قضايا

عندما كنت أكتب بحثي عن "العقل والإيمان في العصر الجديد"، تتبعت الأعمال المكتوبة باللغة العربية حول هذا الموضوع، فوجدت أن معظم هذه الأعمال كانت ذات طبيعة کلامیة وليس فلسفية. الكُتّاب العرب تناولوا هذه القضية بشكل أساسي برؤية کلامیة، بينما كان تفسيري لها ذو طبيعة فلسفية. في هذا السياق، قرأت أعمال الدكتور عبد الجبار الرفاعي، فرأيته يتناول هذه القضية بشكل أساسي من منظور فلسفة الدين. إسهامات الرفاعي أضافت بعدًا فلسفيًا قيمًا للموضوع، حيث لم يكتفِ بالتطرق إلى الأبعاد الکلامیة فحسب، بل عمق النظر في الأسس الفلسفية لتحليل الظاهرة الدينية وبيان الصلة بين العقل والإيمان. تظهر الرؤية الفلسفية في مؤلفات الرفاعي عن الدين في تعريفه للدين باعتباره "حاجة وجودية" كما يعبر عنه، وفي عناوين كتبه عن الدين، التي ورد فيها مصطلح الأنطولوجيا الفلسفية، كما في "الدين والظمأ الأنطولوجي"، وفي مصطلح الاغتراب الميتافيزيقي الفلسفي في كتابه: "الدين الاغتراب الميتافيزيقي"، وكثرة استعماله للتفسير الأنطولوجي الوجودي الفلسفي للدين، حتى عندما تحدث عن الكرامة في كتابه: "الدين والكرامة الإنسانية" وصف "الكرامة بقوله "مقام وجودي" منحه الله للإنسان عند خلقه، لذلك لا يمكن تجريده منها، ومصطلح "مقام وجودي" فلسفي، وهكذا فسّر الرفاعي الوحيَ بوصفه "طورًا وجوديًا يتسامى إليه النبي. الوحيُ حقيقةٌ أصيلة تعكس تكاملًا في وجود مَنْ يتلقاه، وتكشف عن صلة وجودية استثنائية للنبي بالله".

الدكتور عبد الجبار الرفاعي هو أحد الاستثناءات النادرة، حيث يتركز فكره على علم الكلام الجديد والتجديد الفلسفي للدين بشكل أساسي. يعتمد الرفاعي على البعد الفلسفي للحداثة الدينية، الذي واصل العمل على اشاعته في العالم العربي منذ أكثر من 30 سنة، من خلال مؤلفاته في فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد، ومجلته قضايا إسلامية معاصرة التي أصدرها منذ نحو 30 سنة، وصدر منها 80 عددًا مرجعيًا في فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد. عبد الجبار الرفاعي لبث سنوات طويلة في حوزة قم بعد انتقاله إليها من حوزة النجف، وتعلم اللغة الفارسية، مما أضاف أبعادًا جديدة لتكوينه الفلسفي. الرفاعي يعتبر جسراً يختصر المسافة الناجمة عن الاختلاف اللغوي بين خطاب الحداثة الدينية في العالم العربي والحداثة الدينية في إيران. أصدر الرفاعي في فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد عدة مؤلفات، وهي: "الدين والظمأ الأنطولوجي" و"الدين والاغتراب الميتافيزيقي" و"مقدمة في علم الكلام الجديد" و"الدين والكرامة الإنسانية" و"الدين والنزعة الإنسانية" و "مفارقات وأضداد في توظيف الدين والتراث"، وتصدر في هذه السنة 2024 موسوعة فلسفة الدين في 8 أجزاء من إعداده وتحريره. وعلى الرغم من ذلك، لم تحظ أعماله بالاعتراف الكافي حتى الآن، وإن كان من المرجح أن يصبح منهجه الفلسفي مؤثراً في خطاب الحداثة الدينية في العالم العربي في المستقبل القريب.

في تأسيسه لمشروعه للتجديد على فلسفة الدين يختلف عبد الجبار الرفاعي عن أكثر المفكرين الدينيين في العالم العربي. یقول الأستاذ مصطفی ملكيان: "إن منطلق الحداثة في إيران يقوم على انفصال الإنسان عن التراث، سواء في مقام الثبوت أو الإثبات. كلما زاد هذا الانفصال، أصبح الشخص أكثر حداثة. أما في العالم العربي، فالحداثة لا تقترن بالانفصال عن التراث، بل تعني قراءة جديدة ورواية جديدة له. المثقفون العرب يعيشون في برزخ بين العالم القديم والجديد، وينظرون إلى خلفيتهم الثقافية بمنظور جديد، بينما المثقفون في إيران انعزلوا تماماً عن التراث وتوجهوا نحو العالم الجديد. ربما ينبع هذا التمييز من كون تيار الحداثة في إيران - بما في ذلك الحداثة الدينية - ذا طابع فلسفي، مشابه للحداثة الأوروبية، في حين أن الحداثة في العالم العربي تعتمد بشكل رئيسي على العقل اللاهوتي وتُعتبر استمراراً للتراث العربي الإسلامي"[1].

كلام ملكيان في التمييز بين الاتجاه الحداثي في ​​إيران والعالم العربي يحتاج إلى مزيد من التأمل، وذلك: أولاً وقبل كل شيء، فإن تيارات التجديد في العالم العربي وفي إيران المعاصرة عديدة ومتنوعة. وقد تحدث ملكيان نفسه عن أشكال التجديد المختلفة في إيران، مثل: الهايدجرية، والوضعية، والماركسية، والحداثة الدينية وغير ذلك. وهكذا توجد في العالم العربي مدارس فكرية مختلفة، مثل: اليساريين، والليبراليين، والقوميين وغيرها، مما يدل على تنوع الحركة الحداثية في العالم العربي. إن اتساع الوطن العربي، من المغرب إلی مصر ومن الشرق إلی الغرب، عامل آخر أدى إلى تنوع حركة التجديد فيه. ونظراً لتنوع وتعدد حركات التجديد في إيران والعالم العربي، يبدو أن إصدار حكم عام في هذا المجال أمر يحتاج إلى مزيد من التفكير. وبدلاً من ذلك، يبدو أن أسلوب التفکیک هو الأكثر ملاءمة في سياق الحقيقة، لأنه يتجنب إصدار حكم عام ويتم مقارنة کل من الاتجاهات الحديثة في إيران وفي العالم العربي بشكل منفصل.

ثانياً، كانت حركة التجديد في إيران بدایة، مثل العديد من البلدان الأخرى، مصحوبة بنوع من الشعور بالهزيمة الذاتية أمام الحضارة الغربية. واعتبر عدد من مفكري الجيل الأول في إيران، الحداثة سلعة تجارية غربية، وزعموا أنه إذا دخلت السلع والتكنولوجيا الغربية إلى إيران، فيمكن أيضًا استيراد القيم الحديثة مثل الفردية والحرية والحقوق الطبيعية وغيرها. وفي مقابل هذه المواجهة التي يمكن تفسيرها على أنها غربية متطرفة ومتجذرة في العقل المجرد الكانطي- الديكارتي، ظهر تيار آخر يعتبر كل ما يأتي من الغرب مرفوضاً واستعمارياً. في هذا الوسط، يمكن وضع تيار المثقفين الدينيين في الوسط، لأن هذه الحركة حاولت ایجاد التوافق بين التقليد والعالم الحديث، بحيث لا تنقطع عن التقليد الذي اعتبر الدين عنصره الأساسي، ولا تتجاهل الواقع الحديث.

بشكل عام، يمكن القول أن حركة المثقفين الدينيين في إيران أصبحت أكثر فلسفية منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي، وقد ابتعد الجيل الجديد من المفكرين الدينيين فی إيران عن التراث أكثر من الماضي. ويكفي لإثبات هذا الادعاء الرجوع إلى مؤلفات محمد مجتهد شبستري، ومصطفي ملكيان، وعبد الكريم سروش، ولا سيما رؤيته الأخيرة للحقيقة والمنهج، والدكتور سروش دباغ[2]، والدكتور آرش نراقي.

في حين أن كبار مفكري الوطن العربي مثل: الدكتور حسن حنفي، والدكتور طه عبد الرحمن، والدكتور أبو يعرب المرزوقي، وغيرهم ما زالوا يقفون على أرض التقليد، ويحاولون إعادة فهم التراث الديني وانتاجه بلغة جديدة، يفكرون في التراث لإعادة بناء التراث. القراءة الفلسفية للدين ليست شائعة بين أكثر المفكرين العرب. من النادر أن نجد موضوعات في فلسفة اللغة، والفلسفة التحليلية، والتأويل الفلسفي المعاصر في خطاب الحداثة الدينية العربية.

*** 

د. عبد البشير فكرت

أكاديمي من أفغانستان، آستاذ بجامعة کابول، کلیة الشریعة، مقيم اليوم في ألمانيا.

.....................

[2] مصطفی ملکیان: جریان‌شناسی فرهنگی معاصر ایران، ص10-11، سال 1376-1377 ش/ 1999 – 2000 م.

[3] الدكتور سروش دباغ ابن دكتور عبدالكريم سروش.

......................

المشاركة رقم: (15) في ملف: آفاق التجديد في مشروع الرفاعي .. بمناسبة الذكرى السبعين لولادة عبد الجبار الرفاعي.

لئن ركزت الدراسات التي تعنى بالتخلف في أغلبها على النواحي الاقتصادية والسياسية إلا أن للتخلف أوجها أخرى مرتبطة بتكوين الإنسان.

يعتبر الباحث اللبناني في علم النفس مصطفى حجازي من الكتاب القلائل الذين تناولوا بالبحث التكوين النفسي والذهني للتخلف. يربط حجازي التخلف بالقهر إذ يرى أن الحقيقة الأساسية التي يختبئ وراءها التخلف هي القهر.  يقول في كتابه "التخلف الاجتماعي: سيكولوجية الإنسان المقهور”  إن:

"الإنسان المقهور هو كائن مزيف فقد هويته، وأضاع أصالته، ووجد نفسه عاريًا أمام غربته عن نفسه وهو يحاول بشتى الأساليب ومن خلال مختلف الأقنعة أن يجد هوية بديلة”.

والهوية، استنادا إلى معجم لسان العرب لابن منظور، تعني حقيقة الشيء من حيث تميزه عن غيره، وتسمى أيضا وحدة الذات.

يضيف حجازي فيقول:"يتذبذب الإنسان المتخلف ما بين الشعور الشديد بالعجز عن استيعاب العالم، وبين طغيان مشاعر السيطرة على الواقع من خلال الحذق (الفهلوة).."

ونحن وإن ننقل بأمانة ما قاله مصطفى حجازي  عند ذكره كلمة "الحذق" إلا أن ترجمته للكلمة بلهجته (الفهلوة) يحيلنا إلى انه يقصد في الحقيقة الحذلقة وذلك في معرض حديثه عن ذبذبة الإنسان المتخلف بين شعوره بالعجز وتوقه إلى السيطرة على واقعه.

حسب تعريف معجم المعاني الجامع المتحذلق في كلامه هو المتصنّع، متكلّف الحذق والقدرة. كذلك هو من يُولي اهتماما زائدا لتعلّم الكتب والقواعد الرّسميّة، وغالبا ما حد يكون هذا الاهتمام للتباهي. يتبنى البعض الحذلقة  كأسلوب حياة لغايات تتعلق بحب الظهور..التموقع.

 الحذلقة ظاهرة منتشرة في كل ما يتعلق بالقول والكلمة والٱداء، وذلك بتقليد من يمتلك المعرفة، بطريقة مخادعة تتناول المعلومة بقشورها لا بمضامينها.

المتحذلقون في أيامنا هذه يجيدون التعبير ويحذقون اللغة..ينسجون القول المنمق ويحيكون الكلام الجميل ..تسمعهم أو تقرأ لهم أو تشاهد ما يؤدونه من أدوار فيشدك الشكل ولكن حين تتمعن في المضمون تجده مفرغا.

إن خطاب المتحذلقين يمكن أن يزدان بالكثير من أدوات المحاججة والإتقان ولكن إذا ما نظرت إلى أفعالهم ..إلى حقيقتهم تجد أنها بعيدة كل البعد عن تصريحاتهم ومداخلاتهم.

إن حالة المتحذلقين يمكن أن يفهمها الواحد منا إذا ما علمنا أن غاياتهم النفعية تبرر تصنعهم. والمنفعة هنا قد لا تكون بالضرورة مادية بل هي بالاساس معنوية ..هي بمثابة التعويض عن العجز عن الفعل والإنجاز..هي محاولة لمن لا حول له ولا قوة ليقول للعالم أنا هنا أنا موجود..هي عملية استعراض وبحث عن الاعتراف لتعويض الخواء الداخلي والشعور بعدم القيمة.

الطبيب النمساوي ألفريد أدلر"، أحد أهم رواد مدرسة التحليل النفسي، ومن إسهاماته الكبيرة ابتكاره مصطلح «عقدة النقص» و كذلك نظريته الشهيرة عن «التعويض».

 يرى " أدلر " أن مفهوم التعويض عن النقص يجب أن يكون له أثر إيجابي على الشخصية، فالشعور بالنقص قد يخلق رغبة جامحة في التفوق ويكون بالتالي محفزا للنجاح. لكن من جهة أخرى فإن للتعويض أثرا سلبيا عندما يضحى زائدا عن حده فيؤدي بصاحبه إلى الاستماتة من أجل البحث عن تقدير الٱخر بشتى الأساليب حتى تلك غير اللائقة منها.

يرى "أدلر" أن من يعاني من عقدة النقص يعيش صراعا أزليا بين هربه من الشعور بالتدني، وهوسه بإشباع الشعور بالتفوق.

من خلال هذا نتبين أن في التعويض الزائد عن الحد تأثيرا سيئا  على سلوكيات الفرد.

هذا ما يجعله مرائيا، لا يبغي من وراء كل أفعاله سوى رؤية الناس لها.

هكذا لا تكون القناعة هي أساسا لتصرفات الإنسان، فمثلا يكون المقصد الوحيد من فعل الخير والعطاء، الحصول على الثناء.

 كذلك لا تهدف ممارسة هذه القيم إلى إعلاء الإنسان  من شأن الإنسان بل تصب كلها في خانة الحصول على الاعتراف والتبجيل والتهليل..كلها وسائل لا يبغي صاحبها من ورائها سوى السعي المندفع، المحموم، إلى المكانة..مكانة يقلق كثيرا بشأنها فيسقط كل ما عداها ..لتصبح هي نقطة الوصول، تصبح هي الغاية.

هذا ما يجعل هوية الإنسان المقهور تلبس قناعا بديلا لا يعبر عن حقيقتها.. بل يتم بواسطتها الاستعاضة عن الهوية الحقيقية بهوية بديلة، مزيفة، مرائية.

صحيح أن  المرائي ومن خلال حذلقته يخدع الناس ولكنه في الحقيقة لا يخدع إلا نفسه التي فقدت أصالتها..هو يعيش إزدواجية تجعله عندما يختلي بنفسه يحتقرها  ..يطالع وجهه في المرٱة فيقول على حد تعبير فاروق جويدة : " هل ألمح وجهي أم هذا وجه كذاب؟"

***

درصاف بندحر - تونس

 

ثمة أفكارقتلتْ أصحابها في مقصلة الفكرالحرْ وحكايات (أرخنة) أحداث وحيثيات إرهاصات الصراع الطبقي قديمهُ وحديثهُ بأستهداف أصحاب الكلمة الحرَة لفوبيا نشرهم نشاطهم الفكري في ثقافة العقلنة المضادة للغيبيات اللاهوتية المكتسبة للقدسية لأجل السيطرة على الجمهور بأسركيانهِ وروحهِ وعواطفهِ إلى زمكنة منطقة (الصفر) حيث العزلة التامة وأستحالة الخروج منهأ وذلك بتعطيل ديناميكية العقلنة الماحقة للفنتازيات الغير واقعية في الأحداث الغيبية المقدسة ربما، وعند أفتقاد النص تلجأ جماعة الجهل والتجاهل لفتاوى الظلالة، مما أستوجب حضورجماعة العقلنة ومثقفو الواقعية الملتزمة بيد إنهم واجهوا الأضطهاد والنفي والتغييب والصعود لمقصلة الفكر الحر لسحق أجسادهم كمادة فانية وخُلدتْ أرواحهم وأفكارهم النبيلة أبد الدهر، أليس هو الغباء بعينهِ ؟ عند جمهورالجهالة في أنتحارفضاءات الأنسنة وحب الحياة، وإن ظنهم الخائب يقودهم حظهم العاثرإلى أعماق مستنقع الخيبة والخذلان والخواء الفكري والروحي، وليعلموا أن الطغاة كالأرقام القياسية تتحطم في يومٍ ما !!!، وثمة عتمة وضبابية لقضاة العدل في عوالم الرأسمالية ذات الأنظمة الشمولية لتشمل جغرافيتها منطقة الشرق أوسطي والشمال الأفريقي وجميع دول النفط الخليجية، ولا أستثني العراق منذ تأسيسه وبعمره القرن يتعايش الزمن المر ومحطات الخيبة تعمل جاهدة في حجب الحرية كوسيلة لأنهاء ونحر الحرية، وهم يتناسون إن الأفكار الحرة تبقي مضيئة في فضاءات الأنسنة وجنبات التأريخ البشري، ولا للفكر الظلامي إنها ثمة وصفة أنتحارللأمة .

ولا --لآعداء حرية الرأي لكونهم يبصمون كل يوم تصريحاً للقتل العمد، إن شواهد التأريخ المنصف للشعوب التواقة للحرية سجلت لأبطال مناضلين سحقوا بطرق وحشية وبقيت أرواحهم وأفكارهم مخلدة أبد الدهر تاركين بصماتهم بارزة في أرشيف السفر البشري أمثال:

- الفيلسوف سقراط تجرع السم وغُيب كجسد وخُلدت ْ أفكارهُ .

- صُلب اليسوع ونطقت خشبتهُ بالسلام والمحبة .

- وأغتيل جيفارا في غواتيمالا بعيداً عن وطنهِ وبقيت كلماتهُ الحرة والثورية تقلق مضاجع الطغاة .

- سيذكر التأريخ (لوركا) الشاعر والصحفي والرسام والناشط اليساري المسالم عدوالدكتاتورية والأثنية المقيتة، وربما دُقتْ لهُ أجراس همنغواي لأنهُ كان على موعدٍ مع الموت بايدي كتيبة متخصصة للأعدام الميداني من جنود فرانكو أثناء الحرب الأهلية الأسبانية في 19 يوليو تموز رمياً بالرصاص 1936 بتهمة كونه (يساري وأشتراكي)وأقل ما يقال عنهُ إنهُ صحفي مكلف بالأعلام الحربي، ومعلوم هي تلك القوى الخفية الناعمة ضد الفرانكوية الشوفينية في بدأ الحرب الأهلية الأسبانية حينما كان بعمر 38 عاما، وهذه أبيات آخر قصيدة لهُ بترميزة (ماريا) والتي يقصد بها قدسية الحرية :

ما الأنسان دون حرية يا ماريا؟!

قولي لي كيف أحبك؟

إذا لم أكن حُراً

كيف أهبكِ قلبي إذا لم يكن ملكي .

(أقتباس من مسرحية "نساء لوركا" في مهرجان قرطاج عام 2006 )

- وقُطع (الحسين بن علي) وأصحابهُ وأنصارهُ ال 72، بيد إنهُ ترك لنا مدرسة في الصمود والنضال ضد الطغاة وأرثا في الخلود الأبدي خلال أدلجة أفكارهِ الحرة في قولهِ : لم أخرج أشراً أو بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً، إنما خرجتُ لطلب (الأصلاح) في الأمة، حقا هو ليس شخصاً بل هو مشروعاً وليس هو فرداً بل هو منهجاً وليس هو كلمة بل هو راية، جمع الحسين كل صفات القائد الفذ فهو حسين الشجاعة والغيرة والكرامة والصبر، شهيد الشرف والأباء وأحقاق الحق وشهيد الجهاد الحقيقي لانقاذ المضطهدين والمظلومين من طواغيت عصره، فكان هدفهُ الأصلاح الأخلاقي العقائدي حين ساءت الأمور في أرجاء البلاد، إذاً هي حركة نهضوية تصحيحية كانت فاتورتها الجهادية ثقيلة بتمريرهِ وأصحابهِ طعماً لمقصلة الفكر لسحق أجسادهم وبقاء أفكارهم التحررية خالدة منذ 1400 عام وما دامت الساعة .

- الحلاج هو أحمد الحسني منصور الحلاج، شيخ المتصوفة في العهد العباسي في العراق، ولادة منتصف القرن الثالث للهجرة حيث تمَ صلبهُ في 26 مارس 922 م – 309 هجرية أي مضى علي تغيبهِ ألف ومئة سنة، أتهم بالزندقة والخروج عن طاعة ولي الأمر الخليفة المقتدر بالله العباسي وذُبح الحلاج المثقف العربي وبقيت نظريته في (الفهم الخاطيء والمغلق للدين) مضيئة أعتبرته المتصوفة جهادا في سبيل أحقاق الحق والدفاع عن المظلومين لذا نكتب اليوم أفكارهُ الأنسانية لنشر ثقافة العقلنة .

- الدكتور فرج فوده من مصر أم الدنيا 1945-1992 كاتب ومفكر وصحفي وناشط في حقوق الأنسان بأيديولوجية ثابتة شعارهُ { دولة مدنية ديمقراطية } أغتيل على يد الجماعة الأسلامية (أخوان المسلمين) بسلاح ناري في 8 حزيران1992في القاهرة كان على موعدٍ مع مقصلة الموت بتكفير من الأزهر، كانت كلمتهُ الأخيرة وهو يحتضر : يعلم الله أنني ما فعلتُ شيئاً إلا من أجل وطني، وكان أعتراف القاتل ( عبدالشافي رمضان) إنهُ الذي قتل فرج فوده بسبب (فتوى) الدكتور عمرعبدالرحمن مفتي الجماعة الأسلامية بقتل المرتد فرج فوده، فلإنهُ مرتد، لما سئل من أي كتبٍ عرفت إنهُ مرتد ؟ أجاب بأنهُ لا يقرأ ولا يكتب ! ولما سئل لماذا أخترتم موعد الأغتيال قبيل عيد الأضحى ؟ أجاب لنحرق قلب أهلهِ ! .

مؤلفاتهِ

- كتاب قبل السقوط 1984

- كتاب الحقيقة الغائبة 1984

- كتاب الملعوب 1985

- كتاب الطائفية إلى أين ؟ 1985

- كتاب حوار حول العلمانية 1987

- كما كتب عدداً من البحوث والمقالات في جرائد المعارضة (جريدة الأهالي والأحرار) .

- محمود محمد طه من السودان مؤلف ومفكر سياسي 1909 – 1985 يعتبر أكثر المفكرين العرب جدلا في التأريخ بأفكاره العقلانية الحرة والتي ذكرها في أنجازاتهِ الفكرية الثقافية : حيث نادى بالمساواة بين الرجل والمرأة في الأرث والشهادة في (كتابه الثالث الأحوال الشخصية)، قسم التأريخ الأسلامي إلى قسمين العهد المكي والعهد المدني وأن العهد المدني في المدينة أنتهى بموت الرسول، ومن أهم الأفكار التي طرحها محمود محمد طه في كتابه (الرسالة الثانية من الأسلام) بطلان آيات الجهاد، وأكد لا حجاب للمرأة في كتابه الرابع (عقل المرأة وخلقها)، وطبق عليه الحد وأعدم بتحالف الأزهر ورابطة العالم الأسلامي في السعودية وجماعة الأخوان المسلمين في عهد الرئيس الأسبق في السودان جعفر النميري في 18- 11-1985، وأغتيل شنقاً بتهمة الردة عن الأسلام بيد أن أفكارهُ شكلت تحدياً أخلاقيا في مواجهة محترفي التجارة بآلام الشعوب وتطلعاتها، إنها أزمة تفسير الدين كما تعتقد جماعة جمهور النص المقدس .

- علي شريعتي المفكر الأيراني الذي أغتيل في لندن عام 1977 لكونه ملتزم بقول الحق والكلمة الحرَة، يقول سألتُ صديقي لماذا لا أسمع صياح ديككم ؟ قال: أشتكى منهُ الجيران فذبحناه ! أدركتُ حينها من يوقظ الناس يقتل!؟، أصبح تأويل الدين وتحريف أفكارهِ مصدر دخل لوعاظ السلاطين وحراس المعابد (كتاب " الأنسان الحر " د- علي شريعتي ) .

- كامل شياع : أغتيال عقل وموعد مع الموت المجاني، أنهُ من رعيل مثقفي النور والضياء، الحقيقة أعجبتُ بكتابه ومنجزه الثقافي المميز (عشاق العراق) حيث كان ينظر بعيدا في صنع دولة المدينة الفاضلة (اليوتوبيا) حيث السلام والحرية والخبز النظيف، وإلى بناء وطن يسع جميع مكوناتهِ الجميلة، عاد إلى الوطن الأم بعد سنوات الجمر ومشاعر الجلد الذاتي للمنفى القسري أعطي منصب مستشار في وزارة الثقافة ليسهم في بناء وطن جديد بمشهد أنساني ملتزم ولأنسنته التي لم يقبل عليها الظلاميون أمطروه بوابل من الرصاص في 23 \8\2008 ليسكتوا كل شيء جميل في رأس الشاب المناضل ا لعراقي كامل شياع .

ولتعلم مقصلة الكلمة الحرة إن التعبير عن الرأي حقَ مشروع ومكفول ليس أمتياز تمنحه الدولة لمواطنيها وإن حق التعبير والأعتقاد يعتبران الرافعة الأساسية للديمقراطية، وكل الحقوق والحريات مكفولة في الدستور العراقي للعام 2005 (المادة 13 يعتبر الدستور القانون الأسمى والأرفع في البلاد، والمادة 37 حماية الأفراد من الأكراه الفكري والسياسي والديني، والمادة 38 تكفل حرية الصحافة والتظاهر السلمي، والمادة 45 تكفل الدولة تعزيز دور مؤسسات المجتمع المدني، وللعلم إن الفقرات الواردة في الدستور ا لعراقي مكفولة أممياً في الأتفاقات الدولية .

والشكر الموصول لمؤسسة المدى لجمعها نتاجات المثقف اليساري المغدور " كامل شياع " الأدبية ا لثقافية في ثلاث كتب تحيي فيها أفكارهُ الأنسانية النبيلة : كتاب تأملات في الشأن العراقي، كتاب قراءات في الفكر العربي والأسلامي، كتاب الفلسفة ومفترق ما بعد الحداثة .

***

عبد الجبار نوري

كاتب وباحث عراقي مغترب

في آب أوغسطس 2024

شهدت روسيا عدد من عمالقة الادب معظمهم كان في العهد القيصري باستثناء (مكسيم غوركي) الذي عاصر الثورة الروسية التي وقعت عام 1917، وابرز هؤلاء الادباء: تولستوي 1910- 1828 وهو روائي، تور جنيف: روائي، دستوفسكي: روائي، بوشكين وهو شاعر وكان لهؤلاء دورهم الكبير في الاحداث السياسية التي شهدتها روسيا في ظل القياصرة حتى قيام الثورة الروسية فقد شغلوا الساحة الفكرية ردحاً من الزمن برواياتهم واشعارهم الامر الذي هيأ اذهان الشعب الروسي لتقبل الأفكار الثورية التي حدثت عام 1905 ثم ما تلتها من احداث سياسية غيرت الواقع الروسي وقلبته رأساً على عقب وكان دورهم يشبه دور فولتير ومونتسكيو وجان جاك روسو في احداث الثورة الفرنسية عام 1789 م

جاء في الموسوعة السياسية لعام 1974... (يعتبر تولستوي بين رواد الفكر الاشتراكي العالمي والغريب ان تولستوي كان من الطبقة العليا من الشعب فقد ورث (3000) فدان يعمل فيها (330) فلاحاً، ومكانة تولستوي كأديب قصص اعظم بكثير من مكانته كمفكر سياسي،وقد تنازل تولستوي عن ثروته ولقبه وكان يأكل كالفلاحين ويرتدي زياً كأزيائهم ويرقق حذائه بيده ....)

تدل مسيرة تولستوي على انه كان رجلاً عظيماً وغنياً متواضعاً محباً للسلام ونابذاً للعنف الذي يؤدي الى الكراهية والحروب فعندما أعلن عن تحرير الفلاحين في روسيا أنشأ على نفقته الخاصة مدرسة لتعليم اولاد الفلاحين وقام بالتدريس في هذه المدرسة، وكان يعتبر الحرب ظاهرة غير طبيعية تناقض المبادئ الانسانية ويعتبرها قضية غبية، كان يقول عن نفسه (.. كان يحدث معي شيء غريب فتأخذني الحيرة والكآبة..) وكان يرى انه في حضارة الشرق مخرجاً للأزمات التي كان يعاني منه.

وعلى الرغم من وجود هذه الصفحات المشرقة من حياة هذا الرجل الا انه لم يسلم من النقد والتجريح فقد اتهمه اعداءه بأنه فوضوي أي انه كان في افكاره يميل الى (الفوضوية) التي كان يتزعمها (باكونين) وانصاره ذلك لأنه كان يحلم بتنظيم المجتمع بلا ملكية وبلا دولة لكنه لم يؤمن بالعنف الذي كانت تؤمن به الفوضوية واتخذ من الدين خلاصاً لروحه الباحثة عن الخلاص بشرط ان يكون الدين خالصاً لله بدون خوف ولا طقوس، وكان يقول ان الحب هو مشكلة الانسان التي تضيء حياته ولهذا كان يرى ان الحب المسيحي لا يتلائم مع ما ترتكبه الدولة من إثم لان الدولة تمنح نفسها القدسية وتضطهد المواطنين وترسلهم الى الحروب .

يرى بعض الباحثين الروس ان تولستوي اعتنق الاسلام وقد نشرت وسائل الإعلام في الدول العربية والاسلامية بفرح غامر باعتبار ان الاسلام قد كسب أشهر روائي روسي في القرن التاسع عشر وقد استدل هؤلاء الباحثين على عدد من المعطيات التي تثبت اسلام تولستوي منها:

1-انه تعلم اللغة العربية على يد اساتذة متخصصين كي يقرأ وليفهم آيات القرآن

2-انه عندما ذهب الى الشيشان صلى مع المسلمين في أحد المساجد

3-كان يقول: ان الدين الإسلامي ابعد الأديان عن الخرافات

4-انه امتدح النبي محمد وشعار الإسلام (لا إله الا الله) وقال ان الإسلام لم يجعل لله شريكاً ولا ولداً وانما هو عبادة خالصة الى الله

 5-أوصى ان يدفن كمسلم، ولم توجد على شاهدة قبره علامة الصليب الا ان اعتناقه للإسلام لا يزال موضع شك.

لقد تأثر عدد من الشخصيات العالمية بعقيدة اللاعنف التي جاء بها تولستوي أبرزهم (غاندي) ابو الهند الذي تزعم حركة (اللاعنف) في الهند لهذا يمكننا ان نقول لقد كان تولستوي هو المؤسس لمبدأ (اللاعنف) النظري فإن غاندي هو الزعيم الميداني لها خلال (50) عاماً وانه عرف كيف يوجه هذه العقيدة في مسألة تحرير الاوطان ومقاومة الافكار الشريرة وكانت النتيجة حصول الهند على استقلالها من بريطانيا من خلال عقيدة اللاعنف هذه.

ومن الذين تأثروا بحركة (اللاعنف) مارتن يوشركنج الزعيم الامريكي الاسود المطالب بحقوق السود في الولايات المتحدة الأمريكية وقد حقق كنج عدة انتصارات في كفاحه ضد التفرقة العنصرية حتى اغتياله عام1968.

كانت علاقته بزوجته علاقة سيئة، لقد تحول من روائي الى مصلح اجتماعي فقد كان مشغولا بالإنسانية وزوجته مشغولة بالأملاك ومصير املاكه بعد وفاته، كانت زوجته توبخه عندما يلبس ملابس مثل الفلاحين وترى ان هذا لا يتناسب مع مكانته الاجتماعية، يقال ان سبب وفاته انه تشاجر مع زوجته وخرج غاضباً وكان الطقس بارداً فأصيب بالتهاب رئوي مات على إثره، لقد بكى الفلاحون خلف نعشه، بكته النخبة وفقراء الريف.

***

غريب دوحي

 

كيف ننظر الى زوج يغفر لزوجته عدم إخلاصها؟

بقلم: ريبيكا روث غولد

ترجمة: صالح الرزوق

***

من هنري جيمس إلى جاك رانسييه، افترض قراء رواية غوستاف فلوبير الرائعة "مدام بوفاري" (1857) أن الرواية تعبير عن  تماهي المؤلف مع بطلته. مثل هذه القراءات تتجاهل تشارلز بوفاري، الشخصية التي تتناقض بطيبتها تماما مع اهتمام إيما بذاتها.

أقترح أن ننظر إلى ما هو أبعد من صورة شارلز الأحمق والفاشل  لتسليط الضوء على مصادر مأساة إيما. فمعاناة إيما لا تبدأ بالقمع الناجم عن الزواج، بل بخوفها من احتمال مسامحة زوجها. بعد أن قام جباة الديون بمصادرة ممتلكاتها ووقوف إيما بوفاري على حافة الإفلاس، تقف وسط يأسها لتتخيل ماذا سيكون رد فعل زوجها عندما يدرك أنها أهدرت كل ثروته.

تتخيل إيما شارلز يقول لها:" ارحلي. هذه السجادة التي تمشين عليها لم تعد ملكنا. في منزلك، لا يوجد كرسي أو دبوس أو حصيرة، وأنا، الرجل الفقير، الذي أفسدك.  وإلمام إيما بشخصية شارلز ساعدها على تخيل رد فعل زوجها على خبر الإفلاس: «سينوح، وبعد ذلك سيبكي، وفي النهاية، ستمر المفاجأة، ويغفر  لها". وينجم عن شبح مغفرة تشارلز ازدراء إيما لنفسها أكثر من احتمال ازدراء عشاقها. تمتمت إيما من بين أسنانها: "نعم، سوف يسامحني، هو الذي سيعطيني مليونًا لأنني غفرت له غلطته بالزواج مني!".

وبدلاً من أن تتعذب بسبب غفران زوجها، تختار إيما الموت. والواقع أن الاحتمال الأكثر رعباً بالنسبة لإيما على الإطلاق هو "القمع" الناجم عن "شهامة" زوجها. إيما ليست القارئ الوحيد الذي يحتقر أساليب شارلز ضعيف الإرادة. واعترف الناقد المميز هنري جيمس  أن شارلز بوفاري هو "الشخص الطيب الوحيد في الكتاب" ولكنه يضيف إنه "غبي طيب وبلا حول ولا قوة". في تقدير جيمس، كما هو الحال في تقديرات العديد من القراء اللاحقين، حظيت إيما وحدها من بين جميع شخصيات الرواية بتعاطفنا ومودتنا. قد يبدو أن مثل هذا الأسلوب في النص يجد دعمًا في تحفظ فلوبير الواضح على بطله غير المحتمل.

في حين يُقال إن فلوبير أعلن

La Bovary, c’est moi (أنا [مدام] بوفاري)، وذلك بعد أن اطلع على مراجعة بودلير للرواية، حافظ على الصمت، المزري على ما يبدو، تجاه زوج مدام بوفاري. ومع ذلك، حتى في غياب إعراب المؤلف الصريح عن طيبة شارلز، هناك الكثير في الرواية مما يشير إلى أن شارلز يستحق اهتمامًا وتعاطفا أكبر من القراء.

ومع أن الرواية تتحدث بشكل ساخر عن عيوب شارلز الشخصية، إلا أنها تؤكد أنه على الرغم من الكبت الذي تعرضت له إيما بسبب حياتها الريفية ضمن الطبقة المتوسطة، لم يكن زوجها مصدر معاناتها. علاوة على ذلك، فإن عدم قدرة إيما على تقدير طيبة زوجها ساهم في تدميرها.

شارلز وخيانة زوجته

كان من الممكن أن تتعلم إيما من قدرة زوجها على المسامحة. وقد حان الوقت لقراءة تشارلز بوفاري على عكس التأويل المعهود الذي ينظر إلى زوج إيما البائس وكأنه مجرد خلاصة لكل شيء لا تجده لدى زوجته. والطبيعة الأخلاقية لأعمال فلوبير الرائعة أكثر تنوعًا مما اعترف به معظم القراء. لم يكن الانتحار خيار إيما الوحيد. لو كانت إيما على قيد الحياة لتعلمت من قدرة زوجها على المسامحة. ينظر معظم قراء الرواية إلى إيما كما ترى هي نفسها: امرأة اضطهدتها الأعراف البورجوازية، موهوبة برؤية ما وراء التقاليد المحلية، لكنها تفتقر إلى ما يكفي لتحقيق أحلامها السامية.

ومع ذلك، هناك مناسبات عديدة يظهر فيها شارلز مع إيما ويبدو فيها أنه أقل عناية من زوجته بالتقاليد.

عندما يدعو رودولف بولانجر، الذي سيصبح حبيب إيما قريبًا، إيما لركوب الخيل، تقاومه إيما في البداية. في نهاية المطاف يقنع شارلز زوجته بانتهاك العرف الذي يحض المرأة المتزوجة أن لا تخرج بمفردها مع رجل آخر. تحتج إيما أن هذا السلوك سيكون غير مقبول لأنه قد يبدو غريبًاdrôle  بنظر جيرانهم.  وتشعر بالقلق من رؤية امرأة متزوجة تركب بمفردها مع رجل آخر غير زوجها. وتعتقد أن هذا يسبب فضيحة لها. يرد شارلز بجرأة: “أي شيطان يدعوني للاهتمام بالأمر. الصحة أولا! أنت مخطئة."

كان الزوج التقليدي أو الغيور يصر على الركوب مع زوجته بدلاً من تركها تركب بمفردها مع رجل آخر. ولكن يبذل شارلز قصارى جهده لإقناع إيما بالذهاب مع الرجل الذي، دون علمه، سيصبح قريبًا منافسًا له ويبدأ في تدمير زواجهما. تمامًا كما حث تشارلز إيما عن غير قصد على علاقة حبها مع رودولف من خلال تشجيعها على الركوب معه إلى الغابة، كذلك يوفر شارلز أيضًا الدافع الأولي لتحقيق رغبة ليون وإيما، وفي نفس الوقت يتحدث الأصدقاء الثلاث في روان بعد عرض لاغاردي أوبرا دونيزيتي لوسيا دي لاميرمور (المقتبسة من رواية السير والتر سكوت). يشترك ليون وإيما بازدرائهما لأداء لاغاردي، ويعرب شارلز عن أسفه لاضطرارهما إلى المغادرة قبل انتهاء العرض. وكما لو أنه يرغب في منح زوجته الفرصة للاستمتاع بشيء  لا يمكنه توفيره، يقترح عليها أن تبقى  في روان ليلة إضافية،  ويعود هو إلى المنزل بمفرده. ويكرر شارلز خطأه في إقناع إيما باتباع المسار الذي سيبلغ ذروته بعد تدمير زواجه، ويتهمها أنها مخطئة tu as tort  حين تقيد سلوكها بقيود اللياقة الاجتماعية: قائلا: "أنت مخطئة إن لم تبقي. مع انك تشعرين أن البقاء يفيدك ولو بأدنى الحدود".  وإصرار شارلز أن إيما مخطئة أمر مثير للسخرية، لأنه في كلتا الحالتين تدفع هذه التهمة إيما إلى نهاية الطريق الذي سيدمر زواجهما، فالبقاء في روان ليلة إضافية يمنحها الفرصة لمعاشرة ليون ليكون عشيقها الثاني.

على الرغم من السخرية غير المقصودة في كلماته، فإن محاولة شارلز النظر إلى ما هو أبعد من التقاليد الاجتماعية من أجل إسعاد زوجته محاولة غير تقليدية وجريئة. والأمر الأكثر غرابة بالنسبة لزوج في بيئته هو أن  يؤيد مغامرات إيما الأسبوعية في روان  بالموافقة على دفع تكاليف دروس العزف على البيانو الأسبوعية مع الآنسة لامبرير ، وهي دروس لم تعط أبدًا في الواقع. توفر هذه الدروس (غير الموجودة) الذريعة للقاء إيما الأسبوعي مع ليون. لكن ليس عدم مبالاته بالتقاليد هو ما يميز شارلز عن بقية سكان يونفيل فحسب. الأمر اللافت، إن لم يكن بالضرورة الجذاب، هو المودة الشديدة التي لا تنتهي، والتي يخص بها تشارلز زوجته، لدرجة الحب والمسامحة، حتى عندما يعلم بعد وفاتها أنها كانت على علاقة غرامية مع رجال آخرين.

تشارلز يخبر بالحقيقة

عندما علم بخيانة إيما من الرسائل المحشوة في درجها، تعاطف معها أولا. بعد وفاة إيما، يلتقي رودولف وشارلز وهما بطريقهما إلى السوق في أرجيل. ربما لتجنب حرج اللقاء بعد وقت قصير من وفاة إيما، دعا رودولف شارلز لشرب البيرة معه في الحانة المحلية. يقبل شارلز عرضه. أثناء حديثهما، يتجنب رودولف موضوع وفاة إيما، وبدلاً من ذلك "يملأ كل الفراغات بعبارات شائعة" قد توفر فرصة للإشارة إلى علاقته مع إيما. ومع ذلك، يرفض شارلز مثل هذه المحادثات، ويقاطع مونولوج رودولف بالإعلان الصريح، وإن كان غير متوقع ويقول له: "أنا لا أحمل شيئا ضدك".

بالكلام على علاقة حب إيما، يكون شارلز قد أعلن عفوه على رودولف، وهذا من شأنه أن يخفف من حدة مداخلته. بقدر ما يتناغم شارلز، مثل أي شخصية، مع إيقاع الصمت،  لا يحاول كذلك تحديد معناه. وبدلاً من ذلك، يضيف إلى إعلان العفو الخاص ملاحظة كانت وفقًا للراوي هي العبارة البليغة الوحيدة (الكلمة الأساسية) التي نطق بها شارلز: "كان هذا خطأ القدر". يرى رودولف أن ملاحظة شارلز عديمة الذوق، "ومبالغ فيها بالنسبة لرجل في مثل وضعه، وحتى أنها هزلية، وحقيرة بعض الشيء". نظرًا لكثرة الكليشيهات والخداع في خطاباته، فإن رودولف غير مؤهل لإصدار حكم على شخص يتحلى بإخلاص وتعاطف يفوق إخلاصه وتعاطفه. في نهاية السرد، يبدو أن رودولف، على الرغم من ذكائه، مقيد أكثر من شارلز بالخيال الفاشل. ولا يستطيع رودولف فهم الفروق الدقيقة التي تعمق شخصية شارلز، ولكنها أيضا تضعفها بسبب خيانة زوجته.

نظرًا لبلادة مخيلته، لا يستطيع رودولف إلا أن يرى أن عفو شارلز عنه  غير مستحب، وهو إساءة لرخاء المجتمع.  لو كانت إيما قادرة على رؤية هذه العيوب في تفكير رودولف، لربما وجدت السعادة، حتى في مقاطعة يونفيل. ويبقى القراء تحت تأثير انطباعهم عن شارلز باعتبار أنه رجل غريب الأطوار، ومرهق، ومتعثر، وفي بعض الأحيان متواضع، فإن نقاط الضعف هذه ذاتها تتسبب في تسامي شخصيته في بعض الأحيان بشكل أوضح. في الواقع إن شارلز مجرد إنسان مدرك لما حوله. عندما علم بخيانة إيما من خلال الرسائل المحشوة في درجها شعر بالتعاطف. وهذا بالتأكيد رد فعل غير عادي بالنسبة لزوج مغدور به، حتى لو أنه زوجته ميتة. بدلاً من أن يستفز الغضب تشارلز من إيما أو منافسيه، يسعى إلى الوصول إلى أعماق معاناة زوجته. واستعداده للعيش بظل ألم زوجته - الألم الذي دفعها إلى إنهاء حياتها، وتركه يشعر بأنه مهجور ووحيد - كان أكثر حدة من اهتمامه بنفسه.

بدلاً من أن تسيطر على شارلز أشكال الغيرة التقليدية والتي يمكن التنبؤ بها، تغلبت عليه  رغبة عاطفية وجنسية في نفس الوقت تجاه زوجته المتوفاة. وتتعزز هذه الرغبة بعد  اكتشافه لرغبات الرجال الآخرين بها. كانت أسباب خيانة إيما، كما يقول شارلز، ورفضه أن يحكم على حبيبته، منطقية فقط. يقول لنفسه: "من المؤكد أن جميع الرجال كانوا يطمحون إليها". يقدم الراوي تأملات بروستية حول تداخل الزمن والرغبة: فقد كانت إيما “تبدو له أكثر جمالا بسبب هذا؛ لقد استحوذت عليه رغبة دائمة وغاضبة تجاهها، مما أثار يأسه وكانت لا حدود لها لأنها أصبحت الآن غير قابلة للتحقيق".

ألوان الحب العديدة عند شارلز

يحب شارلز إيما لسبب بسيط له علاقة بنكران الذات حتى أنه كرس حياته لحبها. شارلز ليس قديسا. وهو ليس محصنًا ضد مفارقات المودة الإنسانية، كما يتضح من استعداده لقبول نسخ حبه لإيما،  ويتوقف ذلك على مدى استحسانها للرجال الآخرين، وعلى حقيقة أن رغبته وذكاءه المحرج  لا يشتعل إلا  بعد أن أصبحت علاقتهما الفيزيائية مستحيلة. كانت عاطفة شارلز تعاني من نقطة ضعف بالمقارنة مع عواطف رودولف الحسية. والفرق البارز بين أساليب الحب لدى المتنافسين يؤكد أن حب شارلز غير المعصوم من الخطأ لا يضر بموضوعه، في حين أن حب رودولف ساعد على تدمير إيما.  وكل هذه الأمثلة توضح الفرق الجذري بين حب شارلز لإيما والرضا الجسدي والرومنسي الذي تبحث عنه إيما، دون أن تعرف في الواقع ما تريد حقًا. ويحب شارلز إيما حتى عندما لا يحمل هذا الحب أي أمل في الإشباع. وهو يحب إيما جزئيًا بسبب جمالها، وهذه سمة مادية، مثل الصفات الجسدية التي تجذب إيما إلى رودولف وليون. ولكن، على عكس إيما - وعلى عكس أي شخصية في "مدام بوفاري" - يحب شارلز إيما لسبب بسيط وغير أناني ويكرس حياته لحبه لها. يحب تشارلز إيما لأنها على طبيعتها ولأنها جزء من ذاته. وهنا يكمن سمو شارلز بوفاري، الذي لم تتمكن أي شخصية في الرواية من إدراكه، ومن المدهش أن يلاحظه حفنة من قراء الرواية فقط. 

قلب بسيط

كانت إيما قادرة على تحمل قسوة شارلز، لكنها لا تستطيع تحمل لطفه. إن تعاطف تشارلز الغريب يتنبأ بتعاطف الخادمة فيليسيتيه، بطلة رواية «قلب بسيط» لفلوبير (1877). مثل شارلز، إلى حد أكبر، تحدد فيليسيتيه حياتها بأكملها من خلال عاطفتها تجاه الآخرين. كتب فلوبير "قلب بسيط" لإثبات قدرته على تصوير الشخصيات البسيطة بشكل عاطفي، كما تقول بريسيلا ماير. تتمتع فيليسيتيه، مثل شارلز، بتعاطف غريب يتم الاستغناء عنه دون تفكير ودون اعتبار للربح أو إرضاء الذات.

حينما كانت فيرجيني طفلة، وعهدت بها عشيقتها السيدة أوبين إلى فيليسيتيه للرعاية، وحملت الكأس المقدسة من أجل مناولتها الأولى، تراقب فيليسيتيه الإجراءات كما لو كانت تخضع لطقوس العبور بنفسها. تعمل لغة فلوبير  لمواءمة قدرة الكاتب على تصوير حياة الكائنات الغريبة مع القدرات الفذة لفيليسيتيه - وتشارلز - على العيش في  تجارب الآخرين كما لو كانوا هم أنفسهم الفاعلين.

يقول الراوي: "بالخيال والمشاعر العميقة والقدرة على العطاء يبدو لفيليسيتيه أنها كانت بالفعل هي الطفلة" حينما كانت تقترب من الكأس المقدسة. يضيف: "أصبح وجه فيرجيني وجهها، وكانت ترتدي ملابسها، كان قلبها ينبض في صدرها. وعندما جاءت اللحظة التي فتحت فيها فمها، أغلقت عينيها وكاد أن يغمى عليها". حتى تجربة فيليسيتيه الخاصة بالتناول "لم تمنحها نفس البهجة المدهشة" التي شعرت بها عندما لاحظت طفلتها المحمولة وهي تشارك على لحم ودم يسوع المسيح. مثل هذا التعاطف صفة تفتقر إليها إيما ورودولف وحتى ليون.

إن ولاء شارلز البسيط الذي لا جدال فيه ميزه عن زوجته، التي كانت رغبتها شهوانية دائمًا وترضي نفسها، سواء كانت موجهة إلى رودولف أو ليون أو حتى الله. وتعترف إيما بهذا التميز الذاتي عندما يسألها شارلز وهي على فراش الموت لماذا قررت تناول الزرنيخ. ترد على سؤاله: "ألم تكن سعيدا؟ هل هذا خطأي؟". يقول لها: "لقد فعلت كل ما بوسعي"، وتوافق إيما جزئيا: "نعم، هذا صحيح. أنت طيب – أنت!".

وكأنما أدركت ما كان يمكن أن يقدمه لها  تعاطف شارلز الواهم لو أنها كانت قادرة على  تفهم بركاته، قبل وقت قصير من وفاتها، فتقوم بمسح شعر زوجها بمحبة أكثر مما فعلت من قبل.

وعلى الرغم من صورتيهما في الرواية كشخصين محبطين يعطل الواحد الآخر، فإن شارلز وإيما ليسا متناقضين بشكل جذري، أو ليس غير متوافقين، كما يبدو. كان شارلز منهمكا جدًا في ذوق زوجته حتى أنه شاركها  إعجابها بردولف.

وحين كان يحدق في منافسه  ويحتسي الجعة ويتصرف بشكل نمطي، أصبح شارلز "ضائعًا في أحلام اليقظة أمام هذا الوجه الذي أحبته... لقد كان أعجوبة بالنسبة له". كان يود أن يكون هذا الرجل. بالإضافة إلى ذلك، فإن تعليمات شارلز بشأن دفن إيما تكشف عن مزاجه الرومانسي الذي يوازي مزاج زوجته. يقول شارلز آمرا: "أتمنى أن تُدفن" بفستان زفافها، مع حذاء أبيض، وإكليل من الزهور. يجب أن ينتشر شعرها على كتفيها. ثلاث توابيت، واحد من خشب البلوط، والآخر من الماهوجاني، والآخر من الرصاص... فوق كل شيء يجب وضع قطعة كبيرة من المخمل الأخضر".

سخرية فلوبير واضحة حتى في تعليمات الدفن هذه، فالمخمل الأخضر – لون المخدوع – هو القماش الذي لف رودولف نفسه به عندما زار منزل بوفاري لأول مرة. تتنبأ هذه الاستعدادات المتقنة أيضًا بإجراءات فيليسيتيه لتلبيس جثة حبيبتها فيرجيني. بينما كانت لا تزال طفلة، ماتت فيرجيني بسبب مرض مفاجئ. تغدق فيليسيتيه اهتمامها على جثة المتوفى بنفس الطريقة التي أملى بها شارلز وصايا مفصلة لدفن إيما. أثناء تحضير جسد فيرجيني للجنازة، "وضعت فيليسيتيه مكياج الفتاة، ولفتها في كفن، ورفعتها إلى نعشها، ووضعت إكليلًا على رأسها، وفردت شعرها".

من منطلق كرم الروح ودون الشك في أن ازدراءه للتقاليد قد يجلب المعاناة لزوجته وكذلك لنفسه، يدفع شارلز إيما باستمرار تجاه الرجال الآخرين. إن قيام تشارلز بكل ما في وسعه لتأمين حرية زوجته يدحض اعتقاد إيما بأن سبب اختناقها زواجها من رجل غبي. ولو كانت ترغب حتى في طلاق شارلز، لكان قد سامحها بالتأكيد. وربما كان سيساعدها في تحقيق النتيجة المرجوة. كان بإمكان إيما أن تتحمل قسوة شارلز، لكنها لا تستطيع أن تتحمل لطفه، ومرونته اللامحدودة، وتعاطفه اللامحدود، ومخزون المودة الجياشة التي يمتلكها. حتى لو لم يهتم القارئ بهذه السمات الشخصية مباشرة ولم ينظر لها على أنها تستحق المعالجة، فإن أثرها المعقد على خيال شارلز، وتحديدًا الطريقة التي تعمل بها أشكال السخاء هذه في كثير من الأحيان ضد مصالحه الأساسية، توجه تصور فلوبير عن "قلب" فيليسيتيه "البسيط".

وفاة إيما

بإهمال الناحية الفنية تنتهي إيما إلى ترخيص قيمة حياتها. في حين أن أفعاله الطيبة تعتبر أخطاء قاتلة على مستوى ما، إلا أن شارلز لا يتحمل أي مسؤولية عن النتائج. إذا كان اللوم يقع على أي جهة، فهو يقع على عاتق المؤلف، الذي جعل من إيما بوفاري زوجة محبطة وذلك  للتخلص من مخاوفه من الأدب. قال الفيلسوف الفرنسي جاك رانسيير مؤخرًا إنه يحكم على إيما "بأنها فنانة سيئة تساوي بطريقة خاطئة ما بين الفن واللافن". في إضفاء الطابع الحرفي على الفن، تنتهي إيما بتخفيض قيمة حياتها. وفوق كل شيء،  تقلل من شأن شارلز، وتجعل نفسها غير مهتمة بعواطفه العميقة. وكما قال شارلز نفسه لرودولف: مأساة حياة إيما يمليها القدر. ومثل رودولف، ولو بشكل أكثر مأساوية، فإن انشغال إيما بذاتها يجعلها صماء بعيدة عن الأعماق الخفية التي تتردد "في استعارات جوفاء، حيث لا يمكن لأحد أن يعطي المقياس الدقيق لاحتياجاته، ومفاهيمه، ولا معاناته". ويقارن فشل خيال إيما  في الرواية مع فائض التعاطف المتخيل عند شارلز.

ووفاة إيما نتيجة لحاجة مؤلفها إلى فضح الخط الذي يفصل الحياة عن الفن بلا رحمة، والذي يفصل النفاق البرجوازي بكل غطرسته الدنيئة عن عالم الخيال. ومع ذلك، فإن شارلز، الذي هو في بعض النواحي أكثر إدراكًا من مؤلفه، لا يشعر بمثل هذه الحاجة. نظرًا لأن إيما غير واعية لحب شارلز، فإنها تحرم نفسها من السعادة الحقيقية الوحيدة التي كان من الممكن أن تحصل عليها إطلاقا. تعترف إيما نفسها بعجزها عن تحقيق السعادة، حتى عندما تحقق أهدافها. وبعد فساد علاقة حبها مع ليون، تعترف لنفسها بعبثية كل الرغبات. تقول لنفسها:

كل ابتسامة تخفي نوعا من الملل، وكل فرحة لعنة، وكل متعة، وكل شبع، و... أحلى القبلات لا تترك على الشفاه سوى رغبة بعيدة المنال في لذة أعظم. يشير وعي إيما بمعاناتها الداخلية إلى سبب خوفها الشديد من احتمال مغفرة زوجها. أكثر من أي خوف آخر، فإن خوف إيما من مغفرة زوجها يدفعها نحو الانتحار.  وقبول لطف تشارلز سيجبر إيما على مواجهة أوهامها فيما يتعلق بالحدود التي يسهل اختراقها بين الفن والحياة. لا يستطيع فلوبير ولا إيما التعامل مع سيولة هذه الخطوط الخيالية. مثل هذه المواجهة بين أحلام إيما المستحيلة وواقع شارلز المتواضع كان من شأنه أن يلقي ضوءًا قاسيًا على الأوهام التي بررت خيانتها لزوجها. مثل سلفها الفارس الخيالي دون كيشوت دي لا مانشا تموت إيما بوفاري ضحية حاجتها إلى الحلم. وعلى الرغم من أنها بطلة مأساوية تكسب تعاطف القراء بشق الأنفس، إلا أن انتحار إيما هو بالكامل نتاج خيالها الفاشل.

من معارضتها لزوجها، فإن مثالية إيما تشير إلى القرابة التي تتقاسمها معه، لأن شارلز وإيما حالمان. الفرق بين الزوج والزوجة أن تشارلز برضى بالواقع، لكن إيما ترفضه تمامًا. ولكن في حين أن كلا من إيما وشارلز  أبناء دون كيشوت، فإن مثاليتهما تميزهما أيضًا عن بعضهما البعض. إيما وريثة انشغال دون كيشوت القاسي بذاته، والذي ينتج، من بين أمور أخرى، لامبالاة الفارس تجاه الضرب الذي يتلقاه القرويون الفقراء حين يصادفهم. شارلز وريث جانب آخر من شخصية دون كيشوت، ذلك الجانب الذي ألهم دوستويفسكي شخصية الأمير ميشكين الأحمق المقدس الشبيه بالمسيح، بطل رواية "الأبله" (1869)، ليتماثل معه ويحل بصورته. مثل شارلز كان الأمير ميشكين راضٍ تمامًا عن واقعه، لأنه يرى أنه مملوء بالنعمة الإلهية. وكما هو الحال مع القيم المتضاربة لرودولف وتشارلز الفرق الأساسي بين مثاليات إيما وتشارلز هو أن الأول يسبب المعاناة للآخرين بينما الثاني يسبب المعاناة لذاته فقط.

 مع "فيليسيتيه" في "قلب بسيط"، تتأرجح وجهة نظر مدام بوفاري السردية بين الإعجاب بخيال شارلز المتعاطف وازدراء اللغة الخرقاء التي يعبر بها عن عاطفته. في وقت مبكر من السرد، يقال إن رودولف يُظهر "تفوق الحكم المناسب لشخص يحمل كل المشاعر من مسافة"، ولكن بحلول نهاية السرد، أصبح رودولف مجرد شخص مضجر قاسٍ يفشل في فهم تعقيدات شخصيته.

حب المنافس

على الرغم من أن فلوبير ربط هويته بإيما في أول تصريح علني له عن هذه الرواية، إلا أنه لا يمكن للقارئ إلا أن يشك في أنه أصبح يقدر بشكل متزايد القلوب البسيطة لشخصيات مثل شارلز وفيليسيتيه. عندما ترى فيليسيتيه ببغاءًا ضخمًا يحوم فوق رأسها على فراش الموت، فإن اتساع اللون الأخضر لا يدل على غيرة المخدوع، بل على خصوبة الخيال الأدبي. من هذا المنطلق، اقتربت مُثُل فلوبير الأخلاقية من تلك التي جسدها حمقى دوستويفسكي المقدسون بشكل أكثر شمولاً وهذا ما أدركه معظم القراء أكثر من الكاتبين معا.

***

........................

* الترجمات من الفرنسية هي ترجمتي. استخدمت هذه الطبعات: غوستاف فلوبير، مدام بوفاري: امرأة ريفية (باريس: مكتبة فرنسا، 1921)، و"قلب بسيط"، الأعمال الكاملة لغوستاف فلوبير، المجلد VI Contes et Mélanges  باريس: أ. كوانتين، 1885.

ريبيكا روث غولد Rebecca Ruth Gould

أستاذة الأدب المقارن وزميلة في مركز الدراسات الفلسطينية بجامعة لندن، كلية الدراسات الافريقية والاستشراق. أهم أعمالها: "محو فلسطين" الصادر عن دار فيرسو في لندن ونيويورك وباريس.

 

في عنوان فرعي مثير ساقه ستيفن سلومان وفيليب فيرنباخ، في كتابهما المشترك "لماذا لا نفكر بمفردنا أبدا؟" ـ العنوان الفرعي المذكور وسمه الباحثان ب"العالم هو حاسوبك" ـ يستدرجنا الكاتبان إلى عوالم جديدة، ترتبط بحوسبة المعرفة واختصار الوقت في إدراك نتائجها. ويحدد الباحثان من خلال هذه الطفرة التكنولوجية الحاسمة في حياة الإنسان، طريقة استعمال المعادلات الذهنية الأكثر اندماجا وفعالية لاستعمالنا العالم، من أجل إجراء الحوسبة من أجلنا في التنقل عبر المساحات الضيقة. وهو ما يسهم فعليا وإجرائيا في خلق تكوين للوضعيات، بأنماط منهجية تعكس كيفية اجتيازنا للحقول الت ينحن بصدد التكيف معها.

نظرية "العالم هو حاسوبك"، تحيل بالبداهة إلى محاولة استجلاء مناطق نزوع الصناعات الثقافية والإعلامية الجديدة، وأثرها في الإنسانية وقيمها وثقافتها. إذ المفهوم الثاوي للصناعات إياها، جامعة بين مدارات إنشاء وإنتاج وتسويق المحتوى، تؤطره بالأساس مفهومية "الصناعة"، وهي جزء من نظرية كبيرة كان قد قعد لها الناقدان الغربيان تيودور أدورنو وماكس هوركهايمر، باستنتاج تأكيدي، كون وسائل الإعلام كانت لها اليد الطولى، في التأثير سلبا على المتلقين.

ويرى الباحثان أدورنو وهوركهايمر، أن المواطنين بكونهم مشاهدين، أو متفرجين، على العالم المثالي، الذي يتم تمثيله من خلال الإعلانات والأفلام، ينسون أو هم يتناسون واقعهم، وبالتالي يصبح من السهل التلاعب بهم، مع أن ثمة جدل في أن تكون وسائل الإعلام الجماهيرية، قد جعلت من أدوات الترفيه شكلا من أشكال التناظر الاجتماعي، وهو ما يتداخل وتأثيرات سلطة الإعلام في "التوجيه والتربية".

والوارد هنا، أن الأشكال الجديدة للثقافات الإعلامية والثقافية، كان منشؤها أوروبيا. إذ إننا بإزاء هذا المعطى، كنا ولا نزال نؤمن بأن القطاعات التي تمارس أنشطة تتعلق بالقيم الثقافية أو غيرها، من أشكال التعبير الفني الفردي أو الجماعي، وهي كما تحددها القاعدة القانونية لبرنامج "أوروبا الإبداعية"، وهي ذات بنية صلبة على مستوى التأثير في براديجمات التنمية والمجال. أشير هنا إلى استفادة قطاعات عديدة، مثلا في أعمال المكتب الاحصائي للجماعات الأوروبية (أوروسات)، في إطار الاحصائيات الأوروبية وأعمالها الدقيقة، من خلال تنسيق ومواءمة الإحصاءات المتعلقة بقطاعي الثقافة والإبداع، في حين تتمحور الصناعات الإعلامية والثقافية حول آخر التطورات في سلسلة القيمة، لاسيما عمليات الإنتاج ونشر العمليات الصناعية والتصنيع.

من تمة، يجب التأكيد، على أن القطاعات الثقافية والإعلامية تحظى بأهمية قصوى، في برامج التنمية الجديدة، لدى الدول الديمقراطية، دلك أنها تسهم في ضمان التطوير المستمر للمجتمعات ، وهي في صلب الاقتصاد الإبداعي، حيث إنها، وعلاوة على ضرورتها الراهنة وتأثيرها المباشر على المردودية والجودة، فإنها تتميز أيضا بكثافة المعرفة العالية والاعتماد على المواهب الفردية، كما تساهم في تحقيق ثروة اقتصادية كبيرة. ولكنها أيضا، وقبل كل شيء، هي ضرورية لخلق إجماع حول الهوية والثقافة والقيم الإنسانية.

ويمكن هنا، وتأسيسا على ما تم ذكره، فتح قوس كبير حول مثارات أو إواليات الصناعات الثقافية والإعلامية، كشكل من اشكال البراديجمات التنموية، التي نسميها "إنتاج ونشر المعرفة". فالقالب المعولم، الذي يمكن أن نضع فيه نظرية الإنتاج ونشر المعرفة في المجتمع، هو نموذج حديث وراهني، مرتبط أساسا بانتشار تقنيات المعلومات والاتصالات. وهي كما عرفها الحكيم باشلار "الإجابة على السؤال". هذا يعني، أن المعرفة في الصناعة الثقافية والإعلامية، يتم تطويرها وفقا للتجارب المنتجة، وتبعا للحاجيات المبرمجة، حيث يتم نقلها بمنهجية وتدقيق بيداغوجي إلى أفراد المجتمع. كما أنه، يجيب التنبيه، إلى عدم حصر مآلات المعرفة، فهي ليست بالضبط، ما يعادل المعلومات، بل هي معرفة بذاتها ولذاتها، تتغيا التنويع والتلاؤم واستخلاص التجارب، مع التكامل الملهم والاستخدام العقلاني من قبل الفرد في المجتمع المنظور.

ومن هذا المنطلق، يصبح من اللازم، طرح سؤال الصناعات الثقافية والإعلامية، كإدارة جماعية، وكتفكير تشاركي، ينبني على التخطيط والتدبير المحكم، الذي يؤول إلى مجتمع المعرفة كقيمة. وهذه إشكالية أخرى، قاربها المفكر الأمريكي بيتر دراكر، رائيا أن مجتمع المعرفة في منظومة الصناعات الثقافية يعتمد بشكل أساسي على مبدا نقل المعلومات، عندما يتم تجميعها وتأطيرها وتوجيهها. وبالتالي، تتلمس طريقها إلى الانتشار تم التأثير والاندماج.

وبما أن وسائل الإعلام تساهم هي الأخرى، في زيادة كثافة المعلومات، خصوصا ما يرتبط بتقنيات المعلومات والاتصالات الجديدة والأنترنيت، فإن معظم الأنشطة البشرية والاقتصادية تعتمد على نقل المعلومات واكتساب المعرفة.

لكن، أخيرا، يبقى سؤال الحاجة إلى التفكير في كيفية إدماج المعرفة في العمل التشاركي، أو الإشراك الفعلي للعمل على مستوى الإدارة والحكامة. وما الحاجة الملحة فعليا، إلى إمكانية تلقي هذه المعرفة ووضعها في خدمة الإنتاج.

يطرح دراكر ثلاث أنساق لتحقيق مقاربة نوعية:

الأول: دمج المعرفة في نظام تمثيلها.

ثانيا: استخدام المعرفة لغرض محدد من قبل الإدارة أو التدبير .

ثالثا: البحث عن الحقيقة، أي استخدام المعرفة ضمن إطار الحقيقة لدى الفرد.

***

د. مصطَفَى غَلْمَان

...........................

* عنوان المداخلة التي شاركت بها، في الندوة العلمية التي نظمها مهرجان امنتانوت للفن والابداع والتراث في دورته 14 والموسومة ب" صناعة الثقافة وتحقيق التنمية الترابية المستدامة: قراءات متقاطعة" يوم السبت 10 غشت 2024

 

لم يعد للفلسفة دورٌ في حياتنا المعاصرة!.. هكذا يتخيّل كل ذي بصيرة مطموسة، وكل ذي عقل مفقود.

أضعف حُجة للرد على تلك الترهات هو القول: إنه إذا ثبت أن للفلسفة دوراً في القديم والوسيط والحديث، فلا أقل من أن يكون لها نفس الدور وأعظم في الحياة المعاصرة؛ لأن وجودها الفاعل في الأزمنة القديمة والوسيطة والحديثة يثبت دورها الحضاري.

ولا يعقل أن يكون لها الفاعلية الحضارية قديماً ووسيطاً وحديثاً عبر الأزمنة والعصور، ثم نسلبها عنوة عن العصر الحاضر حيث لا حضارة ولا فلسفة، ومن ثم فلا حياة سوى تفاهات قائمة !!

من أسف، لم تعد طاقة العقلية العربية تستوعب عناء الفلسفة وجهودها الشاقة، كل بلاد العالم فيها فلاسفة، وفيها تقدير لقيمة الفلسفة إلا بلادنا العربية: عناء الفلسفة في ممارسة التفكير، وجهودها الشاقة في سن أسس النقد لفروض الإصلاح.

لا ندري لم هذا العداء الغريب بين العقل العربي والتفلسف، ربما أكون مبالغاً إذا قلت هذا .. بل ومتناقضاً أيضاًً لأننا إذا وصفنا الإنسان بالعقل فقد وصفناه بالتفلسف شئنا أم أبينا.

حقاً هو عداء فعلاً لكنه عداء ليس بين العربي وعقله ولا بين العربي وذوقه، ولا بين العربي ومداركه، بل عداء مفروض عليه سياسياً: أقتل في العربي كل قيمة، تفكيره وادراكه، وشعوره ووجدانه، وتدينه، ومعارفه وروابطه.. وجرده عن هويته، فلا يعرف لها تاريخاً ولا جغرافيا ..

أطمس ذاكرته الباقية طمساً ليسهل محو أثره من هذا الوجود، لا تدع له تراثاً يدرسه ولا وطنية يقدرها، ولا بلاداً يحترمها ..

جرّده من كل شيء ليكون لقمة سائغة في أيدي المبتزين والمستعمرين وطلاب الدون من الخونة والمأجورين.

أمحو هويته بالغفلة والاستنامة، وزعزع أصوله وانزع ثوابتها لتراه آخر الأمر بلا قيمة ولا كرامة ولا حياة!

اجعل للتعليم لديه مكان الحقارة والدناوة، وأجعله يحتقر العلم والعلماء، ويحتقر الدراسة والتحصيل، ويقيس كل شيء بالمقاييس المادية .. غيّر نظرته للأشياء وارْبطها برباط المنفعة القريبة العاجلة .. لا تجعل له ثوابت من دين ولا من قيم ولا من وطنية يرتكز عليها .. شككه في هذه الثوابت وأوصله بالتفاهات السائرة أمام نظرة صباح مساء حتى تستعبده،

اجعله عبداً لغرائزه الدنيا ولشهواته القريبة ليكون أسيراً لها على الدوام بغير إنقطاع .. لا تعلمه فريضة التفكير ولا الأدب ولا التاريخ ولا الفلسفة ولا تبصره بوجوده الروحي ولا العقلي بل دعه باستمرار لا يتجاوز المحسوس فيما يفكر وفيما ينظر من مطالب الحياة وشئون الواقع المحدود بحدود نظره ولمسه وحسّه.

قلل فيه قناعة العمل الموصول بمطالب الخلود، بل أجعله يعمل كأجير السوء، لا يعمل لأن العمل الصالح موصول غير مقطوع.

هذه سياسية إجرامية لا يطبقها على شعوبنا العربية إلا أبناء صهيون، ومن والاهم من الخونة والمأجورين، ومن يهمهم تحقيق الأمل اليهودي القديم بالقضاء على الشعوب العربية بدايةً من القضاء على اللغة والهويّة والحضارة والفلسفة والثقافة والتعليم.

وانتهاءً بالإبادة الجماعية وسلب إرادة الشعوب تحقيقاً مع غرس اليأس من الإصلاح.

لكن دراسة الفلسفة تقف لهذا كله بالمرصاد، تقف للخوار والانهزامية والتخلف .. فتحقق دوراً قائماً بالعقل وريادة باقية بالمعرفة. وكرامة الإنسان بين عقله ومعارفه. ولا كرامة له على التحقيق وهو معطل للعقل فاقد للمعرفة حتى لو أمتلك الدنيا بحذافيرها واستطال فيها على طولها وعرضها.

والفلاسفة الحقيقون مجاهدون في هذا الميدان جهاد الأبطال، لأن الفلسفة تكشف الباطل من أول وهلة، وتسخر العقل في طلب الحقيقة الظاهرة والباطنة، وتحترم الأصول الباقية في الدين والعلم والأخلاق، وتدفع عن القيمة غواشي الإنحراف، وتعزز في الفردية قيم المبدأ وقيم المصير، وتجاهد الفلسفة جهادها الأبيّ في سبيل إعلاء الجانب النقدي لتزيل الأقنعة الزائفة وتفضح الأوهام المتسلطة.

الفلسفة منهج في التفكير:

 كان نيتشه يقول: (الفلسفة ليست تأسيساً لديانة ولا تبشيراً بحقيقة، ولا وعداً بالحرية والسعادة، بل هى نبش في الأسس، وتعرية للأصول، وازالة الأقنعة، وفضح الأوهام).

***

د. مجدي ابراهيم – أستاذ فلسفة

 

إن المفاوضات جزء شائع من الحياة اليومية، سواء في مكان العمل، أو في المنزل، أو في البيئات الدبلوماسية. إن القدرة على التفاوض بشكل فعال يمكن أن تؤدي إلى نتائج ناجحة، ولكن هل هناك قوة غير مرئية تلعب دورا عندما يجتمع الناس على طاولة المفاوضات؟ لقد أثار هذا السؤال الكثير من الجدل بين الخبراء في مجال نظرية التفاوض.

تشير إحدى المدارس الفكرية إلى وجود قوة غير مرئية تلعب دوراً أثناء المفاوضات. وقد تتجلى هذه القوة في شكل ديناميكيات قوة غير معلنة، أو أجندات خفية، أو تحيزات ضمنية تؤثر على مسار المفاوضات. على سبيل المثال، قد يسيطر المفاوض على نظيره بسبب مكانته أو سلطته أو علاقته بالقضية المطروحة. يمكن لهذه العوامل الأساسية أن تؤثر على المفاوضات في اتجاه معين، وأحيانا دون أن يدرك أي من الطرفين ذلك تماما.

على العكس من ذلك، يزعم آخرون أن فكرة القوة غير المرئية هي مجرد أسطورة، وأن المفاوضات تستند بحتة إلى الأفعال والتفاعلات الملحوظة للأطراف المعنية. وفقًا لهذا المنظور، فإن المفاوضات هي عملية مباشرة من الأخذ والعطاء، حيث يأتي كل طرف إلى الطاولة بمصالحه ويحاول إيجاد أرضية مشتركة من خلال التواصل المفتوح والتسوية.

ومع ذلك، حتى أولئك الذين يرفضون فكرة القوة غير المرئية يعترفون بأهمية فهم علم النفس وراء المفاوضات. يمكن أن تلعب العواطف والتحيزات والإرشادات المعرفية دورا في تشكيل نتائج المفاوضات، حتى لو لم تكن واضحة على الفور. على سبيل المثال، يمكن أن تؤثر عواطف المفاوض على عملية اتخاذ القرار، مما يدفعه إلى اتخاذ خيارات قد لا تكون في مصلحته على المدى الطويل.

بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن تعمل الاختلافات الثقافية أيضًا كقوة خفية على طاولة المفاوضات. تتمتع الثقافات المختلفة بمعايير وقيم متفاوتة يمكن أن تؤثر على كيفية إجراء المفاوضات وإدراكها. على سبيل المثال، قد يتعارض المفاوض من ثقافة تقدر التواصل المباشر مع نظيره من ثقافة تعطي الأولوية للتواصل غير المباشر، مما يؤدي إلى سوء الفهم والانهيارات المحتملة في عملية التفاوض.

وعلاوة على ذلك، يمكن أن تلعب ديناميكيات القوة أيضًا دورًا مهمًا في المفاوضات، سواء تم الاعتراف بها أم لا. إن أولئك الذين يتمتعون بسلطة أكبر، سواء كان ذلك بسبب مناصبهم أو مواردهم أو خبرتهم، قد يكون لهم تأثير أكبر على المفاوضات. ويمكن استخدام هذه السلطة لصالحهم، وتشكيل نتيجة المفاوضات بطريقة ترضي مصالحهم إلى حد أكبر.

وهناك جانب آخر من جوانب المفاوضات حيث قد تلعب الحدس والمشاعر دورا غير مرئي، ففي حين يعتمد العديد من المفاوضين على اتخاذ القرارات العقلانية والتفكير المنطقي، هناك أيضًا مكان للحدس والغريزة في عملية التفاوض. يمكن لهذه العوامل اللاواعية أن توجه المفاوضين في اتخاذ خيارات قد لا تكون واضحة على الفور ولكنها تؤدي في النهاية إلى نتائج ناجحة.

وعلاوة على ذلك، يمكن لسياق المفاوضات نفسه أن يعمل كقوة غير مرئية على طاولة المفاوضات. يمكن لعوامل مثل القيود الزمنية والضغوط الخارجية ووجود أطراف ثالثة أن تؤثر على عملية التفاوض ونتائجها. على سبيل المثال، قد يشعر المفاوض بأنه مجبر على تقديم تنازلات أو التوصل إلى اتفاق بسرعة بسبب المواعيد النهائية الوشيكة أو التهديد بالمنافسة من الأطراف الأخرى المشاركة.

ورغم أن فكرة وجود قوة غير مرئية على طاولة المفاوضات قد تكون موضع جدل، فمن الواضح أن هناك العديد من العوامل الخفية التي قد تؤثر على عملية التفاوض ونتائجها. فمن ديناميكيات القوة والتأثيرات العاطفية إلى الاختلافات الثقافية والضغوط الخارجية، يمكن لهذه القوى الخفية أن تشكل مسار المفاوضات بطرق قد لا تكون واضحة على الفور. ومن خلال التعرف على هذه القوى الخفية وفهمها، يمكن للمفاوضين أن يتعاملوا بشكل أفضل مع تعقيدات طاولة المفاوضات والعمل على التوصل إلى اتفاقيات مفيدة للطرفين.

***

نور محمد يوسف

.......................

المراجع

1.     Galinsky, A. D., & Mussweiler, T. (2001). First offers as anchors: The role of perspective-taking and negotiator focus. Journal of Personality and Social Psychology, 81(4), 657–669.

2.     Kray, L. J., Galinsky, A. D., & Thompson, L. (2002). Reversing the gender gap in negotiations: An exploration of stereotype regeneration. Organizational Behavior and Human Decision Processes, 87(2), 386–409.

3.     Cialdini, R. (2009). Influence: The Psychology of Persuasion. New York: Harper Business.

4.     Bazerman, M., & Neale, M. (1992). Negotiating Rationally. New York: Free Press.

5.     Pink, D. (2011). To Sell is Human: The Surprising Truth About Persuading, Convincing, and Influencing Others. New York: Riverhead Books.

6.     Cialdini, R. B. (2007). "Influence: The psychology of persuasion." New York, NY: Harper Business - Loewenstein, G., & Lerner

بعض القراءِ مطلعٌ - بالتأكيد - على الجدل القديم، حول كون الإنسان مسيَّراً أم مخيَّراً. وهو جدلٌ أثاره سؤالٌ بسيط: إذا كانَ الإنسانُ يفعل ما يفعل بإرادةِ اللهِ وعلمِه المسبق، فإنَّه ليسَ مسؤولاً عن أفعاله، وبالتالي كيف يُعاقب. وهل يقدر الله شيئاً ويريده في الوقت نفسه، ثم يعاقب عبدَه إذا فعل ما أراده؟

أقول هذه مسألة معروفةٌ في التاريخ الإسلامي. وقد حُسمت في القرونِ الأخيرة، لصالحِ فهمٍ موسع، يربطُ الإثمَ بكونِ الفاعلِ قاصداً متعمداً، وكونه عارفاً بحقيقة ما يفعل. وتوصَّل الناسُ إلى هذا الفهم بعدما فصلوا بين مرحلتين: القدرة على الفعل وإرادة القيام بالفعل. فأنت قادرٌ على العيشِ في الغابة مثلاً، وأنتَ قادرٌ على التَّبرعِ بكل أموالِك، لكنِ القليلُ من الناس سيفعل هذا. أمَّا الأكثريةُ الساحقة فهي «تريد» خياراتٍ بديلة. هذا يعني أنَّك تستطيع فعلَ أشياء، لكنَّك لا تريدها، فلا تفعلها. وهذا بالضبط معنى أن تكونَ مختاراً وصاحبَ إرادة. وبناءً عليه قيل إنَّ الانسانَ مخيرٌ في الأعمّ الأغلبِ من أفعاله.

يبدو هذا الكلامُ معقولاً ولا غبارَ عليه. لكن تعالوا نناقشِ القولَ السائر، الذي فحواه أنَّ إنسانَ اليوم، واقعٌ - من حيث يشعر أو لا يشعر - تحتَ سيطرةِ أنظمةِ الإعلام والدعاية الهائلةِ القوة، أو أنَّه خاضعٌ لأعراف المجتمعِ وقوانينه وثقافته، التَّي تجعلُه يفعل ما تريدُه هي وليس ما يريدُه هو.

يقول أصحابُ هذا الرأي إنَّ إنسانَ اليوم لم يعد صاحبَ إرادة، لأنَّه لا يختار ما يريد. أجهزة الدعايةِ والإعلام تتلبس عباءةَ العلم حيناً والسياسة حيناً آخر، والاقتصاد تارة أخرى، وحتى الحرص على الصحة العامة في بعض الأحيان. يقولون أيضاً إنَّ الذي يختار الرئيس الأميركي مثلاً، ليس الناخبين الأفراد الذين يأتون إلى صناديق الاقتراع، بل أجهزة الدعاية التي تبارت في إقناع الناخبين بالشخص الذي اختارته ودعمته، فجاؤوا للصناديق وقد اقتنعوا بما أريد لهم أن يقتنعوا به.

كذلك الحال في السلوك الغذائي للأفراد، فهم لا يأكلون الطعامَ الذي ألفه آباؤهم، والذي ربَّما يعبر عن حاجات البيئة المحلية، بل يأكلون ما روَّجته أجهزة الدعاية، أي ما عرضته عليهم باعتباره رمزاً للسعادة أو العظمة أو الصحة. والشيء نفسه يقال عن نوع الملابس التي نرتديها، والخيارات الثقافية التي نميل إليها، وأنظمة العمل التي نتبعها في شركاتنا، وغيرها. نحن نعيش - كما يقول هؤلاء - مسيَّرين لا مخيَّرين. صحيحٌ أنَّه لم يضربنا أحدٌ على أيدينا، وليس في طرقنا حواجزُ ماديةٌ تمنعُنا من مغادرة الطريق الذي سلكناه. لكنَّنا مع ذلك لا نسير كما نختار، بل نسير وفقَ هوى الدعاية أو هوى المجتمع، أو تبعاً للفضول الذي حفزه هذا أو ذاك.

هذا نوع من التسيير غير المرئي الذي ينبع من داخل الإنسان، فيدفعه لمسارات سلوكية محددة، يظن أنَّه يختارها بحرية، لكنَّه - في واقع الأمر - لا يرى غير خيارات محددة سلفاً. وبالتالي فإنَّ اختياره مرسوم، وليس خياراً حراً، حتى لو توهَّم - في الوهلة الأولى - أنَّه حر.

احتمل أن المفكّرَ الفرنسي جان جاك روسو هو أول من أثار هذه المفارقة، في سياق حديثه عن تلاشي المجتمع الطبيعي السابق للدولة، وقيام المجتمع المدني المحكوم بالقانون، إذ يقول ساخراً: «يا لغباء هذا الإنسان الذي مشى إلى سجن القانون بقدميه، وكان في وسعه أن يبقى حرّاً إلى الأبد»!

أراد روسو كشف المفارقة، بين حياة فيها حرية مطلقة لكنَّها غيرُ آمنة (في الغابة مثلاً) وحياة بنصف حرية، لكنَّها آمنة ومريحة (في ظل القانون). قال هذا كي يوضح للقارئ لماذا اختار الإنسان أن يتنازل عن حريته الأولى، فهل وجد في الثانية ما يستحق التضحية؟

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

يعتبر الترفيه أو الترويح عن النفس من الأمور الضرورية التي يحتاجها المرء في حياته، بهدف إدخال السعة والانبساط والسرور على النفس وإزالة المشقّة والتعب، وبالتالي تحقيق التوازن العقليّ والنفسيّ والبدنيّ للفرد وبشكل خاصّ عند زيادة الهموم والضغوط النفسيّة والإرهاق العصبي , والترفيه له دور متميز في بناء مجتمع حيوي نابض بالحياة، تتوفر له كل الخيارات الترفيهية المتنوعة,

 يُنظر إلى الترفيه والثقافة في الفلسفة كأدوات تعبر عن الوجود الإنساني وتعزز من فهم الذات والعالم من حولنا، وتعتبر جزءاً لا يتجزأ من التجربة الإنسانية، والترفيه سواء كان عبر السينما، المسرح، الفنون، الموسيقى، الأدب أو غيرها، يعتبر وسيلة للتعبير الإبداعي والتفاعل مع العواطف والأفكار، ويعكس القيم والمعتقدات الثقافية ويساهم في بناء الهوية الثقافية للمجتمعات، ومن جهة أخرى تعتبر الثقافة القاعدة التي ينبثق عليها الترفيه، حيث تشكل القيم والمعتقدات الثقافية الإطار الذي يندرج ضمنه الأعمال الترفيهية، وترتبط بالهوية والتاريخ والتقاليد وتعكس رؤية المجتمع للعالم ولذاته

من الناحية الاجتماعية، تعتبر العلاقة بين الترفيه والثقافة جزءًا أساسيًا من تفاعلات المجتمعات وتكوينها، فيعتبر الترفيه وسيلة للتواصل والتفاعل الاجتماعي بين الأفراد والمجموعات، ويسهم في تعزيز الروابط الاجتماعية وتعزيز التواصل بين الأفراد من خلفيات ثقافية متنوعة، ويوفر بيئة تجمع الناس معًا وتعزز الفهم المتبادل والتسامح، من جهة أخرى تلعب الثقافة دورًا حاسمًا في تشكيل الهويات الاجتماعية وتعزيز التماسك الاجتماعي، وتعكس المشترك من قيم ومعتقدات المجتمع وتكون الروابط الاجتماعية بين أفراده، وبالتالي يعمل الترفيه والثقافة سويًا على تعزيز التفاهم والتواصل بين أفراد المجتمع وتعزيز الانتماء والتلاحم الاجتماعي, و يقول (مالكولم ماكلارين): الثقافة تعطي الترفيه لمسة إنسانية وروحية، تجعله أكثر تأثيرًا وأهمية في حياة الناس. ويقول (ستيفن هولت): الثقافة هي أساس الترفيه، والترفيه هو نتاج الثقافة

الترفيه والثقافة لا يمكن فصلهما عن بعضهما، وهذه العلاقة العميقة تبرز أهمية دورهما في تشكيل المجتمعات وتعزيز التنوع والتفاعل الاجتماعي، وفهم هذه العلاقة واستيعاب دورها الحيوي يساعدنا على تقدير قيمة الترفيه والثقافة في حياتنا اليومية وفي بناء عالم أكثر تلاحمًا وفهمًا متبادلًا، فالثقافة تعطي الترفيه قيمة عميقة، تجعله أكثر من مجرد تسلية، بل وسيلة لنقل المعرفة والقيم والتاريخ، ويجتمعان لخلق تجارب ذهنية وعاطفية تثري حياة الأفراد وتعزز التواصل بينهم، ويعكسان جوهر الشعوب ويعبران عن تاريخهم وتقاليدهم وقيمهم، والترفيه يعتبر لغة عالمية تتجاوز الحدود، والثقافة تعطي هذه اللغة معنى وعمقًا، ويجمعان بين الفرادة والانتماء الجماعي، يعززان الهوية الفردية والانتماء الثقافي

يلعب الترفيه والثقافة دورًا حيويًا في تحقيق التنمية المستدامة والتقدم الاجتماعي؛ حيث يمكن لوسائل الترفيه أن تكون وسيلة لنقل المعرفة وتعزيز الوعي بقضايا التنمية المستدامة، مثل حماية البيئة والاستدامة الاقتصادية، ومن خلال الفنون والأدب والتراث الثقافي، يمكن تعزيز الوعي بالهوية الثقافية والتنوع، وبالتالي تعزيز التفاهم والتسامح بين الثقافات، ويمكن لأنشطة الترفيه أن تكون وسيلة للتواصل والتفاعل بين أفراد المجتمع، مما يعزز التماسك الاجتماعي ويقوي العلاقات الاجتماعية، وتعزز الثقافة الفهم المتبادل والتواصل بين الأفراد من خلفيات ثقافية متنوعة، مما يساهم في تحقيق التفاهم والتعايش السلمي

الترفيه والثقافة عنصران أساسيان يشكلان جوهر حضارات العالم، ومن خلال النظر إلى هذه العناصر من منظور فلسفي واجتماعي، يمكننا فهم عمق العلاقة بينهما ودورهما في تشكيل حياة الإنسان ومجتمعه، فالترفيه هو روح الثقافة، والثقافة هي جوهر الترفيه وهي تعبير جماعي للأعمال، والترفيه ليس تسلية فقط بل هو وسيلة لتعزيز الوعي الثقافي والتفاعل الاجتماعي، وأن يكون جسرًا بين الثقافات المختلفة للتفاهم والتعبير عن الهوية الجماعية

ويمكن للترفيه أن يلهم الإبداع والابتكار من خلال تقديم أفكار جديدة ومثيرة، لتحفيز التفكير الإبداعي وتطوير حلول مبتكرة لتحديات التنمية المستدامة، وتعتبر الثقافة مصدر إلهام للإبداع والابتكار، حيث يمكن للتراث الثقافي والفنون التقليدية أن تساهم في تنمية مهارات الإبداع وتعزيز الابتكار في المجتمع، ويمكن للأنشطة الترفيهية أن تكون فرصة لتوسيع آفاق التعلم وتعزيز المهارات الشخصية والاجتماعية، لتعزيز التعليم وتنمية المهارات، وتعزز الثقافة التعلم المستمر وتبادل المعرفة من خلال تعزيز قيم الاستكشاف والتفاعل مع المعرفة، لتحقيق التنمية المستدامة من خلال تعزيز التعليم والتطوير المهني.

***

نهاد الحديثي

 

على مر التاريخ، غالبا ما تم تجاهل أو تهميش دور المرأة في الفنون البصرية، حيث طغت مساهماتها على مساهمات نظرائها من الذكور. ومع ذلك، كانت النساء لفترة طويلة جزءا لا يتجزأ من عالم الفن، حيث ابتكرن أعمالًا تتحدى المعايير المجتمعية، وتستكشف موضوعات الجنس والهوية، وتقدم وجهات نظر فريدة من نوعها للعالم. من الصور الذاتية القوية لفريدا كاهلو إلى اللوحات التجريدية الرائدة للي كراسنر، قدمت الفنانات مساهمات كبيرة في مجال الفنون البصرية، ودفعن الحدود وإعادة تعريف المفاهيم التقليدية للإبداع والتعبير. في هذا المقال، سوف نستكشف تطور أدوار المرأة في الفنون البصرية، ونفحص كيف أثرت التوقعات المجتمعية والمعايير الجنسانية على أعمالهن، وكذلك كيف قاومت النساء هذه القيود لخلق فن قوي ومبتكر. من خلال تحليل أعمال فنانات مثل جورجيا أوكيف، ويويوي كوساما، وكارا ووكر، سننظر في الطرق التي استخدمت بها النساء فنهن لتحدي الصور النمطية، ومواجهة التحيزات، وتأكيد مكانتهن الصحيحة في شريعة تاريخ الفن. من خلال فحص هؤلاء الفنانين المتنوعين والمؤثرين، سنكتسب فهما أعمق للطرق التي شكلت بها النساء مشهد الفنون البصرية واستمرت في ترك بصمتها على هذا المجال اليوم.

1. لعبت النساء دورا حاسما في تطوير وتطور الفنون البصرية عبر التاريخ:

لقد ساهمت النساء بشكل كبير في عالم الفنون البصرية عبر التاريخ، ولعبن دورا حاسما في تطويره وتطوره. وعلى الرغم من مواجهة الحواجز والعقبات بسبب التحيزات الجنسانية التاريخية والمعايير المجتمعية، فقد أثبتت الفنانات أنهن مبتكرات ومؤثرات في تشكيل المشهد الفني. ومن الأمثلة البارزة على الفنانات الرائدات أرتيميسيا جنتيلسكي، وهي رسامة باروكية إيطالية معروفة بتصويرها القوي للموضوعات التوراتية والأسطورية. وعلى الرغم من مواجهة التحيز والشدة كامرأة في مجال يهيمن عليه الذكور، فقد ثابرت جنتيلسكي وحققت استحسانا لتأليفاتها الدرامية ومهارتها الفنية. في القرن العشرين، برزت جورجيا أوكيف كشخصية رائدة في الحداثة الأمريكية، حيث تحدت التصورات التقليدية للجنس والجنسانية من خلال لوحاتها الجريئة والحيوية للزهور والمناظر الطبيعية. ولا يزال استخدام أوكيف المبتكر للألوان والشكل يلهم الفنانين حتى يومنا هذا. كما قدمت فنانات معاصرات مثل جودي شيكاغو وكارا ووكر مساهمات كبيرة في مجال الفنون البصرية، باستخدام أعمالهن لاستكشاف موضوعات النسوية والعرق والهوية. تواجه قطعة شيكاغو التركيبية الشهيرة "حفل العشاء" والصور الظلية القوية لووكر المشاهدين بقضايا الجنس والعرق، مما يثير الفكر والحوار. بشكل عام، لعبت الفنانات دورًا حيويًا في دفع حدود الفنون البصرية وتحدي المعايير وتمهيد الطريق للأجيال القادمة من المبدعين. لقد أثرت وجهات نظرهن المتنوعة وأصواتهن الفريدة المشهد الفني، مما ساهم في عالم فني أكثر شمولا وديناميكية. من خلال شجاعتهن وإبداعهن ومثابرتهن، تواصل النساء تشكيل وإعادة تعريف حدود الفنون البصرية.

2. من عصر النهضة إلى العصر الحديث، قدمت فنانات مثل أرتميسيا جينتيلسكي وجورجيا أوكيف وفريدا كاهلو وسيندي شيرمان مساهمات كبيرة في عالم الفن:

خلال فترة عصر النهضة وعلى مدار التاريخ، غالبًا ما تم تهميش النساء واستبعادهن من عالم الفن. ومع ذلك، كانت هناك فنانات بارزات تحدين هذه المعايير وقدمن مساهمات كبيرة في مجال الفنون البصرية. أرتيميسيا جنتيلسكي، رسامة باروكية إيطالية، هي واحدة من أشهر الفنانات الإناث في عصر النهضة. وعلى الرغم من مواجهة التحديات والتمييز كامرأة في عالم الفن الذي يهيمن عليه الذكور، تمكنت جنتيلسكي من ترسيخ نفسها كفنانة موهوبة ومبتكرة. غالبًا ما تضمنت لوحاتها بطلات قويات وموضوعات تمكين، مما أظهر منظورها الفريد كفنانة امرأة في مجتمع أبوي. بالانتقال إلى العصر الحديث، استمرت فنانات مثل جورجيا أوكيف وفريدا كاهلو وسيندي شيرمان في تحدي الصور النمطية الجنسانية ودفع حدود ممارسات الفن التقليدية. كانت أوكيف، المعروفة بلوحاتها الحداثية والتجريدية المتميزة للزهور والمناظر الطبيعية، شخصية رائدة في الفن الحديث الأمريكي. تحدت أعمالها مفاهيم الأنوثة واستكشفت تعقيدات العالم الطبيعي من خلال تركيباتها الجريئة والمذهلة بصريا. استخدمت فريدا كاهلو، الفنانة المكسيكية الشهيرة بصورها الذاتية وتصويرها للثقافة المكسيكية، فنها كوسيلة للتعبير عن تجاربها الشخصية ونضالاتها. غالبا ما استكشفت أعمال كاهلو موضوعات الهوية والنسوية والمعايير المجتمعية، مما جعلها رمزا لتمكين المرأة ومرونتها في عالم الفن. استخدمت سيندي شيرمان، الفنانة الأمريكية المعاصرة المعروفة بصورها الذاتية الاستفزازية واستكشافها للهوية، التصوير الفوتوغرافي كأداة لتحدي المعايير والتوقعات المجتمعية. غالبًا ما تنتقد أعمال شيرمان تمثيل المرأة في وسائل الإعلام والثقافة الشعبية، وتقدم فحصا دقيقا ونقديا للأدوار والأنماط الجنسانية. قدمت هؤلاء الفنانات مساهمات كبيرة في عالم الفن، ليس فقط من خلال أعمالهن المبتكرة والمبتكرة ولكن أيضًا من خلال تمهيد الطريق للأجيال القادمة من الفنانات لكسر الحواجز وتحدي المعايير. إن تأثيرهن الدائم على الفنون البصرية بمثابة شهادة على الدور الحيوي الذي لعبته النساء في تشكيل المشهد الفني عبر التاريخ.

3. على الرغم من مواجهة التمييز والحواجز بسبب جنسهن، ابتكرت الفنانات أعمالا قوية ومبتكرة تحدت المعايير المجتمعية واستكشفت وجهات نظر فريدة:

على مر التاريخ، واجهت الفنانات التمييز والحواجز بسبب جنسهن، مما حد من فرصهن في عرض مواهبهن وأفكارهن في عالم الفنون البصرية الذي يهيمن عليه الذكور. وعلى الرغم من هذه التحديات، واصلت الفنانات دفع الحدود وتحدي المعايير المجتمعية واستكشاف وجهات نظر فريدة من خلال أعمالهن القوية والمبتكرة. ومن الأمثلة على ذلك أرتيميسيا جنتيلسكي، وهي رسامة باروكية إيطالية تحدت معايير عصرها من خلال معالجة موضوعات مثل قوة المرأة وقدرتها على التصرف في أعمالها الفنية. وعلى الرغم من مواجهة التحديات الشخصية والمهنية، أصبحت لوحات جنتيلسكي الجريئة والمعبرة منذ ذلك الحين رموزًا أيقونية لتمكين المرأة في تاريخ الفن. ومن الأمثلة الأخرى فريدا كاهلو، وهي فنانة مكسيكية معروفة بصورها الذاتية السريالية التي تتعمق في موضوعات الهوية والألم والمرونة. لم تتحد أعمال كاهلو الأفكار التقليدية عن الجمال والأنوثة فحسب، بل وفرت لها أيضًا منصة لاستكشاف تجاربها الخاصة كامرأة في مجتمع يهيمن عليه الذكور. في الآونة الأخيرة، واصل فنانون مثل يايوي كوساما كسر الحدود وإعادة تعريف حدود الفنون البصرية. لقد أسرت تركيبات كوساما الغامرة وزخارفها المنقطة الجماهير في جميع أنحاء العالم، وتحدت المفاهيم التقليدية للمساحة والشكل مع استكشاف موضوعات الصحة العقلية والتجربة الأنثوية. بشكل عام، لعبت أعمال الفنانات دورا حاسما في تشكيل مسار الفنون البصرية، حيث قدمت وجهات نظر فريدة وتحديت المعايير المجتمعية. على الرغم من مواجهة التمييز والحواجز بسبب جنسهن، فقد ابتكرت الفنانات أعمالًا قوية ومبتكرة لا تزال تلهم وتثير الفكر في عالم الفن المعاصر. من خلال شجاعتهن وإبداعهن، مهدت هؤلاء الفنانات الطريق للأجيال القادمة من النساء لترك بصمتهن في عالم الفنون البصرية.

4. كان تمثيل المرأة في الفن أيضًا موضوعًا رئيسيًا، حيث صور فنانون مثل ماري كاسات وكاثي كولويتز التجربة الأنثوية في مجموعة متنوعة من السياقات:

على مر التاريخ، كان تمثيل المرأة في الفن موضوعا رئيسيا استكشفه العديد من الفنانين في أعمالهم. اشتهرت فنانات مثل ماري كاسات وكاثي كولويتز بتصويرهن للتجربة الأنثوية في مجموعة متنوعة من السياقات. تشتهر ماري كاسات، وهي رسامة انطباعية أمريكية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، بتصويرها الحميمي والعميق للنساء والأطفال. غالبًا ما تصور لوحاتها نساء منخرطات في أنشطة يومية، مثل رعاية الأطفال والقراءة والتواصل الاجتماعي. تحدت أعمال كاسات الأدوار التقليدية للمرأة في الفن، حيث قدمتها كأفراد يتمتعون بالوكالة والتعقيد. تشتهر كاثي كولويتز، وهي فنانة وصانعة مطبوعات ألمانية، بتصويرها القوي والعاطفي للنساء في سياق اجتماعي وسياسي. غالبا ما تتناول أعمالها الفنية موضوعات الفقر والحرب والمعاناة، مع التركيز بشكل خاص على تجارب النساء والأطفال. تعمل أعمال كولويتز كتذكير مؤثر بالنضالات التي تواجهها النساء في المجتمع، فضلا عن كونها دعوة للعمل من أجل التغيير الاجتماعي. استخدمت كل من كاسات وكولويتز فنهما كوسيلة لإلقاء الضوء على تجارب النساء، وتحدي الأعراف المجتمعية، والدعوة إلى العدالة الاجتماعية. لا يزال عملهما يلهم ويتردد صداه لدى الجماهير اليوم، ويشكل شهادة على الدور المهم الذي تلعبه المرأة في الفنون البصرية.

5. من خلال دراسة أعمال الفنانات وتأثيرها على الفنون البصرية، يمكننا اكتساب فهم أكبر لمساهمات ووجهات نظر المرأة في المجال الفني:

من خلال دراسة أعمال الفنانات وتأثيرها على الفنون البصرية، يمكننا اكتساب فهم أكبر لمساهمات ووجهات نظر المرأة في المجال الفني. على مر التاريخ، واجهت النساء العديد من التحديات في عالم الفن، بما في ذلك الفرص المحدودة للتعليم والعرض، فضلا عن التوقعات المجتمعية التي غالبا ما همشت مساعيهن الفنية. وعلى الرغم من هذه العقبات، فقد دفعت الفنانات الحدود باستمرار، وتحدت الأعراف، وأعدت تعريف المشهد الفني. ومن الأمثلة على ذلك أرتميسيا جنتيلسكي، وهي رسامة باروكية إيطالية معروفة بتصويرها القوي للمشاهد التوراتية والأسطورية. غالبًا ما استكشفت أعمال جنتيلسكي موضوعات القوة والمرونة الأنثوية، كما هو موضح في لوحتها الأيقونية "جوديث تقتل هولوفرنيس". من خلال ضربات فرشاتها الجريئة وتعبيرها العاطفي المكثف، تحدت أعمال جينتيلسكي الفنية المفاهيم التقليدية للأنوثة ومهدت الطريق لأجيال المستقبل من الفنانات. ومن الشخصيات المؤثرة الأخرى في عالم الفن فريدا كاهلو، وهي رسامة مكسيكية معروفة بصورها الذاتية السريالية وأسلوبها الفني الفريد. غالبًا ما استكشفت أعمال كاهلو موضوعات الهوية والجنس والجنسانية، مستلهمة من تجاربها الشخصية ونضالاتها. من خلال ألوانها النابضة بالحياة وصورها الرمزية، تحدت أعمال كاهلو الفنية المعايير المجتمعية وفتحت إمكانيات جديدة للتعبير الفني. من خلال دراسة أعمال فنانات مثل جينتيلسكي وكاهلو، يمكننا اكتساب فهم أعمق لوجهات النظر والتجارب المتنوعة للنساء في المجال الفني. لم تقدم هؤلاء الفنانات مساهمات كبيرة في عالم الفن فحسب، بل مهدن أيضا الطريق لأجيال المستقبل من النساء لكسر الحواجز وترك بصماتهن على الفنون البصرية. من خلال تقنياتهن المبتكرة ورواياتهن القوية ورؤاهن التي لا هوادة فيها، تواصل الفنانات تشكيل المشهد الفني وتحدي مفاهيمنا حول ما يمكن أن يكون عليه الفن. وفي الختام، كان لعمل الفنانات تأثير عميق على الفنون البصرية، حيث قدم رؤى ووجهات نظر جديدة وإمكانيات للتعبير الإبداعي. ومن خلال دراسة مساهمات الفنانات عبر التاريخ، يمكننا أن نقدر بشكل أفضل ثراء وتنوع المجال الفني، فضلا عن الإرث الدائم للمرأة في تشكيل مسار تاريخ الفن. ومن خلال إبداعهن وشجاعتهن وقدرتهن على الصمود، قدمت الفنانات مساهمات دائمة في الفنون البصرية واستمرت في إلهام الأجيال القادمة من الفنانين لدفع الحدود وإعادة تعريف حدود التعبير الفني.

تطور دور المرأة في الفنون البصرية بمرور الوقت ولا يزال قوة مهمة في عالم الفن. وعلى الرغم من مواجهة التحديات والعقبات المختلفة، قدمت الفنانات مساهمات مهمة في هذا المجال ولعبن دورا فعالا في تشكيل المشهد الفني. فمن الأعمال الرائدة لأرتميسيا جنتيلسكي إلى الفن المعاصر لكارا ووكر، أثبتت النساء مهاراتهن وإبداعهن من خلال فنهن. ومع تقدمنا، من الضروري الاعتراف بمساهمات المرأة في الفنون البصرية ودعمها، وضمان منح عملها التقدير الذي يستحقه. ومن خلال القيام بذلك، يمكننا خلق عالم فني أكثر شمولا وتنوعا يحتفل بمواهب وأصوات جميع الفنانين، بغض النظر عن الجنس.

***

محمد عبد الكريم يوسف

...........................

المراجع:

Bibliography:

Chadwick, Whitney. Women, Art, and Society. Thames and Hudson, 2020.

Deitz, Paula. Contemporary Women Artists. St. James Press, 2018.

Nochlin, Linda. Women, Art, and Power and Other Essays. Harper & Row, 2019.

Pollock, Griselda. Vision and Difference: Feminism, Femininity and the Histories of Art. Routledge, 2017.

Chadwick, Whitney. Women, Art, and Society. 5th ed., Thames & Hudson, 2012.

Pollock, Griselda. Vision and Difference: Femininity, Feminism, and Histories of Art. Routledge, 1988.

Nochlin, Linda. Women, Art, and Power and Other Essays. Thames & Hudson, 1988.

Chadwick, Whitney. Women, Art, and Society. Thames & Hudson, 2007.

Heller, Nancy G. Women Artists: An Illustrated History. Abbeville Press, 2003.

Nochlin, Linda. "Why Have There Been No Great Women Artists?" Artnews, January 1971.

Heller, Nancy G. Women artists: an illustrated history. Abbeville Press, 2003.

Chadwick, Whitney. Women, art, and society. Thames and Hudson, 2007.

Broude, Norma, and Mary D. Garrard. The expanding discourse: feminism and art history. Westview Press, 2012.

Chadwick, Whitney. Women, Art, and Society. London: Thames & Hudson, 2012.

Ferris, Alison, and Reilly, Lucy. Women Artists: The Linda Nochlin Reader. New York: Thames & Hudson, 2016.

Fort, Ilene Susan. The Other Side of the Story: Structures and Strategies of Contemporary Feminist Narrative Art. Manchester University Press, 2011.

Nochlin, Linda. Why Have There Been No Great Women Artists? New York: Penguin Books, 2015.

من النّداءات الّتي لم أفقه مرادها وعلاقتها بالقضيّة الفلسطينيّة، والّتي ردّدت في إحدى الوقفات التّضامنيّة مع أحداث غزّة الأخيرة عبارة "تسقط القوميّة"، والشّعارات إن لم تكن محكمة يكن لها تأثير سلبيّ في العقل الجمعيّ، خصوصا في الأجيال المعاصرة، وأزعم أنّ بعضهم لا يفقه معنى القوميّة، فالقوميّة من حيث أصلها قديمة قدم تبلور الاجتماع البشريّ، فارتبطت بعناصر كليّة وفق انتماء يجمعها كما يرى أندروفنسنت في كتابه "نظريات الدّولة"، حيث "الجماعة لأول وهلة، تتضمّن بعض الإحساس بالانتماء، المحليّة، مجموعة من القيم والمعتقدات والأهداف المشتركة"، سميت لاحقا باسم القوميّة أو دولة الأمّة Nation State، ويرى أنّ "القوميّة هي ظاهرة حديثة نسبيّا، يعود تاريخها إلى أواخر القرن الثّامن عشر، وأوائل القرن العشرين".

 بيد أنّ الحكم دروزة (ت 2017م) وحامد الجبوريّ (ت 2017م) – وهما من القوميين العرب الأوائل – ينقضان في كتابهما "القوميّة العربيّة" والّذي صدر قبل عام 1960م ارتباط القوميّة بالقرون الأخيرة "إنّ القوميّة لم تنشأ في القرن الثّامن عشر أو التّاسع عشر كما يقول بعض المفكرين، بل تكوّنت أسس الوجود القوميّ لكلّ جماعة قبل ذلك بكثير، وما حدث في القرن الثّامن عشر والتّاسع عشر والعشرين هو تبلور الشّعور القوميّ وليس نشوء القوميّة"، فنحن "إذا ألقينا نظرة عامّة على هذا العالم، وحاولنا أن نقوم بدراسة خاطفة لواقع البشر الّذين يسكنون الأرض، لطالعتنا ظاهرة بارزة تعبّر تمام التّعبير عن حقيقة الاجتماع البشريّ، هذه الظّاهرة هي أنّ البشر إنّما يعيشون جماعات جماعات، كلّ جماعة منها تختلف عن الأخرى بعدّة خصائص ومميزات ومظاهر تعطي لهذه الجماعة طابعا خاصّا يلصق بها، ويميزها عن غيرها من الجماعات الإنسانيّة"، "فالعالم إنّما يتكوّن من مجتمعات قوميّة، من أمم متعدّدة، يكون كلّ منها بطبيعته وحدة حياتيّة متفاعلة، لها واقعها التّاريخيّ واللّغويّ والثّقافيّ والنّفسيّ والجغرافيّ ... وبكلّ هذه الأمور مجتمعة تتميز الأمم، وتستقل بعضها عن بعض، وإن كانت تشترك أحيانا في بعض هذه الأهداف مع بعض الأمم الأخرى".

 وعلى هذا هناك مفردات متقاربة من حيث الصّورة الأولى: الاجتماع البشريّ – القوميّة – الهويّة – الانتماءات المشتركة – الدّولة القطريّة، والأخيرة - أي الدّولة القطريّة – محلّ جدل من حيث علاقتها بالقوميّة، فهل هي صورة قوميّة مصغرة يجمع بينها مشترك المواطنة والتّأريخ والثّقافة، أم أنّها كما يرى أندروفنسنت "إذا نظرنا إلى الدّولة على أنّها مجرد نظام حكوميّ بيروقراطيّ أو جسد من المؤسّسات، فبالتالي يمكننا القول بأنّها متميزة عن الجماعة، ومن ناحية أخرى، إذا نظرنا إلى الدّولة على أنّها نظام أكثر شموليّة واتّساعا ليشمل كلّ العلاقات الاجتماعيّة، وليجسّد مثاليات أخلاقيّة جماعيّة، فبالتالي يمكن القول في معنى مهم أنّها تضمّ الجماعة، وهكذا فإنّ معنى الجماعة، مثل المجتمع، يرتبط ارتباطا وثيقا بالكيفيّة الّتي ينظر بها الإنسان إلى الدّولة".

 وهناك من حاول الممايزة بين ثلاثة جوانب رئيسة في الدّولة: الدّين والإنسان والثّقافة، فإذا غلب الدّين كنت ثيوقراطيّة، وإذا غلبت الثّقافة الشّموليّة أو هوية معينة كانت استبداديّة، وأمّا إذا تعلّقت بالإنسان وحافظت على الانتماءات الدّينيّة والثّقافيّة كانت ديمقراطيّة تجمعها ذات المواطنة، وقد أجاب القوميون أنّه لا تعارض بين القوميّة باعتبارها مشتركات وعلى رأسها الثّقافة بينها وبين الدّين والإنسان، فيرون "القومية وجود، والدّين رسالة أتت تصلح بعض جوانب هذا الوجود"، فروح الدّين "مجموعة من القيم والفضائل"، وهذا لا يتعارض مع القوميّة، ولكن يتعارض لمّا يتحوّل إلى "حركات سياسيّة تنفي القوميّة كوجود اجتماعيّ تاريخيّ، وتحاول أن تذيب كلّ قوميّات العالم في بوتقة واحدة"، وهي أيضا لا تتنافى من الغاية الإنسانيّة؛ لأنّ من أهدافها تحقيق "مجتمع قوميّ عربيّ تتحقّق فيه العدالة الاجتماعيّة بشتّى أشكالها، وتتحقّق فيه إنسانيّة الفرد العربيّ والأمّة العربيّة".

 وأمّا تأريخيّا في العالم العربيّ بالاعتبار الحركيّ، وليس بالاعتبار حركة الاجتماع البشريّ في المنطقة، يرى هاني الهنديّ (ت 2016م) وعبد الإله النّصرواويّ (ت 2023م) في كتابهما "حركة القوميين العرب" أنّ "بعض من كتب عن الحركة اعتبر تجربة كتائب الفداء العربيّ هي الّتي شكلت الانطلاقة، وآخرون تحدّثوا عن أنّها امتداد لـعصبة العمل القوميّ الّتي تأسّست في آب ۱۹۳۳م، حيث عقد مؤتمرها الأول في قرية قرنايل في جبل لبنان، وفريق ثالث تحدّث عن مفكرين وشخصيّات قوميّة، وعن أمكنة أخرى وفترات زمنيّة مختلفة، لم يكن للحركة علاقة بهم، ولا بالأماكن والأزمنة الّتي ذكرت، ولكن الوقائع تؤكد أنّ البداية كانت في عام ١٩٥١م، ومن بيروت كانت الانطلاقة، وكان المؤسّسون طلابا جاءوا من أكثر من قطر عربيّ".

 وكان الغاية منها قيام دولة عربيّة واحدة أمام الهيمنة التّركيّة حينها، ثمّ الاستعمار والصّهيونيّة العالميّة، لهذا من حيث حضور الفكرة كان في لبنان، فحضور "الفكرة القوميّة العربيّة [فيها، لها] جذور هي الأعمق والأقدم في بلدان المشرق العربيّ منذ الثّلث الأخير من القرن التّاسع عشر"، ولهذا "كان دعاة العروبة في غالبيتهم من المسيحيين العرب عند نشأة الوعي العربيّ"، وينقل مؤلفوا كتاب "حركة القوميين العرب" عن القوميّ العروبيّ الشّهير ساطع الحصريّ (ت 1968م) تفسيره لهذه الظّاهرة، حيث أرجع "السّبب الأساسيّ إلى الطّابع الإسلاميّ، وقوانين السّلطنة العثمانيّة الّتي جعلت المسيحيين العرب يشعرون أنّهم غرباء، شأنهم شأن البلغار واليونانيين والأرمن، وبكلمة، لم تكن المواطنة هي أساس القوانين على الرّغم من صدور التّشريعات الإصلاحيّة"، ومع هذا لأسباب التّخلف واستغلال موارد الأمّة والاستبداد والاستعمار ثمّ القضيّة الفلسطينيّة لقت القوميّة العربيّة رواجا في العالم العربيّ، فانتقلت إلى سوريّة وفلسطين، ثمّ العراق ومصر والأردن، وعمّت اليمن والكويت والجزيرة العربيّة عموما، وارتبطت بالماركسيّة لارتباطها الماديّ في تحقّق العدالة الاجتماعيّة وفق المساواة الذّاتيّة بين الجميع.

 ولكونها حركة ثوريّة تحرريّة كانت القضيّة الفلسطينيّة حاضرة فيها قبل تبلورها كحركة، ففي كتاب "حركة القوميين العرب" أنّه "بدأ نشاط النّواة المؤسّسة لهذا العمل من قبل مجموعة صغيرة من الشّباب العرب، ومن أكثر من بلد، الّذين تصادف وجودهم طلابا في الجامعة الأميركيّة في بيروت أيام نكبة فلسطين عام ١٩٤٨م"، وفي كتاب "مع القوميّة العربيّة" بيّنت الحركة أنّ من "أهدافها – أي القوميّة – المرحليّة الّتي تناضل لتحقيقها في المرحلة النّضاليّة الحاضرة هي: القضاء على التّجزئة البغيضة في الوطن العربيّ بالوحدة العربيّة الشّاملة، والقضاء على الاستعمار بشتّى أشكاله بالتّحرّر الكامل، والقضاء على إسرائيل بالثّأر"، وأصدرت الحركة عام 1958م كتاب "إسرائيل: فكرة، حركة، دولة" لهاني الهنديّ ومحسن إبراهيم (ت 2020م)، وهي قراءة عميقة ومبكرة في تفكيك بنية اليهوديّة والصّهيونيّة.

 لهذا لا أدري محلّ عبارة "تسقط القوميّة" وعلاقتها بالقضيّة الفلسطينيّة، ولو كانت في محلّ منفصل في رفض القوميّة لكان فيه شيء من المنطق، ولكن أن يكون في فضاء القضيّة الفلسطينيّة فهذا ينمي عن شعارات لا قيمة لها، وتعطي تشويها للحقائق المعرفيّة والتّأريخيّة، فالقضيّة الفلسطينيّة لا أحد يدّعي أنّه الحامي الوحيد لها، وقبل أن تتبلور الحركات الإسلاميّة جهاديّة أم دعويّة؛ كانت قبلها وأثنائها حركات أخرى أيضا ناضلت لأجل القضية، وهذا لا يعني بحال ملائكيّة الحركات القوميّة، كما لا يعني شيطنتها، فهي مرحلة تأريخيّة لها حسناتها وسلبيّاتها، وسبق الحديث عنها، وفي الوقت ذاته لا يجوز تشويه التّأريخ، كما أنّه علينا أن نبتعد عن مثل هذه الشّعارات غير الواقعيّة، لما لها من تأثير سلبيّ في العقل الجمعيّ.

***

بدر العبري

 

لا شك أنّ العالم اليوم يواجه جملة من القضايا المتنوّعة، آثارها جلية على البشرية جمعاء منها: مستحقّات التعدّدية، بوجهيها الديني والثقافي، ومستوجَبات السلم في العالم، ومراعاة الأقليات في مجتمعاتها الأصيلة، واحترام نظيرتها في المجتمعات التي طرأت عليها الهجرة، وغيرها من القضايا. وهي قضايا لا يمكن التعاطي معها بمثابة أخبار عابرة، في وسائل الإعلام؛ بل ينبغي تطارح آثارها وأبعادها بعمقٍ، وإمعان النظر فيها وحولها بالبحث والدراسة والترجمة.

ومهما بدا المرءُ معزولا عن تلك القضايا الكبرى، حين يرزح تحت وطأة المشاكل الفردية، فالثابت والجليّ أنّ ثمة جدلية وصِلة بين مشاكل الفرد الشخصية وقضايا العالم الجماعية، وعلى هذا الأساس يمكن القول إن مشاكل الفرد هي قضايا العالم وقضايا العالم هي مشاكل الفرد. ولعلّ هذا ما يجعل الترابط بين القضايا الإنسانية وصناعة النشر اليوم من أوكد ما نحتاج لمعالجته لإدراك ذواتنا وللإحاطة بقضايا العالم.

الصناعة الثقافية وقضايا العالم

لعلّ من الصائب، لو شئنا عنوانا لمداخلتنا في قالب تساؤل لقلنا: من يصنع الفكر والثقافة اليوم؟ ومن تشغله قضايا العالم؟ مجالات النشر والقضايا الإنسانية هما مسألتان تسائلان أوضاعنا الراهنة، المعرفية والحضورية في العالم، بَيْد أنهما تشكوان من المعالجة السوية والمعمَّقة. ذلك أن الجانب الأول، "النشر والترجمة"، هو عملٌ غالبا ما تعكف على الاشتغال به مؤسسات خاصة لدينا، وهي مؤسسات في أوضاعها الحالية قاصرة عن بلوغ المرجو، لأنها باختصار تلاحق تحقيق الربح للحصول على عائدات مادية لا غير، وقلّما يرتبط عملا النشر والترجمة في تلك المؤسسات الخاصة بمعالجة قضايا ذات أبعاد إنسانية.

ذلك أنّ دُور النشر العربية، في الغالب الأعمّ، ليست امتدادا لمراكز أبحاث أو مؤسسات دراسات، أو هيئات علمية ومعرفية، معنيّة بالاشتغال على نطاق محلي أو دولي، بل هي شبه دكاكين تجارية محدودة الأنشطة، لم تتحوّل إلى ما يشبه المغازات أو المولات الثقافية. ومحدودية النشاط هذه فرضت عليها نمطا خُلقيا في التعامل مع الكتّاب والباحثين والمبدِعين، غالبا ما كان محكوما بمعادلتَيْ الاستغلال، وأدخلها في منظور للنشر والترجمة محصورا بأهداف مستعجَلة وخاضعا لسياسات ربحية. لذلك يبقى دَوْر الانشغال بالقضايا الإنسانية بعيدا عن خياراتها وملقى على عاتق مؤسسات ذات صبغة مقاصدية تتجاوز الهدف التجاري إلى هدف حضوري وتأثيري في العالم. ونقصد بالأساس مؤسسات معرفية وعلمية غير ربحية، تتمتّع بمستوى من الاستقلالية حتى تقدر على التحرك والتأثير.

ألمحنا بعجالة، في ما سبق، إلى نوعي المؤسسات المنشغلة بالنشر والقضايا الإنسانية في آن، ضمن السياق العربي، وبيّنا أن التعويل على دُور النشر العربية في هذا الجانب هو من باب حلم اليقظة، لأنّ فاقد الشيء لا يعطيه. فالمسألة أكبر من قدراتها وإمكانياتها، ولذا تبقى المؤسسات الجماعية الفاعلة، أو ما بات يُعرف بـ (الثينك تانك/ Think tank) هي المقتدرة على تولّى هذه المهمّة وتطويرها. فالفكر العملي اليوم، والتأثير الثقافي بوجه عام، ما عادا صناعة فردية بل صناعة مؤسسة جماعية.

أعود إلى الإشكال الجوهري في محاضرتنا: صناعة النشر بوجهيها المعرفي والترجمي، من يصنعها اليوم في البلاد العربية؟ هل هي مؤسسات الدولة؟ أم مؤسسات البحث والدراسات ذات الطابع المستقل؟ أم دُور النشر الخاصة؟ فخلال العقود الأخيرة خَبَت في الدولة تلك الحماسة في صناعة "الثقافة المنشورة"، ومن ثَمّ تراجع هاجس استقبال الجديد في العالم، حتى لكأنّ الدولة غادرت معترك هذا السوق وتركته عرضة لتنافس صبياني محموم. تخلّت الدولة عن تلك الريادة التي ميّزتها فجر الاستقلال وإلى غاية الثمانينيات من القرن الفائت. لكن هذا العبء، أو لنقل هذه المسؤولية التاريخية، ثمة دولٌ لا تزال تتحمّلها باقتدار وبطرق ذكية وفي مقدّمتها بعض دول الخليج العربي، ما عدا تلك الدول، فقد تراجع فيها ذلك الدور بشكل فاجع.

وعلى هذا الأساس نُقدّر أنّ صناعة النشر والترجمة التي تنظر إلى العالم، وتتفاعل مع العالم، تحتاج إلى عين الدولة، ولكن بروح وثّابة ومسؤولة (مشروع كلمة في أبوظبي، والمركز القومي للترجمة في مصر، ومؤسسة ترجمان التابعة للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في قطر، هي نماذج حيوية لهذه العين الساهرة والراعية). لأنّ المؤسسات المدعومة من الدولة هي الأقدر على إرساء المشاريع الهيكلية، الهادفة والواضحة، مثل ترجمة القواميس، والموسوعات، وكبريات مراجع المدوّنة العالمية، في الفكر والآداب والفنون وفي شتى حقول المعرفة، وإلا فمن أين يأتي استقبال ما يجري في العالم والتعاطي معه؟

مقتضيات الإحاطة بالقضايا الإنسانية

من الجليّ أن الانشغال بالقضايا الإنسانية لا يمثّل هاجسا لدى الجميع، وإن حضر هذا الانشغال لدى البعض، فإنّه غالبا ما يطغى عليه الطابع السياسي، لغلبة التوترات والصّراعات ذات الأثر المعولَم، فتَتوارى قضايا حارقة مثل التفاوت الاجتماعي، والإمعان في تفقير الشرائح المحرومة، وطمس حقوق المظلومين، والتغاضي عن قضايا الهجرة العالمية وغيرها. مع هذا بات الوعي بالعالم، وبقضايا العالم، اليوم، مدعوا لتجاوز التعاطي الإخباري لما يجري إلى التعاطي المعرفي. ولا سبيل إلى بناء تعاط معرفي مع العالم، سوى بإنتاج الأبحاث والدراسات المعمّقة فيه، وردف ذلك بتفعيل عمل الترجمة وتكثيفه. ومن جانبنا العربي نحن في أمس الحاجة إلى "استغراب" (يعانق الغرب معرفيا) وبالمثل إلى "استشراق" (يعانق الشرق الصيني والياباني والهندي معرفيا). ولْنكنْ صرحاء مع أنفسنا، علومنا التي تُدرَّس في المؤسسات الجامعية العربية هي علوم منكفئة على الداخل العربي في مجملها، رغم وجود قدرات لغوية في الجامعات العربية تفوق القدرات الجامعية الغربية أحيانا، بحوزة مدرّسي علم الاجتماع والفلسفة والحضارة والتاريخ وغيرهم، لكن تلك القدرات مجمَّدة أو معطَّلة جراء خمول ذاتي أو جراء مناخ أكاديمي موبوء سائد في جامعاتنا، وهو ما يتطلّب مصارَحة حقيقية للخروج من هذا الانحصار في الداخل.

فالوعي بالقضايا الإنسانية يقتضي الانفتاح على مجالات معرفية متنوعة في الترجمة، وفي واقعنا الحالي، تحوز ترجمة الأدب، وتحديدا الرواية، نصيب الأسد مما نستجلبه من الخارج، ولكن الرواية وحدها لا تكفي لبناء رؤية صائبة ومكتملة عن الآخر. إن علماء الاجتماع لدينا، والمنشغلين بالفلسفة، والمنشغلين بالتاريخ والسياسة ونظراؤهم كثيرون، هؤلاء ممّن ينبغي أن يرصد ويترجم نحو العربية وينقل رؤيتنا إلى العالم، لأنهم وببساطة الأدرى بالعالم في مجالاتهم وتخصّصاتهم، وليس انتظار غيرهم ليقوم بذلك الدور بدلا عنهم.

فالترجمة لدينا اليوم مطالبَةٌ بتصحيح مساراتها لتتحوّل من ترجمة ممّا يدرُّ ربحًا إلى ما يُؤسّس وعيًا. ومن ملاحقة الصّرعات العالمية للـ "باست سالر" وأفضل القوائم لدى دُور النشر، إلى تلبية احتياجاتنا وسدّ النقص لدينا. فنحن في أمس الحاجة في الترجمة إلى ما يزيح الغشاوة عنّا في رؤية العالم رؤية صائبة وواضحة. وبالتالي فالترجمة الفاعلة، والحاضرة في الحراك الثقافي، والتغيير الاجتماعي، لا تصنعها دُور النشر المتلهّفة على تحقيق الربح المستعجل.

تحيين المعارف بالغرب والشرق، عبر النشر والترجمة، ضروري للإحاطة بقضايا العالم. والجامعة منوط بها دَورٌ محوري في تنشئة القدرات البحثية والمعرفية وإنمائها. لذا في الواقع الحالي الجامعة والمؤسسات الأكاديمية العربية في حاجة ماسة، في تخصصات العلوم الإنسانية والاجتماعية والدينية، إلى تكثيف التواصل مع الفضاءات الثقافية والمعرفية الأخرى من أجل تحفيز الوعي بالآخر. حيث تلوح الرؤية العربية للآخر متقادمة أو مبتورة، لا تفي بشروط الإحاطة والإلمام بما يجري في العالم.

***

ا. د. عز الدّين عناية

أستاذ تونسي بجامعة روما- إيطاليا

........................

مداخلة ألقيت في معرض الكتاب في الرباط بتاريخ 18 مايو 2024.

 

بقلم: آنا بانتليا

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

دائما ما تبرر الثقافة المحافظة في اليونان العنف الأسري وقتل النساء. على الرغم من التقدم الذي تحقق مؤخرًا، إلا أن النظام الأبوي لا يزال يشكل تهديدًا قاتلاً داخل المجتمع اليوناني.66 anna pantelia

كان منزل دورا زاكاريا، الذي يتميز بلونه الأصفر الباستيلي في رودس، دائمًا مليئًا بالموسيقى. كانت تتمتع بحضور مفعم بالحيوية، ومنذ طفولتها، كانت والدتها كاترينا تستطيع دائمًا أن تعرف متى تكون دورا في المنزل من خطواتها النشطة. كانت تغضب عندما تغفو دورا على الأريكة وهي تشاهد التلفاز أو تترك أكواب القهوة والأطباق ملقاة هنا وهناك. لكنها كانت ستستعيد كل الضوضاء والفوضى بفرح لو كانت تستطيع قضاء المزيد من الوقت مع ابنتها. في سبتمبر 2021، قُتلت دورا على يد صديقها السابق عن عمر يناهز 31 عامًا.

في جزء آخر من اليونان، على بعد عشرة أميال غرب كورينث، تبتسم أليكا بساراكاو، 46 عامًا، وهي تسحب صندوقًا من الصور القديمة التي تعيد ذكريات ابنتها غاريفاليا البالغة من العمر 25 عامًا. تقول أليكا إنها كانت "مجتهدة وذكية وحساسة. كان الأمر وكأن شخصًا ما علمها كل شيء". لم تضيع غاريفاليا الوقت أبدًا: كانت تسافر وتتعلم اللغات وتحتفل مع الأصدقاء وتتفوق في الدراسة. تدربت كصيدلانية في أثينا وعادت إلى منزل عائلتها على أمل فتح صيدليتها الخاصة. قُتلت على يد صديقها خلال أول إجازة صيفية لهما معًا.

إن مأساة غاريفاليا ودورا تعكس تجربة العديد من الشابات اليونانيات. ولكن في اليونان، هناك تصور شائع بأن العنف المنزلي يؤثر بشكل رئيسي على النساء في الأسر المحافظة اللاتي يعتمدن مالياً على أزواجهن وبالتالي أكثر عرضة للخطر. وفي حين أن هناك بالفعل علاقة بين الاعتماد المالي ومثل هذه الحوادث، فإن تجربة دورا وغاريفاليا تظهر أن المشكلة أوسع نطاقاً بكثير. كانت كلتاهما متعلمتين جيداً، وتعتمدان على الذات ومستقلتين مالياً، ومع ذلك فقد وصلتا إلى نهايات مأساوية مماثلة في بلد يكافح للتعامل مع مشكلة قتل الإناث.

وُلدت دورا ونشأت في رودس، وهي وجهة سياحية شهيرة يبلغ عدد سكانها حوالي 50,000 نسمة. ترعرعت في ضاحية سكنية هادئة خارج مركز المدينة القديمة كجزء من عائلة ممتدة مترابطة، حيث كان الوالدان والإخوة والأعمام والأخوال والأقارب والأجداد يعيشون جميعًا معًا. كان والد دورا، تريانتافيلوس زاكاريا، الذي عمل موسميًا كسائق في قطاع السياحة، يحب الموسيقى، وكان هناك دائمًا ولائم من المأكولات البحرية بينما تُعزف الموسيقى اليونانية التقليدية. عادت دورا إلى رودس للعمل كمعلمة خاصة بعد إتمام دراستها في ثيسالونيكي والمملكة المتحدة. كانت مكرسة بشكل خاص للطلاب ذوي الإعاقات التعليمية. قابلت كوستاس مويراس، وهو مثبت ألومنيوم يبلغ من العمر 40 عامًا، من خلال أحد آباء طلابها. تواعدا لمدة تسعة أشهر قبل أن ينتقلا للعيش معًا. كانت دورا متحمسة. لكن الانسجام المنزلي لم يدم طويلاً وسرعان ما ظهرت جوانب غير مرغوب فيها من سلوك كوستاس. كان يحاول السيطرة على كل حركة لدورا، بدءًا من محاولة تقييد مشاهدتها للتلفاز إلى إخبارها بعدم الجلوس على الشرفة بتنورة قصيرة. كما كانت دورا تشك في أنه كان يراقب هاتفها. أصبح كوستاس مستبدا بشكل متزايد، مطالبًا دورا بقطع علاقاتها بأصدقائها وعائلتها لقضاء المزيد من الوقت معه.

بعد شهرين من تصاعد المشاجرات والقتال، لم تعد دورا تتحمل الأمر وعادت إلى منزل عائلتها. جلبت عملية الانفصال بعض الهدوء، لكن دورا أخفت سبب عودتها. بدورها، منحتها عائلتها المساحة وتجنبت طرح الأسئلة عليها. لكن كوستاس ظل وجوده مهددًا. في إحدى الأمسيات، بينما كانت دورا عائدة إلى المنزل وكانت تتنزه بسيارتها، كمَن لها كوستاس وأطلق عليها النار مرتين باستخدام بندقية صيد. ثم عاد إلى الشقة التي استأجراها معًا وأطلق النار على نفسه. في الليلة التي سبقت وفاتها، قالت دورا نصف مازحة لأحد أعز أصدقائها، "هل يمكنك تخيل إذا ما ظهرت في العناوين مثل النساء الأخريات؟" في إشارة إلى ضحايا القتل الأنثوي في اليونان.

كانت حياة غاريفاليا المبكرة في كورينث مثالية تمامًا . كانت تأخذ دروسًا في الباليه، وتلعب بأزياء تنكرية، وتقضي عطلات الصيف في اللعب مع إخوتها. منذ عودتها إلى فيلو في عام 2020، كانت غاريفاليا تواعد ديميتريس فيرغوس، عالم الكمبيوتر. كان أيضًا يظهر سلوكًا متحكمًا. في عيد الميلاد الذي سبق وفاتها، أخبرت غاريفاليا والدتها أنها تعتقد أن صديقها قد قرصن هاتفها. كان دائمًا يتحقق من مكانها وما تفعله. وقد جعل هذا غاريفاليا عصبية. في عام 2021، قرر الثنائي قضاء الصيف في التخييم على جزيرة فوليغاندروس في السيكلاد. وفقًا لمحامي دفاع فيرغوس، في اليوم المميت، بدأت الشريكان في الجدال حول الاتجاهات وقاد فيرغوس السيارة عن الطريق، لتنتهي بالقرب من حافة منحدر. عُثر على جثة غاريفاليا من قبل صيادين محليين بعد بضع ساعات، عائمة في البحر. وأظهر تقرير الطب الشرعي أنها تعرضت للضرب وسحبت وهي فاقدة للوعي عبر منطقة صخرية ثم دفعت إلى البحر حيث غرقت.

حتى وقت قريب، كانت جرائم قتل النساء في اليونان تُسجَّل رسميًا باعتبارها "جرائم شرف". وكانت وسائل الإعلام الوطنية تشير إلى هذه الجرائم باعتبارها "جرائم عاطفية". وفي عام 2020 فقط، عدلت الشرطة اليونانية نظامها لتتمكن من تسجيل جرائم العنف المنزلي. والآن، تتضمن بيانات الشرطة معلومات حول جنس الضحايا والجناة وكذلك العلاقة بينهما.60 Cemeteries

هزت جريمة قتل دورا المجتمع المتماسك في رودس. وحظيت جنازتها بتغطية واسعة النطاق في الصحافة المحلية، حيث تساءل الكثيرون عن سبب السماح لقاتلها بالاحتفاظ بسلاح ناري، حيث تبين أنه استخدمه سابقًا لتهديد شريك سابق. لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يضطر فيها مجتمع الجزيرة إلى التعامل مع مثل هذه الجريمة. في نوفمبر 2018، تعرضت الطالبة الجامعية البالغة من العمر 21 عامًا إيليني توبالودي للاغتصاب والضرب والقتل على يد رجلين بعد أن قاومت هجومهما. وقعت جريمة القتل في ذروة حركة #MeToo وأثارت صرخة وطنية ومناقشة حول قتل الإناث والعنف القائم على النوع الاجتماعي. نظمت منظمات نسوية ومجموعات حقوق الإنسان العديد من الاحتجاجات السلمية في العاصمة اليونانية لزيادة الوعي بالمشكلة وتسليط الضوء على ضحايا آخرين للعنف القائم على الجنس.

في مايو/أيار 2020، حوكم قتلة إيليني، واعتبر كثيرون خطاب المدعي العام بمثابة علامة فارقة في الحملة الرامية إلى التصدي للجرائم ضد المرأة. فقد ألقى خطابه الضوء على بعض مظاهر الذكورية المتأصلة في المجتمع اليوناني. وفي حديثها إلى والد إيليني، وصفت المتهمين بأنهما يمثلان "لعنة الحياة"، في حين أن ابنته "مثل النجم الساطع، ستُظهر لنا دائمًا الطريق من حيث هي". وحُكِم على القتلة، الذين كان عمرهم آنذاك 19 و21 عامًا، بالسجن مدى الحياة بتهمة القتل و15 عامًا إضافية بتهمة الاغتصاب الجماعي.

تقول ماريا مورزاكي، مديرة السياسات في منظمة أكشن إيد: " ما نريده هو الاعتراف القانوني بمصطلح 'القتل الأنثوي' في القانون الجنائي ،   لكي نتمكن من تسليط الضوء على الدوافع والديناميات الجنسية للجرائم ضد النساء." هذا أمر ضروري لمجتمع "عميق الذكورية والمحافظة"، كما تقول مورزاكي، التي درست تأثير الأزمة المالية اليونانية على الناجين من العنف الأسري. تشير إلى أن شبكة الدعم للناجين تم بناؤها خلال الأزمة المالية اليونانية، ولكن على الرغم من زيادة قدرة الملاجئ، "تم تقليص الموارد البشرية وغيرها من أشكال الدعم، مثل الرعاية الصحية أو العمل الاجتماعي، بسبب تخفيضات الميزانية."

لقد كشفت جائحة COVID-19 وإجراءات الإغلاق الناتجة عنها عن مدى شدة وحجم مشكلة العنف الأسري. وفقًا لسجلات الشرطة، كانت 4,264 امرأة ضحايا للعنف الأسري في عام 2020 وحده. تقول ماريا سيريججيلا، الوزيرة السابقة للعمل والشؤون الاجتماعية والمسؤولة عن المساواة بين الجنسين: "خلال فترة الإغلاق، كانت العديد من النساء في خطر فوري بسبب العنف الأسري واضطررن للإخلاء من منازلهن." وتضيف: "حصلنا على التصاريح اللازمة وعلى الرغم من قيود الحركة، ساعدناهن إما في الانتقال إلى منازل الأصدقاء أو العائلة أو إلى ملاجئ الطوارئ لدينا." تقول سيريججيلا إن قدرة ملاجئ الطوارئ للنساء المعنفات قد زادت خلال تلك الفترة.

على الرغم من هذه الادعاءات، تظل النساء غير مقتنعات بالتقدم المحرز. في نوفمبر 2020، خلال الإغلاق، تم اعتقال تسع نساء من قبل الشرطة بعد تنظيمهن احتجاجًا في اليوم الدولي للقضاء على العنف ضد النساء. من بين أمور أخرى، كان الاحتجاج على طول الوقت الذي استغرقته الشرطة اليونانية لاعتقال بابيس أناغنوستوبولوس، البالغ من العمر 33 عامًا، والذي اتهم بقتل زوجته كارولين كراوتش، البالغة من العمر 20 عامًا، أمام طفلتهما الرضيعة في مايو من نفس العام. بعد مقتل المرأة السادسة عشرة في ذلك العام، تجمع النساء في أثينا مرة أخرى في ديسمبر للاحتجاج على القتل الأنثوي، حاملات لافتات كتب عليها: "قتلة النساء لديهم مفاتيح منازلنا" و"الذكورية تقتل." كما وُجّهت انتقادات أيضًا للإعلام اليوناني؛ حيث تضمن أحد الردود على جريمة القتل الأخيرة امرأة على يد شريكها نقاشًا مع لجنة مكونة من ستة رجال بيض.

على مدى قرون من الزمان، وجدت جرائم قتل النساء قبولاً مقلقاً في المجتمع اليوناني. ولم تبدأ هذه الأفعال في اعتبارها جرائم جنائية إلا في منتصف القرن العشرين، ففقدت حمايتها بموجب القانون العرفي. وفي الماضي، كان الحفاظ على شرف الأسرة يُنظَر إليه باعتباره أكثر أهمية من الحفاظ على الحياة نفسها، وهو الشعور الذي تردد صداه كثيراً في الأغاني الشعبية اليونانية. وتحكي أغنية "منوسيس"، التي تُغنَّى وتُرقص على أنغامها في اليونان حتى يومنا هذا، والتي انتقلت إلى تعليم الموسيقى في المدارس، قصة رجل مخمور أثناء الحكم العثماني ذبح زوجته بعد أن اشتبه في أنها تتحدث إلى رجل آخر.

وعلى الرغم من تشديد المواقف القانونية تدريجيا، فإن قبضة المواقف الاجتماعية المتجذرة لا تزال عنيدة. وحتى اليوم، يتم أحيانا تبرير العنف القائم على النوع الاجتماعي باسم سمعة الأسرة أو مكانة الرجل. ولعبت وسائل الإعلام التقليدية دورا كبيرا في دعم هذه الرواية.

يشير جورج بليوس، أستاذ علم اجتماع وسائل الإعلام والثقافة بجامعة أثينا، إلى استجابة إعلامية شائعة عندما تتصدر جرائم قتل النساء عناوين الأخبار. فغالبًا ما يقع التدقيق على المرأة - سلوكها وثقافتها ومظهرها - وبالتالي إدامة الصور النمطية الضارة بين الجنسين وتحويل اللوم عن الجاني الذكر. وبدلاً من ذلك، لجأ الناس إلى وسائل التواصل الاجتماعي للمطالبة بتدابير جديدة لإنهاء العنف القائم على النوع الاجتماعي، بما في ذلك فرض عقوبات أكثر صرامة على الجناة. ويصفون هذه الجرائم بأنها جرائم قتل نساء. لكن الناس على الجانب المحافظ من الطيف السياسي يجادلون في وجود مثل هذه الجريمة. ويشير بليوس إلى أن هذا يتماشى مع وجهة نظرهم بشأن دور المرأة في المجتمع، والذي يرون أنه يشمل تربية الأطفال وتدبير المنزل. "هذه المحافظة حاضرة جدًا في وسائل الإعلام اليونانية".

تزور أليكا المقبرة كل يوم لتتحدث إلى ابنتها، وتنضم إليها أختها لترافقها وتمنحها القوة. تحضر مواد التنظيف وتغسل الفوانيس وتشعل الشموع بالداخل. تحيط بالمقبرة بساتين الزيتون وبساتين الليمون والبرتقال. تشير أليكا إلى القرنفل الذي يزين مثوى ابنتها الأخير وتقول إن غاريفاليا هو الاسم اليوناني لهذه الزهرة.

تقول أليكا : "لن أقبل أبدًا ما حدث لابنتي. سأموت بسبب هذا الألم. لكنني شعرت أنه إذا تخليت عن الحياة، فسوف أفقد أطفالي الآخرين أيضًا. لذلك كان علينا أن نقف معًا"

" عاشت غاريفاليا حياة سعيدة للغاية وهذا يعطيني عزاءً،" تقول. "لقد أمضينا معها 25 عامًا رائعة. ما حدث كان بربريًا للغاية للعائلة بأسرها. لقد قُتلت ونحن قُتلنا معها."

دُفنت دورا بجوار جدها الحبيب من جهة الأم، والذي كانت تتبعه عندما كانت تتعلم المشي. على الأقل، تتمتع عائلة دورا براحة البال بمعرفة أن قاتل ابنتهم قد مات. تقول عمتها كليوباترا كوتي: "لا أعرف ماذا كنا سنفعل لو كان لا يزال على قيد الحياة". وتضيف: "لا يزال القتلة الآخرون على قيد الحياة، وفي يوم من الأيام سيُطلق سراحهم من السجن وسيخوضون علاقات جديدة ولن تعود ابنة شخص آخر"، مستشهدة بقضية غاريفاليا كمثال. وتقول: "يجب تغيير القانون في اليونان فيما يتعلق بقتل النساء". كانت عقوبة السجن المؤبد 16 عامًا، ولكن منذ مقتل غاريفاليا، ارتفعت إلى 18 عامًا. وهي لا تعتقد أن هذا كافٍ.

تقول: بناتنا اللاتي قُتلن لن يحصلن على فرصة ثانية في الحياة ، لكن القتلة هم من سيحصلون.على هذه الفرصة .

***

......................

الكاتبة: آنا بانتليا / Anna Pantelia مصورة صحفية يونانية. تشمل اهتماماتها القضايا الإنسانية والظلم الاجتماعي وتغير المناخ. منذ عام 2015، قامت بتغطية أزمة اللاجئين الأوروبيين في اليونان والبلقان، بينما عملت أيضًا في جنوب السودان وموزمبيق..

 

(قراءة في بنية العقليَّة الاتِّباعيَّة)

سألتُ (ذا القُروح) في المساق السابق عن سبب أحكام النحويِّين القاطعة على استعمالٍ لُغويٍّ ما بالصِّحَّة أو بالشُّذوذ؟ وما معيارهم في هذا وذاك؟ فقال:

- معظم معايير الثقافات الاتباعيَّة القديمة تنطلق من معيارَي (الكثرة والقُوَّة). فالأكثر هو الأصح، والأقوى هو الأصلح. ألم تر كيف ردَّ «القرآن الكريم» هذه العقليَّة في الثقافة العَرَبيَّة وغير العَرَبيَّة،  مُبْطِلًا معاييرها، المعوِّلة على (الكَم) لا على (الكيف)؛ فجاءت الآيات: «قُل لَا يَسْتَوِي الخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ، وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخَبِيث»، «وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا، وَلَوْ كَثُرَتْ»، «وَيَوْمَ حُنَيْنٍ، إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ، فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا، وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ، ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِين»، ‏ «كَمْ مِن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَة»، «كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ، كَانُوا أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً، وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا... أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَأُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُون»، «قَالُوا: نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ...»، «أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ، فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ؟ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً، وَأَثَارُوا الأَرْضَ، وَعَمَرُوهَا، أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا...».

- ما علاقة هذا بالنحو؟  إنَّما سألتك عن معايير النحويِّين في تفضيل لُغة على لُغة، أو صيغة على أخرى!

- عِلَّة العِلل ثقافيَّة في الأساس. فلقد كان النحويُّون، واللُّغويُّون كذلك، يستقرؤون العَرَبيَّة في نطاقٍ ضيِّق، جغرافيًّا وتاريخيًّا، ثمَّ يقفزون لإطلاق أحكامهم العشوائيَّة التقليديَّة، بأنَّ ما وجدوه أكثر هو الفصيح، قولًا لا مثنويَّة فيه، وما وجدوه أقل، هو الشاذُّ المنبوذ. وهذا منهاجٌ غير صالح، ترتَّبت عليه أحكامٌ خاطئةٌ جائرة؛ ذلك أنَّ ما وجدوه أكثر: له معنًى بلاغي، وما وجدوه أقل- إنْ صحَّ أنَّه قليل- قد يكون له معنًى بلاغيٌّ آخَر، كما تقدَّم في حكاية بيت (جرير): «تَـمُرُّوْنَ الدِّيارَ ولم تَعُوجوا »، غير أنهم لا يلتفتون إلى هذا، أو بالأصح لا يدرِكونه.

- وكيف يُدرِك الأعاجم منهم بلاغة اللِّسان العَرَبي، مهما بلغ عِلمهم وفضلهم؟!

- لذا، كما رأيتَ في المساق الماضي، زعموا أنَّ استقراءهم أفضى إلى أنَّ أكثر ما سمعوا من كلام العَرَب على: «مَرَرْتُ بكذا»، فحكموا بأن تلك هي لغة العَرَب الصَّحيحة الفصيحة، وأنَّ صيغة «مَرَرْتُ كذا» شواهدها أقل؛ قالوا: إذن، هذا القليل غير فصيح ولا صحيح، بل هو شاذ، يُحفَظ ولا يُقاس عليه. فجعلوا الكثرة- بحسب استقرائهم المحدود أصلًا- معيار العَرَبيَّة العَرْباء!

- وما دليلك على خَطَلِهم؟

- دليلي بقاء الصيغتَين معًا في اللَّهجات العَرَبيَّة، واللَّهجات لم تخترعهما. بل قبل اللَّهجات فإنَّ الشاعر (جَرير بن عطيَّة، -110هـ= 728م) كان يستعملهما، كلَّ واحدةٍ في مقامها التعبيريِّ المناسب. ولكلٍّ منهما سياقها الخاص، بما يحمله من فارقٍ دلاليٍّ بلاغي؛ ومن ثَمَّ فإنَّ ما تقرَّر، تحت قاعدة (اللَّازم والمتعدِّي من الأفعال)، قد ألغَى ذلك الفارق البلاغي، خالطًا الحابل بالنابل، مُعلِيًا ما زعمَ أنه (اللُّغة العالية)، بل الصَّحيحة، مُبطِلًا ما عداه، وأضاع بذلك وُجوهًا من بلاغة الأساليب. وعلى ما حدث في هذه المسألة يمكن قياس سائر المسائل. وهو ما يتطلَّب المراجعة الشاملة والدقيقة، في ضوء لغة العَرَب التي ما زالت حيَّة على الألسنة، مع الموازنة بين دواوين الشُّعراء المحقَّقة وشواهد النُّحاة، بعيدًا عن عقائد تقديس الأحبار والرهبان من القدماء.

- أجل، لقد جُعِل النحو عِلمًا رياضيًّا منطقيًّا.

- وما كذلك اللُّغة، بوصفها فنَّ تعبير. ثمَّ جاء رفض النُّحاة بعض أساليب العَرَبيَّة، بحُجَّة أنهم لم يسمعوها، ضِغثًا على إبَّالة. وهم لم يسمعوها من حيث كان استقراؤهم محدودًا جِدًّا، ونمطيًّا جِدًّا أيضًا. بل كانت قدراتهم البحثيَّة والمنهاجيَّة أضعف بكثير من الإحاطة بالعَرَبيَّة واتساعها في جزيرة العَرَب، وهم غالبًا يتجادلون حولها في (العراق) أو بلاد (فارس).

- ولعلَّ الرفض أحيانًا لأنَّ تلك الأساليب تتصادم مع نظريَّتهم المنطقيَّة التي أزمعوا سَلَفًا فرضها فرضًا على اللِّسان العَرَبي.

- وهكذا صودر الكثير من طاقات اللُّغة، التي ربما اكتشفت بقاياها اليوم في بعض الشِّعر العَرَبي القديم، أو «القرآن الكريم»، أو لهجات الجزيرة العَرَبيَّة. وما رأيناه في هذه المناقشة لا يعدو نموذجًا من نماذج، تبلورت عبر العصور في الثقافة الاتباعيَّة المرسِّخة لمدرسة: (قُل، ولا تَقُل)!

- تعني كقولهم المكرَّر، مثلًا: «قُل: (مُصادَفة)، ولا تَقُل (صُدْفَة)»!

- مثلًا، مع أن معنى (صُدْفَة): (فَلْتَة)، لا (مُصادَفة)، وهو الأمر يقع من غير توقُّع أو تخطيط، أمَّا المُصادَفة فتكون في التقابل؛ فحين تُقابِل أحدًا مُصادَفةً، على سبيل المثال، فقد تصادفتما، وتلك مُصادَفة. والعامَّة كذلك قد يفرِّقون، بفطرتهم اللُّغويَّة، بين المقامَين.

- (بدر بن عبدالمحسن) يقول:

متى الشوارع تجمع اثنين صُدْفَةْ ::: لا صار شبَّاك المواعيدْ مجـفي

- ألا ترى هنا أنَّ مفهوم الصُّدْفَة أعمُّ من المُصادَفة التفاعلية بين طَرَفَين؟ بحيث يمكن القول: إنَّ كلَّ مُصادَفة صُدْفَة، وليست كل صُدْفَة مُصادفَة. غير أنَّ العامِّيَّة تستعمل (صُدْفة) لتشمل المعنى بوجوهه. ولقد استُعمِلت كلمة (صُدْفَة) حديثًا لدَى غير واحدٍ من كبار شعراء الفُصحى أيضًا، مثل (أحمد الصافي النَّجَفي)(1) في قوله:

يا حُسنَها صُدْفَةً مِنَ الصُّدَفِ ::: جادَتْ بلُقيـا للشَّاعرِ النَّجَفي

فَتَنَتْ دَهْــرًا بِحُـبِّ شـاعِـرَةٍ ::: هاجِرَةٍ ما وَفَـتْ لخَيْـرِ وَفِـي

- وأيَّان (النَّجَفيُّ) من عصور الاحتجاج؟!

- وهذا هو الأقنوم الثالث في أقانيم التفضيل، مع معيارَي (الكثرة والقُوَّة)، وهو معيار (القِدَم).  ممنوعٌ أن يولِّد شاعرٌ أو غير شاعرٍ من عَرَبيَّة ما قبل الإسلام مفردات جديدة. وهذا كما قلنا فتحَ للعاميَّة آفاقًا أُقفِلت أبوابها ونوافذها على مستعمل الفصحى. وهنا أتَّفِق معك- وقلَّما اتَّفقتُ مع أحد!- في أن صيغة المفاعلة (مُصادَفة) مختلفة عن صيغة (صُدْفَة)- على وزن (تُحْفَة)، و(طُرْفَة)، و(فُرْصَة)- وجمعها: (صُدَف). لكن لا يجوز لك التوليد، بل عليك تعقيم اللُّغة، بل تجميدها؛ لكي تُعَدَّ سَلَفيًّا صالحًا. وهم لا يقولون في مثل هذا: مولَّد، وليس من كلام العَرَب القدماء، بل يسارعون إلى تسفيه القائل، ونسبة استعماله إلى: الخطأ، والشذوذ؛ فلا تحرِّك به لسانك. إلَّا أنَّ مثالك هذا في اللُّغة، وحديثنا كان عن النحو.

- ما أشبه هذا بتلك، وتلك بهذا!

- صحيح، وهما مادَّة واحدة. فلنَعُد إلى القول: إنَّ بعض قواعد النحو قد تتناطح مع الشِّعر الجاهلي تارة، والإسلامي تارة، بل ربما مع بعض نصوص «القرآن»، والحديث النبوي، والأمثال العَرَبيَّة، والخطابة. بَيْدَ أنَّ أرباب تلك المدرسة لا يجدون غير تصنيف القول المخالف لقواعدهم، بغرض نَفْيه؛ فإنْ كان لشاعر، وصموه بالشذوذ، أو قالوا: ضرورة شِعريَّة، وإنْ جاء في مَثَل من أمثال العَرَب، قالوا: يُحفَظ ولا يُقاس عليه، فقد يَرِد في المَثَل خطأ نحوي، كقول العَرَب «أَعْطِ القَوْسَ بارِيْها»، والصواب نحويًّا: «بارِيَها»، أمَّا إنْ وردَ من ذلك شيء في «القرآن»، فتلك الطَّامَّة الكُبرَى، ولا بدَّ من التماس تخريج احترافيٍّ هاهنا، بما يجعل النصَّ مسالمًا للقواعد، أو بتأويله تأويلًا بعيدًا، وسيُعَدُّ في معظم الأحوال من قبيل (مُشْكِل القرآن)، أو متشابهه- زاعمين، مثلًا، أنَّ (إنَّ) هي: (إنْ)- على الرغم من أنه نزلَ بلسانٍ عَرَبيٍّ مبين، غير مُشْكِل، فليس من قبيل «الفوازير»، وإنْ خالف النَّمَط السائد (بزعم الاستقراء البدائي خلال القرون الأُولى)، وقد فهمه عَرَب الصدر الأوَّل، ولم يُثِر لديهم اعتراضًا، أو استشكالًا.

- لأنهم لم يكونوا نحويِّين! طيِّب، ماذا أنت صانع بكلِّ ذلك اللتِّ والعجن التراثي الذي بَشِمت به القُرون؟

- إذا كنتَ تهدف إلى أن تعرف قواعد النحو فقط، لا سفسطات النحويِّين، فعندي لك الكتاب، أو بالأصح الكُتيِّب.

- هات!

- كُتيِّب في نحو أربعين صفحة فقط، هو «الجُمَل»، لـ(عبد القاهر الجرجاني، -471/ 474هـ= 1078/ 1081م).

- كتاب غير مشهور.

- طبعًا غير مشهور، ولا حواشي له ولا أمعاء، وعدم شهرته لسببٍ لا يخفى. لكن لحُسن الحظ أنه مطبوع، بل ستجده اليوم على شبكة «الإنترنت».  وإنْ كان في حاجةٍ إلى مَنْهَجَةٍ، وإعادة عرضٍ عصري، ليُغنِي الطلبة عن جدليَّات النحويِّين ومماحكاتهم التي لا تنتهي. ولو فُعِل ذلك لأغنى كثيرًا عن تركات عصور الانحطاط المتراكمة، منذ القرن السابع الهجري فهلمَّ جرًّا إلى اليوم.

- في ليلةٍ واحدة، إذن، سأستوعب النحو كلَّه؟! ماذا عن (ابن عبدربِّه) و«عِقْده الفريد»؟ أم نسيت ما وعدت القارئ به قبل أسبوعين؟

- أَدْوَشْتَنا بابن عبدربِّه هذا!

- «شفيء يا راقل»! الآن كأنِّي بك ستقول لي: كلمة «أَدْوَشْتَنا» عَرَبيَّة فُصحى؟

- نعم! راجع- إذا شِئت- مادة (دوش)، في معجمات اللُّغة، وإنْ حوَّلتْها الدارجة المِصْريَّة من تَشَوُّش البَصَر إلى تَشَوُّش السمع.

- وربما لم تحوِّلها الدارجة المِصْريَّة، بل أَهملت المعنى السمعيَّ وراءها كتبُ اللُّغة.

- احتمال وارد، بل لعلَّه راجح. «ولكنْ ضاقَ فِتْرٌ عن مَسِيْرِ!»

- ماذا تقصد؟

- أقصد إلى اللقاء في المساق المقبل!

***

أ. د. بد الله بن أحمد الفَيفي

..............................

(1) (1977)، المجموعة الكاملة لأشعار أحمد الصافي النجفي غير المنشورة ، باعتناء: جلال الخياط، (الجمهورية العراقيَّة: وزارة الإعلام)، 387.

 

التفاوض وحل النزاعات مهارات أساسية يجب على الجميع إتقانها من أجل التعامل مع الصراعات والخلافات بشكل فعال. سواء كان الأمر يتعلق بالتفاوض على زيادة الراتب، أو حل خلاف بين أعضاء الفريق، أو التوسط في نزاع عائلي، فإن القدرة على التفاوض وتسهيل الحل أمر بالغ الأهمية للنجاح في كل من البيئات الشخصية والمهنية. من خلال تعلم مبادئ وتقنيات التفاوض وحل النزاعات، يمكن للأفراد التواصل بشكل فعال بشأن احتياجاتهم ومصالحهم، والتوصل إلى اتفاقيات مفيدة للطرفين، والحفاظ على علاقات إيجابية مع الآخرين. على سبيل المثال، في بيئة العمل، يتطلب التفاوض على عقد مع العميل القدرة على فهم احتياجات ومخاوف كلا الطرفين، والتواصل بوضوح وإقناع، وإيجاد أرضية مشتركة ترضي جميع الأطراف المعنية. في بيئة شخصية، قد يتطلب حل نزاع مع صديق أو أحد أفراد الأسرة الاستماع النشط والتعاطف وحل المشكلات بشكل إبداعي. من خلال تطوير هذه المهارات، يمكن للأفراد معالجة النزاعات بشكل بناء وبناء علاقات أقوى قائمة على الاحترام المتبادل والثقة. في هذا المقال، سوف نستكشف أهمية التفاوض وحل النزاعات، ونناقش الاستراتيجيات والتقنيات الرئيسية، ونقدم أمثلة واقعية لحل النزاعات بنجاح. من خلال فهم هذه المبادئ وتطبيقها في سيناريوهات مختلفة، يمكن للأفراد تعزيز قدرتهم على التعامل مع النزاعات والمفاوضات بشكل فعال.

1. المقدمة:

التفاوض وحل النزاعات مهارات أساسية نحتاجها جميعا في حياتنا الشخصية والمهنية. إنها أدوات يمكن أن تساعدنا في التعامل مع النزاعات والتوصل إلى اتفاقيات والحفاظ على العلاقات. من خلال إتقان فن التفاوض وحل النزاعات، يمكننا إنشاء حلول مربحة للجميع تعود بالنفع على جميع الأطراف المعنية. التفاوض هو عملية يجتمع فيها طرفان أو أكثر لمناقشة والاتفاق في النهاية على حل لمشكلة أو نزاع. ويتطلب ذلك التواصل الفعال والاستماع النشط والتعاون. من ناحية أخرى، يشير حل النزاعات إلى الأساليب المستخدمة لحل النزاعات أو الخلافات بين الأطراف. يمكن أن يشمل ذلك الوساطة أو التحكيم أو التقاضي. هنا سوف نستكشف أهمية التفاوض وحل النزاعات، بالإضافة إلى تقديم أمثلة لكيفية تطبيق هذه المهارات في مواقف مختلفة. من خلال فحص دراسات الحالة والأمثلة الواقعية، سنبرز فوائد التعامل مع النزاعات بعقلية تعاونية. في النهاية، من خلال تطوير مهارات التفاوض وحل النزاعات، يمكننا بناء علاقات أقوى، وتعزيز التواصل، وتعزيز بيئة أكثر انسجاما في حياتنا الشخصية والمهنية. لذا دعونا نغوص في عالم التفاوض وحل النزاعات، ونكتشف قوة إيجاد حلول مفيدة للطرفين.

2. هدف المفاوضات:

التفاوض مهارة أساسية في عالم اليوم، سواء كان ذلك في مجال الأعمال أو السياسة أو حتى في حياتنا الشخصية. والهدف من المفاوضات هو التوصل إلى اتفاق مفيد للطرفين حيث يمكن لجميع الأطراف المشاركة أن تخرج منه وهي تشعر بالرضا. ومن خلال التفاوض الفعال، يمكنك تجنب سوء الفهم والصراعات وبناء علاقات قوية قائمة على الثقة والتعاون. لا تتعلق المفاوضات بالفوز أو الخسارة، بل تتعلق بإيجاد أرضية مشتركة والعمل نحو حل يلبي احتياجات ومصالح جميع الأطراف المشاركة. وتتطلب الاستماع النشط والتواصل المفتوح والقدرة على التعاطف مع وجهات نظر الآخرين. ومن خلال فهم أهداف ودوافع ومخاوف الطرف الآخر، يمكنك تصميم نهجك بشكل أفضل وإيجاد حلول إبداعية ترضي كلا الجانبين. يمكن أن تكون المفاوضات صعبة، خاصة عند التعامل مع المصالح أو المشاعر المتضاربة. ومع ذلك، من خلال البقاء مركزا على الهدف النهائي المتمثل في التوصل إلى اتفاق مفيد للطرفين، يمكنك التنقل عبر الخلافات وإيجاد أرضية مشتركة. تذكر أن هدف المفاوضات ليس أن تنتصر على حساب الطرف الآخر، بل أن تجد حلاً تعاونيًا يحترم مصالح واحتياجات جميع الأطراف المعنية. وفي الختام، فإن هدف المفاوضات هو إيجاد حل مربح للجانبين حيث يمكن لجميع الأطراف أن تخرج منه وهي تشعر بالرضا. ومن خلال إتقان فن التفاوض، يمكنك بناء علاقات أقوى وحل النزاعات وتحقيق نتائج إيجابية في مجموعة متنوعة من المواقف. لذا، تكون المفاوضات كفرصة للتعاون وحل المشكلات وخلق القيمة لجميع الأطراف المعنية.

3. أنواع المفاوضات:

في عالم التفاوض وحل النزاعات، من الضروري فهم الأنواع المختلفة من المفاوضات التي قد تحدث. يقدم كل نوع تحدياته وفرصه الفريدة، مما يتطلب نهجًا دقيقًا لتحقيق نتائج ناجحة. أحد الأنواع الشائعة للمفاوضات هو التفاوض التوزيعي، حيث تركز الأطراف في المقام الأول على تقسيم كمية ثابتة من الموارد. غالبا ما يؤدي هذا النهج التنافسي إلى مواقف محصلتها صفر، حيث يكون مكسب أحد الأطراف خسارة للطرف الآخر. في المفاوضات التوزيعية، من الأهمية بمكان استخدام استراتيجيات مثل التثبيت والتأطير وتقديم التنازلات لضمان نتائج مواتية. من ناحية أخرى، تنطوي المفاوضات التكاملية على التعاون والإبداع لخلق القيمة لجميع الأطراف المشاركة. في هذه المفاوضات، يتركز التركيز على توسيع الكعكة بدلا من مجرد تقسيمها. من خلال إعطاء الأولوية للمكاسب المتبادلة واستكشاف المصالح المشتركة، غالبا ما تؤدي المفاوضات التكاملية إلى اتفاقيات أكثر استدامة ومفيدة للطرفين. نوع مهم آخر من المفاوضات هو المفاوضات متعددة الأطراف، والتي تنطوي على ثلاثة أو أكثر من الأطراف ذات المصالح المتضاربة التي تتجمع معًا لإيجاد حل جماعي. يمكن أن تكون هذه المفاوضات معقدة بشكل خاص، حيث يجب النظر في وجهات نظر وأولويات متعددة في وقت واحد. التواصل الفعال وبناء التحالفات والتخطيط الاستراتيجي هي مهارات أساسية للتنقل في المفاوضات متعددة الأطراف بنجاح. أخيرا، هناك مفاوضات عبر الثقافات، حيث تجتمع الأطراف من خلفيات ثقافية مختلفة لحل نزاع. يمكن أن تؤثر الاختلافات الثقافية بشكل كبير على عملية التفاوض، مما يؤثر على أنماط الاتصال وعمليات صنع القرار واستراتيجيات بناء العلاقات. من خلال الاعتراف بالأعراف والتقاليد الثقافية واحترامها، يمكن للمفاوضين سد الفجوات الثقافية وتعزيز الثقة والتفاهم. بشكل عام، يعد فهم الأنواع المختلفة من المفاوضات أمرا بالغ الأهمية لتطوير مهارات التفاوض الفعّالة وتحقيق حلول ناجحة للنزاعات. من خلال تكييف نهجك ليناسب السياق والديناميكيات المحددة لكل عملية تفاوض، يمكنك تعزيز قدرتك على تحقيق نتائج إيجابية وبناء علاقات مستدامة مع نظرائك.

4. مفاوضات حل النزاعات:

تعتبر النزاعات جزءا طبيعيا من الحياة ويمكن أن تنشأ في أي موقف، سواء كان ذلك في علاقة شخصية أو صفقة تجارية أو مسألة قانونية. إن كيفية تعاملنا مع هذه النزاعات يمكن أن تحدث فرقًا كبيرًا في النتيجة. وهنا يأتي دور المفاوضات. التفاوض مهارة حيوية تسمح للأفراد بحل الخلافات وإيجاد أرضية مشتركة. إنها عملية اتصال وتسوية يمكن أن تؤدي إلى حلول مفيدة للطرفين لجميع الأطراف المعنية. من خلال المشاركة في المفاوضات، يمكن للأفراد تجنب عملية الذهاب إلى المحكمة المكلفة والمستهلكة للوقت والعمل بدلا من ذلك معًا لإيجاد حل يلبي احتياجات الجميع. يمكن رؤية أحد الأمثلة على مفاوضات النزاع الناجحة في عالم الأعمال. عندما تجد شركتان نفسيهما في نزاع عقدي، بدلاً من اللجوء فورًا إلى التقاضي، يمكنهما الجلوس والتفاوض على شروط مقبولة لكلا الطرفين. من خلال العمل معًا، يمكنهم الحفاظ على علاقة العمل والتوصل إلى حل يفيد كلا الجانبين. في العلاقات الشخصية، يمكن أن تكون المفاوضات أيضا أداة قوية. على سبيل المثال، إذا اختلف صديقان بسبب سوء تفاهم، فيمكنهما استخدام التفاوض للتعبير عن مشاعرهما، والاستماع إلى وجهات نظر بعضهما البعض، وإيجاد طريقة للمضي قدما بطريقة إيجابية وبناءة. من خلال تعلم فن التفاوض، لا يستطيع الأفراد حل النزاعات بشكل أكثر فعالية فحسب، بل يمكنهم أيضا تحسين مهارات الاتصال، وبناء علاقات أقوى، وتعزيز الشعور بالتعاون والتفاهم. لا يتعلق التفاوض بالفوز أو الخسارة - بل يتعلق بإيجاد أرضية مشتركة والتوصل إلى حل وسط مقبول لجميع الأطراف المعنية. في الختام، فإن التفاوض على النزاعات مهارة قيمة يمكن تطبيقها في جوانب مختلفة من الحياة. من خلال التعامل مع الخلافات بعقل منفتح، والاستعداد للاستماع، والالتزام بإيجاد حل يفيد الجميع، يمكن للأفراد التعامل مع النزاعات بلباقة ونزاهة. تذكر أن التفاوض أداة قوية يمكن أن تؤدي إلى نتائج ناجحة وحلول دائمة.

5. أنواع مفاوضات النزاعات:

التفاوض مهارة حاسمة نستخدمها في حياتنا اليومية، سواء أدركنا ذلك أم لا. من تحديد الفيلم الذي سنشاهده مع الأصدقاء إلى تحديد سعر عادل للسيارة، المفاوضات موجودة في كل مكان. في عالم الأعمال والقانون، تلعب المفاوضات دورًا مهمًا في حل النزاعات والتوصل إلى اتفاقيات مفيدة للطرفين. هناك عدة أنواع من مفاوضات النزاعات التي يمكن الاستفادة منها اعتمادًا على طبيعة النزاع والأطراف المعنية. أحد الأنواع الشائعة هو التفاوض التوزيعي، حيث تعمل الأطراف على تقسيم كمية ثابتة من الموارد. يركز هذا النهج التنافسي على تعظيم المكاسب الفردية وغالبا ما ينطوي على تقديم تنازلات للوصول إلى حل وسط. من ناحية أخرى، ينطوي التفاوض التكاملي على التعاون وحل المشكلات لخلق قيمة لكلا الطرفين. يؤكد هذا النهج على المصالح المشتركة ويسعى إلى إيجاد حلول مربحة للجانبين تلبي احتياجات الجميع. التفاوض التكاملي مثالي للمواقف التي يكون فيها للأطراف علاقات مستمرة ويبحثون عن بناء الثقة وإنشاء اتفاقيات طويلة الأجل. بالإضافة إلى ذلك، هناك أشكال أخرى من مفاوضات النزاعات مثل التفاوض القائم على المصالح، والتفاوض على المواقف، والتفاوض المبدئي. كل نوع له نقاط قوته وضعفه، ويمكن أن يكون فعالًا اعتمادًا على الظروف المحددة للنزاع. في النهاية، يعد فهم الأنواع المختلفة من مفاوضات النزاعات أمرًا ضروريا لحل النزاعات بنجاح وتحقيق نتائج إيجابية لجميع الأطراف المعنية. ومن خلال إتقان هذه التقنيات والاستراتيجيات، يمكننا اجتياز المحادثات الصعبة بثقة والتوصل إلى اتفاقيات عادلة ومستدامة.

إن إتقان فن التفاوض وحل النزاعات أمر ضروري في كل من البيئات الشخصية والمهنية. من خلال فهم مبادئ وتقنيات الاتصال الفعال وحل النزاعات، يمكن للأفراد التعامل مع النزاعات والتوصل إلى اتفاقيات مفيدة للطرفين. من خلال استخدام الأمثلة ودراسات الحالة، من الواضح أن مهارات التفاوض يمكن أن تؤدي إلى نتائج ناجحة وتحسين العلاقات. من الضروري أن نستمر في صقل مهارات التفاوض لدينا والسعي إلى حلول سلمية للنزاعات. دعونا جميعًا نلتزم بأن نصبح مفاوضين ماهرين ودعاة لحل النزاعات سلميا. معا، يمكننا بناء عالم أكثر انسجاما وتعاونا.

6. أهمية الأجندة في التفاوض وحل النزاعات:

عند الدخول في مفاوضات أو السعي لحل نزاع، فإن وجود أجندة محددة بوضوح أمر بالغ الأهمية لتحقيق نتيجة ناجحة. تعمل الأجندة كخريطة طريق، توجه المحادثة وتضمن أن يظل كلا الطرفين مركزين على القضايا المطروحة. بدون أجندة منظمة، يمكن للمناقشات أن تنحرف بسهولة عن مسارها، مما يؤدي إلى الارتباك والإحباط، وفي النهاية، انهيار التواصل. من خلال وضع جدول أعمال في بداية عملية التفاوض أو حل النزاعات، يمكنك تحديد نبرة المحادثة وتحديد التوقعات لجميع الأطراف المشاركة. يساعد هذا في خلق شعور بالنظام والإنصاف، مما يسمح لكل جانب بالتعبير عن مخاوفه والعمل على إيجاد حل مفيد للطرفين. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن تساعد الأجندة المحددة جيدا في تحديد مجالات القواسم المشتركة ونقاط التسوية المحتملة، مما يجعل من الأسهل التحرك نحو الحل. علاوة على ذلك، يمكن أن يساعد وجود جدول أعمال في منع سوء الفهم وسوء التواصل. من خلال تحديد القضايا الرئيسية التي تحتاج إلى معالجة وتحديد أهداف واضحة للمناقشة، يمكنك تقليل فرص نشوء النزاعات أثناء عملية التفاوض. يمكن أن يوفر هذا وقتًا وطاقة ثمينين كان من الممكن إهدارهما في حجج غير منتجة أو تشتيتات غير ذات صلة. لا يمكن المبالغة في أهمية وجود جدول أعمال في التفاوض وحل النزاعات. توفر الأجندة المصممة جيدًا الهيكل والوضوح والتوجيه للمناقشة، مما يزيد في النهاية من احتمالية التوصل إلى نتيجة إيجابية. لذا، في المرة القادمة التي تجد نفسك فيها في مفاوضات أو تسعى لحل نزاع، تأكد من إنشاء جدول أعمال واضح لتوجيه المحادثة نحو حل ناجح.

7. لماذا تفشل المفاوضات وحل النزاعات؟:

المفاوضات وحل النزاعات هي عمليات أساسية لإدارة النزاعات بشكل فعال والتوصل إلى اتفاقيات مفيدة للطرفين. ومع ذلك، وعلى الرغم من أهميتها، فإن هذه العمليات غالبا ما تفشل في تحقيق النتائج المرجوة منها. إن فهم الأسباب وراء هذه الإخفاقات أمر بالغ الأهمية لتحسين مهارات التفاوض وحل النزاعات. أحد الأسباب الشائعة لفشل المفاوضات هو الافتقار إلى التواصل الفعال. عندما يفشل الأطراف المتورطون في نزاع في الاستماع إلى بعضهم البعض، أو التعبير عن احتياجاتهم بوضوح، أو فهم وجهات نظر الآخرين، فمن المرجح أن تنهار المفاوضات. بدون التواصل المفتوح والصادق، من المستحيل بناء الثقة والعمل نحو حل يرضي جميع الأطراف. عامل آخر يمكن أن يؤدي إلى فشل المفاوضات هو الافتقار إلى التحضير. غالبًا ما يؤدي التفاوض بدون استراتيجية واضحة أو بدون معلومات كافية حول احتياجات الطرف الآخر ومصالحه وبدائله إلى نتائج غير مرضية. إن المفاوضات قد تفشل عندما يكون هناك خلل في التوازن بين الأطراف المعنية، فعندما يمتلك أحد الطرفين قدراً أعظم من القوة أو الموارد من الطرف الآخر، فقد يكون من الصعب التفاوض على قدم المساواة. وفي مثل هذه الحالات، قد يشعر الطرف الأضعف بالضغط لقبول شروط غير مواتية أو قد يصبح غير واثق من عملية التفاوض، مما يؤدي إلى انهيارها. وأخيراً، قد تفشل المفاوضات عندما تكون الأطراف غير قادرة أو غير راغبة في تقديم التنازلات. إن العناد، والأنا، والتوقعات غير الواقعية كلها يمكن أن تمنع الأطراف من إيجاد أرضية مشتركة والتوصل إلى اتفاق مقبول للطرفين. وبدون الرغبة في العطاء والأخذ، فمن المرجح أن تتوقف المفاوضات وتفشل في النهاية. وفي الختام، فإن فهم أسباب فشل المفاوضات أمر ضروري لتحسين قدرتنا على إدارة الصراعات بفعالية والتوصل إلى حلول ناجحة. ومن خلال معالجة قضايا مثل حواجز الاتصال، والافتقار إلى التحضير، واختلال التوازن في القوة، وعدم الرغبة في تقديم التنازلات، يمكننا زيادة احتمالات تحقيق نتائج إيجابية من خلال التفاوض وحل النزاعات.

8. خصائص المفاوضين:

التفاوض مهارة بالغة الأهمية في العلاقات المهنية والشخصية، والأفراد الذين يتفوقون فيها يشتركون في خصائص رئيسية معينة. أولاً، المفاوضون الناجحون هم من المتواصلين المهرة. إنهم قادرون على التعبير بوضوح عن احتياجاتهم ورغباتهم، ولكنهم يستمعون أيضًا بنشاط إلى وجهة نظر الطرف الآخر. هذه القدرة على فهم وجهة النظر المعارضة والتعاطف معها أمر بالغ الأهمية في إيجاد حلول مفيدة للطرفين. علاوة على ذلك، يجب أن يكون المفاوضون قادرين على التكيف والمرونة في نهجهم. إنهم يدركون أن كل مفاوضات فريدة وتتطلب استراتيجية مختلفة. وهذا يعني القدرة على التفكير على قدميهم، وتعديل التكتيكات، والتحول عند الضرورة للوصول إلى حل ناجح. بالإضافة إلى ذلك، يتمتع المفاوضون الناجحون بالصبر والمثابرة. يمكن أن تكون المفاوضات معقدة وقد تتطلب جولات متعددة من المناقشة والتسوية. أولئك الذين هم على استعداد للبقاء على المسار، حتى عندما يواجهون انتكاسات أو تحديات، هم أكثر عرضة لتحقيق نتائج إيجابية. أخيرًا، يتمتع المفاوضون الناجحون بمستوى عالٍ من الذكاء العاطفي. إنهم قادرون على إدارة عواطفهم الخاصة بشكل فعال، فضلاً عن فهم وتوجيه عواطف الطرف الآخر. وهذا يسمح لهم ببناء علاقة طيبة، وتبديد التوتر، وفي النهاية التوصل إلى اتفاقيات ترضي جميع الأطراف المعنية. في الختام، التفاوض هو مهارة يمكن تعلمها وتحسينها، لكنها تتطلب خصائص أساسية معينة مثل التواصل الفعال، والقدرة على التكيف، والصبر، والذكاء العاطفي. من خلال تطوير وصقل هذه السمات، يمكن للأفراد أن يصبحوا مفاوضين أكثر نجاحا وتحقيق نتائج إيجابية في مجموعة متنوعة من المواقف.

التفاوض وحل النزاعات هي مهارات أساسية يمكن تطبيقها في جوانب مختلفة من الحياة، سواء كانت في العلاقات الشخصية، أو المعاملات التجارية، أو المسائل القانونية. من خلال فهم مبادئ وتقنيات التفاوض، يمكن للأفراد التواصل بشكل فعال مع وجهات نظرهم، والنظر في وجهات نظر متعددة، والتعاون من أجل إيجاد حلول مفيدة للطرفين. من خلال الأمثلة المقدمة سابقا، رأينا كيف يمكن أن تؤدي المفاوضات وحل النزاعات إلى نتائج ناجحة، حيث يتم حل النزاعات، والتوصل إلى اتفاقيات، والحفاظ على العلاقات. من خلال إتقان هذه المهارات، يمكن للأفراد التنقل عبر المواقف الصعبة بثقة وكفاءة. من المهم أن نتذكر أن التفاوض لا يتعلق بالفوز أو الخسارة، بل يتعلق بإيجاد أرضية مشتركة والتوصل إلى حل يرضي جميع الأطراف المعنية. من خلال التعامل مع النزاعات بعقل منفتح وتعاطف واستعداد للاستماع، يمكن للأفراد خلق بيئة إيجابية وبناءة لحل النزاعات. في الختام، فإن التفاوض وحل النزاعات هي أدوات قوية يمكنها تحويل النزاعات إلى فرص للنمو والتعاون. من خلال صقل هذه المهارات وتطبيقها في التفاعلات اليومية، يمكن للأفراد تعزيز العلاقات الإيجابية وبناء الثقة وخلق نتائج مربحة للجميع الأطراف المعنية. في نهاية المطاف، تعد المفاوضات وحل النزاعات مكونات أساسية للتواصل الفعال وحل المشكلات، وإتقان هذه المهارات يمكن أن يؤدي إلى النجاح في كل من البيئات الشخصية والمهنية.

يعد فهم أساسيات التفاوض وحل النزاعات أمرا بالغ الأهمية في كل من البيئات الشخصية والمهنية. من خلال الاستفادة من التواصل الفعال والاستماع النشط ومهارات حل المشكلات، يمكن للأفراد التنقل بنجاح عبر النزاعات والتوصل إلى اتفاقيات مفيدة للطرفين. توضح الأمثلة المقدمة في هذا المقال أهمية استخدام تقنيات التفاوض لتحقيق نتائج إيجابية. بفضل الأدوات والاستراتيجيات المناسبة المتاحة لنا، نمتلك القدرة على تحويل الصراعات إلى فرص للنمو والتعاون. لذا، دعونا نحتضن فن التفاوض وحل النزاعات، ونسعى جاهدين لخلق عالم أكثر انسجامًا وإنتاجية لأنفسنا وللآخرين. وتذكر أن مفتاح النجاح يكمن في قدرتنا على التواصل والتعاون والتوصل إلى حلول وسط بشكل فعال.

***

محمد عبد الكريم يوسف

...............................

المراجع:

1.     Fisher, R., Ury, W., & Patton, B. (2011). Getting to Yes: Negotiating Agreement Without Giving In. Penguin Books.

2.     Lewicki, R. J., Saunders, D. M., & Minton, J. W. (2015). Essentials of Negotiation. McGraw-Hill Education.

3.     Ury, W. (1993). Getting Past No: Negotiating in Difficult Situations. Bantam Books.

4.     Fisher, R., Ury, W., & Patton, B. (2011). Getting to yes: Negotiating agreement without giving in. Penguin.

5.     Lewicki, R. J., Saunders, D. M., & Barry, B. (2015). Essentials of negotiation. McGraw-Hill Education.

6.     Mnookin, R. H., Peppet, S. R., & Tulumuer, A. (2000). Beyond winning: Negotiating to create value in deals and disputes. Harvard University Press.

الخواطر مدعاة تأمل لكل ما عسانا نفكر فيه ونمضي لأجله، ومن أجله، وهى بذرة التفكير في مسائل الدنيا ومسائل المصير، يبدأ الخاطر لمحة عابرة فيختلط بأجواء النفس وسرعان ما يتحوّل إلى عمل بعد مروره في أطواء نفوسنا بمراحل من العمل الباطن، أولها: الخواطر وهى حديث النفس، ثم الميل ثم الاعتقاد، ثم حكم القلب، ثم العزم على الفعل.

ومراقبة الخواطر عمل القلب الباطن لأن الخواطر تسبح في ملكوتين ليس بينهما ثالث، أمّا ملكوت الله أو ملكوت الشيطان، ومن راقب خواطره الباطنة عصمه الله في جوارحه الظاهرة. 

وهنالك خواطر تأتي من لمّة الشيطان ويقابلها خواطر ترد من لمّة الملك الرحمن، الأولى إيعاذ  بالشر، والثانية إيراد بالخير. وأكثر ما يمنع خواطر الشر ويُدني من خواطر الخير قطعاً ويوظف حركة القلب الباطنة توظيفاً في صالح العبد هو أسهل العبادات وأكملها، كثرة الصلاة والتسليم على خير الأنبياء والمرسلين.

وإذا وردت الخواطر على هذه الصفة فمن بينها كلمة أقولها لنفسي لعلها تنقاد :

أجهل كل شيء، أغفل عن كل شيء، أترك التفاهات، أترك هاتفك المحمول الذي يضيع وقتك، والوقت عمر والعمر لحظة، واجعل تلك اللحظة حاضرة مع الله، واشغل وقتك كله بكثرة الصلاة والتسليم على خير الأنبياء والمرسلين.

هنالك ترى العجب العجاب من رب الأرباب ..

ترى الرحمة تتنزل عليك من فورها ... 

فإنّ ثورات الغضب الإلهي تنطفئ بكثرة الصلاة والتسليم على سيد الأنبياء والمرسلين، لأن الله تعالى يصلي عليك، وصلاته رحمة والرحمة مقدّمة على الغضب، والانشغال بالصلاة على خير المرسلين انشغال بالرحمة وهو صلوات ربي وسلامه عليه رحمة للعالمين ... الإكثار يفوق الآلاف ليحدث التوحد مع الذات المحمدية مجلى الأنوار البهية، ثم اجعل لسانك هو الذي يُذكّرك إذا غفلت، وخاطرك على الحضور هو ممدك، وقلبك هو مددك، أبحث عن الحب في هذا الكنز الثمين.

دع عنك مقاطع الهواتف التي تشاهدها ونصائح المشايخ التي تلاحظها، وأعكف على خير عبادة وأسهل عبادة ينفتح بها مغاليق القلوب إلى رب الملكوت .. استغرق وتفرد، وكلما استغرقت تفردت، وذقت حلاوة المحبّة وجاءت الأنوار المحمديّة لتنقذك من الضلال.

لا حاجة لك إلى دليل شرعي تسمعه من أفواه الناس، بل أسمع دليك من نفسك، وأبحث عن الوصلة، لعلها ضعُفت فيك من أغلال الدنيا وقيود العوائق فيها، واستشرف نوره الباقي، حتى تدركه، فإذا ادركته وصلت، واذ ذاك انفتحت لك طاقات المعارف والأسرار بمفتاح واحد لا مزيد عليه : هو كثرة الصلاة والتسليم على خير الأنبياء والمرسلين مع الاستغراق والحضور. 

استغرق فالدنيا فانية.

والزمن فيها أنفاس معدودة.

ولن تنال الرحمة وأنت خطاء ابن خطاء ابن خطاء، ولك في الخطيئة نسبٌ عريق إلا أن تعرف نبيك بكثرة الصلاة عليه ليعرفك ويحاجيك، ويتم نعمته عليك، ويواليك.

***

بقلم : د. مجدي إبراهيم

العصاب هي الاضطرابات النفسية التي تشمل القلق المرضي، الفوبيا " المخاوف المرضية"، "الحواز - الوساوس بأنواعه - العصاب القهري"، الاضطرابات النفسجسمية- السيكوسوماتيك، الاكتئاب النفسي، توهم المرض، الهستيريا بأنواعها وغيرها، ومنها عصاب الحرب، والصدمة، والكوارث. يرى "صلاح مخيمر " أن الأعصبة تشكيلة تباينات لنمط كيفي واحد يستهدف التجنب والعزل ابتعادًا عن الخطر بأية وسيلة وبكل وسيلة، ويعرض "مصطفى كامل" في موسوعة علم النفس والتحليل النفسي عصاب الحرب War Neurosis بأنه أحد أشكال العصاب الصدمي وغالبًا ما يحدث في موقف العمليات الحربية لبعض الأفراد الذين لا يحتملون موقف العمليات، فيستجيبون بأعراض مرضية تماثل أعراض العصاب الصدمي، وتكون حادة بصورة أكبر من بقية أشكال العصاب الصدمي. ويضيف " مصطفى كامل" أنه في الموقف العسكري يمثل القادة الآباء كحماة ومهددين في نفس الآن، فبعض الأفراد يمكن أن يتقبلوا هذا الموقف دون بروز الصراع، والبعض الآخر يؤدي به هذا الموقف إلى بعث الصراعات الطفلية المكبوتة فيضعف من قدرتهم على المقاومة، والبعض الآخر من الأفراد يجعلهم الموقف العسكري يشعرون بقدر أكبر من الاعتماد والحماية، وحديثنا سيكون خلال احتدام القتال، وكذلك ما بعد إنتهاء العمليات العسكرية والعودة إلى الحياة الطبيعية مع الأسرة، أو مع الأصدقاء، أو مع الأقرباء، هذا الشخص خرج من آتون الحرب التي أمتدت لسنوات خلال خدمته الفعلية في الحياة العسكرية، فبرزت بعض أعراض عصاب الحرب في سلوكه، وتعامله مع أقرب المقربين له وهم أفراد أسرته، أو من يلتقيهم في الحياة اليومية المدنية، تظهر أعراض عصاب الحرب بشكل واضح وجلي، منها عدم القدرة على الصبر والمطاولة في مواقف الحياة اليومية، الإستعجال في كل شيء، محاولة إنهاء كل موقف يومي بأسرع وقت، لا استمتاع في اللحظات الجميلة مع الأسرة في الحياة الاجتماعية، فضلا عن القرارات السريعة واتخاذها دون تأخير، أو تروي ولو كانت ناقصة غير مكتملة . ومن أعراض عصاب الحرب أيضًا عند بعض ممن عايشوا فترة طويلة من الحرب وكانوا جزءًا منها كمقاتلين ضباط، أو جنود، وأقصد هنا بعد إنتهاء العمليات الحربية والمواجهات مع الجانب الآخر من المقاتلين، تظهر أعراض الأحلام المزعجة والكوابيس، وتصل لإيقاظ الشخص من نومه مذعورًا، خائفًا، ويصدر منه صراخ أثناء نومه.

 أن آثار الحرب تأخذ منحنين: المنحى الأول أثناء العمليات الحربية والقتال المحتدم مع الطرف الآخر فتظهر أعراض هستيريا التبدين من مختلف أنحاء الجسم مثل العمى الهستيري، أو الشلل الهستيري، أو فقدان النطق " صمم " مما يتسبب بعدم القدرة على التحدث، أو كما يحدث عند القائد حينما يصاب باضطراب قدرته على الكلام فيصبح عاجزًا عن أصدار الأوامر أو يصاب الرامي بالعمى الهستيري، أو العسكري المكلف على جهاز اللاسلكي المحمول في الجبهة حيث يصاب بالصمم الهستيري، أو الارتعاش الهستيري، ويصاحب ذلك أعراض أخرى مثل عدم القدرة على السيطرة على الجهاز البولي والمخرج، فيتبول على نفسه من شدة الخوف المصاحب للحالة، وكذلك يتغوط على نفسه ويفقد السيطرة على التحكم، وهذه الاعراض شاهدناها في الحرب الاسرائيلية مع المقاتلين في غزة في حرب عصابات وإستهداف القوات الاسرائيلية في أماكنهم المحصنة، فجأة أو حينما تكون القوات الاسرائيلية متحصنة في مبنى ويشتد القتال، فهنا تظهر الأعراض المرضية الهستيرية بشكل علني عند الجنود والضباط الاسرائيلين، ومنها فقدان السيطرة على النفس فيفقد الشخص سيطرته فيدخل في حالة بكاء شديد وصراخ، وهذه الحالة هي حالة هستيريا وتشبه مثل حالة العدوى، حيث تسري حالة إنخفاض المعنويات بسبب صراخ أحد الجنود في الموضع المحصن فينهار الاشخاص الآخرين ممن لديهم استعداد نفسي، أو بمفهوم "جاك لاكان " المحلل النفسي الفرنسي "بنية عصابية "، وتشتد وتأخذ أعراض مرضية أعمق حينما يترك المقاتل المصاب مواقع القتال ويتم إخلاءه إلى مصحة نفسية حيث تتضخم

لديه هذه الأعراض وتظهر حالة تسمى Borderline وهي تغيرات من حالة عصاب إلى حالة ذهانية، تأخذ أعراض جديدة أعمق ومنها فقدان السيطرة على سلوكه مع الآخرين، مع هذاءات وحركات غريبة في الوجه، أو التحدث مع أشخاص غير موجودين في الواقع، أو يخاف من أشخاص يعتقد أنهم يطاردونه، فيبكي ولا يستطيع طلب المعونة لأنهم غير موجودين في الواقع، لكنهم موجودين على المستوى المتخيل،  فضلا عن حالة وهن نفسي وعصبي، وخوف من الكل، ويشعر بأنهم يضمرون له العداء وييحاولون قتله.

وهناك بعض حالات عصاب الحرب تظهر ما بعد أنتهاء العمليات القتالية ومنها خيالات تنتاب المصاب وهو في حالة الوعي وحينما يسأل عنها يجيب كما يقول " سيجموند فرويد" مؤسس التحليل النفسي في مقالة التذكر، التكرار، والعمل من خلال: في الواقع كنت أعرف ذلك دائمًا، أنا فقط لم أفكر في ذلك، غالبًا ما يعبر عن خيبة أمله لأنه لا يستطيع التفكير في ما يكفي من الأشياء التي يمكن أن يتعرف عليها على أنها " منسية" والتي لم يفكر فيها مرة أخرى منذ حدوثها، ومع ذلك فإن هذه الرغبة تجد مكانها أيضًا خاصة في قبول حالة هستيريا التحويل.

تبدأ أعراض عصاب الحرب بالظهور بعد انتهاء الحرب كما دونها " محمد أحمد النابلسي " مستشهدًا بانعكاسات مباشرة وفورية وأخرى غير مباشرة ومتأخرة، وهذه الآثار المتأخرة ظهرت بعد إنتهاء الحرب الفيتنامية بخمس سنوات على نهايتها عند الجنود الأمريكان الذين قاتلوا في معارك مع رجال عصابات في فيتنام بحرب قامت على القنص، والهجوم المباغت على القوات الأمريكية .

ومن أعراض عصاب الحرب التي ظهرت لدى الجنود الذين يقاتلون في الحرب العالمية الثانية هي حالات نفسجسمية " سيكوسوماتيك" في كلا المعسكرين،عند الجنود الألمان، وعند الجنود الذين يقاتلون مع الحلفاء ضد الألمان، منها أصابات قرحة المعدة، ويذكر " الدكتور محمد أحمد النابلسي " وصلت الزيادة حدًا دفع الألمان لإقامة مخيمات علاجية خاصة بمرضى القرحة وسميت هذه المخيمات Magen Kompanien حيث شهدت الحرب العالمية الثانية زيادات كبيرة في الإصابات السيكوسوماتية مثل ارتفاع الضغط والأمراض القلبية، وكذلك سجلت أيضًا لدى الجنود الأمريكيون . وفي النهاية نقول أن الحياة صراع ومواجهة، سواء في حياتنا اليومية والمهنية وحتى الأسرية بين الازواج، أو في المواقف الصعبة مثل الحروب والأزمات والصدمات والكوارث أو حالة فقدان عزيز حيث تظهر بشكل علني وواضح أعراض العصاب، لا سيما أنه بنية يحملها الشخص في داخله، يرجع تكوينها لمرحلة سابقة من مراحل طفولته، إلا أن المواقف الحياتية هي التي فجرت هذا العصاب الكامن في دواخلنا حينما نتعرض لمواقف الحياة الصادمة .

يرى البروفيسور "عدنان حب الله" التفريغ – التنفيس هو الذي يشكل الطريق إلى الشفاء، لا يمكن أن يتحقق إلا عندما تتوصل الذات إلى التغلب على ضواغط كبتها، رغم أن قول سيجموند فرويد: إن صاحب الهموم صاحب خمور، يعاقرها ويدمنها، وعصاب الحرب هو مجموعة هموم لا تنتهي ولا أعتقد أن ينجح صاحبها بتغييرها وقبول الواقع وإن الشقاء الذي جاءنا من محنة الحرب أكثر ألمًا من أي شقاء يأتينا من أي، من مواقف الحياة اليومية، سواء فسرناها بمعنى خاطئ وآمنا بهذا التفسير، أو أن بنيتنا " بنية" ساعدت على أستمرار شقاءنا بلا علاج أو حل.

***

د. اسعد شريف الامارة

يقال ان التفسير الفلسفي للحياة غير التفسير الشعري لها قد لخص الفيلسوف الايطالي كروتشه (1866-1952) الفرق بين الفلسفة والشعر بقوله: "... قبل أن يصل الإنسان إلى درجة تكوين الأفكار عن العالم كون أفكار خيالية ولم ينطق بالنثر إلا بعد ان عبر بالشعر. فالشعر ليس وسيلة لشرح الفلسفة وإنما هو نقبض لها، فالفلسفة تحرر الذهن من الحواس أما الشعر فإنه يعظم ويكمل بمقدار انحصاره في الخاص والمعين والفلسفة تضعف الخيال والشعر يقويه ويطلقه، ولم يعرف في سير التاريخ إن أحدا كان شاعرا كبيرا وفيلسوفا كبيرا معا..."

يستخلص من قول (كروتشه) إن الانسان لا يعبد الهين وان التقوق في الشعر والتفوق في الفلسفة لا يمكن ان يجتمعان في سقف واحد، فالخيال جاء قبل المنطق والاسطورة قبل التاريخ والشعر اقدم من النثر والغناء اقدم من الكلام. وهكذا تظل الحرب مستعرة بين الفلسفة والشعر منذ القدم منذ ايام الفيلسوف الأغريقي افلاطون (427-347 ق.م.) الذي طرد الشعراء من جمهوريته الخيالية خوفا من أن يفسد الشعراء عليه احلامه الفلسفية، في هذه الحرب لم تكتب فيها النجاح لأحدهما على الأخر فقد تظل الفلسفة بحاجة الى الشعر حين يستشهد الفيلسوف بابيات من الشعر يدعم بها فكرته الفلسفية الغامضة وتتخذ من الشعر وسيلة اسهل هضماً ووضوحا، كذلك يقتبس الشاعر من الفيلسوف ادلته المنطقية التي يستعين بها في تصوير ابياته الشعرية التي يكتنفها الغموض والابهام.

وليس ادل من تعانق الشعر مع الفسلفة من قصائد ابي العلاء المعري الذي الذي كان احد النجوم السابحة في سماء الادب والتاريخ وحيث تتلاقى فطرته الشعرية مع نزعته الفلسفية، ولم يكن المعري فيلسوفاً بالمعنى الدقيق الشامل كسقراط وافلاطون وارسطو لكن الفكاره الفلسفية تغلبت عليه كآراءه في الأخلاق والمرأة والحياة التي اتخذ منها موقفاً خاصاً، كما انه اتخذ من الأديان موقفاً فلسفياً في كثير من قصائده التي عبر بها الحدود الأدبية الى الحدود الفلسفية حيث تحدث فيها عن أسرار الحياة والموت والخلود بحيث أوجدت له منزلة خاصة عند الفلاسفة ذلك باعتباره فيلسوف الشعراء وشاعر الفلاسفة وقد كانت قصائده ومقولاته تعبر عن هذا أصدق تعبير فمن مقولاته: (.. لا إمام سوى العقل..) وكذلك (.. كل عقل نبي..) وتعكس هذه المقولات تركيز المعري على العقل وحده دون النقل وكان منهجه يقوم على مبدأ الشك كخطوة اولى للحصول على الحقيقة.

كان المعري حائراً بين التفكير الفلسفي والعاطفة الدينية الموروثة فنراه مرة مؤمناً ومرة مشككاً يغلب على شعره التشائم والمرارة، لقد كان مؤمناً بوجود اله خالق لكنه كان كافراً بكل الأديان لأنها حسب رأيه تتناقض مع بعضها ولا تتفق في بعض افكارها مع العقل فقد كان يتكلم عن الأديان بكل شجاعة وصراحة لقد كان يعبر عن فلسفة (لا أدرية) كما نسميها اليوم وكان ناقداً صريحاً ونزيهاً لكنه تائهاً في لجة الأفكار متشائماً على طول الخط ويعزي البعض هذا التشائم الى فقدانه لوالدته في وقف مبكر من حياته وفقدانه ناظريه و بامكاننا نفا ان نضيف عامل ثالث ألا وهو حرمانه من الزواج فكان عامل الكبت الجنسي من أكبر اسباب القلق النفسي عنده وقد عبر عن هذا في احدى اشعاره قائلاً:

هذا ما جناه ابي عليّ

ولم أجن أنا على أحد

كما انه عبر عن تشائمه بقوله:

ضحكنا وكان الضحك منا سفاهةً

وحقاً لسكان البرية أن يبكوا

وعبر بوضوح عن تشككه في الأديان قائلاً:

اثنان اهل الأرض ذو عقل بلا

ديّن وآخر ديّن لا عقل له

وقال:

عللاني فان بيض الأماني

فنيت والظلام ليس بفاني

ولم يكن ابو العلاء المعري وحده في هذا الميدان بل ان شعراء آخرين دخلوا معترك الفلسفلة لكنهم لم يصلوا الى المستوى الذي وصل اليه المعري فلم تكن ظروفهم الشخصية تشبه ظروفه القاسية فقد كان الشاعر العبقري المتنبي ابرز الشعراء، كان مالئ الدنيا وشاغل الناس حقاً، لقد وقف الثعالبي صاحب كتاب (يتيمة الدهر) عند قول المتنبي:

ازورهم وظلال الليل يشفع لي

وأنثنى وبياض الصبح يغري بي

فقال.. (.. انه تطابق بين الزيارة والانثناء وظلام الليل وبياض الصبح والشفاعة له والاغراء به وكل هذا جميعاً في بيت واحد فآية معجزة باهرة وقدرة خارقة للعادة..)

ويقف الشاعر العباسي أبو العتاهية من تقلب الزمان موقف الشاعر المتفلسف مخاطباً زمانه قائلاً:

وانك يا زمان لذو صروف

وانك يا زمان ذو انقلاب

وحتى الشاعر الحسن بن هاني الملقب بـ (ابو نؤاس) والمعروف بأنه شاعر ماجن قال حينما سئم حياة المجون وتاب عنها:

اذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت

له عن عدو في ثياب صديق

وهذه هي العلاقة الجدلية بين الشعر والفلسفة في مختلف العصور.

***

غريب دوحي

من طبيعة الانسان انه يتطلع الى شئء من التميز، يزداد ثقة بذاته عندما يطري الآخرون خصاله الحسنة، ويشعر بالندم اذا ما بدر منه ما يلام عليه ويقلل من شأنه. التميز يمثل جوهر هويتك الفردية، شعورك بانك مختلف عن الآخر وشعورك بانك تتسم بصفات مميزة لك يمنحك هويتك الخاصة، ولا يعني هذا ان هوية المرء شعور ذاتي محض، وإلا لما اشتقت من الضمير (هو)  وليس من الضمير (أنا). الهوية الفردية لا معنى لها خارج التفاعل مع الجماعة، دون ان يعني ذلك بان الجماعة تفرض او تتدخل قسراً في رسم ملامح هويتك الفردية، وانما هويتك تتشكل عبر علاقة مركبة بين الأنا والآخر، فانت تصنعها عبر الآخرين، صفاتك، أفكارك، قدراتك المعرفية والمهنية أو العلمية، نشاطاتك في المجتمع، مواقفك ومجمل سلوكياتك تنعكس لتعود عليك على شكل تقييم جمعي يعطي شرعية لأحساسك بالتفرد النسبي عن الآخرين، كما انك تجدد هويتك الفرديه عبر. التفاعل معهم، فالهويه ليست ساكنه بل هي في حركه وتجدد  دائم مع الزمن.

الليبراليه الجديده - باستثمار هيمنتها على الاعلام بكل اشكاله- تعمل على عزل الفرد عن الجماعه عبر ترسيخ الفردانيه، خاصه في مجتمعات الاطراف - على اعتبارها فتوحات جديده لها-، والفردانية في خطاب الليبرالية الجديدة ليست  دعوة للحريه والاستقلال النسبي للفرد عن الجماعه، وانما ترسيخ لمفهوم الحريه المطلقه والاستقلال المطلق وانعزال الفرد في كهف الذات. لقد شاعت في الفضاء الالكتروني مقتضبات هلامية المعنى على غرار (كن كما انت ولا تابه للاخرين) او (اذا احسست ان خطواتك تتناغم مع خطى الجماعه فتاكد انك على خطأ وانك سائر مع القطيع)، أو ترديد مقولة سارتر بعد إفراغها من محتواها الفلسفي ( الآخرون هم الجحيم) وما الى ذلك من مقتضبات ترتدي البسة الحكمة الزائفة. الفردانية بصيغتها الليبرالية الجديدة تموضع في كهف الذات بكل رغباتها ونزواتها ونزعاتها وتكريس للأنانية والذاتوية، بهدف استبدال المواطن بكائن اقتصادي مستهلك، وخاصة في مجتمعات الاطراف من اجل اقتحام اسواقها واستثمارها، و لهذا ارتباط وثيق في تصنيع هوية افتراضية زائفة، وترسيخ المفهوم الجديد للهوية بمعزل عن الجماعة، المفهوم الذي يجري تسويقه وتسويغه بنشاط حثيث في الاوساط المتعولمة. الهوية الفردية الأصيلة مشروع بناء دائم التجدد من خلال التواصل عبر شبكة من العلاقات الاجتماعية والاحداث والمواقف، باختصار عبر ممارسة الحياة في الوسط الاجتماعي للفرد، والهوية المكتسبة من الوسط الاجتماعي الحقيقي هوية حقيقية راسخة،  بيد أن الرسوخ هنا لايعني السكونية وانما التماسك والديمومة، على عكس  .الهوية الرقمية التي تفتقر للاستقرار والتماسك.

الهويات الإفتراضية تعوزها الاصالة والواقعية لانها تنتمي الى الواقع الفائق بتعبير الفيلسوف الفرنسي جان بورديار.

يرى بورديار ان الاعلام التقليدي سابقا ما كان ليقدم لنا الواقع كما هو، بل هو يعرض صورة مستنسخة عنه، ومع ذلك فان النسخة المصورة تبقى محتفظة بنوع من العلاقة مع الصورة الاصل، الا ان الاعلام الرقمي اليوم - بفعل التطور الهائل لتكنولوجيا الاتصالات- يصنع لنا واقعا بديلا متكاملا يعتمد الصورة والرمز واللغة والتشبيه والمحاكاة، انه الواقع الفائق hyper reality، وهذا الواقع البديل المتخيل لا يزيح الواقع الحقيقي فقط بل يميته ويرسله الى مقبرة النسيان، وهو لا يقتصر على الدعايات التجارية والترويج للاستهلاك المادي، بل يقتحم مسرح السياسة والعلاقات الإجتماعية والفكر وكل مفاصل الحياة.

الهويات الافتراضية في ظل الواقع الفائق هويات وهمية متخيلة، فقد منحت وسائل التواصل الاجتماعي الفرد حرية شبه مطلقة لبناء بروفايله الخاص، والعمل على مشروع بناء هويته الافتراضية بنفسه،  فهو حر في فبركة سيرته المهنية والسياسية والاجتماعية، يصرح، يتنمر، يحابي ويحابى، يحلل ويقيم في كل المجالات، وفي اغلب الاحيان دون رصيد معرفي  .او موهبة كافية

  الاعلام الرقمي المعولم بامكانه على سبيل المثال ان يصنع لشخصيات سياسية -ابرز ما في هويتها الحقيقية الخرف او الحماقه- هويات افتراضية يظهرون فيها كقادة وسياسيين محنكين، وبهذا يحوزون على حب وتاييد شرائح واسعه من المجتمع، شرائح مغيبة تعيش هي ايضا اوهام الواقع الفائق، خاصة ان لعقل الانسان طبيعة مرنة تجعله عرضة لإعادة تشكيله  .عبر التأثر بالصورة والرمز والتشبيه والمحاكاة

للاعلام الرقمي- الموجه من قبل الشركات العملاقة والدول التي تمتلك مفاتيح التحكم ببنك المعلومات والبيانات- آثار خطيره على وجدان وعقل الانسان المعاصر. الابتكارات في مجال تكنولوجيا الاتصالات وتطورها السريع لا يتيح لعقل الانسان فرصة تأمل ومعالجة اثارها السلبية،  خاصة ان ذلك لم يكن يوما من اهتمامات الشركات الرقمية التي ينحصر هدفها بالربح وبالمزيد منه.              

نسبح في فضاء المنصات الإلكترونية المختلفة كل يوم، نتفاعل مع اناس افتراضيين لا نعرفهم، يتقمص الكثير منهم هويات مستعاره خفية، ومنهم حتى عقول صناعية او جيوش الكترونية موجهة. لكل ذلك اثر كبير على ميولنا ونمط تفكيرنا وفهمنا لانفسنا والاخرين، وبالتالي له اثر بالغ في تشكل هوية رقمية خاصة بنا، هوية متخيلة ترتكز على المحاباة والادعاء والفبركة في كثير من الاحيان، نبدي عواطف واعجابات مبالغ بها ونستقبل مثلها، نظهر صفات لا نمتلكها في الواقع الحقيقي، كأن نظهر مثلا شجاعة التصدي الى حد البذاءة لمن نختلف معه، والتنمر على من نشاء على الانترنيت  دون ان نتوقع اي عواقب،  .فالآخر المختلف افتراضي، الامر الذي لا نقوى على فعله في الوسط الاجتماعي الحقيقي

من الظواهر الجلية ايضا لزيف الهويات الرقميه صعود نجم الاغبياء واصحاب المحتويات الهابطة، او اولئك الذين يمتلكون القدره على اثارة عواطف وغرائز الاخرين والتلاعب بافكارهم وميولهم ،تلك المكانه التي يتمتعون بها على الانترنيت قد لا يحلمون بحيازتها في اوساطهم الإجتماعية الحقيقية، فتلك المكانه عادة ما يحتلها في الوسط الاجتماعي الحقيقي العالم والمثقف او الكريم وصاحب الاخلاق الرفيعة والمواقف النبيله او المناضل الوطني الحق.

 الهوة الكبيرة بين هويتنا الرقمية المتخيلة وهويتنا الحقيقية تستولد حالات من التوتر النفسي  والازدواجية المرضية،  تودي بنا الى متاهة وعجز عن ادراك كنه ذواتنا، وذلك بسبب العيش تناوبا بين عالمين متناقضين بشكل حاد،  ويشتد التناقض لتعدد الهويات الرقمية التي نتقمصها، فللفرد هويات مختلفة -او لنقل اقنعة مختلفة في كل منصة إلكترونية يشارك فيها- تتناقض مع بعضها البعض من جهة ومع الهوية الاجتماعية الحقيقية من جهة اخرى. 

تكنولوجيا الاتصالات والتطبيقات الالكترونيه قد يسّرت الانغماس في الفضاء الالكتروني، مما يعني زحف العالم الرقمي على العالم الحقيقي وتقويضه تدريجيا، بمعنى انحسار تفاعل الفرد مع الوسط الاجتماعي الحقيقي، ولم يعد مشهدا غير مألوف ان نجتمع اجسادا في مكان ما وننعزل فكرا وروحا، اذ ينشغل كل منا بالانغماس في عالم الانترنت ولهذا اثر بالغ في تكيفنا على الاوهام والعيش في عالم الماتريكس، فمن طبيعة الانسان مرونة التكيّف عقلا وعاطفةً.

اللحظات الجميلة والاحداث التي تسعد المرء في الواقع المعاش لحظات حقيقية تظل راسخة في الذاكرة،  بينما تتحول في الواقع الافتراضي الى عملية حصد لأيموجيات واعجابات من قبل اناس لا يعرفهم، ولا علاقه لهم بحياته، انها لحظات سعادة عابرة تختفي ما إن يبتعد هو عن لوحة المفاتيح، وهذا ما يستولد ضمأ دائما وتوقا مرضيا وبحثا دائما عن تلك اللحظات، هذا اضافة الى ما يسببه من رغبة دائمة للغوص اكثر بعالم الانترنت والانفصال عن الواقع الحقيقي. 

من الجنون طبعا انكار ما قدمته تكنولوجيا الاتصالات من منافع جمة وما وفرته من ادوات متطورة للاستزادة المعرفية وتبادل المعلومات، الا ان الاثار الجانبية على وجدان وفكر الانسان وما يترتب عليه من تفكيك للعلاقات الاجتماعية بحاجه الى اهتمام علماء النفس والاجتماع وعلماء الابستمولوجيا غير المستفيدين من سطوه راس المال واغراءاته، على الاقل للخروج بحصيلة توصيات ودعوات لاصحاب القرار لتشريع وتنفيذ الزامات ومحددات على الشركات المهيمنة على المعلومة وتكنولوجيا  .الاتصالات، التي لا يلزمها الآن سوى ضمأها الذي لا يرتوي للارباح

***

قصي الصافي

 

من اطروحات الفيلسوف الفرنسي الشهير جان بول سارتر (Jean-Paul Sartre) في كتابه(Plaidoyer pour les intellectuels)  والمترجم الى العربية (الدفاع عن المثقفين) في تعريف المثقف، يؤكد سارتر على وجوب توفر ثلاث ميزات، قبل ان يستحق الشخص على تلك الصفة المميزة. فبعد ان يكون متعلما، مطلعا عما يدور حوله من مجريات الحياة المتنوعة، عليه ان يكون بعدها باحثا، مستنبطا ومشخصا ما هو صحيحا وصالحا من الظواهر المجتمعية والسلوكيات الشخصية مقابل ما هو خطأ وفاسدا منها. لم يكتف سارتر بهذا، بل ذهب لما هو أرقى واهم ميزة فأوجب على المثقف ان يكون قادرا في عملية التغيير البناء وذلك بوضع الحلول الناجعة للقضاء على ما هو خطئ وفاسد وابداله بما هو صحيحا وصالحا. وبناء على ذلك، يكون المثقف متعلما، وباحثا ثم قادرا على التغيير، وما يهمني هنا هو الوقوف والتمعن في الميزة الثالثة وهي الأهم.

ان لم أكن قاسيا على اهلي من العراقيين، افترض ان هناك الكثير منهم ممن يتحلون بالميزتين الأولى والثانية، فالتعليم عندنا مجاني وبسيط واستنباط الصح من الخطأ او الصالح من الطالح هو بسيط وواضح اليوم وضوح الشمس في بلاد إله الشمس. وبعد ما حصل في العراق من التغيير الكبير في ٢٠٠٣، والانتقال من الاضطهاد والتعسف العنيف الى ممارسة حرية الفكر والتعبير المفرطة، استيقظت جحافل المتعلمين، ومنهم أصحاب الشهادات العليا، من سباتها الصامت الطويل لا للملمة أشلاء المجتمع العراقي والمشاركة في التغيير البناء نحو الأمان والتحضر بل ليسَوقوا بضاعة بائسة من الكلام المنمق، باعتبارهم النخبة "المثقفة" والحريصة على مصالح العراق.

لهؤلاء أقول، ان فن الكتابة والالقاء والحوارات من قبل المتعلمين وأصحاب الألقاب وبشكله ومحتواه السلبي والجارح ان لم يكن المهين لمعتقدات ومشاعر الملايين من المواطنين هو عمل هدام (Destructive) ولن يرفع الضيم عن المستضعفين من اهلنا ولا يبني الأوطان، بل ما هو مطلوب لذلك هو المحتوى الإيجابي البناء  (Constructive)والمدعوم بالإبداع الفكري والمهني المدعوم بالتجربة العملية. كذلك، ان محاولات تشخيص وفضح الأخطاء والأفكار والمعتقدات البالية والفساد الإداري والمالي في مجتمعنا العراقي، وبرغم أهميتها الكبيرة، قد لا تتعدى ان تكون من مهام ما يقوم به الصحفي او الإعلامي ولا تحتاج بالضرورة لمن يدعون لأنفسهم من نخب الثقافة والفكر، ما لم يقدموا وبكل صدق ونزاهة حلولهم العلمية وسبل التغيير المطلوبة والمستندة الى مؤهلاتهم المهنية المجربة.

وبعد هذه المقدمة البسيطة، دعنا نتصفح بعض الأمثلة القليلة جدا من الكم الهائل مما يُكتب ويُبث في الأوساط الإعلامية المتنوعة: هناك من يدعون لأنفسهم مؤهلات علمية عالية كشاهدات الدكتوراه باختصاصات معينة لكنهم يهتمون ويتحدثون في مجالات لا علاقة لها بتلك المؤهلات. فقد يكون شخص ما متخصصا في الادب الإنكليزي لكنه يُسَوق نفسه كخبير وباحث في موضوع اقتصادي او انمائي. وبما ان العراق الحالي مزدحم بالإخفاقات وعدم الكفاءة التامة في تحقيق الإنجازات المفيدة للشعب، حتى أصبح ارضا خصبة لهؤلاء المتعلمين بدون أي ثمار تُجنى منهم سوى "صب الزيت على النار" او "زيادة في الطين بلة".

وهناك من هو أخطر بل اسوء من ذلك بكثير ممن ارتضوا بالإساءة بل بتهميش وتسقيط الكثير من الرموز المهمة للعراقيين، بغض النظر ان كنا من المؤيدين او المختلفين فكريا او عقائديا مع تلك الرموز. فكما حدث في السابق الطعن بعراقية شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري وفصله من وظيفته في احدى مدارس بغداد من قبل عراب القومية ساطع الحصري حين كان يومها مدير التربية أيام العهد الملكي، لم يكتفِ صدام حسين، وبعد أكثر من نصف قرن بفصله من وظيفته وتشريده خارج وطنه ولكن أسقط عنه جنسيته العراقية. والآن، وكما حدث لشاعرنا الجواهري يحدث ما يشبه ذلك لأيقونة عراقية رائعة لشاعرنا المحبوب مظفر النواب، ليُطعنَ ايضا بعروبته وعِراقِته من قبل احد المتعلمين من حملة الدكتوراه. يقول الدكتور في مقالته المنشورة ٢٣ نيسان ٢٠٢٤ في احد المجلات المدعومة من قبل المملكة السعودية، نقلا عن أحد أصدقاء الشاعر النواب "... ان الهندي العراقي (وما فيها من نبرة إهانة واستخفاف) مظفر النواب هو من اب وام لا يجيدان العربية ..."، ثم يواصل نقلا عن الملحق في سفارة الهند بدمشق ما معناه "... ونتيجة لعدم استطاعة النواب في تجديد جواز سفره العراقي اثناء تشرده في المهجر وذلك لمعارضة النواب السياسية وما سبب ذلك له من مشاكل مع النظام العراقي السابق، فقد اضطر في استعمال جوازه الهندي بعد تجديده ...". واكتفي من ذلك المقال السيء وما قاله الدكتور منتقصا من شاعرنا الراحل "... كان مظفر النواب وغيره من شعراء الثورات (صفة سيئة حسب سياق المقال!)، ... وعندما عاد الى بغداد (بعد ٢٠٠٣)، استقبله أحد أصحاب العِمامة (صفة سيئة أيضا حسب سياق المقال!) في داره التي يقيم فيها الولائم للمحتلين الامريكان ...". لا اريد التعليق والرد على مثل هذا الكلام البذيء الهدام، لكني تمنيت لو افهم ما الغرض النبيل الذي يطمح اليه ذلك الكاتب من مقاله ذاك (عدا كسب المال او الجاه او الاعتبارات الأخرى المرجوة)، سوى تشويه ما يحمله العراقيون في ذاكرتهم عن فقيدهم النواب من حب ورائحة الأرض الطيبة والهيل وصوت الريل وطعم الثورة؟

ثم تتصاعد وتيرة الطعن بالأشخاص الذين قد يمثلون رموزا عقائدية وفكرية عند الملايين من العراقيين من غير أي مبالات حضارية ولا هدف مفيد يصب في مصلحة الانسان والوطن خصوصا عندما تأتي مثل هذه المحاولات البذيئة بعد عقود من وفاة تلك الشخوص الرمزية، كما حصل للمفكر والمرجع الديني والمناضل الشهيد محمد باقر الصدر في سلسلة من المقالات التي لا تبت بشيء بواقع العراق الحالي ولا تصب في مصلحة العراقيين، بل على العكس تنهش بما تبقى من مجد للعراق وتحطيم لمعنويات شعبه.

وعلى منبر اعلامي آخر، تنتقل مثل هكذا محاولات سخيفة هدامة الى مجال أوسع لتطعن وتنتقص وتمزق اللحمة المجتمعية الجميلة لشعب العراق ولا تكتفي بتناول الاشخاص بشكل فردي بل بعوائلهم وعشائرهم العراقية بأكملها، وان كانت تلك المجاميع المجتمعية تحتل مواقع مرموقة في مشاعر ومفاهيم العراقيين. وعلى سبيل المثال لا الحصر، يظهر أحد مدعي الثقافة والشهادات العليا على منصته الخاصة في اليوتيوب من لندن في ٢٨ تموز ٢٠٢٤، ليدعي بان "... هناك الكثير من عشائر العراق ذات أصل هندي ومنهم من يدعون زورا بانتمائهم العلوي ...". ثم يستطرق القول "... وكمثال على ذلك هي قبيلة (وليست عشيرة!) الاشيقر، التي ينتمي اليها ابراهيم الجعفري (الدكتور رئيس وزراء العراق السابق) ذو الأصل الباكستاني وكذلك عائلة (السادة) الحكيم ذات الأصول الهندية ...". فيقول وبصورة التعميم البغيض؛ "... ان هذه العوائل ما جاءوا الى العراق من الهند الا شبه متسولين كالخدم يجمعون الأحذية في كيشوانيات المراقد الدينية ثم أصبحوا بعدها رجال دين حوزويين، لا لاستحقاقهم العلمي بل لكسب المال السهل ...". كأني بذلك المفتري ان يعيد لذاكرتي ما تردد في عهد صدام عن أصل سكان الاهوار (المعدان)، باعتبارهم ما جلبهم الإنكليز مع جواميسهم من الهند، بدلا من ان يكونوا من بقايا السومريين. تمنيت لو تحلى ذلك الشخص بشيء من سمات التحضر وانتقد (ان أراد ذلك) بشكل علمي بناءٍ نزاهة او كفاءة الدكتور إبراهيم الجعفري اثناء رئاسته لمجلس وزراء العراق، بدلا من ان يتهجم ويهين عشيرته او بيت الشقيري بأجمعهم، لا دفاعا مني عنهم بل لان ما قام به لا صلة له بمصلحة المجتمع العراقي، بل على العكس ما هو الا ضربة مِعول لئيم في قوام شعبنا المتعب.  

وأخيرا، اود ان اختم مقالي هذا بشهادة حقيقية عشتها اثناء فترة وجودي في فرنسا لتحضير شهادة الدكتوراه، علها تُلقن مثل هذه الأصوات النشاز مفهوما حضاريا لمعنى المواطنة والانتماء من جهة وتقييم الفكر والمفكرين المبدعين من جهة أخرى (والمثال يُضرب ولا يُقاس عليه). في محاولة نادرة ومثيرة يومها للجدل، قام الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتيران (Francois Mitteran) في اليوم الأول لتسلمه كأول زعيم للحزب الاشتراكي الفرنسي رئاسة الجمهورية (الخامسة) الفرنسية في ٢١ مايس ١٩٨١، قام بزيارة البانثيون الفرنسي(Pantheon)  او مقبرة العظماء الفرنسية ليضع بعض الورود الجهنمية الحمراء (وهي رمز للحزب الاشتراكي الفرنسي) فوق بعض قبور هؤلاء العظماء اقرارا واحتراما وعرفانا لما قدموه هؤلاء الموتى للشعب الفرنسي في مختلف المجالات. المهم في الموضوع ان هذا المَعلَم الموقر جدا في الحي اللاتيني بمقاطعة باريس الخامسة يحوي على رفات العديد من عظماء فرنسا ممن هم فرنسي الأصل كالمفكر التنويري المشهور فولتير (Voltaire) والقيادي في المقاومة الفرنسية جان مولان  (Jean Moulin)ولكن فيهم أيضا من هم من أصول أخرى كالعالمة الفيزياوية الكيمياوية الشهيرة ماري كيوري (Marie Curie) المتجنسة فرنسيا ذات الاصل البولوني، والمفكر الفيلسوف واحد نخب عهد النهضة التنويرية الأوروبية ومحفز الثورة الفرنسية جان جاك روسو (Jean Jacque Rousseau) المولود في جنيف من ابوين سويسريين والمتجنس فرنسيا، وأخيرا المتجنسة فرنسيا الامريكية الولادة ومن أصول افريقية سوداء الفنانة الكبيرة جوزيفين بيكر .(Josephine Baker)

ان الامة المتحضرة الفرنسية تفتخر بالفرنسيين المبدعين بغض النظر عن اصولهم الأجنبية وتحترم الانسان بشكل عام وان لم يكن مبدعا بغض النظر عن اصل ابويه، فمن أراد ان يتحلى بشيء من التحضر الإنساني ويقوم بدوره كمثقف عراقي متنور، عليه ان يتمعن في القيم والمعايير الانسانية للعالم المتحضر اولا ويبغض السخافات العنصرية المتوارثة من بداوة وعشائريات وتخلف، والاهم من ذلك الرفق بعراقنا والكف عن إيذاء العراقيين. 

***

الدكتور غانم المحبوبي

أكاديمي متقاعد، ملبورن، استراليا

(تسليم مكتبتين وقفيتين لفائدة جامع الجزائر الأعظم)

تمثل المخطوطات في رأي عميد جامع الجزائر الأعظم الشيخ محمود مأمون القاسم الحسني كنز من كنوز الأمة لأنها ذاكرة الأمة وجب العناية بها والحفاظ عليها وهذا لما تحمله من معاني تاريخية وحضارية وهي تحتاج إلى تسليط عنها الضوء من قبل الباحثين والمؤرخين وعدم الوقوف عليها سطحيا في المناسبات فقط ، حت لا تتعرض للتلف والضياع ، كما حدث منذ زمن في الجزائر حين ضاعت ثروة علمية من المخطوطات كانت محفوظة في المساجد والزوايا في عهد الإحتلال الفرنسي بدافع أحقاد صليبية عنصرية تجاه كل ما له علاقة بالعلوم الدينية والثقافة العربية الإسلامية وتم ترحيلها إلي متاحف باريس وأخر تم حرقها، لولا شيوخ الزوايا الذين سعوا إلي تهريب ما تبقي منها إلي جهات أمنة.

فالمخطوطات كموروث ثقافي تاريخي حضاري، كانت لها إسهامات في الحضارة الإنسانية، إلا أنها لا تزال غير مرتبة ومرقمنة بالنسبة للعائلات التي تملك هذه المخطوطات، لأن عملية الصيانة تحتاج إلي يد فنية متخصصة وعتاد وما إلى ذلك، هو ما أشار إليه عميد جامع الجزائر في مداخلة له خلال مراسيم تسليم مكتبتين وقفيتين تحتوي علي مخطوطات وكتب مطبوعة ذات قيمة علمية وفكرية، الأول تعود للمحامي والباحث الدكتور المرحوم سليمان الصيد وهو مؤرخ وأديب وتضم 13 ألف كتاب و 370 مخطوط في مختلف التخصصات والمجالات ومكتبة الدكتور موهوبي حسان والتي تضم ما يقارب 1000 عنوان تنازلت عنها عائلة الفقيدين  بحضور شيوخ زوايا ، رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وموس اسماعيل رئيس المجلس العلمي لجامع الجزائر، هنية قمراوي مسيرة مكتبة جامع الجزائر ، أئمة وإطارات جامعية و السلطات المدنية والعسكرية ، والشيخ سليمان بن بلقاسم الصيد من مواليد مدينة طولقة ببسكرة جنوب الجزائر عام 1929 شغل عدة مناصب مهنية من أستاذ الحقوق بجامعة منتوري قسنطينة ، قبل ان يلتحق بسلك العدالة عام 1964 وحصل علي لقب عميد، ولقب مؤرخ من خلال إنجازاته العلمية منها كتاب عن تاريخ الجزائر وعلمائها ، وكتب مدرسية موجهة للتلاميذ، أما الشيخ موهوبي فهو استاذ الحديث بجامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية وله مخطوطات ذات قيمة علمية.

أراد الشيخ محمود مأمون القاسم الحسني التنويه بأن الكتاب الورقي والمخطوط الوسيلة العلمية الأكثر أمانا وثقة في نقل المعلومة، وهذا بالمقارنة مع الكتاب الإلكتروني الذي سرعان ما يطاله النسيان والتلاشي، والتنازل علي هاتين المكتبتين من شانها أن إضافة لمكتبة جامع الجزائر التي هي قيد التأسيس بعد أن تنازلت عائلة العلامة عبد الحميد ابن باديس عن مكتبة الشيخ المتكونة من 1800 مؤلف لفائدة مكتبة جامع الجزائر ، علي أن يحرص الخبراء علي دراسة هذه المخطوطات وصيانتها ورقمنتها ، مع فتح ورشات تكوينية متخصصة لطلبة الدراسات العليا ووضع بيبليوغرافيا للمخطوطات الجزائرية داخل وخارج الوطن، وهذا لتوثيق الصلة التاريخية بين الجزائر ومحيطها الإفريقي والعالمي، الاستعانة بجديد البحث العلمي في قضايا جرد المخطوطات وفهرستها وكذا رقمنتها ومناهج بحثها، كما هو الشأن بالنسبة لمكتبة الشيخ نعيم النعيمي التي أهديت لجامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية، فقد سجل التاريخ في حواضر العلم مكتبات علي غرار دار الحكمة ببغداد التي كان يرعاها الخليفة العباسي المأمون، التي تعرضت للحرق بعد سقوط غرناطة وضياع الأندلس، ومكتبة الطاهر بن صالح السمهوني الصنهاجي وفي بجاية ومكتبات أخري في القاهرة والعراق وفاس ومنها الخزانة لملكية للشيخ عبد الحي الكتاني وفي بجاية وكل بلاد المغرب العربي.

الرسالة التي وجهها عميد جامع الجزائر الشيخ محمود مأمون القاسم الحسني إلي من يمتلكون هذه الكنوز العلمية وحتي المقيمين في الخارج إقناعهم بتسليمها لتكون محفوظة في مكتبة الجامع والوصول إلي مليون مخطوط وكتاب لتكون في متناول الطلبة والباحثين وينتفع بها المسلمون في كل البلاد العربية، وجامع الجزائر الأعظم يعدّ مركزا دينيا علميا وثقافيا وسياحيا ، يضمّ مسجِدا ضخما للصّلاة، يسع لأزيد من 32 ألف مصلي وتصلُ طاقة استيعابِه إلى 120 ألف مصلٍ عند احتساب صحنه وباحَاته الخارجيّة، وهو بين المساجد الأكبر والأضْخَم عبر العالم، بل هو ثالث أكبرِ مسجدٍ في العالم بعد الحرَمين الشريفَين بمكة المُكرّمَة والمدينَةِ المنوّرَة، كما يعدّ أكبر مساجد أفْريقيا على الإطلاق، نشير هنا أنه توجد مخطوطات جزائرية في الجامعات العربية على غرار المكتبة الوطنية التونسية، وما تزال آثار العلماء الجزائريين في القارة السمراء خصوصا الذين تركوا بصمات تؤكد على أن الجزائر حاضرة بعد دخول الإسلام المنطقة عن طريق قوافل التجارة وحركة العلوم والمعارف لكنها مركونة في الأرشيف دون إخضاعها للدراسة والبحث، كون هذا العلم يفيد مُرَمِّمِي المخطوطات، ويبين لهم كل الجوانب المادية للمخطوط، كما يفيد المؤرخ بشكل كبير للتعرف على مخطوطات أهمل أو أغفل ذكر تاريخها ومنطقتها أو صاحبها.

***

علجية عيش - الجزائر

يعتبر دمج الكليات الاهلية القريبة من بعضها والمتشابهة في برامجها وسيلة مهمة لانقاذ التعليم الاهلي اذا كان الهدف هو "الارتقاء بمستوى اداء الجامعات الاهلية وتقليص الفجوة مع الجامعات الحكومية". برأي ان هذا الدمج سيؤدي حتما الى تحسين الجودة الاكاديمية من خلال توحيد المناهج الدراسية وتطبيق معايير اكاديمية موحدة، مما يساعد في رفع مستوى التعليم المقدم للطلاب. كما يمكن ان يؤدي الى تقليل التكاليف التشغيلية من خلال تقاسم الموارد والبنية التحتية بين الكليات المدمجة، مما ينعكس ايجابيا على الاجور الدراسية ويجعل التعليم اكثر تكلفة معقولة للطلاب. بالاضافة الى ذلك، يمكن ان يسهم في تحسين الكفاءة الادارية من خلال تقليل البيروقراطية وتوحيد الاجراءات الادارية، مما يسهل عملية اتخاذ القرارات ويزيد من فعالية الادارة ومراقبة الوزارة وتقليل الفساد. علاوة على ذلك، يمكن ان يؤدي الدمج الى تعزيز البحث العلمي من خلال توفير بيئة اكاديمية اكثر تنوعا وتكاملا، مما يشجع على التعاون بين الباحثين وتبادل الافكار والمشاريع البحثية. واخيرا، يمكن ان يسهم دمج الكليات في تحسين سمعة التعليم الاهلي من خلال تقديم برامج تعليمية ذات جودة عالية ومعترف بها عالميا من خلال الاعتمادية الدولية والتصنيفات العالمية، مما يزيد من ثقة الطلاب والجمهور في التعليم الاهلي.

علما ان دمج الجامعات قد مارسته دول عديدة بنجاح، منها فرنسا التي شهدت تجارب ناجحة مثل دمج جامعات ستراسبورغ وبوردو ومارسيليا. الهدف من هذه المبادرات هو خلق مؤسسات تعليمية وبحثية قوية قادرة على المنافسة عالميا. وفي الدنمارك، تم الدمج لتقليل العدد من 12 الى 8 جامعات، وفي استونيا، انخفض العدد من 41 الى 29 جامعة. اما في المانيا، فقد تم دمج جامعة كارلسروه ومركز كارلسروه ليصبحا معهد كارلسروه للتكنولوجيا، مما ساهم في تعزيز البحث العلمي والتعليم العالي في البلاد. كما شهدت الولايات المتحدة ايضا عمليات دمج للجامعات، خاصة في الولايات التي تسعى لتحسين كفاءة التعليم العالي وتقليل التكاليف.

***

ا. د. محمد الربيعي

 

مفهوم «الحكومة الإلكترونية» بات الهدف المشترك لكل مخططات الإصلاح الإداري في عالم اليوم. ولذا؛ فهو عنصر ثابت، في البيانات والتقارير السنوية كافة التي ترصد تطور السوق والإدارة الحكومية، في مختلف بلدان العالم. تركز هذه التقارير على توافر الخدمات الحكومية رقمياً، بمعنى إمكانية إنجازها كلياً أو جزئياً، من خلال شبكات الهاتف والإنترنت. كما ترصد قابلية السوق المحلية لاستيعاب التطور في مجال الاتصال والمعلوماتية، أي إمكانية إنجاز الأعمال وخدمات القطاع الخاص من خلال الشبكات أيضاً.

المؤكد أن جميع الناس أو ربما غالبيتهم، يريدون جعل الحياة والسوق على هذا النحو. فهو يقلص من كلف المعيشة، ويسهل الأعمال، ويقلل من تأثير الفوارق الطبقية على مستوى الخدمات المقدمة لعامة الناس.

لكن ثمة سؤالاً لا بد أن يواجه الذين اختاروا هذه الطريق: هل يأتي التحول إلى نمط الحياة هذا من دون ثمن؟

كنت قد وجهت هذا السؤال إلى بعض الزملاء في مجلس، فأجابني أحدهم بما يشبه النكتة، قال: إننا جميعاً نعرف الثمن، وهو فاتورة الهاتف والإنترنت الشهرية!

- هل حقاً يقتصر الثمن على فاتورة الهاتف؟

- بالطبع لا.

ثمة ثمن ثقافي وآخر اجتماعي، ربما لا يشعر به الإنسان حين تعرض عليه الفكرة للمرة الأولى. لكنه - بالتأكيد - سيرى انعكاساته الواسعة بعد زمن يسير، في نفسه وفي محيطيه العائلي والاجتماعي.

«الحكومة الإلكترونية» تجسيد بارز للإدارة الحديثة الشديدة العقلانية، أي التي تقوم على أنظمة مكتوبة ومحددة، على نحو يختصر الدور الشخصي للمدير، ويحيل كثيراً من الأعمال إلى الآلات، التي لا تفرق بين زيد وعبيد، حتى لو اختلفت مكانتهم الاجتماعية. لا نريد - بطبيعة الحال - المبالغة بإظهار الأمر مثالياً، فثمة على الدوام خطوط مستقيمة وأخرى متعرجة؛ لأننا ببساطة بشر يتعاملون مع بشر آخرين، ولكل منهم خصائص نفسية وذهنية، تختلف عن غيره، ولا يمكن التعامل مع الجميع كما لو كانوا «روبوتات». كذلك، فإن مستوى النمو التقني والاقتصادي، يتفاوت بين بلد وآخر. وهو ينعكس على العلاقة بين الدولة والمجتمع، وطبيعة التفاعل بينهما في كل مجال، بما فيها المجالات التقنية البحتة. نحن إذن لا ندعي أن الأوصاف المذكورة تأتي كاملة أو قريبة من الكمال. الذي يهمني في الحقيقة، هو توضيح الاتجاه العام والرسالة الداخلية، التي ينطوي عليها التحول نحو الحكومة الإلكترونية.

لو أردنا تلخيص هذا التحول، فسوف أجمله في نقطتين: سيادة القانون، والمساواة بين الجميع. سيادة القانون هي أبرز تجسيدات الحياة الحديثة، وهي أحد الفوارق الرئيسية بينها وبين النظام القديم. وهي تقود - بالضرورة - إلى النقطة الثانية، أي المساواة، حيث يتقلص، نسبياً على الأقل، تأثير الانتماء الاجتماعي على نوعية ومستوى الخدمات المقدمة لعامة الناس.

لا أحد - على الأرجح - من القراء سيجد مشكلة في هذا. لكني أدعوهم إلى التعمق أكثر في معنى المساواة، التي تشمل أيضاً تقليص الفوارق بين الرجال والنساء في مجالات كثيرة، اجتماعية وقانونية. أعلم أن شريحة من المجتمع ترحب بهذا التطور، وهي الشريحة التي تميل - عادة - إلى نمط الحياة الحديثة. لكن ثمة شرائح أخرى، أظنها أوسع حجماً، تشعر بالقلق حين ترى الشباب والفتيات، قادرين على اختيار أنماط عيش جديدة، مختلفة جداً عما ألفه الجيل الأكبر منهم سناً. حين تتحول الإنترنت جزءاً محورياً من حياتنا اليومية، فإن مصادر ثقافتنا وطريقة تفكيرنا في الحياة، تتغير بالتدريج. وبالنسبة للجيل الجديد، فإن تأثير الآباء سيكون في حده الأدنى، وسوف تتشكل هويتهم على ضوء الصلات الجديدة التي تربطهم مع العالم، وتوفر لهم المعلومات التي يحتاجون إليها.

هذا إذن مثال واحد على ما قلته في مقال سابق، وخلاصته أن الانتقال إلى الحداثة ليس اختياراً، ولن يكون محدود الأثر.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

ايهما الأولي، الوطن أم (محددات) الدين؟

" ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء" .. هنا يتم الإثبات بأن الوطن هو الأولي الذي يحتضن الشعب بكل قومياته وكذلك أديانه، والدين منزل بكتاب مقدس على الرسول الكريم محمد (ص) .. والمعنى في ذلك أن (الأرض - الوطن) سباق على الكتاب الذي إنزل على النبي الكريم (ص) وسباق على الكتب السماوية الكريمة التي انزلها الله سبحانه على انبيائه الكرام. ولا شائبة في ذلك وليس هنالك من تعارض أو تناقض أو إقصاء في معنى الحجة إلا في غائية (التضخيم والتقزيم).

والمغزى في هذا النص القرآني أن (الأرض - الوطن) يسبق المعتقدات ويسبق الأديان ويسبق المذاهب .. والمحاجة في هذا المنحى تتناول محاولات تضخيم أحدهما على الآخر أو تقزيم بعضها على الآخر أو إقصاءه .. فالأساس هو اسبقية الوطن، أما الدين فيعد في عرف من يفكر بأحادية مجردة، هو معتقد وفكر مقدس، وهذا صحيح . أما الوطن فهو حاضنة للدين، الذي هو معتقد في الذهن، و(الارض – الوطن) فهو الركن المادي الذي تسكنه الشعوب، إلا أن (روح) الدين تبقى، تتشبعها نصوص التشريعات الوطنية والاجتماعية بصورة متوارثة لكي تتحقق المقاربة المتوازنة بين (المادي والروحي) في تماسك الشعب على أرض الوطن .

البعض يضخم الدين على الوطن فيجعل من الوطن ثانوياً ويقول - ان الدين يجب ان يسود عالمياً، ويتجاوز الوطنية ويتجاوز القومية، والبعض الآخر يضخم المذهب على الدين، وهو جزء من الدين، فيجعل من الدين ثانوياً، والبعض الآخر يحمي الوطن من (تضخيم) الدين ويتخذ من المحددات سبيلا سياسياً ذو مدلولات (آيديولوجية – سياسية)، ولا حاجة هنا لإدخال الدين في السياسة، كما لا حاجة لإدخال السياسة في الدين.

إن تصخيم الدين أو المذهب على الوطن له مرمى تقزيم الوطن وتهميشه.. والسياسة هنا تلعب دوراً كبيراً وخطيراً لغايات (استراتيجية) تتعامل بها بعض السياسات .. كما ان حماية الوطن من (محددات) الدين له مغزى منع (قيود)  الدين من تكبيل الوطن وشل حركته التنموية.. والسياسة هنا تلعب دوراً خطيراً يخل بالتوازن الموضوعي بين المادي والروحي، تلك الثنائية الضرورية في بناء الوطن والمجتمع، ومن دون هذا التوازن يمسي المجتمع والوطن يعانيان من الضعف معتلان ولا يقويان على مجابهة المشكلات الداخلية والخارجية.

ولم يقتصر الأمر على الشعوب والأوطان فحسب، إنما يمتد إلى الحضارات القائمة، طالما أن الحضارات جميعها تقوم على ركنين أساسيين من دعامات التقدم والنمو والإزدهار الحضاري هما الركن (المادي) للحضارة والركن (المعنوي) للحضارة، حيث يشترط بينهما التوازن .. فالحضارة الغربية يتآكلها الآن إختلال التوازن من زمن بعيد وهي على مشارف السقوط  رغم انها قطعت اشواطاً بعيدة في مضمار التقدم الصناعي والتكنولوجي الحديث لكنها ابتعدت كثيراً عن الركن الإعتباري وهو الأخلاق  والقيم .

فالتضخيم والتقزيم حالتان خطيرتان تعكسان حالة الدول والشعوب، فمنها المفككة والمتهاوية ومنها المتماسكة والقوية .. الأولى لا مستقبل لها ما دامت تعيش اختلال التوازن والثانية لها مستقبل طالما تمكنت من المحافظة على التوازن بين بنيائها المادي والاخلاقي .

هنالك عالمان احدهما يطلق عليه العالم المتخلف - وهي تسمية ظالمة ومغرضة - طالما كان للمستعمر القوي الناهب لثروات الشعوب علاقة بتخلف هذا العالم اضافة الى غياب عوامل اخرى كالموارد والثقافة والعقل القيادي.. وعالم آخر يطلق عليه العالم المتقدم - وهي تسمية غير دقيقة طالما ان هذا العالم قد طور نفسه من سرقات شعوب العالم وبنى كيانه على حساب العالم الأخر.. والغريب في الأمر تلك التسميات المفروضة كمفاهيم توصف شعوب العالم بـ(عالم متقدم و عالم متخلف) و (عالم صناعي وعالم زراعي) و (عالم أول وعالم ثالث) و (عالم رابع تكنولوجي وعالم ثالث تسويقي).

ولكن من يصنع هذه المفاهيم، ولماذا؟

الغرب الامبريالي هو الذي يصنع هذه المفاهيم لكي تترسخ في عقلية الشعوب فواصل من الصعب كسرها او تجاوزها.. لأن الغرب يخطط بأن يظل العالم الثالث سوق واسعة لتصريف منتجات العالم الرأسمالي وما على العالم الثالث إلا تسويق المنتجات الأولية الى الغرب. هل هذا هو الواقع فعلي؟ كلا، إنه مصطنع بكل تفاصيله.

الغرب ووكلاؤه حاربوا الدين الاسلامي الحنيف بكل الوسائل، وصنعوا لذلك (منابر وخطباء ووعاض ودعاة ومريدين وحلقات فكر وذكر ومؤتمرات وطقوس) لا اساس لها في التاريخ والعادات والموروث الثقافي . والهدف من ذلك إنهاء الدين الاسلامي الحنيف وإنهاء العرب كأمة، لأن الدين الإسلامي الحنيف يمثل روح الأمة - ولا معنى للجسد من غير الروح - .

فلماذا يسعى الغرب والغافلون إلى عالمية الدين ومحو واقعية الاقوام والشعوب على ارض اوطانها ؟ والله سبحانه وتعالى يقول (وخلقناكم شعوب وقبائل لتعارفوا إن اكرمكم عند الله أتقاكم - ص).

ولما الوطن سباق وهو حاضنة للدين الحنيف بقيمه وثوابته،

فلماذا تضخيم هذا على ذاك؟ ومن سوغ وزين لذلك ولماذا يستهدفون قتل روح العرب وهو الإسلام الحنيف على مذبح الدين ومذبح الحداثة .. وبالتالي من هم اعداء العرب والاسلام؟

***

د. جودت صالح

4/ 8 / 2024      

مفهوم (الظمأ الأنطولوجي) من المفاهيم التي اجترحها المفكر العراقي عبد الجبار الرفاعي للتعبير عن ظمأ الانسان الى ما يثري وجوده، وهو بتعبيره "الظمأ للمقدس، أو الحنين للوجود، لأنه ظمأ الكينونة البشرية، باعتبار أن وجود الإنسان وجود يحتاج إلى ما يثريه. فظمأ الانسان في بعده الانطولوجي متجذر فيه ومهمين على وجوده بالكامل، وهو المفهوم الوحيد الذي بإمكانه أن يجيب عن تساؤلاتنا حول سيادة ظاهرة الإرهاب وتفشيها بين الشباب في الغرب وغيره، ممَّن هم في كفاية معاشية، وبعضهم يعيش ترفاً مادياً، وفي هذا الإطار يتساءل "فما الذي يدفعهم للهجرة إلى ولائم الذبح، وحفلات الرقص على أشلاء الضحايا في بلادنا. والتسابق على الانخراط في وحشيّة عبثيّة، تتلذَّذ بالدم المسفوح، وتتهافت على مغامرات مهووسة في العمليات الانتحاريّة؟". ويجيب "إنَّ ذلك يعود إلى ما يعانونه من ظمأ أنطولوجي للمقدَّس، وبسبب رتابة الحياة، وذبولها وانطفاء المتعة التي تمنحها لهم الملذَّات الحسِّية".

والظمأ بما هو تعبير عن الحاجة والنقصان والفقر، فهو ينطلق بالأساس من مفهوم الاستلاب والاغتراب بأنواعه والتي تنبع بالأساس من الاغتراب الميتافيزيقي - الديني، لكن بمنظور يغاير تصورات فيورباخ الذي يرى "أنه لا يوجد تباين واختلاف بين الطبيعة الإلهيّة والطبيعة البشريّة أي أنّ الإنسان نزع عن نفسه صفاته وتنازل عنها لله - أي أن الله أنموذج ذهني من تصورات الانسان ذاته - ونتج عن ذلك اغترابه وضعفه وعجزه واستلابه وقد ربط فيورباخ الاغتراب بالدين واعتبره المصدر الأساس للاغتراب، حيث أن فكرة الله تسلب الإنسان ذاته وذلك لاعتقاده بوجود قوة مفارقة له متميزة ومختلفة، وبذلك فالاغتراب الميتافزيقي هو غير أشكال الاغتراب الأخرى. يقول الرفاعي: "الاغتراب الميتافزيقي كما أصطلحُ عليه، هو اغتراب وجودي عن العالَم الميتافيزيقي. وهو ضربٌ من الاغتراب يختلف عن اغتراب الوعي والاغتراب الاقتصادي والاغتراب الاجتماعي والاغتراب النفسي والاغتراب السياسي. ينشأ هذا الاغتراب عندما يحبس الإنسانُ وجودَه بالوجود المادي الضيق، فيختنق باغترابه عن الوجود الميتافيزيقي. وينتج عن ذلك تمزق الكينونة الوجودية للإنسان وضياعها بتشرّدها عن الأصل الوجودي لكلِّ موجود في عالَم الامكان. يفتقرُ الإنسانُ في وجوده المتناهي المحدود إلى اتّصالٍ بوجودٍ غنيّ لا نهائيّ لا محدود، وعندما لا يتحقّق له مثلُ هذا الاتّصال الوجوديّ يسقطُ في الاغترابِ الميتافيزيقيّ. الاغترابُ الميتافيزيقي يعني أنَّ وجودَ الذَّات البشرية وكمالَها لا يتحقّقان ما دامتْ مغتربةً في منفى عن أصلها الذي هو الوجود الإلهي". نقطة الاختلاف تكمن في أن الخلاص من الاغتراب في الأنواع الأخرى لا يعني الخلاص من الاغتراب الميتافيزيقي، والى هذا يشير الرفاعي: "على الرغم من الآثار الموجعة لاغتراب الوعي والاغتراب الاقتصادي والاجتماعي والنفسي والسياسي، لكن الخلاص من الاغتراب في هذه الأنواع لا يعني الخلاص من الاغتراب الميتافيزيقي". ويرجع الرفاعي أسباب عدم القدرة من الخلاص من الاغتراب الميتافيزيقي "لأن الاغتراب الميتافزيقي اغتراب لكينونة الكائن البشري عن وجودها، وهذه الحالة من الاغتراب تنتج القلق الوجودي إذ بعد أن يفتقد صلته بإلهه يفتقد ذاته". بمعنى أن الكائن البشري لا يمكنه الخلاص من اساس اغترابه، الا إذا استطاع ان يجد تلك الصلة بينه وبين إلهه فيصل الى حالة من التسامي والتصالح مع الذات وحبها. وطبعاً قد تختلف رؤية الانسان للإله فقد يكون الإله عند البعض هو المال او المادة المشبعة لأنواع الغرائز أو هو شخص ما أو عقيدة ما أو رمز ما، لكن ما يقصده الرفاعي بالإله هنا هو الله تعالى كحقيقة مطلقة يصعب إدراكها؛ لذلك فإن البحث عنها يظل دائماً هو الهدف من خلق الانسان للارتقاء بذاته وتساميها في رحلة البحث هذه، ولذلك فهو يقول بخلاص الانسان من أنواع الاغتراب من دون التمكن من الخلاص من الاغتراب الميتافيزيقي إلا في حالة الاقتراب من الحقيقة المطلقة حيث يتحول المنظور"الى الإله من منظور عدائي الى منظور قائم على الحب" بمعنى أن الخلاص من الاغتراب الميتافيزيقي يكمن في الدين بتجلياته الروحية والأخلاقية والجماليّة.

الإنسان كما يشير الرفاعي "كائنٌ متعطِّشٌ على الدوام إلى ما يرتوي به، ومن خلال البعد الأنطولوجي في تصوراته: يمكنه العبور إلى جوهر الدين، وبه يرتوي الظمأ للمقدَّس، وبه يتذوَّق الأبعاد الجماليّة، ويدرك ما يفيضه الدينُ على مشاعر المتديِّن في عالمنا، من جمال"، ومحبة وتسامح نابعة من منظومة تيولوجية مترشّحة عن الدين كحقيقة انطولوجية لها تجلياتها الجماليّة التي تروي ظمأ الانسان الى الكمال، وهي بذلك تختلف عن حقيقة الدين في طابعها الايديولوجي الذي يسيس وجودنا دون أن يثريه.

***

حسن الكعبي – كاتب عراقي

...................

* المشاركة رقم: (10) في ملف: آفاق التجديد في مشروع الرفاعي .. بمناسبة الذكرى السبعين لولادة عبد الجبار الرفاعي.

 

التقطت اللغة الإنجليزية مفهوم الغطرسة والمصطلح الذي يشير إلى هذا النوع من الغرور من اليونانيين القدماء، الذين اعتبروا الغطرسة عِلَّة خطيرة في الشخصية قادر على إثارة غضب الآلهة. في المأساة اليونانية الكلاسيكية، كانت الغطرسة في كثير من الأحيان عيباً قاتلاً أدى إلى سقوط البطل المأساوي. عادة تؤدي الثقة المفرطة بالبطل إلى محاولة تجاوز حدود القيود البشرية واحتلال مكانة إلهية، وكانت الآلهة حتماً تُذل الجاني بتذكير حاد بفنائه.

الغطرسة هي سمة شخصية تنطوي على الفخر المفرط والثقة والأهمية الذاتية. وبناءً على ذلك، يميل الأفراد المتغطرسون إلى المبالغة في تقدير أشياء مثل قدراتهم ومعرفتهم وأهميتهم واحتمال نجاحهم. على سبيل المثال، قد يعتقد الشخص المتغطرس أنه لا يخطئ أبداً، وأن نجاحه مضمون في جميع مشاريعه، أو أنه يستحق أن يكون فوق القانون. وهي سمة إشكالية يمكن أن تؤدي إلى عواقب سلبية خطيرة على الأفراد المتغطرسين وعلى من حولهم، لذلك من المهم فهمها والتعامل معها بفعالية.

السلوك المتغطرس قديم قدم الطبيعة البشرية. ومع ذلك، فإن العوامل التي تجعل الناس يُنظر إليهم على أنهم متعجرفون لم تحظ إلا بقدر قليل جداً من الاهتمام البحثي. الغطرسة هي واحدة من أكثر مظاهر الطبيعة البشرية غير المُحببة والتي لا يمكن القضاء عليها، وهي ظاهرة تمت إدانتها منذ العصور القديمة. كان لدى اليونانيين القدماء مفهوم للغطرسة، والذي يشير إلى الأفعال التي تهين الضحية من أجل متعة أو إرضاء المعتدي. كان يُنظر إلى الغطرسة أيضاً على أنها خطيئة في الديانات الإبراهيمية. تؤكد الأبحاث المعاصرة هذه الأفكار المبكرة التي تبين أن الأشخاص المتغطرسين أقل إعجاباً من قبل الآخرين، ويُنظر إليهم على أنهم أقل اجتماعياً، وأقل ذكاءً، وأقل إنتاجية.

على الرغم من سمعتها السيئة، لا تزال الغطرسة شائعة إلى حد ما حتى يومنا هذا. أظهر استطلاع أجرته منصة Amazon's Mechanical Turk شارك فيه 335 شخصاً أن ما يصل إلى 84% من المشاركين أفادوا بأنهم واجهوا سلوكاً متعجرفاً مرة واحدة على الأقل شهرياً. واعترف ما يصل إلى 46% من المشاركين بالتصرف بغطرسة. من الواضح أن السلوك المتغطرس هو حدث اجتماعي متكرر. لكن لماذا يستمر الناس في التصرف بغطرسة؟

قد تكون إحدى الإجابات المفاجئة على هذا السؤال هي أن بعض السلوكيات يُنظر إليها على أنها متعجرفة على الرغم من أنها لم تكن مقصودة على هذا النحو من قبل الممثلين. وبعبارة أخرى، قد تكون الأخطاء المتعجرفة ناجمة عن المفاهيم الخاطئة لدى الأفراد حول الظروف التي بموجبها يُنظر إلى سلوكهم على أنه متعجرف. أحد مظاهر الغطرسة المثيرة للاهتمام في هذا الصدد هو سلوك الرفض، حيث قد يعتقد الناس خطأً أن طردهم للآخرين سيكون مبرراً بتفوقهم الفعلي في الكفاءة.

قد يتصرف الناس باستخفاف تجاه الآخرين بطرق مختلفة. في بعض الحالات، قد يتجاهل الأفراد الآخرين بشكل سلبي، على سبيل المثال، من خلال عدم النظر إليهم، أو من خلال عدم الاهتمام بما يشعر به شريكهم، وما يفكر فيه ويقوله، أو من خلال عدم الرد عليهم. وفي حالات أخرى قد يكون الفصل أكثر نشاطاً، مثل التحقير من الآخرين، أو مقاطعتهم. إن أحد أكثر أشكال سلوك الرفض هو رفض النصيحة. في الواقع، تظهر الأبحاث أن الناس يميلون إلى تجاهل نصيحة الآخرين في سياقات اجتماعية مختلفة، مثل العلاقات الوثيقة، وعلاقات العمل، وفي مواضيع مختلفة، مثل المسائل الواقعية ومسائل الذوق، حتى عندما لا يكون هذا السلوك مبرراً عقلانياً.

ولكن من الواضح أن ليس كل رفض للنصيحة يشير إلى الغطرسة. وقد يشير إلى سمات أو مواقف أو حالات عقلية أخرى للمنصح مثل الاستقلال أو عدم المصداقية أو الثقة بالنفس.

الغطرسة في أثينا القديمة، هي الاستخدام المتعمد للعنف للإذلال أو الإهانة. لقد تغير دلالة الكلمة بمرور الوقت، وأصبح تعريف الغطرسة على أنها غطرسة متعجرفة تقود الشخص إلى تجاهل الحدود الإلهية المحددة للعمل البشري في عالم منظم.

الغطرسة في اليونان القديمة

المثال الأكثر شهرة للغطرسة في اليونان القديمة كان حالة "ميدياس" Meidias، الذي ضرب الخطيب "ديموسثينيس" Demosthenes في وجهه عام 348 قبل الميلاد عندما كان الأخير يرتدي ثياباً احتفالية ويؤدي وظيفة رسمية. وهذا الشعور بالغطرسة يمكن أن يميز الاغتصاب أيضاً. كانت الغطرسة جريمة على الأقل منذ زمن "سولون" Solon في القرن السادس قبل الميلاد، وكان بإمكان أي مواطن توجيه اتهامات ضد طرف آخر، كما كان الحال أيضاً بتهمة الخيانة أو المعصية. في المقابل، لا يمكن إلا لأحد أفراد عائلة الضحية توجيه اتهامات بالقتل.

إن أهم مناقشة للغطرسة في العصور القديمة هي التي أجراها أرسطو في كتابه البلاغة:

"تتكون الغطرسة من فعل وقول أشياء تسبب العار للضحية... لمجرد الاستمتاع بها. الانتقام ليس غطرسة، بل انتقام. الشباب والأغنياء متعجرفون لأنهم يعتقدون أنهم أفضل من الآخرين".

تتناسب الغطرسة مع ثقافة العار في اليونان القديمة والكلاسيكية، حيث كانت تصرفات الناس تسترشد بتجنب العار والسعي إلى الشرف. ولم يتناسب ذلك مع ثقافة الذنب الداخلي، التي أصبحت مهمة في العصور القديمة اللاحقة والتي تميز الغرب الحديث.

"أوديب" Oedipus الذي أعمى نفسه يُظهر الإفراط في الافتراض أو الغطرسة في ثقته بأنه أفلت من نبوءة "أوراكل أبولو" Apollo's oracle، يرى أنه كان مخطئاً وأنه - تماماً كما تنبأ - تزوج أمه وقتل والده. ولذلك فهو يعمي نفسه.

نظراً لأن اللغة اليونانية تحتوي على كلمة تعني خطأ وهي (hamartia) ولكن ليس الخطيئة، فقد استخدم بعض الشعراء - وخاصة "هسيود" Hesiod القرن في السابع قبل الميلاد و"إسخيليوس" Aeschylus في القرن الخامس قبل الميلاد الغطرسة لوصف العمل غير المشروع ضد النظام الإلهي. أدى هذا الاستخدام إلى المعنى الحديث للمصطلح وتأكيده على المعصية. كثيراً ما يسعى نقاد الأدب اليوم إلى العثور في الغطرسة على "العيب المأساوي" (hamartia) الذي يعاني منه أبطال المأساة اليونانية. هناك شخصيات في الأساطير والتاريخ اليوناني قد يكون مناسباً لها هذا الاستخدام، مثل الملك الفارسي "زركسيس" Xerxes في تاريخ "هيرودوت" Herodotus للحروب الفارسية في القرن الخامس قبل الميلاد، الذي حاول معاقبة البحر لتدمير جسره فوق الدردنيل "أياكس" Ajax في مسرحية "سوفوكليس" Sophocles، الذي طلب من أثينا مساعدة المحاربين الآخرين لأنه لا يحتاج إلى مساعدة إلهية؛ أو أوديب في مسرحية سوفوكليس أوديب ريكس، الذي بقتله والده الحقيقي عن غير قصد والزواج من أمه يحقق نبوءة أوراكل دلفي عنه.

محددات الغطرسة المدركة

عرّف عالم النفس الأمريكي "راسل جونسون" Russell  Johnson وزملاؤه الباحثون في مقال بعنوان "التصرف بتفوق ولكن في الواقع أدنى: ارتباطات وعواقب الغطرسة في مكان العمل" Acting Superior But Actually Inferior?: Correlates and Consequences of Workplace Arrogance الغطرسة بأنها "مجموعة من السلوكيات التي تنقل إحساس الشخص المبالغ فيه بالتفوق، والذي غالباً ما يتم تحقيقه من خلال الاستخفاف بالآخرين". وهكذا، عندما يواجه الناس رفضاً للنصيحة، فإنهم سيعتبرونها غطرسة إذا أرجعوها إلى رغبة الموجه في إثبات تفوقه على المرشد. ما الذي يمكن أن يؤدي إلى مثل هذا الإسناد؟

تحدد الأدبيات المتعلقة بإدراك الشخص عاملين رئيسيين يحددان تصور الناس للأفراد الآخرين: الكفاءة الفعالة والسلوك بين الأشخاص. يبدو أن هذين العاملين لهما أهمية كبيرة في إدراك السلوك الرافض. وعلى وجه التحديد، ما إذا كان رفض النصيحة سيبدو متعجرفاً قد يعتمد على طريقة الفصل بين الأشخاص، وعلى مدى إمكانية تبرير الفصل من خلال كفاءة مقدم المشورة.

إن المؤشر الأكثر وضوحاً للغطرسة هو طريقة الفصل. إذا كانت طريقة الفصل في حد ذاتها مهينة، فسيكون من الصعب تفسيرها على أنها مجرد رغبة في إثبات تفوق الفرد. على الرغم من أن الدراسات السابقة حول مفهوم الغطرسة لم تتلاعب بطريقة التعامل مع الأشخاص المستهدفين بشكل مباشر، إلا أن نتائجها تتفق مع هذا التنبؤ. على سبيل المثال، أظهر عالم النفس الأمريكي "برنارد وينر" Bernard Weiner وزملاؤه في جامعة كاليفورنيا University of California في بحث بعنوان "حسابات النجاح كمحددات للغطرسة والتواضع" Accounts for Success as Determinants of Perceived Arrogance and Modesty أن الأشخاص الذين أرجعوا نجاحهم إلى قدرتهم كان يُنظر إليهم على أنهم أكثر غطرسة من أولئك الذين أرجعوا ذلك إلى أسباب أخرى مثل الجهد أو الحظ أو مساعدة الآخرين. والأهم من ذلك، أن عزو نجاح الناس إلى قدراتهم الخاصة كان يُنظر إليه على أنه محاولة لإثبات تفوقهم على الآخرين. وهكذا، عندما وصفت إحدى النساء نجاحها بطريقة تشير ضمناً إلى تفوقها الثابت، استنتج المشاركون أنها كانت أكثر غطرسة.

قد تشير الكفاءة الأقل للمستشار أيضاً إلى الغطرسة باعتبارها الدافع الأساسي لرفض نصيحته. على وجه الخصوص، إذا رفض أحدهم النصيحة بشكل غير مبرر، فقد يشك الناس في أن الدافع وراء هذا السلوك هو رغبتها في إثبات تفوقها على المستشار، أو عدم رغبتها في الاعتراف بكفاءة المستشار الأعلى (أو المساوية له). وعلى العكس من ذلك، إذا كان من الممكن تبرير رفض النصيحة من خلال الكفاءة العالية للمستشار، فإن تفسير الغطرسة يجب أن يبدو أقل احتمالا.

تتوافق الأبحاث السابقة حول مفهوم الغطرسة مع هذا المنطق. يأتي بعض الدعم غير المباشر لهذه الفكرة من بحث جونسون. وبشكل أكثر تحديداً، طلب الباحثون من الموظفين تقييم غطرسة زملائهم وأدائهم في العمل، كما قاموا أيضاً بقياس ذكاء زملاء العمل. وأظهرت النتائج أن زملاء العمل الأقل ذكاءً والأضعف أداءً تم تصنيفهم على أنهم أكثر غطرسة. وهذا يعني أنه من المفترض أن زملاء العمل الذين لا يمكن تبرير سلوكهم من خلال كفاءتهم كان يُنظر إليهم على أنهم أكثر غطرسة. تأتي الأدلة الأقوى من الدراسات التجريبية التي أجراها وينر وزملاؤه. وجد الباحثون أنه عندما يتم تبرير نجاح الشخص المتفاخر بشكل واضح من خلال قدرته الفعلية، فإنه يُنظر إليه على أنه أقل غطرسة.

أمثلة على الغطرسة

على الرغم من وجود أمثلة لأفراد متغطرسين في كل مجالات الحياة، إلا أن هذه الظاهرة ترتبط بشكل شائع بأولئك الذين يشغلون مناصب في السلطة. على سبيل المثال، غالباً ما يظهر الغطرسة من قبل الرؤساء التنفيذيين وغيرهم من المديرين التنفيذيين، ومن قبل السياسيين، ومن قبل القضاة والمحامين، وأساتذة الجامعات، ورؤساء الأندية الرياضية.

في كل هذه الحالات، تحدث الغطرسة عندما يظهر الشخص مستويات مفرطة من الفخر، أو الثقة، أو الأهمية الذاتية بطرق مختلفة، مثل المبالغة في تقدير قدراته، أو رفض الاعتقاد بأنه يمكن أن يرتكب أي خطأ.

هذه الأمثلة ليست حاسمة لفهم ماهية الغطرسة أو كيفية التعامل معها، ولكنها يمكن أن تكون مثيرة للاهتمام لأولئك الذين يريدون معرفة المزيد حول هذا الموضوع. في بعض الحالات، تتعامل هذه الأمثلة مع الغطرسة ليس بالمعنى النفسي الأكثر حداثة، حيث يُنظر إليها في المقام الأول على أنها سمة شخصية، ولكن بالمعنى الأدبي الأقدم، لا سيما في حالة الأساطير اليونانية، حيث غالبتً ما يُنظر إلى الغطرسة على أنها سمة شخصية. التصرف المفرط في الكبرياء الذي يؤدي إلى سقوط مأساوي.

مثال على الغطرسة من التاريخ

ويظهر مثال تاريخي بارز للغطرسة في حالة "نابليون" Napoleon القائد العسكري الفرنسي الذي غزا روسيا في عام 1812. وانتهى الغزو بتراجع جيش نابليون، بعد أن عانت قواته كثيراً من الشتاء الروسي القاسي ومن تكتيكات الأرض المحروقة التي اتبعتها روسيا، وحرب العصابات. وقد تم وصف غطرسته في الاقتباس التالي:

"إن الأحداث التي وقعت في سهول روسيا خلال الأشهر التالية هي مادة لمأساة يونانية. بدأ المشروع ببراعة، بل وببراعة شديدة؛ وعندما أصبحت البشائر الطيبة سيئة، تجاهل نابليون، وهو أناني للغاية، أهميتها حتى أصبح هو ومضيفه ملتزمين تماماً وبلا رجعة بمهمة محكوم عليها بالفشل. لم تعاقب الآلهة الغطرسة بشدة أكثر من أي وقت مضى" من كتاب "الحملة الروسية، 1812" The Russian campaign, 1812 للكاتب "ميري دي فيزينساك" Mairie de Fezensac الصادر عام 1970.

أمثلة على الغطرسة في الأدب

في مسرحية دكتور "فاوستس" Faustus (لكاتبها كريستوفر مارلو Christopher Marlowe)، يُظهر الطبيب فاوستوس غطرسة عندما يعقد صفقة مع الشيطان، والتي ستمنحه السلطة، ولكنها تلعنه بالجحيم، وعندما يتجاهل الفرص المتاحة له للتوبة حتى فوات الأوان.

في رواية "فرانكشتاين" Frankenstein (بقلم ماري شيلي Mary Shelley) يُظهر العالم فيكتور فرانكنشتاين غطرسة عندما خلق الحياة على شكل وحشه.

في القصيدة الملحمية "الفردوس المفقود" Paradise Lost (لكاتب جون ميلتون John Milton)، تُظهر شخصية الشيطان الغطرسة عندما يحاول التمرد على حكم الله في السماء، وعندما يعلن في النهاية أنه "من الأفضل أن يحكم في الجحيم بدلاً من الخدمة في الجنة".

أمثلة على الغطرسة في الأساطير والتاريخ اليوناني

يرتبط مفهوم الغطرسة ارتباطاً وثيقاً بالتاريخ والأساطير اليونانية، حيث نشأ. وفيما يلي بعض أبرز الأمثلة على الغطرسة في هذه المجالات:

في القصيدة الملحمية الأوديسة (من تأليف هوميروس  Homer)، يتم عرض الغطرسة من قبل الخاطبين "بينيلوب" Penelope (زوجة أوديسيوس)، الذين يغازلونها أثناء غياب أوديسيوس الطويل، والذين يتصرفون بوقاحة في منزلها، وهو الفعل الذي قُتلوا بسببه فيما بعد بسببه. ومع ذلك أظهر أوديسيوس نفسه أيضاً بغطرسة، بعد أن أعمى العملاق والهروب من كهفه، أخبر أوديسيوس العملاق باسمه بتفاخر. ونتيجة لذلك، ينتقم والد العملاق، وهو "بوسيدون" Poseidon (إله البحر اليوناني)، لابنه بمعاقبة "أوديسيوس" Odysseus.

في أسطورة "ديدالوس" Daedalus يحاول الحرفيون الماهرون ديدالوس وابنه "إيكاروس" Icarus الهروب من المتاهة التي بناها ديدالوس لملك كريت "مينوس" Minos  بعد أن قام الملك بسجنهم لمنع ديدالوس من مشاركة معرفته بالمتاهة. يهرب الزوج عن طريق جمع الريش ولصقه في الأجنحة باستخدام الشمع. ومع ذلك، على الرغم من تحذيرات ديدالوس، يظهر إيكاروس غطرسة ويطير عالياً جداً، مما يتسبب في ذوبان جناحيه من الشمس، وعند هذه النقطة يسقط في البحر ويغرق.

في مسرحية "أياكس" Ajax (لـ سوفوكليس Sophocles)، يظهر المحارب العظيم أياكس غطرسة مرتين؛ أولاً عندما يتفاخر بأنه لا يحتاج إلى مساعدة الآلهة في المعركة، ثم عندما يرفض عرض المساعدة الذي قدمته الإلهة أثينا. كعقاب على ذلك، تخدعه أثينا بقتل الحيوانات التي استولى عليها الجيش اليوناني كغنائم حرب. عندما يدرك أياكس ما فعله، يشعر بالخجل ويقتل نفسه في النهاية.

في مسرحية "أوديب ريكس" Oedipus Rex (بقلم سوفوكليس Sophocles )، يغادر أوديب منزله في "كورنثوس"  Corinthفي محاولة لتجنب النبوءة التي أعطتها له الكاهنة "أوراكل دلفي" Oracle of Delphi بأنه سيقتل والده ذات يوم ويتزوج أمه. خلال أسفاره، يقتل رجلاً التقى به، والذي تبين في النهاية أنه والده الحقيقي الذي لم يعرفه أبدًا "لايوس" Laius. حرر أوديب مدينة طيبة من أبو الهول لاحقاً، وكمكافأة له على ذلك، مُنح ملكية طيبة، وتزوج الملكة "جوكاستا" Jocasta التي كانت والدته الحقيقية طوال الوقت. يمكن تفسير العديد من الأفعال على أنها غطرسة في حالة أوديب، بما في ذلك، أبرزها، محاولته الهروب من مصيره، وكبريائه المفرط الذي يمنعه من رؤية الحقيقة، وسوء معاملته للنبي الأعمى "تيريسياس" Tiresias. عندما تظهر الحقيقة، تقتل والدة أوديب نفسها، ويصاب أوديب بالعمى بسبب اليأس.

أخطار الغطرسة

يكمن الخطر الرئيسي للغطرسة في أنها تشوه حكم الناس بطرق مختلفة، مما يجعل الفرد المتغطرس يتخذ قرارات ضارة له وللآخرين الذين يتأثرون بهذه القرارات. على سبيل المثال، بما أن الغطرسة تنطوي على ثقة مفرطة في معارف الفرد وقدراته، فإنها يمكن أن تدفع الناس إلى المبالغة في تقدير قدرتهم على تحقيق نتائج إيجابية في مختلف المجالات، وهو ما يدفعهم إلى خوض أخطار غير ضرورية. وبالمثل، يمكن للغطرسة أن تقود الناس إلى المبالغة في تقدير صحة وموثوقية حدسهم، وبالتالي الإفراط في الاعتماد على تلك الحدس مع تجنب عملية التفكير السليم، خاصة إذا كانت تنطوي على مناقشات مع الآخرين. علاوة على ذلك، ترتبط الغطرسة أيضًا بمجموعة من القضايا الإضافية، مثل التهور والاندفاع، وفقدان الاتصال بالواقع، وعدم الرغبة في النظر في النتائج غير المرغوب فيها، ورفض الشعور بالمسؤولية أمام الآخرين، والصعوبات في مواجهة الحقائق المتغيرة، والاعتماد على صيغة مبسطة للتغيير. النجاح، وضعف الوعي الأخلاقي، وكلها يمكن أن تؤدي إلى نتائج سلبية. أحد المجالات البارزة التي تم فيها التحقيق في أخطار الغطرسة هو المشهد المؤسسي، حيث ثبت أن هذه الظاهرة تؤثر سلباً على عملية صنع القرار لدى المسؤولين التنفيذيين بطرق مختلفة.

علاوة على ذلك، يمكن أن يكون للغطرسة أيضاً تأثير ضار من منظور اجتماعي، لأن الغطرسة غالباً ما تؤدي إلى سلوكيات تجعل الآخرين يشكلون رأياً سلبياً عن الفرد المتغطرس. على سبيل المثال، غالباً ما يتسبب الأفراد المتغطرسون في كراهية أعضاء مجموعتهم لهم، عندما يُظهرون الغطرسة من خلال تقديم ادعاءات صريحة بشأن تفوقهم الذاتي، أو من خلال القول بأنهم أفضل من الآخرين، أو أن مستقبلهم سيكون أفضل، أو عندما يبالغون في تقدير قدراتهم الذاتية.

ما الذي يدفع الناس إلى الغطرسة

السؤال الختامي: ما الذي يدفع بعض الناس إلى الغطرسة؟ لا يوجد سبب واحد للغطرسة، ولكن بشكل عام، من المرجح أن تؤدي السلوكيات التي تضخم كبرياء الشخص أو ثقته أو أهميته الذاتية إلى ذلك، غالباً من خلال عملية تدريجية. على سبيل المثال، في بعض الحالات، يمكن لسلسلة من النجاحات الكبرى المتتالية أن تثير الغطرسة، كما يمكن الإعفاء من القواعد أو الحصول على الثناء المستمر ولا انتقاد.

بالإضافة إلى ذلك، هناك عوامل معينة يمكن أن تجعل الشخص أكثر استعداداً لتطوير الغطرسة. ويشمل ذلك، على سبيل المثال، البيئة الثقافية، أو وجود سمات شخصية مثل النرجسية، والتي تنطوي على الاهتمام المفرط أو الإعجاب بالذات.

أخيراً، لاحظ أنه على الرغم من أن الغطرسة تتم مناقشتها عادةً باعتبارها سمة شخصية، إلا أنها يمكن أن تحدث أيضا على نطاق واسع، بين مجموعات مثل الفرق الرياضية أو الشركات أو البلدان، التي يطور أعضاؤهاً غطرسة جماعية فيما يتعلق بهوية مجموعتهم، بشكل جماعي، بصورة عملية مشابهة لتطور الغطرسة الفردية، وذلك بحسب النوع، أو العرق، أو الدين، أو اللغة، أو الموقع الاجتماعي، أو المكانة العلمية.. الخ.

***

د. حسن العاصي

باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمرك

بقلم: بيتر هيل

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

كان كاثوليكيًا، ثم عقلانيًا، ثم بروتستانتيًا. والأهم من ذلك كله أنه جسد صعود الحداثة العربية العثمانية

إن الشرق الأوسط في القرن التاسع عشر يمثل مفارقة. فمن ناحية، كان هذا الوقت هو الوقت الذي أصبحت فيه فكرة المجتمع العلماني الحديث ممكنة. ومن ناحية أخرى، شهد صعود هويات دينية جديدة مثيرة للانقسام عارضت هذه الفكرة. ففي مختلف أنحاء الأقاليم العربية في الإمبراطورية العثمانية، كان المثقفون يعملون على خلق مجال عام حديث: صحافة دورية نابضة بالحياة، وسلسلة من الجمعيات الثقافية، ومدارس على الطراز الجديد. وكان أتباع الديانات المختلفة ــ المسلمين والمسيحيين واليهود ــ يلتقون في هذه المؤسسات، ويناقشون المجتمع والعلم والثقافة. وبدأ قِلة ــ مثل "المادي" شبلي شمائل ــ في التوصية بالعلم الحديث كبديل للدين. وفي الوقت نفسه، أعلنت الدولة العثمانية المساواة الرسمية بين رعاياها من مختلف الديانات، في عام 1856. وأخذ العديد من المثقفين الأمر على محمل الجد، وناشدوا رفاقهم أن يضعوا الخلافات الدينية جانباً باسم "الوطن" أو "الأمة" للناس من جميع الأديان.

في الوقت نفسه، كانت هذه المقاطعات العربية ــ وخاصة سوريا ولبنان ــ تعاني من صراعات كبرى بين الطوائف الدينية. ففي لبنان، شهدت أربعينيات وخمسينيات القرن التاسع عشر قتالاً مريراً بين الجماعات المسلحة من الطائفتين الدرزية الإبراهيمية والموارنة المسيحيين. وتصاعدت التوترات في مختلف أنحاء سوريا، بسبب تدخل الدول الأوروبية والمخاوف من تنامي قوتها داخل الأراضي العثمانية. وفي عام 1860، بلغت هذه الضغوط ذروتها: ففي العاصمة الإقليمية دمشق نفسها، ذبح حشد من المسلمين المسلحين عدة آلاف من المسيحيين. وفي الوقت نفسه، كان الزعماء الدينيون والمجددون يسعون إلى خلق مجتمعات دينية أكثر تجانساً، ومتميزة بوضوح عن بعضها البعض. ودعا الناشطون المسلمون في الحركة السلفية المبكرة، مثل رشيد رضا، إلى العودة إلى المثال النقي لزمن النبي محمد. وكان رجال الدين الكاثوليك مثل البطريرك مكسيموس مظلوم يهدفون إلى تمييز مجتمعاتهم بشكل لا لبس فيه عن الجماعات المسيحية الأخرى وكذلك المسلمين. وكانت هذه المشاريع، بطريقتها، حديثة مثل مشاريع العلمانية أو العقلانية العلمية. لقد شرعوا في استئصال مجموعة قديمة من الممارسات الدينية - مثل العبادة المشتركة للقديسين والأضرحة، أو المواكب المشتركة والأيام المقدسة - والتي كانت في بعض الأحيان تطمس الحدود بين الأديان.

لقد ترك القرن التاسع عشر في العالم العربي العثماني إرثاً متناقضاً. فقد شهد ظهور نوعين من المشاريع التي استمرت في تقسيم الشرق الأوسط، حتى يومنا هذا: نوع يهدف إلى إقامة مجتمع علماني، والعلم والعقلانية من ناحية، ونوع يصر على الهوية الدينية وانفصال المجتمعات الدينية من ناحية أخرى. فكيف نشأت هذه الاتجاهات ــ المتناقضة على السطح ــ في نفس اللحظة، جنباً إلى جنب؟

إن إحدى الطرق للإجابة على هذا السؤال هي من خلال التاريخ المصغر: وذلك بالنظر إلى قصة فرد واحد لعب دوراً في ظهور كلا النوعين من المشاريع. وكان هذا الشخص هو ميخائيل ميشاقة، الرجل الذي ساعد في تشكيل العقلانية العلمية والإحياء الديني، حيث سار على مساره الغريب عبر القرن التاسع عشر العربي. إن قصة رحلته غير العادية من الشك إلى الإيمان تسلط الضوء على التحول الذي حدث في مكانة الدين في المجتمع العربي العثماني: وهو التحول الذي يساعدنا على رؤية كيف تشابكت جذور العلمانية العقلانية والهوية الدينية الانقسامية.

وصل ميشاقة إلى ميناء دمياط المصري في عام 1817، وكان عمره 17 عامًا. وفي المدينة الصاخبة، التي كانت المركز الرئيسي للتجارة بين سوريا ومصر، وجد عالمًا مختلفًا تمامًا عن بلدة دير القمر الجبلية اللبنانية، حيث نشأ. على طول واجهة النيل، كانت الصنادل تفرغ القهوة أو الأرز أو الكتان مباشرة في مداخل المنازل والقوافل المطلة على الواجهة البحرية. وكان يمر عبر الميناء الفلاحون من فلسطين والأئمة من إسطنبول؛ واليهود من رودس، والمسيحيون الأقباط المصريون في طريقهم للحج إلى القدس. وفي قلب تجارة المدينة كان هناك مجتمع صغير ولكنه ثري من التجار المسيحيين من سوريا: احتل الشاب ميخائيل مكانه بينهم، حيث أقام مع عمه وشقيقه الأكبر اللذين استقرا بالفعل في دمياط، وانطلق لتعلم التجارة وكسب المال.

ولكن كان هناك عيب واحد. ففي كل ربيع كان الطاعون يظهر في المدينة. وفي ذروته كان من الممكن رؤية ما يصل إلى مائة موكب جنائزي يغادر المدينة. واستمر المرض في إصابة وقتل سكان دمياط بانتظام لعدة أشهر، حتى يونيو/حزيران أو يوليو/تموز. وكان يمثل مشكلة للجميع: ولكن لم يكن هناك إجماع على كيفية التعامل معه. ولجأ كثيرون، من المسلمين والمسيحيين، إلى الصلاة؛ ولجأ البعض إلى وسائل سحرية، مثل رسم المربعات أو المخططات على الجانب الخارجي من الغرف والمنازل كحماية. ولجأ آخرون (أو نفس الأشخاص) إلى الوسائل الطبية ــ ولكن الأطباء اختلفوا في الأسباب الحقيقية للطاعون وعلاجه. فبعضهم اعتقد أنه ينتشر باللمس، وآخرون عن طريق استنشاق الهواء الفاسد؛ وبعضهم اعتقد أن دخان التبغ أو الأفيون مفيد للحماية، بينما رفض آخرون هذه العلاجات. وسعى المسيحيون الأثرياء في دمياط إلى حماية أنفسهم من خلال شكل من أشكال "الإغلاق"، فحبسوا أنفسهم في منازلهم أو شققهم لعدة أشهر، وغسلوا كل ما دخل في الماء أو الخل.

يمكن أن تتسبب هذه الردود المختلفة في حدوث نزاعات: فقد يبدو أن اتخاذ احتياطات طبية معقدة ينكر قدرة الله، بينما قد يبدو الاعتماد فقط على السحر أو الصلاة بمثابة إهمال خطير. في المجتمع المختلط لميناء مصر المشغول، كانت الأنظمة العقائدية المختلفة تحتك ببعضها البعض بينما تواجه التحدي المشترك للطاعون. بعد فترة وجيزة من وصول ميخائيل مشاقة إلى دمياط، أصيب أخوه الأكبر أندراوس بالطاعون، لكنه تعافى. لكن فوق باب غرفته، وجد ميخائيل أوراقًا تحمل شعارًا دينيًا، وضعها الكاهن الكاثوليكي المحلي. قيل له إن هذه الأوراق من المفترض أن "تمنع الطاعون من دخول المكان": لكن، كما لاحظ ميخائيل، فقد فشلت بوضوح، لأن أندراوس أصيب بالطاعون على أي حال. قيل له: "لا تكن ضعيف الدين وتزرع الشكوك". ومع ذلك، استمر الشك: هذه التناقضات في التعامل مع الطاعون كانت عاملاً أدى إلى تشكيك مشاقة في الدين بحد ذاته.13 mashaqa

"لقد أصبحت أعتبر كل ما قرأته وسمعته في كتب الطوائف كذباً وضلالاً لا قيمة له على الإطلاق"

العامل الرئيسي الآخر كانت جذوره أيضًا في المزيج الاجتماعي المتنوع بشكل غير عادي في دمياط. لأكثر من عقد من الزمان، كان أغنى تاجر مسيحي في المدينة، باسيل فخر، على اتصال برجال الدين اليونانيين والبحارة، ومع المسافرين والعلماء من أوروبا الغربية، وكان يرعى ترجمة أعمال التنوير الأوروبي إلى العربية. كانت هذه هي المرة الأولى التي تكون فيها العلوم ما بعد نيوتونية أو أفكار المتشككين من الديستيين الفرنسيين متاحة باللغة العربية. وقد قرأ مشاقة بالفعل بعضًا من هذه الكتب في منزله بجبل لبنان، بفضل عمه الذي أحضرها من دمياط، والآن قرأ المزيد. قدم له علم التنوير نظامًا من "القوانين الطبيعية" لشرح وتوقع ظواهر الطبيعة - مثل حركات الكواكب والنجوم - بدقة رياضية. بالمقابل، بدت "القوانين" التي وضعتها الأديان مشكوك فيها وغير عقلانية. حُسِم رفض مشاقة للدين عندما قرأ إحدى ترجمات فخر العربية الأخرى. كان هذا هو "أطلال الإمبراطورية" للفيلسوف الفرنسي كونستانتان-فرانسوا دي فولني، الذي سافر بنفسه عبر مصر وسوريا في ثمانينيات القرن الثامن عشر.

جادل فولني بأن شؤون البشر - مثل العالم الطبيعي - تحكمها "قوانين طبيعية، منتظمة في مسارها، متسقة في آثارها". أما الأديان، فقد كانت تشويهات لهذه القوانين، ناتجة عن سوء فهم للكون، ومستمرة بفضل النخب الكهنوتية التي سعت للحفاظ على قوتها. كما قال مشاقة لاحقًا: "لقد [جئت] لأعتقد أن جميع الأديان كانت أكاذيب، وأن القوانين الدينية قد أوجدها الحكماء، ككابح للجهلاء." مثل فولني، لم يرفض مشاقة فكرة الكائن الإلهي الذي خلق عجائب الطبيعة، لكنه قرر التصرف "وفقًا لهداية النور الطبيعي" الذي "زرعه الله في داخلنا". وعلى الرغم من بقائه ظاهريًا كاثوليكيًا، حتى لا يسبب فضيحة لعائلته وأتباع مذهبه، إلا أنه "أصبح يعتبر كل ما قرأه وسمعه في كتب الطوائف أكاذيب وأوهامًا عديمة الجدوى"، غير مقبولة "للعقل السليم".

في حين انجذب ميشاقا ـ ومن حوله دائرة صغيرة من الشباب الكاثوليك السريان، مثل شقيقه أندراوس ـ إلى موقف ديستي يقوم على "القانون الطبيعي" والعقل، انطلق آخرون في دمياط لمواجهتهم. فكتب الكاهن الكاثوليكي المتعلم سابا كاتب مجموعة من المقالات تهدف إلى دحض "بدع" الماديين القدامى (مثل ديمقريطس وأبيقور) والحديثين (مثل فولتير وهوبز). وفي مواجهة هؤلاء، طرح الحجة المعروفة القائمة على التصميم: فالكون العجيب الذي كشفت عنه العلوم لابد وأن يكون له خالق إلهي. والأمر الجدير بالملاحظة هنا أن سابا كاتب تبنى أسلوباً في الحجج كان غير معتاد في ذلك الوقت في مجال الدفاعيات المسيحية: فبما أن خصومه "لا يؤمنون بأي كتاب مقدس، ولا بإرسال نبي"، فقد كتب: "لقد جعلت القضية الأساسية في الخلاف إثبات العقل وحده". ومثل خصومه من الديستيين أو الملحدين، تبنى كاتب "العقل" ــ وليس النصوص الكتابية أو التقاليد الكنسية ــ كمعيار له.

عاد مشاقة إلى جبل لبنان في عام 1820 - سئمًا من الطاعون والإغلاقات التي "حبستني في بيتي لمدة خمسة أشهر تقريبًا" من كل عام. وبناءً على دور عائلته كتجار ومصرفيين لأمير جبل لبنان بشير الشهابي، سرعان ما وجد ميشقا نفسه بالقرب من مراكز القوة السياسية المحلية. كان لا يزال في العشرينيات من عمره، فتم تعيينه مستشارًا لأمراء حاصبيا، وهي بلدة في جبال لبنان الشرقية، ومنح إيجارات الأراضي الشاسعة. واصل تعليمه الذاتي، فدرس الطب بعد مرض قصير، وكتب أطروحة مبتكرة عن الموسيقى العربية. حافظ على شكوكه بشأن الدين: سجل في مذكراته عدة حوادث سخر فيها من ادعاءات رجال الدين، المسيحيين والمسلمين. كان هذا هو موقفه أيضاً عندما التقى لأول مرة في عام 1823 بشخصية دينية جديدة: جوناس كينج، أحد المبشرين البروتستانت الأميركيين الذين وصلوا مؤخراً إلى سوريا. وعندما سمع مشاقة الشاب "الوسيم" من نيو إنجلاند يتجادل مع الكاثوليك في دير القمر، "ضحك سراً من الجانبين".

جلب المبشرون الإنجيليون إلى سوريا العثمانية جرعة كبيرة من التعالي الغربي: إذ اعتبروا سكانها بشكل عام "غير متحضرين" و"جهلاء"، بحاجة إلى نوعهم الخاص من التنوير الديني. لكنهم جلبوا أيضًا اهتمامًا غير معتاد بالمعتقدات الفردية للأشخاص الذين التقوهم. بينما كانوا يتنقلون حول شرق البحر الأبيض المتوسط، أفادوا بلقاء – بالإضافة إلى المسلمين المؤمنين واليهود والمسيحيين المحليين – من وصفوهم بـ "الكفار"، أفراد غير مقتنعين بأي من الأديان المطروحة. من بينهم كان مهندس مالطي، استشهد بفولني كمصدر لاعتقاده أن "الكتاب المقدس خدعة"؛ والدكتور ماربورغو، الطبيب اليهودي البارز في الإسكندرية؛ والراهب الأرمني يعقوب غريغوري ورتابت، الذي نجحوا في إبعاده عن "آرائه الكافرة والديستية" وتحويله إلى البروتستانتية. بينما كان المبشرون الأمريكيون يتمركزون في مدن سوريا من ثلاثينيات القرن التاسع عشر إلى خمسينيات القرن التاسع عشر، وجدوا مجموعات مشابهة، غالبًا من الشباب المسيحيين، غير الراضين عن كنائسهم المحلية والذين أصبحوا بسرعة "مرتابين تمامًا بشأن موضوع الدين".

لإقناع هذه الجماعات بمزايا الدين والمسيحية البروتستانتية، استعان المبشرون البروتستانت بموضوعات عقلانية في تراثهم. وكما قال الأمريكي بليني فيسك في عام 1823، فإن المسيحية الحقيقية ــ أي البروتستانتية الإنجيلية ــ يمكن اعتبارها "وسيطا ذهبيا" بين "تطرفي الخرافة والكفر": بين معتقدات المسيحيين المحليين والمسلمين وغيرهم، والديسم أو الشك. ولإقناع المسيحيين المحليين ــ وخاصة الكاثوليك ــ غالبا ما استهدفوا في وعظهم وكتاباتهم ما اعتبروه جوانب غير عقلانية من معتقداتهم: عبادة القديسين والصور، وتحول الخبز والخمر إلى جسد ودم المسيح. ولإقناع "الكفار" المتشككين، أكدوا على ما اعتبروه "أدلة" على حقيقة المسيحية. ومثلهم كمثل الكاثوليكي سابا كاتب في عشرينيات القرن التاسع عشر، استندوا في نداءهم إلى هؤلاء الناس ليس على الكتاب المقدس أو التقاليد، بل على "العقل".

ظل "العقل" شعاره: ومع ذلك لم يعد يؤمن بالعقل وحده

في أربعينيات القرن التاسع عشر، شعر ميشاقا بقوة هذا النداء. بحلول ذلك الوقت، كان يعيش في دمشق، متزوجًا ويزدهر كمرابٍ وطبيب وتاجر. لقد شهد تغييرات دراماتيكية في سوريا: احتلالها من قبل جيش حاكم مصر القوي، محمد علي باشا، والتحركات الأولى للعنف الطائفي التي أعقبت انسحاب هذا الجيش، في عام 1841. وقد تأثر ميشاقا بالفعل بمجموعة من العوامل الاجتماعية والفكرية للبحث مرة أخرى عن الحقيقة الدينية، في عام 1842 أو 1843، عثر على كتاب ترجمه إلى العربية المبشرون البروتستانت في مالطا، بعنوان "دليل النبوة". في هذا الكتاب الإنجيلي الأكثر مبيعًا، شرع القس المشيخي الاسكتلندي ألكسندر كيث في إثبات أن النبوءات الواردة في الكتاب المقدس قد تحققت بالفعل - وبالتالي إثبات أن النص يجب أن يكون موحى به من الله. ولتحقيق هذه الغاية، قارن بين الكتاب المقدس والرحالة الأوروبيين المعاصرين إلى الأرض المقدسة، فجمع "الأدلة" على إبادة المدن التي قال الله إنها ستُدمر. حتى أنه استشهد بقصة رحلة فولني لدعم مزاعمه. ولإثبات وجهة نظره، أرفق الكتاب بنقوش - وفي وقت لاحق، صور فوتوغرافية - تقدم دليلاً تجريبياً على أنقاض البتراء أو نمرود أو بابل.

وبعد قليل من التفكير والتردد، وجد ميشاقة أن حجج كيث مقنعة، وخاصة بفضل أسلوبه العقلاني، المختلف تمامًا عن أسلوب "أطباء كنيستي"، الذين يتحدثون عن "أمور ترفضها ... الأسباب السليمة". وبعد بضع سنوات، وبعد مزيد من التردد، وبعد التقرب من المبشرين البروتستانت الأميركيين في بيروت، ومن سوريين آخرين تحولوا هم أنفسهم إلى البروتستانت، ومن القنصل البريطاني في دمشق، اتخذ ميشاكا الخطوة التي لا رجعة فيها بالتحول العلني. في نوفمبر 1848، أعلن إيمانه "بالإيمان المسيحي وفقًا للكتاب المقدس"، وسرعان ما انخرط في جدال مرير مع رئيس الدين المحلي الذي كان يتركه، مكسيموس مظلوم، بطريرك الكنيسة الكاثوليكية اليونانية. في حججه ضد الكاثوليكية ـ التي طبعها له المبشرون البروتستانت في بيروت ـ ندد ميشاكا بـ"الخرافات" غير العقلانية و"الاختراعات الكهنوتية" في العقيدة الكاثوليكية، بعبارات مماثلة لتلك التي استخدمها في وصف الدين بشكل عام في شبابه الديستي. وظل "العقل" شعاره: ومع ذلك لم يعد يؤمن بالعقل وحده. فقد قبل الآن الوحي الإلهي كدليل أكثر أمانًا، مشيرًا إلى أن الأحكام العقلانية غالبًا ما تكون متغيرة وغير مؤكدة.

لقد ظلت المسيحية العقلانية هذه سبباً في دعم ميشاقة طيلة ما تبقى من حياته، رغم الاضطرابات التي شهدتها المنطقة. ففي عام 1860، تعرض ميشاقا، إلى جانب مسيحيين آخرين في دمشق، لهجوم شنه حشد من المسلمين في حلقة دامية من العنف الطائفي. ففر عبر الشوارع مع طفليه الصغيرين: ورغم تعرضه للضرب المبرح، إلا أنه كان محظوظاً لأنه نجا بحياته. ولكنه تمكن من إعادة تأسيس نفسه في دمشق كرجل أعمال مزدهر ونائب قنصل للولايات المتحدة، وورث هذه المناصب عن أبنائه. وحافظ ميشاقا على سمعته الطيبة في التعلم عبر مجموعة واسعة من المجالات، من الرياضيات إلى الموسيقى، وكتب مذكرات ذكية وحيوية عن حياته وعصره، قبل وفاته في عام 1888.

لقد ساهم مشاقة بلا شك في خلق مجال عام حديث باللغة العربية، وفي قضية العقلانية العلمية. وكان من أوائل الأعضاء في الجمعيات العلمية والثقافية في سوريا العثمانية، وكتب لمنشوراتها وللصحافة الدورية المتنامية. وكانت كتاباته الدينية، الموجهة إلى جمهور من مختلف الأديان، رائدة في استخدام الكتيبات المطبوعة في الجدل العام. وكان لعقلانيته حد حاد، كما حدث عندما ندد بالمعتقدات والعادات الشعبية، فضلاً عن الممارسات الدينية، باعتبارها "خرافات".

لكن مشاقة كان أيضًا ناشطًا دينيًا. وسعى جنبًا إلى جنب مع المبشرين الأمريكيين إلى إنشاء شكل عربي من المسيحية الإنجيلية. ساهمت جدالاته المناهضة للكاثوليكية بشكل كبير في تشكيل المجتمع البروتستانتي السوري الصغير ولكن المؤثر، من خلال تقديم المذاهب الإنجيلية في شكل مناسب للجمهور الناطق بالعربية: أعاد المبشرون نشرها حتى القرن العشرين. لقد دخلوا في تقليد من الخلافات بين الأديان، تبناه المدافعون المسلمون والكاثوليك على حد سواء. ونتيجة لذلك، يمكن الآن العثور على نسخ رقمية من هذه النصوص التي تعود إلى القرن التاسع عشر على المواقع الإلكترونية المخصصة لنشر الإسلام، مثل "القرآن للجميع" والمكتبة الإلكترونية الإسلامية الشاملة.

إن هذه الجوانب التي تبدو متباينة من عمل مشاقة وإرثه تشترك جميعها في شيء واحد: تركيزه على "العقل". بالنسبة له، كان هذا هو المعيار الذي يجب أن يتم تبرير كل المعتقدات به - سواء كانت نظرية علمية يمكن اختبارها عن طريق التجربة أو الإيمان بالوحي الإلهي الذي يتجاوز الفهم البشري. وكان لهذا عواقب متناقضة على ما يبدو. كان بإمكان مشاقة أن يفكر في إمكانية كونه بلا دين تمامًا ـ فقد أمضى خمسة وعشرين عاماً في الإيمان بالله ـ وأن يحكم على المعتقدات المختلفة من الخارج، في ضوء العقل. ولكن بعد أن اختار عقيدة معينة، كان عليه أن يصر على أوراق اعتمادها العقلانية، وأن يفصلها بشكل حاد عن "الخرافات" غير العقلانية، وأن يرسم حدودها بشكل أكثر إحكاماً.

ومازال أقطاب العلمانية والإحياء الديني ينشطون الخطاب الثقافي في العالم العربي اليوم

ولم يكن ميشاقة وحده، في سوريا في القرن التاسع عشر، في تبني وجهة نظر ما بعد عصر التنوير للدين باعتباره شيئاً يمكن تبريره بالعقل، أو الإيمان الحقيقي باعتباره "الوسط الذهبي" بين "الخرافة" والكفر. حتى المصلح الكاثوليكي ماكسيموس مظلوم كتب دفاعاً عن عقيدة الكنيسة ضد عالم مسلم من جامعة الأزهر في القاهرة، حيث استند ليس إلى الكتاب المقدس أو التقاليد ولكن إلى "الأدلة العقلانية والفلسفية". وفي العقود التي أعقبت وفاة ميشاقة في عام 1888، أصبحت هذه الطريقة في الجدال حول الدين شائعة بشكل متزايد في المجال العام العربي المتنامي. الآن، يناقش المسيحيون والمسلمون و"الماديون" العلميون على حد سواء العلاقة بين الإيمان والعقل: وكان الجميع يفترضون، مثل ميشاقة، أنهم يجب أن يضعوا أنفسهم في مكان ما على طيف بين الإيمان غير المفكر والعقل الملحد.

لكن هؤلاء الإصلاحيين أنفسهم كانوا أيضًا يؤكدون على الفصل بين المجتمعات والممارسات الدينية. شرع الإصلاحيون المسلمون والمسيحيون - الحركة السلفية المبكرة، المبشرون البروتستانتيون، والكاثوليك الإصلاحيون مثل مظلوم - في إدانة "الخرافات" التي يمارسها عامة الناس. بعض هذه الممارسات كانت تمحو الخطوط الفاصلة بين المجتمعات الدينية، مثل زيارة المسلمين أو الدروز لمزار قديس مسيحي، أو العكس. وكانت أخرى تمزج بين الدين والسحر، أو مثل التجمعات الصوفية الشعبية، تسيء إلى معايير الأخلاق العامة والذوق الرفيع التي كانت تتصلب. لكي يقدموا دياناتهم كعقائد متسقة يمكن للأفراد العقلانيين أن يتبنوها، كان على الإصلاحيين من جميع الأطياف أن يجردوا هذه الممارسات غير التقليدية والمحلية والجماعية وغالبًا ما تكون تزامنية. ومع ذلك، بينما كانوا يفعلون ذلك، كانوا يفككون نسيج الثقافة الدينية المشتركة: نظام هرمي متعدد الأديان وجد فيه المسلمون والمسيحيون واليهود وغيرهم مكانًا. بدلاً من ذلك، ساعدوا في خلق إمكانيات الحداثة المتناقضة: من ناحية، صورة المجتمع العلماني والفضاء العام، التعايش والمساواة بين الأديان؛ ومن ناحية أخرى، مشاريع النهضة الهوياتية "المعقلنة"، المجتمعات الدينية الحصرية والمتجانسة.

تذكرنا الشخصية الفريدة لميخائيل مشاقة بأن هذه الاحتمالات المتناقضة تنشأ من تحول مشترك: نحو تبرير الإيمان الديني من حيث العقل ونحو التركيز على المعتقد الفردي بدلاً من الممارسة الجماعية. لا يزال قطبا العلمانية والتجديد الديني يحركان الكثير من الخطاب الثقافي في العالم العربي اليوم. تذكرنا قصة مشاقة أنهما وجهان للواقع الحديث نفسه: لقد ظهرا معًا، ودخلا في شجار كان أيضًا حوارًا.

(تمت)

***

...........................

المؤلف: بيتر هيل/ Peter Hill: أستاذ مساعد للتاريخ في جامعة نورثمبريا في نيوكاسل أبون تاين، إنجلترا. وهو مؤلف كتاب "اليوتوبيا والحضارة في النهضة العربية" (2020) ودراسة عن ميخائيل ميشاقة، نبي العقل: العلم والدين وأصول الشرق الأوسط الحديث (2024).

*بيتر مؤرخ للشرق الأوسط الحديث، متخصص في العالم العربي في القرن التاسع عشر الطويل. يركز بحثه على الفكر والممارسة السياسية، وسياسة الدين، والترجمة والتبادل الثقافي. كما لديه اهتمام قوي بالتاريخ المقارن والعالمي. قبل انضمامه إلى جامعة نورثمبريا في عام 2019، كان بيتر زميلاً باحثًا مبتدئًا في كنيسة المسيح، جامعة أكسفورد. قام بالتدريس وتصميم وحدات في تاريخ الشرق الأوسط والتاريخ العالمي وتاريخ الرأسمالية. في عام 2023، كان الفائز بجائزة فيليب ليفرهولم في التاريخ. نُشر أول كتاب لبيتر، Utopia and Civilisation in the Arab Nahda، بواسطة مطبعة جامعة كامبريدج في عام 2020. وقد نشر العديد من المقالات حول الترجمة والفكر السياسي والسياسة الشعبية في الشرق الأوسط، في مجلات مثل Past & Present، ومجلة الأدب العربي، ومجلة التاريخ العالمي. وسوف يصدر كتابه الثاني، "نبي العقل: العلم والدين وأصول الشرق الأوسط الحديث"، عن دار نشر وان وورلد في ربيع عام 2024.

 

تحية تقدير وعرفان لعبد الجبار الرفاعي في ذكرى ميلاده السبعين

صدى صوتِ الألماني فريديريك شلايرماخر (1) Friedrich Schleiermacher (1768ـ1834) يتردَّدُ بين جنبات السلسلة الخماسية (2) للدكتور عبد الجبار الرفاعي، فلئنِ اعتمد الرفاعي في كتبه السَّبعة والأربعين القديمة على لغة المنطق والعلم والفلسفة يخاطب العقل، ويشيِّد الفكر، ويبني صروح علوم الأصول والفلسفات والمنطق... فلقد لجأ في كتبه الخمسة الأخيرة إلى لغة الحدس والشعور يخاطب القلب والوجدان والروح، مثلما خاطب شلايرماخر قلبَ ووجدانَ وروحَ النخبة الألمانية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر في مؤلَّفه "عن الدين: خطابات لمحتقريه من المثقفين"، الذي أصدره مركز دراسات فلسفة بترجمة: أسامة الشحماني، عن النسخة الألمانية الأصلية المنشورة 1799 في عصر شلايرماخر. كانت لغة السلسلة الخماسية لغةً شاعرية بويطيقيةً poétique خالية من الحمولات الاصطلاحية والتَّعقيدات المفاهيمية، وأتتْ موضوعاتُها من راهن ما يعيش إنسانُ هذا العصر وظروفه المتشابكة المعقَّدة ممَّا لم تختبره المعرفة الدينية التاريخية... يحدثك فيها رجلُ الدين عن دين الحبِّ والتراحم، وعلاقات الحبِّ والتراحم، ولغة الحبِّ والتراحم، والتَّفكيرِ بالحبِّ، والتَّعامل بالحبِّ والتراحم، وإملاء وعاء النيَّة حبّاً: "الحب يضيء الحياة بمعناها الأجمل، ويبدِّد وَحشة الكائن البشري وغربتَه فيها. الظمأ البشري للحب حاجة لا تتوقف ولا تنتهي" (3)، و"الرحمةُ صوتُ الله، ومعيارُ إنسانيَّة الدِّين. لا يؤتي الدينُ ثمارَه مالم يكن تجربةً إيمانية تنبضُ فيها روحُ المؤمن بالرحمة. الرحمةُ بوصلةٌ توجِّه أهدافَ الدين، فكلُّ دين مفرغ من الرحمة يفتقدُ رسالته الإنسانية، ويفتقرُ إلى الطاقة الملهمة لإيقاظ روح وقلب وضمير الكائن البشري"(4). هذا لعمري جديدٌ في لغة الدِّين، ولغة الفقهاء ومنهم الرفاعي، ومطارحات المتديِّنين، فلغتهم وأسلوبهم ومصطلحاتهم وطرائق عروضهم ترسَّبت عليها أثقال وأسمال موضوعات ومدوَّنات القرون الطويلة، لا تتبدَّل ولا تجد لها طريقاً إلى الحلحلة، وهذا الرفاعي يغرِّدُ في كتبه الخمسة الأخيرة خارج السَّرب بلغةٍ وأسلوب وطريقة عرضٍ جديدةٍ غير مألوفةٍ، تشدُّ انتباهك وتجذبُ لبَّك، فتقرأ ثم تقرأ ثمَّ تتماهى مع سمفونية أدائه.

 يحدِّثُك من غيرِ كلَفٍ ولا تمحُّلٍ عن فضاءات الجمال والحب والفن الرحبة، وتتقاطع كلُّها عنده مع جوهر الدين، فالفنُّ "لغةُ الرُّوح قبل العقل، لغة القلب قبل الفكر" (5)، وعزيزٌ عليه ألاَّ يجد في مجتمعاتنا نصيبَها من تذوق الجمال أو الإحساس به: " تذوقُ الجمال، حالةٌ وجوديةٌ كتذوق الحب والإيمان" (6)، وَيدلُّك على كيمياءٍ وجدانيةٍ للجمال الذي: "لا يجدُ ناطقاً بصوته، أجمل من لغة الفن" (7).

يُبْنَى الإشعاعُ الإيماني الإنساني في مشروع الرفاعي على دعائم ثلاثةٍ: تذوقِ جمالٍ، واستغراقٍ في حب، وتعبيرٍ بفنٍّ، ويُعْلِمُك أنَّ ضميرِه الديني قائمٌ على دعائم ثلاثة "إيمانٍ وأخلاقٍ وإنسانية" (8).

هجرة جبران خليل جبران من لبنان إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وما قام به من عملٍ مزجي وتركيبي بين الثقافتين العربية والأنجلوسكسونية، كان وراء روائعه الأدبية والفنية، وهجرة عبد الجبار الرفاعي من العراق إلى إيران وما قام به من عملٍ مزجي بين الثقافتين العربية والإيرانية، مضيفاً إليها مَزْجَ مدوناتٍ تراثية (كلامية وفقهية وعرفانية)، ومدوَّناتٍ معاصرة (فلسفاتٍ وهرمنيوطيقا، وعلوم ألسنية ونفسٍ واجتماعٍ ومقاربات دلالية)، وخلاصاتِ مطالعاتٍ أدبية وعلمية وفكرية متنوعة...كان وراء تلك العصارة الفسيْفسائية التي تحْكي خريطة سيرِ الإنسان نحو تجانسه مع نفسه وإلهه وبني نوعه ومع محيطه الكوني، برؤية رفاعية، ولغة رفاعية، وطريقةِ عرضٍ رفاعية.

ربما قد تجدُ الأمرَ عادياً إذا ملأ عينَك مثقفٌ حداثيٌّ متميِّزٌ بكمِّ معلوماته ودقَّة تشخيصه وعمق تحليله وتنويع وسائله، أمَا وأنْ يُجِيدَ رجلُ الدِّين هذه التَّوليفةَ، وأن تكون هذه زاوية نظره، فنحنُ أمام عهدٍ جديدٍ من رجال الله الدَالِّين على الله بغيرِ لغة التراث، ومدوَنة الفقهاء العتيقة.

افتقرتِ السَّاحة الثقافية العربية على شساعتها وتنوعها، إلى المواضيع التي تناولها الرفاعي في سلسلته الخماسية، من مثل الرؤية الأنطولوجية للدين التي يقول عنها: "الكتاباتُ العربيةُ التي تدرس الدين في بعده الأنطولوجي شحيحةٌ" (9).

يسعى الرفاعي إلى أن تكون غايةُ مشروعه: "تحقيقَ السعادة" للإنسان، وتكمنُ سعادة الإنسان في شعوره بأنَّه محبوبٌ لذاته، وأغلبُ ما يكون شقاءُ الإنسان نابعاً من الإنسان، لا عن تعمُّدٍ بل عن غفلةٍ وأحياناً عن قلَّة ذوقٍ، فتتوتَّر العلاقات وتتشنَّج وتتصلَّبُ بلا سببٍ وجيه، لذا يحدثك الرفاعي ويستثمر في مثل هذه الحال في "الذكاء العاطفي"، يراه عقلاً ذكيّاً في إدارة العلاقات، بما لا يُزعج الآخر، وـ يعلِّمك ـ إتقان الكلمات الدَّافئة، والمواقف الأخلاقية في التعامل مع الناس (10)، ويُصحح الرفاعي بالذكاء العاطفي حقيقة الإنسان العاطفي الذي هو ليس بالضَّرورة الذَّكيُّ العاطفي، فقدْ يكونُ العاطفي فجّاً سليطَ اللسان (11)، بخلاف الذكيِّ العاطفي الذي له اللَّباقةُ العفويَّةُ، والكلمةُ البلْسمُ... يحدِّثُك عن هذا عبد الجبار الرفاعي رجلُ الدين، أو المثقفُ الديني كما يرتئي أن يسمِّيه، يحدثك بسلاسةٍ وتمكُّنٍ كأحدِ الاختصاصيين النَّفسانيين ثمَّ في نفس الوقت يحدثك كأحد رجال القانون، فهو وإنْ أطلق العنان لتنمية المشاعر والعواطف وتشذيبِها عبر الذكاء العاطفي، فإنَّه أيضاً يستحضرُ وعيَهُ الصَّارم في المواقف الحادَّة التي تتطلَّبُ الكيَّ، فيقول: "لا تتأسَّسُ المجتمعاتُ والدول على الحبِّ وحده، أو الرَّحمة وحدها، أو الشفقة وحدها، أو العطاء وحده. لا تعني الدعوة للحب إلغاء النظم التربوية والتعليمية والإدارية والقضائية والسياسية، ولا النظم والقوانين لبناء الدول... لا تعني الدعوة للرحمة إلغاء القوانين الجنائية والجزائية"(12)، فهو يتماهى مع العاطفة الإنسانية، ويريدُها أصلاً في العلاقات الإنسانية، لكنَّه واعٍ بالطبيعة البشرية التي تجنح للتمرد، فيُلجمها حينئذٍ بالشريعة والقانون والأنا الأعلى... هذا هو النموذج الجديد النادر ندرة المعادن النادرة، ولذا فقد ارتفعت شهاداتٌ واعترافاتٌ لأساتذةٍ وأكاديميين ومثقفين تُقرُّ بأصالة منجز عبد الجبار الرفاعي، فهذا الأستاذ الدكتور عبد الجبار عيسى السعيدي يقول:" وقد كتبت للرفاعي ذات مرة منوها بقدراته الإبداعية: (لعلِّي لا أبالغ إن قلت بأن عملكم الكبير "الدين والظمأ الأنطولوجي" يتمثل في كونه واحداً من أهم تمثلات الحكمة والعقل المعاصرين. إن لكل زمن تمثلاته الفذة، هذه القاعدة التي لا يريد البعض، لضعف أو لحسدٍ، أن يقبل بها، فالحكمة لم تنته عند ابن عربي أو ابن رشد أو ملا صدرا) (13)، وهذه الدكتورة حميدة القحطاني تقول عن قراءتها كتب الرفاعي: "تنعش روحي وتلامس قلبي وتثير فكري وتساعدني على ايقاظ ذهني"، وتقول: "أقرأ كتب الرفاعي على الدوام كي أرفع مؤشر المعنى في أيامي" (14)، ويرى الأستاذ مشتاق الحلو أنَّ منجز الرفاعي ومشروعه يمثل منهجاً متكاملاً وطريقاً ثالثةً مستقلَّةً في الرؤيا، يقول: "الرفاعي صاحب التفسير الثالث والبديل الديني المختلف عن تفسير الحوزة، وتفسير الجماعات الإسلامية للدين" (15)، أما الدكتور محمد حسين الرفاعي، فشهد بأنَّ منجز عبد الجبار الرفاعي ثورة فكرية في الخطاب الديني، من داخل الخطاب الديني، وشبَّهه بِـ "ابن حيان التوحيدي" في التصوف العقلي أو العرفان الفلسفي (16)، وأما الدكتور ياسر عبد الحسين فقد خلع عليه لقب "سبينوزا" في مقال له بعنوان: "سبينوزا العراقي: إعادة بناء مفهوم الوحي عند الرفاعي"، نشره في موقع مؤمنون بتاريخ 09. 11. 2022.

أخيراً، في عام 2014، حلَّ عيد الميلاد الستِّين لعبد الجبار الرفاعي، فخصَّصت مجلة "الموسم" (17)، كتاباً تذكارياً تكريماً وعرفاناً بجهوده وإنجازاته في 757 صفحةً، تضمَّنتْ 105 مقالاتٍ من باحثين وأكاديميين وكُتَّابٍ من مختلف الاختصاصات، ومن مختلف الأوطان العربية والإسلامية، تشيدُ بعمل الرفاعي وإضافاته النوعية للفكر العربي والإسلامي المعاصريْن، ويحتضنُ هذا العام 2024 ذكرى ميلاده السَّبعين آملين من الله الكريم أن يتوِّجهُ بالعافية والسعادة، ومزيد التوفيق لتكملة صرح مشروعه.

***

عبد اللطيف الحاج اقويدر، كاتب جزائري

......................

الهوامش:

(1) مصلح لاهوتي بروتستانتي أنقذ الدين من فخ العقلانية، بإعادة صياغة رؤية جديدة للدين، يتعالى فيها الدين عن المناكفات العقلية والمنطقية، ويتجاوز لغتهما، ويتبنى لغة الروح والقلب وهما لغتا الشعور والحدس.

(2) "الدين والظمأ الأنطولوجي"، و" الدين والكرامة الإنسانية"، و"الدين والنزعة الإنسانية"، و"الدين والاغتراب الميتافيزيقي"، و"مقدمة في علم الكلام الجديد".

(3) عبد الجبار الرفاعي، الدين والكرامة الإنسانية. طبعة 2 مزيدة ومنقَّحة. 2022. دار الرافدين، بغداد، ص 103.

 (4) الدين والاغتراب الميتافيزيقي، طبعة 3 مزيدة ومنقَّحة.  2022. دار الرافدين، بغداد، ص 25.

(5) الدين والكرامة الإنسانية،. صفحة 99.

(6) نفس المصدر. صفحة 99.

(7) نفس المصدر. صفحة 99.

(8) عبد الجبار الرفاعي. الدين والظمأ الأنطولوجي. طبعة 4 منقَّحة ومزيدة. يناير، كانون الثاني 2023. دار الرافدين، بغداد، صفحة 106.

(9) نفس المصدر. صفحة 31.

(10) نفس المصدر. صفحة 106.

(11) نفس المصدر. صفحة 107.

(12) عبد الجبار الرفاعي، الدين والكرامة الإنسانية. صفحة 111.

(13) من الأيديولوجيا إلى تجديد علم الكلام. قراءة نقدية لأنسنة الدين عند د. عبد الجبار الرفاعي. ا. د. عبد الجبار عيسى السعيدي.

(14) قراءة في كتاب "لغة الإيمان عابرة للمعتقدات والفرق". د. حميدة القحطاني. فلسفة القانون الدولي العام. المثقف: 24. 12. 2023.

(15) التفسير الثالث للدين، خارطة طريق عبد الجبار الرفاعي للجيل الجديد. مشتاق الحلو. التنويري altanweeri.net 07. 07. 2024.

(16) كريم جدي في حوار مع الدكتور محمد حسين الرفاعي. صحيفة المثقف، بتاريخ: 11. 05. 2024.

(17) مجلة مصوَّرة تُعنى بالآثار والتراث، وصاحبُها ومديرُ تحريرها هو الأستاذ محمَّد سعيد الطريحي، وتصدر عن: أكاديمية الكوفة بهولندا.

..............................

المشاركة رقم: (9) في ملف: آفاق التجديد في مشروع الرفاعي .. بمناسبة الذكرى السبعين لولادة عبد الجبار الرفاعي.

 

 

في ظلّ عالم يعج بالشكوك والإحباطات يبدو أنّ هناك من اختار أن يعيش في ظلال ثقافة تفتقر إلى الجمال والتنمية، تلك النظرة التي ترى الحياة فوضى محضة يسودها الكآبة والسلبية، تجعل الأفراد يبتعدون عن بديهيات الإبداع والجمال الذي يحيط بهم، فالأحلام تصبح مجرّد خيوط رقيقيه تتلاشى في زحام الواقع الذي يعيشه البشر وكأنها لا تعبّر عن قلوبهم وأرواحهم بل هي مجرّد عواصف عابرة لا تأثير لها.

في رحلة الذات يقول الفيلسوف نيتشة:

"ليس هناك ثمن باهض للغاية مقابل امتلاك نفسك". 

لكن دعونا نتأمل ما حولنا، ففي قلب كلّ إنسان تكمن طاقة إيجابية لا حدود لها، تلك التي تذكرنا بأنّ الله سبحانه وتعالى خلق الكون ببلاغة وعظمة تتجلى في التفاصيل الصغيرة والكبيرة، فكلّ زهرة تتفتح وموجة تتلاطم وسماوات تمتدّ تدلّ على أنّ هناك جمالًا حقيقيًا ينبغي لنا أن نستخلصه من أعماق وجودنا أحيانًا، نحتاج إلى لحظة صمت في وقف نداء الفوضى ونستمع إلى نبضات الحياة تلك التي تنادي بنا لتجعلنا نعي أن كلّ كأس من الماء يحمل في عمقه سرًّا من أسرار الحياة.

الفكرة الأساسية هنا تتعلق بالوعي، فهل البهائم تدرك ما يدور حولها في الفضاء الواسع؟

قد لا تدرك ولكن تعيش بفطرتها، بينما نحن كبشر لدينا عقول وقلب يتناغمان مع الكون، فالتساؤلات التي قد نطرحها على أنفسنا ليست مجرّد أسئلة عابرة بل هي بوابة لفتح آفاق جديدة من الفهم والعلم لتمكيننا من استخدام قدراتنا لتحقيق أدوات التغيير، علينا أن نعيد اكتشاف أنفسنا وليس فقط من خلال ما نراه بل من خلال ما نستطيع أن نكونه، فنحن كأناس نملك الخيار بأن نعيد تشكيل واقعنا وأن نغمره بفيض من الإبداع والجمال الذي يحيط بنا، علينا أن ننظر إلى السماء ونتأمل فيها ونعي أنها تمطر عقولًا قادرة على الإبداع البناء، فالأفكار والرؤى ليست بعيدة عن أرض الواقع بل هي ممكنة، بل ويجب أن نمدّ أيدينا للأحلام ونجعلها حقيقة، فالحياة ليست مجرّد رحلة بل هي لوحة فنية يمكننا رسمها بألواننا واختياراتنا.

في رحلة اكتشافنا للذات، نجد أنفسنا أمام خيارات متعددة قد تدفعنا للاختيار بين السير في دروب الاحتيال على واقعنا أو مواجهة التحديات بإرادة صلبة وعزيمة لا تلين. عندما نختار أن نكون نشطاء في صناعة جذورنا الثقافية والجمالية، ندعو في تجديد وعينا بالأشياء البسيطة التي قد تبدو تافهة، مثل ابتسامة عابرة، أو ضوء الشمس المتسلل عبرة النافذة. هذه اللحظات الصغيرة تتكون منها روائع الحياة بدلًا من الوقوف عند حدود ما يخالف تقاليد الماضي.

إنّ مواجهة هذا التحدي تتطلب منّا جهدًا اجتماعيًا مبنيًا على الفهم والتفهم، حيث يتعافى المجتمع من نزعات العزلة والتشكيك في الذات. علينا بناء الجسور بين الثقافة التقليدية وبين متطلبات الحداثة، هذه الجسور لا تعني التضحية بأنفسنا أو هويتنا بل تعبّر عن تقبّلنا لمختلف أبعاد الوجود التي قد تسهم في تشكيل مستقبل أفضل. كلما أصبحنا أكثر وعيًا بتنويع التجارب والثقافات، كنّا أكثر استعدادًا لاستقبال مختلف الآراء حتى وإن بدت متعارضة.

من خلال التفاعل مع هذا التنوع، يمكننا أن نتعلم كيف ندمج قيم الماضي مع تطلعات الحاضر والمستقبل لنغذي عقولنا بالمعرفة ونطور عواطفنا نحو الجمال والإبداع. يجب أن نكون مستعدين لتوسيع منظورنا وبالتالي الاستفادة من الحكمة المتراكمة عبر الأجيال والموسوعة المعرفية التي تتجاوز حدود الثقافات. فكلّ مكون ثقافي يحمل في طياته ما يستحقّ البذل والمشاركة، حيث يمكن أن نثرى تجاربنا من خلال تفاعلنا مع مختلف الفنون، الأدب، الموسيقى.

ربما يتطلب الأمر منّا أن نكون أكثر عمقًا في فهم ما تحمله الحياة من تعقيدات، لكن إدراكنا أنّ التحديات ليست عائقًا بل دعوة للإبداع سيشكل تحولًا جوهريًا في طريقة عيشنا.  يمكننا أن نفتح أمام أنفسنا آفاقًا جديدة لنفهم كيف يمكننا أن نكون جزءًا من التغيير بدل انتظار حدوثه. هذا الوعي يحتاج إلى كسر حدود الخوف من التجربة والمغامرة.

دعونا نحتفل بجمال الحياة ونخلق عالمًا من الأفكار المتجددة التي تغذي الروح وتعزّز قيمنا كأفراد وجماعات. وبهذا الشكل نكون أبدعنا في ربط ما هو معاصر بما هو تقليدي حتى نصنع معًا شيئًا يستحقّ الاحتفال.

***

فؤاد الجشي

 

(ليست الوثيقة الأداة السعيدة لتاريخ يكون في ذاته وبكامل الحق ذاكرة –  ميشيل فوكو)

في اللحظات السياسية الحرجة والمنعطفات التاريخية الحادة، ينهمك الكثير من المؤرخين وعلماء الاجتماع ومن يقع ضمن خانتهم في المجالات الاجتماعية والإنسانية، في العديد من النقاشات والسجالات والجدالات التي تتمحور حول القضايا والمسائل المتعلقة بأولويات الأدوار وأفضليات الوظائف للعوامل الذاتية والموضوعية المسؤولة عن سيرورات الحراك الاجتماعي وديناميات التطور الحضاري . ومن بين كل القضايا الكبرى والمسائل الملحة التي يكون لدورها وأهميتها القول الفصل في كشف الملابسات المضمرة وتعرية الإشكاليات المحتجبة، تتصدر مباحث (التاريخ) وما يرتبط به ويتمخض عنه الأولوية القصوى ضمن طائفة واسعة ومتنوعة من الأساسيات والضروريات . ذلك لأن فهم واستيعاب أي حدث سياسي أو أية واقعة اجتماعية، لابد من الرجوع مسبقا"الى البدايات والخلفيات والمرجعيات التي أدت الى وقوع الأول وحصول الثانية.

وبالرغم من حقيقة كون ان التاريخ – قديما"وحديثا"- يتصدر الكثير من العلوم والمعارف في تفسير الظواهر الاجتماعية والإنسانية، لجهة إلزام الباحثين بضرورة الرجوع الى الماضي واستقراء ما استجد في مضاميره من علاقات اجتماعية، وتفاعلات حضارية، وصراعات سياسية، وانزياحات قيمية . لكي يصار لاحقا"الى موضعة الأحداث والوقائع ذات الطابع الإشكالي ضمن السياقات التي ساهمت في تأطير طبيعتها وبلورة خصائصها من جهة، ومن ثم قذفها في أتون من التقاطعات والصراعات أو التفاعلات والتخادمات من جهة ثانية، بحيث تكون حصائل التحليل والتعليل والتأويل أقرب الى الواقع المعاش منها الى الافتراض المتخيل . نقول بالرغم من ذلك، إلاّ أن التباين في الرؤى والاختلاف في التصورات حيال دور التاريخ ومكانته في تفسير الحوادث واستخلاص النتائج، قلما حظي باتفاق آراء المؤرخين وإجماع مواقف الباحثين .

وعلى خلفية هذا التشظي في الرؤى والتذرر في التصورات لماهية التاريخ، يمكننا القول ان جلّ مباحث هذا العلم الواسع في اهتماماته والمتشعب في مقارباته، جرى استقطبتها - على نحو لا يخلو من تعسف واختزال – بين اتجاهين شائعين من العوامل التي تتراوح ما بين الذاتية والموضوعية . ففيما يتعلق بالعامل الأول، فقد اعتبرت شخصية (المؤرخ) المنوط به اكتناه ماهية (التاريخ) واستنباط فلسفة حراكه وتطوره، بالاعتماد على مستوى تحصيله الأكاديمي، ونمط تكوينه السيكولوجي، وطبيعة انتماؤه الإيديولوجي، بمثابة قطب الرحى الذي تنبثق عنه وتدور حوله سرديات التاريخ الكبرى، فضلا"عن كرونولوجيا تسلسل محطاته وتعدد انعطافاته . بحيث يصعب على الباحث فهم ديناميات التاريخ واستيعاب سيروراته، كما يستحيل عليه تتبع تحولاته وانزياحاته، دون الاحتكام الى ما يرويه (المؤرخ) من أحداث وما يستنبطه من وقائع وما يستلهمه من دوافع . أما ما يتصل بالعامل الثاني، فقد تركز الاهتمام على دور (الوثيقة) التاريخية وما تنطوي عليه من معلومات وبيانات ومؤشرات وإحصائيات، ليس فقط في الكشف عما يعنيه علم التاريخ بالنسبة لدارس أحداثه ومتقصي أثاره فحسب، وإنما في استبعاد كل ما ليس له صلة بالأدلة (الوثائقية) الملموسة التي من شأنها تأكيد صحة الحدث واثبات صدقية الواقعة . للحدّ الذي دفع برائدي المدرسة المنهجية الفرنسية (لانغلوا وسينوبوس) الى التصريح بان (التاريخ يصنع من وثائق، فحيث لا وثائق لا تاريخ) !  .

وكما هو ملاحظ، فقد نحى البعض من المؤرخين منحا"لا ينسجم وماهية الفعل (التاريخي)، من حيث كونه يقوم على مجموعة واسعة ومتنوعة ومتعاضدة من العوامل الذاتية والموضوعية، التي تجعل من ذلك الفعل ليس فقط واقعا" معاشا"يمور بصراع الارادات البشرية وتقاطع مصالحها وتصالب تطلعاتها فحسب، وإنما يشي بمسارات واتجاهات التطور أو / و التقهقر التي يتوقع للمجتمع المعني الانخراط في أتونها والاندراج في سيرورتها . ولذلك ينبغي على كل من تستهويه الكتابة التاريخية الإقرار بان الحدث التاريخي من العمق والشمول والاتساع والتشابك، بحيث لا يمكن  لشخصية (المؤرخ) وحدها صناعته مهما تحصلت عليه من خصائص ومزايا . كذلك الأمر بالنسبة لـ(لوثيقة)، فهي بالرغم من قيمتها المصدرية وأهميتها التوثيقية، لا يمكنها لوحدها أن تسدّ مسدّ العوامل والعناصر الأخرى التي يبقى التاريخ من دونها مجرد تكهنات وافتراضات لا يسندها واقع ولا يدعمها دليل . ذلك لأن الأول (المؤرخ) سيبقى عرضة لتحكم الأهواء والانفعالات والدوافع، مثلما ان الثانية (الوثيقة) ستبقى صنيعة للسياقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، التي أوجبت صياغتها الحكومات على هذا النحو دون ذاك، وألزمت تحريرها الزعامات على هذا دون ذاك . وكما أشار المؤرخ المصري الراحل (قاسم عبده قاسم) (ان كل ما نظن انه مكتوب هو نص منقول عن نص شفاهي في حقيقة الأمر)، مثلما علق المؤرخ الغربي (ناتالي دافيز) انه (لا يمكن على الدوام أخذ الوثائق بقيمتها الظاهرية) .

وبمجمل القول يمكننا الجزم؛ ان التاريخ هو بالأساس عبارة عن مجموعة من (البشر) يتفاعلون في (مكان) ما، ويتحركون في (زمان) ما، ويعيشون في (بلدان) ما. الأمر الذي يجعل من ماهيته وكينونته تنطوي على خاصية (التفاعل) الجدلي و(التكامل) البنيوي بين عناصره ومكوناته، وليس وفقا"لخاصية (التفاضل) المعياري و(التراتب) الموقعي لتلك العناصر والمكونات.

***

ثامر عباس – باحث عراقي

(قراءة في بنية العقليَّة الاتِّباعيَّة)

إذا كانت (الزيادة في المبنى زيادة في المعنى)، حسب المقولة المتداولة في (عِلم الصَّرف)- المتعلِّق ببناء الكلمة المفردة- فهل ذلك كذلك في (عِلم النحو)، أي في بناء الجملة؟

كلَّا، ليس ذلك كذلك، حينما يُنظَر إلى المعنى البلاغي، لا إلى المعنى النحوي.

هكذا جاءت حاشية (ذي القُروح) على المساق السابق، في تعليقه على بيت الشاعر الأُموي (جَرير بن عطيَّة، -110هـ= 728م):

تَـمُرُّونَ الدِّيارَ ولم تَعُوجوا ::: كلامُكُمُ عَليَّ، إِذَنْ، حَرامُ

 متسائلًا: أقوله: «تَـمُرُّونَ الدِّيارَ» كقوله- لو قال-: «تَـمُرُّونَ بالدِّيارِ»، كما زعم النحويُّون؟

- ما رأيك؟

- النحويُّون غالبًا لا يُدرِكون المعاني البلاغيَّة، وإنَّما انشغالهم بالحروف والكلمات وتركيباتها، وَفق قواعدهم الجاهزة، اللَّهم إلَّا إذا كان النحويُّ من طبقة (عبد القاهر الجرجاني). لأجل ذلك، كثيرًا ما تتفوَّق بلاغة العامَّة على الخاصَّة. أعني بلاغة اللُّغة الدارجة على اللُّغة الرسميَّة، التي تُسمَّى الفصحى؛ لأنَّ الفصحى تمسي وتصبح معلَّبةً في قوالب قديمة، صُنِعت قبل أكثر من ألف سنة، تمنع العقل والذوق والمَلَكات الإنسانيَّة الطبيعيَّة من أن تتصرَّف في اللُّغة قيد شَعرة، وإنَّما هي أوعيةٌ جامدة، تُملأ كما أُعِدَّت منذ مئات السنين، ولا زيادة لمستزيد.

- أهذا سِرُّ تفوُّق العاميَّة أحيانًا على الفصحى في التعبير البلاغي والشِّعري؟

- نعم. فالحُريَّة ما كانت في شيءٍ إلَّا زانته، ولا نُزِعت من شيءٍ إلَّا شانته. حيث وُجِدت وُجِد الإبداع، وحيث قُمِعت قُمِع الإبداع، بل قُتِل الإنسان. وبالعودة إلى السؤال، فإنَّ قولنا: «مررتُ الدِّيارَ» ليس مطابقًا في معناه البلاغي لقولنا: «مررتُ بالدِّيار»؛ فالقول الأخير يشير إلى المرور بها مرور الكرام، والقول الأوَّل يشير إلى المرور بها مرور الأَشِحَّاء! بمعنى أنَّ (مرورك الشيء) يوحي بمُكثك معه، أمَّا (مرورك به)، فيوحي باجتيازك به، لا أكثر.

- أَفْهَمُ من هذا أنك حينما تقول: «مررتُ فلانًا»، فأنت تعني: جئتَه وأقمتَ لديه بُرهة، أمَّا «مررتُ به»، فتعني أنك إنَّما مررتَ من جانبه، كما تمرُّ بمحطةٍ على الطريق وتمضي.

- ولهذا قال الشاعر الأموي (أعشى همدان، -83هـ)(1):

يَمُرُّونَ بالدَّهنا خِفافًا عِيابُهمْ ::: ويَرْجِعْنَ مِن دارِينَ بُجْرَ الحَقائبِ

وتُروى القصيدة التي منها البيت: (للأحوص الأنصاري) أيضًا، و(لجرير).

- يا سلام! بهذا يكون (جرير) قد حقَّق الالتزام بقاعدة النحويِّين، فقال «يَمُرُّونَ بالدهنا»!

- هذا إذا صحَّ أنَّ القصيدة له، وإلَّا سيظل عند النحويِّين من المغضوب عليهم والضَّالين! لكنَّه إنَّما أضاف الباء هنا لمعنى ليس هناك؛ وشتَّان بين البيتَين ومقامَيهما! من حيث إنَّ الموصوفِين لا يقيمون بـ(الدَّهناء)، لكنَّهم يَسْلكون الطريق التي تَـمُرُّ بالدهناء. أمَّا بيت «تَـمُرُّونَ الدِّيارَ ولم تَعُوجوا»، فقد أراد الشاعر أن يثير مفارقةً، بين مرور المكان الذي يُحِبُّه أولئك المخاطَبون، ومع ذلك فإنَّهم لا يتلبَّثون فيه. فهُم قد مرُّوا- ظاهرًا- الدِّيار، التي حَقُّها الحُبُّ والحَنين والمكوث واسترجاع الذِّكريات، غير أنهم- للمفارقة- لم يعوجوا عليها، أي لم يتوقَّفوا، ولم يكترثوا لما تثيره من شجون الذِّكريات. ومن هنا يظهر أن النُّقصان في المبنى النحوي قد زاد في المعنى البلاغي.

- لو كانت الزيادة في المبنى زيادة في المعنى، لَما صحَّ قول العَرَب: إنَّ البلاغة الإيجاز؛ فالإيجاز نقصٌ في المبنى، يؤدِّي إلى الزيادة في المعنى، ولَما صحَّ أن يكون من أبواب البلاغة باب يُسمى (بلاغة الحذف). وهكذا تكون يا (ذا القُروح) قد عُجْتَ بنا على دِيار هذه المسألة، واستفرغت ما كنت تريد أن تقول حول بيت (جرير)، الذي ليس بخطأٍ نحويٍّ، بل تعبيرٌ بلاغي، عن قصد، وإصرارٍ وترصُّد، سواء أُخِذ برواية «تَـمُرُّونَ الدِّيارَ»، كما في كتب النحو، أو برواية «أَتَـمْضُونَ الرُّسُومَ» كما في ديوانه، بشرح (ابن حبيب). فلقد خرج الشاعر في كلتا الروايتين عمَّا يقرِّره النحويُّون من أنَّ (مَرَّ) و(مضَى) فعلان لازمان، لا يتعدَّيان إلَّا بحرف، فعدَّاهما جريرٌ على طريقته «الجريريَّة» بلا حرف جر. ثمَّ جاءت صناعة البيت الاستدراكيَّة، المنسوبة إلى حفيده المغمور، العاقِّ لنحو جَدِّه، (عمارة بن عقيل): «مَرَرْتُمْ بالدِّيار...».

- وستَلحظ، بالفعل، التفريق في الدارجة بين قولنا: «مَرِّيت فلان» و«مَرِّيت بـ..فلان/ على فلان»؛ فالتعبير الأوَّل يعني أنك زُرتَه، وتحدَّثت إليه، وربما أقمتَ عنده بعض الوقت، أمَّا التعبير الآخَر، فلا يدل إلَّا على اجتيازك من عنده.

- فرقٌ بين قواعد النحو وآفاق البلاغة. وذاك التفريق التعبيري، الذي جَرَتْ محاولة إلغائه، بقاعدة اللازم والمتعدِّي، في العَرَبيَّة الفصحى، قد بقي في العامِّيَّة. ومثل هذه القاعدة هو ممَّا ضاقت به العاميَّة؛ من حيث وجدتْه يُقيِّد لسانها، بل يحوِّل الإنسان، الذي ميَّزه الله باللِّسان والبيان، إلى شِبْه إنسانٍ آلي، يُبرمَج بكلام قد لا يعقله، ولا يُعبِّر عن خواطره، ولا يستطيع أن يتعدَّاه؛ قُصارَى أمره أن يلتزم به مغمض العَينَين، حذو الحرف بالحرف، متَّبِعًا سَنَن ما حفظ منه وعنه، فلا يبقَى أمامه منفذٌ إلى أن يبدع قولًا أبدًا، إلَّا في أضيق الحدود، وعلى غرار ما قاله أجداده قبل ألف سنة وخمس مئة، أو أكثر!

- ثمَّ يزيدك الطِّين بِلَّة المتشددون من النُّحاة. مع أنك ستجِد من المعاصرين- وكان ذلك قطعًا في السالفين- من يحفظ ألفيَّة (ابن مالك)، وألفيَّة (ابن معطي)، ولو أُلِّفت مليونيَّة لحفظها، وقبل ذلك يحفظ «الآجروميَّة»، و«التُّحفة السَّنيَّة»، وقد يحفظ كتاب (سيبويه) نفسه، وقد يُدرِّس قواعد النحو في الجامعة، لكنه إذا نطق لا يكاد يُبين، وهو غالبًا لحَّانةٌ لُحَنَة!

- فما الفائدة، إذن، من قواعده تلك؟! ولماذا يحدث هذا؟

-لأنَّ صاحبنا قد شغل حياته بالنظريَّة عن التطبيق، حتى أُقعِد بقواعده، وقد لَحَسَتْ دماغه معادلاتها الرياضيَّة عن اللغة الحيَّة، التي هي الأصل والغاية. ومن طرائف هذا أن أحد المشايخ المبرمَجين على القواعد النحويَّة قدَّم لنا- معشر الجهلة- شرحًا لكتاب «شرح ابن عقيل»، ونشره بصوته على موقع «يوتيوب»، وليته لم يفعل؛ لأنه قد فضح المفارقة التي نتحدث عنها. إذ أخذ يقرأ حاشية (محيي الدِّين عبد الحميد) حول (تنوين الترنُّم)، حيث قال: «تنوين الترنُّم لا يختصُّ بالاسم؛ لأنَّ الشيء إذا اختصَّ بشيء لم يجئ مع غيره.» فكيف قرأ الشيخ النحويُّ المبرمَج هذا الكلام؟ جعل يقرأ ويكرِّر: «إذا اختص بشيء لم يجيء مع غيره!». وبذا لم تعد (لم) تجزم الفعل لدى شيخنا النحويِّ المبرمَج! مع أنَّ هذا الرجل قد بلغت به الثقة بعِلمه أن قام يعلِّم الناس النحو، بل ينشر ذلك في العالمين من خلال سلسلة تسجيلات على شبكة «الإنترنت». وهو بالفعل قد يكون عالمًا بالقواعد النحويَّة، لكنه أجهل باللُّغة العَرَبيَّة من العجم! وإلى جانب عاهة الشيخ النحويِّ المبرمَج هاهنا عاهة أخرى، تتمثَّل في كارثة إملائيَّة، تُصِرُّ عليها المطابع المِصْريَّة؛ فالكتاب الذي قرأ منه تجده مطبوعًا هكذا: «إذا اختص بشىء لم يجىء مع غيره!»(2) الياء في (شيء)، والألف المقصورة- التي هي كرسي الهمزة في (يَجِئ)- تُطبَعان برسمٍ واحد! فبدا الحرفان أمام الشيخ النحويِّ المبرمَج ياءً، وإنْ لم يكونا منقوطين. غير أنَّه لو لم يكن معوَّقًا «نحويًّا»- مع أنه شيخ يتصدَّر لشرح شرح ابن عقيل- فضلًا عمَّا لو كان بدرجة تلميذٍ من تلامذة الكتاتيب القديمة، لميَّز بين الحرفَين، وإنْ كُتِبا له بالهيروغليفيَّة! ويُستدَلُّ من هذا على أمرين مهمَّين:

أوَّلهما، ما نحن بصدده، من فساد التصوُّر المزمِن أنَّ قواعد النحو ذات جدوَى لدارس اللُّغة العَرَبيَّة، ولا جدوَى لها، إلَّا إنْ جُعِلت تطبيقًا. وقد آن للتعليم أن يُدرِك أن تعليم النحو بالطريقة التقليديَّة مضيعة وقت، فهو لم يُفِد مشايخ التعليم النحويِّ أنفسهم.

والأمر الآخَر، أنَّ مَن يُصِر على كتابة (الياء) و(الألف المقصورة) برسمٍ واحد- مراهنًا على تفريق القارئ بينهما- فاسد التصوُّر كذلك، مُفْسِدٌ للسان العَرَب، وقد آن أن يخجل من فعلته؛ فخيرٌ له ولنا لو كتب العَرَبيَّة باللاتينيَّة، أو بالمسماريَّة، أو بالهيروغليفيَّة، من أن يقترف التلبيس على القارئ برسم حرفَين بصورة حرفٍ واحد، فيوقِع شيخًا نحويًّا مبرمَجًا في شَرِّ أعماله، فكيف بمَن دونه؟! وفي مقابل مشايخ النحو المبرمَجين هؤلاء، لو اختُبِر كبار الشعراء في مادَّة النحو، لرسب مبدعوهم، على الأرجح، ونجح الناظمون النائمون منهم، وبتفوُّق!

- لماذا؟

- لماذا هذه إجابتها في مساق الأسبوع المقبل، بحول الله!

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

...................

(1)  (1983)، ديوان أعشى همدان وأخباره، تحقيق: حسن عيسى أبي ياسين، (الرياض: دار العلوم)، 90.

(2)  يُنظَر: (1980)، شرح ابن عقيل، تحقيق: محمَّد محيي الدِّين عبدالحميد، (القاهرة: دار التراث)، 1: 20.

 

تعتبر إدارة الوقت جانبا بالغ الأهمية في أي برنامج تدريبي، ولكن في البيئة الافتراضية، قد يكون إتقانها أكثر تحديا. التدريب الافتراضي، على الرغم من أنه يقدم بديلا ملائما ومرنا للتعلم الشخصي، إلا أنه يأتي بمجموعة من القيود الخاصة به والتي يمكن أن تعيق إدارة الوقت بشكل فعال. سواء كانت مشكلات تكنولوجية، أو نقص التفاعل وجها لوجه، أو صعوبة في البقاء مركزا في بيئة عبر الإنترنت، فإن التدريب الافتراضي يقدم تحديات فريدة من نوعها يمكن أن تؤثر على قدرة الفرد على إدارة وقته بشكل فعال. أحد الأمثلة على قيود إدارة الوقت في التدريب الافتراضي هو الافتقار إلى الملاحظات الفورية والمساءلة. في بيئة الفصل الدراسي التقليدية، يتمكن المدربون من تقديم ملاحظات وإرشادات في الوقت الفعلي، مما يساعد المتعلمين على البقاء على المسار الصحيح وضبط وتيرة التعلم وفقًا لذلك. ومع ذلك، في التدريب الافتراضي، قد يكون هناك تأخير في تلقي الملاحظات، مما يؤدي إلى سوء فهم محتمل أو ارتباك يمكن أن يهدر وقتًا ثمينًا. بالإضافة إلى ذلك، فإن الافتقار إلى التفاعل وجها لوجه يمكن أن يجعل من السهل على المشاركين المماطلة أو تشتيت الانتباه، مما يزيد من تعقيد جهود إدارة الوقت. لمعالجة هذه التحديات، من المهم أن تتضمن برامج التدريب الافتراضي استراتيجيات لتعزيز المساءلة والمشاركة، مثل عمليات تسجيل الوصول المنتظمة والأنشطة التفاعلية وقنوات الاتصال الواضحة.

حقائق رئيسية:

1. المقدمة

2. جدولة المهام الخاصة بك

3. جدولة وقت الفريق

4. أفضل الخطط الموضوعة ...

5. التعامل مع غير المتوقع

6. مراجعة استخدام الوقت

7. الملخص

التفاصيل:

1 – المقدمة:

في عالم اليوم سريع الخطى، أصبحت إدارة الوقت مهارة بالغة الأهمية للأفراد الذين يسعون إلى التفوق في حياتهم المهنية والشخصية. ومع ظهور برامج التدريب الافتراضي، أصبحت الحاجة إلى إدارة الوقت الفعّالة أكثر وضوحًا. ومع ذلك، وبقدر ما قد تكون استراتيجيات إدارة الوقت مفيدة، فمن الضروري التعرف على قيودها المتأصلة في سياق التدريب الافتراضي. في هذا القسم، سوف نستكشف التحديات والقيود التي يواجهها الأفراد عند محاولة إدارة وقتهم بشكل فعال في بيئة التدريب الافتراضية. من خلال الأمثلة الواقعية والأدلة القائمة على البحث، سنلقي الضوء على تعقيدات موازنة الأولويات المتنافسة، ومشتتات التكنولوجيا، والافتقار إلى الحضور المادي الذي يمكن أن يعيق ممارسات إدارة الوقت الفعالة في برامج التدريب الافتراضي. من خلال فحص قيود إدارة الوقت في التدريب الافتراضي، يمكننا اكتساب فهم أعمق للعقبات الفريدة التي يجب على الأفراد التغلب عليها من أجل تعظيم إمكاناتهم التعليمية وتحقيق أهدافهم. من خلال هذا الاستكشاف، يمكننا أيضا تحديد فرص التحسين وتطوير استراتيجيات أكثر دقة لتعزيز مهارات إدارة الوقت في المشهد المتطور باستمرار للتدريب الافتراضي.

2 - جدولة المهام الخاصة:

يعد جدولة مهامك الخاصة جزءًا أساسيًا من إدارة الوقت الفعالة في التدريب الافتراضي. في حين قد يبدو وكأنه مفهوم بسيط، فإن العديد من الأفراد يكافحون في تحديد أولويات مهامهم وإنشاء جدول واقعي. أحد قيود جدولة مهامك الخاصة هو إغراء المماطلة. بدون خطة واضحة، من السهل تأجيل المهام حتى اللحظة الأخيرة، مما يؤدي إلى زيادة التوتر وانخفاض جودة العمل. من خلال إنشاء جدول وتحديد مواعيد نهائية لكل مهمة، يمكنك أن تحاسب نفسك وتتجنب فخ التسويف. هناك تحدٍ آخر عند جدولة مهامك الخاصة وهو المبالغة في تقدير مقدار ما يمكنك إنجازه في إطار زمني معين. من المهم أن تكون واقعيا بشأن قدراتك وأن تأخذ في الاعتبار عوامل التشتيت المحتملة أو الظروف غير المتوقعة التي قد تنشأ. من خلال تقسيم المهام الأكبر إلى أجزاء أصغر يمكن إدارتها وتخصيص الوقت لكل منها، يمكنك التأكد من بقائك على المسار الصحيح وتحقيق أهدافك. بالإضافة إلى ذلك، فإن الافتقار إلى الهيكل في التدريب الافتراضي يمكن أن يجعل من الصعب تحديد أولويات المهام والبقاء منظمًا. بدون الوجود الفعلي للمدرب أو المشرف، من السهل أن تغمرك وتفقد التركيز. من خلال إنشاء جدول مفصل وتحديد أهداف واضحة لكل مهمة، يمكنك التأكد من أنك تحرز تقدمًا وتظل متحفزًا طوال عملية التدريب. في الختام، يعد جدولة مهامك الخاصة عنصرا أساسيا في إدارة الوقت الفعالة في التدريب الافتراضي. من خلال التغلب على قيود التسويف والمبالغة في التقدير والافتقار إلى الهيكل، يمكنك زيادة إنتاجيتك وتحقيق النجاح في أهداف التدريب الخاصة بك. من خلال التحكم في جدولك الزمني وتحديد أولويات مهامك، يمكنك إعداد نفسك للنجاح في التدريب الافتراضي.

3 - جدولة وقت الفريق:

إن أحد أكثر جوانب التدريب الافتراضي تحديا هو جدولة وقت الفريق بشكل فعال. في حين أن استراتيجيات إدارة الوقت يمكن أن تساعد في تحسين الإنتاجية والكفاءة، إلا أن هناك قيودًا متأصلة في تنسيق الجداول عبر مناطق زمنية مختلفة واستيعاب التفضيلات الفردية والتوافر. على سبيل المثال، ضع في اعتبارك فريقا عالميا من الموظفين المشاركين في جلسات التدريب الافتراضية. قد يكون كل عضو موجودًا في منطقة زمنية مختلفة، مما يجعل من الصعب إيجاد وقت مناسب للجميع للاجتماع. يمكن أن يؤدي هذا إلى تعارضات في الجدولة، وتفويت الاجتماعات، وانخفاض المشاركة بين أعضاء الفريق. علاوة على ذلك، قد يكون لدى أعضاء الفريق الفرديين أحمال عمل ومسؤوليات مختلفة خارج جلسات التدريب، مما يجعل من الصعب جدولة وقت مخصص للتدريب الافتراضي. قد يكافح بعض الموظفين لموازنة جلسات التدريب مع مهامهم اليومية، مما يؤدي إلى انخفاض التركيز والفعالية أثناء جلسات التدريب الافتراضية. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن تؤدي الاضطرابات غير المتوقعة مثل المشكلات الفنية أو مهام العمل العاجلة أو حالات الطوارئ الشخصية إلى تعقيد جدولة وقت الفريق للتدريب الافتراضي. يمكن أن تؤدي هذه الاضطرابات إلى تعطيل تدفق جلسات التدريب، مما يتسبب في حدوث تأخيرات وقد يؤثر على تجربة التعلم الإجمالية لأعضاء الفريق. على الرغم من هذه القيود، هناك استراتيجيات يمكن أن تساعد في التخفيف من بعض التحديات المرتبطة بجدولة وقت الفريق في التدريب الافتراضي. يمكن أن يساعد التواصل الواضح وخيارات الجدولة المرنة واستيعاب التفضيلات الفردية في تعزيز التعاون والمشاركة بين أعضاء الفريق. من خلال الاعتراف بهذه القيود ومعالجة تحديات الجدولة بشكل استباقي، يمكن للمؤسسات دعم فرقها بشكل أفضل في تعظيم فوائد التدريب الافتراضي. يمكن أن تؤدي استراتيجيات إدارة الوقت الفعالة والنهج التعاوني للجدولة في النهاية إلى تجربة تدريب افتراضية أكثر إنتاجية وتماسكا لجميع أعضاء الفريق.

4 -أفضل الخطط الموضوعة:

على الرغم من أفضل جهودنا للتخطيط وإدارة وقتنا بشكل فعال في التدريب الافتراضي، فستكون هناك دائمًا عقبات غير متوقعة يمكن أن تعرقل حتى أكثر الجداول تنظيمًا. الحقيقة هي أنه بغض النظر عن مدى دقة تخطيطنا لجلسات التدريب الخاصة بنا، فهناك عوامل خارجة عن إرادتنا يمكن أن تعطل جداولنا الزمنية المصممة بعناية. خذ على سبيل المثال المشكلات الفنية - وهي ظاهرة شائعة في التدريب الافتراضي. بغض النظر عن عدد المرات التي نختبر فيها معداتنا أو نستكشف المشكلات المحتملة، فمن المحتم أن تكون هناك لحظات تفشل فيها التكنولوجيا. من انقطاع الإنترنت إلى خلل في البرامج، يمكن أن تؤدي هذه الاضطرابات إلى إرباك جدول التدريب بالكامل وتركنا نكافح لتعويض الوقت الضائع. علاوة على ذلك، يمكن للعوامل البشرية أيضًا أن تؤثر على قدرتنا على الالتزام بخطط إدارة الوقت. قد يواجه المشاركون صعوبة في فهم المادة، أو طرح أسئلة غير متوقعة، أو طلب دعم إضافي لم يتم أخذه في الاعتبار في الأصل في جدول التدريب. يمكن أن تتسبب هذه الظروف غير المتوقعة في حدوث تأخيرات وإجبار المدربين على التكيف بسرعة، مما قد يؤدي إلى التضحية بمحتوى تدريبي قيم في هذه العملية. بالإضافة إلى ذلك، فإن بيئات التدريب الافتراضية أقل تنظيماً بطبيعتها من الإعدادات التقليدية الشخصية. قد يعمل المشاركون من المنزل أو من مواقع بعيدة أخرى، حيث تكثر عوامل التشتيت ويصبح إدارة الوقت أكثر صعوبة. بدون الوجود المادي للمدرب لإبقاء المشاركين على المسار الصحيح، قد يكون من الصعب ضمان مشاركة الجميع بشكل كامل والاستفادة القصوى من تجربة التدريب الخاصة بهم. في حين أن استراتيجيات إدارة الوقت مثل تحديد أهداف واضحة، وإنشاء جداول مفصلة، وتخصيص وقت للاستراحة مفيدة بالتأكيد، فمن الأهمية بمكان إدراك حدود هذه الممارسات في التدريب الافتراضي. من خلال فهم أن العقبات غير المتوقعة سوف تنشأ حتما، يمكن للمدربين إعداد أنفسهم بشكل أفضل للتكيف والتحول عند الضرورة، مما يضمن أن جلسات التدريب تظل منتجة وجذابة على الرغم من التحديات التي قد تظهر.

في حين أن إدارة الوقت أمر بالغ الأهمية للنجاح في التدريب الافتراضي، يجب الاعتراف بحدوده. إن الطبيعة السريعة للتدريب الافتراضي يمكن أن تجعل من الصعب تحقيق التوازن بين المهام المتعددة وتحديد الأولويات بشكل فعال. ومع ذلك، من خلال التعرف على هذه القيود وتنفيذ استراتيجيات مثل تحديد أهداف واقعية وإنشاء جدول منظم والاستفادة من أدوات التكنولوجيا، يمكن للأفراد التغلب على هذه التحديات وتعزيز إنتاجيتهم في التدريب الافتراضي. من المهم أن نتذكر أن إدارة الوقت ليست حلا واحدا يناسب الجميع، والمرونة والقدرة على التكيف هي المفتاح في التنقل في بيئة التدريب الافتراضي السريعة الخطى. من خلال تبني هذه المبادئ، يمكن للأفراد تعظيم إمكاناتهم وتحقيق أهدافهم. لذا، دعونا نتخذ نهجا استباقيا تجاه إدارة الوقت في التدريب الافتراضي لإطلاق العنان لإمكاناتنا الكاملة والنجاح في هذا المشهد الرقمي الديناميكي والمتطور باستمرار.

5 - التعامل مع غير المتوقع:

يوفر التدريب الافتراضي للأفراد المرونة في إدارة وقتهم وجداولهم، ولكنه يأتي أيضا بمجموعة من التحديات الخاصة به. أحد هذه التحديات هو التعامل مع غير المتوقع. بغض النظر عن مدى دقة تخطيطك لجلسات التدريب الافتراضية، فستكون هناك دائما ظروف أو اضطرابات غير متوقعة يمكن أن تفسد جدولك المعد بعناية. على سبيل المثال، يمكن أن تؤدي المشكلات الفنية مثل مشكلات الاتصال بالإنترنت أو أعطال البرامج إلى تعطيل جلسات التدريب الافتراضية، مما يتسبب في تأخير وإعاقة التقدم. بالإضافة إلى ذلك، قد تنشأ حالات طوارئ شخصية أو مواعيد نهائية غير متوقعة للعمل، مما يجبرك على إعادة ترتيب جدول التدريب الخاص بك في اللحظة الأخيرة. للتعامل بفعالية مع ما هو غير متوقع في التدريب الافتراضي، من الضروري أن تظل مرنا وقابلا للتكيف. بدلا من الإحباط أو الارتباك عند مواجهة الاضطرابات، تعامل معها بعقلية هادئة وحل المشكلات. ابحث عن حلول بديلة أو طرق بديلة لتقليل تأثير الأحداث غير المتوقعة على جدول التدريب الخاص بك. يعد التواصل بصراحة وصدق مع مدربك أو فريق التدريب أمرا بالغ الأهمية أيضا عند التعامل مع التحديات غير المتوقعة. من خلال إبقاءهم على اطلاع بأي مشكلات أو اضطرابات، يمكنك العمل معا لإيجاد حلول وإجراء تعديلات لضمان استمرار التدريب بسلاسة.

في حين أن إدارة الوقت مهمة في التدريب الافتراضي، فمن الأهمية بمكان أيضا أن تكون قادرا على التعامل مع ما هو غير متوقع. من خلال البقاء مرنا وقابلا للتكيف واستباقيا في مواجهة الاضطرابات، يمكنك التغلب على التحديات والاستفادة القصوى من تجربة التدريب الافتراضي. تذكر أن الأحداث غير المتوقعة هي جزء طبيعي من الحياة، ولكن مع العقلية والاستراتيجيات الصحيحة، يمكنك التنقل بنجاح بينها والبقاء على المسار الصحيح نحو تحقيق أهداف التدريب الخاصة بك.

6 - مراجعة استخدام الوقت:

إدارة الوقت هي جانب مهم من برامج التدريب الافتراضي، حيث يمكن أن تؤثر بشكل كبير على فعالية وكفاءة تجربة التعلم. ومع ذلك، من المهم أن ندرك أن هناك قيودا متأصلة في إدارة الوقت في بيئة التدريب الافتراضي. في حين أن تقنيات إدارة الوقت مثل تحديد الأهداف وإعطاء الأولوية للمهام وإنشاء الجداول الزمنية يمكن أن تساعد المتعلمين بالتأكيد على البقاء على المسار الصحيح، إلا أن هناك عوامل يمكن أن تعيق فعاليتها. أحد قيود إدارة الوقت في التدريب الافتراضي هو الافتقار إلى الإشراف والمساءلة. على عكس بيئة الفصل الدراسي التقليدية حيث يمكن للمدرسين مراقبة الطلاب وتقديم ملاحظات فورية، غالبًا ما تفتقر برامج التدريب الافتراضي إلى هذا المستوى من الإشراف. يمكن أن يؤدي هذا إلى المماطلة أو تشتيت انتباه المتعلمين، مما قد يعيق في النهاية جهود إدارة الوقت. هناك قيد آخر يجب مراعاته وهو أنماط التعلم المختلفة وتفضيلات الأفراد. في حين قد يزدهر بعض المتعلمين في بيئة منظمة ذات مواعيد نهائية صارمة، قد يفضل آخرون نهجا أكثر مرونة للتعلم. قد يجعل هذا من الصعب على المدربين إدارة الوقت بشكل فعال لجميع المتعلمين، حيث قد يحتاج كل فرد إلى مستوى مختلف من التوجيه والدعم. بالإضافة إلى ذلك، يمكن لبيئة التدريب الافتراضية أيضا أن تشكل تحديات فنية يمكن أن تؤثر على إدارة الوقت. يمكن أن تؤدي المشكلات الفنية مثل ضعف الاتصال بالإنترنت أو خلل البرامج أو مشكلات التوافق إلى تعطيل عملية التعلم واستهلاك الوقت الثمين الذي كان من الممكن إنفاقه على أنشطة التدريب.

في حين أن إدارة الوقت تشكل جانبا مهما من جوانب التدريب الافتراضي، فمن الأهمية بمكان الاعتراف بالقيود التي يمكن أن تعيق فعاليته. من خلال فهم هذه القيود وتكييف الاستراتيجيات وفقا لذلك، يمكن للمدربين دعم المتعلمين بشكل أفضل في إدارة وقتهم بشكل فعال وفي نهاية المطاف تحسين تجربة التعلم الشاملة.

7 – الملخص:

في حين أن إدارة الوقت تشكل جانبا أساسيا من التدريب الافتراضي، إلا أنها لها حدودها التي لا يمكن تجاهلها. فالطبيعة السريعة لبيئات التدريب الافتراضي يمكن أن تؤدي غالبا إلى زيادة تحميل المعلومات وإرهاق المتعلمين. بالإضافة إلى ذلك، فإن الافتقار إلى التفاعل وجها لوجه يمكن أن يجعل من الصعب على المدربين مراقبة المتعلمين ومساعدتهم على إدارة وقتهم بكفاءة. وعلى الرغم من هذه القيود، فهناك استراتيجيات يمكن تنفيذها للتخفيف من التحديات التي يفرضها إدارة الوقت في التدريب الافتراضي. فمن خلال تحديد التوقعات الواضحة، وتقديم الملاحظات المنتظمة، وتعزيز بيئة التعلم الداعمة، يمكن للمدربين مساعدة المتعلمين على إدارة وقتهم بشكل أفضل وتحقيق أهداف التدريب الخاصة بهم. وفي النهاية، يعتمد نجاح برامج التدريب الافتراضي على إيجاد التوازن الصحيح بين تعظيم كفاءة الوقت ودعم الاحتياجات الفردية وأنماط التعلم للمشاركين. ومن خلال الاعتراف بحدود إدارة الوقت في التدريب الافتراضي وتنفيذ استراتيجيات فعالة لمعالجتها، يمكن للمدربين خلق تجربة تعليمية أكثر جاذبية وتأثيرا لجميع أصحاب المصلحة المعنيين.

في حين أن إدارة الوقت مهارة قيمة في التدريب الافتراضي، إلا أنها ليست خالية من القيود. إن العوامل مثل الصعوبات التقنية، والمشتتات، واختلاف المناطق الزمنية يمكن أن تؤثر جميعها على فعالية استراتيجيات إدارة الوقت. ومع ذلك، من خلال الاعتراف بهذه القيود وتنفيذ تقنيات إدارة الوقت المرنة والقابلة للتكيف، لا يزال التدريب الافتراضي مسعى ناجحا ومنتجًا. من الأهمية بمكان أن تستثمر المنظمات في تدريب موظفيها على تقنيات إدارة الوقت الفعّالة للتخفيف من هذه القيود. مع التحضير والدعم المناسبين، يمكن أن يكون التدريب الافتراضي أداة قيمة حقا في مكان العمل الحديث. والمفتاح هو التعامل مع إدارة الوقت بإبداع وذكاء، وإيجاد طرق للتغلب على التحديات التي قد تنشأ. معا، يمكننا تعظيم إمكانات التدريب الافتراضي وتحقيق أهدافنا بكفاءة وفعالية.

***

نور محمد يوسف – كاتبة ومترجمة سورية

.....................

المراجع

Choudhury, M. (2018). Time Management: A Comprehensive Guide for Online Training. 2nd edition. New York: Routledge.

Ramsay, D. (2020). The 7 Habits of Highly Effective Time Managers in Virtual Training. Harvard Business Review. Retrieved from https://hbr.org/.

Smith, J. (2019). The Impact of Time Management Strategies on Virtual Training Performance. Journal of Virtual Training, 15(2), 25-40.

Mancini, Christopher. "The Power of Time Management in Virtual Training." Training Magazine, 2020. - Covey, Stephen R. The 7 Habits of Highly Effective People. Simon & Schuster, 1989.

Griffith, C. P., & Peterson, M. (2020). Virtual Training Basics (ASTD Training Basics). Association for Talent Development. Hendry, G., & Kloft, M. (2021).

Time management strategies for virtual learners. American Society for Training and Development. McKee, A. (2019).

Virtual Training Tools and Templates: An Action Guide to Live Online Learning. American Society for Training and Development.

Farkas, D. K., Parris, P. E., & Beers, M. J. (2012). Time management strategies for better virtual training. American Journal of Virtual Training, 24(3), 37-51.

Johnson, S. L., & Smith, L. G. (2016). The impact of time management on virtual training success. Journal of Online Learning, 19(2), 58-72.

Nigel P. Melville, Ken Johnston, Scott Gurbaxani. “The Role of Time in Online Training.” Communications of the ACM, 48(8), 69-72 (2005).

Gilly Salmon. “E‐Moderating: The Key to Teaching and Learning Online.” (Routledge, 2000).

Susan Straus. “Learning from e-Learning: Opportunities and Challenges of Virtual Training.” (Dorchester Publishing, 2012).

Ertmer, P. A., & Newby, T. J. (1993). Behaviorism, cognitivism, constructivism: Comparing critical features from an instructional design perspective. Performance improvement quarterly, 6(4), 50-72.

Garrison, D. R., & Vaughan, N. D. (2017). Blended learning in higher education: Framework, principles, and guidelines. John Wiley & Sons.

Pavliscak, P., & Hogshead, H. (2018). Time & technology. Journal of Usability Studies, 13(3), 144-150.

Sanfelippo, F. (2019). Time management strategies in virtual training. Journal of Virtual Training, 12(2), 68-81.

من أرض الرافدين إلى المحيط بين مسرات التنوير ومخاض بناء العقل المسلم

تعد المساهمة التنويرية للمفكر العراقي الدكتور عبد الجبار الرفاعي، المولود بالعراق سنة 1954م، إثراء وتثويرا للحوار الفكري والديني حول الإسلام وتصوراته ومكانته في العصر الحديث. وهي صيرورة وأفق مفصلي في تاريخ النسق النقدي الإسلامي المعاصر، مما جعل تجربته مميزة عن بقية المفكرين من معاصريه. بالإضافة لكونه ساهم مساهمة جادة وملحوظة في إثراء المكتبة الإسلامية في مجالات ومسارات علمية مختلفة، كالكتابة الفكرية والفلسفية والكلامية، والنشر والترجمة والإشراف على المجلات المتخصصة، والتي نذكر من أهمها (قضايا إسلامية معاصرة). وقد تلقف معظم القراء والباحثين كتاباته بقبول حسن، لكونها تعالج معضلات فكرية حديثة بأسلوب لغوي أنيق غير متكلف، وبرؤية متكاملة منسجمة، أسها سعة الاطلاع على المعرفة الإسلامية مع استيعاب للمعارف الغربية.

تعرف عموم الباحثين المغاربة على كتابات الرفاعي من خلال إصدارات مركز فلسفة الدين الذي يتخذ مقره ببغداد، وله إصدارات متنوعة تهم قضايا الفكر الديني وعلم الكلام الجديد وفلسفة الدين، كما تصدر عن المركز نفسه مجلة “قضايا إسلامية معاصرة” وبذات النفس والتوجه، وهي متميزة باستكتابها أسماء من مختلف التوجهات والحساسيات الفكرية، ليساهموا بمقالاتهم وأبحاثهم في محاور المجلة المتنوعة، وهو توكيد واقعي على أهمية الايمان بالاختلاف واستيعاب الآخر، من خلالها وما تنشره من ترجمات تعرفنا  كذلك على فلاسفة من الشرق والغرب، وبصمت بفتح نافذة للحوار والاختلاف بين الانتماءات العقدية والفقهية والفكرية في السياق الإسلامي…. وفي زمن صعب عرف الكثير من الاضطرابات وسوء الفهم والتواصل بين أبناء الثقافة الإسلامية باختلاف توجهاتهم.

قدم عبد الجبار الرفاعي جهدا ملحوظا في تفسير الكثير من المضار التي أثرت على الفكر الديني في مراحله التاريخية ليفقد فاعليته،كما عَدَّدَ الأعطاب التي أصابت النهضة الإسلامية الحديثة، والتي رافقت مشاريع أغلب النهضويين منذ قرن ونيف، مما جعلها تنتقل من جيل إلى جيل بما صاحبها من نواقص ورؤى وأسئلة مشوشة، لتورث تلك السمات لبقية الباحثين من اللاحقين وتشكل الكثير من قناعاتهم ومدار تفكيرهم من جديد، فلم يقدروا على تجاوزها أو تفكيك مثالبها.

وبحسب تتبعي لبعض كتاباته يبدو أن مشروعه مؤسس على دفتين: التنوير، ثم إعادة تشكيل العقل المسلم، وصيرورة اشتغاله على مفاهيم شائكة في الفكر الإسلامي سواء من خلال الكتب المنجزة، أو من خلال الاعتناء بمضامين ومحاور بعض إصدارات مجلة “قضايا إسلامية معاصرة” التي تدور ذلك المدار، ويبدو كذلك أن هم هذا الإصلاح والبناء الأخلاقي للمجتمع المسلم سكن وجدانه منذ بدايات إبداعه، وأشرك فيه الكثير من الأسماء بمختلف حساسياتها الفكرية والعقدية والمنهجية، في إطار تكامل معرفي كان من السباقين لتنزيله.

ويسائل الرفاعي مدونتنا الأخلاقية التي يعتبرها شحيحة مقارنة بالكثير من مدوناتنا الأخرى، ويفكك الثنائيات الضدية التي تسكن تراثنا، والتي تراكمت على مدى قرون كاملة، وجعلت مجتمعنا مضطربا غير مستوعب لذاته واختلافاته، إنه منهك بذاته وبسوء فهم التنوع وسوء تدبير الاختلاف، الذي هو جزء من كينونته، لتنفجر بؤر العنف واللاتسامح هنا وهنالك في أطرافه لتصل لمراكز المدن، وتتمدد لتغتال المفاهيم السامية التي زخرت به ثقافتنا. إن هذا المأزق الثقافي والاجتماعي والديني بدأ في تفكيك المعنى الوجودي للدين، ليفقد آفاق الارتفاع بالإنسان والتسامي به، ويوقعه في دوامة اللامعنى، وهو ما أحدث شرخا كبيرا وجروحا غائرة في المجتمعات العربية والإسلامية، والتي لايزال تأثيرها مستمرا إلى الآن.

 يتطلع الرفاعي لإعادة بناء شبكة المفاهيم التي تؤطر تصورنا للحياة بخلفية دينية، لتجاوز هذه الإشكالات التي تحصر الدين في الغلبة ومصادرة الانسان لخيرية أخيه الانسان، مقابل الأيديولوجيا، واختزال معنى الانسان في ضيق الانتماء. ويعترف الرفاعي في كثير من كتاباته باعتزازه بمواقف ورؤية الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي على - بوجه الخصوص - للتدين، الذي كان يصرح، قائلا:”أن الشفقةَ على عباد الله أحقّ بالرعاية من الغَيْرَةِ على الله”، واستمد منه شيئا من رؤيته لسعة الدين وعلاقة الانسان بالإنسان، ليرى أن الدين له نزعة إنسانية عالية، وينقل بذلك الدين من ضيق التفسير السلفي السني/ الشيعي. ويرافع لإعادة تعريف الدين وكذلك الانسان وفق هذا المنظور. ليستعيد الدين دوره فيشكل أفق المعنى من جديد، ويبعث على الطمأنينة والسكينة، ويمد الوجود الإنساني بمعاني جديدة للأخلاق والجمال والحياة، لتتجاوزه ككائن له “ظمأ وجودي” للدين لتشكل بعدها امتدادات عظيمة تلامس الحضارة والثقافة والمجتمع.

 إن الرفاعي يسعى لإعادة تشكيل فهمنا للدين، ويحاول حصار التأويلات التي تفضلها المجموعات المتطرفة، والتي تدعو للموت وتقيم دعوتها على النصوص المقدسة، ويبين من خلال كتاباته المتنوعة؛ قدرتنا على مزاحمة هؤلاء بتأويلات أخرى ممكنة، ليمد فيها الدين الإنسان بمعنى مرن وواسع وجديد للحياة، بدل تمجيد ثقافة الموت.

 والجدير بالذكر أن عبد الجبار الرفاعي انتقد بشدة تناولنا لمفاهيم الوحي بذهنية كلامية قديمة، واعتبر في الكثير من مقالاته أننا بحاجة إلى إعادة اكتشاف مفاهيم الوحي خارج الذهنية التقليدية، والرجوع للحس التاريخي في التعامل مع الكثير من المقولات الكلامية التي تأسست في ظل الصراع التاريخي بين الفرق الكلامية الإسلامية، واعتبرتها عقائدا نهائية، وفي غاية الدوغمائية، وحقائق كاملة لا تقبل النقاش لدى المؤمنين بها، والسبب الأساس في ذلك أنهم لم يستوعبوا تدخل الصراعات السياسية والنزعات النفسية والثقافية في تشكلاتها وتفعليها. فهؤلاء يرونها وحيا مقدسا، وسنة متبعة، وفهما صحيحا، ويقفز هؤلاء على بقية الجزئيات الأخرى. ولا يهم في الأخير لتحقق هذا الفهم المأساوي للدين وعقائده، لأي معسكر ينتمي هذا المؤمن أو كيف تشكلت طائفته.

ختاما وباختصار، يعكس عبد الجبار الرفاعي من خلال عمله ومناقشاته الفكرية التزامه بتحقيق التجديد في فهم الإسلام وتطبيقاته في العصر الحديث، من خلال البحث عن حلول تجمع بين القيم التقليدية والتحديثية، لبناء مجتمعات إسلامية مزدهرة ومتقدمة، وعقل إسلامي متسم بالنقد، وقادر على التفاعل والإبداع والمنافحة عن التصور الإسلامي عن الكون والحياة. ربما بهذا الفهم - وهذا البناء إن تحقق- يستعيد العقل المسلم الإرادة لينخرط كجزء فاعل في هذا العالم، وليس جزءا منفعلا وفقط، قادرا العطاء والمنافسة على الخير، يقدم شبكة من المفاهيم والتصورات التي تعيد للإنسانية كرامتها، وتنمي الضمير الأخلاقي الإنساني باتزان مسدد بالوحي، دون هيمنة للرؤية المادية على كينونته، ليسمو الفرد والمجتمع، متدرجا في سلم الكمال، وهو ما يعبر عنه الباحث بالحيز العمودي نحو الله سبحانه وتعالى، وما يصدر عنه من عطايا ومعاني ودلالات، بدل الانزلاقات التي وقعت فيها الفلسفة المعاصرة بحداثتها، والتي حشرت الوجود الإنساني في حيز أفقي ضيق، حتى أضحى الإنسان إله نفسه، شكله بذاته في لحظة ذهول عن الحقائق الميتافيزيقية، وهذا ما يفسر تيهه المستمر واضطرابه الفلسفي والعقدي والسلوكي.

***

د. يوسف محمد بناصر - باحث مغربي

متخصص في الحوار الديني والحضاري وقضايا التجديد في الثقافة الإسلامية. متحصل على درجة الدكتوراه من كلية الآداب ببني ملال جامعة السلطان مولاي سليمان - المغرب، له عدة مشاركات علمية في ندوات مغربية ودولية، كما ساهم بمقالات ودراسات وأبحاث عدة في مجلات وجرائد ومواقع عربية.

......................

* المشاركة رقم: (8) في ملف: آفاق التجديد في مشروع الرفاعي .. بمناسبة الذكرى السبعين لولادة عبد الجبار الرفاعي.

 

لم تكن لغة الخطاب النبويّ فى خصائصها الخاصّة إلا المثال الذى يُحاكي لغة القرآن الكريم. وقد سبقت الإشارة إلى أنها لغة حق فى حق من حق، صادقة على الدوام، لا تقبل الخطأ الذى يترائى من لغو اللغة العادية، لأن اتصال الخطاب النبوي دوماً بالحقيقة، يعجز اللغة ويمنعها قصراً عن الانحراف.

وبما أن سمة الخطاب النبويّ أن ألفاظه «ألفاظ حقائق»، وأنه صلوات الله عليه، أعطى «جوامع الكلم» فاختصر له الكلام اختصاراً، صار أخص خصائص خطابه ليس مجرد لغة تتردد على الألسنة والسلام، بل ينفذ بين شغاف القلوب فيحولها من حال فى الحياة إلى حال.

ولم تكن «اللغة اللاغية» من جنس ما يتوخّاه اللسان المؤمن تحقيقاً، ناهيك عن القلب وعن الضمير؛ لأن استخدامها في الخطاب الديني يقدح فى وعي المؤمن وطواياه قدحاً نهى عنه القرآن الكريم منذ البداية.

ولنا أن نتأمل قوله تعالى: وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغَوْا فيه لعلكم تغلبون»؛ فماذا تجد؟ تجد «اللغة» هنا إتيان بالباطل من القول، واللغو الصاخب فى أثناء القراءة صرفاً للناس عنه وطلباً للغلبة، ومثاله فى القرآن كثير: أعنى مثال «اللغو» الذى ذكرت فيه «اللغة اللاغية» بسخيف الأقوال بُله الأفعال، نماذجه فى أكثر من عشرة مواضع فى الكتاب الكريم.

ونحن نأتى على خمسة منها هنا فقط، وبقيتها توضيح يفرضه سياق الآية فى مناسباتها الواردة فيها.

ففى «القصص» آية (55) قوله تعالى: «وإذا سمعوا اللّغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين»؛ فاللغة هنا لغو يلحق السّماع؛ فبمجرّد سماعه يستحق أن يُلغى من فوره بالإعراض عنه والاكتفاء بالعمل خالصاً حين يشهده الله من المخلصين، ثم إبداء السلام على شرعة الإعراض أيضاً، طلباً للسلامة وتحقيقاً للإخلاص، لكنه هنا إعراض عن العبث وسخف القول وهما بُغية الجاهليين.

وفى «المؤمنون» آية (3) قوله تعالى: «قد أفلح المؤمنون. الذين هم فى صلاتهم خاشعون. والذين هم عن اللغو معرضون»؛ فاللغة هنا لغو أيضاً ليس فيه فائدة لا من قول ولا من عمل، فليس اللغو هنا مقصوراً على اللفظ وكفى، ولكنه أيضاً يتضمّن العمل. ولن يفلح مؤمن وهو فى صلاته ليس بخاشع، وهو عن اللغو ليس بمعرض.

وفى «البقرة» آية (225) قوله تعالى: لا يؤاخذكم الله باللّغو فى أيمانكم». اللغة فيه سبق اللسان لغواً ممَّا لم يقصد به جزم اليمين؛ فسبق اللسان باللغو بالحلفان لغة صادرة عن اعتقاد الصدق وهى تتضمّن البطلان !

وفى «الفرقان» آية (72) قوله تعالى: والذين لا يشهدون الزور وإذا مَرُّوا باللغو مَرُّوا كراماً: مرُّوا كراماً على ما ينبغي أن يُطرح بعيداً من قول أو فعل، مرُّوا كراماً لأنهم ارتفعوا عن اللغة التي تصيبهم بالدُّون ممَّا ينبغي أن يُلغى من الأفعال والأقوال، مرُّوا كراماً فما ينالهم إلا ما ينال الكريم من العزوف والإعراض، مرُّوا كراماً والكريم إذا مَرَّ باللغو لم يبال بصاحبه ولا بما يلغو فيه، مرُّوا كراماً فكرمتْ لديهم أنفسهم، وهانَ عندهم اللغو، وسقطت لديهم لغة المحجوبين.

وفي «الطور» آية (23) قوله تعالى: «يتنازعون فيها كأساً لا لغوٌ فيها ولا تأثيمٌ». نعم ..! يتنازعون فى الجنة و يتجاذبون فيها الكؤوس تنازع محبة وأنس لا تنازع شقاق وخلاف، كلٌّ منهم يجذب الكأس من يد صاحبه تلذُّذاً وتأنُّساً، فليس المقام مقام لغو ولا تأثيم، ولا هو بمقام لغة فاحشة ولا كلام قبيح، كما تفعل كؤوس الدنيا بذويها، فتمنع ألسنتهم عن الصواب بعد أن تعقل عقولهم عن الصحة والسلامة بل: (لا تسمع فيها لاغية) من باطل ولا لاهية من لغو.

وعليه يتبيّن؛ أن ألفاظ اللغة ليست فى كل حال صادقة؛ بل من اللغة ما هو باطل وقبيح، وفيها ما هو شاذ وساقط، ومنها ما يشتمل على سخيف القول وفضول الكلام.

وقد صَوَّر هذا المعنى شيخ المعرة، إذ قال:

ومن النَّاس مَنْ لفْظُهُ لؤُلؤٌ 

 يُبَادُرُه للَّقْطِ إذْ يُلفَظُ

*

وبَعْضُـهُم قـوله كالحصَـا

يُقَال فَيُلْغَى ولا يُحفَظُ

كما أنّ ألفاظ اللغة تلك، ليست فى كل حال صادقة على الواقع التاريخى الذى يشهد الحالة كما يشهد الواقعة تجربة وحدثاً فى مجراه العميق الطويل.

لكن رسول الله، صلوات ربي عليه، الذى اختاره الله لرسالته، واصطفاه لدعوته، وأرسله إلى الناس كافة، مبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات، ويحرّم عليهم الخبائث، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم: لم تكن دعوته مجرَّد لغة، ولم تكن ألفاظه كلمات كسائر الكلمات.

ولكنها كانت «حقيقة» لا مجرد «لفظ»؛ كما كانت دعوته واقعاً تجرى فيه حقائق الحياة والكون وتشهدها وقائع التاريخ وتجاربه الحيَّة، ممارسة وفعلاً وحياة؛ الأمر الذى يتبيّن لنا فيه، مع معايشة أحواله ومباشرة أقواله والترقي الروحي فى معارج ذكره الباقي، ومدارج حقيقته الروحية، أن أحاديثه الشريفة ومناقبه الكريمة لا تحتاج مع ترقية الأحوال الباطنة إلى بيان الحديث الصحيح من الضعيف.

***

د. مجدي إبراهيم

 

بين الباحثين عن الحرية والفارّين من قيد يُدمي معصم الإنسانية، كان هناك ستيفان زفايغ، ستيفان زفايغ Stefan Zweig هذا البطل في ميدان البراءة المعلقة على عمود القسوة لم يتحمل قلبه الهش أن يشهد المزيد من الدماء الجارية بها أنهار الحروب..

إنها الحروب التي كادت تحكم على الإنسان بالإبادة، فما يصنع بالتالي صاحب أكثر من قطعة من قلعة متداعية كانت في يوم من الأيام تسمى قلبا؟! وأي قلب؟! إنه ملجأ الراكضين خلف شيء من الدفء الإنساني..

إنها الإنسانية الواعدة بكل شيء ماعدا السلام، وعن هذا السلام الذي شكل النص الغائب ها هي تحكي عن نفسها قصة حياة الكاتب الشهير ستيفان زفايغ ذاك الذي فضل الخروج في صمت قبل أن تغرب شمسه إلى الأبد..

لكنها المغادرة المبكية تلك التي جَنَّدَ لها ستيفان زفايغ روحه وروح زوجته، بل لنقل إن ما من قريب من الأحبة قد سلم من كتابة نهايته، حتى الكلب المسكين قد فصَّل له ستيفان زفايغ موتة على مقاس اشتهاءات الكاتب المبدع..

نهاية حزينة يَكتبها قلمُ القَدَر لأسطورة مُسَمَّاة «ستيفان زفايغ»، إنها نهاية توزع الموت بالمجان على أفراد بيت ستيفان زفايغ، لنقل إنهم الأحبة، أقرب الأحبة إلى القلب، لذلك نرى الغريب الأطوار ستيفان زفايغ قد آثر أن يموت رفقة ذويه موتا جماعيا..

إنها قصة انتحار جماعي، أما البطولة، فقد كانت بامتياز للمنومات التي اشتهاها الكاتب لرسم نقطة النهاية لنص حياة أسرته الصغيرة (الكاتب وزوجته وكلبهما الطيِّع رغم أنفه) قبل أن يسدل الستار على مسرح حياته..

ولننظر إلى هذا الإبداع الموازي الذي حفز خالق الروايات النمساوي المحنك ستيفان زفايغ على كتابة نهايته، وكأنه تأقلم مع القلم المكيف الذي يفصل أثواب الموت والحياة لأبطال سردياته..

لا شيء قد يتطوع لتقديم بيانات تشرح وتفسر معطيات حياة غامضة سوى سيرة الكاتب الذاتية تلك التي تحمل عنوان «عالم الأمس The World of Yesterday»..

«عالم الأمس» لا ينأى عن حياة ثانية يقدم فيها الكاتب أكثر من قراءة لأكثر من حدث، وهي مناسبة سمحت لستيفان زفايغ بأن يقف فيها عند فشل أوروبا وكيف انهارت تلك الحضارة..

إنه ستيفان زفايغ الكاتب الذي شكل على امتداد الزمن واحدا من أكثر الكُتَّاب الذين يحج القراء إلى عوالمهم الصاخبة والحيية..

ومتى أطلق هو العنان لقدراته على مستوى الكتابة؟!

لنقل إن ذلك حصل بعد أن قفز على حائط الباكالوريا القصير نسبيا، لماذا؟! لأنه كان يحول دون تمرد ستيفان زفايغ على كل ما يقيد أصابعه الشقية الحالمة برسم عوالم تشجع على الانطلاق والتحرر من كل ما يعقد ويربط..

فمن يكون المسؤول عن فكرة انتحار بشعة قيدت من انفلات قلم ستيفان زفايغ؟!

- هل هو بحر الفلسفة (الذي لا يَعِدُ بالأمان) ذاك الذي أهَّل الكاتب ستيفان زفايغ للغوص بالأدوات والعدة التي يتسلح بها الكاتب الباحث عن حقه من الخبرة والتمرس، لاسيما وأنه صال وجال في المتون الفلسفية إلى أن حاز فيها على درجة الدكتوراه؟!

- هل هي السكتة القلمية تلك التي تباغت الكاتب بعد أن تفرغ «قربة» أصابعه الذكية وتشهر عجزها التام عن الاستمرار؟!

- وإن كان كذلك، لماذا جاد الكاتب بالموت الموازي لكل من زوجته وكلبه، وما ذنبهما معا؟!

لنقل إن المسؤولية لا غرابة أن نحملها لغياب ظروف السِّلم والسلام تلك التي تعمل على تقوية غريزة حب البقاء، وأين؟! في عالم بات مهددا بقيامة صغيرة، لاسيما في ظل الفوضى المخيم ليلها موازاة مع حمى الانفلات الأمني تلك التي باتت تهدد عالم ستيفان زفايغ..

هذه الدائرة المغلقة على سوادها ما كانت إلا لتلقي بالكبير ستيفان زفايغ في منحدر الاكتئاب الحاد ذاك الذي كان يتفاقم وقعه في صمت، حينا، وفي صخب حينا آخر، إلى أن أعلن الكاتب الإنسان إفلاسه وقد استنفد كل ما في جيوب الحياة من رغبة في المضي إلى الأمام..

الاكتئاب وحده يجبر الإنسان على المشي إلى الوراء، ويجره، ويجرده من كل أسلحة قادرة على المقاومة والتصدي للإكراهات.. ولأن ستيفان زفايغ لم يكن أبدا ذلك الرجُل العادي الذي يسهل نسيانه، فقد آثرت زوجته «لوت زفايغ Lotte Zweig» هي الأخرى أن تشاركه النهاية نظرا لتعلقها الشديد به واعترافا بحبها وإخلاصها له ورفضها أن تعيش على ظهر زورق حياة لا تعرف كيف تجدف فيه بدون زوجها..

ومع أن ستيفان زفايغ تكيف إلى حد ما مع تنقلاته من بلد إلى بلد بحكم ما كان يفرضه الواقع السياسي آنذاك، إلا أن إغراقه في إنهاك نفسه بالعمل سعيا إلى نسيان حقيقة واقعه المرة لم يشفع له حتى يتجاوز وطأة البنية النفسية الهشة تلك التي أخفق صاحبنا في دفعها إلى تجديد خلاياها..

ومع أن ستيفان زفايغ كان صديقا للعبقري سيجموند فرويد، فإن حالته النفسية لم تكن في مستوى الانتفاع من هذه الصداقة، ربما لأن الأحداث التي مهَّدَت للحرب العالمية الثانية أثرت بشكل سلبي على المسكين ستيفان هذا الذي لم يعرف كيف ينجو من تبعات ما قبل الحرب..

رصيد ثري من الروايات والمسرحيات والشعر والمقالات وما إلى ذلك من كتب كان من المؤكد أنه سيطير بالكاتب ستيفان زفايغ إلى مُدُن المجد الواعدة بلقاء مع كبريات الجوائز، يكفي التذكير هنا بجائزة بورنفيلد للشعر، وجائزة غوته..

كاتب فنان بقلمه، مرهف الإحساس، بلغ به الشغف بدراسة تاريخ الأدب والفلسفة مبلغهما، لكن ما كان له إلا أن يستسلم لقلقه الداخلي ذاك الذي حكم عليه بحياة المنافي..

هزيمة الذات في حلبة الحياة ولدت في الكاتب النفور من العالم الذي يجد نفسه فيه، يَضيق الأفق أكثر فأكثر ما أن تتمدد مساحة الخيبة عندما ينجح الزعيم هتلر في صعود سُلَّم السلطة، وتلك كانت بداية النهاية لستيفان زفايغ..

يُذْكَرُ أن أكثر ما عرف انتشارا قل نظيره من كتب ستيفان زفايغ كِتابُه «لاعب الشطرنج»، والغريب أن الكاتب قد أثرت عليه لعبة الشطرنج حقيقة ما أن تعرف عليها أثناء المرحلة البوهيمية من حياته تلك التي انفتح فيها على حياة طلاب ما يجاور البكالوريا، وهي المرة الأولى التي يجرب فيها الكاتب أن يلعب لعبة الشطرنج، ومن المؤكد أن محيط الكاتب يؤثر فيه كل التأثير..

على أن عددا من كتابات ستيفان سفايغ قد تناولت حياة المشاهير بالقراءة المحايدة. من مؤلفاته الأخرى: 24 ساعة من حياة امرأة، بُناة العالم، عالم الأمس، حذار من الشفقة، التباس الأحاسيس، عنف الديكتاتورية، ماري انطوانيت، سِرّ حارق..

مَن كان يصدق أن روحا محلقة بخفة فراشة سيمتصها حتى الموت ذاك الإحساس المرهف بالجروح التي نكأتها الحرب العالمية الثانية؟!

من كان يصدق أن زوجا وديعا سيتعاهد مع زوجته على الوفاء إلى درجة أن يموتا معا في مَشْهَد عناق حارّ بعد ابتلاعهما لحفنة حبوب منوِّمَة حتى لا يَفصل بينهما شيء؟!

من كان يصدق أن ستيفان زفايغ الذي أسر عيون القراء سيجد السلام في رحلة غيبوبة بلا صحو في نفق المنومات؟!

مَن كان يصدِّق أن الكلب المحظوظ بأن ينال نصيبه من الدلال والألفة والحُبّ لا يَقوى الكاتب الحساس على أن يرحل بعيدا عنه ويتركه لشقاء لا يعلمه إلا الله؟!

إنه الأمل، إنه الأمل في شيء من السكون حتى وإن كان في الدرك الأسفل من جهنم الحياة تحت الصفر، إنه الأمل الأكبر من الوعد.. هكذا صوَّرَ للكاتب عقلُه.

***

د. سعاد درير

 

العلاقة بين الطرب والوجد من ناحية، والفهم والفكر من ناحية ثانية؛ علاقة تركيبية في غاية الغرابة والتعقيد؛ وإنما نقول تركيبية لأننا بإزاء حالتين من الوعي بالقرآن هنا أولهما: طرب السامع لمجرد سماعه القرآن استسلاماً لحركة الوجد الطارئ عليه دون أن يتحقق من فهمه، ولكنه يمضي على فعل الطرب من أثر النغمة العلوية والإيقاع المباشر من غير أن يكون هنالك فهم ولا حتى معرفة باللغة، ويخضع ذلك لفاعلية الوجد في الإيقاع الذي ينفذ إلى صميم الشعور ويصيب بؤرة الوجدان حقيقة فيستشعر أن هذا الكلام مُراد لذاته، فيه خصائص ذاتية تحكمه وتنظم حركته العلوية الباقية وتجعل وقعه على القلوب مختلفاً عن أي وقع سواه، ليس بالعادي ولا يجري مجرى العادة أبداً ولكنه يترقى بالشعور إلى أعلى منافذه وإلى صميم أغواره.

هذه الحالة تتعلق بالإيقاع الداخلي ولا تتعلق بسواها، وبالصفاء الباطن في المستقبِل نفسه، وهى من الندورة بمكان. 

أما الحالة الثانية: فيأتي الطرب والوجد فيساوقا ذلك الفهم: خاصّة ذاتية تعرفها الحالة الروحيّة، فتشرق في القلب قبل الظاهر المحسوس، ويكتشفها في نفسه المتحقق بها، يقاربها ويتذوقها، ويستشعر آفاقها المتسعة في أجوافه الباطنة، وبين ضلوعه وجوانحه، وتكون مع ذلك كالطلاسم المُبهمات لمن لا يدرك لها معنى، ولا يصيب منها تحقيقاً: (ولكلٍ درَجَات ممّا عملوا).

وقد يترادف الفهم تحقيقاً مع الفكر، ويقابله مقابلة الشبيه مقابلة واضحة لا غموض فيها. وبما أن الشبيه يدرك الشبيه كما يُقول الفلاسفة؛ فالفهم يدرك الفكر ويؤدي إليه من أقرب طريق، ويمدُّ الفكر الفهمَ بأواصر القربة لا محالة؛ فما الفكر هنا إلا الفهم. وما فكر مَنْ فكر إلا مَنْ فهم، وعن الفهم تصدر حالات الوجد والطرب، ولا تصدر مطلقاً بغير فهم ولا تفكير ولا تدّبر يحيل فاعلية الباطن إلى ظاهر ملموس، باستثناء الحالة الأولى: حالة الإيقاع على بؤرة الشعور، وهى حالة نادرة لا تعميم فيها ولا تعليم.

ولكن الذي يطرب لمعنى آية من آيات التنزيل في العموم هو بلا شك كان قد فهمها في السابق؛ فاتّسع معناها لديه من كثرة التفكير فيها، فطرب لها شعوره وَوَجِدَتْ لديه قواه الباطنة. ومن هنا جاء “الوجد” علامة رُقيِّ الفهم الذي يصحب حالات التلاوة على الحضور. فالوجد والطرب حالتان في باطن النفس يتقدّمهما الفكر أو الفهم ولا تتقدّم هاتان الحالتان على الفكر أو الفهم بوجه من الوجوه؛ فالذي يجد ويطرب لا يجد ولا يطرب من غير فهم ولا فكر، ولكنه يفهم أولاً، أي يفكر ثم يطرب لِمَا عساه يفكر فيه، وهو لا يطرب حين يطرب لغير فهم سابق ولا تفكير متقدّم، وإلا سيكون طربه عَرَضَاً لحالة نفسية مضطربة مجهولة غير مفهومة ولا معلومة؛ لأجل ذلك كان العلم في القرآن بداهةً مُقدّماً على ما عاداه، وكانت المعرفة سابقة على الوهم الذي يعجز معه الاستبصار؛ إذْ ذاك يطرب الواجد لمعنى يحسّه في قواه الباطنة بعد أن يكون قد فهمه وفكر فيه؛ ليتسق الفكر مع الشعور فلا يوحي بتناقض يفصل الحالة عن الفكرة.

الفكرة في القرآن سابقة (متقدِّمة)، والحالة لها تابعة (لاحقة) ما في ذلك شك، ولا يحدث العكس أبداً؛ لأنه إذْ ذَاَكَ إنْ حَدَثَ يلغي الفكر والعلم والفهم، ويحذف كل المفردات والعناصر الفاعلة التي تقوم عليها المعرفة وتستند القيم العليا للإنسان عليها وتبطلها من أساسها.

ليس هذا فقط؛ بل وتقدَّم الجهل والخرافة والوهم والتضليل على العقل والنور والذوق والاستبصار.

كان “الزرْكَشِي” شَرَطَ في “برهانه” شروطاً قاسية حيث قال: “أصلُ الوقوف على معاني القرآن التَّدَبُّر والتَّفَكُّر. واعْلم أنه لا يحصل للناظر فهم معاني الوحي حقيقةً، ولا يظهر له أسرار العلم من غيب المعرفة وفي قلبه بدعة أو إصرار على ذنب، أو في قلبه كِبْرِ أو هوى، أو حُبّ دنيا، أو يكون غير متحقق الإيمان، أو ضعيف التحقيق، أو معتمداً على قول مُفَسِّر ليس عنده إلا علم الظاهر، أو يكون رَاجعَاً إلى معقوله. وهذه كلها حُجُب وَمَوَانع، وبعضها آكد من بعض…”.

وممّا يؤيد هذا ويشدّد عليه، أن السيوطي نقل عن أبي طالب الطبري في أوائل تفسيره عند (القولُ في أدوات المفسّر): “اعلم أنّ من شرطه صحة الاعتقاد، ولزوم سنة الدين”. ثم خاض السيوطي في هذا الجزء الذي عنونه بـ “معرفة شروط المفسّر وآدابه”، بما يتفق ونصّ الزركشي المذكور سلفاً.

وقد سَبَقَتْ الإشارة إلى أن فهم القرآن هو أول ما يُقَابلنا؛ ليُشكل بجانب الحضور أركان الذاتية الخاصَّة للقرآن، وإنّما المُرَادُ من فهم القرآن أن تريده وحده، هو عينه المُراد من الخاصّة الذاتية له، وفي تلك الخاصَّة الذاتية بشرى ورحمة:” فبشر عباد، الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه، أولئك هداهم الله، وأولئك هم أولو الألباب ” (الزمر: آية 17 – 18).

فإذا وصفهم سبحانه بأنهم أولو الألباب، كان هذا الوصف وصفاً على المدح العاقل لفهم، من جانبهم، للخاصّة الذاتية في استماع القول وإتباع أحسنه؛ فهو من جهة حدَّد الإطار النظري في كلمة “استماع القول”، ومن جهة أخرى قَرَنَ النظر بالتطبيق تَوَخِّياً للفاعلية العملية (المعاملة)، أي جَعْل القول مناط “العلم” أولاً، ثم جعل العمل والسلوك سياجاً حافظاً في المسارعة إلى مَحَابّ الله وتجَنّب مساخطه.

هذه إرادةُ مُغيِّرة تأتي كما لو كانت لبنة جذريّة وأساسية تشكِّل ذاتية القرآن الخاصَّة، إذْ تستحقُ الوصف بالهدى مدْحاً غير منقوص ووصفاً بالعقل الذي هو اللب. وذلك ضربُ لا شك فيه من الاعتقاد السَّاري دوماً في فهم القرآن على الصفة المَخْصُوصَة بذاته لا بسواه، ولذاته لا لغيره، من أجل ماذا؟

 من أجل “إرادة التغيير”

(وللحديث بقية)

***

بقلم: د. مجدي إبراهيم

 

واختلافه عن تفسير نصر حامد أبو زيد ومحمد أركون

حضرت ليلة 23-7-2023 مساحة حوار بعنوان: "الإنسان في علم الكلام الجديد: الأنسنة عند عبد الجبار الرفاعي" على منصة "أنا" في Twitter لمدة خمس ساعات متواصلة من البحث والنقاش الحر. الشكر للمتحدثين فيها: الدكتور عباس براهام، والدكتور محمد حسين الرفاعي، والشكر موصول للأستاذة "أنا" مديرة الحوار على هذه المساحة المميزة في نقاش التساؤلات الفلسفية واللاهوتية. أثرى الدكتور عباس برهام الحوار بمداخلاته ومعلوماته الكيرة، والدكتور محمد حسين الرفاعي بتحليله ونقده، وهو لا يكفّ أبداً عن التساؤل وتجديد التساؤل بروحٍ حرة وذهنٍ عقلاني متقد.

حاولتُ التحدث بهذه المداخلة، لكن يبدو أن الفرصة لم تسمح بسبب كثرة الحضور والمتداخلين الذين كانوا نحو 1000 مستمع. وفيما يلي ما وددت ذكره في المداخلة. وبما أنَّ عنوان الحوار عن أركان: "علم الكلام الجديد عند الدكتور عبد الجبار الرفاعي"، فلا بد أن نعرف أن "إعادة تعريف الوحي" هي محطة من محطات "إعادة التعريفات" المركزية في مشروع نجديد الفكر الديني للرفاعي، لذلك لا يمكن عزلها عن بقية التعريفات، لا سيما إعادة تعريف الإنسان والدين والوحي والنبوة، حيث تحدث عنها بوضوح في كتابه: "مقدمة في علم الكلام الجديد"، الذي ينبغي التركيز عليه كونه هو عنوان الحوار الرئيسي.

في مداخلة أحد الأساتذة جرى خلط واضطراب بين توجهات كلامية جديدة عدة في حقل إعادة تعريف الوحي، تحدث الأستاذ وكأن تعريف الرفاعي متطابق مع تعريف الدكتور نصر حامد أبو زيد، على الرغم من أن الاختلاف عميق بين الموقفين، نصر أبو زيد يرى أن الوحي "منتَج ثقافي" يُنتجه الواقع العربي عصر البعثة، بوصفه ديالكتيكاً صاعداً، أي أن أبو زيد يقع في فخ إبستمولوجي، بسبب تجاهله للوحدة المنطقية بين المفهوم والمصداق. هذا الفخ لم يقع فيه الرفاعي مطلقاً، فهو ينطلق من مقدمة واضحة في إعادة تعريف الوحي، يصرح فيها "ان ماهية الوحي غيبية إلهية وليست بشرية... الوحي صلة استثنائية بالله. كل مَن يرى الوحي حالة بشرية تتكشف فيها قدرات وإمكانات وطاقات خلّاقة لدى الإنسان، أو هو شاعر، أو نابغة، أو ايحاء نفسي، أو غير ذلك من تفسيرات بشرية، لا تسمع في الوحي صوتا إلهيا في الوحي، فهذا لا يؤمن بصلة غيبية للنبي الكريم بالله". هذا كلام واضح للرفاعي في أن الوحي ليس "منتَجاً ثقافياً" يُنتجه الواقع كما يراه نصر أبو زيد. إعادة تعريف الوحي عند الرفاعي لا يمثل أبداً استئنافاً للمقولات الكلامية القديمة حول طبيعة الكلام الإلهي. تجديد علم الكلام عند الرفاعي تجاوز مستوى المحاولة إلى مستوى الفعل الحقيقي والانتقال من النقد إلى البناء، كما ظهر في رؤيته الرحمانية للدين، التي هي ضرورة اليوم في مجتمعاتنا، بعد شيوع العنف بمختلف أشكاله.

الدين ليس هامشياً في المجتمعات الإسلامية، لذلك يؤكد الرفاعي في مؤلفاته على أن البداية في التجديد تبدأ من إعادة تعريف الدين بعد تعريف الإنسان وحاجته للدين، يعرف الرفاعي: "الدينَ حياة في أُفق المعنى، تفرضُه حاجةُ الإنسان لإنتاجِ معنىً روحي وأخلاقي وجمالي لحياتِه الفردية والمجتمعية". ويشير إلى أن كل كتاباته أتت في سياق إعادة تعريفه للإنسان والدين والوحي، وفي ضوء هذه التعريفات، ولدت رؤيته لله والإنسان والعالم. وذلك يدلل على وعي الرفاعي بعدم امكان تكوين الذوات الحرة من دون إعادة بناء موقع الإنسان في الرؤية الدينية.

الخلط الآخر هو أن إعادة تعريف الوحي عند الرفاعي ليس استئنافاً للجدل الكلامي القديم بين المعتزلة والأشاعرة حول القرآن الكريم: أهو مخلوق أم مُحدَث،كما سحب بعض المتداخلين الحوار لهذه النقطة، وعقب على هذا القول الدكتور عباس برهام على أن هذا دليل على استمرار الكلام القديم بالجديد. يمكن ملاحظة هذا القول عند الدكتور نصر حامد أبو زيد وإلى حدٍ ما عند الدكتور محمد أركون، ولا نقرأ هذا في كتاب عند الدكتور عبد الجبار الرفاعي. اهتمت محاولات أركون ونصر أبو زيد للربط بين تأويليتهم الجديدة لماهية الوحي وقول المعتزلة بخلق القرآن، وهذا نوع من الإسقاط التاريخي للمفاهيم مُورس في الفكر العربي للبحث عن الشرعية السوسيولوجية للمقولات المعرفية الجديدة، عبر ربطها في لحظة من الماضي، هذه الظاهرة كانت حاضرة بقوة في مشاريع الفكر العربي في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي. الرفاعي تنبه لهذا الإسقاط التاريخي فتجاوزه بوضوح، حيث يرى الرفاعي: "ان تراث المعتزلة برغم عقلانيته، لكنه مرآة لعقلانية عصره"، وهذه التفاتة دقيقة يشير إليها في عدة موارد من كتبه. مقولات المعتزلة حُملت فوق طاقتها في الفكر العربي الحديث والمعاصر، كما حُملت مقولات ابن رشد فوق طاقتها عن الدكتور محمود عابد الجابري، هؤلاء المفكرين انشغلوا بمقولات التراث وألبسوها جلباب الحداثة ومكثوا يدورون فيها، وأغرقوا العقلانية الحديثة بتلك المقولات الأجنبية عنها.

أظن الدكتور عباس برهام لم يلتفت للتغير البراديغمي / الإبستيمي المهم في حقل الكلام الجديد واختلافه الكبير عن القديم، وهو المتمثل في عنوان الحوار (الإنسان في علم الكلام الجديد عند الرفاعي)، فعندما تتحدث عن الإنسان فأنت تتحدث عن الذات، أي تسعى لبناء ذوات عبر إعادة كشف منابع التذّوت، بحسب تعبير السوسيولوجيست الفرنسي ألان تورين. علم الكلام القديم كان يسعى لبناء جماعات، والجماعات بطبيعتها لا تطيق بناء الذوات، لا تهتم بأي ذات سوى ذات الجماعة، فهي التي تتحكم في مختلف شؤون حياة الأفراد المنتمين إليها. نجد الشكل الحديث لهذا الموقف في الحركات اليسارية والقومية والأصولية في العالم العربي.

أستاذنا الدكتور محمد حسين الرفاعي كسوسيولوجيست من القلة الذين يتحدثون عن ضرورة إعادة بناء الذات في العالم العربي أولاً في أي مسعى للتحديث، وهو ما كان محوراً لمحاضرته واجاباته التفصيلية في الندوة. يرى: ألان تورين الإنسان "بوصفه ذاتاً ينبغي أن توضع حريتها ومساواتها وكرامتها في منزلة تعلو القوانين نفسها"، بناء الذات أهم من بناء هوية على طريقة الحركات القومية والأصولية واليسارية، وخنق الذات داخل قفصها.كما يحاول الدكتور طه عبد الرحمن وغيره فعل ذلك عبر وضع حدود قومية وإسلامية للتفلسف داخل الهوية، ويطالب بالاختلاف في بناء فلسفات تتعدد بتنوع الهويات القومية والدينية، ويرفض ما هو عالمي في العقل البشري بعيداً عن الهويات المنعزلة.

الإستمرار بثنائية جديدة كثنائية العلمنة / الدين، كما يذهب د. عباس برهام، يمثل ترسيخ الثنائيات من جديد في الفكر العربي، فبدلاً من ثنائية الحداثة / التراث، ها نحن نخرج بتلفيقة أخرى بين فضائين يحتويان على كم هائل من "صراع التأويلات" بتعبير بول ريكور. العلمنة ليست شكلاً واحداً إلا من حيث التسمية، العلمنة متعددة التأويلات كأي مصطلح ينتمي للمعرفة الحديثة في علوم المجتمع والإنسان، وكذلك الحال مع الدين فنحن إزاء تأويلات عديدة للدين. منطق الثنائيات يُدخل العقل في قفص لا يمكن الخروج عليه إلا بتحطيم الفبركة التي تحتوي عليها فكرة الثنائيات.

ختاما أشكر أستاذي الدكتور محمد حسين الرفاعي، الذي يقوم بزحزحة إبستمولوجية لثنائيات كبلت الفكر العربي الحديث وأقحمته في الاختزال والأحادية، وهو بهذه الطريقة يقوم بتدشين مسار جديد لجيل كامل، والشكر للدكتور عباس برهام، وشكر خاص مجدداً للأستاذة "أنا" على هذه المساحة الحيوية في Twitter.

***

براء ريان - كاتب عراقي من الموصل

.........................

* المشاركة رقم: (7) في ملف: آفاق التجديد في مشروع الرفاعي .. بمناسبة الذكرى السبعين لولادة عبد الجبار الرفاعي.

 

يٌثير الكاتب الكبير سلامة موسى في كتابه "هؤلاء علموني" مسألة مهمة حول تحديد الشيء الأهم في حياة العظماء، هل هو تكريس الحياة بأسرها في سبيل قضية بعينها أم أن الطريقة التي نحيا بها هى الأهم؟ والحق أن الدكتور عبد الجبار الرفاعي قد جمع الحسنيين في آن واحد، فحياته كتاب حافل بالأحداث الدرامية التي ساقته إلى بعضها انحيازاته الواضحة التي دفع ثمنها تشريدا ومنفى، لم يمنعاه من التعلق بالكتب واقتناء مكتبة قيمة في كل مدينة أقام بها. قضى الرفاعي أكثر من أربعين عامًا من عمره طالبا ثم أستاذا لعلوم الدين في الحوزة، وبالرغم من ذلك فهو متحرر تماما من القيود الطائفية والأيديولوجية التي قد تستعبد غيره من دارسي علوم الدين. وهو قادر، في الوقت ذاته، على التحرر من الانحيازات المذهبية، فنجده يعترض على أدلجة الدكتور علي شريعتي للخطاب الهوياتي وتحويله إلى أيديولوجيا للإسلام السياسي. وهو أيضا قادر على محبة أصدقائه محبة بصيرة، فنجده يرى بوضوح تناقضات الدكتور حسن حنفي فيرصدها ويكتب عنها. تنبع رؤية عبد الجبار الرفاعي للأيديولوجيا من كونها محض احتكار لنظام إنتاج المعنى يضيّق بصيرة المؤدلج، فنراه على أتم الاستعداد للموت في سبيل ما يعتقده، لكنه لا يطيق تكريس دقائق من حياته للاستماع إلى مخالفيه ومحاولة الوقوف على ما قد يحمله رأيهم من وجاهة.

الرائع في حياة وفكر الرفاعي أنه قادر على مواجهة نفسه وكشف أخطائه بنفس الشجاعة التي يواجه بها الآخرين. في هذا السياق يقص علينا الرفاعي قصة لقائه الأول بكتاب "معالم في الطريق" لسيد قطب، وكيف ضيّعه ذلك الكتاب ونظائره لسنوات وهو يبحث عن أحلام وهمية. لكن عقل الرفاعي اليقظ وضميره الأخلاقي الحي ينتفض ضد ثقافة الموت فيقدم لنا نقدا جريئا لفكر قطب، الذي زرع الغضب والاغتراب في نفوس آلاف من شباب المسلمين من السنة والشيعة على حد سواء.

لا يسلم الاستبداد السياسي في العراق الشقيق من قلم الرفاعي، فيسخر من وهم (المؤامرة) الذي يتخفى خلفه الديكتاتور، فيسرق وينهب ويقتل تحت شعارات الوطنية، وقد شاع شعار "ماكو مؤامرة تصير والحبال موجودة" بعد ثورة 14 يوليو 1958. والحق أن أكبر مؤامرة تعرضت لها أوطاننا العربية هى حكم الفرد الذي اختزل الوطن في شخصه. ولم يفت الرفاعي أن يضع مثقفي السلطة أمام المرآة، ليروا ما اقترفته أياديهم حين انبطحوا أمام السلطة في انقلاب على المباديء وخيانة للناس.

يشتبك الدكتور عبد الجبار الرفاعي مع قضايا العصر، وينشغل بالكيفية التي تتفاعل فيها تكنولوجيا المعلومات مع عملية إنتاج المعرفة في عصر ما بعد الحداثة. بينما يعترف الرفاعي بتحوله إلى كائن إلكتروني فإنه يحذر من أن الذكاء الاصطناعي سيسمح لمزيد من متوسطي الموهبة بإنتاج نصوص تغيب عنها الروح والابداع والمعرفة. وقد مارس الرفاعي خلال حياته نوعا من الكتابة الموجعة – كما يحلو له أن يسميها- فهى كتابة تضع الكاتب في مواجهة النيران التي أحيانا تنطلق من فوهات صديقة.

التقيت عبد الجبار الرفاعي فيكرسي قنواتي بمقر معهد الدراسات الشرقية للآباء الدومينيكان، حيث ألقى علينا سلسلة محاضرات حول "علم الكلام الجديد" من الصباح إلى ما بعد الظهر، وهى القضية التي قرر أن يكرس لها ما بقى من عمره. تقوم فكرة الرفاعي على مبدأ محوري مفاده "مركزية الله في الوجود ومركزية الإنسان في الأرض في سياق مركزية الله في الوجود"، وذلك ما اصطلح عليه: "الإنسانية الإيمانية". من خلال الإبحار في علم الكلام الجديد من منظور الرفاعي نكتشف معرفته الموسوعية بعلوم الدين والفلسفة والعلوم الإنسانية، ودراسته الوافية للعالم السيكولوجي داخل الإنسان ولمحيطه الاجتماعي أيضا. بذل الرفاعي جهدا كبيرا في إعادة تعريف: "الإنسان، والدين، وتعدد الطرق إلى الله، والوحي، والنبوة، والشريعة، والتكليف"، وأعاد ضبط المفاهيم مع ابتكار مصطلحات ومفاهيم جديدة إن لزم الأمر. من هذا المنطلق وضع تعريفا جديدا للدين بأنه: "حياة في أفق المعنى تفرضها حاجة الإنسان الوجودية لإنتاج معنى روحي وأخلاقي وجمالي لحياته الفردية والمجتمعية". وأشار الرفاعي إلى أن الدين لا يحتكر إنتاج المعنى، معنى الحياة الذي ينتجه الدين يخلّد وجود الإنسان، خلافا لغير الدين الذي يختص معناه بتخليد ذكرى الإنسان في الدنيا. يتصدى الرفاعي لتعريف الإنسان في ضوء الفلسفة والعلوم الإنسانية الحديثة، وهو في ذلك يعارض المنطق الأرسطي الذي قام عليه علم الكلام القديم. ويعمل على تعريف: الوحي، والنبوة، والشريعة، والتكليف، وتعدد الطرق إلى الله، فالخلاص الأبدى أفق رحب يتسع للبشر أجمعين، وهذه نقطة اتفاق بينه وبين محيي الدين بن عربي، رغم معارضته لابن عربي وللمتصوفة في غيرها. نسخة الرفاعي من علم الكلام الجديد تنقذنا ممن اعتقلونا خلف أسوار الصورة المظلمة لله، مؤكدا أن الله بذاته وصف نفسه بأنه "نور على نور"، وبالتالي فكل ما لا يقودنا إلى النور هو من عند غير الله.

تقدم هذه النسخة رؤية للمواجهة الفكرية مع التطرف الديني، ودعاة فكرة "الإسلام دين ودولة"، فهو يقول أن النبوة مهمة دينية بحته، وما دونها من شؤون الدولة وتداول السلطة والعلوم والمعارف والثقافة هو دنيوي لا ريب في ذلك. وهو في ذلك أيضا يكشف عوار الشعارات التي يرفعها أنصار "أسلمة المعرفة" فهؤلاء أصحاب أيديولوجيا تصبغ كل شيء في حياة الفرد والمجتمع بصبغة دينية.

كان ذلك هو الرفاعي الموقف والفكر المؤمن المستنير الملتزم بالعبادة، والمعارض للاستبداد، الذي فر من العراق سنة 1980 بعد أن حكم عليه بالإعدام، ثم عاد إليها عودة الطير المهاجر، مناضلا في داخل العراق من أجل الوطن ومن أجل الدين والمعرفة. أما الرفاعي الإنسان فقد عرفته بشوشا، مرهف الحس، لديه قدرة مذهلة على جعلك صديقا منذ اللقاء الأول، متخطيا حواجز السن، والجنسية، والانتماء المذهبي. وهو متجدد مثل الطفل المقبل على الحياة، محب للاجتماع بالناس، والاستماع لهم بتواضع العالم، وحكمة الشيخ، وحنان الأبوين.

***

ميادة مدحت، طالبة دكتوراه مصرية، وباحثة في الدراسات الأوروبية المتوسطية، جامعة القاهرة

...................

المشاركة رقم: (6) في ملف: آفاق التجديد في مشروع الرفاعي .. بمناسبة الذكرى السبعين لولادة عبد الجبار الرفاعي.

 

حين ينزلق المجتمع صوب حضيض الرياء والنفاق والفساد، ينتفي حينذاك الرهان على (المعايير) الأخلاقية، ويختفي الاحتكام الى المقاييس الحضارية، وتندرس جميع القيم الإنسانية، كما لو أن المجتمع المعني لم يرى أنوار الحضارة يوما"ولم يلامس مثلها وقيمها وأعرافها، بحيث استمر يراوح بين أطوار التبربر والتوحش والتبدون ! . وعلى ما يبدو فان المجتمع العراقي سيبقى المصدر الأساسي الذي يمكن اعتماده كنموذج حيّ وكتجربة ملموسة لمختلف ضروب الانحرافات التي تنجر إليها وتنخرط فيها المجتمعات التي فقدت معادلات التوزان بين أخلاق الثقافة وثقافة الأخلاق .

ولعل البعض يتساءل عن الفرق ما بين قولنا بـ(أخلاق الثقافة) و(ثقافة الأخلاق)، لجهة ما تضمره تلك التعابير من دلالات معرفية وسوسيولوجية أصيلة قارة أو دخيلة مكتسبة، لاسيما وان عملية التقديم والتأخير ما بين اللفظين المختلفين قمينة بتوليد الكثير من الانطباعات الذهنية المتضاربة التي قد لا تحمل السامع على التعاطي معها بجدية كافية أو باهتمام ملحوظ، من حيث كونها تسوقه للاعتقاد أن مثل هذه التعابير والألفاظ لا تعدو أن تكون مجرد تلاعب بالألفاظ ليس إلاّ . وللإجابة على مثل هكذا تساؤل يمكننا القول ؛ ان لكل مجتمع من المجتمعات البشرية ثقافة ما تعبر عن طبيعة معتقدات وعادات وعلاقات الأغلبية الساحقة من جماعاته ومكوناته، والتي عادة ما تتموضع في بنية وعيها ونمط سلوكها على شكل ضوابط ومعايير يصعب إهمالها أو تجاهلها دون عواقب اجتماعية أو نفسية أو دينية، بل وحتى سياسية في بعض الأحيان .

ولما كانت الثقافة بالأساس ظاهرة اجتماعية وإنسانية، فهي مشروطة بالبنى الجامعة والأنساق الشاملة المسؤولة عن كينونة القيم المعيارية (الأخلاقية والرمزية) السائدة، والتي يمكن اعتبارها بمثابة البوصلة الموجهة والمرشدة الى حيث ينبغي للمجتمع أن يحتكم إليها ويرتكز عليها، حين تضطره الظروف الاستثنائية للمفاضلة بين الخيارات العديدة والتوجهات المتنوعة . من هنا لا يمكن تصور وجود (ثقافة) معينة من غير وجود معايير (أخلاقية) محددة، لا تعكس فقط طبيعة الثقافة المحلية (الوطنية) الحاكمة لتصورات والضابطة لتمثلات مختلف مكونات المجتمع المعني فحسب، وإنما تؤطر أنماط التواضعات العرفية والعلاقات الاجتماعية والسلوكيات الحضارية التي يتوجب على تلك المكونات الالتزام بها والانخراط فيها كذلك . هذا مع الإشارة الى أن هذه الكيفية السوسيولوجية والانثروبولوجية، لا تقتصر فقط على المجتمعات المتطورة حضاريا"دون المجتمعات المتخلفة في هذا المضمار كما قد يعتقد البعض، وإنما هي ظاهرة عامة تسري على الجميع وتطال الكل دون استثناء، بصرف النظر طبعا"عن تنوع المضامين القيمية والاعتبارية والرمزية التي تحملها هذه الثقافة أو تلك للتعبير عن تفردها وتميزها .

وإذا ما تناولنا - في هذا السياق - دلالات العبارة الأخرى (ثقافة الأخلاق) للوقوف على الخصائص التي تميّزها عن نظيرها العبارة الأولى (أخلاق الثقافة)، فإننا بذلك ننتقل من المستوى الجمعي / المعياري الى المستوى الفردي / الإجرائي. أي بمعنى ان مجالات البحث والتحليل ستنقلنا من صيغ التعاطي مع القيم والأعراف الخاصة بالمجتمع الكلي، الى صيغ التعاطي مع أشكال ومستويات تمثل واجتياف (الأفراد) مضامين تلك القيم والأعراف، كل بحسب تربيته الأسرية وتحصيله العلمي ووعيه الحضاري . وهو الأمر الذي يفسّر لنا واقعة التعدد والتنوع في حالات التباين والتغاير التي يعكس من خلالها أعضاء المجتمع مستوى تقبلهم لقيم وأعراف الثقافة من جهة، ومدى التزامهم بالمعايير والضوابط التي تدعو لها وتحضّ عليها من جهة أخرى .

ولعله من الجدير بالملاحظة؛ ان الأضرار التي يتوقع لها أن تتمخض عن الفساد في (أخلاق الثقافة) أقل وطأة على مصير المجتمع من تلك الأضرار الناجمة عن الانحراف في (ثقافة الأخلاق)، كيف؟!. ذلك لأن هذه الأخيرة تتعلق بطبيعة المواقف والسلوكيات التي يجسّدها الأفراد واقعيا"وفعليا"، إزاء ما تحاول الأولى ترويجه وإشاعته من قيم اجتماعية ومعايير أخلاقية وضوابط عرفية . إذ ليس كل ما تصوغه وتجسدّه (أخلاق الثقافة) على صعيد الوعي الجمعي يجري تمثله واجيتافه من قبل الأفراد والجماعات بكيفية متساوية ومتشابهة، بما يضمن انسجامها التام وتوافقها الكلي مع مضامين تلك القيم والمعايير والضوابط . وإنما هي تتقاطع على نحو دائم مع العديد من التصورات والتأويلات والتمثلات والتعديلات، بالقدر الذي تتقاطع فيها وتتعارض معها مصالح الأفراد والجماعات والمكونات التي يتشكل منها نسيج المجتمع . وهو الأمر الذي يؤول بالنهاية ليس فقط الى تصدع مدماك الوعي الثقافي وانهيار معماره الأخلاقي فحسب، وإنما سيفضي – عاجلا"أم آجلا"- الى تفكك البنى التحتية المسؤولة عن ديناميات وسيرورات التطور الاجتماعي والحضاري برمته .    

***

ثامر عباس

في المثقف اليوم