديمي والرفاهية النفسية.

خلصت الدراسة الى ان النهج الاكثر توازنا في التعليم، والذي يشمل تقليل التركيز على الامتحانات، يمكن ان يؤدي الى نتائج افضل للطلاب من حيث الاداء الاكاديمي والتطوير الشامل.

وفي هذا السياق، لابد من الاشارة الى حصول تغييرات كبيرة في اتجاه اصلاح نظام التعليم في الصين في السنوات الاخيرة، فقد اتخذت الحكومة الصينية خطوات جادة لاصلاح النظام التعليمي بهدف تحسين جودة التعليم وتقليل الضغط على الطلاب. ادناه بعض الاصلاحات الرئيسية:

- حظر الدروس الخصوصية:  في حزيران 2021، حظرت الحكومة الصينية الانشطة التعليمية بعد المدرسة، مما ادى الى انهيار السوق للشركات التعليمية الخاصة. كان الهدف من هذا الحظر هو تقليل الضغط على الطلاب وتخفيف العبء المالي على الاسر.

- خطة تحديث التعليم 2035: تهدف هذه الخطة الى تحديث نظام التعليم في الصين بحلول عام 2035. تشمل الاهداف الرئيسية تحسين جودة التعليم في جميع المراحل، تحقيق حضور شامل في التعليم قبل المدرسي، وتوفير تعليم عالي الجودة ومتوازن في التعليم الالزامي (الصفوف 1-9)، وتحسين التعليم المهني والتقني.

- تحسين جودة المعلمين والبنية التحتية التعليمية: تشمل الاصلاحات تحسين جودة المعلمين وتطوير البنية التحتية التعليمية، بما في ذلك القوانين والسياسات واطار المؤهلات والتقييم.

- التعليم مدى الحياة:  تروج الحكومة لفكرة التعليم مدى الحياة وتشجيع التعلم المستمر في جميع مراحل الحياة.

تسعى هذه الاصلاحات الى تحقيق توازن افضل بين التعليم الاكاديمي والنمو الشخصي للطلاب، وتقليل التركيز على الامتحانات ذات المخاطر العالية.

في الختام، يمكن القول ان التجارب التعليمية المختلفة، سواء في بريطانيا او الصين، تقدم رؤى قيمة حول كيفية تحسين نظم التعليم. بينما تركز بريطانيا على تطوير مهارات التفكير النقدي وحل المشكلات، تسعى الصين إلى تحقيق توازن بين مهارات الحفظ وتطوير مهارات التفكير النقدي. ان الاصلاحات الجارية في الصين تهدف إلى تقليل الضغط على الطلاب وتحسين جودة التعليم، مما يعكس التوجه نحو نهج اكثر توازنا وشمولية في التعليم.

***

ا. د. محمد الربيعي

........................

(1)

  al-nnas.com/ARTICLE/MAlRubey/4y01.htm

كنت وما أزل أنتقد وأرفض بحدة أي تدخل لرجال الدين والمراجع المذهبيين في الشأن العام، وفي شؤون إدارة وبناء الدولة والمجتمع لأن ذلك ليس تخصصهم بل تخصص الساسة والخبراء، من دون أن يعني ذلك حرمان رجال الدين من حقهم كمواطنين - وليس كزعماء ورموز في مجتمع متنوع ومنقسم طائفيا ومذهبيا وعرقيا- في التعبير عن آرائهم وقناعاتهم السياسية ومشاركتهم، وأكرر؛ كأفراد ومواطنين في العمل السياسي.

وقد كان للمرجع الشيعي علي السيستاني دور مؤثر وسلبي جدا من وجهة نظري في الوضع السياسي في العراق، سواء للتعامل مع الاحتلال والمحتلين الأميركيين سنة 2003 واعتبارهم ضيوفا كما نقل عنه المقربون منه، أو في إقامة نظام الحكم المحاصصاتي الجديد وكتابة الدستور المكوناتي الجديد، أو في دعم هذا النظام وتسويقه للمواطنين وإنقاذه من أزماته ...إلخ.

ولكني اليوم أرى فائدة قصوى من ترويج بعض فتاوى المرجع السيستاني بخصوص مواضيع محددة كتزويج الصغيرات القاصرات والزواج المؤقت والتجارة بالمخدرات. وكنت قد ذكرتُ في مناسبة سابقة أن هناك فتوى للمرجع تحدد سن البلوغ للبنت في التاسعة هلالية (أي ثماني سنوات وثمانية أشهر ميلادية). ولكني علمت مؤخرا أن المرجع السيستاني كان قد تحفظ على زواج الصغيرة وعلى الزواج المؤقت "زواج المتعة" وقال إن هذا النوع من الزيجات الذي كان موجودا في مجتمعاتنا قديما "انحسر في عصرنا" ولهذا حذف جانبا من فتاويه بهذا الخصوص من طبعات كتابه، وأدان الممارسات اللاأخلاقية تحت هذه العناوين من قبل بعض رجال الدين ينسبون أنفسهم إليه وطالب بردع المتاجرة بالجنس وتسجيل عقود شفهية مع فتيات دون السن القانوني.

معلوم أن هناك الكثيرين ممن يحاولون التلطي خلف المرجع السيستاني لتمرير هذا التعديل، ومن أبرزهم الشيخ رشيد الحسيني الذي هدد وتوعد وشتم بأقذع الألفاظ مَن يرفضون تعديل قانون الأحوال الشخصية وشكك بوطنيتهم وأخلاقهم رجالا ونساء. إن هذا السيد -  وهو بالمناسبة ليس وكيلا للسيستاني أو ناطقا باسمه كما قال هو شخصيا – يرى أن البنت القاصر هي التي لم تبلغ بعد، ويكون عمرها كما قال أقل من عشر سنوات، أما من هي في سن العشر سنوات فما فوق فليست قاصر/ الرابط 1. أي أن الفرق بينه وبين المرجع السيستاني هو سنة هلالية واحدة. أي أن الحسيني هنا يخالف الفتوى القديمة للسيستاني التي تقول إن سن البلوغ هو تسع سنوات هلالية أي ثماني سنوات وثمانية أشهر ميلادية.

ولكن المرجع السيستاني كان قد تحفظ على تزويج الصغيرات ولم يدرجه في الطبعات اللاحقة من كتابه كما قال في رد مكتبه على البرنامج الوثائقي الذي بثته قناة (بي بي سي) البريطانية حيث ورد حرفيا: "كان زواج الصغار ـــ أي زواج غير البالغة من غير البالغ ـــ أمراً متداولاً في العديد من المجتمعات الشرقية الى وقت قريب، ومن هنا تضمنت الرسالة الفتوائية في طبعاتها السابقة بعض أحكامه، ولكن لوحظ انحساره في الزمن الراهن فتمّ حذف جانب منه من الطبعات الأخيرة".

ويبدو أن المقصود هنا بـ "الزواج المنحسر مجتمعيا" هو تزويج الطفلة التي يكون عمرها أقل من تسع سنوات أي التي لم تبلغ بعد. ويبقى المطلوب أن ترتقي الفتوى السيستانية إلى التحفظ الواضح الذي عبر عنه بعض المراجع السُّنة العرب العراقيين كالشيخ عبد الستار عبد الجبار إمام جامع أبي حنيفة النعمان والقائل إنَّ "تلك الزيجات - وإنْ كان قد ورد ذكرها في عهد النبوة في سن التاسعة - فهي تخضع للعُرف في تلك الفترات، وهو ما لا ينطبق بالضرورة على وقتنا الحاضر". وينبغي المضي بهذه الفكرة إلى الأمام بشجاعة وتحويل هذا الكلام المتردد إلى دعوة صريحة لإبطال هذه التحديدات لسن الزواج لمن هُنَّ دون الثامنة عشرة وهو متوسط العمر العالمي لغالبية الدول الإسلامية وغير الإسلامية للإناث في عصرنا.

إن المطلوب وطنيا وإنسانيا هو تكريس الاحتكام إلى ما ورد في قانون الأحوال الشخصية 188 العراقي والدفاع عنه والدعوة لتطويره باتجاه تقدمي وعلى يد المتخصصين وليس تعديله باتجاه مذهبي وطائفي واستبداله بمدونات شيعية وأخرى سنية وثالثة مسيحية، واحترام السن المقرر للبلوغ وهو الثامنة عشرة مع منح القاضي حق بعض الاستثناءات المعللة حتى سن 15 فقط للفتيات ومنع زواج مَنْ هُنَّ دون ذلك السن.

* قصة البي بي سي: في شهر تشرين الأول من سنة 2019 كان قناة بي بي سي البريطانية قد بثت تحقيقا استقصائيا /الرابط 2. ووجهت القناة ثلاثة أسئلة إلى مكتب المرجع السيستاني ندرجها أدناه مع الأجوبة عليها:

السؤال الأول: "لدينا تسجيل مصور يثبت أن اثنين من رجال الدين في العراق ممن يصفون أنفسهم بأنهم من أتباع آية الله العظمى السيد السيستاني يخالفان القانون العراقي بتوفير او الاستعداد لتوفير نساء من أجل زواج المتعة وهما يتقاضيان مالاً لقاء هذه (الخدمة) التي تعد متاجرة بالجنس".

وكانت إجابته عليه: إن هذه الممارسات إن كان لها واقع كما ذكرتم فهي مدانة ومستنكرة بكل تأكيد، ومن هو من أتباع المرجعية الدينية حقاً لا يقوم بها، والزواج المؤقت الذي يجوز في مذهب الامامية ـــ وكذلك ما يشبهه من الزواج الدائم المبني على اسقاط الحقوق الزوجية عدا حق المضاجعة ــ لا يسوغ أن يتخذ وسيلة للمتاجرة بالجنس بالطريقة المذكورة التي تمتهن كرامة المرأة وانسانيتها، ولا يتبعها الا ضعاف النفوس الذين لا يتورعون عن استغلال الدين وسيلة للوصول الى اهدافهم غير المشروعة.

السؤال الثاني هو:" 2 ـ لدينا تسجيلات مصورة لرجال دين يقدمون نصائح دينية تفيد شرعية عقد زيجات مع أطفال دون السن القانوني في العراق وهو 15 عاماً. بعض رجال الدين هؤلاء يشيرون الى فتيات صغيرات جداً، كما أنهم يحددون الممارسات الجنسية التي يقولون إنها شرعية"

وأجاب عليه مكتب السيد المرجع بقوله: " هذا مدان أيضاً، ويجري عليه ما تقدم في أعلاه. ونؤكد على ضرورة أن تلاحق السلطات المعنية من يظهر في زيّ رجال الدين ويمارس هذه الافعال ويروّج لممارسات لها تبعات بالغة السوء على المجتمع وموقع الدين في نفوس الناس. ومن هنا يتعين على السلطات المعنية اتخاذ الإجراءات القانونية الرادعة عن هذه التصرفات المشينة أينما كانت".

السؤال الثالث للقناة يقول: "كتب سماحته في طبعات سابقة من (منهاج الصالحين) أنه لا بأس بما دون الوطء من الاستمتاعات الجنسية من الزوجة غير البالغة. نحن ندرك بأن هذه النصيحة لم تتضمنها الطبعة الأخيرة المتوفرة".

وقد أجاب السيد المرجع بقوله: "كان زواج الصغار ـــ أي زواج غير البالغة من غير البالغ ـــ أمراً متداولاً في العديد من المجتمعات الشرقية الى وقت قريب، ومن هنا تضمنت الرسالة الفتوائية في طبعاتها السابقة بعض أحكامه، ولكن لوحظ انحساره في الزمن الراهن فتمّ حذف جانب منه من الطبعات الأخيرة".

*فتاوى ضد المخدرات والمتاجرين بها: وفي السياق، ومما يحمد للمرجع السيستاني أنه نشر فتوى مهمة حرَّم فيها المخدرات حتى الخفيفة منها كالتنباك كما حرَّم المتاجرة بها وحتى نقلها ومقاطعة من يقوم بذلك، ولكنه أجاز استعمالها لأغراض طبية بأمر المختصين / الرابط 3.

لقد صدرت هذه الفتوى ونشرت قبل خمس سنوات ولكنها كما يبدو لم تنشر وحدث تعتيم إعلامي عليها من قبل الفاسدين والمشتغلين عندهم، ولم يتكلم عنها وكلاء المرجع وخطباء الجمعة ومن حقنا أن نتساءل لماذا هذا التعتيم على هذا الموضوع وبذل الجهود والاحتدام من أجل تعديل "تدمير" قانون الأحوال الشخصية؟

*من جانبه المرجع المحاصَر كمال الحيدري: سن البلوغ الجنسي للفتاة بين 12 و13 عام، ولكن سن الزواج وبناء الأسرة قد لا يكون ممكنا حتى في السابعة عشرة وهناك فقهاء معروفون يجيزون تزويج الطفلة الرضيعة ذات السنتين!

المرجع كمال الحيدري يكشف جميع الأسرار

منذ عدة أشهر، يخضع المرجع العراقي المقيم في مدينة قُم الإيرانية كمال الحيدري للإقامة الإجبارية في منزله. وهو مُقاطَع من قبل الإعلام وممنوع من التواصل وسبق للإعلام الرسمي العراقي أن منع عرض برنامج حواري معه يدعى "المراجعة" قبل ثلاث سنوات، بل وألغي البرنامج كله من القناة التلفزيونية الرسمية بأوامر وضغوط من جهات دينية نافذة. وقد جوبه الحيدري بسبب آرائه التجديدية الجريئة في الشأن الفقهي والديني عموما بحملة مضادة شرسة من الهجاء والتشنيع وتشويه السمعة والاتهامات الباطلة الظالمة والتي بلغت درجة من الإسفاف إنه أتُهِم فيها بأنه برأ يزيد بن معاوية من قتل الحسين وصحبه كما قال ذلك الشيخ ياسين الموسوي، وإنه ينكر عددا من ثوابت المذهب الشيعي الإمامي كعصمة الأئمة وظهور الإمام المهدي وتشبيه نفسه بالإمام علي بن أبي طالب. وهذه كلها اتهامات باطلة رد عليها الحيدري وفندها بأسلوبه التوثيقي واحدة واحدة. وشرح بعضها وخصوصاً عدم معصومية الأئمة بالرجوع إلى القرآن حيث لم تثبت عنده.

ومن باب التعريف بآراء مراجع إسلاميين مجددين وتنويريين سأعرض في هذا المنشور بعض آراء المرجع الحيدري في مسألة سن تزويج الفتاة الذي حدده بعض فقهاء المذهب الجعفري بتسع سنوات أو عشر سنوات هلالية ومسائل أخرى من مشمولاتها. أدرج أدناه خلاصات مما ورد في حديث السيد الحيدري مع الإشارة إلى أنني لا أتبنى العنوان المكتوب مع هذا الفيديو وقد استعضت عنه بعنوان آخر:

* يبدأ الفيديو بلقطات للسيد رشيد الحسني أبرز المدافعين عن تزويج الفتيات في سن العاشرة، محاولاً تمييع موقفه بالتفريق بين مشروعية هذا التزويج "الجائز شرعا" كما يقول، وبين صعوبة أو استحالة تطبيق هذا السن عمليا في عصرنا حيث إنَّ نسبة من يوافقون من الآباء على تزويج بناتهم في العاشرة – كما يعترف هو نفسه - قد تصل إلى صفر بالمائة أو واحد بالمائة.

* ويقول الحيدري: إنَّ بعض المراجع يجيزون زواج الطفلة في السادسة من العمر، بل وإنَّ علماء المسلمين جميعا، سنة وشيعة، يُسمح عندهم "بالدخول في الزوجة" في عمر ما بعد التسعة، أما الزواج - من دون الدخول - فمسموح حتى بالرضيعة. وهذا يعني - بيني وبين الله - أن الزوج يأخذ زوجته الطفلة ذات السنتين من العمر مثلا ويلعب بها لعباً جنسياً وهو عمره ثلاثين سنة. بينكم وما بين الله أي شخص يسمع عن مثل هذه الفتاوى ماذا سيقول عن هذا الدين؟ وهذه في فتاوى المعاصرين وليس القدماء! / الدقيقة 1 و40 ثا.

*وعن وجود هذا النوع من الفتيا في كتبه هو يقول الحيدري إنه كتبها كمادة فقهية لتأكيد أن هذه الفتاوى ليست هي الفقه القرآني. وأوردها في زمن هادئ –وليس في حال القيامة قائمة كما هي الآن -.

* وفي ندوة أخرى يقول السيد الحيدري أن الثابت القرآني لا يقول بالبلوغ فقط بل بالأهلية لإدارة الأسرة وهو أن نستأنس منهم رشدا فالآية تقول: " حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ". والرشد هو الأهلية العقلية والتصرف الرشيد ولها الأولوية على المال والبلوغ لأن الهدف من النكاح هو بناء الأسرة.

* يؤكد الحيدري أن سن البلوغ هو سن التكاليف لأنها متعددة وليس تكليفا واحدا ولكل تكليف ظروفه. ويقول إنَّ الموجود عندنا في فقهنا الشيعي يقول، إذا بلغت الأنثى، ترتب على بلوغها كل شيء، وهذا غير صحيح، ولم يقم أي دليل على هذا.

* ويضيف: ولم يثبت عندي أن البلوغ في العبادات في سن التاسعة أبدا أبدا. وهناك نصوص فقهية تؤكد أن لا صوم إلا بعد أن تأتيها العادة الشهرية وهي تأتي بين 12 و13 من عمر الفتاة". أما سن الزواج فلا يكون في هذه السن بل ربما في سن السادسة عشرة أو السابعة عشرة ولا تستطيع الزواج وإدارة أسرة وتربية أطفال بسبب تعقد الحياة المعاصرة وصعوبتها ومن لا يلتفت إلى هذه العوامل فلينتظر تصاعدا في نسب الطلاق الكبيرة كما هي الحال في العراق وإيران ودول إسلامية أخرى.

***

علاء اللامي

.........................

*روابط للتوثيق:

1-الرابط الأول: السيد رشيد الحسيني: البنت القاصر هي التي لم تبلغ بعد ويكون عمرها أقل من عشر سنوات

https://www.youtube.com/watch?v=5dXKntUJK_g

2-أسئلة مراسلة بي بي سي إلى المرجع السيستاني حول بعض الممارسات وأجوبتها

https://www.bbc.com/arabic/middleeast-50053215

3- رابط: المرجع السيستاني يحرم المخدرات والمتاجرة بها ونقلها ويعتبر الأموال الناتجة عنها أمول سحت حرام:

https://www.sistani.org/arabic/qa/0712/

4- رابط فيديو أحاديث المرجع كمال الحيدري حول سن البلوغ والنكاح:

https://www.youtube.com/watch?v=pXuXodZXVfM

يتفق الأطباء النفسيون على أن (الأسبرجر) هو اضطراب يتميز بنمط من الأعراض بدلًا من عرض واحد محدد، أوضحها ضعف في التفاعل الاجتماعي (كعدم الذهاب إلى المناسبات أو عدم زيارة قريب مريض في المستشفى) واتباع أنماط محدودة ومقولبة من السلوك والأنشطة والرغبات، ولا يظهر فيه  أي تأخر ملحوظ في الإدراك أو تأخر في الناحية اللغوية.

هذه المتلازمة  تم اكتشافها في 1994 على يد الطبيب النمساوي هانز آسبرجرالذي قام بعمل توصيف لمجموعة من الأطفال الذين لم يكن ينقصهم الذكاء أو اللغه لكنهم كانوا يفتقرون لمهارات التواصل غيراللفظي. وتلعب (الجينات) دورا أساسيا في تكوين الدماغ لدي الأسبرجريين،حيث تستقبل أدمغتهم المعلومات وتتعامل معها بشكل مختلف،الأمر الذي يؤدي الى صعوبات في اقامة علاقات اجتماعية وتأثير في تطورهم  المهني واستقرارهم الأسري.

عباقرة اسبرجر!

ستندهش اذا علمت ان متلازمة اسبرجر تعتبر مرض المشاهير، بينهم (ايلون ماسك) رجل الأعمال المثير للجدل الذي امتلك (تويتر وغير اسمه الى أكس) وتم تشخيصه بأنه مصاب بمتلازمة اسبرجر. وحين سئل عنها أجاب بأنه أحيانا يقول أو يكتب أشياء غريبة، لكن هذه هي الطريقة التي يعمل بها عقله!. وعلى الرغم من نجاحه المذهل، فإنه ما يزال يتعرض للتنمر و النظرات الدونية بسبب (اسبرجر).

وبين النساء ناشطة بيئية سويدية اسمها (غريتا) مصابة بها ،ومع ذلك فأنها رشحت لجائزة نوبل!..وقد وصفت (اسبرجر ) بأنها قوة خارقة.

وفي عالمنا العربي ..نشرت جريدة اخبار اليوم القاهرية عن طفل اسمه (نوح- ثمان سنوات) رفضت المدارس تسجيله لأصابته بها و لمستواه العلمي العبقري في اللغة الأنجليزية!

وأوضحت والدة الطفل" نوح "، أن ابنها ولد مصابًا بمتلازمة أسبرجر وهي التي جعلته يجيد اللغة الإنجليزية بطلاقة، دون تعلم، لكنه لا يمكنه نطق اللغة العربية!.!

والتساؤل هنا:

ترى كم طفل عراقي وعربي لدينا مصاب بمتلازمة اسبرجر، ننتبه الى مرضه ولا ندرك عبقريته؟!

***

أ. د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

في المثقف اليوم