قضايا

اتفقت أن ألتقي بصديقتي "نور الهدى" في الساعة الثانية عشرة ظهرًا في النادي، وقالت أنها ستحاول أن تجعل ابنة خالتها "فرحة" تخرج معنًا حتى تغير من حالتها النفسية بعد انفصالها عن زوجها. "فرحة" في العقد الثاني من عمرها رزقها الله جمالاً جذاباً، فقد شبهوها بجورجينيا رزق ملكة جمال الكون، إلا أنها تحيا حياة تعيسة بعد زواجها بشاب في أواخر العقد الثاني من العمر، فقد استمر هذا الزواج عامين ونصف من الإهانة اللفظية والجسدية والضرب المتكرر، قد أثمر زواجهما عن إنجاب طفلة. وبعد انفصال "فرحة" تعرضت لمواقف جارحة من بنات جنسها المتزوجات؛ بسبب الخوف من المطلقات خشية أن يخطفن أزواجهن، لذا آثرت الوحدة والعزلة وابتعدت عن الأصدقاء جميعهم لكي تبتعد عن الأقاويل.

جاءت نور بمفردها للنادي، وجلست فسألتها أين فرحة؟

- نور الهدى: قالت لي أنها ستحاول أن تحضر، ولكن كانت حالتها النفسية سيئة للغاية؛ لأن زوج أختها يرفض التعامل معها، بل إنه يضع معوقات ليحول دون لقائها بأختها، خوفًا من أن تفسد عقلها، وتحرضها على عصيانه والطلاق منه.(1)

- لقد أصبحت معاناة كثير من المطلقات في رفض أسرهن والمجتمع على حد سواء.

- نور الهدى: نعم فقد تولد لدي - فرحة وغيرها من المطلقات- الإحساس بالحزن والاكتئاب والقلق وغيرها، فعلى الرغم من اختيارها لفك الرابطة الزوجية، إلا أن الطلاق غالبا ما يترك في نفس المرأة شعورًا بالألم والوحدة وفقدان الأمل في الحصول على السعادة الزوجية، لفقدان ثقتها بالرجل والوثوق به ثانيةً. إلى جانب ذلك - يا آمال- من الناحية المالية يماطل بعض الرجال في دفع النفقة للأولاد من مسكن ومشرب وملبس، فتضطر دائما إلى ملاحقته في المحاكم؛ مما يسبب لها ضررا كبيراً يؤثر فيها وفي الأبناء، مما تعانيه من ضعف النفقة التي يدفعها الرجل لأولاده، لذلك تسعى الكثير من المطلقات لمحاولة إيجاد دخول أخرى تساعدهن على العيش، وهذا حال ابنة خالتي فرحة.(2)

- أتدرين "يا نور" أن من أصعب اللحظات على أي امرأة هي لحظة الانفصال، حيث يخيم الحزن على أوتار قلبها ليصبح بحراً لا شاطي له، وأكثر ما يؤلمني تأثير الطلاق على نفسية الأبناء.

- نور الهدى: أعلم أنكِ من أكثر المنادين بضرورة الحفاظ على كيان الأسرة، ولكن توجد حالات وأسباب متنوعة لا يمكن أن تستمر بها العلاقة الزوجية تتباين من امرأة لأخري فقد تكون ضعف شخصية الزوج وخضوعه لتأثير أمه وسيطرتها على آرائه وميوله وسلوكه نحو زوجته، أو تردده وعجزه عن الحسم واتخاذ القرارات المناسبة في وقتها الملائم. وبعض الأزواج يعمد إلى إهانة أو تحقير زوجته وإساءة معاملتها وضربها ونقدها أمام الغير في كل كبيرة وصغيرة. وقد يكون بسبب عدم توفير المسكن المستقل للزوجة؛ مما يؤدي إلى نشوب الخلافات التي قد تنتهي بالانفصال. وأيضا الغيرة الشديدة لبعض الأزواج والتي تدفعهم إلى فرض قيود حديدية على زوجاتهم، وقد تنقلب إلى حالة من الشك والريبة، وقد يكون السبب بخل الرجل خاصة إذا كان ميسورًا. وكذلك خيانة الرجل لزوجته. واختلاف المستوى الاجتماعي والاقتصادي لكل منهما. وكذلك اختلاف العادات والتقاليد والميول والقيم والمعايير....إلخ(3). المشكلة الكبرى يا آمال في نظرة مجتمعاتنا العربية إلى المرأة المطلقة، ووصفها بأنها سهلة المنال في تصور بعض الرجال وخرابة البيوت في تصور بعض النساء فما السبيل إلى دعم المطلقات للتخلص من الأحكام النمطية التي سادت مجتمعاتنا الشرقية؟

- نحتاج إلى تغيير النظرة التي يتعامل بها المجتمع مع المرأة بعد الطلاق لنساعدها على أن تبدأ حياة جديدة حياة تتخطى ألم التجربة السابقة وفيما أعتقد:

لابد من تقديم الاستشارات النفسية والقانونية للمطلقات وتمكينهن اقتصاديا للتأهل لسوق العمل من خلال تأسيس عدد من الجمعيات والمبادرات - على سبيل المثال- جمعية "دعم" والتي تأسست لرعاية الأرامل والمطلقات بمنطقة "مكة المكرمة" لتقدم الخدمات لشريحة المطلقات والأرامل في المجتمع، والتي لديهن عدد من الاحتياجات المهمة حيث تسعى الجمعية لتقديم المساندة اللازمة والعاجلة لهن، والتي تشتمل على الاستشارات النفسية والقانونية والاجتماعية بالإضافة لتوفير السكن وغيره من الاحتياجات. ولا يقف تقديم الدعم لهذه الفئة على الاستشارات بل تسعى الجمعية لتمكينهن في المجتمع بتأهيلهن على مهارات سوق العمل ومحاولة توظيفهن بالشراكة مع القطاعات ذات العلاقة.(4) ومن المبادرات لدعم المنفصلات- على سبيل المثال- مبادرة "حياة" رُوشتة للتعافي من الطلاق لمساعدة السيدات المعيلات، سواء كُنَّ أرامل أو مطلقات، على المضي قدما في الحياة. تتمثل في تقديم مشورة نفسية من خلال جروبات "واتس آب" وليس "فيسبوك"، حفاظا على الخصوصية. يشارك بالمبادرة إخصائيون نفسيون واثنان من استشاريي العلاقات الأسرية. (3) المبادرة تستهدف تقديم الدعم النفسي للمطلقات ومساعدتهن على تخطي العقبات التي يواجهنها، كغياب الأب عن حياة الأبناء، أو تسلط الابن المراهق على أمه بتوصية من الأب، وهناك مشكلات تعانيها اللائي يرغبن في الزواج ثانية، ويصطدمن برفض الأهل الذين لا يستوعبون احتياجاتهن النفسية. هذا إلى جانب نظرة المجتمع للمطلقة على أنها المذنبة. حن نبدأ بتهيئة المرأة لتقبل العلاج المعرفي السلوكي ومساعدتها على اختيار الأنسب لها من ناحية العمل أو الزواج أو غيره بما يتوافق مع ظروفها وشخصيتها دون توجيه منا. (5)

كذلك استخدام المنظور الفني لتصحيح الصورة النمطية عن المرأة المطلقة، والتي اكتسبت من العادات والتقاليد وثقافة المجتمعات، وترسخت في أذهان الرجال والنساء. وأخيرًا تأسيس عدد من المنصات الإلكترونية التي تتناول قضايا المطلقات، وتعمل على توعيتهن بحقوقهن القانونية، وتقديم الدعم النفسي لهن.

وأخيراً تأسيس عدد من المنصات اللإلكترونية التي تتناول قضايا المطلقات، وتعمل على توعيتهن بحقوقهنّ القانونية، وتقديم الدعم النفسي لهن مع رفع شعار "امرأة مطلقة: تخطي، تحوّل، تقدم" لإدماجهن في المجتمع وتغيير الصورة السلبية تجاههن.

وبالرغم من انتظارنا لـ (فرحة) إلا أنها فضّلت العزلة، فكتبت لها رسالة عبر الواتساب محتواها " عزيزتي (فرحة) كل منا يحيا بين الظلام والنور الضعف والقوة عندما يواجه مواقف حياتية عصيبة كالتي تمرين بها بعد الطلاق، فلا بأس من أن تشعري بالحزن والألم والإحباط ، ولكن عليكِ ألاّ تسمحي لهذه الذكريات المؤلمة أن تأسرك، وتغرق مستقبلك المشرق. لا تقولي أن هذه التجربة نهاية العالم، بل اعتبريها بداية فصل جديد من حياتك، فأنتِ من يقرر مسار حياتك . أنتظرك لتشاركينا إحدى هواياتك المفضلة".

وعلى الرغم من قراءتها لرسالتي إلا أنها لم تبادر بمحادثتي . أتشعر معنا ـ عزيزي القارئ، عزيزتي القارئةـ كم الضغوط النفسية والاجتماعية والمهنية والقانونية التي تواجهها المطلقات في مجتمعاتنا العربية؟

نسوية_شرقية

***

د. آمال طرزان

.....................

(1) عيسى، بريهان فارس: المرأة ومعضلة الطلاق وزارة الاوقاف والشئون الإسلامية عدد 530 .2009م.ص61.

(2) حسين خلف الله، واخرون : الطلاق أسبابه وآثاره على الأسرة والمجتمع. ص779.

(3) سامية عبداللطيف: الطلاق ودور المرأة وزارة الاوقاف والشؤون الاسلامية عدد 256 1986م ص111- 112

(4)   https://www.daam.org.sa/#

(5)   https://gate.ahram.org.eg/News/2545140.aspx

بقلم: جلين جيهر

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

عشرة مفاهيم نفسية مهمة لا يفهمها الناس حيث يخطئون في فهم السلوك

الشيء المثير للاهتمام في علم النفس هو أن الجميع، بقطع النظر عن خلفيتهم التعليمية، يشعرون وكأنهم خبراء في هذا المجال.وهذا لا ينطبق، على سبيل المثال، على الكيمياء الحيوية أو الكيمياء الجيولوجية أو الفيزياء الفلكية.

كشخص يدرس علم النفس البشري من منظور علمي من أجل لقمة العيش - وكشخص يريد فقط أن يفهم ما يحدث مع الناس - فأنا أفهم هذا. ليس كل من حصل على دكتوراه في علم النفس عبقريا خاصة فيما يتعلق بفهم حالة الإنسان. وقد ألقى الكثير من "غير علماء النفس" ضوءًا مهمًا على طبيعة السلوك البشري، مثل كورت فونيجت، وفريدا كاهلو، وبوب ديلان، ومارك توين، وويليام شكسبير، وغيرهم.

ومع ذلك، كشخص من داخل المجال الرسمي لعلم النفس العلمي، وباعتباري شخصًا قام بتدريس فصول على المستوى الجامعي في هذا المجال لعقود من الزمن، أعتقد أنه من الجدير بالملاحظة أن هناك العديد من المفاهيم الخاطئة الشائعة حول علم النفس البشري. وبعبارة أخرى، هناك مفاهيم في هذا المجال يجد طلاب علم النفس صعوبة في فهمها بشكل واضح .

فيما يلي قائمة بعشرة مفاهيم نفسية يجد الطلاب صعوبة في فهمها بانتظام:

1. أنواع الشخصية مقابل أبعاد الشخصية

في أغلب الأحيان، يتحدث علماء النفس الذين يدرسون مفاهيم الشخصية، مثل النرجسية، عن بُعد مستمر يختلف الناس عليه، وليس متغيرًا قاطعًا. بالنسبة لحصة الأسد من السمات الشخصية، يتحدث علماء النفس عن الدرجة التي يسجل بها شخص ما درجات عالية في أحد الأبعاد (على سبيل المثال، سجل جو أعلى بقليل من المتوسط في النرجسية)، وليس ما إذا كان الشخص "في هذه الفئة" بشكل قاطع أم لا.

2. الطبيعة مقابل التنشئة

نادراً ما يعتبر علماء النفس أن سبب بعض السلوكيات يرجع فقط إلى "الطبيعة" (أي علم الأحياء بشكل عام) أو "التنشئة" (البيئة). في أغلب الأحيان، سيتحدث علماء النفس عن بعض الخصائص النفسية (على سبيل المثال، مدى انفتاح شخص ما) باعتبارها نتاجًا للتفاعل بين الطبيعة والتنشئة طوال الحياة. إن فكرة أن السلوك يرجع فقط إلى الطبيعة أو التنشئة هي في الواقع مجرد أسطورة.

3. عالم النفس مقابل المعالج

ربما يكون مصطلح "عالم النفس" أوسع مما تعتقد. عالم النفس هو أي شخص يدرس السلوك (عبر الأنواع) و/أو يسعى جاهداً لتطبيق أفكار من أبحاث العلوم السلوكية للمساعدة في حل مشكلات محددة، مثل الصحة العقلية للعملاء. مصطلح "المعالج" أكثر تحديدًا وينطبق فقط على الأشخاص الذين يطبقون المفاهيم النفسية لمساعدة الأفراد على التعامل مع المشكلات النفسية (مثل مستشاري الصحة العقلية). المصطلحان غير قابلين للتبادل.

4. عالم النفس مقابل الطبيب النفسي

علماء النفس هم علماء أو ممارسون سلوكيون يدرسون السلوك من منظور علمي أو يطبقون مثل هذه المفاهيم على القضايا التطبيقية (مثل مساعدة الأفراد على التعامل مع المشكلات الشخصية).أما الأطباء النفسيون فهم أطباء يستخدمون مزيجًا من التدريب على العلوم الطبية والسلوكية لمساعدة الأشخاص على التعامل مع المشكلات. لذا فإن الطبيب النفسي هو نوع خاص من المعالجين. والمصطلحان: عالم النفس والطبيب النفسي غير قابلين للتبادل.

5. الخطأ من النوع الأول

يعتمد البحث النفسي إلى حد كبير على النتائج الإحصائية. عندما يحصل أحد الباحثين على نتيجة في دراسة تظهر أنها "مهمة"، فقد يكون مخطئًا - في الواقع، لا يمكن أن تكون النتيجة تمثيلًا صحيحًا لكيفية سير الأمور في العالم، بغض النظر عما وجده الباحث. إذا وجد الباحث شيئًا مهمًا، لكنه في الواقع خاطئ، فإننا نسمي هذا "خطأ من النوع الأول".

6. الخطأ من النوع الثاني

إذا توصل الباحث إلى نتيجة في دراسة تبين أنها "غير هامة"، فمن الممكن أن يكون مخطئًا. عندما يجد أحد الباحثين أن شيئًا ما ليس مهمًا ولكنه خاطئ بالفعل، فإننا نسمي هذا "خطأ من النوع الثاني".

7. التجربة مقابل شبه التجربة

التجربة الحقيقية هي الطريقة الوحيدة لاستخلاص استنتاجات سببية فيما يتعلق بالعلاقة بين المتغيرات. وتتطلب التجربة الحقيقية تعيينًا عشوائيًا لظروف مختلفة.

إذا كنت تجري دراسة وتريد معرفة ما إذا كان الأشخاص في موقف ما (على سبيل المثال، أولئك الذين يشربون الكثير من القهوة) يتصرفون بشكل مختلف عن أولئك في حالة أخرى (على سبيل المثال، أولئك الذين لا يشربون القهوة)، فأنت بحاجة إلى تعيين الأشخاص عشوائيًا إلى أحد هذين الموقفين.إن الدراسة التي تبحث عن الاختلافات في بعض النتائج بين المجموعات التي تحدث بشكل طبيعي (على سبيل المثال، الأشخاص الذين يشربون القهوة بانتظام مقابل أولئك الذين لا يشربونها) هي "شبه تجربة" ولا يمكنها تحديد ما إذا كانت التغييرات في متغير واحد تسبب تغييرات في المتغير الآخر.

8. التفاعلات الإحصائية

في بعض الأحيان، يكون للمتغير تأثير واحد على مجموعة واحدة من الأشخاص وتأثير مختلف تمامًا على مجموعة أخرى من الأشخاص. ولذلك، فإن تأثيرات بعض المتغيرات على بعض متغيرات النتيجة تعتمد في كثير من الأحيان على بعض المتغيرات الأخرى.

إذا كنت تريد معرفة ما إذا كان المراهقون أكثر عرضة من الفئات العمرية الأخرى لاختيار أن يكونوا بصحبة الآخرين، فسيكون من المفيد معرفة ما إذا كانوا، على سبيل المثال، قد قاموا بتمشيط شعرهم خلال الـ 24 ساعة الماضية، وما إذا كانوا سيفعلون ذلك. كن بصحبة أفراد العائلة أو الغرباء. قد يكون المراهقون الذين لم يمشطوا شعرهم أكثر عرضة لاختيار صحبة الآخرين إذا كانوا سيكونون بصحبة أفراد الأسرة.

في بعض الأحيان، تعتمد تأثيرات متغير واحد (أي الأشخاص الذين ستقضي معهم الوقت) على متغير آخر (سواء قمت بتمشيط شعرك) في تحديد بعض النتائج (سواء اخترت رؤية هؤلاء الأشخاص). يساعدنا فهم التفاعلات الإحصائية على فهم الفروق الدقيقة في السلوك.

9. ما هو "طبيعي" مقابل ما هو "صحيح"

أحيانًا يسمع الطالب سلوكًا يوصف بأنه "طبيعي" ويخطئ في تفسير ذلك على أنه يعني أن السلوك صحيح أو مبرر من الناحية الأخلاقية. على سبيل المثال، قدم ديفيد بوس (2006) حجة جيدة مفادها أن القتل في البشر له أساس تطوري قوي. الأهم من ذلك، أن بوس لا يجادل بأن جرائم القتل "يجب" أن تحدث بين البشر. بل إن تحليله العلمي للقضايا يشير إلى أن القتل جزء من طبيعة الإنسان.

إن الخلط بين ما هو "كائن" وما "يجب أن يكون" هو مثال على التفكير المضلل. يتم ويُدرب علماء النفس المؤهلين علميا على هذا التمييز المهم.

10. الأسباب المتعددة

إحدى المشاكل الأساسية في كيفية فهم معظم الناس لعلم النفس هي: غالبًا ما يقع الناس في فخ الاعتقاد بأن هناك سببًا واحدًا لأي نتيجة سلوكية. في الواقع، يدرك علماء النفس المدربون جيدًا أن الأسباب المتعددة غالبًا ما تشارك في تكوين أي سلوك.

وتقدم حوادث إطلاق النار الجماعي، التي تمثل جانباً مروعاً من جوانب الحياة الحديثة، مثالاً واضحاً لهذا النوع من التفكير. يجادل البعض بأن عمليات إطلاق النار الجماعية هي نتيجة لمشاكل الصحة العقلية. ويرى آخرون أن عمليات إطلاق النار الجماعية هي نتيجة لضعف قوانين السيطرة على الأسلحة. في الواقع، لقد ثبت أن كلتا القضيتين تلعبان دورًا. كما دخلت عوامل أخرى عديدة في هذه القضية الاجتماعية المعقدة. بالنسبة لغالبية السلوكيات، هناك عوامل متعددة تلعب دورًا.

الحد الأدنى

سواء أحب الآخرون في مجالنا ذلك أم لا، فإن الحصول على درجة الدكتوراه في علم النفس لا يؤهلنا حقًا لأن نكون خبراء في السلوك البشري برمته. في الواقع، هناك خبراء في السلوك البشري من مختلف المجالات.

ومع ذلك، فقد ألقى المجال الرسمي لعلم النفس العلمي ضوءًا مهمًا على معنى أن تكون إنسانًا. من وجهة نظر شخص قام بالتدريس في هذا المجال لعقود من الزمن، أستطيع أن أقول إن القضايا الموضحة هنا هي مفاهيم يجد الطلاب صعوبة في فهمها بانتظام. لتعزيز معرفتنا بما يعنيه أن تكون إنسانًا، سيكون من الحكمة التأكد من أن طلاب علم النفس يظهرون فهمًا قويًا لهذه المفاهيم قبل الخروج إلى العالم.

(تمت)

***

..........................

مراجع بوس، دي إم (2006). القاتل المجاور: لماذا تم تصميم العقل للقتل.  نيويورك: بنجوين.

المؤلف: جلين جير/  Glenn Geher دكتوراه فى علم النفس، وأستاذ علم النفس في جامعة ولاية نيويورك في نيو بالتز. والمدير المؤسس لبرنامج الدراسات التطورية (EvoS) بالجامعة.

عالمنا الحالي مأهول بعدد واسع من مختلف الاشياء – تتراوح من الجينات والحيوانات الى الذرات والجزيئات والمجالات. وبينما يمكن وصف جميع هذه الاشياء بواسطة العلوم الطبيعية، لكن بعض منها يمكن فهمه فقط بلغة البايولوجي بينما اخرى يمكن استطلاعها فقط باستعمال الكيمياء او الفيزياء. وعندما نأتي لسلوك الانسان، نجد موضوعات مثل السوسيولوجي او السايكولوجي هي الأكثر فائدة. هذا الثراء دفع الفلاسفة للتفكير في الكيفية التي تترابط (او لا تترابط) بها العلوم، وكذلك حول الكيفية التي تتصل بها الأشياء مع بعضها في العالم . المشروع الجديد الذي يعكف عليه الخبراء اليوم يسمى التوحيد الميتافيزيقي للعلوم ويُموّل من جانب مجلس البحوث الاوربي، حيث يحاول الاجابة على هذه الاسئلة.

الفلسفة عموما، تميّز بين سؤالين رئيسيين اثنين في هذا المجال. اولا، هناك السؤال الابستيمولوجي عن الكيفية التي ترتبط بها علوم معينة او نظريات معينة مع بعضها. فمثلا، كيف يرتبط البايولوجي بالفيزياء او علم النفس بالبايولوجي؟ هذا يركز على طريقة معرفتنا بالعالم. انه يستلزم النظر الى مفاهيم، توضيحات ومنهجيات مختلف العلوم والنظريات، وفحص كيف تترابط مع بعضها. لكن هناك ايضا سؤال ميتافيزيقي عن الكيفية التي تترابط بها الاشياء في العالم. هل هي فوق المادة التي تفترضها الفيزياء الاساسية؟ أي، هل ان الجزيئات، الكراسي، الجينات، الدولفينات فقط تراكم معقد لجسيمات ما دون الذرة ولتفاعلاتها الفيزيائية الأساسية؟ اذا كان الامر كذلك، بماذا تختلف المادة الحية عن المادة غير الحية؟

هذا سؤال صعب جدا نظرا لما يحمله من وزن وجودي. اذا كان الانسان، من بين اشياء اخرى، هو فقط مجموع أجزاء مادية، عندئذ نحن قد نتسائل كيف نجعل هناك معنى للوعي والعواطف والرغبة الحرة.

رؤيتان متطرفتان

يمكننا تحديد المواقف الفلسفية القائمة حاليا ضمن قطبين متطرفين. من جانب، هناك موقف اختزالي يدّعي ان كل شيء مصنوع ومقرر بلبنات البناء المادي – لا وجود هناك لكراسي، دولفينات، او جينات، هناك فقط جسيمات و مجالات. هذا يعني ان العلوم مثل الكيمياء والبايولوجي هي فقط أدوات مفيدة لفهم واستعمال العالم الذي حولنا.

من حيث المبدأ، الفيزياء "الصحيحة" سوف توضح كل شيء يحدث ويوجد في هذا العالم. لهذا هي يمكن ان تكون، او تبني الأساس لنظرية موحدة. وفق هذه الرؤية، حتى الشيء المعقد مثل الوعي، الذي لم يوضحه العلم بعد، هو بالنهاية ينحدر الى سلوك فيزيائي للجسيمات التي تشكل الخلايا العصبية للدماغ.

ومن جهة اخرى، هناك موقف تعددي يرى ان كل شيء في العالم له وجود مستقل لا يمكن تجاهله. وبينما هناك فهم تُحكم فيه الوجودات الكيميائية، البايولوجية، الاقتصادية بقوانين مادية، لكن هذه الوجودات ليست مجرد تراكم للمادة الفيزيائية بل، هي توجد بمعنى ما فوق المادي. هذا يعني ان العلوم الخاصة ليست فقط وسائل تخدم اهدافا معينة وانما هي اوصاف دقيقة وحقيقية تعرّف سمات حقيقية للعالم. لذلك، فان العديد من التعدديين هم لذلك يشككون حول ما اذا كان الوعي يمكن توضيحه بواسطة الفيزياء – معتقدين انه في الحقيقة اكثر من مجموع أجزاءه المادية.

هناك دليل لدعم كل من الاختزالية والتعددية، لكن هناك ايضا معارضات ضدهما. بينما العديد من الفلاسفة حاليا يعملون على معالجة هذه المعارضات، آخرون يركزون على ايجاد طرق جديدة للاجابة على تلك الأسئلة. هنا تأتي "وحدة العلوم". ان الفكرة التي تنشأ من الجانب الاختزالي ترى ان العلوم موحدة. لكن بعض اشكال الوحدة ترفض الاختزالية والهرميات الصارمة التي تدعو لها بين العلوم، لكنها مع ذلك تتبع اطروحة واسعة بان العلوم بطريقة ما هي مترابطة او تعتمد على بعضها البعض.

فريق البحث، المؤلف من فلاسفة ذوي خبرة في مختلف حقول الفلسفة والعلم، يحاول ايجاد طرق جديدة للتفكير حول وحدة العلوم. الفريق يريد تحديد المعيار الملائم الذي يكفي للادّعاء المقنع بان شكلا من الوحدة حاصل بين العلوم الطبيعية. هم ايضا، ينظرون في دراسة حالات لكي يحققوا في العلوم "المجاورة" وكيف تعتمد على بعضها.

المحصلة من المشروع ستكون لها نتائج هامة تتعدى الفضول الاكاديمي، ستساعد بالنهاية في تقدّم العلوم. اذا كانت هناك حقا طريقة لوصف كيفية ارتباط الحياة بالجزيئات الاولية، فهي سوف تغير اللعبة بالكامل. حتى الان، قام المشروع بعدد من حالات دراسية على الحدود الفاصلة بين البايولوجي والكيمياء، وبين الكيمياء والفيزياء. الان يجري تطبيق نتائج تلك الحالات على اطار ميتافيزيقي لوحدة العلوم. فمثلا، أحد الطلبة بيّن ان العديد من خصائص البروتونات البايولوجية يمكن توضيحها وفق بنيتها المجهرية الكيميائية، بدلا من بيئتها. هذا لا يثبت ان الاختزالية صحيحة، وانما هي فقط تدعم الرؤية.

دراسة اخرى حققت في قضايا مشابهة من منظور الكيمياء وميكانيكا الكوانتم. كلا النظريتين تفترضان ان المركب المنعزل له تركيب معين وهو ثابت، لكن الدراسة جادلت بانك لا تستطيع اثبات ان هذه هي الحالة بالضبط – هذا عادة يوصف بـ المثالية. انها بيّنت ان كل من الكيمياء وميكانيكا الكوانتم تعتمدان على صنع مثل هذه المثاليات وجادلا بان تحديدها يمكن ان يحسّن فهمنا الميتافيزيقي للمركّبات . بالنهاية، فهم الترابطات للعلوم الطبيعية هو مصدر ثمين لفهم ليس فقط العالم الذي حولنا، وانما لفهم أنفسنا. البعض يأمل ان التحقيق في هذه الارتباطات يمكن ان يسلط الضوء بطرق جديدة على الكيفية التي تترابط بها الاشياء في العالم مع بعضها.

***

حاتم حميد محسن

المنطق هو عنصر أساسي في التفكير النقدي ومهارات حل المشكلات. إنه الأساس الذي تُبنى عليه الحجج العقلانية وتُتخذ القرارات. وبدون المنطق، سيواجه الأفراد صعوبة في فهم العالم من حولهم والتعامل مع المواقف المعقدة بفعالية. ولهذا السبب من الأهمية بمكان أن تعطي المدارس الأولوية لتدريس علم المنطق للطلاب.

أحد الأسباب الرئيسية وراء ضرورة تدريس المنطق في المدارس هو أنه يساعد الطلاب على تطوير مهاراتهم التحليلية. من خلال تعلم كيفية تحديد وتقييم أنواع مختلفة من الاستدلال، يمكن للطلاب فهم نقاط القوة والضعف في الحجج المختلفة بشكل أفضل. وهذا يمكّنهم من التفكير بشكل أكثر نقدًا بشأن المعلومات التي يواجهونها واتخاذ قرارات أكثر استنارة.

المنطق ضروري للتواصل الفعال. إن القدرة على بناء الحجج المنطقية واكتشاف المغالطات في حجج الآخرين أمر بالغ الأهمية للمشاركة في مناظرات ومناقشات هادفة. وبدون فهم أساسي للمنطق، قد يواجه الأفراد صعوبة في توصيل أفكارهم بشكل واضح ومقنع، مما يحد من قدرتهم على التأثير على الآخرين والتعاون بشكل فعال.

يلعب المنطق دورا رئيسيا في حل المشكلات. ومن خلال تطبيق التفكير المنطقي على المشكلات المعقدة، يمكن للطلاب تقسيمها إلى أجزاء يمكن التحكم فيها وتحديد الحلول المحتملة. وهذا يمكنهم من التعامل مع التحديات بطريقة منهجية ومنظمة، مما يزيد من فرصهم في تحقيق نتائج باهرة.

إن تدريس المنطق في المدارس يمكن أن يساعد الطلاب على تطوير قدراتهم الإبداعية. و من خلال تعلم كيفية التفكير النقدي والتفكير المنطقي، يمكن للطلاب توسيع عقولهم واستكشاف إمكانيات جديدة. وهذا يمكن أن يؤدي إلى أفكار وحلول مبتكرة لم يكن من الممكن النظر فيها بطريقة أخرى.

وبدون أساس قوي في المنطق، يكون الأفراد أكثر عرضة للتضليل والتلاعب. في العصر الرقمي اليوم، حيث المعلومات متاحة بسهولة وغالبا ما تكون مشوهة، أصبحت مهارات التفكير النقدي أكثر أهمية من أي وقت مضى. ومن خلال تدريس المنطق في المدارس، يمكننا تمكين الطلاب من التشكيك في ما يرونه ويسمعونه، واتخاذ خيارات مستنيرة بشأن المعلومات التي يستهلكونها.

يعد المنطق جانبا أساسيا للنجاح الأكاديمي. تعد القدرة على بناء حجج واضحة ومسببة بشكل جيد أمرا ضروريا لكتابة المقالات واستكمال المشاريع البحثية والمشاركة في مناقشات الفصل الدراسي. ومن خلال تزويد الطلاب بمهارات التفكير المنطقي، يمكن للمدارس مساعدتهم على التفوق في دراستهم وإعدادهم لمواجهة التحديات الأكاديمية المستقبلية.

ومن الجدير بالذكر أيضا أن المنطق ليس مهما للنجاح الأكاديمي فحسب، بل للنجاح الشخصي والمهني أيضا. الأفراد الذين يمتلكون مهارات تفكير نقدي قوية هم مجهزون بشكل أفضل للتعامل مع تعقيدات العالم الحديث واتخاذ قرارات سليمة في حياتهم الشخصية والمهنية. ومن خلال تدريس المنطق في المدارس، يمكننا مساعدة الطلاب على تطوير هذه المهارات الأساسية وإعدادهم لتحقيق النجاح في المستقبل.

المنطق هو مهارة حاسمة يجب أن يمتلكها جميع الأفراد. ومن خلال تدريس المنطق في المدارس، يمكننا مساعدة الطلاب على تطوير تفكيرهم النقدي وحل المشكلات ومهارات الاتصال، وإعدادهم لتحقيق النجاح في جميع مجالات حياتهم. وبدون المنطق، يتعرض الأفراد لخطر التأثر بالمعلومات المضللة، وعدم القدرة على التفكير بشكل نقدي في العالم من حولهم، وعدم التجهيز لاتخاذ قرارات مستنيرة. لذلك، من الضروري أن تعطي المدارس الأولوية لتدريس المنطق لضمان تزويد الأجيال القادمة بالأدوات التي يحتاجونها للنجاح في عالم متزايد التعقيد.

المنطق الرياضي:

المنطق الرياضي هو فرع من الرياضيات الذي يتعامل مع المنطق الرسمي. ويهتم بدراسة النماذج الرياضية للاستدلال والبراهين.  و أحد المفاهيم الأساسية في المنطق الرياضي هو العبارة المنطقية. العبارة المنطقية هي جملة تعريفية يمكن أن تكون صحيحة أو خاطئة. يمكن تمثيل العبارة برمز، مثل P أو Q أو R. ويمكن دمج العبارات المنطقية باستخدام عوامل تشغيل منطقية، مثل AND وOR وNOT. على سبيل المثال، تكون العبارة "P AND Q" صحيحة إذا كان كل من P وQ صحيحة، وتكون خاطئة بخلاف ذلك.

هناك مفهوم آخر مهم في المنطق الرياضي هو النظام المنطقي. يتكون النظام المنطقي من مجموعة من البديهيات، أو الافتراضات الأساسية، ومجموعة من القواعد لاستخلاص بيانات جديدة من هذه البديهيات. النظام المنطقي الأكثر شهرة هو المنطق الافتراضي الكلاسيكي، الذي يتعامل مع البيانات المنطقية ومجموعاتها.

إحدى النتائج الرئيسية في المنطق الرياضي هي نظرية الاكتمال، والتي تؤكد أنه يمكن إثبات كل عبارة منطقية صحيحة باستخدام قواعد نظام منطقي معين. توفر هذه النظرية مبررا رسميا لاستخدام التفكير المنطقي في الرياضيات والمجالات الأخرى.

ثمة نتيجة أخرى مهمة في المنطق الرياضي هي نظرية عدم الاكتمال، والتي أثبتها كورت جودل في عام 1931. تنص هذه النظرية على أن هناك بيانات رياضية صحيحة لا يمكن إثباتها ضمن نظام منطقي معين. هذه النتيجة لها آثار عميقة على أسس الرياضيات وأثارت جدلا كبيرا بين الفلاسفة وعلماء الرياضيات.

للمنطق الرياضي العديد من التطبيقات العملية في علوم الكمبيوتر والذكاء الاصطناعي. على سبيل المثال، تعتمد لغات البرمجة المنطقية، مثل Prolog، على المنطق الرياضي وتستخدم لتمثيل المعرفة في أنظمة الكمبيوتر والتفكير فيها.

يلعب المنطق الرياضي أيضًا دورًا حاسمًا في تطوير الأساليب الرسمية للتحقق من البرامج وصحتها. باستخدام الاستدلال المنطقي وتقنيات الإثبات، يمكن لمطوري البرامج التأكد من أن برامجهم تعمل على النحو المنشود وأنها خالية من الأخطاء.

بالإضافة إلى تطبيقاته العملية، كان للمنطق الرياضي أيضا تأثير كبير على فلسفة الرياضيات. لقد أدت دراسة الأنظمة المنطقية وخصائصها إلى تعميق فهمنا لطبيعة الحقيقة الرياضية وحدود الاستدلال الرسمي.

يعد المنطق الرياضي مجالا غنيا ومتنوعا ساهم في العديد من مجالات الرياضيات وعلوم الكمبيوتر والفلسفة. وتستمر مفاهيمها ونتائجها في تشكيل فهمنا للتفكير المنطقي وتطبيقاته في مختلف التخصصات.

المنطق الفلسفي:

المنطق الفلسفي هو فرع من فروع الفلسفة يتعامل مع دراسة النظم الرسمية للاستدلال وكيفية ارتباطها بطبيعة الواقع والمعرفة واللغة. أنه ينطوي على تحليل الهياكل المنطقية والحجج من أجل فهم المبادئ التي تحكم الفكر والخطاب العقلاني. يعد المنطق الفلسفي أداة حيوية للفلاسفة في سعيهم لتوضيح وتقييم الحجج والنظريات والمفاهيم في مجالات مختلفة من الفلسفة.

إن أحد الأهداف الرئيسية للمنطق الفلسفي هو تقديم تفسير واضح ودقيق لمبادئ الاستدلال الصحيح. تُستخدم الأنظمة المنطقية مثل المنطق المقترح والمنطق المسند والمنطق المشروط لتحليل بنية الحجج وتحديد ما إذا كانت صالحة أم غير صالحة. ومن خلال فهم قواعد الاستدلال والقوانين المنطقية، يستطيع الفلاسفة تقييم صحة وصحة الحجج، وتقييم تماسك النظريات والمفاهيم المختلفة.

ثمة جانب آخر مهم من المنطق الفلسفي هو دراسة المفارقات المنطقية وآثارها على فهمنا للغة والواقع. المفارقات مثل المفارقة الكاذبة، ومفارقة الكومة، ومفارقة الاستدلال التراكمي تتحدى الافتراضات التقليدية حول الحقيقة والمعنى والهوية. يستخدم الفلاسفة أدوات منطقية لتحليل هذه المفارقات واستكشاف كيفية حلها أو استيعابها ضمن أطر منطقية مختلفة.

بالإضافة إلى تحليل الهياكل والحجج المنطقية، يلعب المنطق الفلسفي أيضا دورا حاسما في دراسة الدلالات وفلسفة اللغة. تدرس الدلالات المنطقية العلاقة بين اللغة والعالم، وكيف يمكن للغة أن تنقل الحقيقة والمعنى. من خلال تحليل البنية المنطقية للأنواع المختلفة من التعبيرات اللغوية، يمكن للفلاسفة أن يفهموا بشكل أفضل كيفية عمل اللغة وكيف يمكن أن تمثل الواقع.

يلعب المنطق الفلسفي أيضا دورا مركزيا في دراسة الميتافيزيقا ونظرية المعرفة. يستخدم المنطق لتحليل وتقييم النظريات الميتافيزيقية المختلفة حول طبيعة الواقع والوجود والسببية. ومن خلال تطبيق الأدوات المنطقية على الحجج الميتافيزيقية، يستطيع الفلاسفة تقييم تماسكها وصلاحيتها، وتحديد ما إذا كانت تقدم تفسيرا مرضيا للطبيعة الأساسية للواقع.

يرتبط المنطق الفلسفي ارتباطا وثيقا بدراسة نظرية المعرفة، التي تتناول طبيعة المعرفة ونطاقها. المنطق ضروري لتحليل وتقييم الأنواع المختلفة من ادعاءات المعرفة، وتحديد ما إذا كانت مبررة أو مبررة. ومن خلال تطبيق المبادئ المنطقية على الحجج المعرفية، يمكن للفلاسفة أن يفهموا بشكل أفضل طبيعة المعرفة والاعتقاد والتبرير.

إن أحد التحديات الرئيسية في المنطق الفلسفي هي مشكلة التعددية المنطقية، التي تنشأ من تنوع النظم والمناهج المنطقية. يمكن استخدام أنظمة منطقية مختلفة لتحليل وتقييم الحجج في سياقات مختلفة، مما قد يؤدي إلى نتائج واستنتاجات متضاربة. يجب على الفلاسفة أن يتعاملوا مع مسألة كيفية التوفيق بين تنوع الأنظمة المنطقية وتحديد النظام الأكثر ملاءمة لسياق معين.

هناك جانب آخر مهم من المنطق الفلسفي هو دراسة النتيجة المنطقية والصلاحية. النتيجة المنطقية هي العلاقة بين المقدمات والاستنتاجات في الحجة، حيث يتبع الاستنتاج منطقيا من المقدمات. الصدق هو خاصية الحجج التي تكون النتيجة فيها بالضرورة من المقدمات، وفقا لقواعد الاستدلال والقوانين المنطقية. يستخدم الفلاسفة أدوات منطقية لتحليل وتقييم صحة الحجج، وتحديد ما إذا كانت توفر أساسا سليما لقبول أو رفض استنتاجات معينة.

يلعب المنطق الفلسفي أيضا دورا حاسما في دراسة المنطق الرياضي وأسس الرياضيات. يتم استخدام الأدوات المنطقية مثل نظرية المجموعات والأنظمة الرسمية ونظرية الإثبات لتحليل وإضفاء الطابع الرسمي على المفاهيم والهياكل الرياضية. ومن خلال تطبيق المبادئ المنطقية على الاستدلال الرياضي، يستطيع الفلاسفة أن يفهموا بشكل أفضل طبيعة الحقيقة الرياضية، وحدود المعرفة الرياضية، والعلاقة بين الرياضيات والمنطق.

المنطق الفلسفي هو فرع حيوي من الفلسفة يتعامل مع دراسة أنظمة التفكير الرسمية وآثارها على فهمنا للواقع والمعرفة واللغة. من خلال تحليل الهياكل والحجج المنطقية، يمكن للفلاسفة توضيح وتقييم النظريات والمفاهيم المختلفة في مختلف مجالات الفلسفة. يلعب المنطق الفلسفي دورا مركزيا في دراسة الميتافيزيقا، ونظرية المعرفة، وعلم الدلالة، وأسس الرياضيات. كما يتناول تحديات مثل التعددية المنطقية، والمفارقات، وطبيعة النتيجة المنطقية وصلاحيتها. بشكل عام، يوفر المنطق الفلسفي للفلاسفة أداة قوية لفحص وإلقاء الضوء على المبادئ التي تحكم الفكر العقلاني والفلسفة.

المنطق والذكاء الصناعي:

الذكاء الاصطناعي، هو مجال من علوم الكمبيوتر يهدف إلى إنشاء آلات قادرة على أداء المهام التي تتطلب عادة الذكاء البشري. أحد المكونات الرئيسية للذكاء الاصطناعي هو المنطق، وهو الأساس لبناء الأنظمة الذكية. يشير منطق الذكاء الاصطناعي إلى القواعد والمبادئ التي تحكم سلوك أنظمة الذكاء الاصطناعي، مما يسمح لها باتخاذ القرارات وحل المشكلات والتعلم من تجاربها.

أحد المفاهيم الأساسية في منطق الذكاء الاصطناعي هو الاستدلال، والذي يتضمن القدرة على استنتاج استنتاجات من معلومات معينة. تستخدم أنظمة الذكاء الاصطناعي أشكالا مختلفة من الاستدلال، مثل الاستدلال الاستنتاجي والاستقرائي والابعادي، لاتخاذ القرارات وحل المشكلات. يتضمن الاستدلال الاستنباطي استخلاص استنتاجات منطقية من مجموعة من المقدمات، في حين يتضمن الاستدلال الاستقرائي التعميم من ملاحظات محددة. من ناحية أخرى، يتضمن التفكير الافتراضي إجراء تخمينات مدروسة بناءً على الأدلة المتاحة.

هناك جانب آخر مهم من منطق الذكاء الاصطناعي هو تمثيل المعرفة. تستخدم أنظمة الذكاء الاصطناعي تقنيات مختلفة لتمثيل المعرفة، مثل القواعد والأطر والشبكات الدلالية، لتخزين المعلومات وتنظيمها. تسمح هذه التمثيلات لأنظمة الذكاء الاصطناعي بالوصول إلى المعرفة ومعالجتها بكفاءة، مما يمكنها من أداء مهام معقدة مثل معالجة اللغة الطبيعية والتعرف على الصور والقيادة الذاتية.

يشمل منطق الذكاء الاصطناعي أيضًا استخدام الخوارزميات، وهي عبارة عن إجراءات خطوة بخطوة لحل المشكلات أو أداء المهام. تستخدم أنظمة الذكاء الاصطناعي الخوارزميات لمعالجة البيانات واتخاذ القرارات والتعلم من تجاربها. هناك أنواع مختلفة من الخوارزميات المستخدمة في الذكاء الاصطناعي، مثل خوارزميات البحث، وخوارزميات التحسين، وخوارزميات التعلم الآلي، وكل منها مصمم لمعالجة أنواع مختلفة من المشكلات والمهام.

ثمة مفهوم آخر مهم في منطق الذكاء الاصطناعي هو الاستدلال في ظل عدم اليقين. غالبا ما يتعين على أنظمة الذكاء الاصطناعي اتخاذ قرارات في ظل وجود معلومات غير كاملة أو غير مؤكدة. يعد المنطق البايزي والتفكير الاحتمالي ونظرية القرار بعضا من التقنيات المستخدمة في الذكاء الاصطناعي للتعامل مع عدم اليقين واتخاذ قرارات مستنيرة.

يتضمن منطق الذكاء الاصطناعي أيضًا دراسة البنى المعرفية، وهي أطر لبناء أنظمة ذكية تحاكي الإدراك البشري. توفر البنى المعرفية، مثل ACT-R، وSOAR، وCLARION، للباحثين والمطورين مخططا لبناء أنظمة ذكية يمكنها التفكير والتعلم والتكيف مع المواقف الجديدة.

إن أحد التحديات في منطق الذكاء الاصطناعي هو مسألة المنطق السليم. غالبًا ما تكافح أنظمة الذكاء الاصطناعي لفهم المواقف اليومية التي يعتبرها البشر أمرًا مفروغًا منه. يعد تطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي التي يمكنها التفكير بناء على المعرفة المنطقية مجالا مستمرا للبحث في منطق الذكاء الاصطناعي.

يلعب منطق الذكاء الاصطناعي أيضا دورا حاسما في تطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي الأخلاقية. مع ازدياد تقدم تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي وانتشارها، هناك قلق متزايد بشأن الآثار الأخلاقية لأنظمة الذكاء الاصطناعي. يمكن لمنطق الذكاء الاصطناعي أن يساعد الباحثين والمطورين على تصميم أنظمة الذكاء الاصطناعي التي تلتزم بالمبادئ الأخلاقية وتحترم القيم الإنسانية.

يعد منطق الذكاء الاصطناعي جانبا أساسيا من الذكاء الاصطناعي الذي يدعم تصميم وتطوير الأنظمة الذكية. من خلال دراسة المنطق، وتمثيل المعرفة، والخوارزميات، وعدم اليقين، والبنى المعرفية، والمنطق السليم، والمخاوف الأخلاقية، يمكن للباحثين والمطورين إنشاء أنظمة ذكاء اصطناعي ذكية وأخلاقية. منطق الذكاء الاصطناعي هو مجال ديناميكي يستمر في التطور حيث يسعى الباحثون لبناء أنظمة ذكاء اصطناعي أكثر ذكاءً ومسؤولية.

المنطق العلمي:

المنطق العلمي هو جانب أساسي من المنهج العلمي. إنها العملية التي يستخدم من خلالها العلماء الاستدلال والأدلة لدعم أو دحض الفرضيات، واستخلاص النتائج، والتنبؤات حول العالم الطبيعي. يعتمد المنطق العلمي على الالتزام بالاستدلال المرتكز على الأدلة والملاحظة والتجربة.

في قلب المنطق العلمي توجد فكرة تكوين فرضيات يمكن اختبارها من خلال الملاحظة والتجريب الدقيقين. تعتمد هذه الفرضيات على المعرفة السابقة والنظريات الموجودة والتفكير المنطقي. يستخدم العلماء المنطق الاستنتاجي للتوصل إلى فرضيات يمكن اختبارها للتنبؤ بالعالم الطبيعي.

بمجرد تشكيل الفرضية، يقوم العلماء بتصميم تجارب لاختبارها. يتم التحكم في هذه التجارب بعناية لإزالة التحيز والعوامل المربكة الأخرى التي يمكن أن تؤثر على النتائج. يجمع العلماء البيانات من خلال هذه التجارب ويستخدمون التحليل الإحصائي لتحديد ما إذا كانت البيانات تدعم الفرضية أو تدحضها.

يتضمن المنطق العلمي أيضا استخدام الاستدلال الاستقرائي. في هذا النوع من الاستدلال، يستخدم العلماء الملاحظات والبيانات لإجراء تعميمات أو استخلاص استنتاجات حول كيفية عمل العالم الطبيعي. على سبيل المثال، إذا أظهرت التجارب المتكررة باستمرار تأثيرا معينا، فقد يستنتج العلماء أن هناك علاقة سبب ونتيجة.

يتضمن المنطق العلمي أيضا عملية مراجعة النظراء. لكي يتم قبول النتائج العلمية من قبل المجتمع العلمي الأكبر، يجب أن تخضع للتدقيق من قبل علماء آخرين. وتساعد هذه العملية على ضمان إجراء البحث بطريقة صارمة وشفافة، وأن تستند الاستنتاجات إلى الاستدلال والأدلة السليمة.

هناك جانب آخر مهم من المنطق العلمي هو فكرة قابلية الدحض. وهذا يعني أن الفرضيات العلمية يجب أن تكون قابلة للاختبار وربما قابلة للدحض. إذا لم يكن من الممكن اختبار الفرضية أو إثبات خطأها، فإنها لا تعتبر صالحة من الناحية العلمية.

يتضمن المنطق العلمي أيضًا مفهوم شفرة أوكام. وينص هذا المبدأ على أن التفسير الأبسط الذي يناسب البيانات هو عادة التفسير الأكثر احتمالا. يستخدم العلماء شفرة أوكام لتوجيه تفكيرهم ولمساعدتهم على الاختيار بين الفرضيات المتنافسة.

كما يتميز المنطق العلمي بالشك. يتم تدريب العلماء على التشكيك في الافتراضات، وتحدي الحكمة التقليدية، والمطالبة بالأدلة لدعم الادعاءات. وتساعد هذه الشكوك على ضمان أن يكون البحث العلمي صارما وغير متحيز.

المنطق العلمي جانب أساسي من المنهج العلمي. إنه العملية التي يستخدم من خلالها العلماء الاستدلال والأدلة لدعم أو دحض الفرضيات، واستخلاص النتائج، والتنبؤات حول العالم الطبيعي. يتضمن المنطق العلمي تكوين الفرضيات، وتصميم التجارب، وجمع البيانات، واستخدام المنطق الاستقرائي والاستنتاجي، والمشاركة في مراجعة الأقران، وتطبيق مبادئ مثل قابلية التكذيب، وشفرة أوكام، والشك. ومن خلال الالتزام بهذه المبادئ، يستطيع العلماء إحراز تقدم في فهم العالم من حولنا وتطوير المعرفة الإنسانية.

المنطق الطبيعي:

المنطق الطبيعي هو مصطلح يستخدم لوصف القدرة الفطرية للبشر على التفكير والتفكير بطريقة منطقية دون المعرفة الصريحة لقواعد المنطق الرسمي. إنها عملية إصدار أحكام وقرارات بديهية ومنطقية بناءً على ملاحظاتنا وتجاربنا في العالم الطبيعي. يعتمد المنطق الطبيعي على قدرتنا على التعرف على الأنماط، واستخلاص النتائج، وإجراء اتصالات بين أجزاء مختلفة من المعلومات.

إحدى السمات الرئيسية للمنطق الطبيعي هي بساطته وسهولة الوصول إليه للجميع. على عكس المنطق الرسمي، الذي يتطلب تدريبا وتعليما متخصصا، فإن المنطق الطبيعي هو شيء نمتلكه جميعًا منذ الولادة. إنه جانب أساسي من الإدراك البشري الذي يسمح لنا بالتنقل في العالم المعقد من حولنا وفهم تجاربنا.

يرتبط المنطق الطبيعي أيضا ارتباطا وثيقا بعواطفنا وغرائزنا. غالبا ما تلعب مشاعرنا وحدسنا دورا حاسما في عملية صنع القرار لدينا، حيث توجهنا نحو ما نشعر أنه صواب أو خطأ بناء على تجاربنا ومعرفتنا السابقة. قد يؤدي هذا المكون العاطفي للمنطق الطبيعي في بعض الأحيان إلى الضلال، ولكنه يسمح لنا أيضا بالاستفادة من حكمة اللاوعي لدينا وإصدار أحكام غريزية سريعة في المواقف التي قد لا يكفي فيها التفكير العقلاني وحده.

ثمة جانب آخر مهم من المنطق الطبيعي هو قدرته على التكيف والمرونة. على عكس المنطق الرسمي، الذي يعمل ضمن قواعد وقيود صارمة، يمكن تطبيق المنطق الطبيعي بشكل إبداعي وديناميكي لحل مجموعة واسعة من المشاكل والتحديات. فهو يسمح لنا بالتفكير خارج الصندوق، والقيام بقفزات منطقية بديهية، والتوصل إلى حلول جديدة للمشكلات المعقدة.

ويرتبط المنطق الطبيعي أيضًا ارتباطًا وثيقًا بمهاراتنا اللغوية والتواصلية. إن الطريقة التي نستخدم بها اللغة للتعبير عن أفكارنا وحججنا هي طريقة منطقية بطبيعتها، حتى لو لم نكن على وعي باتباع قواعد المنطق الرسمي. تعتمد قدرتنا على التفكير وإقناع الآخرين بشكل كبير على قدراتنا المنطقية الطبيعية، حيث نستخدم اللغة لنقل أفكارنا بطريقة واضحة ومتماسكة ومقنعة.

في العديد من النواحي، المنطق الطبيعي هو شكل من أشكال التفكير غير الرسمي الذي يرتكز على تجاربنا اليومية وتفاعلاتنا مع العالم. إنه أساس فهمنا المنطقي للعالم ويسمح لنا بالتنقل في تعقيدات الحياة دون التورط في تعقيدات المنطق الرسمي. يساعدنا المنطق الطبيعي على فهم العالم من حولنا، واتخاذ قرارات مستنيرة، والتواصل بشكل فعال مع الآخرين.

ومع ذلك، فإن المنطق الطبيعي لا يخلو من حدوده. إن تحيزاتنا المتأصلة، واختصاراتنا المعرفية، واستجاباتنا العاطفية يمكن أن تؤدي في بعض الأحيان إلى تشويش حكمنا وتؤدي بنا إلى اتخاذ قرارات غير عقلانية. في هذه الحالات، من المهم أن نكون على دراية بميولنا المنطقية الطبيعية ونسعى جاهدين للتغلب عليها من خلال الانخراط في التفكير النقدي والتأمل.

على الرغم من محدودياته، يظل المنطق الطبيعي أداة قوية لحل المشكلات واتخاذ القرار في حياتنا اليومية. من خلال الاستفادة من قدراتنا المنطقية الفطرية والاستفادة من مهاراتنا المنطقية الطبيعية، يمكننا التنقل في تعقيدات العالم بثقة ووضوح. المنطق الطبيعي هو أحد الأصول القيمة التي تسمح لنا بفهم العالم وإصدار أحكام سليمة بناءً على ملاحظاتنا وتجاربنا وحدسنا.

المنطق الطبيعي هو جانب أساسي من الإدراك البشري الذي يسمح لنا بالتفكير والتفكير بشكل حدسي وبطريقة منطقية. إنه أساس فهمنا المنطقي للعالم ويلعب دورا حاسما في عملية صنع القرار اليومية. ومن خلال احتضان قدراتنا المنطقية الطبيعية وصقل مهاراتنا المنطقية، يمكننا اتخاذ قرارات مستنيرة، وحل المشكلات المعقدة، والتواصل بشكل فعال مع الآخرين. المنطق الطبيعي هو أداة قوية تساعدنا على التنقل في تعقيدات الحياة وفهم العالم من حولنا.

المنطق الديني:

غالبا ما يُنظر إلى الدين والمنطق على أنهما قوتان متعارضتان، حيث يعتمد الدين على الإيمان والإيمان بالغيب بينما يعتمد المنطق على العقل والتفكير المبني على الأدلة. ومع ذلك، يمكن النظر إلى المنطق الديني كوسيلة للتوفيق بين وجهتي نظر عالميتين متباينتين ظاهريا وإيجاد توازن بين الإيمان والعقل.

أحد جوانب المنطق الديني هو مفهوم الإيمان كشكل من أشكال التفكير. في أنظمة المعتقدات الدينية، غالبا ما يُنظر إلى الإيمان على أنه وسيلة للمعرفة تتجاوز الأدلة التجريبية والتفكير العقلاني. يعتمد هذا النوع من التفكير على الثقة والولاء والثقة في قوة أعلى أو كائن إلهي.

ثمة جانب آخر من المنطق الديني هو استخدام المنطق التناظري لشرح المفاهيم المعقدة أو المجردة. يتضمن التفكير التناظري إجراء مقارنات بين شيئين مختلفين من أجل الحصول على فهم أفضل للموضوع المطروح. في السياقات الدينية، غالبا ما يستخدم المنطق التناظري لشرح طبيعة الله، والحياة الآخرة، والمفاهيم الروحية الأخرى التي قد يكون من الصعب فهمها من خلال وسائل عقلانية بحتة.

يتضمن المنطق الديني استخدام المنطق الاستنتاجي لدعم المعتقدات الدينية والتحقق من صحتها. يتضمن التفكير الاستنتاجي البدء بمبدأ أو فرضية عامة ثم تطبيق المنطق للوصول إلى استنتاجات محددة. في السياقات الدينية، يمكن استخدام المنطق الاستنتاجي للدفاع عن وجود الله، أو الآثار الأخلاقية للتعاليم الدينية، أو صحة الكتب الدينية.

بالإضافة إلى ذلك، يشمل المنطق الديني استخدام الاستدلال الاستقرائي لاستخلاص النتائج بناءً على الملاحظات والأدلة. يتضمن الاستدلال الاستقرائي النظر إلى حالات أو أمثلة محددة واستخدامها لإجراء تعميمات أو تنبؤات. في السياقات الدينية، يمكن استخدام الاستدلال الاستقرائي لدعم الادعاءات حول فعالية الصلاة، أو فوائد الممارسات الدينية، أو تأثير المعتقدات الدينية على رفاهية الفرد والمجتمع.

يتضمن المنطق الديني استخدام المنطق الافتراضى لعمل تخمينات أو فرضيات مدروسة حول ظواهر غير معروفة أو غير مفسرة. يتضمن الاستدلال الافتراضى النظر في جميع التفسيرات المحتملة ثم اختيار التفسير الأكثر ترجيحا بناء على الأدلة والاستدلال المتاح. في السياقات الدينية، يمكن استخدام المنطق الخاطف لتفسير الأحلام أو الرؤى أو التجارب الصوفية الأخرى التي تتحدى الفهم التقليدي.

كما يتضمن المنطق الديني استخدام المنطق النموذجي لاستكشاف الإمكانيات والضروريات الكامنة في أنظمة المعتقدات الدينية. يتضمن المنطق النموذجي النظر في أوضاع أو أنواع مختلفة من الضرورة والإمكانية والاستحالة من أجل فهم أفضل لطبيعة الواقع، خاصة فيما يتعلق بالمفاهيم الدينية مثل الإرادة الحرة والعناية الإلهية واللعنة الأبدية.

يشمل المنطق الديني استخدام المنطق المخالف للواقع لاستكشاف سيناريوهات بديلة ومواقف افتراضية تتحدى التفكير والافتراضات التقليدية. يتضمن الاستدلال المضاد للواقع النظر في ما كان يمكن أن يحدث لو كانت أحداث أو ظروف معينة مختلفة، ويمكن استخدامه في السياقات الدينية لاستكشاف الآثار المترتبة على المذاهب أو التفسيرات اللاهوتية المختلفة.

و يتضمن المنطق الديني أيضا استخدام الحجج للدفاع عن المعتقدات الدينية ومناقشتها بطريقة عقلانية ومتماسكة. يتضمن الجدال تقديم الأسباب المنطقية والأدلة والدعم لوجهة نظر أو موقف معين، ويستخدم عادة في السياقات الدينية لإقناع الآخرين بالحقيقة أو صحة بعض التعاليم أو الممارسات الدينية.

المنطق الديني هو شكل معقد ومتعدد الأوجه من التفكير الذي يتضمن عناصر الإيمان، والتفكير التناظري، والتفكير الاستنتاجي، والتفكير الاستقرائي، والتفكير الابعادي، والمنطق النموذجي، والتفكير المخالف للواقع، والحجج. ومن خلال الجمع بين هذه الأساليب المختلفة للتفكير، يمكن للأفراد و روحيا. في نهاية المطاف، يقدم المنطق الديني منظورا فريدا حول تقاطع الإيمان والعقل، ويوفر جسرا بين الغيب والمعروف، والصوفي والعقلاني، والمتعالي و الجاهلي.

المنطق التحليلي:

المنطق التحليلي هو جانب أساسي من التفكير والتفكير النقدي، لأنه يتضمن تحليل وتقييم الحجج والبيانات لتحديد صحتها وسلامتها. إنه فرع من المنطق يركز على بنية الحجج والعلاقة بين المقدمات والاستنتاجات. يهتم المنطق التحليلي بتحديد وإزالة المغالطات والتناقضات والأخطاء في الاستدلال للوصول إلى نتيجة منطقية ومتماسكة.

إحدى السمات الرئيسية للمنطق التحليلي هو تأكيده على الوضوح والدقة في اللغة والفكر. وهو يتضمن تقسيم الحجج المعقدة إلى الأجزاء المكونة لها، وتحديد المقدمات والاستنتاجات والعلاقات بينها، وتقييم الاتساق المنطقي وتماسك الحجة. تساعد هذه العملية على تحديد أي نقاط ضعف أو فجوات في الاستدلال وتسمح بإجراء تحليل أكثر دقة وصرامة للحجة.

يتضمن المنطق التحليلي أيضًا استخدام الأنظمة والرموز الرسمية لتمثيل الحجج والعقل من خلال العمليات الاستنتاجية والاستقرائية. يوفر المنطق الرسمي إطارا منظما لتحليل الحجج وتحديد المغالطات المنطقية واختبار صحة الاستنتاجات بناء على المقدمات المحددة. فهو يسمح بالتقييم المنهجي للحجج وتحديد الأنماط والهياكل التي يمكن أن تساعد في الكشف عن الافتراضات والتحيزات الخفية.

و أحد المبادئ الأساسية للمنطق التحليلي هو مبدأ عدم التناقض، والذي ينص على أن العبارات المتناقضة لا يمكن أن تكون صحيحة في نفس الوقت. هذا المبدأ أساسي للاستدلال المنطقي ويستخدم لتقييم تماسك واتساق الحجج. ويعتمد المنطق التحليلي أيضا على مبدأ الهوية، الذي ينص على أن الشيء مطابق لذاته ولا يمكن أن يكون أي شيء آخر. تساعد هذه المبادئ على ضمان اتساق وموثوقية التفكير المنطقي.

يرتبط المنطق التحليلي ارتباطا وثيقا بالتفكير النقدي، لأنه يتضمن تقييم وتحليل الحجج لتحديد مدى صحتها وسلامتها. التفكير النقدي هو عملية التشكيك في الافتراضات، وتحدي الافتراضات، وتقييم الأدلة للوصول إلى استنتاجات مستنيرة ومعقولة. يوفر المنطق التحليلي إطارا للتفكير النقدي من خلال تقديم أساليب وتقنيات لتقييم الحجج وتقييم قوة الأدلة والتفكير.

ويرتبط المنطق التحليلي أيضا ارتباطا وثيقا بالرياضيات وعلوم الكمبيوتر، لأنه يتضمن استخدام الأنظمة الرسمية والتمثيلات الرمزية لتحليل الحجج والعقل من خلال العمليات الاستنتاجية والاستقرائية. تعتمد الرياضيات بشكل كبير على الاستدلال المنطقي والأنظمة الرسمية لإثبات النظريات وحل المشكلات وبناء الحجج. يستخدم علم الكمبيوتر الأنظمة المنطقية والرسمية لتصميم الخوارزميات وتحليل البيانات والتفكير في الأنظمة المعقدة. يوفر المنطق التحليلي المبادئ والأدوات الأساسية التي تدعم هذه التخصصات.

أحد تحديات المنطق التحليلي هو التعامل مع الغموض والغموض في اللغة والفكر. يمكن أن يؤدي الغموض والغموض إلى الارتباك وسوء الفهم وسوء تفسير الحجج، مما يقوض صحة الاستدلال وسلامته. ويساعد المنطق التحليلي على معالجة هذه التحديات من خلال توفير أساليب وتقنيات لتوضيح اللغة، وتحديد المصطلحات، وتحديد المعنى المقصود من البيانات.

التحدي الآخر للمنطق التحليلي هو التعامل مع التحيزات والافتراضات التي يمكن أن تؤثر على التفكير وتؤدي إلى أخطاء في الحكم. يمكن للتحيزات المعرفية، والمعايير الثقافية، والمعتقدات الشخصية أن تشكل تصورنا للحجج وتعرقل قدرتنا على التفكير بموضوعية. يساعد المنطق التحليلي في تحديد هذه التحيزات ومواجهتها من خلال تشجيع التحليل المنهجي والدقيق للحجج، واختبار الافتراضات، وتقييم الأدلة بناءً على المبادئ المنطقية.

يلعب المنطق التحليلي دورا حاسما في التفكير والتفكير النقدي وحل المشكلات من خلال توفير إطار منظم لتحليل الحجج وتقييم الأدلة واختبار صحة الاستنتاجات. ويؤكد الوضوح والدقة والتماسك في اللغة والفكر، ويعتمد على النظم الرسمية والتمثيلات الرمزية للعقل من خلال العمليات الاستنتاجية والاستقرائية. يعد المنطق التحليلي ضروريا لتحديد المغالطات والتناقضات والأخطاء في الاستدلال، وللتوصل إلى استنتاجات منطقية ومتماسكة بناء على أدلة سليمة واستدلال موثوق به. إنها أداة قوية لتحسين عملية صنع القرار، وحل المشكلات، والتواصل، ولتعزيز فهم أعمق لمبادئ وأساليب التفكير المنطقي.

المنطق الاقتصادي:

يشير المنطق الاقتصادي إلى المبادئ والأسباب الكامنة وراء القرارات والسلوكيات الاقتصادية. إنه أساس النظرية والتحليل الاقتصاديين، فهو يرشد الأفراد والشركات والحكومات في اتخاذ خيارات عقلانية لتعظيم مواردهم وتحقيق أهدافهم. يعتمد المنطق الاقتصادي على فرضية أساسية مفادها أن الأفراد يتصرفون من أجل مصلحتهم الذاتية لتحقيق أقصى قدر من المنفعة أو الرضا.

أحد المبادئ الأساسية للمنطق الاقتصادي هو قانون الطلب، الذي ينص على أنه مع زيادة سعر السلعة أو الخدمة، تنخفض الكمية المطلوبة، والعكس صحيح. تساعد هذه العلاقة في تفسير سبب تقلب الأسعار استجابة للتغيرات في العرض والطلب. على سبيل المثال، إذا ارتفع سعر الوقود، فقد يختار المستهلكون تقليل القيادة أو البحث عن وسائل نقل بديلة لتوفير المال.

مفهوم آخر مهم في المنطق الاقتصادي هو مبدأ تكلفة الفرصة البديلة. يشير هذا إلى قيمة البديل الأفضل التالي الذي يتم التخلي عنه عند اتخاذ القرار. ومن خلال النظر في تكلفة الفرصة البديلة لخياراتهم، يستطيع الأفراد اتخاذ قرارات أكثر استنارة تتماشى مع تفضيلاتهم وأولوياتهم.

بالإضافة إلى ذلك، يؤكد المنطق الاقتصادي على أهمية فهم قوانين العرض والطلب. وعندما يزداد العرض ويظل الطلب ثابتا، تميل الأسعار إلى الانخفاض. وعلى العكس من ذلك، عندما يزداد الطلب ويظل العرض ثابتا، تميل الأسعار إلى الارتفاع. ومن خلال تحليل قوى السوق هذه، يمكن للشركات تحديد استراتيجيات التسعير الأمثل لتحقيق أقصى قدر من الأرباح.

يلعب المنطق الاقتصادي أيضا دورا حاسما في صنع السياسات على مستوى الاقتصاد الكلي. تستخدم الحكومات المنطق الاقتصادي لصياغة السياسات التي تعزز النمو الاقتصادي والاستقرار والازدهار. على سبيل المثال، تم تصميم السياسات المالية والنقدية لإدارة التضخم والبطالة والمؤشرات الاقتصادية الأخرى لتحقيق النمو الاقتصادي المستدام.

علاوة على ذلك، فإن مفهوم الاختيار العقلاني يدعم المنطق الاقتصادي، على افتراض أن الأفراد يتخذون قراراتهم على أساس دراسة متأنية للتكاليف والفوائد. ومن خلال تحليل النتائج المحتملة لخياراتهم، يمكن للأفراد اتخاذ القرارات التي تتوافق مع تفضيلاتهم وأهدافهم. تعتبر عملية اتخاذ القرار الرشيد هذه ضرورية لتحسين تخصيص الموارد وتحقيق الكفاءة في النظم الاقتصادية.

فضلاً عن ذلك،  فإن المنطق الاقتصادي يعترف بأهمية الحوافز في تشكيل السلوك الاقتصادي. يستجيب الأفراد للحوافز – سواء كانت إيجابية أو سلبية – في عملية صنع القرار. ومن خلال فهم الحوافز التي تحرك السلوك الاقتصادي، يمكن للشركات تصميم استراتيجيات فعالة لتحفيز المستهلكين والموظفين على اتخاذ الإجراءات المطلوبة.

يسلط المنطق الاقتصادي الضوء على دور المنافسة في دفع الكفاءة والابتكار في الأسواق. في بيئة السوق التنافسية، تسعى الشركات جاهدة لتقديم منتجات وخدمات أفضل بأسعار أقل لجذب العملاء. تدفع هذه المنافسة الشركات إلى تحسين الكفاءة وخفض التكاليف والابتكار، مما يؤدي إلى النمو الاقتصادي الشامل والازدهار.

ومن المهم أن نلاحظ أن المنطق الاقتصادي لا يخلو من القيود. غالبا ما يتأثر السلوك البشري بالعواطف والتحيزات المعرفية والعوامل الاجتماعية التي قد تحيد عن اتخاذ القرار العقلاني. ونتيجة لذلك، فإن النماذج الاقتصادية القائمة على العقلانية البحتة قد لا تتنبأ دائما بدقة بنتائج العالم الحقيقي. ومع ذلك، من خلال دمج رؤى الاقتصاد السلوكي وعلم النفس، يمكن تحسين المنطق الاقتصادي لفهم تعقيدات عملية صنع القرار البشري بشكل أفضل.

يوفر المنطق الاقتصادي إطارا لفهم وتحليل الظواهر الاقتصادية، وتوجيه الأفراد والشركات والحكومات في اتخاذ قرارات عقلانية لتحقيق أهدافهم. ومن خلال تطبيق المبادئ الاقتصادية مثل العرض والطلب، وتكلفة الفرصة البديلة، والاختيار العقلاني، يستطيع صناع القرار تحسين تخصيص الموارد، وتعزيز الكفاءة، ودفع النمو الاقتصادي. ورغم أن المنطق الاقتصادي قد يكون له حدوده، فإن مبادئه تظل ضرورية للتعامل مع تعقيدات الاقتصاد العالمي ومعالجة التحديات الاقتصادية.

المنطق الأخلاقي:

المنطق الأخلاقي هو عملية اتخاذ القرارات الأخلاقية باستخدام المنطق العقلاني. إنه فرع من الفلسفة يسعى إلى فهم المبادئ والقواعد التي توجه أحكامنا وسلوكياتنا الأخلاقية. في جوهره، يساعدنا المنطق الأخلاقي على تحديد ما هو صواب وما هو خطأ في المواقف المختلفة ويوفر إطارا لاتخاذ الخيارات الأخلاقية في حياتنا اليومية.

أحد المبادئ الأساسية للمنطق الأخلاقي هو فكرة أن الأحكام الأخلاقية يجب أن تستند إلى العقل والمنطق، بدلا من العاطفة أو التحيزات الشخصية. وهذا يعني أنه عندما يواجه المرء معضلة أخلاقية، ينبغي له أن يأخذ في الاعتبار الحقائق والأدلة المتاحة، فضلا عن العواقب المحتملة لمختلف مسارات العمل. وباستخدام التفكير العقلاني، يستطيع الأفراد اتخاذ قرارات أكثر موضوعية ومستنيرة بشأن ما هو صواب وما هو خطأ من الناحية الأخلاقية.

جانب رئيسي آخر من المنطق الأخلاقي هو مفهوم الاتساق. وهذا يعني أنه يجب على الأفراد تطبيق نفس المبادئ والقواعد الأخلاقية في مواقف مماثلة، بدلا من إجراء استثناءات أو تغيير معتقداتهم بناءً على التفضيلات الشخصية أو الراحة. يساعد الاتساق في التفكير الأخلاقي على ترسيخ الشعور بالعدالة والمساواة في اتخاذ القرارات الأخلاقية، لأنه يضمن التزام الجميع بنفس معايير السلوك.

ويؤكد المنطق الأخلاقي أيضًا على أهمية المبادئ الأخلاقية مثل الصدق والإنصاف والاحترام والرحمة. تعمل هذه المبادئ كأساس لاتخاذ القرار الأخلاقي وتوجيه الأفراد في تفاعلاتهم مع الآخرين. ومن خلال اتباع هذه المبادئ، يمكن للأفراد تنمية الشعور بالنزاهة والشخصية الأخلاقية، والمساهمة في مجتمع أكثر أخلاقية وعدالة من الناحية الأخلاقية.

أحد تحديات المنطق الأخلاقي هو الصراع بين المبادئ والقيم الأخلاقية المختلفة. في بعض المواقف، قد يضطر الأفراد للاختيار بين القيم المتنافسة، مثل الصدق والولاء، أو العدالة والرحمة. في هذه الحالات، يمكن للمنطق الأخلاقي أن يساعد الأفراد على تقييم عواقب كل خيار واتخاذ القرار الأفضل بناءً على الأدلة والمنطق المتاح.

ويشكل المنطق الأخلاقي أهمية بالغة أيضًا في معالجة القضايا الأخلاقية المعقدة مثل القتل الرحيم، والإجهاض، وعقوبة الإعدام. تتطلب هذه المواضيع المثيرة للجدل مداولات متأنية وتفكيرا أخلاقيا لتحديد مسار العمل الأكثر أخلاقية. ومن خلال تطبيق المنطق الأخلاقي على هذه القضايا المعقدة، يمكن للأفراد المشاركة في مناقشات هادفة ومستنيرة حول الآثار الأخلاقية لوجهات النظر والحجج المختلفة.

يمكن للمنطق الأخلاقي أن يساعد الأفراد على التنقل في المناطق الرمادية الأخلاقية والمواقف الغامضة حيث لا يكون مسار العمل الصحيح واضحا على الفور. في هذه الحالات، قد يحتاج الأفراد إلى الاعتماد على مهاراتهم في التفكير الأخلاقي لتحليل الموقف، والنظر في وجهات نظر مختلفة، واتخاذ قرار يتوافق مع مبادئهم وقيمهم الأخلاقية. وباستخدام المنطق الأخلاقي في هذه المواقف الصعبة، يستطيع الأفراد التصرف بنزاهة واتخاذ الخيارات التي تتفق مع معتقداتهم.

بشكل عام، يلعب المنطق الأخلاقي دورا حاسما في توجيه عملية صنع القرار الأخلاقي وتعزيز السلوك الأخلاقي في المجتمع. ومن خلال تطبيق التفكير العقلاني والمبادئ الأخلاقية على المعضلات الأخلاقية والقضايا المعقدة، يستطيع الأفراد اتخاذ خيارات أكثر استنارة ومسؤولية تساهم في خلق عالم أكثر عدلا وأخلاقا. من خلال ممارسة المنطق الأخلاقي، يمكن للأفراد تطوير شعور أكبر بالوعي الأخلاقي والتعاطف والرحمة، والمساهمة في مجتمع أكثر أخلاقية وانسجامًا.

المنطق المالي:

يشمل المنطق المالي المبادئ والنظريات والاستراتيجيات التي تحرك عملية صنع القرار في عالم التمويل. إنها عملية التفكير العقلاني والتحليلي التي تساعد الأفراد والمنظمات على تقييم المخاطر وتقييم الفرص واتخاذ خيارات مستنيرة بشأن إدارة أموالهم واستثماراتهم.

أحد الجوانب الأساسية للمنطق المالي هو مفهوم المخاطرة والعائد. وينص هذا المبدأ على أن إمكانية تحقيق عوائد أعلى ترتبط عادة بمستويات أعلى من المخاطر. يفرض المنطق المالي على الأفراد أن يفكروا بعناية في قدرتهم على تحمل المخاطر وأهدافهم الاستثمارية عند اتخاذ القرارات بشأن مكان تخصيص أموالهم. ومن خلال فهم العلاقة بين المخاطر والعائد، يمكن للأفراد اتخاذ خيارات أكثر استنارة حول كيفية تنمية ثرواتهم وحمايتها.

هناك عنصر رئيسي آخر في المنطق المالي هو مفهوم التنويع. التنويع هو ممارسة توزيع الاستثمارات عبر مجموعة من فئات الأصول والصناعات والمناطق الجغرافية لتقليل المخاطر وزيادة احتمالية تحقيق عوائد إيجابية. ومن خلال تنويع محافظهم الاستثمارية، يمكن للأفراد تقليل تأثير تقلبات السوق والأحداث غير المتوقعة على ثرواتهم الإجمالية. ويشير المنطق المالي إلى أن وجود محفظة متنوعة بشكل جيد أمر ضروري لتحقيق النجاح المالي على المدى الطويل.

كما يؤكد المنطق المالي على أهمية وضع أهداف مالية واضحة ووضع خطة لتحقيقها. ومن خلال تحديد أهداف محددة، يمكن للأفراد وضع خارطة طريق لمستقبلهم المالي واتخاذ قرارات مستنيرة حول كيفية تخصيص مواردهم. يفرض المنطق المالي على الأفراد مراجعة خططهم المالية وتعديلها بانتظام للتأكد من أنها تظل متوافقة مع أهدافهم وغاياتهم.

بالإضافة إلى تحديد الأهداف، يؤكد المنطق المالي أيضًا على أهمية الميزانية والادخار. ومن خلال العيش بأقل من إمكانياتهم وادخار جزء من دخلهم، يستطيع الأفراد بناء وسادة مالية لحالات الطوارئ والفرص المستقبلية. يملي المنطق المالي أن الأفراد يجب أن يعطوا الأولوية للادخار والاستثمار على المدى الطويل، بدلا من الاستسلام لإغراء الإشباع الفوري.

ويؤكد المنطق المالي أيضا على أهمية فهم القيمة الزمنية للنقود. ينص هذا المفهوم على أن الدولار المستلم اليوم يساوي أكثر من الدولار المستلم في المستقبل، وذلك بسبب احتمال أن يكسب هذا الدولار فائدة أو ينمو من خلال الاستثمار. ومن خلال إدراك القيمة الزمنية للمال، يمكن للأفراد اتخاذ قرارات أكثر استراتيجية بشأن الادخار والاستثمار والاقتراض.

جانب رئيسي آخر من المنطق المالي هو مفهوم الرافعة المالية. تشير الرافعة المالية إلى استخدام الأموال المقترضة لتضخيم العائدات على الاستثمارات. في حين أن الرافعة المالية يمكن أن تزيد من احتمالية تحقيق المكاسب، إلا أنها تزيد أيضا من احتمالية الخسارة. يفرض المنطق المالي على الأفراد أن يقيموا بعناية مخاطر وفوائد الرافعة المالية قبل دمجها في استراتيجياتهم الاستثمارية.

ويؤكد المنطق المالي أيضا على أهمية البقاء على اطلاع ومعرفة بالأسواق والمنتجات المالية. ومن خلال مواكبة الاتجاهات والتطورات الحالية في الصناعة المالية، يمكن للأفراد اتخاذ قرارات أكثر استنارة بشأن استثماراتهم والتخطيط المالي. يشير المنطق المالي إلى أنه يجب على الأفراد البحث باستمرار عن فرص لتوسيع معارفهم ومهاراتهم في مجال التمويل.

المنطق المالي عنصر حاسم في تحقيق النجاح المالي. ومن خلال دمج مبادئ مثل المخاطر والعائد، والتنويع، وتحديد الأهداف، ووضع الميزانية، والادخار، والقيمة الزمنية للنقود، والرافعة المالية، والتعليم في عمليات صنع القرار، يمكن للأفراد اتخاذ خيارات أكثر استنارة حول كيفية إدارة أموالهم واستثماراتهم. ومن خلال تنمية النهج العقلاني والتحليلي في التعامل مع المسائل المالية، يستطيع الأفراد بناء أساس متين للأمن المالي والازدهار على المدى الطويل.

المنطق الوطني:

المنطق الوطني مفهوم مهم يشير إلى طرق التفكير والاستدلال الفريدة التي تتميز بها دولة أو ثقافة معينة. وهو يشمل المعتقدات والقيم والافتراضات التي تشكل عمليات صنع القرار للأفراد داخل الأمة. يمكن للمنطق الوطني أن يشكل الطريقة التي ينظر بها الناس إلى العالم من حولهم ويفسرونه، فضلا عن التأثير على الطريقة التي يتعاملون بها مع حل المشكلات واتخاذ القرار.

أحد الجوانب الرئيسية للمنطق الوطني هو المعايير والقيم الثقافية السائدة داخل المجتمع. يمكن لهذه المعايير والقيم أن تملي كيفية إعطاء الأفراد الأولوية لجوانب مختلفة من الحياة، مثل الأسرة والعمل والمجتمع. على سبيل المثال، في بعض البلدان، تعتبر الأسرة الجانب الأكثر أهمية في الحياة، بينما في بلدان أخرى، تكون الأولوية للنجاح الوظيفي. يمكن لهذه المعايير الثقافية أن تؤثر على طريقة اتخاذ الأشخاص للقرارات وتفاعلهم مع الآخرين.

ثمة جانب آخر مهم من المنطق الوطني هو السياق التاريخي للبلد. يمكن للأحداث والتجارب التي شكلت تاريخ الأمة أن يكون لها تأثير كبير على طريقة تفكير الناس وتصرفاتهم. على سبيل المثال، قد يكون لدى البلدان التي شهدت حروبا أو اضطرابات سياسية نهجا أكثر تشككا أو حذرا في عملية صنع القرار، في حين أن البلدان التي شهدت ازدهارا اقتصاديا قد يكون لديها نظرة أكثر تفاؤلا.

يمكن أن يتأثر المنطق الوطني أيضًا بالعوامل السياسية والاقتصادية. يمكن للنظام السياسي لبلد ما، وكذلك سياساته الاقتصادية، تشكيل الطريقة التي يفكر بها الناس في السلطة والسلطة والثروة. في البلدان الاستبدادية، على سبيل المثال، قد يكون الأفراد أكثر عرضة للامتثال للقواعد واللوائح التي تفرضها الحكومة، بينما في البلدان الديمقراطية، قد يكون الناس أكثر عرضة لتقدير الحريات والحقوق الفردية.

بالإضافة إلى العوامل الثقافية والتاريخية والسياسية، يمكن أن يتأثر المنطق الوطني أيضًا بالأعراف والمؤسسات الاجتماعية. يمكن للنظام التعليمي، ووسائل الإعلام، والمؤسسات الدينية أن تلعب دوراً في تشكيل الطريقة التي يفكر بها الناس ويفكرون بها. على سبيل المثال، في بعض البلدان، قد تؤثر المعتقدات الدينية بقوة على الطريقة التي يتخذ بها الناس قراراتهم بشأن الأخلاق والأخلاق، بينما في بلدان أخرى، قد يكون لوسائل الإعلام تأثير قوي على الرأي العام والتصورات.

أحد التحديات الرئيسية للمنطق الوطني هو الميل إلى تعميم أو تنميط مجموعات سكانية بأكملها على أساس خصائصها الثقافية أو الوطنية. من المهم أن ندرك أن الأفراد داخل المجتمع قد يكون لديهم معتقدات وقيم وخبرات متنوعة لا تتوافق دائما مع الصورة النمطية الوطنية. ومن خلال فهم تعقيدات المنطق الوطني والاعتراف بالتنوع داخل المجتمع، يمكننا تجنب وضع افتراضات حول الناس على أساس جنسيتهم.

على الرغم من تحديات التعميم، لا يزال بإمكان المنطق الوطني تقديم رؤى قيمة حول الطرق التي يفكر بها الناس ويفكرون بها داخل ثقافة أو مجتمع معين. ومن خلال دراسة المعايير الثقافية، والسياقات التاريخية، والعوامل السياسية والاقتصادية التي تشكل المنطق الوطني، يمكننا اكتساب فهم أفضل للقيم والمعتقدات التي توجه عمليات صنع القرار في مختلف البلدان.

المنطق الوطني هو مفهوم معقد ومتعدد الأوجه يشمل العوامل الثقافية والتاريخية والسياسية والاجتماعية التي تشكل الطرق التي يفكر بها الأفراد داخل المجتمع ويفكرون بها. ومن خلال الاعتراف بالتنوع داخل المجتمع وتجنب التعميمات، يمكننا اكتساب فهم أعمق للطرق الفريدة التي تتعامل بها البلدان المختلفة مع حل المشكلات واتخاذ القرار. ومن خلال دراسة المنطق الوطني، يمكننا تعزيز قدر أكبر من التفاهم والتعاون بين الثقافات، والمساهمة في نهاية المطاف في مجتمع عالمي أكثر سلاما وتناغما.

المنطق الشمولي:

يشير المنطق الشمولي إلى أنماط التفكير المشوهة والمبررات التي تكمن وراء الأنظمة الاستبدادية. يتميز هذا النوع من التفكير بتجاهل للحقيقة، والتلاعب بالمعلومات، والاعتماد على الخوف والترهيب للحفاظ على السيطرة. يتم استخدام المنطق الشمولي من قبل الديكتاتوريين والحكومات القمعية لتبرير أفعالهم، وقمع المعارضة، والاستحواذ على السلطة.

واحدة من السمات الرئيسية للمنطق الشمولي هو رفضها للحقيقة الموضوعية. في نظام شمولي، يملي الحزب الحاكم ما هو صحيح وما هو خاطئ، بغض النظر عن الأدلة أو الحقائق. يتيح ذلك للحكومة لتشكيل الواقع لتناسب جدول أعمالها، وخلق نسخة مشوهة من العالم تخدم مصالحها.

يعتمد المنطق الشمولي أيضًا اعتمادًا كبيرًا على التلاعب والدعاية للسيطرة على السكان. من خلال الرقابة، والتضليل، وقمع الأصوات المعارضة، فإن الأنظمة الاستبدادية قادرة على تشكيل الرأي العام والحفاظ على قبضتها على السلطة. من خلال التحكم في تدفق المعلومات، يمكنهم التأكد من أن روايتهم هي الوحيدة التي يتم سماعها.

جانب آخر من المنطق الشمولي هو اعتمادها على الخوف والتخويف للحفاظ على السيطرة. تستخدم الأنظمة الاستبدادية تكتيكات مثل المراقبة والاعتقالات التعسفية والتعذيب والعنف لغرس الخوف في السكان وتبشير المعارضة. هذا المناخ من الخوف يجعل من الصعب على الناس التحدث ضد الحكومة، مما يؤدي إلى ثقافة الصمت والامتثال.

يؤدي المنطق الشمولي أيضًا إلى تخفيض قيمة الحقوق والحريات الفردية لصالح الصالح الجماعي. في النظام الشمولي، يتم إعطاء الأولوية لاحتياجات الدولة على حقوق الفرد، مما يؤدي إلى انتهاكات حقوق الإنسان واسعة النطاق وعدم المساءلة عن السلطة. يُنظر إلى المعارضة على أنها تهديد لاستقرار النظام ويقابل عقوبة قاسية.

علاوة على ذلك، يتميز المنطق الشمولي بإحساس بالتفوق الأخلاقي والإيمان في معصومي الحزب الحاكم. يرى القادة الاستبداديون أنفسهم هم الوحيدون القادرون على توجيه البلاد إلى العظمة، ويُنظر إلى أي معارضة لحكمهم على أنهم خيانة للأمة. يتيح لهم هذا اليقين الأخلاقي تبرير أفعالهم، بغض النظر عن مدى وحشية أو غير عادل.

يؤدي المنطق الشمولي أيضا إلى ثقافة التآمر والجنون العظمة، حيث يُنظر إلى المعارضة على أنها تهديد للنظام ويقابل الشك والمراقبة. يرى القادة الاستبداديون أن الأعداء يتربصون في كل زاوية، ويستخدمون هذا التصور لتبرير أفعالهم القمعية والحفاظ على السيطرة على السكان.

بالإضافة إلى ذلك، يعتمد المنطق الشمولي غالبا على كبش فداء وإنشاء أعداء خارجيين لتعبئة الدعم للنظام. من خلال شيطنة بعض المجموعات أو الأفراد، يستطيع القادة الاستبداديون حشد السكان وراءهم وتحويل الانتباه بعيدا عن إخفاقاتهم. يتم استخدام هذا التكتيك لتبرير الانتهاكات القمع وانتهاكات حقوق الإنسان، وكذلك صرف الانتباه عن المشكلات الحقيقية التي تواجه البلاد.

يعد المنطق الشمولي شكلا خطيرا من التفكير الذي يهدد حقوق وحريات الأفراد ويقوض مبادئ الديمقراطية والعدالة. من خلال رفض الحقيقة الموضوعية، والتلاعب بالمعلومات، والاعتماد على الخوف والتخويف، فإن الأنظمة الاستبدادية قادرة على الحفاظ على قبضتها على السلطة وقمع المعارضة. من الضروري أن نبقى متيقظين ونتحدث ضد أنماط التفكير المدمرة هذه، من أجل حماية حرياتنا وضمان مجتمع أكثر عدلا وعادلا للجميع.

المنطق الأيديولوجي:

المنطق الأيديولوجي هو مصطلح يشير إلى نظام من المعتقدات أو الأفكار التي تشكل أساس أيديولوجية سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية معينة. إنه المنطق الأساسي أو الأساس المنطقي وراء المبادئ والقيم التي توجه تصرفات وقرارات الأفراد أو المجموعات أو المجتمعات. يشكل المنطق الأيديولوجي فهمنا للعالم ويؤثر على وجهات نظرنا حول القضايا المختلفة، بدءًا من الحكم والعدالة إلى الحقوق والحريات.

أحد الجوانب الرئيسية للمنطق الأيديولوجي هو قدرته على توفير إطار لتفسير وفهم تعقيدات العالم. من خلال تنظيم معتقداتنا وقيمنا في أيديولوجية متماسكة، يمكننا التنقل في الطبيعة المربكة والمتناقضة في كثير من الأحيان. يساعدنا المنطق الأيديولوجي على التمييز بين ما هو صحيح وما هو خاطئ، وما هو مهم وما هو تافهة، وما هو صحيح وما هو الخطأ.

علاوة على ذلك، فإن المنطق الأيديولوجي بمثابة دليل للعمل واتخاذ القرارات. من المحتمل أن يستخدم الأفراد الذين يلتزمون بإيديولوجية معينة مبادئهم وقيمها كأساس لخياراتهم وسلوكياتهم. على سبيل المثال، قد يعطي شخص يشترك في أيديولوجية اشتراكية الأولوية للرفاهية الجماعية والعدالة الاجتماعية في عملية صنع القرار، في حين أن شخصًا يتبع أيديولوجية رأسمالية قد يعطي أولوية للحقوق الفردية والأسواق الحرة.

يلعب المنطق الأيديولوجي أيضًا دورًا حاسمًا في تشكيل الخطاب السياسي والنقاش. غالبًا ما تدعم الأيديولوجيات السياسية المواقف والحجج التي وضعتها الأحزاب السياسية ومجموعات المصالح والأفراد. على سبيل المثال، قد تؤكد الأيديولوجية المحافظة على أهمية التقاليد والنظام والاستقرار، في حين أن الإيديولوجية الليبرالية قد تعطي الأولوية للمساواة والتنوع والتقدم. يمكن أن تؤدي هذه الاختلافات الأيديولوجية إلى مناقشات وخلافات ساخنة، لكنها أيضا بمثابة وسيلة لاستكشاف ومناقشة وجهات نظر مختلفة حول القضايا المهمة.

يساعد المنطق الأيديولوجي على وضع قيم وأهداف مشتركة داخل مجتمع أو مجموعة. من خلال توفير إطار مشترك للمعتقدات والمبادئ، يمكن للأيديولوجيات أن تعزز الشعور بالوحدة والتضامن بين الأفراد الذين يتعاطفون معهم. يمكن أن يخلق هذا الشعور بالغرض المشترك شعورا بالانتماء والتماسك، وتعزيز الروابط الاجتماعية وتعزيز التعاون والتعاون.

ومع ذلك، يمكن أن يكون المنطق الأيديولوجي مصدرا للانقسام والصراع. غالبا ما تصطدم الأيديولوجيات المختلفة بالتفسيرات المتنافسة للواقع والقيم والأولويات المتضاربة. في الحالات القصوى، يمكن أن تؤدي الاختلافات الأيديولوجية إلى الاستقطاب والتطرف وحتى العنف. من الضروري للأفراد والمجتمعات أن يدرسوا بشكل نقدي معتقداتهم الإيديولوجية والتفكير فيها والانخراط في حوار بناء مع أولئك الذين يحملون وجهات نظر مختلفة.

جانب آخر مهم من المنطق الأيديولوجي هو دوره في تشكيل المؤسسات والهياكل داخل المجتمع. غالبا ما يتم تصميم النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتنظيمها وفقا لقيم ومبادئ الإيديولوجيات المهيمنة. على سبيل المثال، قد تعطي الديمقراطية الليبرالية أولوية للحقوق والحريات الفردية في هياكل الحكم، في حين أن المجتمع الاشتراكي قد يؤكد على المساواة والرفاهية الاجتماعية في سياساتها الاقتصادية.

بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يؤثر المنطق الأيديولوجي على الطريقة التي يفسر بها الأفراد ويستجيبون للأحداث والتطورات في العالم. يمكن أن تشكل معتقداتنا الأيديولوجية تصوراتنا للواقع والتأثير على كيفية تحليل وتفسير المعلومات. يمكن أن يؤدي ذلك إلى تحيز التأكيد، حيث يبحث الأفراد وتفسير المعلومات بطريقة تعزز معتقداتهم الموجودة مسبقا.

يعد المنطق الأيديولوجي قوة تشكل فهمنا للعالم، وتوجه أفعالنا وقراراتنا، ويؤثر على علاقاتنا مع الآخرين. إنه يوفر إطارًا لفهم تعقيدات الواقع والتنقل في التحديات والفرص التي نواجهها في حياتنا. من خلال فحص معتقداتنا الإيديولوجية والتفكير فيها بشكل نقدي، يمكننا أن نكتسب فهمًا أعمق لأنفسنا والآخرين، وتعزيز الحوار البناء والتعاون، والعمل على إنشاء مجتمع أكثر عدلاً وعادلة.

المنطق الرأسمالي:

المنطق الرأسمالي هو مجموعة من المبادئ والمعتقدات التي تدعم النظام الاقتصادي الرأسمالي. يعتمد ذلك على فكرة أن الأفراد والشركات يجب أن يكونوا أحرارًا في المنافسة في السوق، ومتابعة الأرباح والنمو الاقتصادي. لقد شكل هذا المنطق الاقتصاد العالمي وكان قوة دافعة وراء صعود الرأسمالية باعتبارها النظام الاقتصادي المهيمن في العالم اليوم.

أحد المبدأ الرئيسي للمنطق الرأسمالي هو الإيمان بقوة السوق لتخصيص الموارد بكفاءة. وفقًا للأيديولوجية الرأسمالية، ستقود اليد الخفية للسوق الأفراد والشركات لاتخاذ قرارات عقلانية تفيد المجتمع ككل. هذا الاعتقاد في قدرة السوق على التنظيم الذاتي والتصحيح الذاتي أمر أساسي للمنطق الرأسمالي.

جانب آخر مهم من المنطق الرأسمالي هو التركيز على المنافسة. تعتمد الاقتصادات الرأسمالية على فكرة أن المنافسة بين الشركات تؤدي إلى أفضل منتجات وخفض الأسعار والابتكار. المنطق هنا هو أن المنافسة تثير الشركات لتحسين ظروف السوق المتغيرة والتكيف بها باستمرار، ودفع النمو الاقتصادي والتقدم.

يضع المنطق الرأسمالي أيضًا قيمة عالية على الحريات الفردية وحقوق الملكية. في النظام الرأسمالي، يكون الأفراد أحرارا في امتلاك الممتلكات والسيطرة عليها، واتخاذ القرارات حول كيفية استخدام مواردهم، والمشاركة في النشاط الاقتصادي دون تدخل حكومي لا مبرر له. يعتبر هذا التركيز على الحكم الذاتي الفردي ضروريًا لتعزيز النمو الاقتصادي والازدهار.

أحد المبادئ الرئيسية للمنطق الرأسمالي هو الاعتقاد بأهمية الربح كحافز أساسي للنشاط الاقتصادي. في النظام الرأسمالي، يُنظر إلى السعي وراء الربح على أنه جزء طبيعي وضروري من الأعمال التجارية، ودفع الأفراد والشركات إلى العمل الجاد، والمخاطر، والابتكار من أجل النجاح في السوق.

يجادل منتقدو المنطق الرأسمالي بأن التركيز على الربح قبل كل شيء آخر يمكن أن يؤدي إلى عواقب سلبية، مثل عدم المساواة في الدخل، واستغلال العمال، والتدهور البيئي. يجادلون بأن السعي وراء الربح يمكن أن يأتي في بعض الأحيان على حساب المخاوف الاجتماعية والبيئية، وأن منطق الرأسمالية يمكن أن يؤدي إلى التركيز الضيق على مكاسب قصيرة الأجل على حساب الاستدامة طويلة الأجل.

من ناحية أخرى، يجادل مؤيدو المنطق الرأسمالي بأن تركيز النظام على الربح هو ما يدفع النمو الاقتصادي والابتكار، مما يؤدي إلى ارتفاع معايير المعيشة للمجتمع ككل. وهم يعتقدون أن السعي لتحقيق الربح يحفز الأفراد والشركات على خلق قيمة، والاستثمار في التقنيات الجديدة، وخلق فرص عمل، مما يؤدي إلى فوائد مجتمعية شاملة.

يؤكد المنطق الرأسمالي أيضًا على أهمية المخاطر وريادة الأعمال. في النظام الرأسمالي، يتم تشجيع الأفراد على المخاطرة وبدء الشركات في السعي لتحقيق الربح. المنطق هنا هو أن ريادة الأعمال تؤدي إلى الابتكار وخلق فرص العمل والنمو الاقتصادي، ودفع التقدم والازدهار.

الجانب الرئيسي الآخر للمنطق الرأسمالي هو الإيمان بقوة الأسواق لتخصيص الموارد بكفاءة. في النظام الرأسمالي، تعمل الأسعار والمنافسة كإشارات توجه الأفراد والشركات لاتخاذ قرارات عقلانية حول كيفية تخصيص الموارد، مثل العمالة ورأس المال والسلع. تعتبر هذه الكفاءة في تخصيص الموارد قوة رئيسية للرأسمالية، مما يؤدي إلى ارتفاع الإنتاجية والنمو الاقتصادي.

المنطق الرأسمالي هو مجموعة من المبادئ والمعتقدات التي تدعم النظام الاقتصادي الرأسمالي. يعتمد ذلك على فكرة أن الأفراد والشركات يجب أن يكونوا أحرارًا في المنافسة في السوق، ومتابعة الأرباح، وتخصيص الموارد بكفاءة. بينما يجادل النقاد بأن المنطق الرأسمالي يمكن أن يؤدي إلى عواقب سلبية مثل عدم المساواة في الدخل والتدهور البيئي، يعتقد المؤيدون أن تركيز النظام على الربح والمنافسة والحريات الفردية وريادة الأعمال يدفع النمو الاقتصادي ويؤدي إلى فوائد مجتمعية شاملة. في النهاية، يستمر النقاش حول المنطق الرأسمالي، مع استمرار المؤيدين والنقاد في وزن تكاليف وفوائد النظام الرأسمالي.

المنطق الاشتراكي:

المنطق الاشتراكي هو مصطلح يستخدم لوصف التفكير والمبادئ الكامنة وراء الإيديولوجيات والمعتقدات الاشتراكية. في جوهرها، فإن المنطق الاشتراكي متجذر في فكرة الملكية الجماعية والسيطرة على الموارد، وضمان المساواة والعدالة الاجتماعية لجميع أفراد المجتمع. يعتمد منطق الاشتراكية على الاعتقاد بأن وسائل الإنتاج والتوزيع والتبادل يجب أن تكون مملوكة وتنظيم من قبل الدولة أو من قبل تعاونيات العمال، وليس من قبل الأفراد أو الشركات العادية.

أحد المبادئ الرئيسية للمنطق الاشتراكي هو الإيمان بإعادة توزيع الثروة والموارد من أجل توفير الاحتياجات الأساسية لجميع أفراد المجتمع. ويشمل ذلك الوصول إلى الرعاية الصحية والتعليم والإسكان وغيرها من الضروريات، بغض النظر عن الوضع الاجتماعي والاقتصادي. المنطق وراء هذا المبدأ هو أنه من خلال ضمان مستوى معيشة أساسي لجميع أفراد المجتمع، يمكننا إنشاء مجتمع أكثر إنصافا وعادلة.

جانب آخر من المنطق الاشتراكي هو التركيز على اتخاذ القرارات الجماعية والديمقراطية. يعتقد الاشتراكيون أن القرارات المتعلقة بكيفية تخصيص الموارد وكيفية تنظيم المجتمع يجب اتخاذها جماعيًا، من خلال العمليات الديمقراطية التي تضمن سماع أصوات جميع أفراد المجتمع. هذا على عكس الأنظمة الرأسمالية، حيث يتم اتخاذ القرارات غالبًا من قبل مجموعة صغيرة من الأفراد أو الشركات الأثرياء.

يؤكد المنطق الاشتراكي أيضا على أهمية التضامن والتعاون بين أفراد المجتمع. يعتقد الاشتراكيون أنه من خلال العمل معًا وتجميع مواردنا، يمكننا تحقيق المزيد من المساواة الاجتماعية والاقتصادية أكثر من الاعتماد فقط على الجهود الفردية. ينعكس هذا المبدأ في فكرة تعاونيات العمال، حيث يمتلك الموظفون ويديرون مكان عملهم بشكل مشترك، والمشاركة في الأرباح وعمليات صنع القرار.

هناك جانب رئيسي آخر للمنطق الاشتراكي وهو الإيمان بقيمة العمل وأهمية الأجور العادلة وظروف العمل لجميع العمال. يجادل الاشتراكيون بأن النظام الرأسمالي الحالي يستغل العمال من خلال دفع أجور منخفضة لهم، وحرمانهم من الفوائد والأمن الوظيفي، وتعريضهم لظروف عمل غير آمنة. المنطق وراء هذه الحجة هو أنه من خلال تقييم واحترام عمل جميع العمال، يمكننا إنشاء مجتمع أكثر عدلاً وعادلة للجميع.

يؤكد منطق الاشتراكية أيضا على أهمية برامج الرعاية الاجتماعية وشبكات السلامة لضمان حصول جميع أفراد المجتمع على الخدمات والدعم الأساسيين. يعتقد الاشتراكيون أنه من خلال الاستثمار في الخدمات العامة مثل الرعاية الصحية والتعليم والمساعدة الاجتماعية، يمكننا خلق مجتمع أكثر مساواة وعاطفة يهتم بأعلى أعضائه الضعيفة.

يسلط المنطق الاشتراكي أيضًا الضوء على الترابط بين جميع أفراد المجتمع والحاجة إلى السياسات والبرامج التي تعالج عدم المساواة والظلم النظامي. ويشمل ذلك معالجة قضايا مثل العنصرية والتمييز الجنسي ورهاب المثلية وغيرها من أشكال التمييز التي تديم عدم المساواة الاجتماعية وتعيق التقدم الاجتماعي. المنطق وراء هذا المبدأ هو أنه من خلال معالجة هذه الأسباب الجذرية لعدم المساواة، يمكننا إنشاء مجتمع أكثر شمولا وعادلة للجميع.

أحد الانتقادات التي غالبا ما تكون موجهة ضد المنطق الاشتراكي هي أنها تشجع على السيطرة الحكومية والتدخل في الاقتصاد، مما يؤدي إلى عدم الكفاءة والخنق الحرية الفردية. يجادل النقاد بأن النظم الاشتراكية يمكن أن تحد من الابتكار وريادة الأعمال، ويمكن أن تؤدي إلى نقص وعدم الكفاءة في تخصيص الموارد. ردا على ذلك، يجادل الاشتراكيون بأن اتخاذ القرارات والمساءلة الديمقراطية يمكن أن تساعد في تخفيف هذه المخاوف، مما يضمن تخصيص الموارد بطريقة عادلة وفعالة.

يؤكد المنطق الاشتراكي أيضا على أهمية الاستدامة البيئية ومعالجة الآثار البيئية للتنمية الاقتصادية. يجادل الاشتراكيون أن الأنظمة الرأسمالية تعطي الأولوية للربح على رفاهية الكوكب والأجيال القادمة، مما يؤدي إلى التحلل البيئي وتغير المناخ. المنطق وراء هذه الحجة هو أنه من خلال إعطاء الأولوية للاستدامة والاستثمار في جهود الطاقة المتجددة ومحافظة عليها، يمكننا إنشاء مجتمع أكثر استدامة وعادلا للجميع.

إن المنطق الاشتراكي متجذر في الاعتقاد في العدالة الاجتماعية والمساواة والديمقراطية والتضامن. يجادل الاشتراكيون أنه من خلال امتلاك وتنظيم الموارد بشكل جماعي، وإعطاء الأولوية لرفاهية جميع أفراد المجتمع، ومعالجة عدم المساواة والظلم النظامي، يمكننا إنشاء مجتمع أكثر عدلاً وعادلة للجميع. في حين أن هناك انتقادات للمنطق الاشتراكي، يجادل المؤيدون بأنه من خلال إعطاء الأولوية لاحتياجات الكثيرين على أرباح القلة، يمكننا إنشاء عالم أكثر تعاطفًا ومستدامة للجميع.

المنطق الشيوعي:

الشيوعية أيديولوجية سياسية تدعو إلى مجتمع يمتلك فيه العمال وسائل الإنتاج مجتمعة. يتأرجح المنطق وراء الشيوعية في الاعتقاد بأن الرأسمالية تديم عدم المساواة والاستغلال، وأن النظام الاشتراكي ضروري لضمان المساواة والعدالة لجميع أفراد المجتمع. تهدف الشيوعية إلى إنشاء مجتمع يتمتع فيه كل شخص بالوصول إلى الموارد وحيث يتم توزيع الثروة وفقًا للحاجة، بدلا من الربح.

أحد المبادئ الأساسية للمنطق الشيوعي هو فكرة أن الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج تؤدي إلى استغلال الطبقة العاملة من قبل الطبقة الرأسمالية. في نظام رأسمالي، يصبح الأثرياء أكثر ثراء بينما يصبح الفقراء أكثر فقرا، مما يؤدي إلى اتساع فجوة الثروة وعدم المساواة الاجتماعية. تسعى الشيوعية إلى القضاء على هذا التباين من خلال إلغاء الممتلكات الخاصة وإعادة توزيع الثروة بطريقة أكثر إنصافًا.

الجانب الرئيسي الآخر للمنطق الشيوعي هو الاعتقاد بأن الصراع الطبقي متأصل في المجتمعات الرأسمالية. يجادل الشيوعيون بأن مصالح الطبقة العاملة تتعارض مباشرة مع مصالح الطبقة الرأسمالية، وأن هذا الصراع سيؤدي حتما إلى الثورة. من خلال السيطرة على وسائل الإنتاج وإنشاء دكتاتورية للبروليتاريا، يعتقد الشيوعيون أنه يمكنهم الإطاحة بالنظام الرأسمالي وخلق مجتمع أكثر عدلا.

يؤكد المنطق الشيوعي أيضا على أهمية الملكية الجماعية وصنع القرار. بدلا من أن تحكمها مجموعة صغيرة من النخب الأثرياء، يدعو الشيوعية عن نظام يكون فيه الناس رأيا في كيفية تخصيص الموارد وكيفية تنظيم المجتمع. يُنظر إلى هذا النهج التشاركي للحكم على أنه وسيلة لضمان إعطاء الأولوية لتلبية احتياجات الأغلبية ورغباتها على مصالح قلة متميزة.

بالإضافة إلى ذلك، يؤكد المنطق الشيوعي على أهمية التضامن والتعاون الدوليين. يعتقد الشيوعيون أن الكفاح من أجل الاشتراكية هو عالمي، وأن العمال في جميع البلدان يجب أن يتحدوا للإطاحة بالرأسمالية وإقامة نظام اشتراكي جديد. من خلال العمل معا، يجادل الشيوعيون، يمكن للناس التغلب على الانقسامات التي أنشأتها الرأسمالية وبناء عالم أكثر عدلا وعادلة للجميع.

الجانب الرئيسي الآخر للمنطق الشيوعي هو الإيمان بحتمية الاشتراكية. يجادل الشيوعيون بأن الرأسمالية هي نظام في الأزمة، وأن تناقضاتها وظلمها ستؤدي في النهاية إلى سقوطها. من خلال تنظيم وتعبئة الطبقة العاملة، يعتقد الشيوعيون أنهم يستطيعون تسريع هذه العملية والدخول في عصر جديد من الاشتراكية.

يؤكد المنطق الشيوعي أيضا على أهمية التعليم وتربية الوعي. يعتقد الشيوعيون أن الناس يجب أن يتعلموا حول أوجه عدم المساواة والظلم في الرأسمالية من أجل فهم الحاجة إلى الاشتراكية. من خلال زيادة الوعي والوعي بين الطبقة العاملة، يأمل الشيوعيين في بناء حركة جماهيرية قادرة على تحدي النظام الرأسمالي وإحداث تغيير اجتماعي.

علاوة على ذلك، يرفض المنطق الشيوعي فكرة أن الطبيعة البشرية تنافسية وأنانية بطبيعتها. يجادل الشيوعيون بأن المجتمع الرأسمالي يشجع الجشع والفردية، لكن الناس قادرون على العمل معًا من أجل الصالح العام. من خلال خلق مجتمع يعتمد على التعاون والتضامن، تسعى الشيوعية إلى إطلاق العنان لإمكانية الإنسانية الكاملة وخلق عالم أكثر تكافلا وعدلا.

المنطق الشيوعي متجذر في الاعتقاد بأن الرأسمالية هي نظام غير عادل وغير مستدام. يجادل الشيوعيون بأن الاشتراكية تقدم بديلا أكثر إنسانية وإنسانية، يعطي الأولوية لاحتياجات الكثيرين على أرباح القلة. من خلال تنظيم وتعبئة الطبقة العاملة، يعتقد الشيوعيون أنه يمكنهم إحداث عالم خالٍ من الاستغلال وعدم المساواة، حيث تتم مشاركة الموارد وفقا للحاجة وحيث يمكن لجميع الناس العيش في كرامة وحرية.

المنطق النيولبرالي:

المنطق الليبرالي الجديد هو أيديولوجية سياسية واقتصادية اكتسبت شعبية في أواخر القرن العشرين، وخاصة في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة. يتميز بالإيمان برأسمالية السوق الحرة، والتدخل الحكومي المحدود، والمسؤولية الفردية. يجادل مؤيدو المنطق الليبرالي الجديد بأن التنظيم الحكومي يخنق النمو الاقتصادي وأن الأفراد يجب أن يكونوا أحرارا في متابعة مصالحهم الاقتصادية دون تدخل.

واحدة من المبادئ الرئيسية للمنطق الليبرالي الجديد هي فكرة أن السوق الحرة هي الطريقة الأكثر كفاءة لتخصيص الموارد. وفقا لهذه الأيديولوجية، ينبغي تحديد الأسعار والأجور من خلال العرض والطلب، بدلاً من التدخل الحكومي. أدى هذا الاعتقاد في كفاءة السوق الحرة إلى تحرير العديد من الصناعات، مثل التمويل والاتصالات السلكية واللاسلكية، من أجل تعزيز المنافسة والابتكار.

هناك فكرة مركزية أخرى عن المنطق الليبرالي الجديد وهي أهمية المسؤولية الفردية. يجادل المؤيدون بأن الأفراد يجب أن يكونوا أحرارا في اتخاذ قراراتهم الاقتصادية وتحمل عواقب تلك القرارات. أدى هذا الاعتقاد بالمسؤولية الفردية إلى دفع سياسات تحد من برامج الرعاية الحكومية وتعزيز المسؤولية الشخصية عن رفاهية الفرد الاقتصادية.

يؤكد المنطق الليبرالي الجديد أيضًا على أهمية الخصخصة والتجارة الحرة. يجادل المؤيدون بأن المؤسسات التي تديرها الحكومة عادة ما تكون أقل كفاءة وأقل ابتكارا من الشركات التي تديرها القطاع الخاص. لذلك، فإنهم يدافعون عن خصخصة الصناعات التي تديرها الحكومة من أجل تعزيز المنافسة وتحسين الكفاءة. بالإضافة إلى ذلك، يدعو المنطق الليبرالي الجديد إلى إزالة الحواجز التجارية من أجل تعزيز النمو الاقتصادي العالمي وزيادة المنافسة.

يجادل منتقدو المنطق الليبرالي الجديد بأنه يؤدي إلى زيادة عدم المساواة وعدم الاستقرار الاجتماعي. إنهم يشيرون إلى فجوة الثروة المتزايدة بين النخبة الأثرياء والطبقة العاملة كدليل على العواقب السلبية للسياسات الليبرالية الجديدة. يجادل النقاد أيضًا بأن المنطق الليبرالي الجديد يعطي الأولوية للأرباح الفردية على رفاهية المجتمع ككل، مما يؤدي إلى عدم الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي.

على الرغم من هذه الانتقادات، لا يزال المنطق الليبرالي الجديد أيديولوجية اقتصادية وسياسية مهيمنة في أجزاء كثيرة من العالم. يجادل مؤيدوها بأن السوق الحرة هو الطريقة الأكثر فعالية لتخصيص الموارد وتعزيز النمو الاقتصادي. يشيرون إلى نجاح بلدان مثل الولايات المتحدة وسنغافورة كدليل على فوائد السياسات الليبرالية الجديدة.

المنطق الليبرالي الجديد أيديولوجية سياسية واقتصادية تؤكد على أهمية الأسواق الحرة، والتدخل الحكومي المحدود، والمسؤولية الفردية. يجادل المؤيدون بأن هذه المبادئ تؤدي إلى زيادة النمو الاقتصادي والكفاءة. ومع ذلك، يجادل النقاد بأن السياسات الليبرالية الجديدة تؤدي إلى زيادة عدم المساواة وعدم الاستقرار الاجتماعي. على الرغم من هذه الانتقادات، لا يزال المنطق الليبرالي الجديد أيديولوجية مهيمنة في أجزاء كثيرة من العالم.

منطق الفساد:

يشير منطق الفساد إلى المنطق الملتوي والمشوه الذي يستخدمه الأفراد لتبرير الانخراط في الممارسات الفاسدة. إنها عقلية خطيرة تتيح للأفراد الاعتقاد بأن الغش والكذب والتلاعب بوسائل مقبولة لتحقيق أهدافهم.

في الصميم يفتقر منطق الفساد إلى المبادئ والأخلاق الأخلاقية. والأفراد الذين ينخرطون في ممارسات فاسدة في كثير من الأحيان يعطون الأولوية للربح الشخصي على الصدق والنزاهة. وهم يعتقدون أن النهايات تبرر الوسيلة، بغض النظر عن الضرر الذي قد يسببه للآخرين أو المجتمع ككل. يتيح لهم هذا التفكير المشوه ترشيد أفعالهم ورفض أي مشاعر بالذنب أو الندم.

غالبا ما يتم تغذية منطق الفساد بالجشع والرغبة في السلطة. من المرجح أن يشارك الأفراد الذين يقودون بهذه الدوافع في ممارسات فاسدة، لأنهم لا يرون أي مشكلة في استغلال الآخرين لمصلحتهم الخاصة. قد يستخدمون الخداع أو الرشوة أو الإكراه لتحقيق أهدافهم، معتقدين أن المكافآت تفوق المخاطر.

إن منطق الفساد يغذيه الشعور بالاستحقاق. قد يعتقد الأفراد الذين يشغلون مناصب سلطة أو نفوذ أنهم فوق القانون ويمكنهم التصرف دون عقاب. قد يستخدمون قوتهم للتلاعب بالأنظمة والمؤسسات لتحقيق مكاسب شخصية، دون النظر في عواقب الآخرين.

يزدهر منطق الفساد أيضا في البيئات التي يكون فيها نقص المساءلة والشفافية. عندما يكون هناك القليل من الرقابة أو العواقب على السلوك الفاسد، فمن المرجح أن يشارك الأفراد في ممارسات غير أخلاقية. هذا يخلق ثقافة الفساد التي يصعب تغييرها وتآكل الثقة في المؤسسات.

يمكن أن يكون لمنطق الفساد آثار سلبية واسعة النطاق على المجتمع. عندما يشارك الأفراد في ممارسات فاسدة، فإنه يقوض سيادة القانون ويؤدي إلى ثقة الجمهور في الحكومة والمؤسسات. يمكن أن يؤدي أيضا إلى عدم الاستقرار الاقتصادي، حيث يتم تسوية الموارد وفرص النمو.

بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يديم منطق الفساد عدم المساواة والظلم. أولئك الذين ينخرطون في ممارسات فاسدة غالبا ما يستغلون السكان الضعفاء ويوسعون الفجوة بين الأغنياء والفقراء. هذا يمكن أن يؤدي إلى الاضطرابات الاجتماعية ويقوض نسيج المجتمع.

لمكافحة منطق الفساد، هناك حاجة إلى نهج متعدد الأوجه. ويشمل ذلك تعزيز الأخلاق القوية والمساءلة في كل من القطاعين العام والخاص، وتعزيز ثقافة الشفافية والنزاهة، ومحاسبة الأفراد عن أفعالهم. كما يتطلب تثقيف الأفراد حول الآثار الضارة للفساد وتمكينهم من التحدث ضد الممارسات غير الأخلاقية.

يعد منطق الفساد عقلية خطيرة تسمح للأفراد بتبرير الانخراط في سلوك غير أخلاقي. يتم تغذيته بالجشع والاستحقاق ونقص المساءلة. لمكافحة منطق الفساد، يجب على المجتمع العمل من أجل تعزيز الشفافية والمساءلة والسلوك الأخلاقي. عندها فقط يمكننا إنشاء مجتمع أكثر عدلاً وعادلاً للجميع.

منطق الفساد المسلح:

يشير منطق الفساد المسلح إلى استخدام التكتيكات والاستراتيجيات الفاسدة لتحقيق الأهداف السياسية أو الشخصية. غالبا ما يتم استخدام هذا النوع من الفساد من قبل أولئك في مناصب السلطة الذين يسعون إلى الحفاظ على أو زيادة سيطرتهم على نظام أو مجتمع. يمكن استخدام منطق الفساد المسلح لمعالجة الأشخاص والمؤسسات لتحقيق مكاسب شخصية.

أحد الجوانب الرئيسية لمنطق الفساد المسلح هو معالجة المعلومات. من خلال التحكم في تدفق المعلومات، يمكن للجهات الفاعلة الفاسدة تشكيل الإدراك العام  والتحكم في السرد الروائي المحيط بأفعالهم. يمكن أن يتضمن ذلك نشر معلومات خاطئة، أو قمع الأصوات المعارضة، أو استخدام الدعاية للتأثير على الرأي العام.

هناك طريقة أخرى يمكن من خلالها استخدام منطق الفساد المسلح من خلال معالجة القواعد واللوائح. من خلال استغلال الثغرات في النظام أو ثني القواعد لصالحها، يمكن للجهات الفاعلة الفاسدة التأكد من أنها قادرة على الحفاظ على قوتها وتأثيرها. هذا يمكن أن ينطوي على الرشوة أو الإكراه أو أشكال أخرى من السلوك غير الأخلاقي.

يمكن أيضا استخدام منطق الفساد الأسلحة لاستغلال نقاط الضعف في النظام. يمكن أن يتضمن ذلك تسلل المؤسسات الرئيسية، أو معالجة الانتخابات، أو الانخراط في أشكال أخرى من التخريب لتقويض سلامة النظام. من خلال استغلال نقاط الضعف هذه، يمكن للجهات الفاعلة الفاسدة تعزيز مصالحها الخاصة وتأمين قبضتهم على السلطة.

أحد مخاطر منطق الفساد المسلح هو أنه يمكن أن يقوض شرعية المؤسسات وتآكل ثقة الجمهور في النظام. عندما تكون الجهات الفاعلة الفاسدة قادرة على معالجة القواعد والتحكم في تدفق المعلومات، يمكن أن تخلق شعورا بالظلم وحرمانه بين الجمهور. هذا يمكن أن يؤدي إلى الاضطرابات الاجتماعية وعدم الاستقرار السياسي وانهيار المعايير الديمقراطية.

يمكن أن يكون لمنطق الفساد المسلح تأثير في تآكل على النسيج الأخلاقي للمجتمع. عندما لا يتم التسامح مع السلوك الفاسد فحسب، بل يتم تشجيعه بنشاط، فإنه يمكن أن يسبب تآكل المعايير الأخلاقية ويطبع السلوك غير الأخلاقي. هذا يمكن أن يخلق ثقافة الفساد التي يعتبر فيها خيانة الأمانة والاستغلال وسيلة مقبولة لتحقيق أهداف الفرد.

من أجل مكافحة منطق الفساد المسلح، من الضروري أن تتحمل الجهات الفاعلة الفاسدة المسؤولية عن أفعالهم. يمكن أن يتضمن ذلك تعزيز قوانين مكافحة الفساد، وزيادة الشفافية والمساءلة في المؤسسات الحكومية، وتمكين المجتمع المدني من الاحتفاظ بسلطة الاعتبار. من المهم أيضًا تعزيز السلوك الأخلاقي والنزاهة في جميع جوانب المجتمع، من أجل خلق ثقافة ترفض الفساد ويدعم حكم القانون.

يعد منطق الفساد المسلح شكلا خطيرا وذئبيا من الفساد يمكن أن يكون له عواقب وخيمة على المجتمع. من خلال فهم كيفية استخدام الجهات الفاعلة الفاسدة للتلاعب والاستغلال والتخريب لتحقيق أهدافهم، يمكننا تجهيز أنفسنا بشكل أفضل لتحديد هذه الممارسات الضارة ومكافحتها. فقط من خلال الوقوف ضد الفساد ومساءلة السلطة، يمكننا ضمان مجتمع عادل وعادل للجميع.

المنطق الكوني:

المنطق الكوني هو مفهوم يشمل فكرة أن المنطق والتفكير عالميان ويتجاوزان الحدود الثقافية والجغرافية. وهو الاعتقاد بأن هناك مبادئ أساسية للاستدلال قابلة للتطبيق في جميع السياقات والمواقف، بغض النظر عن الموقع أو الخلفية. يتجذر هذا المفهوم في فكرة أن هناك مبادئ منطقية متأصلة في الإدراك البشري ولا تقتصر على ثقافة أو مجتمع معين.

يؤكد المنطق الكوني في جوهره على أهمية التفكير النقدي والعقلانية في اتخاذ القرار وحل المشكلات. ويشجع الأفراد على الاعتماد على المنطق والعقل بدلا من العاطفة أو الحدس عند اتخاذ القرارات، والنظر في جميع وجهات النظر والأدلة قبل التوصل إلى نتيجة. يعد هذا النهج ضروريًا في عالم اليوم المترابط والمعقد، حيث غالبًا ما يكون للقرارات عواقب بعيدة المدى تؤثر على الأفراد والمجتمعات على نطاق عالمي.

يؤكد المنطق الكوني أيضا على أهمية الانفتاح والمرونة في التفكير. إنه يشجع الأفراد على النظر في وجهات نظر متنوعة وأن يكونوا على استعداد لتحدي معتقداتهم وافتراضاتهم. ومن خلال تبني عقلية المنطق الكوني، يمكن للأفراد توسيع منظورهم واكتساب فهم أعمق للقضايا المعقدة، مما يؤدي إلى اتخاذ قرارات أكثر استنارة وفعالية.

أحد الجوانب الرئيسية للمنطق الكوني هو تأكيده على الترابط بين العالم. وهو يدرك أنه في عالم اليوم المعولم، يمكن أن يكون للقرارات المتخذة في جزء واحد من العالم آثار مضاعفة تؤثر على الأفراد والمجتمعات في جميع أنحاء العالم. لذلك، من الضروري للأفراد أن يفكروا عالميا وأن يأخذوا في الاعتبار الآثار الأوسع لتصرفاتهم وقراراتهم.

يؤكد المنطق الكوني أيضا على أهمية التعاون والتعاون في حل التحديات العالمية المعقدة. ومن خلال تبني عقلية المنطق العالمي، من المرجح أن يعمل الأفراد معا لتحقيق أهداف مشتركة وإيجاد حلول مفيدة للطرفين للمشاكل المعقدة. ويعد هذا النهج ضروريا في معالجة قضايا مثل تغير المناخ، والفقر، والصراعات، والتي تتطلب جهودا منسقة على نطاق عالمي.

بالإضافة إلى تطبيقه في صنع القرار وحل المشكلات، يلعب المنطق العالمي أيضا دورًا حاسمًا في تعزيز التفاهم والاحترام المتبادل بين الأفراد من خلفيات متنوعة. ومن خلال الاعتراف بعالمية المنطق والتفكير، يصبح الأفراد أكثر قدرة على التواصل والتواصل مع الآخرين، وسد الحواجز الثقافية واللغوية لبناء الثقة والتعاون.

ويكتسب المنطق العالمي أهمية خاصة في مجال العلاقات الدولية، حيث يكون للقرارات المتخذة على المستوى العالمي آثار عميقة على السلام والأمن. ومن خلال تطبيق مبادئ المنطق والعقل على المفاوضات الدبلوماسية وحل النزاعات، يستطيع صناع السياسات العمل على إيجاد حلول سلمية ومستدامة للتحديات العالمية.

علاوة على ذلك، فإن المنطق الكوني له آثار على مجال التعليم، حيث يمكن أن يساعد الطلاب على تطوير مهارات التفكير النقدي والقدرات التحليلية. من خلال تعليم الطلاب كيفية التفكير عالميا والنظر في وجهات نظر متنوعة، يمكن للمعلمين إعدادهم للتنقل في عالم متزايد التعقيد والترابط.

المنطق الكوني هو مفهوم قيم يعزز التفكير النقدي والتعاون والتفاهم في عالم معولم. ومن خلال الاعتراف بعالمية المنطق والتفكير، يصبح بوسع الأفراد اتخاذ قرارات أكثر استنارة، والتعاون بشكل أكثر فعالية، وبناء الجسور عبر الانقسامات الثقافية والإيديولوجية. في عصر يتسم بالترابط والتعقيد المتزايدين، يقدم المنطق العالمي إطارًا للتعامل مع التحديات العالمية بوضوح وبصيرة وتعاطف.

منطق العولمة:

لقد أصبحت العولمة قوة مهيمنة في العالم اليوم، حيث تشكل الاقتصادات والثقافات والمجتمعات في جميع أنحاء العالم. والعولمة في جوهرها هي العملية التي يتم من خلالها ربط السلع والخدمات والأفكار والأشخاص على نطاق عالمي. وهذا الترابط مدفوع بمنطق يؤكد على الترابط والاعتماد المتبادل والتكامل عبر الحدود الوطنية.

أحد الجوانب الرئيسية لمنطق العولمة هو فكرة الترابط. وفي عالم يتسم بالعولمة بشكل متزايد، أصبحت البلدان أكثر اعتمادا على بعضها البعض في التجارة والاستثمار والموارد. وقد أدى هذا الترابط إلى تشكيل سلاسل التوريد العالمية، حيث يمكن إنتاج السلع وتوزيعها عبر بلدان متعددة. وقد أدى ذلك إلى زيادة الكفاءة والتخصص في الإنتاج، مما أدى إلى انخفاض التكاليف وزيادة فرص حصول المستهلكين على السلع والخدمات.

هناك جانب آخر مهم من منطق العولمة وهو الاعتماد المتبادل. ومع زيادة ترابط البلدان، تصبح اقتصاداتها أكثر اعتمادا على بعضها البعض لتحقيق النمو والاستقرار. ويمكن رؤية هذا الاعتماد المتبادل في الطريقة التي يمكن بها للصدمات الاقتصادية في بلد ما أن تنتشر بسرعة إلى بلدان أخرى من خلال الأسواق المالية والتجارة. وقد أدى ذلك إلى دعوات لمزيد من التعاون والتنسيق بين الدول لمواجهة التحديات العالمية مثل تغير المناخ والإرهاب وعدم المساواة الاقتصادية.

ويشكل التكامل أيضا عنصرا أساسيا في منطق العولمة. ومع زيادة ترابط البلدان واعتمادها على بعضها البعض، فإنها تضطر إلى دمج سياساتها وأنظمتها ومؤسساتها لتسهيل التجارة والاستثمار والهجرة. وقد أدى هذا التكامل إلى تشكيل منظمات فوق وطنية مثل الاتحاد الأوروبي، ومنظمة التجارة العالمية، والأمم المتحدة، والتي تهدف إلى تعزيز التعاون والتآزر بين البلدان.

أحد المحركات الرئيسية لمنطق العولمة هو التقدم التكنولوجي. لقد أدى ظهور الإنترنت والاتصالات المتنقلة وتقنيات النقل إلى تسهيل انتقال الأشخاص والسلع والمعلومات عبر الحدود. وقد أدى ذلك إلى ظهور الاقتصاد الرقمي، حيث يمكن للشركات العمل على مستوى العالم والوصول إلى العملاء في مختلف البلدان بسهولة.

لقد لعب تحرير سياسات التجارة والاستثمار دورا حاسما في تعزيز العولمة. فقد فتحت البلدان أسواقها على نحو متزايد أمام المنافسة والاستثمارات الأجنبية، مما أدى إلى زيادة تدفقات السلع والخدمات ورؤوس الأموال عبر الحدود. وقد أدى ذلك إلى نمو اقتصادي أكبر، وخلق فرص العمل، والرخاء في العديد من البلدان.

لكن منطق العولمة لا يخلو من التحديات والانتقادات. ويرى النقاد أن العولمة أدت إلى تركيز الثروة والسلطة في أيدي عدد قليل من الشركات المتعددة الجنسيات والأفراد الأثرياء، مما أدى إلى زيادة عدم المساواة والاضطرابات الاجتماعية. ويشيرون أيضا إلى أن العولمة ساهمت في تآكل الثقافات والتقاليد المحلية، حيث أصبحت القيم والأعراف الغربية أكثر هيمنة في السوق العالمية.

تم إلقاء اللوم على العولمة في الاستعانة بمصادر خارجية لوظائف العمل وتراجع الصناعات التقليدية في العديد من البلدان المتقدمة، مما أدى إلى صعوبات اقتصادية واضطرابات اجتماعية للعديد من العمال. وردا على هذه الانتقادات، كانت هناك دعوات لمزيد من التنظيم والرقابة على الأسواق العالمية لضمان تقاسم فوائد العولمة على نحو أكثر إنصافا.

وعلى الرغم من هذه التحديات، فإن منطق العولمة يظل قويا، مع استمرار البلدان في تبني الترابط والاعتماد المتبادل والتكامل كوسيلة لتعزيز النمو الاقتصادي والإبداع والازدهار. وفي حين قد تكون هناك انتكاسات وعقبات على طول الطريق، فمن غير المرجح أن تنعكس القوى الدافعة للعولمة في أي وقت قريب. والأمر متروك لصناع السياسات والشركات والمجتمع المدني للعمل معا لمعالجة التأثيرات السلبية للعولمة وضمان تقاسم فوائدها بشكل أكثر إنصافا بين المجتمعات. ومن خلال القيام بذلك، يمكننا خلق عالم أكثر شمولا واستدامة وازدهارا للجميع.

منطق الاستدامة:

أصبح مفهوم الاستدامة ذا أهمية متزايدة في عالم اليوم مع استمرار نمو سكان العالم وتزايد ندرة الموارد. غالبًا ما يتم تعريف الاستدامة على أنها تلبية احتياجات الحاضر دون المساس بقدرة الأجيال القادمة على تلبية احتياجاتها الخاصة. ومن أجل تحقيق الاستدامة، من الضروري النظر في المنطق الكامن وراء القرارات التي نتخذها والإجراءات التي نتخذها.

واحدة من المبادئ الأساسية للاستدامة هي فكرة الترابط. كل شيء في العالم مرتبط بطريقة ما، والإجراءات التي نتخذها يمكن أن يكون لها عواقب بعيدة المدى. ومن خلال الاعتراف بهذه الروابط وفهمها، يمكننا اتخاذ قرارات أكثر استنارة تأخذ في الاعتبار التأثير الأوسع على البيئة والمجتمع.

جانب آخر مهم من الاستدامة هو فكرة التوازن. ومن الضروري إيجاد توازن بين تلبية احتياجاتنا الحالية والحفاظ على الموارد للأجيال القادمة. وهذا يتطلب تخطيطا دقيقا ودراسة التأثيرات طويلة المدى لأعمالنا. ومن خلال إعطاء الأولوية للاستدامة، يمكننا ضمان استخدام الموارد بكفاءة ومسؤولية، وتقليل النفايات والتدهور البيئي.

أحد الأسباب الرئيسية وراء أهمية الاستدامة هو الطبيعة المحدودة للعديد من الموارد التي نعتمد عليها. فالوقود الأحفوري، على سبيل المثال، غير متجدد وسوف ينفد في النهاية إذا واصلنا استخدامه بالمعدل الحالي. ومن خلال التحول إلى مصادر الطاقة المتجددة واعتماد ممارسات أكثر استدامة، يمكننا ضمان أن هذه الموارد متاحة للأجيال القادمة.

بالإضافة إلى الاهتمامات البيئية، تشمل الاستدامة أيضًا العوامل الاجتماعية والاقتصادية. تهدف التنمية المستدامة إلى خلق توازن بين حماية البيئة والعدالة الاجتماعية والازدهار الاقتصادي. ومن خلال النظر في كل هذه العوامل معا، يمكننا إنشاء مجتمع أكثر مرونة وشمولا يستفيد منه الجميع.

وينطوي منطق الاستدامة أيضا على التفكير على المدى الطويل بدلا من التركيز فقط على المكاسب القصيرة الأجل. في حين أنه قد يكون من المغري إعطاء الأولوية للأرباح أو الفوائد المباشرة، فمن المهم النظر في الصورة الأكبر والعواقب المحتملة لأفعالنا. ومن خلال اتباع نهج أكثر شمولية، يمكننا إيجاد حلول دائمة تعود بالنفع على الأجيال الحالية والمستقبلية.

أحد التحديات الرئيسية للاستدامة هو الحاجة إلى العمل الجماعي. يتطلب تحقيق الاستدامة التعاون والتآزر بين مختلف القطاعات وأصحاب المصلحة. ومن خلال العمل معًا لتحقيق أهداف مشتركة، يمكننا الاستفادة من مواردنا وخبراتنا الجماعية لإحداث تغيير إيجابي على نطاق أوسع.

يلعب التعليم والتوعية دورا حاسما في تعزيز الاستدامة. ومن خلال رفع مستوى الوعي حول أهمية الاستدامة وتزويد الناس بالمعرفة والأدوات اللازمة لاتخاذ قرارات مستنيرة، يمكننا تمكين الأفراد والمجتمعات من اتخاذ الإجراءات اللازمة لتحقيق مستقبل أكثر استدامة. يعد التعليم عنصرًا أساسيًا في تغيير العقليات والسلوكيات نحو ممارسات أكثر استدامة.

تلعب التكنولوجيا أيضا دورا مهمًا في تعزيز الاستدامة. يمكن أن يساعدنا الابتكار والتطورات الجديدة في مجال التكنولوجيا على إيجاد حلول أكثر كفاءة وصديقة للبيئة للتحديات الحالية. ومن خلال الاستثمار في التقنيات والبنية التحتية المستدامة، يمكننا إنشاء مجتمع أكثر استدامة ومرونة للأجيال القادمة.

إن منطق الاستدامة يدور حول اتخاذ قرارات مستنيرة تأخذ في الاعتبار الترابط بين عالمنا، والتوازن بين تلبية الاحتياجات الحالية والحفاظ على الموارد للمستقبل، والعواقب طويلة المدى لأعمالنا. ومن خلال إعطاء الأولوية للاستدامة والعمل معًا لتحقيق الأهداف المشتركة، يمكننا إنشاء مجتمع أكثر استدامة وشمولا يستفيد منه الجميع. ومن الضروري أن نستمر في تعزيز الاستدامة من خلال التعليم والتكنولوجيا والعمل الجماعي من أجل بناء مستقبل أفضل للجميع.

المنطق المستقبلي:

المستقبلية هي نظرية وممارسة ظهرت في أوائل القرن العشرين، وروجت لفكرة التقدم والسرعة والتكنولوجيا والديناميكية. يمكن فهم منطق المستقبل من خلال عدة مبادئ أساسية تشكل رؤيته للمستقبل.

أولا وقبل كل شيء، تضرب جذور المستقبل في الإيمان بالتقدم والتطور المستمر للمجتمع والتكنولوجيا. ويؤكد هذا المنطق أن التغيير أمر لا مفر منه وينبغي احتضانه بدلا من مقاومته. يعتقد المستقبليون أن المستقبل يحمل إمكانيات لا حصر لها للابتكار والتحسين، ويدافعون عن دفع حدود ما هو ممكن من أجل خلق عالم أفضل.

ثانيا، تقدر المستقبلية السرعة والكفاءة كعنصرين أساسيين للتقدم. يفرض منطق المستقبل أنه من أجل مواكبة العالم سريع التغير، يجب على الأفراد والمجتمعات أن يكونوا مرنين وقادرين على التكيف، وأن يبحثوا باستمرار عن طرق لتحسين العمليات وتبسيط العمليات. وينعكس هذا التركيز على السرعة في افتتان الحركة المستقبلية بالتكنولوجيا وقدرتها على إحداث ثورة في كل جانب من جوانب الحياة البشرية.

جانب رئيسي آخر لمنطق المستقبل هو تركيزه على الإبداع والأصالة. يعتقد المستقبليون أن الابتكار ضروري للتقدم، ويشجعون التفكير خارج الصندوق وتحدي الحكمة التقليدية. ويشجع هذا المنطق على التجريب والمجازفة كأدوات لقيادة التغيير وإيجاد حلول جديدة للمشاكل المعقدة.

تؤكد المستقبلية على أهمية احتضان عدم اليقين والفوضى كفرص للنمو والتنمية. ويعترف منطق المستقبل بأن المستقبل لا يمكن التنبؤ به ومليء بالعوامل المجهولة، لكنه يرى في ذلك فرصة للتحرر من قيود الماضي واستكشاف إمكانيات جديدة. تشجع هذه العقلية الأفراد على أن يكونوا منفتحين ومرنين، وعلى استعداد للتكيف مع الظروف المتغيرة واغتنام الفرص عند ظهورها.

تدعو المستقبلية إلى رفض التقاليد والانفصال عن الماضي من أجل المضي قدمًا وإنشاء مجتمع أكثر تقدمية. إن منطق المستقبل يتحدى الأعراف والقيم الراسخة، ويدعو إلى إعادة تصور جذري للوضع الراهن من أجل تمهيد الطريق لمستقبل أكثر إشراقا. ويعتبر هذا الرفض للتقاليد خطوة ضرورية نحو تعزيز الإبداع والابتكار، مما يسمح بظهور أفكار ووجهات نظر جديدة.

يرتكز منطق المستقبل على إيمان قوي بقدرة التكنولوجيا على تشكيل المستقبل ودفع عجلة التقدم. يرى المستقبليون أن التكنولوجيا أداة قوية للتحول، قادرة على إحداث ثورة في كل جانب من جوانب الحياة البشرية من الاتصالات إلى النقل إلى الرعاية الصحية. وهذا الإيمان بقدرة التكنولوجيا على تحسين المجتمع يغذي افتتان الحركة المستقبلية بالابتكار وسعيها الدؤوب لتحقيق اختراقات جديدة.

جانب آخر مهم من منطق المستقبل هو تأكيده على الفاعلية الفردية والتمكين. يعتقد المستقبليون أن الأفراد لديهم القدرة على تشكيل مصائرهم والتأثير على مسار التاريخ من خلال أفعالهم وقراراتهم. هذا الإيمان بقدرة الفرد على إحداث التغيير هو القوة الدافعة وراء دعوة الحركة المستقبلية للتعبير عن الذات والإبداع والابتكار.

المستقبلية بطبيعتها متفائلة بشأن المستقبل وإمكانية التقدم والتحسين. إن منطق المستقبل يشجع الأفراد على التطلع إلى الأمام بأمل وحماس، معتقدين أن الأفضل لم يأت بعد. ويغذي هذا التفاؤل دافع الحركة المستقبلية لتجاوز الحدود، وتحدي الوضع الراهن، وخلق عالم أفضل للأجيال القادمة.

يرتكز منطق المستقبل على الإيمان بالتقدم والسرعة والتكنولوجيا والإبداع والتفاؤل. ويشجع الأفراد على تبني التغيير والتفكير بشكل مبتكر وتحدي المعايير التقليدية من أجل خلق مستقبل أفضل. ومن خلال تقدير السرعة والكفاءة والأصالة، تسعى المستقبلية إلى تسخير قوة التكنولوجيا لدفع التقدم والتحول. ومن خلال تعزيزها للقدرة الفردية والتمكين، تلهم المستقبلية الأفراد للسيطرة على مصائرهم وتشكيل مستقبل أكثر إشراقًا للجميع.

المنطق الأوراسي:

مفهوم الأوراسية هو أيديولوجية سياسية تدعو إلى وحدة وتعاون البلدان في كل من أوروبا وآسيا. وهو يقوم على الاعتقاد بأن هاتين المنطقتين تشتركان في روابط ثقافية وتاريخية مشتركة ينبغي الاستفادة منها لتعزيز السلام والاستقرار في عالم سريع التغير. إن منطق الأوراسيا متجذر في فكرة أنه من خلال سد الفجوة بين الشرق والغرب، يمكن لدول المنطقة إنشاء كتلة اقتصادية وسياسية قوية يمكنها منافسة هيمنة القوى الغربية.

أحد المبادئ الأساسية للأوراسية هو رفض القيم الليبرالية الغربية وتعزيز نهج أكثر تقليدية ومحافظة في الحكم. يزعم أنصار الأوراسية أن النموذج الغربي للديمقراطية والرأسمالية فشل في تحقيق الرخاء والاستقرار في العديد من البلدان، وأن الأمر يتطلب نهجا جديدا في التصدي لتحديات العالم الحديث. وهم يعتقدون أنه من خلال تبني القيم والمؤسسات التقليدية، يمكن لدول أوراسيا بناء مجتمع أكثر مرونة واستدامة.

جانب آخر مهم من منطق الأوراسية هو التركيز على التعددية القطبية وتوازن القوى. يزعم الأوراسيون أن العالم يخضع حاليا لسيطرة نظام أحادي القطب بقيادة الولايات المتحدة، الأمر الذي أدى إلى تركيز القوة على نحو يضر بالاستقرار العالمي. ومن خلال تعزيز التعاون بين دول أوراسيا، فإنهم يعتقدون أنه من الممكن تحقيق توزيع أكثر توازناً للسلطة، مما يؤدي إلى نظام دولي أكثر استقرارا وسلاما.

علاوة على ذلك، تؤكد الأوراسية على أهمية الهوية الثقافية والحضارية. ويرى أنصار هذه الأيديولوجية أن البلدان في أوراسيا لديها تاريخ وتراث مشترك ينبغي الحفاظ عليه والاحتفال به. ومن خلال تعزيز الشعور بالهوية المشتركة بين دول المنطقة، يعتقد الأوراسيون أن الصراعات والانقسامات يمكن التغلب عليها، مما يؤدي إلى قدر أكبر من التعاون والتكامل.

تدعو الأوراسية أيضا إلى تطوير كتلة اقتصادية أوراسية يمكنها منافسة قوة ونفوذ المؤسسات الغربية مثل الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي. ويرى أنصار هذه الأيديولوجية أنه من خلال تجميع الموارد وتنسيق السياسات الاقتصادية، يمكن لدول المنطقة أن تخلق اقتصادًا أكثر مرونة واكتفاءً ذاتيًا وأقل عرضة للصدمات والضغوط الخارجية.

علاوة على ذلك، فإن منطق الأوراسية يقوم على فكرة الاستقلال والاستقلال الاستراتيجي. ويرى أنصار هذه الأيديولوجية أن البلدان في أوراسيا لا ينبغي لها أن تكون مدينة بالفضل للقوى الغربية أو تعتمد على مساعداتها. ومن خلال تعزيز الاعتماد على الذات والاستقلال، فإنهم يعتقدون أن دول المنطقة قادرة على تأكيد مصالحها الخاصة ومتابعة أجنداتها الخاصة دون تدخل من القوى الخارجية.

بالإضافة إلى ذلك، تدعو الأوراسية إلى نظام عالمي أكثر تعدد الأقطاب ولامركزية. ويرى أنصار هذه الأيديولوجية أن النظام الدولي الحالي يخضع لهيمنة القوى الغربية، التي استخدمت نفوذها للحفاظ على هيمنتها وقمع مصالح الدول الأخرى. ومن خلال الترويج لنظام أكثر لامركزية ومتعدد الأقطاب، يعتقد الأوراسيون أنه من الممكن تحقيق نظام دولي أكثر مساواة وعدالة.

علاوة على ذلك، تؤكد الأوراسية على أهمية تعزيز الحوار الثقافي والفكري بين دول المنطقة. ويرى أنصار هذه الأيديولوجية أنه من خلال تعزيز قدر أكبر من التفاهم والتعاون بين الثقافات والحضارات المختلفة، يمكن للبلدان في أوراسيا بناء مجتمع أكثر انسجاما وسلاما. ومن خلال تعزيز التسامح والاحترام المتبادل، يعتقد الأوراسيون أن الصراعات والانقسامات يمكن التغلب عليها، مما يؤدي إلى قدر أكبر من التعاون والتكامل.

في الختام، يرتكز منطق الأوراسية على الاعتقاد بأن الدول في أوروبا وآسيا تشترك في روابط ثقافية وتاريخية مشتركة ينبغي الاستفادة منها لتعزيز السلام والاستقرار والازدهار في المنطقة. من خلال الترويج لنهج أكثر تقليدية ومحافظة في الحكم، والتأكيد على التعددية القطبية وتوازن القوى، والتركيز على الهوية الثقافية والحضارية، تدعو الأوراسية إلى رؤية جديدة للعلاقات الدولية تتحدى هيمنة القوى الغربية وتعزز عالم أكثر مساواة وعدالة.

***

محمد عبد الكريم يوسف

...................

المراجع:

- Copi, Irving M., Carl Cohen, and Kenneth McMahon. Introduction to Logic. Routledge, 2019.

- Sainsbury, R. M. Logical Forms: An Introduction to Philosophical Logic. Oxford University Press, 2001.

- Priest, Graham, and Marko Malink. “Intuitionistic Logic.” Stanford Encyclopedia of Philosophy, Stanford University, 2018.

- van Benthem, Johan. "Modal Logic: A Semantic Perspective." Stanford Encyclopedia of Philosophy. https://plato.stanford.edu/entries/logic-modern/.

- Suppes, Patrick. "Introduction to Logic." Dover Publications, 1999.

- Barwise, Jon, and John Etchemendy. "Language, Proof, and Logic." Center for the Study of Language and Information, 2012.

-Copi, Irving M., and Cohen, Carl. Introduction to Logic. Pearson, 2013.

- Aristotle. Prior Analytics. Oxford University Press, 2009.

- Hurley, Patrick J. A Concise Introduction to Logic. Cengage Learning, 2014.

- Aristotle, "Prior Analytics"

- Smith, Robin. (2003). "Aristotle's Logic." Stanford Encyclopedia of Philosophy. - Ackrill, John. (1963). "Aristotle's Categories and De Interpretatione" Oxford University Press.

-Copi, Irving M., and Carl Cohen. Introduction to Logic. Pearson, 2016.

- Sainsbury, R. M. Paradoxes. Cambridge University Press, 2009.

- Priest, Graham. An Introduction to Non-Classical Logic. Cambridge University Press, 2008.

- Quine, Willard Van Orman. Methods of Logic. Harvard University Press, 1982.

الزميل الدكتور طه جزاع.. مثالا

نشر الأخ الدكتور طه جزاع في جريدة الصباح (23 /5/2024) موضوعا عن الدكتور علي الوردي استهله بقوله (في حديث عابر مع زميل جامعي سألني حول مكانة علي الوردي في علم الاجتماع وأهميته في الأوساط العلميَّة... وآرائه الاجتماعية المعروفة، وبالأخص ما يتعلق منها بسمات الشخصية العراقية..) واستشهد بمن كتب عن الوردي، دون ان يذكر ما كتبناه نحن عنه.

 يعلم الدكتور طه، او افترض ذلك، أنني اقرب الأكاديميين الى الوردي، وانني كنت على فراش موته، ولا انسى عبارتين قالهما لي لحظتها: الأولى، بعد ان صار على يقين انه في ساعاته الأخيرة، قال: (تدري قاسم هسه شيعوزني.. ايمان العجائز).. والثانية.. مد يده لي وقال: تدري أنا ما احب الماركسيين.. بس الك.. احبك، تعال انطيني بوسه).. وكانت قبلة الوداع واكثر من دمعه.

 ويعلم الأخ طه انني اجريت مع الوردي حوارا لجريدة الجامعة زمن وزير التعليم العالي الراحل الكبير منذر الشاوي، ولم ينشر كله، وحين عتب عليّ الوردي اجبته: اذا نشر كاملا.. نكون انا وانت في سجن ابو غريب.. وعلق مازحا: والله يا محلاها اذا نكون سوا بزنانة وحده!.. وانني احتفظت بها 34 سنة واهديت الاتحاد العام للأدباء والكتاب ومكتبة الدكتور مهند مصطفى جمال الدين اوراقا منها (صارت صفراء) مكتوبة بخط يده، تم تزجيجها ومعلقة في بنايتي الاتحاد والمكتبة.

ويعلم، او افترض، انني كنت اختلف مع الوردي، في حياته، بخصوص تحليلاته للشخصية العراقية، (ولي ثلاثة كتب في الشخصية العراقية بينها كتاب منهجي مقر من وزارة التعليم العالي)، وكتبت مقالا بعنوان: نظرية علي الوردي لم تعد صالحة.. ومع ذلك فأنني خصصت 16 صفحة في كتابنا الشخصية العراقية في نصف قرن.. تعطيه حقه دعونا فيها الى ان تقيم له مدينته الكاظمية تمثالا يوضع بداية جسر الائمة ويده مفتوحة وممدودة باتجاه الاعظمية وختمناها بعبارة: (ان استذكار علي الوردي ينبهنا الى حقيقة ازلية هي ان الطغاة زائلون والعلماء خالدون).

 ما كتبته.. ليس من باب العتب على الأخ الدكتور طه جزاع، بل من اجل احياء واشاعة تقليد.. ان يكون الكاتب الاكاديمي موضوعيا حين يكتب، وان ينصف حق من يكتب عنه وحق من يستحقون حتى لو كان يختلف معهم شخصيا او فكريا.

***

د. قاسم حسين صالح

 

بقلم: سيمران أجاروال

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

أشجار التمني والمجوهرات والزهور التي لا تذبل: ما هو المكان الذي تحتله هذه الملذات الحسية في حياة الرهبان البوذيين؟

إن كلمات مثل "الأروقة" أو "الأديرة" - التي تستحضر صورًا للمساحات العفيفة والمتقشفة والمنعزلة - التي نستخدمها عادةً للإشارة إلى المؤسسات البوذية تختلف تمامًا عن المفردات التي استخدمها الزاهدون البوذيون، في أوائل الهند التاريخية (حوالي 500 ق.م. - 300 م)، وتستخدم لمثل هذه الأماكن في النصوص والنقوش. لقد أطلقوا عليها اسم viharas أو aramas بدلاً من ذلك، وهي مصطلحات سنسكريتية تعني "مكان للاستجمام، أو أرض المتعة" أو "مكان المتعة، أو الحديقة". بالنسبة لسكان المناطق الحضرية المعاصرين، كانت مثل هذه المصطلحات تثير رؤى حدائق مليئة بتغريدات العصافير، وتعج بأصوات النحل وتكثر فيها الزهور وأشجار الفاكهة - وهي الأماكن التي تتكرر باستمرار في القصائد والمسرحيات السنسكريتية باعتبارها امتيازًا ماديًا وأخلاقيًا للنخبة. الذين دخلوا فيها للاستمتاع بمجموعة واسعة من الملذات، وخاصة العلاقات الغرامية والرومانسية. فلماذا يستخدم الراهب البوذي - المشهور بجهاده النسكي - مثل هذه المفردات لوصف منزله، مكان سكناه، بمجرد عودته إلى المدينة لتجنيد مرشحين رهبانيين جدد ونشر تعاليم بوذا؟

تمثل الحديقة البوذية في الهند التاريخية  فكرتين متعارضتين: الانغماس في الملذات الدنيوية (المرتبطة بالحديقة) والتخلي عنها (المرتبطة بالزاهد). تكمن متانة الحديقة في قدرتها على بناء التناقضات دون انهيارها. إن مناقشتها تعني الانجرار إلى مجموعة معانيها، التي تدمج الحديقة الدنيوية وارتباطاتها بالملذات الحسية والجسدية بينما تربطها بعالم أخلاقي أعلى، عالم لا يمكن الوصول إليه إلا من خلال تجاوز العالم الاجتماعي والمثقف.

لكي نفهم مسكن الناسك، علينا أن نبدأ بشخصية الساكن. مشتق من جذر الزهد اليوناني، مصطلح "الزاهد" ينقل افتراض حياة الكفاح أو العمل كما يدل على ذلك نظيره السنسكريتي ساراما، الذي يميز مهنة الناسك. يجلب هذا الكفاح أو العمل معه التخلي عن الروابط الاجتماعية والعائلية ليصبح "ناسكًا" (من اليونانية، ويعني "العيش في الصحراء") أو فانابراسثي (باللغة السنسكريتية التي تعني "ساكن الغابة")، مما يجعل التخلي أمرًا ضروريًا. وشرطا للنسك. إن الرغبة في التحول الذاتي توحد هذه الممارسات، والتي يتم التوصل إليها من خلال ممارسات نفسية فيزيولوجية صارمة من السعي الزاهد. ولهذا السبب تؤرخ التقاليد البوذية وغيرها من التقاليد الأدبية الهندية الناسك المكتمل باعتباره ماهابوروسا، وهو شخص كائن عظيم، يتجاوز الحالة الإنسانية، وربما يكون إنسانًا خارقًا.

ألقى بوذا خطبته الأولى في حديقة الغزلان بالقرب من كاسي، وباعتباره زاهدًا، فقد عاش في الحدائق والبساتين.

إن إقامة الناسك تعني أكثر من مجرد مأوى، فهي تتضمن هدف الرهبنة ومبدأها: كيف يمكن للناسك الرهباني أن يستمر في الحصول على منزل؟ على سبيل المثال، العيش تحت شجرة كان مسموحًا به من خلال أشكال مختلفة من الزهد، لكنه أصبح أكثر معيارية في ممارسات الزهد في البوذية المبكرة. ومع وصول بوذا (حوالي القرن الخامس قبل الميلاد)، وتعزيز فكرة كونه زاهدًا للغاية، أصبحت فكرة الكائن العظيم الذي يعيش في البرية أو أطراف المستوطنات البشرية تشكل قوة وروحانية تشبه الإله. الزاهد المتنازل، بطريقة ما، اكتسب جاذبيته من شخصيته غير العادية،أو بالأحرى الوجود الاستثنائي في فضاء مضاد للمجتمع؛ ولكن، بمجرد ترسيخه، حملت طبيعته المتجولة هذا الارتباط أينما سافر.3991 فيديكا

جزء من فيديكا (جدار منخفض) من أعمال التنقيب بهارهوت ستوبا في ماديا براديش. تصوير جوزيف ديفيد بيجلار، ١٨٧٤. بإذن من جامعة ليدن

إذًا ما الذي حدث عندما عاد الزاهد البوذي إلى الفضاء الاجتماعي للمدينة، حيث شجع الجو المتنامي للتمدن على السعي وراء الثروة (آرثا) والمتعة (كاما) إلى جانب الوفاء بالواجب الاجتماعي (دارما) - الممارسات الدنيوية باعتبارها نبذًا. لتحقيق التحرر (موكسا)، هل كانت الفكرة الأساسية للبوذية؟

وفقًا للمؤرخة روميلا ثابار، ظهرت أيديولوجيات التراجع إلى الطبيعة في البداية في المجتمع الزراعي الرعوي المتمثل في مجموعة النصوص الفيدية (مجموعة من النصوص المقدسة المؤلفة بين القرنين الخامس عشر والخامس قبل الميلاد). ومع ذلك، فقد أصبحت شائعة فقط من خلال الخطاب الذي حدث فيKutūhalaśālās/ كوتوهالشالاس-  الأماكن التي تثير الفضول -  نتيجة للتغيرات الاجتماعية التي رافقت التحضر في أوائل الهند. تقع هذه (الأماكن التى تثير الفضول ) على مشارف المدينة - في الحدائق والغابات والمتنزهات - حيث تجمع الناس للاستماع إلى خطب بوذا وغيره من المفكرين غير الأرثوذكس الذين زرعوا بذور مختلف الأيديولوجيات الجديدة من خلال التخلي عن النظام الاجتماعي المستقر.

عندما عاد أناثابينيديكا، وهو مصرفي ثري ومن أوائل أتباع بوذا، إلى مسقط رأسه سرافاستي (في ولاية أوتار براديش الحالية، الهند)، لم يدخلها، بل بحث بدلاً من ذلك وسط حدائق المدينة وبساتينها وحدائقها عن مكان لإقامة دير. ألقى بوذا خطبته الأولى في حديقة الغزلان بالقرب من Kāśī، وباعتباره زاهدًا، كان يقيم في الحدائق والبساتين. كان للحدائق في أوائل الهند أيضًا أدوار فريدة وأساسية في المجتمعات الحضرية والبلاط كمساحات خاصة وحميمة ومتعددة الاستخدامات - وهي امتدادات معمارية مشتركة لأسر النخبة، حيث تم تعليق العادات والأخلاق الاجتماعية اليومية، تمامًا مثل الغابة. أقيمت هناك أنشطة بلاط مختلفة مثل الاحتفال بالمهرجانات، وتمثيل الدراما الرومانسية، وممارسة الألعاب الترفيهية، والنزهات مع الرفاق، والاجتماعات السرية مع المحظيات والعشاق. وهكذا، على الرغم من أن أغراض الدير البوذي وحديقة المتعة كانت مختلفة تمامًا، إلا أنهما ما زالا يشكلان مؤسسات ذات صلة من حيث قربهما الجغرافي من المدينة وبعدهما الاجتماعي عن نمط حياة صاحب المنزل. وكانت هذه العلاقة حميمة جدًا لدرجة أنه تمت الإشارة إلى القوى العاملة في كلا المكانين بنفس المصطلح - أراميكاس. لذلك، يمكن بسهولة تحويل الحدائق إلى أديرة، لتكون بمثابة مساحة حدية بين الاهتمامات الفلسفية المتنوعة المرتبطة بتزايد التحضر وخلوات الغابات التي يحتفل بها في الأدب الأرثوذكسي.

من خلال التلاعب الرائع بالألفاظ، تحتوي مسرحية شودراكا القديمة باللغة السنسكريتية "بادمابرابهريتاكا" في الواقع على مثال لمعنيين - رهباني وشهواني - يعملان معًا. هنا تم القبض على راهب بوذي وهو يهرب من بيت للدعارة. عند سؤاله، أجاب بالادعاء أنه كان ببساطة قادمًا من "الرياضيات" (فيهار)، وهو صحيح من الناحية الفنية، لأنه كان قادمًا من "مكان المتعة" (فيهار). عند سماع ذلك، أجاب مساعده: "في الواقع، أنا أعرف المعنى الحقيقي لفيهارا الخاص بك"، مما جعل التلميح واضحًا.

هناك أيضًا حلقة في بودهاشاريتا، وهي قصيدة ملحمية كتبها أشفاغوشا (القرنين الأول والثاني الميلادي) يُصوَّر فيها بوديساتفا (شخص في طريقه ليصبح بوذا) وهو يمشي في حديقة ترفيهية بصحبة البغايا اللاتي يحاولن إغوائه. ويتطور المشهد على النحو التالي:

ثم تجول الأمير محاطًا بالنساء في الحديقة مع قطيع من الإناث مثل فيل في غابة الهيمالايا. في تلك الحديقة الجميلة كان يتألق مع النساء الحاضرات من حوله، كما لو كان محاطًا بالحوريات من أجل متعة فيفاسفات فيدراجا. ثم قامت بعض الفتيات الحاضرات هناك، متظاهرات بأنهن تحت تأثير المخدرات، بلمسه بأثدائهن الصلبة والمستديرة والجذابة تقريبًا. تعثرت إحداهن كاذبة وأمسكته بقوة بذراعيها الناعمتين... والأخرى،التي كانت شفتها  السفلي ذات اللون النحاسي تفوح منها رائحة النبيذ المسكر، وهمست في أذنه: "استمع إلى سر".

وقد وضع الرهبان البوذيون الذين جمعوا هذه الأعمال هذه المعاني في طبقات، وقدموا الحديقة باعتبارها أكوانًا متعددة - مصدرًا لتفسيرات متعددة.

لقد صورت الحدائق على أنها مساكن مثالية للكائنات النبيلة في الأدب الهندي الملكي والديني المبكر. تكشف مصادر مثل كاما سوترا أن حديقة المتعة الملكية - باعتبارها أعجوبة نباتية وقصرًا يتمتع بمتعة كبيرة - كانت بمثابة ملحق مهم لأسرة الملك الكبيرة. لقدرته على تجاوز توقعات الحياة اليومية جعلته كالسماء، علامة على المكانة العظيمة لبيت الملك، مكان رائع مثل بيت الله. يُعتقد أيضًا أن الكائنات القوية الأخرى، مثل الناغا (آلهة نصف بشرية ونصف كوبرا في العالم السفلي) تقيم في الحدائق الإلهية.

كانت حديقة الجنة البوذية، على النقيض من نظيرتها في البلاط الملكي، مكانًا حسيًا للغاية ولكنه خالٍ من الجنس.

بالنسبة للبوذية، ساعدت هذه الصورة الأوسع للحديقة في تصور مكان التنوير كحديقة خارقة ومزخرفة للغاية. وفي نصوص الماهايانا المبكرة، تطورت هذه الفكرة إلى مفهوم "الجنة"، حيث يعظ بوذا ويعيش إلى الأبد. جنة بوذا أميتابها (سوخافاتي أو "أرض النعيم النقية")، على سبيل المثال، بها سبعة صفوف من أشجار التالا، وشبكات ذات أجراس، وأشجار الأحجار الكريمة، وبرك اللوتس المصنوعة من الأحجار الكريمة، وأمطار من زهور الماندارافا العطرة التي تتحرك مع الريح، وكل منها مليء بالأحجار الكريمة. غطت الزهور الأرض مثل السجادة، لكنها اختفت بأعجوبة قبل أن تجف مباشرة، وعادت للظهور على الأشجار. ولا توجد زهور ذابلة في أرض النعيم النقية.

على عكس حدائق الملوك والثعابين، فإن حديقة جنة بوذا، كما هو موصوف في الأعمال الكلاسيكية، لا تتضمن أي وصف لجمال ونعيم الأبساراس (الأرواح الأنثوية). وفقًا للشيخ سوخافاتيفيوهاسوترا، فإن النذر الذي قطعه الراهب دارماكارا يعني أنه لا يمكن لأي امرأة أن تعيش في جنة بوذا أميتابها. وعلى الرغم من ذكر الحوريات في العمل، إلا أنه لا يوجد مدح لجمالهن. وفقًا لعمل المؤرخ أكيرا شيمادا، فإن هذا الحد الأدنى من الانغماس في الشخصيات النسائية وجمالها الحسي في الأوصاف النصية يعكس قدرة البوديساتفات وبوذا على التغلب على جاذبية الشهوة. علاوة على ذلك، في جنة أميتابها، لم يولد البوديساتفا من الرحم، ولكن بأعجوبة في حبة لوتس. وهكذا، فإن حديقة الجنة البوذية، على النقيض من نظيرتها البلاطية، كانت مكانًا حسيًا للغاية ولكنه خال من الجنس، حيث تم استبدال الملذات المثيرة بأشكال راقية من النعيم السامي والروحي (غير الدنيوي).

بقطع النظر عن استخدام صور الحدائق في الأدب البوذي، يمكننا أيضًا تتبع وجودها في البرامج النحتية للأبراج البوذية، المسكن الأبدي لبوذا في هذا العالم. بين عامي 200 قبل الميلاد و300 بعد الميلاد، شهد وسط الهند ومنطقة ديكان انتشار الأبراج البوذية والأديرة في المراكز التجارية وعلى طول طرق التجارة الرئيسية. بالإضافة إلى القصص من حياة بوذا، تصور بوابات وسور هذه الأبراج المبكرة مجموعة متنوعة من النباتات بالإضافة إلى الزخارف التصويرية الرائعة التي تتضمن النباتات.

في بهاروت ستوبا في وسط الهند، يصور السور لفائف الكرمة الملتوية التي تنتج أوراقًا وأزهارًا وفواكه وحتى جواهر، كما لو كانت كالبافاركس أو كالبالاتاس (أشجار التمني أو الكروم المتمنية) - نباتات أنتجت ثروة رائعة وكانت عناصر مألوفة في كل من التمثيلات البلاطية والبوذية. تتميز المواجهة أيضًا بشريط ضيق يمثل الشبكة ذات الأجراس التي واجهناها في جنة أميتابها (سوخافاتي)، في سوخافاتيفيوهاسوترا (الشكل 1). علاوة على ذلك، يشير الانتظام الشديد لهذه الكروم والعناصر الزخرفية إلى أنها لا تمثل نباتات "حقيقية"، ولكنها بالأحرى استحضار للحدائق المعجزة الموصوفة في كتب ماهانيانا المقدسة.

الشكل 1: قسم من السكة الحديدية، حوالي 150 قبل الميلاد، بهاروت. بإذن من متحف كليفلاند للفنون. ولكن، على النقيض من الدور المحدود للغاية للشخصيات الأنثوية المثيرة في حدائق هذه النصوص، فإن الأبراج البوذية المبكرة غنية بالصور المثيرة لنساء مغريات؛ وفي حدائقهن، يستمتع الأزواج العاشقون، تحت ظلال الأزهار، بمختلف المتع غير المشروعة وشبه غير المشروعة (الشكلان 2 و3). إلى جانب هذه الصور، لدينا Ṛṣyaśṛṅga - المولود بدون رغبة ويرمز إلى قوة الزهد - والذي يذكرنا بمقاومة البوديساتفا للعاهرات المغريات في حديقة المتعة في بوذا شاريتا (الشكل 4).

الشكل 2: عمود حديدي زاوية مع الشرب والرقص والموسيقى، من ماثورا، فترة كواسنة، القرن الثاني الميلادي. بإذن من متحف كليفلاند للفنون

الشكل 3: تم العثور على درابزين ستوبا في تل بهوتسار، فترة كوانا، المتحف الهندي، كولكاتا.

الشكل 4: صرِشْرِنغا، فترة كواهن، القرن الثاني الميلادي، متحف ماثورا.

مع ذلك، فإن الأمر الأكثر إثارة للاهتمام هو الموقع المعماري لهذه الصور المثيرة، والتي تقتصر على الوجوه الخارجية ومحيط الأبراج البوذية (الشكل 3)؛ وبالتالي، يتم استبعادها مكانيًا من المساحات الداخلية الأكثر أهمية أمام بوذا، والتي تصور الأساطير المقدسة مثل قصص حياة بوذا. كما أرى، فإن مثل هذا التمييز الدقيق والتسلسل الهرمي بين الحسي والمقدس في البرنامج النحتي للأبراج البوذية قد زود ستوبا بوظيفة الدخول في انتقال رمزي من العالم الخارجي الدنيوي إلى عالم الزهد الداخلي الظاهري. ومن خلال القيام بذلك، فإنه، مثل النصوص المقدسة، تخيل أن حدائق بوذا الجنة هي خارج نطاق الملذات الدنيوية.

لكن، كيف يمكن للمرء أن يفسر ظهور النباتات الممنوحة للثروة، والمحققة للرغبات، والتي تثير أوصافها بوضوح خيالات البذخ، في الحدائق السماوية للأدب البوذي؟

جادل المؤرخ داود علي بأن مثل هذه الأوصاف والتمثيلات تلخص جماليات الوفرة، التي "تنظر إلى الزهور والمجوهرات والحلي باعتبارها إكسسوارات أساسية وميمونة وجميلة لعالم مقبول أخلاقياً".حثت التعاليم البوذية أصحاب المنازل على "زرع" أعمالهم في "مجالات الاستحقاق" وتنمية الفضائل التي من شأنها أن "تؤتي ثمارها"؛ ووفقًا للنص البالي/ Pali (فيمانافاتثو )، فإن مثل هذه الأفعال قدمت بالفعل مكافآت مثل شجرة التمنيات، أو كالبافريكشا*. إن البناء البوذي للجنة - حيث يجني الناس العاديون (كثيرون منهم من البيئة الحضرية والبلاطية) مكافأة مزاياهم الأرضية - دمج قيم المجتمع المعاصر ليس أمرًا مفاجئًا نظرًا لأن الأدب البوذي اعتمد أيضًا على روايات ممارسات البلاط المعاصرة لإعادة البناء. الكثير من حياة بوذا المبكرة كأمير. والأمر المهم هنا هو كيف أعاد هذا التوحيد صياغة صور البذخ البلاطي ووسعها إلى استعارة من الوفرة الفاضلة، والتي اكتسبها المرء من خلال الوصول إلى حافة الحضارة ــ من خلال جهد الزهد والتضحية،ــ والتحول إلى كائن عظيم.

(تمت)

*** 

..................................

المؤلفة: سيمران أجاروال / Simran Agarwal  باحثة مشاركة في أكاديمية MAP. حصلت مؤخرًا على درجة الماجستير في الفنون وعلم الجمال من جامعة جواهر لال نهرو في دلهي. تم نشر كتاباتها في مجلة جارلاند وScroll.in،

* كالبافريكشا هي شجرة إلهية تحقق الرغبات في الديانات مثل الهندوسية والجاينية والبوذية.

(قراءة في بِنية العقليَّة الاتِّباعيَّة)

كثيرًا ما نتَّهم المستشرقين بالطعن في «القرآن الكريم». غير أنَّ من الإنصاف الاعتراف بأن بعض كتب التراث ربما طرحت في صحفها الذرائع تلو الذرائع للطاعنين في الخِطاب القرآني.  هكذا زعم مولانا (ذو القُروح)، والعُهدة عليه.  فسألته:

- كيف؟

- لقد ابتكروا لنا قِسمة المَكِّي والمَدَني، مثلًا، مع أنه لم يَسمع بها أهل الصدر الأوَّل من المسلمين.  ومعلوم أنَّ المستشرقين في العصر الحديث قد جَهِدوا من أجل تحويل «القرآن» إلى كتاب تاريخ؛ فسعوا إلى إعادة ترتيبه، حسب بعض المعلومات عن سياقات النزول، ففشلوا.  وظلَّ «القرآن» كتابًا ذا نَصٍّ كُلِّي الدِّلالة، لا كتاب مناسبات، ولا سِجِلَّ تواريخ، أو من قبيل السِّيَر الذاتيَّة.  وهو لو كان كذلك أصلًا، لما كان كتاب دِين، بل كتاب دُنيا.  ولئن صحَّ الاستئناس بفكرة المَكِّي والمَدَني، وبأسباب النزول، لإضاءة النصِّ من خلال سياقاته، وهذا أمرٌ مسوَّغ نصوصيًّا، بل لازمٌ قرائيًّا، فإنَّ تقييد النصِّ بالحوادث التي جاء خلالها منهاجٌ لا يتَّفق مع طبيعة النصِّ البلاغيِّ عمومًا، فكيف بالنصِّ القرآنيِّ على وجه الخصوص؟! من حيث إنَّ النصَّ البلاغيَّ إنَّما يَضرب المَثَل بشواهد الواقع على نظائر مفترضة في كلِّ زمانٍ ومكان؛ لأنَّه خِطابٌ متعالٍ على الوظيفة الآنيَّة إلى الوظيفة المطلَقة، وعن الدِّلالة العينيَّة إلى الدِّلالة المفتوحة، لتأسيس قياسٍ لا نهائيٍّ. ثمَّ لقد أردف أولئك قِسمةَ «القرآن» إلى مَكِّي ومَدَني بحكايةٍ أخرى، هي حكاية الناسخ والمنسوخ، التي استُغِلَّت أيضًا أسوأ استغلال من قِبل المسلمين وغير المسلمين؛ فأبطلوا حُكم بعض الآيات بحُجَّة المَكِّية والمَدَنية تارةً، وبحُجَّة الناسخ والمنسوخ تارةً أخرى. ومن هذا ما قالوه حول ما قبل الأمر بقتال المشركين وما بعد الأمر بالقتال. وبذا بات الإسلام إسلامَين، إسلامًا مَكِيًّا وآخَر مَدَنيًّا، وإسلامًا سِلميًّا وآخَر حَربيًّا، وإسلامًا ناسِخًا وآخَر منسوخًا! وما هو، في حقيقة الأمر، إلَّا خِطابٌ واحد، ولو كره الكارهون.

- أتراهم لا يفقهون ما فقهتم، يا ذا القُروح؟!

- أجل، يمكن أن تقول هذا! لولا تقديس ما وجدنا عليه آباءنا. وهذه دِيانة (قُريش)، لا دين (محمَّد بن عبدالله). أو قُل: هم لا يستطيعون أن يفقهوا الظروف السياسيَّة أو التاريخيَّة أو المعرفيَّة، وأنَّ لكلِّ سياقٍ خِطابًا، ولكلِّ ظرفٍ ما يناسبه، وتلك سُنَّةٌ في كلِّ تشريعٍ أو نظام أو قانون.

- أراك تناقِض نفسك!  ألم تَقُل قبل قليل: إنَّ النصَّ البلاغيَّ إنَّما يَضرِب المَثَل بشواهد الواقع على نظائر مفترضة في كلِّ زمانٍ ومكان؛ لأنَّه خِطابٌ متعالٍ على الوظيفة الآنيَّة إلى الوظيفة المطلَقة، وعن الدِّلالة العَينيَّة إلى الدِّلالة المفتوحة، لتأسيس قياسٍ لا نهائي.

- لا تناقض، يا ابن الذين! فقد قلتُ: لئن صحَّ الاستئناس بفكرة المَكِّي والمَدَني، وبأسباب النزول، لإضاءة النصِّ من خلال سياقاته، وهذا أمرٌ مسوَّغ نصوصيًّا، بل لازمٌ قرائيًّا، فإنَّ تقييد النصِّ بالحوادث التي جاء خلالها منهاجٌ لا يتَّفق مع طبيعة النصِّ البلاغيِّ عمومًا. ففرقٌ بين الاستئناس بسياق النصِّ وتقييده به.  من حيث إنَّه لا يصحُّ بحالٍ أن تُدار الأمور على نحوٍ واحدٍ في كُلِّ الأحوال والملابسات، وإلَّا كانت تلك سياسة تحكُّميَّة غبيَّة، فاشلة في التعامل مع الأحداث والمستجدَّات.

- على أقل من رِسلك! بالمثال نفهم المقال.

- من شواهد ذلك الخَطَلِ العجيبِ في التفسير أن تجد موقفهم حيال (الآيتين 14- 15) الواردتين في (سُورة الجاثية)- وهم يصنِّفون السُّورة على أنها «مَكِّيَّة»، ولهذا التصنيف ما له، ووراءه لديهم ما وراءه، سواء لدَى المفسِّرين منهم والطاعنين-: «قُل لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ؛ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ.  مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ، وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا، ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ.»

- وأيُّ خِطابٍ أكثر حضاريَّة، وإنسانيَّة، وتسامحًا من هذا؟!

- نعم، ولكن هيهات، لا تفرح!  ستجدهم يهبُّون للاستدراك على كلام الله، مسجِّلين في كتبهم- كما في «تفسير الجلالَين»، للسيوطي والمحلِّي، مثلًا- أنَّ حُكم الآية الأُولى إنَّما كان قبل الأمر بالجهاد! أي أنهم يقولون: إنَّه لم يَعُد للَّذين آمنوا من مجالٍ لأن يغفروا لغير المؤمنين، بل أن يقاتلوهم، هكذا، حتى يؤمنوا، أو يَفنى أحد الفريقين، أو كلاهما!

- ومن ثَمَّ أنَّ الآية لم يَعُد لها معنى أصلًا!

- فلِمَ تبقَى، إذن؟  أرأيتم كيف يفعل هؤلاء؟!  إنَّ بعضهم- والحالة هذه- يقدِّمون مائدة من التناقضات والبلاهات لكُلِّ من هَبَّ ودَبَّ من الطاعنين.

- ألا ترى أنَّه يُضاف إلى مبتكرات العصور المتأخِّرة- من قبيل ما ذكرتم من المَكِّي والمَدَني، والناسخ والمنسوخ، ومن ثَمَّ جَعْل «القرآن» عِضِيْن- إشكالٌ آخَر يتعلَّق باللُّغة العَرَبيَّة؟

- بلى. على أنَّ اغتراب اللُّغة العَرَبيَّة- أمس واليوم- كارثة قائمة بذاتها، وهو صورةٌ عن اغتراب العَرَب والمسلمين، وتخلُّفهم الفكري والحضاري، واستلابهم لغيرهم.  أمَّا إضعاف اللُّغة عمدًا، والاستهانة بها، والاستبدال بها غيرها، فمشروع معاصر، يسعى إلى إضعاف العَرَب، فكرًا، وحضارة، وهويَّة.  على الرغم من أنَّه من المعروف والمشهود أنَّ من أضعف الإيمان في الاستراتيجيَّات الثقافيَّة والحضاريَّة لدَى الأُمم الحيَّة فرض اللُّغة القوميَّة على الوافد، مثلًا، فضلًا عن المواطن.  فهل رأيتم الإنجليز أو الفرنسيِّين يكسِّرون لغتهم من أجل الوافدين؟  أم سمعتم الأمريكان يفعلون ذلك مع الوافد إلى (الولايات المتحدة الأميركيَّة)؟  أو رأيتم أنهم يُلغون لغتهم هم ويتحدَّثون بلُغة الوافد؟

- كلَّا! بل هم يُلزِمون الوافد بتعلُّم لُغتهم، لكي يحيا بينهم بصورة مريحة، وإلَّا فليذهب إلى حيث ألقت.

- وعليه، لكي ينجو من أُمِّ قَشْعَم- أن يحضِّر نفسه؛ بأخذ دورات لُغويَّة مكثَّفة، أو بأيِّ تدابير أخرى ليستطيع التفاهم مع أهل البلد المضيف. أمَّا العَرَب، ولعُقَد نقصٍ حضاريَّةٍ مزمنة، ولأمراض ثقافيَّة بنيويَّة، لدَى المؤسَّسات الحكوميَّة قبل الشُّعوب، فإنَّ الاستراتيجيَّات الثقافيَّة والحضاريَّة الاتباعيَّة تتمثَّل في رفض اللُّغة القوميَّة وتحطيمها ليفهم الوافد. هذا إذا كان شرقيًّا.

- إمَّا إذا كان غربيًّا، فالواجب ترك العَرَبيَّة أصلًا، والرطانة بلسان الغَرَبي، إكرامًا لزرقة عينيه!

- حتى إنك لتلحظ أن العَرَبيَّ بات يخجل من استعمال لُغته، كيلا يُنظر إليه على أنه جاهل أو متخلِّف، أو، لا قدَّر الله، إرهابي، آبق من ربقة سيِّده الأبيض!  فتراه يُناضل ما استطاع لإثبات ولائه، لاويًا لسانه بلُغة سيِّده، مهما تمخَّض عن رطانةٍ بليدةٍ سمجة؛ فالمهم من كلِّ شيءٍ أن يحظى بشهادة الانسلاخ، واعتناق لسان الآخَر، وما يتبع هذا من انسلاخات شتَّى!

- بالأمس القريب كان الناس يتندَّرون على من يستعمل كلمة «أوكي»، بدل «طيِّب»، وإنْ كان قد يستعملهما معًا: «طيِّب.. أوكي»، أمَّا اليوم فقد اتسع الخرق على الراقع، وما زال في اتساع، وأمسى الجميع- حتى العامِّي الأُمِّي، الذي لا يقرأ ولا يكتب بالعَرَبيَّة- يستعملون عشرات الكلمات غير العربيَّة.

- والطامَّة الكُبرى أنَّ المؤسَّسات المسؤولة- أو هكذا يُفترَض- تعليمًا وإعلامًا، والمُوْكَل إليها تسمية المرافق والمحالِّ التجاريَّة، قد شَرَّعت ذلك وأجازته، وكأنه لا يعني شيئًا.

- لأنَّ تلك الجهات نفسها، وببساطة، لم تعد تعي ما هي؟ وأين هي؟

- أنت ترى- على سبيل المثال الشَّعبي- كلمة «كافيه» تتبختر في الشوارع العَرَبيَّة العامَّة والخاصَّة، بعرض الوطن العَرَبي وطوله، وتندلق على كل لسان.  والطريف أن تسمع العُربان وتقرأهم يجمعون هذه الكلمة جمع مؤنَّث سالم: «كافيهات»!  والأطرف أنَّ الكلمة- لفظًا ومعنى- عَرَبيَّة أصلًا، استعجمتْ ثمَّ استُوردت!  فما كان ليحلو في أذن العَرَبيِّ المستلَب، ولا ليروق له أن يستبدل بـ«كافيه» كلمة «مقهى»، وبـ«كافيهات» كلمة «مقاهي»!  هو يشعر بأن الكلمة العَرَبيَّة سُوقيَّة مبتذلة! ولقد كانت بعض المقاهي العَرَبيَّة قبل سنين منتديات أدبيَّة راقية، يرتادها كبار الأدباء وعِلية المفكرين، في (القاهرة) مثلًا، أمثال (نجيب محفوظ) و(توفيق الحكيم)، وأضرابهما.  ذلك قبل عهد «الكافيهات». وهذا الاغتراب اللُّغوي ما هو إلَّا مرآة مقعَّرة تصوِّر منحدرنا الثقافي العام الجارف، الذي يتعمَّق بنا عامًا إثر عام. وهي حالة مَرَضيَّة لا تنحصر عقابيلها في وضع كلمةٍ مكان كلمة، ولا في البُعد الاغترابي اللُّغوي فقط.

- سامحك الله، خرجت بنا عن الموضوع!  وتلك قضيَّة أخرى.  فلنبق في الأولى!

- لم أخرج، بل دخلت.  لأننا سنجد أنفسنا مضطرِّين لطرح السؤال الآتي: ما مدى عِلم بعض سلفنا الصالح باللُّغة العَرَبيَّة؟  وسنناقش الإجابة في المساق المقبل.

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

 

عصر التقنية المتطورة، بما يوفره من حق شخصي في إمتلاك أجهزة الموبايل والحاسوب والإنترنت. وبما يوفره من حرية وسهولة في إستخدام وسائل التواصل الإجتماعي، والمواقع الألكترونية. يوفر في رأي بعض المثقفين فرصة ركوب أمواج ثقافات الدول المتطورة بما يحقق أو يدفع بإتجاه اللحاق بركب العالم ثقافياً وإجتماعياً وإقتصادياً، من خلال التدفق الهائل للبيانات والمعلومات وسرعة الحصول عليها ودقة نتائج البحث الألكتروني التي يراها بعض المثقفين تغني رصيدهم الثقافي وتجربتهم الإبداعية.

منذ بدايات القرن الواحد والعشرين، كثر في العالم العربي حملة الشهادات العليا وحملة الألقاب الرسمية و الإجتماعية، وهيمنت الثقافة الشعبية على مشاهد الحياة اليومية للناس قياساً بثقافة النخبة. ربما لقلة العطاء الفكري والثقافي للنخب الثقافية، وربما لغزارته في الجانب النظري البعيد عن واقع حال المجتمع الذي يُراد ان يتأثر بفكر المثقفين بما يدفعه الى تغيير واقعه الى ما ينبغي ان يكون عليه. وربما لافتقاره الى علاقة تواصل مؤثرة بالمتلقي، تجعل من ذلك العطاء الفكري العملي موضع تفاعل الناس، فقد نجد كثيراً من البحوث الأكاديمية المهمة التي تصب في معالجة الواقع، لكنها حبيسة رفوف المكتبات ومكاتب المسؤولين الذين لا يجدون في تنفيذها ما يخدم توجهاتهم في إدارة البلاد.

التثقيف الافتراضي

كما أتاح العالم الافتراضي إمكانية تأسيس أكاديميات افتراضية ومراكز أبحاث وكليات ومعاهد للدراسة عن بعد، وسّعت مساحة اللقاء الثقافي والمعرفي وأعطت للكتاب الألكتروني حضوراً أثّر في حركة الكتاب الورقي فقلّ الإقبال عليه أمام وفرة المكتبات الألكترونية المجانية التي تعرض عنوانات متنوعة وكثيرة يمكن قراءتها عبر الشاشة أو نقل نسخة منها إلى الحاسوب الشخصي، فضلاً عن مكتبات بيع الكتب الكترونياً بأسعار هي الأقل مقارنة  بكلفة شرائها مطبوعة بصيغة كتاب ورقي.

انشطة ثقافية الكترونية

التغطية المستمرة والبث المتواصل للإنترنت على مدار الساعة  حفز كثيرين على الظهور في مواقع التواصل الإجتماعي وغرف الدردشة والملتقيات والصالونات والمجموعات الثقافية والإخبارية والتجارية. ثم جاء وباء كورونا ليدعم هذا الحافز ويوسعه، فلم يتوقف النشاط الثقافي والتواصل الإجتماعي بسبب العزلة التي فرضتها شروط السلامة من الوباء، فقد ظهرت منتديات ومجالس ثقافية الكترونية تلقى فيها المحاضرات بالصوت والصورة الحية تارة، والمسجلة تارة أخرى، وكان لرابطة مجالس بغداد الثقافية دور مميز في تحريك الوسط الثقافي في أجواء الحظر حيث التنسيق بين الأعضاء عبر المجموعة الالكترونية للرابطة وتحديد وقت ويوم لشخصية ثقافية تختارها الإدارة لتلقي محاضرة يختارها المحاضر ويرسلها على شكل بصمات صوتية الى المجموعة، تعقبها مداخلات واسئلة. تمخض عن هذا الدور، كتاب “ ثقافتنا في زمن الكورونا “ الذي جمع فيه رئيس الرابطة الاستاذ صادق الربيعي كل المحاضرات الثقافية التي القيت افتراضياً وطبع على شكل كتاب ورقي ضخم.

عمد بعض القائمين على الأنشطة الثقافية الإلكترونية الى تقديم " شهادة مشاركة " باسم كل من يسجل حضوره الالكتروني في المنصة التي تلقى من عليها المحاضرة الثقافية. فضلاً عن " شهادة شكر "  و" درع الإبداع والتميز ".

بعض الآراء ثمنت تلك المبادرات وعدتها تشجيعية ومحفزة، وبعضها رأت فيها أنشطة قائمة على أساس مشترك بين المظهر الإجتماعي والجوهر الثقافي، فتقديم شهادة مشاركة لمجرد دخول الشخص وتسجيله في المنصة يحفز كثيرين على تلك الخطوة من أجل الحصول على تلك الشهادة التي ترسل اليه الكترونياً فيقوم المشترك  بنشرها على حسابه الخاص كي يحصل على الإجايات وكلمات الثناء على نشاطه الثقافي هذا.

الثقافة المحلية وعصر التقنية

يرى بعض المثقفين المعجبين والمتأثرين بعصر التقنية والثقافات الغربية، ان ثقافاتهم المحلية ليس بمقدورها مواكبة المشاريع الثقافية العالمية التي تمولها مشاريع الإقتصاد الصناعي والسياسي للدول الكبرى في العالم عبر شركات عابرة للقوميات، وعبر مواقع التواصل الإجتماعي، من خلال محركات البحث الالكتروني. لذا وجدوا في المرونة حاجة ضرورية تفرضها ظروف مرحلية محلية واقليمية وعالمية متعلقة بمستقبل الحياة على الارض وبمصير الإنسانية، لذلك دعا نفر من المثقفين الى تكوين عقل ثقافي محلي بمواصفات عالمية عابرة للخصوصية، وفي بعض الأحيان عابرة للقيم والمبادىء والمثل العليا للمجتمع.

لقد منحت أدوات التقنية للمثقف العربي الواناً من الحرية كان ولا يزال يفتقر إليها في مجتمعه، فقد صار بمقدوره إنتاج ثقافته الخاصة بعد أن كان إنتاجها جماعياً.

الفردية الثقافية

اختلف المثقفون حول الفردية الثقافية،. منهم من يراها تهدد وحدة المجتمع، خصوصاً عندما تكون متأثرة بالتغريب الثقافي. ومنهم من يراها تعزز مركزية الذات، وتزيد في حرية التعبير، وحرية الإبداع التي يحتاجها العقل العربي المقيد بالمصادر والآراء القديمة والموروث الثقافي عموماً.

لا يرى بعض المثقفين، في التغريب الثقافي خطراً على حاضر بلدانهم العربية بموروثها الثقافي في ظل النظام العالمي الجديد الذي لا معنى فيه لحياة أي مجتمع بعيداً عن التأثر بثقافات المجتمعات الأخرى حول العالم والتأثير فيها. بينما يعتقد المثقف المحافظ ان الأمر يحتمل كل الخطورة ما دامت معادلة الأقوى في أجندات النظام العالمي لم تغادر بعدها المادي عددياً وعسكرياً وإقتصادياً فهي المعادلة التي لا تزال غالبة على طبيعة المشهد العالمي في كل المجالات تقريباً، وان الدول الكبرى التي استعمرت بلداننا في السابق، هي نفسها من يقود العالم اليوم بعد أن أجرت تحديثاً على بعض المفاهيم كالإستعمار والإحتلال. فصار الحديث عن الغزو الثقافي، وعن إحتلال العقول، والهيمنة الرقمية العالمية، والتغريب الثقافي وأمركة العالم وثقافة القطب الواحد.

المثقف والتطور

لا تزال لكلمة “ تطور “ جاذبيتها الشديدة التي تشد اليها كل باحث عن واقع أفضل وحال أحسن وحياة أجمل.

بإسم التطور خرجنا من عباءة الماضي وانفتحنا على العالم. وبإسم التطور وسّعنا علاقاتنا التجارية والثقافية والدبلوماسية مع بلدان العالم. وبإسم التطور خرجنا الى صناديق الإقتراع نحمل السلام بدل السلاح بحثاً عن ممثلين صادقين عنا في السلطة. وبإسم التطور ارتضينا الاختراق الالكتروني لخصوصياتنا عندما وفرت لنا بعض شركات الإنتاج الرقمي امكانية الكسب المالي بالترويج لصفحاتنا الشخصية بمنشوراتها ومعروضاتها ومن بينها شؤوننا الشخصية وحياتنا العائلية.

يُعتقد ان المساحة الكبيرة للحرية التي وفرتها التقنية الرقمية المتطورة في مجال النشر وإبداء الرأي، تعدّ من إيجابيات عصر التقنية. لكنهم قد لا يعلمون ان القائمين على مشاريع التطور التقني يستثمرون في الثقافة لصالح اجنداتهم الخاصة، فهم يوفرون للكاتب والمفكر سبل التواصل ونشر المقالات والكتب والأراء ويقدمون له عروضاً للشهرة، وفي الوقت نفسه، يستخدمون ظهوره الإعلامي وصوره الشخصية ومقاطع الفديو التي يتحدث فيها، كسلاح خطير يوجهونه اليه متى ما اراد ان يواجه بأخلاق ثقافته ووعي حريته ومبادىء مهنته، عروضاً وأفكاراً ومخططات يتم الترويج لها هنا وهناك، يراها تهدد أو تضرب البنية التحتية لمنظومة القيم والأخلاق والدين والإنسانية. فيعمدون عبر تقنيات برمجية متطورة الى إنتاج مقاطع فديو يظهر فيها ذلك المثقف وهو يتحدث بالضد من طروحاته ومنهجيته العلمية والأخلاقية والدينية، وقد يظهرونه في أوضاع مخلة بالأدب أو يجرون على لسانه آراء تضر بالسلامة الفكرية أو تطعن في الدين والقيم والموروث الأخلاقي.

الثقافة والتزييف العميق

هكذا نصبح أمام تعريفات جديدة للحرية والأخلاق والثقافة في عصر التقنية. تعريفات تسمح لكل من يلتزم بثقافة المشاريع الإستثمارية العالمية أن يصبح شخصية إجتماعية، أو شخصية مؤثرة، أو شخصية عالمية , ما دام يتمدد بتفكيره ضمن حدود المنتج العالمي لمفهوم الحرية التقنية الرقمية المؤرشفة والمؤدلجة.، من ذلك ما نسمعه ونشاهده هنا وهناك من ظهور اشخاص بلا محتوى ثقافي رصين وهم يملأون الشاشات ويشغلون اوقات البث، يحتفى بهم في محافل ثقافية تم الإعداد لها في إطار سياسي اقتصادي. وقتذاك سيشعر المثقف الحقيقي ان الثقافة من حيث هي رسالة وعي إنساني أخلاقي إيجابي، تشكل عبئاً يثقل كاهله حد كسر الظهر ان هو أصرّ على حملها في عصر الشاشات الملونة والنفوس الملوثة.

أدرك أصحاب الوعي هذا الخطر المحدق بمستقبل الثقافة الإنسانية. كما أدركوا ان الأعمال العظيمة التي خدمت الانسانية عبر التاريخ لن تكون بعيدة عن متناول يد مشاريع الإستثمار وبرامج التقنية المتطورة والذكاء الإصطناعي غداً، فبعد ان يمر وقت على ظهور جيل أو جيلين من الشباب الذين لا يعرفون غير الإنترنت مصدراً لمعلوماتهم ومعارفهم وثقافاتهم، ستأخذ مخططات ومشاريع الثقافة العالمية من تلك الأعمال العظيمة واولئك الأبطال والمفكرين والمثقفين ما تستفيده في برامج الكترونية عالية الدقة كـ “ تقنية التزييف العميق “ مثلاً، حيث يعاد إنتاج حديث نبوي أو رأي شرعي جاء على لسان عالم جليل القدر عظيم الأثر عند أتباعه ومريديه ومقلديه. أو إعادة صياغة حكمة أو وجهة نظر لفيلسوف أو مفكر أو كاتب مشهود له بالكتابة الجادة والأمانة العلمية وبقوة الشخصية وسلامتها. أو إعادة كتابة حدث أو مجموعة  من أحداث التاريخ. بحيث تقدم هذه الأعمال والأقوال والأحداث الى الأجيال الشابة المثقفة الكترونياً بعد أن يضاف اليها او يحذف منها أو يغير كامل محتواها بما يتوافق مع ما تقتضيه أجندات أصحاب المشاريع العابرة للقيم والإنسانية. فيتوهم اولئك الشباب انهم على إتصال بتاريخهم، فيبنون على هذا الإتصال الموهوم  ثقافاتهم الجديدة.

غالباً ما تأتي مشاريع تزييف الحقائق من أجل صناعة قوالب جديدة للثقافة ينتج عنها جيل مثقف مستهلك لا يسمح لابداعه أن يتجاوز المدة المحددة لصلاحية الثقافة الإستهلاكية، واذا حصل وأراد ان ينتج ثقافته الخاصة فإن السوق العالمية ستحذر المستهليكن منها كونها غير صالحة وغير آمنة، ولن يكون بوسع المستهلكين سوى تقبل تلك الإدعاءات لأنهم سيكونون في وضع لا يسمح لهم بالتمييز بين المزيف والحقيقي من المنتجات والأفكار والثقافات ومصادر التاريخ.

بين الإغتراب والتغريب

برغم أعداد الإصدارات التي تعلن عنها دور النشر ومعارض الكتب، لا تزال الثقافة في غربة عن واقع وطبيعة وطريقة حياة الناس. إما لمهنية وحرفية وتجارية طابع كثير من تلك المطبوعات او لإفتقارها الى لغة مرنة مشتركة بين الكاتب والقارىء. بعض الكتاب يستخدمون تعبيرات غامضة بهدف التشويق أو بهدف تكوين إنطباع أولي لدى القارىء عن علو كعب الكاتب، فكلما احتاج القارىء الى وقت أطول لفهم مقصد الكاتب دلّ ذلك - كما يتوهم بعضهم - على المهارة والعمق الثقافي والبعد الفكري للكاتب.

في كتابه “ قضايا الفكر “ المطبوع سنة 1959م يقول: وديع فلسطين” في صفحة 128 (وعليه فقد ازدحمت السوق بأطنان من الكتب وناءت الذاكرة بحفظ أسماء الكتاب الجدد. ولكن اذا استصفينا حصيلة كل هذا النتاج لم ننته إلا الى قليل من الدسم في محيط من الغثاثة والفجاجة وهوان التفكير

وقد أحسن الباحث والمحق المصري محمد عبد المنعم خفاجي تصوير هذه الحال فقال: ان القرّاء يقعون فريسة لذوي المواهب الضيئلة والأهواء الصغيرة من محترفي الأدب.. مما أدى الى ظهور الآلاف من الكتب والقصص التافهة التي تؤثر في عقول الشباب ونفوسهم تأثيراً ضاراً سيئاً ذا اثر محزن في حاضرنا الفكري والثقافي، وتؤدي الى انحطاط مستوى الروح الادبي والعلمي في اوساطنا المثقفة..)

على مواقع التواصل الإجتماعي وبدافع حرية التعبير وحرية انشاء صفحة شخصية، ينشر بعضهم ما يسمونه قصيدة أو مقالة قصيرة أو خاطرة، لا يكاد يفهم منها شيئاً. الغريب في الأمر إن اصدقاء الناشر يثنون عليه بـ “ احسنت النشر “، “ شكراً لحرفك الجميل “، “ روعة “ فتوهم بعضهم انه على خير حين غاب النقد الحقيقي وحلت محله المجاملات الإجتماعية في كثير من الأحيان.

تقارير ثقافية

حسب تقرير التنمية البشرية لعام 2003 الصادر عن اليونسكو ان كل 80 شخصاً عربياً يقرأون كتاباً واحداً في السنة، بينما يقرأ المواطن الاوربي الواحد حوالي 35 كتاباً في السنة.

وفي تقرير التنمية الثقافية للعام 2011 الصادر عن مؤسسة الفكر العربي ان المواطن العربي يقرأ بمعدل 6 دقائق سنوياً، بينما يقرأ المواطن الاوربي بمعدل 200 ساعة سنوياً

وبحسب تقرير اليونسكو فإن الدول العربية انتجت عام 1991 6500 كتاباً بالمقارنة مع امريكا الشمالية التي انتجت 102 الف كتاب و 42 الف كتاب في امريكا اللاتينية والكاريبي.

وحسب تقرير التنمية الثقافية فإن الكتب الثقافية العامة التي تنشر سنوياً في العالم العربي لا تزيد عن 5000 عنواناً وفي امريكا يصدر سنوياً حوالي 300 الف عنوان.

قد تساعد هذه الأرقام في الكشف عن الفارق الثقافي بين الشرق والغرب، فعدد النسخ المطبوعة من الكتاب الواحد في الشرق لا تزيد عن خمسة الاف نسخة، بينما يصل الى خمسين الف نسخة للكتاب الواحد في الغرب.

الكتاب والتسويق

تواجهنا في الحديث عن الدور المهم لدور النشر في حركة الثقافة مشكلة التوجه التجاري للعاملين في كثير من المطابع لأنه يحملهم دائما على طبع الكتب التجارية التي تستهلك وقت القارىء وقد يندم على ذلك الوقت الذي امضاه في قراءة هذه الكتب كما قال وديع فلسطين في حديثه عن المشكلة قبل اكثر من خمسين عاما في كتابه (قضايا في الفكر). تجذب الكتب التجارية الشباب اليها لأنها تخاطب رغباتهم في النجاح والثراء والتميز والحب بلغة مباشرة مقتصرة على لون محدد من الوان تلك الرغبات. لعلنا نستطيع معالجة هذه المشكلة بدخول المثقف على خط العمل في مشاريع الطباعة حيث تمتزج في شخصية المثقف ثنائية النشاط الثقافي والتجاري معاً مما ينتج عنه مطبوعات هادفة اكثر من تلك التي ينحصر انتاجها في الربح المالي فقط.

كثير من القراء الشباب يفضلون قراءة الكتب الأجنبية المترجمة الى العربية. ويستشهد كثير من الكتاب والباحثين العرب في كتاباتهم وابحاثهم ومحاضراتهم بكتّاب وباحثين وعلماء أجانب أكثر من العرب في مجال البحث نفسه.

لا يزال الكاتب والباحث العربي عموماً والعراقي بشكل خاص يؤدي كل الأدوار بنفسه في رحلة تأليفه الكتاب، إذ لا يزال الجو الثقافي جواً مقصوراً على صاحبه لا يكاد يجد من يشاركه فيه حتى من افراد عائلته ومقربيه، إلا من أوتي حظاً منهم،  لذا نتوجع كلما رحل كاتب وعالم الى العالم الآخر وقام ابناؤه ببيع مكتبته أو إهدائها الى جهة ما، ثم تطور الألم مؤخراً وصار الكاتب يتبرع بمكتبته في أواخر حياته الى مكتبة عامة أو جهة ثقافية معينة، وهو لا شك مؤشر مؤلم على إبتعاد نفوس وعقول المقربين من الكاتب والعالم والمفكر عن روح الثقافة. لأن الكاتب لم يوفق في نقل تلك الروح الى أحدهم، فكان إقدامه شخصياً على إهداء مكتبته، إجراء يشعر معه انه يتجاوز الألم الذي ينتابه وهو يرى مكتبة صديق له  قد بيعت أو تخلص منها ابناؤه بأي طريقة بعد مفارقته الحياة. وأضيفت الى دراما إهداء المكتبات الخاصة بعض التلحيظات التي تجمل المشهد وتطيب النفس نوعاً ما حين يعلن على العامة خبر إهداء العالم الفلاني والمفكر الفلاني والكاتب الفلاني مكتبته مع صور جميلة توثق ذلك، وقيام الجهة المستلمة للمكتبة بوضع إسمه على المكتبة كما هو حاصل في دار الكتب والمكتبات العامة والمراكز الثقافية.

وسواء كان عدم توفيق الكاتب في نقل روح الثقافة الى أحد أبنائه بسبب رؤيته المحدودة، أو بسبب ضعف همته على التوفيق بين عالمه الثقافي وجوه الأسري الإجتماعي، أو ان أدوات الزمان قد تغيرت وجاء تيار جارف أخذ الأولاد بعيداً عن الشاطئ الذي حط عنده الكاتب رحاله وألف اجواءه. فإن كل ذلك يؤشر عندي الى توقف تفاعل المثقف مع أدوات عصر أبنائه وإن كان يعيش إستخدامها معهم، لكنه لم يوفق الى آلة ربط بين زمانه وزمانهم فتجد كثيراً من الأطباء والمهندسين والكفاءات المعرفية في المجتمع هم أبناء أدباء وكتاب ومفكرين ومؤلفين، لكنهم في الأعم الأغلب ليسوا مثقفين كما هو حال آبائهم، فهم مهنيون، يؤمنون بالتخصص، أو هكذا وجدوا انفسهم  , وقد يبدو ذلك ملموساً في بعض المجالس الثقافية التي يحضرها أدباء وعلماء وأكاديميون تقدم بهم العمر، وكنت نادراً ما أرى أحدهم يرافقه ابنه أو ابنته، وان حصل فإنهم يحضرون بصفاتهم المهنية لا بصفات ثقافية، وهو لا شك نوع من أنواع الخسارة التي نتجرعها على مضض. وبهذا الصدد يتوجب عليّ ومن باب العرفان بالجميل أن أذكر ان والدي الأديب الناقد والشاعر عدنان عبد النبي البلداوي كان يدعوني وأنا في مرحلة المتوسطة الى الإستماع الى مقالة له قبل أن يبعث بها الى النشر، ليس لمجرد الإستماع بل كان يغريني وانا في ذلك العمر برغبته الصادقة في معرفة رأيي فيما كتب وان كانت لي ملاحظات على مقالته، وكان يأخذ برأيي، ليس لكفاءتي طبعاً ولكن لبراعته. كانت تلك طريقة عبقرية، اعترف بها اليوم وانا أتجاوز الخمسين عاماً من عمري وقد تحولت الى عاشق للكتاب. لقد أعدني بهذه الطريقة النفسية البديعة وشدني الى مكتبته التي احتفظ بها اليوم وقد نمت وكبرت معي، وصارت جزءاً مني. ليس هذا وحسب بل انه شجعني على أن أدرس تخصصاً استطيع به تكوين نفسي مادياً وان لا أفارق الكتاب، وفعلاً تخرجت في كلية الهندسة وانا أهوى الكتاب والكتابة، وكان يقرأ كتاباتي الطفولية قراءة نقدية لم يشعرني أبداً انه كان يداعبني أو (ياخذني على كد عقلي) كما نقول في العراق. كان صادقاً معي في كل ملاحظة وتصويب، وفوق كل هذا شجعني على نشر تلك الخواطر والكتابات فكانت أولى خطوات النشر لي في جريدة العراق وجريدة الراصد وانا في المرحلة الإعدادية.

الثقافة والتقنية الصناعية

كما إن التقنية الصناعية المتطورة قد أسهمت بشكل كبير في تسهيل إعداد وطبع ونشر الكتب، فصار بمقدور الباحث والمؤلف والكاتب إصدار أعماله بكلفة مالية مقبولة مقابل أعداد محدودة من النسخ، لكن المشكلة في عالمنا العربي لم تنته عند هذا الحل لأنها متعلقة بشكل كبير في عزوف الناس عن القراءة، حتى عندما توفرت خدمة الكتاب الألكتروني والنشر المجاني لملايين العنوانات في مكتبات إفتراضية تسهل عملية قراءة وتحميل الكتاب.

يدخل العامل الإقتصادي والعامل النفسي ليؤثرا بشكل فعال في عملية تفاعل الفرد العربي مع القراءة والكتاب، فهناك ملايين المواطنين في عالمنا العربي الإسلامي يعيشون تحت خط الفقر. وصل عددهم الى عشرة ملايين شخص في العراق وحده، يضاف الى ذلك الفوضى العامة التي ضربت البلاد في مجالات السياسة والأمن والصراعات المستمرة على السلطة ومكاسبها. هدّدت الإستقرار النفسي للفرد العربي عموماً، والذي من شأنه أن يهبط بالمعنويات الى مستويات متدنية مخيفة، بلغت عند بعض الشباب الى الإدمان والإنتحار والعنف. ودفعت بآخرين الى قبول ثقافة الواقع كما هو، بلغة تفكير وتعبير عادية وصلت حد كتابة الكلمات بالكيفية التي تنطق بها، فجاءت (لاكن) لتدل على (لكن) و(لكي) لتعني (لك) و (شكرن) بدلا عن (شكرا) و (بارك الله فيكي) بدلاً عن (بارك الله فيكِ)، وهكذا..

الثقافة المرحلية

هكذا تسهم الأحداث المرحلية في تشكيل ثقافة مرحلية للمجتمع، يتقبل فيها الفرد الشعر العامي على الشعر الفصيح، و ثقافة الصورة على ثقافة النص، وقراءة التعليقات على قراءة المحتوى، وصارت الشهرة عند كثيرين من دلالات المعرفة والثقافة فظن كثير من المتثاقفين وهَم الإبداع الحقيقي وهم يتلقون عبارات (متألق، نص رائع، يا لجمال حرفك، انت قامة ادبية، دام ابداعك،...) غير منتبهين الى ان سبب ذلك هو إستفحال ظاهرة المجاملات الأدبية على جميع تفاصيل الواقع المأزوم والمثقل بكثير من المعاناة والإختناقات النفسية التي قيدت حركة النقد البناء، خصوصاً عندما اخترقت بعض المفردات الأكترونية لغة الكتابة، فصار إعتيادياً عند بعض المثقفين ان يضمن حديثه (تم بموافقة الأدمن..) يريد بذلك المدير. ويبدأ أحدهم منشوره قائلاً: الأخوة في الكروب) يريد بها المجموعة او التجمع.

الكتاب الورقي وتقنية الطباعة

بعد ان وفرّت التقنية المتطورة أجهزة طباعة تتيح للكاتب والمؤلف طبع عدد محدود من كتابه بما يتلائم ومقدرته المالية من جهة، وحركة الإقبال على الكتاب الورقي من جهة اخرى. وجد بعض الكتاب ذلك محفزاً لمضاعفة جهودهم وتقديم اكبر عدد ممكن من المؤلفات، التي عدّها بعضهم مؤشراً على غزارة ثقافة الكاتب، بينما كانت موضع إنتقاد آخرين، خصوصاً عندما تحمل تلك الكتب عناوين ومضامين لا تخدم الواقع ولا تتحرك به في طريق النهضة، ولعل بعضها يفتقر الى أبسط مقومات النص السليم، الأمر الذي حمل بعض المعنيين على وصف هذه المرحلة بالمظلمة ثقافياً أو الفقيرة ثقافياً، لا من حيث الإمكانات المادية والتقنية وكثرة المطبوعات. بل من حيث قلة عدد القرّاء وكثرة عدد الفقراء في مجتمع ما بعد التغيير السياسي والإقتصادي والأمني في العالم العربي، والسماحية العالية التي توفرها شبكة الإنترنت للراغبين بكتابة بحث أو رسالة أو تأليف كتاب دون بذل جهد فكري أو حتى جهد عضلي. فقد أعدّت بعض شركات الإنتاج الألكتروني برامج وتطبيقات تتيح للمستخدم إعداد رسالة جامعية أو بحث أكاديمي أو تأليف كتاب في مجال من مجالات المعرفة والعلوم الإنسانية، منها تطبيق chatGpt الذي يقدم خدمات متقدمة في مجال تأليف الكتب. يكفي أن يكتب المستخدم عنواناً لكتابه المرتقب فيتولى التطبيق تنفيذ المهمة ويتيح التطبيق للمستخدم تحديد عدد فصول الكتاب وفقراته وقصر وطول المادة المكتوبة وعدد صفحات الكتاب ويتولى موقع آخر تصميم غلاف مناسب للكتاب. بالنتيجة يصبح بمقدور المستخدم أن ينجز عشرات الكتب سنوياً ما بين طبعها ورقياً وبين الإقتصار على نشرها الكترونياً والترويج لها بواسطة إعلانات الكترونية ممولة.

هكذا تجعلنا بدايات القرن الواحد والعشرين على موعد مع عدد كبير من الأسماء التي تبحث لنفسها عن مكان في عالم الثقافة بحكم غزارة إنتاجها من مؤلفات ومقالات لم تكتب فيها شيئاً، ولم تبذل فيها جهداً فكرياً.

في مستقبل عصر التقنية المتطورة سيكثر الكتاب والمؤلفون، وسيقل الثوّار والمبدعون. وستصبح الثقافة لوناً الكترونياً رقمياً يسهم في ترقيع لوحة الحياة التي ترسمها مشاريع الذكاء الإصطناعي.

المضامين الثقافية

اتسم طابع بعض الندوات والمجالس الثقافية التي تعقد هنا وهناك،  بإبتعاد موضوع المحاضرة أو الندوة عن قضايا الواقع. الأمر الذي جعل تلك المجالس تنغلق على نفسها ويقتصر حضورها على كبار السن من مثقفين واكاديمين، فمن النادر ان تلمح وجود بعض الشباب في تلك المجالس الثقافية.

يبدو إن بعض المثقفين، بتناولهم موضوعات لا صلة لها بالواقع يحاولون إيجاد متنفس لهم وهم يعيشون تحت ضغوطات كبيرة تسببت بها التغييرات التي طرأت على البلاد منذ بدايات القرن الواحد والعشرين، التي لم يكن للمثقف دور حيوي فيها بعد ان خاطبت سياسة السلطة الجديدة ثقافة المجتمع الشعبية دون ثقافة النخبة، واعتمدت كلياً على ثقافة المجتمع الشعبية بينما جاملت ثقافة النخبة. ذلك لأن ثقافة كثير من المتصدين للشأن السياسي ليست بالعمق الكافي الذي يجعل من الثقافة عندهم مشروع دولة، وقد كشفت كثير من تصريحات وحوارات ولقاءات وخطب ومواقف السياسيين عن حدة الفقر الثقافي الذي هم عليه، كما ان هناك سبباً آخر وهو إن الثقافة لم تزل مقتصرة على النخبة، الأمر الذي جعل من الثقافة قضية خاصة أو لوناً أو مظهراً إجتماعياً يتسم به نفر من الناس، فثقافة المجتمع شعبية بسيطة طبيعية غير متكلفة وهي تشكل نسبة كبيرة في البلاد، بينما تصل ثقافة النخبة عند بعضهم الى درجات عالية من الدقة والتنظيم والتعقيد والنقد والجرأة وهو ما يعلل عزوف كثير من السياسيين عن مخاطبة النخب الثقافية، بينما يتفننون في التقرب الى طبقات المجتمع الأخرى.

في نقد ثقافة الدولة

الثقافة الإنسانية هي الثقافة التي يعوّل عليها الحفاظ على بنية المجتمع، ذلك لقدرتها على حفظ القيم والمثل العليا والأخلاق بما يتوافق وطبيعة حياة المجتمع. فالانسان هو الكائن الحي الوحيد الذي لديه القدرة على اعطاء معنى لكل شيء، وهو الوحيد القادر بثقافته الخاصة على ان يعطي فهماً لذلك المعنى. من هنا جاء حرص كثير من الحكام على مر التاريخ على إبقاء الجهل والفقر في المجتمع ضماناً لإخضاع الناس الى طاعتهم . عندما تغيرت الأحوال بدخول الناس عصر التطور التقني وعصر البيانات والمعلومات، تغيرت أدوات السلطة الحاكمة وبقي الهدف ذاته .

فقد إستبدل الفقر والجهل، بالإستهلاك والثقافة المعلبة، في جو من الفوضى والسرعة بدعوى اننا نعيش عصر التطور العلمي الهائل وعلينا أن نركض لكي نلحق بركب العالم المتطور. إذ لم يعد الفقر متوافقاً مع التطور الصناعي الذي يحتاج الى سوق ومستهلكين ضماناً لإستمراريته، لذا جاءت مشاريع التمويل والقروض والتسهيلات المصرفية وزيادة مرتبات الموظفين.  الإجراء الذي فهمه بعضهم على انه إنتعاش إقتصادي ومنجز حكومي. هو وان كان كذلك، إلا انه ليس منجزاً خالصاً لمعنى الإنتعاش الإقتصادي وخدمة المجتمع لأهداف انسانية، بل يراد به تهيئة وإعداد مجتمع كثير الإستهلاك، يقضي كل وقته في العمل والتسوق، حتى بدت قدرة الفرد على التسوق ومتابعة أحدث منتجات شركات الإنتاج وبضائع الأسواق مؤشراً على تحضره.

إننا نعيش عصر أمركة العالم، وهو عصر لا يشغل السلطة فيه امر أكثر من جمع الاموال، لذا تجد الكاميرات الذكية في الشوارع لرصد مخالفات الناس، ولا تجدها داخل مؤسسات الدولة لرصد مخالفات الموظفين والمسؤولين، فكثر الحديث عن الرشوة والفساد المالي والتزوير والإبتزاز واغتصاب الحقوق داخل دوائر الدولة، وكثر الحديث عن المعاناة والامراض النفسية والملل وضنك العيش في أوساط المجتمع.

لم يعد الجهل متناسباً مع التدفق الهائل للبيانات والمعلومات، ومساحة التواصل والإتصالات العابرة للحدود الجغرافية والقوميات واللغات، فكانت الفردانية والحرية الشخصية في ظل ثنائية الفوضى والتسارع هي ثقافة المرحلة الجديدة، وهناك مشروع ثقافة عالمية ينتجها النظام العالمي بالقوى الكبرى المتنفذة فيه، يراد تمريره على جميع الناس من خلال حاجتهم المستمرة والمتواصلة الى إستخدام شبكة الإنترنت بما توفره هذه الشبكة من قوى جذب مغرية تشدّ المستخدم اليها وتجعله متسمراً أمام الشاشة ساعات قد لا يسعها عمر الليل عند بعض الشباب فتأكل من بعض ساعات نهارهم. فكلما وفرت الحكومة خدمة اتصالات متميزة، كلما ضمنت مساحات اكبر وفرصاً اكثر في البقاء في السلطة. فعندما يصل الفرد الى مرحلة لا يعود فيها قادراً على إنجاز مهامه أو بعض مهامه، بعيداً عن إتصاله بشبكة الإنترنت كالنشاط الفكري مثلاً، ولعله يشعر بالفشل أو العجز عن القيام بأي نشاط بدون ذلك الإتصال، عندها يصبح جانبه مأموناً ما دام مهموماً بدوام اتصاله بالشبكة .

ينتهي الإنسان ويضيع الدين وتنهار الأخلاق في كل مجتمع فيه مسؤول فاشل ومواطن غافل.

الثقافة الرسمية

في مؤسسات الدولة الثقافية لا يبدو العقل الثقافي الرسمي متفقاً في كثير من خطواته مع توجهات العقل الثقافي العام المستقل عن إرتباطاته الرسمية فيما يخص جوهر الثقافة ومشروع تمكين المجتمع ثقافياً. إذ يقتصر نشاط المؤسسة الثقافية الرسمية في كثير من الأحيان على النمط التقليدي الروتيني المتعلق بقص الأشرطة والحضور الشكلي المبرمج للمهرجانات والملتقيات والمعارض الفنية ومعرض الكتاب و.. و..

كثيراً ما يستغرق النشاط الثقافي في مؤسسات الدولة كوزارة الثقافة وإتحاد الأدباء في البعد الإداري المصاب بعدوى روتين دوائر الدولة الأخرى. ان الفارق الوحيد الذي يبدو واضحاً بين اتحاد الأدباء كدائرة حكومية رسمية وبين أي دائرة خدمية أخرى هو ان الموظف في إتحاد الأدباء يستقبلك بعبارة “ تفضل أستاذ “ بينما يستقبلك الموظف في دائرة حكومية أخرى بعبارة “ تفضل أخي “ ويخضع المثقف كما المواطن البسيط للروتين الإداري الذي تختفي فيه كثير من ملامح أنسنة الوجود البشري، ومما يوسف له أن تصاب ثقافة الدولة الرسمية بهذا الوباء ويصبح المثقف الحكومي ناقلاً لهذا الفيروس.

ترقين قيد مثقف

في بداية هذا العام 2024م قصد مبنى إتحاد الأدباء والكتاب في بغداد أحد اساتذتنا من الأدباء والنقاد الذين مضى على إنتمائهم الى الاتحاد ما لا يقل عن ثلاثين عاماً. شاءت ظروف البلاد القاهرة في سنواتها العجاف حيث فترة الإرهاب ثم مرحلة الجهاد الكفائي، مضافاً اليها ظروف الأديب الصحية وتقدمه بالعمر، أن تحول دون مراجعته مبنى الإتحاد لغرض تجديد عضويته، ولما تهيأ له الوقت والظرف المناسبين تفاجأ بأحد موظفي الإتحاد وهو يخبره ان إدارة الإتحاد قد رقنت قيده، ولكي يعيد انتسابه عليه ان يتقدم بطلب جديد.

اندهشت كثيراً وتألمت وهو يحكي لي ما دار معه في صباح ذلك اليوم في مبنى الإتحاد وسألته هل قدمت طلباً جديداً ؟ قال: لشدة امتعاضي من سوء التصرف وسماجته، اعتذرت عن كتابة الطلب كوني لا اتمكن من الكتابة وطلبت من الموظف ان يقوم بذلك بدلاً عني، ثم غادرت المبنى.

تحت عنوان “ ترقين قيد مثقف “ نشرت على حسابي الخاص في الفيس بوك منتقداً هذا التصرف دون ذكر اسم الأديب نزولاً عند رغبته، فكان من بين التعليقات على الموضوع الذي انهيته مستفهماً: هل في هذا الإجراء شيء من الثقافة ؟. تعليق قال صاحبه: بل قل هل في هذا الإجراء شيء من الأدب.

لا بد لي من الإشارة الى الحس الثقافي الإنساني الذي ابداه عدد من المثقفين ممن قراوا المنشور إذ عرض بعضهم مساعدته بالتدخل شخصياً لتسوية المسألة وطلبوا مني اسم ورقم هاتف الاستاذ المرقن قيده للتواصل معه من أجل إنصافه. مقابل هذه المواقف الإنسانية الثقافية. كان موقف الموظف المثقف الرسمي الملوث بروتين الدولة الإداري، فحين بعث أحد الأدباء بنسخة من المنشور الذي كتبته الى أحد المسؤولين في إدارة الإتحاد متسائلاً عن هذا التصرف أجابه برسالة صوتية، بعث لي الأديب المتفضل نسخة منها قال فيها انه إجراء إعتيادي تتخذه الإدارة بسبب إنقطاع العضو الذي لا يُعلم إن كان مريضاً أو مسافراً أو ميتاً، وهو إجراء مؤقت لا يقصد منه الإساءة الى العضو. ينتهي بمجرد إعادة تقديمه طلباً جديداً للإنتماء على وفق السياق الروتيني.

في حادثة أخرى، قصد أحد الكتاب  والمؤلفين مبنى الإتحاد لطلب الإنتساب، فسأله الموظف عن عطائه الثقافي. أخبره الكاتب ان لديه مؤلفات  في الفكر الإسلامي تجاوزت الخمسين كتاباً مطبوعاً. رد عليه الموظف: لا نريد كتباً في الفكر الإسلامي. اليس لديك رواية أو قصة أو ديوان شعر أو كتاب في الأدب. قال له الكاتب: اليس هذا اتحاد الأدباء والكتاب ! قال له الموظف: نحن نروج معاملات أصحاب الأعمال الأدبية والفنية. حصل هذا فعلاً مع احد الأصدقاء عام 2023م.

وفي لقاء مع شخصية ثقافية شغلت منصب رئيس إتحاد الأدباء والكتاب سنة 2021م، أجرته احدى القنوات الفضائية سئل عن الإنجازات التي قدمها الإتحاد في عهده، فكان من بين ما أجاب أن الإتحاد لم يطالب اعضاءه بدفع الإشتراك المالي كما كان متبعاً في العهد البائد.

يروي أحد الأدباء انه حين قصد مبنى الإتحاد سنة 2010م لتجديد هويته، سأله الموظف عن تاريخ انتمائه الى الإتحاد، فقال له سنة 1976م. نظر اليه الموظف وقال له مبتسماً: (انت واوي عتيك استاذ).

لا حياة بدون ثقافة

ماذا يريد المثقف من وزارة الثقافة ومن اتحاد الأدباء والكتاب ؟

ماذا يريد المجتمع من الثقافة والمثقف ؟

هل الثقافة التي نبحث عنها هي صفة أصحاب الشهادات والمواقع الإجتماعية والقيادية والمهن العليا أم هي ثقافة المجتمع ؟

هل ما يتم تداوله عبر وسائل التواصل الإجتماعي وأجهزة الموبايل والحواسيب والإنترنت هي ثقافة عالمية أم غزو ثقافي ؟

لا يرى كثير من المثقفين، معنى للحياة في أي مجتمع من دون ثقافة. فهي تمثل عندهم جوهر الحياة. عادة ما يصار الى تقسيم الثقافة الى ثقافة شعبية وأخرى راقية. يختلف علماء الإجتماع على مفهوم الثقافة من حيث كونها واحدة أم هي ثقافات مختلفة، ويرى علماء إجتماع في تقسيم الثقافة الى نوعين. نوع مرتبط بالمنجز المادي كالإختراعات والصناعة، ونوع مرتبط بجوانب الشخصية المتعلقة بالسلوك والأخلاق والعواطف والقيم والمثل العليا.

الثقافة مفهوم أوسع مدى من إنتاجات المبدعين في مجالات الأدب والفن والمعرفة. فهي محتوى يضم قيم المجتمع وتراثه وأفكار الناس وإنتاجاتهم على إختلاف أعمالهم ومجالات معارفهم ومدياتها. ينتقل هذا المحتوى من جيل الى جيل آخر عبر الرابطة الإجتماعية التي تحكم علاقة أبناء المجتمع ببعضهم. من هنا نشأت المخاوف إزاء مفهوم الثقافة الكونية أو عولمة الثقافة، كونه مفهوماً يحمل معنى تذويب الثقافات المحلية ودمجها في ثقافة عالمية وهو ما قد يهدد الروح الإجتماعية التي تتحكم بآلية انتقال المحتوى الثقافي لمجتمع ما أو لبلد ما من جيل الى الجيل الذي يليه، بحيث تفقد الثقافة المحلية خصوصيتها.

الثقافة وانثروبولوجيا المجتمع

في كتابهما “ الثقافة عرض نقدي للمفاهيم والتعريفات” ذكر العالم في مجال الانثروبولوجيا الثقافية الامريكي الفريد كروبر Alfired Louis Krober  (1876 - 1960) والعالم الامريكي كلايد كلاكهون Clyde Kluckhohn   (1905 - 1960). قدما قرابة 164 تعريفاً لمفهوم الثقافة. يرى “ كروبر” ان اول ظهور لكملة ثقافة كان في قاموس الماني عام 1793م .

يرى الانثروبولوجي الامريكي “ مالينوفسكس “ ان الثقافة: “ كل متكامل من الأدوات والسلع والأفكار والمعتقدات والأعراف لمختلف الفئات الاجتاعية”.

أما “ الانثروبولوجي “ رادكليف براون “ فيقول عن الثقافة انها (جملة اكتساب التقاليد الثقافية، كما انها العملية التي تنتقل بها اللغة والمعتقدات والأفكار والأذواق الجمالية والمعرفة والمهارات).

في أنشطتنا الثقافية والإجتماعية اليوم، أعمال أدبية وعلمية وفنية رائعة، فيها من الإبداع ما يدعو الى الفخر، وفيها من الهمّة ما يدعو الى الزهو، وفيها من الأصالة ما يدعو الى التباهي. لكن واقعنا المأزوم بكثير من المشاكل الإجتماعية والتذبذبات الإقتصادية والإضطرابات الأمنية والصراعات السياسية، يدعونا الى التساؤل عن غايتنا من الثقافة. وما إذا كان اللون التقليدي للثقافة لا يزال فعالاً في مثل مرحلتنا الحرجة التي نعيشها منذ مطلع القرن الواحد والعشرين. إننا بحاجة الى ثقافة تخاطب في المتلقي العقل والنفس والقلب معاً.

إننا بحاجة الى دور جديد للثقافة من خلال علم الإنسان (الانثروبولوجيا). دور نقدم فيه حلولاً تنقذ مجتمعاتنا من آثار الأعراض الجانبية لمخرجات عصر التقنية المتطورة بمنتجاتها الآلية فائقة السرعة، عالية الدقة، التي تسبب إستخدامها الخاطىء من قبل الناس في كثرة المشاكل الإجتماعية وإرتفاع معدلات الطلاق والإنتحار والإدمان والأمراض النفسية والعنف الأسري وجرائم القتل وحالات الغش والتزوير والإبتزاز والتسقيط الإعلامي والتشهير. ان من بين أهداف الثقافة حماية الناس البسطاء ممن يعيشون فقر التعليم وفقر المعيشة وفقر الرفاهية والجهل والمرض. لأن هؤلاء البسطاء عرضة لإستثمار ظروفهم من قبل تجار الأزمات لصالح فكرة معينة قد تضر بسلامة وجودهم. أو لصالح منفعة خاصة قد تفقدهم كرامتهم وحرية وجودهم وبناء انفسهم بعيداً عن أي تدخل خارجي.

لا معنى للحديث عن الثقافة دون الحديث عن المجتمع، فالثقافة والمجتمع يشكلان أهمية تبلغ حدَّاً يتعذر معه الفصل بينهما، وسواء أكان المجتمع هو الأساس أم الثقافة هي الأساس كما اختلف على ذلك نفر من العلماء، فإننا نعتقد ان المجتمع هو الأساس وان الثقافة ضرورة حتمية لهذا الأساس لكي يستمر. ذهب مايكل كارذرس في كتابه (لماذا ينفرد الانسان بالثقافة ؟) الصادر عام 1992م الى ان المجتمع أو العلاقات الإجتماعية هي الأساس وليست الثقافة.

يرى “ هوجين “ ان المجتمع يعني العلاقات التي تربط ابناءه، وان الثقافة هي سلوك اولئك الأفراد، لذا فهو يرى ان الثقافة والمجتمع وجهان لشيء واحد.

إن تمكين المجتمع ثقافياً هو اليوم  حاجة ملحة تفرضها التشوهات التي اخذت تنعطف بالمفاهيم العامة باتجاه التطرف والتحوير حين دخلت الأخلاق ودخل الفكر سوق العرض والطلب وحلّت لغة الجسم مكان لغة العقل، ولحنت ألسنة المتكلمين بالعربية وصاروا الى اللهجة العامية أقرب من الفصحى في التعبير عن مواقفهم وعواطفهم، واحتلت العامية مساحة كبيرة على لسان كثير من المثقفين في المحاضرات والندوات والمؤتمرات والمهرجانات الثقافية. ودخلت مشاكل البيئة والمناخ على خط الأزمات التي تكاد تعصف بالناس في مختلف أنحاء العالم بسبب إرتفاع معدلات البطالة ونسب التصحر والجفاف وإزدياد أعداد الفقراء حول العالم، خصوصاً في عالمنا العربي والإسلامي.  يقول الأمريكي كارلتون كون carlton coon  وهو أحد علماء الإنسان (فموضوع دراسة الثقافة هام وهو اليوم أهم من الدراسة الذرية أو الآداب، او الأعمال المصرفية العالية. إن في دراسة الثقافة مفتاح كرامة النوع الإنساني ومساواته في المستقبل كما انها قد تهدينا الى سبيل الخروج من الحيرة التي اوقعنا فيها عصرنا، عصر التقدم الآلي الفائق السرعة..)

يقول إليوت (اول ما اعنيه بالثقافة هو ما يعنيه الانثروبولوجيين: طريقة حياة شعب معين، يعيش معاً في مكان واحد وهذه الثقافة تظهر في تنوعهم وفي نظامهم الإجتماعي وفي عاداتهم واعرافهم وفي دينهم).

في كتابه (الثقافة البدائية) الصادر سنة 1871م يقول إدوارد تايلور (الثقافة هي ذلك الكل المركب الذي يشمل المعرفة والعقائد والفن والاخلاق والقانون وكل القدرات والعادات الأخرى التي يكتسبها الانسان بوصفه عضواً في المجتمع).

واقع حال كثير من انشطة المثقفين اليوم تشير الى انهم اقرب الى الذاتية منهم الى الموضوعية في عطاءاتهم الثقافية واذا ما اخذنا بأن الموضعية هي عقلنة الواقع في حدود الإمكانات المتاحة من أجل الحفاظ على البناء الإجتماعي من التداعي لمنع المجتمع من الإستسلام للظروف المعاكسة التي تمر به وتدفع بابنائه الى قبول واقع جديد مختلف عن طبيعة وطريقة حياتهم، فإننا نتساءل عن حدود الموضوعية الثقافية التي على المثقف في القرن الواحد والعشرين التمتع بها  ؟.

قد لا يسعنا القول إن بمقدور المثقف أن يكون موضوعياً أكثر منه ذاتياً، لكننا نستطيع أن نقول إن بمقدور المثقف أن يوظف ذاتيته في خدمة الموضوعية الثقافية.

يقول سلامة موسى في كتابه “ مقالات ممنوعة “ ص17 (الواقعية هي المعالجة الموضوعية التي تتفق وواقع الحال، وليست المعالجة الذاتية التي تعتمد على الاغراض الشخصية. ولا يستطيع أحد منا أن يفصل الفصل التام بين ذاتيته الشخصية وما تحمل من أهواء وأغراض وبين واقع الحال في الأشياء والناس والمجتمع والفن.).

تتحرك المجاملات الإجتماعية في واقعنا الثقافي اليوم بنشاط أخذ يطغى على القيمة الحقيقية للمنجز الثقافي وللأثر الذي يمكن ان يحدثه في الواقع.

فصل الثقافة عن جسم الدولة السياسي

منذ بدايات القرن الواحد والعشرين والعالم من حولنا يعيش تغييراً يراه بعضهم طبيعياً بحكم المنجزات العلمية والتطور الكبير في مجال الصناعة والتقنية الرقمية ومشاريع الذكاء الإصطناعي والحوسبة والروبوت. ويراه البعض الآخر تغييراً مقلقاً بسبب سلوكيات غريبة وخطيرة أخذت تظهر في ظل هذه التغييرات مدعومة بالدعوات والصيحات المتعالية المنادية بحرية المواقف والعواطف مع ما تقدمه التكنلوجيا المتطورة من أدوات تخدم الكشف عن هذه الحريات. مع الأخذ بنظر الإعتبار التوجه العالمي لدعم تلك السلوكيات الشاذة والثقافات الغريبة بدعوى الحريات الشخصية. ثم محاولات توفير حماية لتلك الحريات حول العالم. أخذت معاناة المثقف العربي في التزايد في المرحلة الراهنة التي يغلب عليها الفوضى والتفاهة والإنهيار الإخلاقي والفساد المالي والإداري وكثرة المشاكل الإجتماعية مع مطلع القرن الحالي وما يخبئه المستقبل من تهديد تراه بعض الرؤى المستقبلية واقعاً ما لم يحدث تغيير في النظام العالمي الذي لم يعد قادراً على تفادي ومواجهة ومعالجة مشكلات البيئة والمناخ والتصحر والمياه وإزدياد الطلب على الغذاء والطاقة وإزدياد عدد النفوس حول العالم وشحة الموارد الطبيعية وغيرها

وسط هذه الأجواء المضطربة يقف المثقف مهموماً مشغولاً قلقاً، فهو معني بالواقع من جانبين. كمواطن مفروض عليه تدبر شؤونه وكمثقف تملي عليه مسؤوليته الثقافية أن يجد مخرجاً لهذا الضيق.

لا يمكننا أن نتجاوز الكم الكبير من المقالات والكتب التي تتناول الواقع وتبحث في سبل معالجة أزماته، كما لا يمكننا أن نتجاوز ازمتنا الحقيقية في ظل الإنموذج الأمريكي للديمقراطية المتمثلة في مشاريع تحوير المفاهيم وإلباسها ثياباً جديدة لا يجد المستخدم والمتلقي والمواطن بداً من مجاراتها، خصوصاً وان التوجه العالمي الجديد في ظل التطور العلمي ومشاريع الذكاء الإصطناعي تبحث في توفير حلول مرضية تناسب واقع الحال وإن كانت لا تناسب الأصول والمنطق والقيم والمبادىء، هكذا يعيش المثقف اليوم محنته الحقيقية التي لا أظنني أبالغ إذا قلت إنه يعيشها لأول مرة في تاريخ الثقافة الإنسانية.

تبنى بعض المثقفين دعوات فصل الدين عن الدولة كحل من الحلول التي يرتجى منها إخراج العالم العربي من أزماته وتحريك واقعه لإخراجه من دائرة التراجع والتأخر التي هو فيها. وبغض النظر عن دوافع تلك الدعوات وأهدافها، فإن طبيعة المجتمع العربي طبيعة لا يغادرها الدين، وأي جهود إصلاحية خلاف تلك الطبيعة لا تعطي نتائج مرضية، ولعل إنحراف السلطة السياسية عن روح الدين كان من أهم أسباب الفجوة الآخذة بالإتساع مع مرور الوقت بين السلطة والمجتمع.  يبدو لي إن طرح فكرة فصل الثقافة عن جسم الدولة السياسي مع الإبقاء على تبعية المؤسسات الثقافية للدولة، سيخرج المثقف الرسمي من عباءة السلطة السياسية التي طبعته بطابعها الروتيني التقليدي الذي لم يقدم جديداً للمجتمع في مجال تمكينه ثقافياً. بهده الدعوة يمكن للثقافة أن تعايش وعي الواقع وفهم ما ورائيات الطرح المباشر للإعلام الرسمي، فعندما تصبح المؤسسة الثقافية مؤسسة إجتماعية يباشرها مثقف مسؤول تحمل الثقافة عنده بعداً رسالياً وهماً إنسانياً لا تأثير للمصالح والعلاقات السياسية والشخصية فيها، فمن المؤكد إن طريقة حياة الناس ستتغير الى الأفضل.

بفصل الثقافة عن جسم الدولة السياسي سيتحرر المثقف من روتين الأنشطة الشكلية الرسمية التي باتت عرفاً تقليدياً ينتهي مفعولها مع نهاية الفعالية، وبهذا الخروج سنصل بالمثقف الى الناس في البيوت والأماكن العامة.

بفصل الثقافة عن جسم الدولة السياسي وإلحاقها بالمجتمع، سيتمكن المثقف من تنمية الحس الجمعي للناس للإرتقاء به الى حد النهوض بالمسؤولية تجاه رموز وعلماء وشخصيات ثقافية واجتماعية، قدّمت أعمالاً رائدة في مجال النمو الإيجابي لوعي الأمة، اظطرتهم ظروفهم الصحية الى أن يكونوا في وضع يحتاجون فيه الى رعاية تفوق قدراتهم المادية، ولطالما دفع كثير من هؤلاء حياتهم ثمناً لعدم إكتراث السلطة السياسية والمؤسسة الرسمية للثقافة لحالهم. كثيراً ما رأينا مشاهد مؤلمة وسمعنا أخباراً لا تسر عن شخصية ثقافية أفنت عمرها وهي تكتب وتطبع على نفقتها الخاصة وكانت في بعض الأحيان تقتطع من قوت عيالها ما تؤمن به ثمن طبع كتاب يرتجى منه تنمية حركة وعي الأمة ونهضة المجتمع وتحسين ذائقته الجمالية ونظرته الى الحياة. كثير من هؤلاء الكبار ماتوا وسط إهمال وإغفال المؤسسة الثقافية الرسمية التي لم تشعر بأدنى درجة من الإحساس بالمسؤولية الثقافية الإنسانية الوطنية تجاه رواد الثقافة في البلاد فلم تتورع عن ترقين قيد أديب كبير لأنه غاب عنهم إثني عشر عاماً بسبب ظروفه الصحية الخاصة وظروف البلاد السيئة. كم من أديب ناشد من على فراش المرض سلطة سياسية وثقافية. وكم سمعنا ذوي أحد العلماء وهم يناشدون السلطة لمساعدة والدهم العليل. وكم شاهدنا صوراً حية لشخصيات ثقافية وعلمية وفنية وهم على فراش المرض قد أهلمتهم سلطة الثقافة ونسيتهم المحافل التي كانوا يحاضرون فيها. ومن المؤسف ان وظف بعض السياسيين هذه الخصلة الملوثة في انفاس المتسلطين فعمدوا من باب الدعاية الإعلامية الى تقديم مساعدة مالية الى الفنان الفلاني والكاتب الفلاني لإجراء عملية جراحية له.

تأتي أهمية إثارة هذا الحس الجمعي في المجتمع في وقت أخذت فيه السلطة التافهة ترعى وتتبنى شخصيات هابطة أسهمت مواقع التواصل الإجتماعي في دفعهم الى الواجهة بحكم عدد الإعجابات التي حصلوا عليها وعدد المتابعين الكبير الذي عدّه بعضهم شهادة على اجتماعية هذه الشخصية وتأثيرها في الناس، وقد سجل على بعض المسؤولين السياسيين ومثقفي السلطة تكريمهم لعدد من هذه الشخصيات الفاشلة، ولكي لا تتساوى “ الكرعة وام شعر” كما يقول المثل العراقي فإننا ندعو الى فصل الثقافة عن جسم الدولة السياسي آخذين بنظر الإعتبار ما الحقته السياسات الفاشلة والإدارات الروتينية التقليدية للبلاد منذ أكثر من عشرين عاماً من بداية القرن الحالي.

يقول عبد الإله بلقزيز ان (الثقافة أمست خارج حدود تعريفها وماهيتها الطبيعيين. لن يعود في وسعنا حدّها بالقول انها تعبير عن تمثّل الناس لمحيطهم، وتعبير عن نظام اجتماعهم المدني، بل سيصبح مطروحاً علينا أن نفكر في معنى أن تنشأ في وعي الناس ثقافة أو قيم ثقافية لا تقوم صلة بينها وبين النظام الإجتماعي الذي ينتمون اليه).

الثقافة في زمن الشاشات وشبكات التواصل الإجتماعي. هي في وضع أخطر مما هي عليه في حدود فتح مركز ثقافي هنا، ومسرح وبيت للثقافة هناك. انه زمن صناعة الأحداث وفبركة التفاصيل. زمن يحتاج من المثقف دوراً أعمق وأخطر تصل خطورته حد التضحية  بالنفس في سبيل إعادة يقظة وهي الجماهير التي شدّها العالم الإفتراضي وأغرتهم الوان الشاشات. تضحية تصل الى قول الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد:

علمتني مذ شراييني برت قلمي

كيف الأديب يلاقي موته حربا

وكيف يجعل من اعصابه نذراً

حيناً وحيناً نذوراً كلما وجبا

ولن يتحقق هذا الدور بوجود الثقافة ضمن جسم الدولة السياسي المصاب منذ أكثر من عشرين سنة بأورام خطيرة تكبر كلما مر عليها الزمن.

***

د. عدي عدنان البلداوي

في عالم يتسارع فيه السباق نحو التميز الأكاديمي والمهني، يعد الاعتراف بالشهادات المزورة ضربة قاصمة للنظام التعليمي وهيبة الدولة. ان الشهادة الجامعية ليست مجرد وثيقة تعلق على الجدران، بل هي اعتراف بالجدارة العلمية والمهنية لحاملها، وعندما تمنح هذه الشهادة دون استحقاق، فإنها تفقد قيمتها ومصداقيتها تماما، وتساهم في تفشي ثقافة الغش والخداع في المجتمع ويصبح من السهل التلاعب بالنظام التعليمي، وبالتالي الى تدهور جودة التعليم ومستوى التحصيل العلمي. وهذا ما يحصل بالفعل في العراق فقد اصبحت الشهادات المزورة بمثابة افة خبيثة تنخر في جسد المجتمع الاكاديمي وقيادات الدولة، وتهدد مستقبل الأجيال القادمة.

بالرغم من ان تزوير الشهادات والوثائق التعليمية تعود الى نشأة التعليم في العراق الا انها برزت بشكل مكثف وواضح بعد 2003. ومن الأمور المثيرة للدهشة أن البرلمان العراقي سعى إلى إخفاء هذا الواقع، محاولا إدراج الأشخاص الذين قاموا بتزوير شهاداتهم الجامعية ضمن قانون العفو العام. وفي خطوة اذهلت الانظار واثارت الاستياء، أقر البرلمان في عام 2020 قانونا يخص معادلة الشهادات، مما يسمح بتمرير عمليات التزوير هذه دون عقاب. وفي الآونة الأخيرة، تم الكشف عن حصول مسؤولين وسياسيين على شهادات مزورة من بين 27 ألف شهادة عليا مزورة (ماجستير ودكتوراه) حصل عليها طلاب عراقيون من ثلاث جامعات لبنانية. وقد أثارت هذه الفضيحة استياءً واسعا في الشارعين العراقي واللبناني، وادت إلى تعليق دراسة الطلبة العراقيين في هذه الجامعات.

تأثير الشهادات المزورة على هيبة الدولة

تمثل الشهادات المزورة ظاهرة خطيرة تهدد هيبة الدولة وتقوض ثقة المواطنين بمؤسساتها. فعندما تغض الدولة الطرف عن هذه الممارسات، تظهر ضعفا فاضحا في نظامها القانوني والتعليمي وفسادا واسعا في جهازها الاداري، مما يشكل خطرا على استقرارها وأمنها على المدى الطويل. ويفقد الدولة شرعيتها ويضعف قدرتها على تطبيق القانون فيصبح الفساد والرشوة سائدين، وتنتشر ثقافة الإفلات من العقاب، وهو ما يؤثر سلبا على التماسك الاجتماعي ويعيق تحقيق التنمية. ويشكل ذلك عبئا كبيرا على سمعة الدولة على الصعيد الدولي،  ويصبح التعاون العلمي والتبادل المعرفي مهددين، مما يزيد من خطر الانغلاق الذاتي وانعزال الجامعات والاكاديمين عن العالم. وبالتالي، تصبح الشهادات المزورة بمثابة قنبلة موقوتة تهدد استقرار الدولة وتعيق مسيرة تقدمها. من هنا تأتي ضرورة التصدي لهذه الظاهرة بكل حزم، من خلال تشديد العقوبات على مزوري الشهادات، وتعزيز سيادة القانون، وتفعيل دور المؤسسات التعليمية في نشر ثقافة النزاهة والأمانة.

تأثير الشهادات المزورة على التعليم العالي

يمثل التعليم العالي ركيزة أساسية للتقدم والابتكار في أي مجتمع، فمن خلاله تبنى الكفاءات وتصقل المهارات، مما يساهم في ازدهار الاقتصاد وتحقيق التنمية المستدامة. الا أن الاعتراف بالشهادات المزورة يشكل خرقا فادحا لهذه القاعدة، ويشجع الفساد ويعيق مسيرة التقدم بشكل مباشر.

ويؤدي الاعتراف بشرعية هذه الشهادات إلى تقويض جودة التعليم العالي بشكل مقلق. فبدلا من أن تصبح المؤسسات التعليمية بمثابة منارات للعلم والمعرفة، تصبح بيئة خصبة للغش والخداع ومأوى للفاشلين والفاسدين. ويصبح الطلبة الذين بذلوا الجهد والمثابرة لتحقيق تفوقهم الأكاديمي ضحايا لهذه الظاهرة، حيث يشعرون بالإحباط وفقدان الثقة بالنظام التعليمي عندما يرون أن الغش يكافأ، بينما لا يحظى العمل الجاد بالتقدير الذي يستحقه. تخلق هذه البيئة السامة مناخا سلبيا يثبط الحافز للتعلم والابتكار. فبدلا من أن يركز الطلبة على اكتساب المعرفة وتطوير مهاراتهم، يصبح همهم الأساسي هو البحث عن طرق للالتفاف على القوانين والحصول على شهادات  مزيفة دون اي جهد يذكر. وبالتالي، تصبح الشهادات المزورة بمثابة سم قاتل يهدد مستقبل التعليم العالي ويعيق تقدمه.

الشهادات المزورة تزيد من التخلف والفساد

تشكل الشهادات المزورة آفةً خبيثة تلتهم ثقة المجتمع وتعيق تقدمه. فعندما تصبح هذه الشهادات بمثابة جواز مرور للنجاح، تصبح القيم الأخلاقية والنزاهة عرضة للانهيار. ينعكس ذلك على مختلف جوانب الحياة، بدءا من المجال الأكاديمي حيث تفقد المؤسسات التعليمية مصداقيتها، مرورا بالسوق المهني الذي يصبح  مشوشا ومزيفا، وصولا الى النسيج الاجتماعي الذي يصبح متخلخلًا بفعل انتشار ثقافة الغش والخداع.

تشجع الشهادات المزورة على السلوكيات غير الأخلاقية، فتصبح السرقة والاحتيال أسلوبا للحصول على المناصب والوظائف. كما تضعف هذه الشهادات النزاهة الأكاديمية والمهنية، فتصبح المعايير العلمية  مزيفة،  وهو ما يؤدي بالتأكيد الى تدهور جودة التعليم.

اخيرا، للحفاظ على هيبة الدولة وضمان مستقبل يبشر بالخير للتعليم العالي، يجب على الحكومة ووزارات التربية والتعليم العالي والجامعات والمؤسسات التعليمية اتخاذ موقف صارم ضد الشهادات المزورة. يجب تعزيز الرقابة والعقوبات لردع هذه الممارسات وحماية قيمة الشهادات الحقيقية. يجب أن نرسل رسالة قوية مفادها أن تزوير الشهادات امر غير مقبول ولن يتم التغاضي عنه. وعلى الحكومة طرد كل من يثبت تزييفه لشهادته من منصبه وتقديمه للمحاكمة بتهمة التزوير وخداع المجتمع، وذلك لضمان نزاهة المناصب القيادية وحماية المجتمع من الخداع.

فقط من خلال الحفاظ على النزاهة والجودة في التعليم يمكن للأمم أن تزدهر وتتقدم نحو مستقبل أفضل.

***

ا. د. محمد الربيعي

 

أبدأ مقالتي باسمه تعالى وبقوله: (والله لا يستحيي من الحق). وبقوله: (فمَنْ شاء فليؤمن ومَنْ شاء فليكفر). وقوله أيضًا: (إنّ الله لغنيٌ عن العالمين) صدق الله العلي العظيم ومن هذا المنطلق أكتب مقالتي طارحًا رأيي الذي لا يتفق معي عليه كثيرون كما أتوقع لأن موضوعي يتعلق بمَنْ استنسخ القرآن المجيد وبالمنقول عن حفظته.

وعدم الاتفاق هذا ناتج عن تفسير جُلُّ المفسرين الى الآية الكريمة التي يقول فيها ربُّ العالمين: (إنّا نحن أنزلنا الذكرَ وإنّا له لحافظون). صدق الله العلي العظيم وعلى هذا بنى المفسرون رأيهم على أن القران المجيد محفوظ من الباري عزّ وجلّ فلا يحصل السهو أو الغلط عند كتابته من الكُتاب أثناء نقله ولا يحصل السهو والنسيان عند الرواة فهو محفوظً من يوم نزوله على نبينا المصطفى عليه واله اتمّ الصلاة.

وأفضل التسليم الى قيام الساعة وهذا هو الالتباس وما زال عليه المفسرون من خلال تفسيرهم الى الآية الكريمة السابقة وقد سار على هذا الرأي الى يومنا عامة الناس.

نعم وبيقينٍ قاطعٍ أقول: أن القران المجيد نزل على الرسول محمد صلوات الله عليه وعلى آله عن طريق الوحي مرتّبًا بآياته وسوره وقد بلّغه الرسول كما جاء به الوحي من الباري عز وجل بلّغه بأمانة الى كافة المؤمنين وهذا ما لا يختلف عليه اثنان وكان منهم الحافظون له عن ظهر قلبٍ كاملًا، وبعد انتقال الرسول الاكرم عليه وعلى اله صلوات الله تعالى الى الرفيق الأعلى ظهرت اقوالٌ منها تقول انه كان مجموعًا في زمن الرسول على شكل صُحف ومنها تقول انه كان مجموعًا في كتابٍ واحدٍ، ولكن الطرفين مُجْمِعان على أنّه تمّ حرق كل ما موجود من مصاحف عدا ما كتبه الخليفة الثالث عثمان بن عفان الى الامصار وأتوقف عن الخوض في هذا الموضوع عن تلك المرحلة لأن موضوعي ينحصر في ما وصل الينا وما هو بين أيدينا ألان من كلام الله سبحانه وتعالى والذي مَـرَّ بمراحل كثيرة ابتـداءً من تدوينه في العهد الاموي زَمَنْ عبد الملك بن مروان ومرورًا بالعهد العباسي وأخيرًا العهد العثماني حتى وصلنا بالصورة المشكولة بالحركات والنقاط ومجزّء الى ثلاثين جزءً.

وحسب ما مذكور في الويكيبيديا هو أن المرحلة الأولى لتدوينه كانت في زمن الخليفة الأول أبي بكر خشيةً من ضياعه لاستشهادِ الكثير من حفظته بعد حروب الرِدّة وكان بنسخة واحدةٍ ثم جاءت المرحلة الثانية من كتابته في زمن الخليفة الثالث عثمان بن عفان حيث استنسخ على أقوال تقول أنّها أربعةً حتّى يصل القول أنّها ثمانية نسخ وذلك لتوسع الامصار واختلاف القراءات واللهجات فدُوِّنت تلك النُسخ درءً للفتنة وقد تحددت فيها القراءة بلهجة قريش وهو ما كان يقرأ بها الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وهي ما تسمّى بالقراءات السبع.

وجاء فيها أيضًا أن الخط العثماني كان فيه رأيان هل هو توقيفي أم هو اجتهادي اصطلاحي فتم الاتفاق من العلماء في ذلك الوقت على أنه توقيفي أي أن الرسول عليه واله صلوات الله وسلامه أوصى باتباعه كونه من الوحي وهو المتوافق مع الاحرف السبعة وبعضهم يقول انها عشرة والمقصود بها هي اللهجات العربية التي كانت في الجزيرة العربية وقد احتوت اللهجة القريشية كلّ هذه الحروف.

وعثر الباحثون على نسخة من صفحتين في جامعة برمنغها البريطانية يعود تأريخها الى القرن السابع وهو الأقرب لزمن الرسول الاكرم كانتا مخطوطتين بالخط الحجازي.

وجاء في الويكيبيديا ان تنقيط حروف القران كان في عهد الامام علي كرّم الله وجهه وبتوجيه منه تولى تنقيط حروفه أبو الأسود الدؤلي فكان الحرف المنقوط يُسَمّى بالمُعجم والحرف غير المنقوط يُسمّى بالمهمل.

كما ان في زمن عبد الملك ابن مروان طلب من واليه الحجاج الثقفي تشكيل حروف القران فكلّف الحجاج بذلك الامام حسن البصري ويحيى بن يعمر العدواني فتم تشكيله ثم قام الخليل بن أحمد الفراهيدي في العهد العباسي بإضافات وتعديلات على تشكيلاته وكذلك في زمن الدولة العثمانية حيث قاموا بتدوينه وكانت الحروف التركية التي كان رسمها رسم الحرف العربي قبل تبديلها باللاتينية في زمن أتاتورك وبقي الخط التركي العثماني بالرسم العربي العثماني بقي الى يومنا هذا وهو ما درج عليه الناس وفي العهد التركي تدرّجت الإضافات بوضع أرقامٍ لرؤوس الآيات وعلامات الوقف وغير ذلك من التحسينات.

وقد كانت الكتابة للمصحف الشريف في زمن الصحابة بالخط الحجازي المشتق من الابجدية الحميرية وحرفها المسند وكذلك كان الخط الكوفي موجودًا الا انه لا يًستعمل في الجزيرة العربية وعُثِرَ على مخطوطات قديمة يُقدر عمرها بأكثر من أربعة آلاف سنة موجودة في اليمن مخطوطة بالخط الكوفي الا أن الخط الحجازي كان هو السائد في الجزيرة العربية.

وفي مصحف عثمان الذي بين أيدينا توجد ثلاثة حروف زائدة تكتب ولا تلفظ وهي الالف والياء والواو والذي يُريدُ معرفتها يُمكنه الرجوع الى الويكيبيديا وأنقل للقارئ جوابًا لأحد علماء دار الإفتاء عن هذا الموضوع.

الأصل في كتابة القرآن الكريم

الأصل أنَّ القرآن الكريم يكتب بالحروف العربية برسمها العثماني، وهو خط مخصوص بالقرآن الكريم موافق للرسم الإملائي في معظمه، وقد خالفه في أشياء معروفة في علم رسم القرآن؛ ككتابة الصلاة "الصلوة"، والسماوات "السموت"، وغير ذلك؛ قال أبو البقاء العكبري في كتاب "اللباب في علل البناء والإعراب" (2/ 481، ط. دار الفكر): [ذهب جماعة من أهل اللغة إلى كتاب الكلمة على لفظها إلا في خط المصحف؛ فإنهم اتبعوا في ذلك ما وجدوه في الإمام والعمل على الأول] اهـ.

وعليه فالخطوط ثلاثة؛ خط المصحف، والخط الإملائي، وخط العروض، ومبناه على كتابة كل ما ينطق به.

وخط المصحف لم يُبتَكر بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بل كتب به في حياته الشريفة، لكن المكتوب لم يكن مجموعًا في مصحف، وكان يكتب على الجلود والأكتاف -التي هي العظام المنبسطة كاللوح- وسعف النخل، ونحوها؛ لأنَّ الورق لم يكن حينئذٍ، فالشأن فيه انبناؤه على التوقيف.

وقد روى البخاري في "صحيحه" عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: لما نزلت: ﴿لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [النساء: 95] قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «ادْعُوا فُلاَنًا»، فجاءه ومعه الدواة واللوح، أو الكتف.. الحديث.

إثبات أن كتابة المصحف بالرسم العثماني توقيفية

قد أخبر سبحانه وتعالى بأنه قد تكفل بحفظ كتابه؛ فقال: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: 9]، وقد تواترت قراءة: ﴿رَحْمَتَ﴾، و﴿نِعْمَتَ﴾، و﴿سُنَّتُ﴾، وأخواتها المشهورة بالتاء عند الوقف، وقراءة ﴿وَسَوْفَ يُؤْتِ﴾ في سورة النساء بكسر التاء وحذف الياء لغير الجازم كذلك، وقراءة ﴿يَدْعُ﴾ في سورة الإسراء و﴿يَمْحُ﴾ في سورة الشورى و﴿سَنَدْعُ﴾ في سورة العلق بحذف الواو في الأفعال الثلاثة لغير الجازم كذلك أيضًا؛ خلافًا للقياس العربي المشهور في ذلك كله، فلو لم يكن الرسم العثماني توقيفًا عَلَّمه جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، لكان خبره تعالى كاذبًا، وهو محال؛ أي: لو كان الرسم العثماني غير توقيفي؛ بأن كتبه الصحابة على ما تيسر لهم كما زعمه البعض، لزم أن يكون سبحانه وتعالى أنزل هذه الكلمات: ﴿رَحْمَتَ﴾ وأخواتها بالهاء، و﴿سَوْفَ يُؤْتِ﴾ بالياء، و﴿يَدْعُ﴾ وأختيها بالواو، ثم كتبها الصحابة لجهلهم بالخط يومئذ بالتاء وبحذف الياء والواو، ثم تبعتهم الأمة خطأ أربعة عشر قرنًا من الزمان، فتكون الأمة من عهده صلى الله عليه وآله وسلم إلى اليوم مجمعة على إبدال حروف بأخرى في كلامه ليست منزلة من عنده، وعلى حذف حروف عديدة منه، وإذا كان ذلك كذلك كان خبره تعالى كاذبًا، وكَذِبُ خبرِه تعالى باطل، فبطل ما أدّى إليه، وهو كون رسم هذه الكلمات ونظائرها بلا توقيف نبوي، إذا بطل هذا ثبت نقيضه، وهو كون الرسم العثماني توقيفًا، وهو المطلوب. انظر: "سمير الطالبين" للشيخ الضباع (ص: 24-25، ط. عبد الحميد حنفي بمصر).

ما تقدم من قول هو ان رسم حروف القران المجيد توقيفي والحجة مبنية على ان الرسول علية واله أفضل الصلاة والسلام قد أقرّه وعليهم التمسك به.

وتماشيًا مع هذا القول أقولُ متسائلًا هل كان كتبة الوحي يكتبون بغير الخط الحجازي المعروف عندهم بحيث حصل التفاضل بين خطين تم عرضهما على الرسول عليه واله الصلاة والسلام وعلى ذلك أقرّ الكتابة بالخط الحجازي؟

وأتساءل أيضًا لو كان قد عُرض القران المجيد مُدوّنًا من قِبَلِ كتبة الوحي بالحرف والاملاء العربي هل كان سيرفض التدوين به رسول الله عليه واله صلوات الله وسلامه؟

وإذا كان الخط توقيفيًّا مبنيًّا على أساس توصية الرسول عليه واله الصلاة والسلام فلماذا تم احراقها وشمل الاحراق حتى القران الخاص به والذي كان في بيته بأمرٍ من الخليفة الثالث وهو الأقرب للرسول بالمصاهرة والصُحبة ومثل هذا التصرف سيصبح مخالفة كبيرة من الخليفة ولا أتوقع منه هذا؟

ولا أدري كيف يكون الحرف توقيفيًّا وتُقبل الزيادات في نسخ القران المجيد بالإملاء العثماني ويبقى هو المتداول بيننا الى اليوم؟

إنّ مفهوم الرضى والقبول جاء من الرسول عليه واله الصلاة والسلام جاء لعدم وجود مَنْ يُدَوّن القران المجيد بغير الخط الحجازي المتعارف عليه في الجزيرة ولأجل هذا حصلت التوصية بكتابته بذلك الرسم.

كما أن تفسير الآية المباركة // إنّا نحن أنزلنا الذكر وإنّا له لحافظون // لا تعني أن الله سبحانه وتعالى سيحفظه اثناء كتابته من قبل ناسٍ غير معصومين ولو كانت الكتابة بخط الرسول الكريم لكان لزامًا على كُتّاب الكتاب وأعني القران المجيد الالتزام بها.

والذي يتبين لي من هذه الآية ان الله جل وعلى قال: وإنّا له لحافظون هو التنبيه والتحذير من التلاعب والتغيير وقد سبق ذلك تحريف التوراة والانجيل ويؤكد هذا المعنى قوله تعالى // وانّه في أم الكتاب لدينا لعليٌّ حكيم // وقوله تعالى // بل هو قرانٌ مجيدٌ في لوحٍ محفوظ // صدق الله العلي العظيم.

وما وقفتُ عليه في قراءتي للقران المجيد سأتطرق الى ذكره ان شاء الله ولا اتوقع أنى الأول في اكتشاف ما سأذكره، ولكني الأول في طرحه على منصّات التواصل وهي الاتي:

1 / وردت كلمة / تتلوا القران المجيد / بإضافة ألف الى الواو لأن الخطاط عثماني فظنها واو جماعة في حين كتب / جاءو / بدون ألف الجماعة وهذا لم يكن في زمن الخلفاء الراشدين ولا العهد الاموي ولا في العهد العباسي.

2 / وردت التاء في / رحمة ونعمة / مرةً بالتاء الطويلة ومرةً بالتاء المربوطة ودليل هذا على ان الذي كتب القران المجيد يكتب بالطريقتين ولا يُميز بين التاء التركية والتاء العربية.

3 / ورد في سورة الحجر عدم رد إبراهيم عليه السلام على الملائكة المكرمين في حين ورد السلام في سورتيّ هود والذاريات والحجة أن الجواب قد حصل وهذا تخمين لا يتناسب مع قوله تعالى / وإذا حُييتم بتحيةٍ فحيّوا بأحسن منها أو ردّواها / صدق الله العلي العظيم ويؤكد هذا المضمون ما جاء في سورتي هود والذاريات وقد بنى المفسرون هذا التأويل الذي جاء هو استنادًا لتفسير الآية الكريمة / إنّا أنزلنا الذكرَ وإنّا له لحافظون / صدق الله العلي العظيم وقد بينتُ أنّ الشطر الثاني هو للتنبيه والتحذير من التلاعب بالقران كما حصل في التوراة والانجيل.

4 / وردت في سورة الماعون / ويلٌ للمصلين الذين هم عن صَلاتهم ساهون / بفتح الصاد والذي يقرأ السورة المباركة يجد أن واقع السورة وأجواءها هو الحثّ على العطاء وفعل عمل الخير والصحيح هو بكسر الصاد فتصبح / صِلاتهم / ومفردها صِلة أي الاحسان الى الاخرين وفي هذا يتناسب المطلوب من المصُلّين وتلك هي الغاية للباري عزّوجلّ في السورة.

5 / ورد في سورة الشمس ترتيب الآية في غير مكانه فالآية الكريمة تقول // والشمسِ وضحاها والقمرِ إذا تلاها والنهار اذا جلّاها والّيل إذا يغشاها الى آخر السورة المباركة وواقع الحال وهو ما نراه يوميًا أن بعد الضحى يأتي النهار وبعد النهار يأتي الليل وبعد ذلك يأتي القمرُ فيكون الحال متطابقًا بين كلام الله عزّ وجلّ وبين الطبيعة الكونية التي خلقها.

6 / دخول آيات كجمل اعتراضية خارج سياق الآية ومنها على سبيل الشاهد في سورة البقرة دعاء الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم في الآية الكريمة (284) ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡهِ مِن رَّبِّهِۦ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۚ كُلٌّ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَمَلَٰٓئِكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦ لَا نُفَرِّقُ بَيۡنَ أَحَدٖ مِّن رُّسُلِهِۦۚ وَقَالُواْ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۖ غُفۡرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيۡكَ ٱلۡمَصِيرُ (285) لايُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَعَلَيۡهَا مَا ٱكۡتَسَبَتۡۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذۡنَآ إِن نَّسِينَآ أَوۡ أَخۡطَأۡنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تَحۡمِلۡ عَلَيۡنَآ إِصۡرٗا كَمَا حَمَلۡتَهُۥ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلۡنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِۦۖ وَٱعۡفُ عَنَّا وَٱغۡفِرۡ لَنَا وَٱرۡحَمۡنَآۚ أَنتَ مَوۡلَىٰنَا فَٱنصُرۡنَا عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَٰفِرِينَ (286)

والجملة الاعتراضية هي الاية // لا يُكلف الله نفسًا إلّا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت // وفي حالة رفعها عن موقعها في الدعاء يأتي الدعاء متسلسلًا لا تقاطع فيه وهناك في سورة البقرة وفي سور أخريات ورود آيات في غير موقعها ويبقى الحل والعقد بيد منظمة الدول الإسلامية لتقرر تدوين القران المجيد بالحرف والاملاء العربي ولا خوف في ذلك على الإسلام والله ولي المؤمنين.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على رسولنا محمدٍ وآله الطاهرين وصحبه المنتجبين.

***

الحاج عطا الحاج يوسف منصور

الدنمارك / كوبنهاجن

الخميس في 23 مارس 2024

 

يعمل العقل كما يعمل الفرن، والخبز الموجود فيه هو الإنتاج، والنار التى تطيّب الخبز هى القراءة الدائمة، هى الوقود. إذا توقفت القراءة توقف الإنتاج، وكلما أعطيت العقل زاده من القراءة والتأمل، أعطاك زادك من الإنتاج، ما رأيتٌ آلة تعمل بغير ملل كما الفرن، قدر ما يعمل العقل بوقود القراءة والتأمل.

العقل كالفرن البلدي قبل ظهور الصناعات الحديثة، لا يمكن أن يشتغل إلا بأكوام الوقود الدائم، ووقود العقل القراءة والتأمل والاستبصار. كلما شحنته بالقراءة وتأملت المقروء واستبصرته جيداً، وَمَضَتْ الأفكار فى رحم العقل كما يومض الخبز تحت لهيب النار المشتعلة من وقود الفرن، ولا يمكن لكاتب أن يكتب كتابة جيدة بغير قراءة وتأمل واستبصار.

أمّا القراءة فعرفناها، وأما التأمل فموقوفٌ عليه معلوم، فماذا عساه يكون هذا الاستبصار؟

الاستبصار هو أعلى المراحل فى العملية الإبداعية كالرغيف الساخن تسحبه من الفرن بعد استوائه. هو الكتابة الإبداعية المتفرّدة بعد القراءة التى كانت مرحلة أولى، وبعد التأمل الذى يأتي كمرحلة ثانية؛ فالذى يُشعل الوقود ليجعل منه ناراً ملتهبة هو التأمل، لكن لا القراءة وحدها ولا التأمل وحده يكفيان لتمام العملية الإبداعية كما لا يكفي الوقود بلا اشتعال، ولا يكفى الوقود مع الاشتعال أيضاً وليس فى الفرن دقيق معجون ليصير خبراً شهيّاً.

إلى هنا؛ ولم نصل بعد إلى حالة الاستبصار هذه. العجيب فى الأمر أن حالة الاستبصار خارجة عن العقل تماماً كما يكون رغيف الخبز خارج عن الفرن مع أن هذه الحالة الاستبصارية نتيجة لمراحل سابقة، ولكنها فى ذاتها مُفارقة لها بمقدار ما يفارق رغيف الخبز ما خرج عنه من وراء مراحل سبقت وجوده وأنشأت تكوينه وشاركت صورته النهائية.

الاستبصار بالنسبة للعقل كرغيف الخبز بالنسبة للفرن: شكلٌ نهائي تجسّده الكتابة الإبداعيّة فى مراحلها الأخيرة تماماً كما تجسّد عملية الإعداد من وقود واشتعال ومادة (هى الدقيق المعجون)، رغيف الخبز هذا الذى بين يديك.

فما يخرج من العقل هو الكتابة، كما يخرج عن الفرن الرغيف، لكن ليست كل الأرغفة التى تخرج عن الفرن صالحة للاستخدام الآدمي؛ فها هو رغيف محروق، وهذا آخر زابل تألف هزيل ردئ، وذاك ضخم عجينه مخلوط بعشب الأرض ولوثة الهفاف المتطاير فى الهواء، وعلة هذا كله هو فارق الصناعة بين جيدة ورديئة.

والاستبصار فى الكتابة هو الذى يقوم مقام الصناعة فى الفرن، فإذا وجد الاستبصار وجدت الكتابة الإبداعيّة، وإذا لم يوجد فقدت الكتابة الجيدة وأصبحت كرغيف فاسد محروق لا يصلح للغذاء.

أمّا عن كنه الاستبصار؛ فالخيال عالمه العظيم وفلكه الذى يسبح فيه ويخلق ما لم يكن مخلوقاً، مع تعدّد الصور المعرفيّة والمرائي الوجودية عليه. لذلك؛ كانت كل إبداعات أهل الله من العارفين هى استبصار يجنّد ذائقة البصيرة، ويوظفها توظيفاً يرتد إلى حالة العارف، ويعلو فوق حدود العقل المحدود، ويأخذ بالتجربة والمعاناة، وهى تشمل الوعى العالى بما يتكاتف فيه العقل مع الروح، فلا العقل وحده يكفي، ولا الحس وحده يكفي ما لم يكن الإدراك الأعلى، وهو إدراك البصيرة الذواقة، أسمى فى تلك التجربة الفياضة بذوق المعاناة.

العارفون بالله يقولون : من ذاق عرف. وليس من ذوق خارج نطاق التجربة. والتجربة فى هذه الحالة هى التى تقودك؛ ولست أنت القائد ولن تكون، التجربة هى التى تفعل، ولست أنت الفاعل ولن تكون، هنا يكون التخلي عجباً من أعاجيب القدرة : أعنى التخلي عن وهم تمثل فى الوعى المحفوظ دوماً بالأنانية، واستبداله بمحيط السلامة النفسية بدايةً حين تتحلى بمجموعة «قيم علوية» تعتقدها وتدين لها بكل الولاء، وشيئاً فشيئاً تصبح عادة التحلي طبعاً لا يقبل الانفطام، ولا التخلي عنه بحال.

بقاءك مرهون بعقيدتك فى هذه الحالة ما فى ذلك شك، وَتَقَدُّمُكَ مَوْقُوفٌ على الولاء كل الولاء لما تدين ممَّا عساك تحلَّيت به فى السابق وتزكيت.

لأبى العباس المرسي -  طيّب الله ثراه - إشارة يقول فيها : «إن لله عباداً محق أفعالهم بأفعاله، وأوصافهم بأوصافه، وذاتهم بذاته وَحَمَّلَهُمْ من أسراره ما يعجز عامة الأولياء عن سماعه»، ولماذا؟ لأنهم صاروا بالحق بعد التجربة مع الله، ولكونهم بالحق فى كل قول ذى صدق، مع عمق كلام هو لا يحتاج إلى تذويق بل إلى تَذَوّق؛ لأنه يخرج عن أسباب الإيمان والتقوى.

***

د. مجدي ابراهيم

 

تعد القوة الناعمة والبناء الفكري للإنسان أدوات حيوية في مواجهة التحديات الراهنةوالتطورات الثقافية والسياسية والاجتماعية، فضلاً عن التأثير النفسي الذي يمكن أن يكون له أثراًعلى الفرد في عصر الاتصالات ومنصات التواصل الاجتماعي، وفي هذا الصدد، نلقي الضوء على أهمية هذه القوة والبناء الفكري ودورهما في تحسين جودة الحياة والتأثير الإيجابي على المجتمعات ومدى أهمية تفاعلهما في شخصية الفرد.

فعلى صعيد التأثير الثقافي والسياسي، تعتمد الدول والمؤسسات في العصر الحديث على القوة الناعمة لتحقيق أهدافها السياسية والاقتصادية وغيرها من الاهداف، حيث تشمل هذه القوة؛ الثقافة، والتعليم، والفن، والأدب، واللغة، والقيم، فهي تساعد في تعزيز فهم الثقافات المختلفة وتعزيز الحوار بين الشعوب وتقليل التوترات الدولية، كما لها من أبعاد في النجاح الشخصي والمهني، أو مفتاحًا لنجاح الشخصية والمهنية، فمهارات الاتصال الفعّال، والقيادة، والتعامل مع الضغوط، وحل المشكلات، تساعد الأفراد على تحقيق أهدافهم بكفاءة أكبر وتعزز من ثقتهم بأنفسهم. كذلك التغيير الاجتماعي والتنمية، إذ تلعب دورًا حيويًا في تحقيق التغيير الاجتماعي والتنمية، من خلال تعزيز الوعي وتعليم الناس حول قضايا مثل حقوق الإنسان، والتنمية المستدامة، والمساواة، إذ يمكن أن تسهم القوة الناعمة في بناء مجتمعات أكثر تفتحًا وتطورًا.

إن تنمية القدرات العقلية تحتل موقعا بارزاً مع القوة الناعمة، حيث يعمل البناء الفكري على تنمية القدرات العقلية للفرد، مما يسهم في تحسين مهاراته في التحليل والتفكير النقدي، وبالتالي يمكنه التعامل مع التحديات الراهنة بكفاءة أكبر، فضلاً على إن يساعد البناء الفكري في تعزيز الإبداع والابتكار، إذ يمكن للأفراد الذين يمتلكون ثقافة فكرية واسعة توليد حلول جديدة للمشاكل وتطوير مجتمعاتهم بطرق مبتكرة.

 لقد ساهم البناء الفكري في تعزيز الثقافة الحوارية والتفاهم المتبادل بين الأفراد، مما أوجد في خلق بيئة من التسامح والتعايش السلمي، إذ شكلا البناء الفكري واكتساب القوة الناعمة، في تعزيز الثقة بالنفس للأفرد، مما يجعله أكثر قدرة على التعامل مع التحديات وتحقيق النجاح في حياته، إذ يمكن للفرد الذي يمتلك القوة الناعمة من الاساليب المرنة في بناء علاقات اجتماعية صحية ومتينة، من خلال كونه يتمتع بقدرة أكبر على فهم مشاعر الآخرين والتعامل معهم بفعالية، أضافة لذلك، يمكن للفرد الذي يمتلك هذه القوى وأدواتها بوعي عالي، التأقلم بشكل أفضل مع التحولات في الحياة، مما يساعده على التغلب على الصعاب والتحدي، وخلق حالة ذاتية في التفكير الشخصي على إيجاد الحلول باقصر الوقت وفي أحلك الظروف للخروج منها، فالمهارات الاتصالية الفردية أو الجمعية، والقيادة المحكمة، والتعامل مع الضغوط، وحل المشكلات، تساعد الأفراد على تحقيق الهدف المنشود والمخطط له.

لقد لعبت القوة الناعمة دوراً حيوياً في تحقيق التغيير الاجتماعي والتنمية، من خلال تعزيز الوعي وتعليم الناس حول قضايا مثل حقوق الإنسان، والتنمية المستدامة، والمساواة، فهي تمتلك من الامكانيات والمقومات ما يجعلها أكثر بناءاً للمجتمع وبنفس الوقت أكثر انصهاراً فيه، وفي أقصى درجات التعامل المجتمعي الحرج الأقليمي والدولي. أضافة لمساهمته في تعزيز الثقافة الحوارية والتفاهم المتبادل بين الأفراد، مما يسهم في خلق بيئة من التسامح والتعايش السلمي.

ويستطيع الفرد الذي يتمكن من أدواته في القوة الناعمة والبناء الفكري بناء علاقات اجتماعية صحية ومتينة، فهو يتمتع بقدرة أكبر من غيره على فهم مشاعر الآخرين وكيفية التعامل معهم بفعالية متقنة دون الدخول في توترات لا نهاية لها. كما يمكنه التأقلم بشكل أفضل مع التحولات والمتغيرات التي تحيط من حوله، مما يساعده على التغلب على الصعاب والتحديات بسلاسة.

باختصار، يظهر أن القوة الناعمة والبناء الفكري يلعبان دوراً حيوياً في تمكين الفرد والمجتمع في مواجهة التحديات الراهنة ولها الانعكاس والتأثير الإيجابي على العالم بأسره.  لذا فأن تعزيز هذه القوى والمهارات تشكل استثماراً مهماً في بناء مستقبل أكثر استدامة وتقدماً، كما يمكن القول إنها تعد أداة فعّالة في مواجهة التحديات الفكرية التي تعصف بعالمنا اليوم، وتساهم في بناء عالم أكثر تفاهماً وسلاماً وهدوء.

واشارة الى كل ما تقدم، يجب أن ندرك أن القوة الناعمة والبناء الفكري للإنسان هما عنصران أساسيان في وعي المرحلة والتطورات الثقافية والسياسية والاجتماعية، ومن خلال تعزيز هذه الجوانب وتطويرها، يمكن للفرد أن يحقق التوازن والنجاح في حياته الشخصية والمهنية وأن يساهم بفاعلية في بناء مجتمعات تهدف للسلام والابتعاد عن كل ما يسعى الى إيقاد فتيل الحروب والتناحر والصراعات، أو الشعور بالدونية مقابل الآخر.

اهمية القوة الناعمة في مواجهة التحديات الفكرية المعاصرة والراهنة.

تشكل القوة الناعمة قوة سياسية وغير سياسية في آن واحد، إن كان ذلك في ظروف الحرب أو السلم، من خلال مواجهة التحديات المعاصرة والراهنة، حيث تشير هذه القوة إلى القدرة على التأثير والتغيير باستخدام الجاذبية والإقناع بدلاً من القوة العسكرية أو الاقتصادية، إذ تتمثل أهميتها وابعادها في مجموعة من الجوانب؛ منها الأفلام والمسلسلات والموسيقى والأدب التي تؤثر على وجدان الناس وتغيير وجهات نظرهم، حيث تلعب دوراً كبيراً في نقل القيم والثقافة والفكر من مجتمع إلى آخر، كما يمكن استخدام الثقافة بأنواعها والتبادل الثقافي كوسيلة لمد وبناء الجسور بين الشعوب، من أجل تعزيز التفاهم المتبادل وتقارب الأفكار، بعقد المؤتمرات الثقافية والمهرجانات الفنية، وزرع روح المحبة ونبذ العنف بكل اشكاله، وخلق أجيال واعية تفهم وتعي دورها داخل المجتمع والدولة.

كما شكلت الدبلوماسية والتعاون الدولي كأحدى أوجه القوة الناعمة وادواتها في تعزيز العلاقات الدولية وتحقيق السلام، من خلال مكافحة التطرف بكل أشكاله وخاصة التطرف الفكري، وذلك  من خلال تقديم رؤى بديلة ومثيرة للاهتمام للإيمان بها، وتعزيز الحوار البناء بين ثقافات المختلفة لدول العالم وشعوبها واحترام قيمها، فضلاً عن دورها الذي يساعد في بناء الهوية الوطنية وتعزيز التميز الثقافي، وهذا ما يعزز بدوره الإنتماء الوطني والولاء للمجتمعات، ويساهم في تعزيز الاستقلال الثقافي والفكري للأمة.

لقد لعبت القوة الناعمة دوراً في تعزيز القيم الديمقراطية وحقوق الإنسان عن طريق نشر الوعي بأهميتها وتعزيز المبادئ الأساسية للحرية والعدالة والمساواة، وأسست العديد من الدول في العالم مؤسسات تبحث وتقدم دروس وبحوث شتى في مجال القوة الناعمة وأدواتها والآليات المتبعة واهميتها لدى المجتمعات في تحقيق أهدافها بالطرق التي تبعدها عن النزاعات والصراعات الدولية والاقليمية والعنصرية والاثنية والعشائرية، بل السعي الى زرع روح التسامح والتقارب واحترام الرأي والرأي الآخر.

***

د. عصام البرام - القاهرة

يستعير الفرنسي لوك فيري في كتابه "تعلم الحياة" فكرة أرسطو من أن هدف الفلسفة هو البحث عن الحياة الجديدة التي ينبغي أن يعيشها الإنسان، كان أرسطو يؤمن أن الحياة الحقّة تكمن في تحقيق الانسجام مع العالم الذي يشترط أرسطو أن يكون منسجماً أيضاً. هذا العالم المنسجم والعادل والجميل هو الذي شكل في نظر أرسطو ومن قبله أستاذه أفلاطون، النموذج الحقيقي لنشر المدنية. ورغم أن أرسطو كان تلميذاً لأفلاطون، غير أن أفكارهما كانت مختلفة عن بعضها البعض، فلم يكونا يردّدان نفس العبارات. كانت لكل واحد منهما فلسفته الخاصة، كان أفلاطون مهتماً بالتفكير الفلسفي المجرد، وكان أرسطو مهتماً بكل شيء حوله.

يخبرنا لوك فيري أن أرسطو ومن قبله أفلاطون وسقراط وأبيقور وقائمة كبيرة من الفلاسفة الإغريق سعوا إلى التبشير بعقيدة جديدة للحكمة، ومفهوم آخر للحياة، يكتب فيري: "أن نحيا جيداً ونُضفي معنى على وجودنا ونحدد قيماً تتمثل طيبة بالنسبة إلينا نحن البشر".

 يعترف أرسطو بأنّه تلميذ منشق لأستاذه أفلاطون، ويخبرنا: "أحب أفلاطون، ولكنني أفضّل الحقيقة أكثر"، كان أفلاطون سيكون راضياً لو أنّه تفلسف انطلاقاً من جلوسه في الأكاديمية وتأمله العالم المحيط له. وفي الوقت الذي أراد فيه أرسطو استكشاف الواقع الذي يعيشه من خلال التجربة، فقد رفض نظرية معلمه المثالية، معتقداً عوض ذلك أن الطريقة لفهم أية مقولة عامة هي فحص أمثلة معينة لها. "إذا أردت أن تفهم ما تعنيه قطّة، فيجب أن ترى قططاً حقيقية، وليس التفكير بطريقة مجرّدة في شكل القطة". ويرى أرسطو أنّه يجب أن تكون للإنسان مواهب، وعليه أن ينمّيها على أحسن وجه. يكتب لوك فيري أن مهمة الفلسفة هي "السخط الأخلاقي" الذي يسمح للإنسان أن يتدخل في شؤون العالم من أجل "سحق ما هو دنيء". يجب على الفيلسوف أن لا يخضع لغيره، هكذا يحدد أرسطو مهمة الفلسفة باعتبارها "العلم الحر، الذي لا يوجد إلّا من أجل ذاته".

من بين الأسئلة التي فكر فيها الفلاسفة وبشكل دائم هي: "كيف يجب أن نعيش؟". طرح سقراط وأفلاطون وارسطو ومن بعدهم معظم الفلاسفة ر هذا السؤال، وكانت الحاجة للإجابة عن هذا السؤال هي جزء مما يدفع الناس إلى الفلسفة. كان لأرسطو جوابه الخاص: "ابحث عن السعادة". وهذه السعادة خصّص لها لوك فيري كتاباً بعنوان "مفارقات السعادة "، أكد من خلاله أن بلوغ السعادة يعتمد فقط على اجتهادنا الذاتيّ وعلى حالة العالم من حولنا، ومصير الأشخاص الذين نحبهم. يصرّ أرسطو على أن الإنسان فنان نفسه، يبقى خالقاً لمشروعه، ويتقدم لأنّه يتغير ويتطور، فهو في تقدم مستمر على ذاته. فالفرد الذي يضع ذكاءه في خدمة أفعاله، يُسهم في العمل الكوني. يبحث الإنسان في الفلسفة عن تنمية قدراته بالتجربة والمعرفة. يكتب برغسون: "تُبرز البهجة أن الحياة كانت ناجحة، وأنها انتشرت وانتصرت؛ كل بهجة لها نبرة انتصارية، في كل لحظة تكون فيها البهجة، يكون فيها الخلق. كلّما كان الخلق غنياً تكون البهجة عميقة"().

يكشف لنا لوك فيري أن والده كان أول من أرشده إلى أرسطو. يتذكر أنّه عندما كان في الثامنة عشرة من عمره ظل يعاني من مزاج سيّئ أدّى به إلى الاكتئاب، أرشده والده إلى وصفة يمكن أن تساعده في تخطي هذه المرحلة، وكانت هذه الوصفة عبارة عن كتب في الفلسفة لأفلاطون وأرسطو وسبينوزا وديكارت. قرأ عند أرسطو أن الحياة التي تتفادى مواجهة الذات والتفتيش داخلها لا تستحق أن تعاش، واكتشف من خلال والده مصمم وصانع السيارات الرياضية أن عليه أن يفكر بالعيش لا بالموت، وكانت هذه أولى الأسئلة الوجودية التي يوجهها لوك فيري في حياته: ما معنى الحياة؟ كيف نعيش حياتنا المحددة بعدد من السنوات بطريقة مرضية، وما هي هذه الطريقة، وكيف نجدها؟ ليجد الحلّ في الفلسفة التي هي حسب رأيه منافسه للأديان في هذا المجال، لأنها تدعونا إلى أن نجد بأنفسنا الإجابة على أسئلة الوجود الإنساني، فليست الفلسفة مجرد خطاب ملغز، بل هي بحث عن الحكمة.

ولد لوك مارك فيري في الثالث من يناير - كانون الثاني عام 1951 في ضاحية شمال باريس لأب من مصممي السيارات الرياضية، يعشق قراءة الكتب، ويتذكر الصبي لوك أن الكتب كانت ترافق أباه حتى في مكان عمله، أما الأم فقد ارتضت بأن تكون ربة منزل مسؤولة عن ثلاثة أبناء، سيصبح اثنان منهم فلاسفة واحد منهما جان مارك فيري الذي يكبر لوك فيري بخمس سنوات، كانت الأم تؤمن بأن أبناءها سيصبحون يوماً ما في مراكز متميزة، يتذكر لوك فيري أن مارسيل بروست كتب في إحدى رسائله: "لطالما وافقت ماما أنني لا أوافق إلّا أمراً واحداً في الحياة، ولكنه أمر كان كل منا يقدّره بشدة"، بحيث كان يذكر كثيراً: بروفيسور ممتاز عانى في مراهقته من الخجل وكان منطوياً لا يحب رفقة زملائه الطلبة، تسحره شخصية الروائي مارسيل بروست الذي كان يمضي كل وقته في القراءة والكتابة، كما أعجبه غرور صاحب البحث عن الزمن المفقود واعتزازه بنفسه، وبسبب عزلته يقرر والده أن يكلف عدداً من الأساتذة لتدريس ابنه في المنزل، يدرس الفلسفة وعلم الاجتماع في السوربون، يتخرج من الجامعة بشهادة فلسفية وبنظرة مغايرة للحياة، يبدأ حياته العلمية مدرساً لمادة الفلسفة في المدارس الثانوية، العام 1980 يحصل على الدكتوراه في العلوم السياسية، ويتم تعينه في معهد الدراسات السياسية في ليون، بعدها ينتقل للعمل أستاذاً للفلسفة، ينشر أول كتبه بعنوان "الفلسفة السياسية" عام 1984، والذي لم يُثر الاهتمام، واعتبره البعض مجرد كتاب مدرسي، لكنه سيكتسب شهرة عام 1985 بعد صدور كتابه "فكر 68" الذي وجّه من خلاله نقداً إلى الفلاسفة الفرنسيين الذين وصفهم بأنهم يحملون أفكارا معادية لـ "الإنسانوية"، حيث تناول بالنقد كتابات ميشيل فوكو وجيل دولوز وجاك دريدا، ثم توالت إصداراته التي لفتت إليه الانتباه وجعلت منه فيلسوفاً تطارده وسائل الاعلام وتخصّص له الفضائيات برامج يعطي من خلالها دروساً مبسطة عن الفلسفة، مثلما كان الفلاسفة الاغريق ينشرون الفلسفة في الأسواق.

 يري لوك فيري أن أرسطو لم يكن فيلسوفاً تأمّلياً، وإنما كان يرى العالم بعين الفلسفة، ويدرّبنا على أن نتفق على ثوابت الحياة كجماعة إنسانية، وأن نعي الوجود جيداً، يكتب أرسطو: "يجب أن نختبر ما قُلناه سابقاً ثم نختبر صحته بمقارنته بحقائق الحياة، فإذا ما وجدناه يتّفق معها فعلينا إذن أن نقبله، وإذا ما تعارض معها فلا مفرّ من التسليم بأنّه محض حديث نظري". ونجد فيري يضع مقارنات في "تعلم الحياة" بين الدين والفلسفة، فالأديان تعِد الإنسان بإمكانية الوصول إلى الخلاص عن طريق الإيمان، بينما الفلسفة تعِد الإنسان بأنّه سيتمكن من إنقاذ نفسه بنفسه طريق العقل.

ويثير فيري ضجة في الأوساط الثقافية الفرنسية عندما يؤكد أن فولتير وروسو وديدرو لم يكونوا فلاسفة بالمعنى الدقيق، وأن فكرة التنوير لم تأخذ طابعها الفلسفي إلّا على يد الفلسفة الالمانية، وخصوصاً عند إيمانويل كانط. بل ويذهب أبعد من ذلك عندما لا يعتبر ديكارت فيلسوفاً جيّداً. وهو يرى أن الفلسفة الفرنسية حاولت إلغاء الدين من المعادلة التنويرية، عكس فلسفة كانط التي عملت على "علمنة الدين". ويجد فيري أن الفلسفة في فرنسا حاولت أن تجرد الإنسان من مركزيتّه في الكون: "في تاريخ الفلسفة كان تاريخاً للعباقرة منهم، أما من اليونان كسقراط وأفلاطون وأرسطو، أو من الألمان مثل كانط، والجيل من بعده: ياسبرز، هوسرل، وهابرماس"().

يسعى لوك فيري من خلال مؤلفاته التي قاربت الخمسين كتاباً إلى تبسيط الفلسفة وتقديمها من خلال لغة بسيطة واضحة من السهل فهمها من طرف جمهور غير متخصص، وقد قدّم في هذا المجال عدداً من الكتب أبرزها "الفلسفة كما شرحتُها لابنتي"، وكتابه الشهير "تعلم الحياة" وكتاب ممتع بعنوان "أجمل قصة في تاريخ الفلسفة"، والذي يستعرض فيه قصة الفلسفة عبر العصور مؤكدا أن: "الفلسفة ليست فن الأسئلة كما يُشاع، وإنّما هي في الأساس فن الأجوبة". فبرأيه، أن إنسان هذا العصر، في ظل هذه المتغيرات الاجتماعية والتكنولوجية المتسارعة، والتقلّبات السياسية والاقتصادية المتتابعة، يصبح عرضة للشكوك والظنون، فيقع تحت تهديد مخاوف كثيرة، نفسية واجتماعية، تقلقه وتفسد عليه حياته واطمئنانه. ولذلك، يذكّرنا فيري بما انتهى إليه الفلاسفة اليونانيون منذ القدم، وهو أن الإنسان لا يستطيع أن يحيا حياة سعيدة إذا كان الخوف يسكنه، لأنّه في تلك الحالة سيكون أسير الحنين والتمني، أي أنّه يقع أسير حبّ الماضي وحبّ المستقبل، وسيتعذر عليه عندئذ التمعن في الحاضر جيداً.

في عام 1994 يتم اختياره رئيسا للمجلس الوطني للبرامج في وزارة التعليم، وبعدها بأعوام يتولى وزارة التربية، وهو لا يُخفي اعتزازه بهذه المناصب، إذ قال في تصريح صحفي: "لا أشعر بالخجل وأنا أمارس السلطة، فأنا أتعلم هنا أكثر مما أتعلمه طيلة عشر سنوات من تدريس فلسفة القانون".

كل هذه التحولات يمكن أن تكون مصدرًا للفرص، ولكنها أيضًا مصدر للقلق وتثير مسألة السعادة. ما الذي يجب أن نفكر به في كل هذه الكتب المتعلقة بأساليب البحث عن السعادة والتي تزدهر اليوم؟ هل لديها أي فائدة أو فعالية؟ .يسخر فيري من الكتب التي يعتقد اصحابها انها تحقق السعادة للناس من  خلال عشرة أو خمسة عشر درسًا  قائل :" يضحكني بصراحة. يؤكدون لنا أن السعادة في متناول اليد لأنها تعتمد علينا فقط، وليس على الآخرين، بشرط أن نكون قادرين على أن نجعل أنفسنا جديرين بها من خلال بعض تمارين الحكمة التي لديهم سرها. ومع ذلك، فإن هذه الفرضية خاطئة، خاطئة للغاية، لسبب واضح: هناك عدم تناسق هائل بين الخير والشر، بحيث لا يمكن تعريف السعادة أبدًا في حين أن التعاسة لا لبس فيها. الشر، أتعرف عليه على الفور: إنه المرض، والمعاناة، والحداد على شخص عزيز، وفقدان الوظيفة، والفقر… ولكن، من ناحية الخير، يجب أن نرى أن كل ما يجعلنا سعداء في هذه اللحظة ، الحب، الثروة، السمعة  وأي شيء آخر تريده يمكن أن يجعلنا تعساء للغاية يومًا أو آخر. نحن نعرف فقط لحظات الفرح في الحياة، ولا نعرف أبدًا السعادة الدائمة والذاتية التي تأتي من خلال تمارين الحكمة. وهذا هراء وكذب. بمجرد أن نحب شخصًا ما، بمجرد أن ننجب طفلًا، نعلم أن سعادته تعتمد عليه قبل كل شيء، لذا فهي بالضرورة هشة و مؤقتة " .

 إن الفلسفة كما يرى فيري  هي سفر متأن  من الحكمة القديمة إلى التفكيكية المعاصرة مرورا بميلاد  النزعة الإنسية. في خضم هذا التطور يتحقق دور الفلسفة  الذي  هو  كما يقول لوك فيري :"  تعلم للحياة أو لنقل فنا للعيش! " .

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

إن مشروع النهضة الذي مرت به أوربا، كان مشروعا بنيويّاً شاملاً متكاملاً إلى حد كبير في بنائه، من الناحية السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة. وعندما نقول سياسيّاً، فهذا يعني القضاء على السلطات الاستبداديّة الممثلة بسلطة الاقطاع والملك والكنيسة آنذاك، وتثبيت دعائم نظام الليبراليّة بمفهومها التقدمي، كما طُرحت عند فلاسفة عصر التنوير الممثاين فكرياً لطموحات الطبقة الرأسماليّة الوليدة آنذاك. وعندما نقول اقتصاديّاً: يعني تحقيق تجاوز للعلاقات الانتاجيّة الاقطاعيّة وخلق علاقات النظام الرأسمالي واقتصاد سوقه. وعندما نقول الاجتماعيّة: فهو تجاوز للعلاقات الاجتماعيّة التقليديّة وتسسييد علاقات اجتماعيّة تتوافق وطبيعة العلاقات الانتاجيّة الجديدة، وهي العلاقات الرأسماليّة القائمة على اقتصاد السوق، وعلى مفاهيم الحريّة الفرديّة والعدالة والمساوة. واعتبار العقل هو المرجع الأساس في تقويم الواقع بكل مستوياته. أما من الناحية الثقافيّة أو الفكريّة: فهو تجاوز للعديد من مضامين المدارس والنظريات الفلسفيّة والفكريّة السابقة على المستوى الأدبي والفني والفكري عموماً القائمة على الفهم اللاهوتي أو الميتافيزيقي، وخلق مدارس جديدة تتناسب مع روح العصر الجديد، القائمة على التجربة والملاحظة والمحاكمات العقليّة.

أمام هذه التحولات البنيويّة التي حققها عصر النهضة في أوربا ممثلاً بحوامله السياسيّة والفكريّة الفلسفيّة والأدبيّة والفنيّة، وحتى الدينيّة ممثلة "بكالفن، ومارتن لوثر" في إصلاحهما الديني، يظل السؤال المشروع يطرح نفسه علينا حتى اليوم وهو: أين نحن من مشروعنا النهضوي؟.

لقد عوّلت الشعوب العربيّة بعد التحرر من الاستعمار منذ منتصف القرن العشرين على القوى السياسيّة التي قاد معظمها حركة التحرر العربيّة ممثلة في أحزابها ومشاريعها الوطنيّة والقوميّة، بيد أن هذه القوى ظل معظمها مرتبطاً بهذا الاستعمار بشكل أو بآخر، فإذا كان التحرر السياسي قد تحقق في خروج المستعمر من الباب، فإن الاستعمار الاقتصادي والثقافي ظل قائماً ويمارس نشاطه بحيويّة فاعلة في محيط الدولة والمجتمع، وهذا ما ساهم في فشل هذه القوى التحرريّة في تحقيق مهام النهضة التي عوّل عليهم قيامها. الأمر الذي أدى إلى ظهور قوى اجتماعيّة جديدة من داخل صفوف الشعب نعتت نفسها بالتقدميّة، وطرحت على نفسها وعلى شعوبها ضرورة تصفية بقايا الاستعمار ومن يتعاون معه من القوى السياسيّة التقليديّة، ووضعت في أجنداتها إقامة مشروع الدولة الأمّة، والدولة المدنيّة التي تهدف إلى إقامة المواطنة والتعدديّة السياسيّة ودولة المؤسسات وغير ذلك من مفردات الدولة المدنيّة، أي دولة الحريّة والعدالة والمساوة والتشاركيّة والمواطنة، المتوجة بالديمقراطيّة والعلمانيّة. غير أن شهوة السلطة التي تحكمت بهذه القيادات المبتسرة في ذهنيتها عقديّاً ومبدئيّاً (شبه التقدميّة) وأحزابها (شبه الثوريّة) أيضاً، تحولت إلى قوى معاديّة للأهداف التي طرحتها قبل استلامها السلطة، حيث تحولت إلى قوى برجوازيّة طفيليّة بيروقراطيّة جعلت من مراكز تواجدها في السلطة مصدر ثروة غير مشروعة، كما أخذت تمارس نشاطات سياسيّة واقتصاديّة وثقافيّة وحتى اجتماعيّة بعيدة كل البعد عن المفاهيم النظريّة التقدميّة التي طرحتها في مشاريعها النظريّة والدستوريّة، بل أستطيع القول إنها قضت على البذور الليبراليّة التي راحت تنتشي مع القوى الحاكمة التي تولت السلطة في هذه الدول بعد خلاصها من الاستعمار السياسي، التي نعتتها هذه القوى شبه التقدميّة بالقوى الرجعيّة.

إن من يتابع سياسات هذه القوى في الدول التي حكمتها هذه القوى المتاجرة بالتقدمية وحريّة الإنسان وتقدمه وتنميته، يجدها قد مارست تكريس الجهل السياسي والفكري العقلاني النقدي لدى جماهيرها، وذلك بغية إبعاد هذه الجماهير عن معرفة الأسباب الحقيقيّة التي تمارس ضدها من غبن وقهر باسم شعارات براقة تحت مسميات الوطن والأمّة، ومن ثم إبعادها عن مشاركتها في قيادة الدولة والمجتمع، الأمر الذي أدى بسبب هذه السياسة الاقصائيّة التجهيليّة،إلى عرقلة تكوين فكر نهضوي وممارسة نهضويّة يساعدان على تجاوز الواقع المتخلف، أو المخلف قسراً من قبل قادة هذه الأنظمة وأحزابها شبه الثوريّة . بل رحنا نلمس الكثير من أبناء هذه الجماهير يندفع إلى الفكر الظلامي والسلفي التكفيري السياسي الجهادي منه، أو الصوفي، الذي اعتقد أنه سيجد فيه خلاصه من الفقر والجوع وتحقيق العدالة والمساواة. وفي مثل هذا التوجه السلطوي الاستبدادي كانت المشكلة الأكثر تعقيداً، وهي إبعاد الجماهير عن ما تمارسه القوى الحاكمة من قهر وظلم لها بالقوة، ثم العمل المبطن من قبل هذا القوى الاجتماعيّة المضطهدة ذاتها في السر والعلن بإعلان الولاء لهذه الحكومات من جهة، ثم العمل في السر ضدّ أنظمتها الحاكمة من جهة ثانيّة، وهذا ما لمسناه في ما سمي بثورات الربيع العربي.

نقول: مع سياسة تغيب الفن والأدب والمسرح والثقافة التنويريّة العقلانيّة، راح يسود الفكر الظلامي المشبع بالجبر وتغيب العقل والتمسك بكل ما يمت بصلة للدين بصيغته المشوهة المشبعة بالجبر والاستسلام والامتثال والتواكل واعتبار الدعاء لله وسيلة لتحقيق الأماني والنجاة من المخاطر. وعلى هذه التوجه الامتثالي الاستسلامي الغيبي، أصبح الدين صلاة وصوماً ورموزاً وكرنفالات وبناء جوامع ومساجد، ودعوات للتمسك بقيم وأخلاق أهلنا من السلف الصالح من جهة، في الوقت الذي تحول من جهة أخرى إلى عقيدة وشريعة تكفيريّة وجهاديّة ضد المختلف. نعم... لقد أصبح الدين (ثقافةً) عملت هذه الأنظمة التي تدعي العلمانيّة والديمقراطيّة على موضعتها وتجذيرها في عقول ونفوس وعواطف ومشاعر وذاكرة ولغة وتطلعات شعوبها. وعلى أساس هذا التوجه كانت داعش والنصرة، وكل القوى السياسيّة الجهاديّة التكفيريّة التي ثارت اليوم ضد هذه الأنظمة تحت ما سمي بالصحوة الإسلاميّة.

***

د. عدنان عويد

كاتب وباحث من سورية

 

في حديث عابر مع زميل جامعي سألني حول مكانة علي الوردي في علم الاجتماع وأهميته في الأوساط العلميَّة، بعد قراءته لكتابات متفرقة تشكك في قيمة بعض استنتاجاته وآرائه الاجتماعية المعروفة، وبالأخص ما يتعلق منها بسمات الشخصية العراقية، وتدعو إلى رفض المصطلحات الوردية في هذا الشأن لأسباب علميَّة ومنهجيّة وموضوعيّة، وهو نقاش يدور عادة في أروقة الجامعات وبين عدد من المهتمين بعلم الاجتماع، الذين يحاولون الخروج من عباءة الوردي وسلطته الأبوية، وتقديم آراء جديدة حول المجتمع العراقي، تؤكد أو تنفي أو تصحح النظريات الوردية - إن صحت التسمية -. وكان رأيي بأن أثر الوردي على علم الاجتماع سيبقى طويلاً من دون منافس، وأن الذي فعله يشبه ما فعله سقراط بإنزاله الفلسفة من السماء إلى الأرض. وقد أنزل الوردي النظريات الاجتماعية من برجها العاجي الأكاديمي، مثلما درسها في جامعة تكساس، وجعلها تمشي مع الناس في شوارع بغداد وأزقتها ومقاهيها ومنتدياتها ومجالسها الثقافية، وهذا عمل جبار لا يقدر عليه إلا من امتلك الجرأة والحماسة والمعرفة وسعة الاطلاع وروح السخرية، والأهم من ذلك كله الأسلوب الواضح الذي ينتزع الجفاف من العبارات والمصطلحات العلمية، ويجعلها لينة سهلة يتقبلها رجل الشارع مثلما يتقبلها العالِم.

كان الوردي يكرر القول بأن أفكاره المطروحة في هذا الكتاب أو ذاك ليست مقدسة، فربما غير وبدل بعضها وأعتذر عن بعضها الآخر، وفي ذلك رد احترازي مبكر يُحسب له على كل رأي مخالف قد يظهر مستقبلاً تجاه أي من آرائه وقناعاته واستنتاجاته، ومنها ما يخص أحكامه التي قد تبدو قاطعة تجاه الشخصية العراقية. ولم يكن يخطر في باله أن أفكاره وكتبه سينظر إليها بعض المحبين والقراء المتطرفين بعد سنوات على أنها أفكار لا يأتيها الباطل من خلفها أو بين يديها. ولو كان الوردي حياً لما تردد لحظة في " إدخالهم التاريخ " على طريقته الخاصة حالهم حال السياسيين والأثرياء والأدعياء. لكن ما حكاية " دخول التاريخ " هذه ؟ . في كتابه " مئة عام مع الوردي " يذكر محمد الخاقاني بأن الوردي يقصد بإدخال الشخص إلى التاريخ إضافة اسمه إلى سجل مذكراته التي اسماها "سينما بغداد"، وبأنه سيقول رأيه الصريح بهذا الشخص ويفضحه علمياً واجتماعياَ وربما سياسياً، وبذلك سيدخل الشخص المعني إلى التاريخ من أوسع أبوابه في سينما الوردي!. ومن حسن حظ الذين " أدخلهم الوردي التاريخ " من باب سخريته، بأن تلك المذكرات قد اختفت بعد وفاته ولم يظهر لها أثر.

قبل الإطاحة بالنظام الملكي في العراق العام 1958 بأقل من شهر، كتب في خاتمة كتابه " اسطورة الأدب الرفيع " الصادر في حزيران من ذلك العام: " لن يسكت عنهم الشعب حتى يراهم ممرغين في التراب". وقد عاتبه بعد ذلك احد أركان النظام الملكي على هذه الجملة المؤلمة، فقال له الوردي " بعد ما رأيناه من الأنظمة الجمهورية التي جاءت بعدكم، أثبتم إنكم أفضل منهم بكثير، حيث لم يستدع شخص طلب من الشعب أن يمرغكم في التراب إلى مباني مديرية الأمن العامة، في حين من جاؤوا بعدكم كانوا يحاسبون الناس على أنفاسهم ". وقد ندم الوردي على خاتمة كتابه هذه، مثلما تحدث بذلك إلى الخاقاني.

في ندم الوردي، وسخريته اللاذعة، وتأكيده على أن أفكاره قابلة للتغيير والتبديل، وأنه مستعد للاعتذار عن بعضها، ما يجعله من الشخصيات العلمية الفريدة المتواضعة، خفيفة الظل والروح والدرس الأكاديمي.

***

د. طه جزاع – كاتب أكاديمي

 

يذكر مالك بن نبي في حوار أجري معه نشرته مجلة الشباب المصرية سنة 1971م، بقوله (إن المشكلة التي استقطبت تفكيري واهتمامي منذ أكثر من ربع قرن وحتى الآن هي مشكلة الحضارة.. فالمشكل الرئيسي بل أم المشكلات التي يواجهها العالم الإسلامي هي مشكلة الحضارة، وكيف تدخل الشعوب الإسلامية في دورة حضارية جديدة. هذه القضية باختصار هي التي وجهت لها كل مجهوداتي منذ ثلاثين سنة). هذا الإفصاح يعكس مركزية الشاغل الحضاري في تفكير مالك بن نبي لأكثر من ربع قرن، ولا ريب أن أغلب المهتمين بفكر بن نبي وجدوا أنفسهم أمام صدمة ثقافية جديدة، على سبيل المثال لا الحصر الدكتور المصري سليمان الخطيب الذي اختار ابن نبي موضوعا لرسالته في الدكتوراة ناقشها في القاهرة سنة 1988م، ونشرها سنة 1993م، حملت عنوان: (فلسفة الحضارة عند مالك بن نبي.. دراسة إسلامية في ضوء الواقع المعاصر)، وفي مقدمة دواعي اختيار هذا الموضوع ذكر الخطيب قائلا: (إن هناك ما يمكن أن نطلق عليه مؤامرة الصمت والتجاهل تجاه فكر مالك بن نبي ونشره في ربوع العالم الإسلامي… وأن النخبة المثقفة في العالم الإسلامي لا تعرف إلا القليل من فكر مالك وإسهاماته الثقافية، فما بالنا بالقاعدة الشبابية التي تجهله كلية)[1]. هذه جزئية تاريخية عما أشرنا إليه في الحلقة الأولى، كما يعبر الدكتور اللبناني وجيه كوثراني في مقالة نشرها سنة 1990م بعنوان: (لماذا العودة إلى مالك بن نبي؟ الذاكرة والنسيان والتواصل في المشروع العربي الإسلامي)، رأى فيها أن (مالك بن نبي في فهمه وتمثله للثقافة الإسلامية في أبعادها الإنسانية والعالمية، لم ترق لا لمثقفي التيار القومي، ولا لمثقفي التيار الإسلامي آنذاك، فبقيت محاصرة أو على هامش الفعل السياسي. وأن مالك بن نبي لم يُقرأ جيدا وبموضوعية لا في زمن فكره، زمن ثورات العالم الثالث القومية والوطنية، ولا في الزمن اللاحق زمن الثورات الإسلامية والصحوات الإسلامية الجديدة)[2]. لذلك مالك بن نبي الشخص المثقف عانى من العلمانيين والإسلاميين على حد سواء في العقود الأخيرة من القرن الماضي وإلى يومنا هذا، وصدق الدكتور كوثراني بقوله أن فكر بن نبي لم يقرأ جيدا، فلا يمكن أن يحسب فكره أو يتبنى من أي اتجاه لأنه كان شديد الولع بالتميز والتحرر والفعالية والدقة والعمل والحركة..

هناك ثلاثية فكرية لمالك بن نبي ذات خصوصية بالغة في الطرح والتحليل والتطلع، وهي (مشكلة الثقافة) و(شروط النهضة) و(مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي) لما تمثله من السمات المميزة لهذا الفكر النهضوي العربي والإسلامي، لذلك نجد مالك بن نبي يعتبر الثقافة هي " ذلك النسيج الكلي لتوجهات المجتمع من عادات وتقاليد وقيم وأفكار،فهي المحيط الذي يعكس حضارة معينة"[3]، وهي المسؤولة عن تكوين الفرد الذي ينتمي إلى مجتمع ما، لا يمكن بطبيعة الحال أن تنتج ثقافة من العدم، ولا يمكن أيضاﹰ أن يفلت فرد من أفراد المجتمع من سيطرة الثقافة وقيودها الاجتماعية التي ترجع إلى أصولها التاريخية، فهي المعيار الذي تقيّم من خلاله المجتمعات، ويستلهم من خلالها دور ووظيفة كل فرد في المجتمع.

ومن هذا المنطلق، استلزم الأمر  توجيه تلك الثقافة وفقاﹰ لخصوصية كل مجتمع، ومالك بن نبي يعني بفكرة التوجيه تجنب الإسراف في الجهد والوقت[4] وذلك  عبر تحريك بوصلة التاريخ بإتجاه الهدف المتمثل في البناء الحضاري، لكن قبل التوسع أكثر في مسألتي الثقافة والحضارة لدى مالك بن نبي، ضروري جدا تسليط الضوء على موضوع أساسي يتمثل في عالم الأفكار عند مالك بن نبي والذي من خلاله سيسهل علينا الاقتراب من عناصر الثقافة والحضارة وحيثياتها في فكر مالك بن نبي..

الأفكار عند مالك بن نبي:

لقد تناول مالك بن نبي مسألة الأفكار في العديد من مؤلفاته إن لم يكن كلها، لكن هناك مؤلفات اتسمت باستكشاف عالم الأفكار في مشروع مالك بن نبي وهي على سبيل المثال لا الحصر: مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، مشكلة الثقافة، وكمنويلث إسلامي،  في مهب المعركة..

وينطلق مالك بن نبي في مقاربة الأفكار على ضوء الأدب العربي بقصة حي بن يقظان من خلال تحديد معالمها وأبعادها بقوله عن قصة: أخذت مغامراتها اتجاها مخالفا فهي لم تبدأ من الواقع إلا بعد  أن نفقت الغزالة التي تبنت الطفل المنعزل كأم ترعاه: " فكان يرتاد المراعي الخصبة، ويجتني لها الثمرات الحلوة، ويطعمها. ومازال الهزال والضعف يستولي عليها ويتوالى، إلى أن أدركها الموت، فسكنت حركاتها بالجملة، وتعطلت جميع أفعالها، فلما رآها الصبي على تلك الحالة، جزع جزعاً شديداً، وكادت نفسه تفيض أسفاً عليها.]...]  فكان ينظر إلى أذنيها وإلى عينيها فلا يرى بها آفة ظاهرة، وكذلك كان ينظر إلى جميع أعضائها فلا يرى بها بشيء منها آفة. فكان يطمع أن يعثر على موضع الآفة فيزيلها عنها، فترجع إلى ما كانت عليه فلم يتأت له شيء من ذلك ولا استطاعة" لم يعثر حي بن يقظان على موطن الداء: لكن ابن طفيل يجعلنا نتتبع صعود ذهنه كيما يكتشف شيئاً فشيئاً (الروح) ثم (خلود الروح) وأخيرا (فكرة خالق). إن الزمن يجري هنا في مراحل من ذلك الصعود بالفكر إلى لحظة شبيهة بلحظة (زرادشت) عند نيتشه حينما نزل من جبله حاملاً رسالته. فحي بن يقظان سيذهب مع رفيق دربه (آسال)، حاملا إلى مواطني ورعايا الحكيم (سلمان) ثمرة تفكيره..[5]

ليعرب مالك بن نبي بالقول: إن العالم هنا، عالم تتركز فيه الأشياء حول الفكرة، فحي بن يقظان لا يتغلب على كآبة الشعور بالوحدة بصناعة طاولة[6]، بل ببناء الأفكار واكتشافها. إنه عالم لا يتحدد فيه الزمن لصالح شيء ما.[7]

لينتهي لاحقا إلى أن الفكر الغربي يجنح على ما يبدو أساسا إلى الدوران حول مفهوم الوزن والكم. وهو عندما ينحرف نحو المغالاة فهو يصل حتماً إلى المادية في شكليها: الشكل البرجوازي للمجتمع الاستهلاكي والشكل الجدلي للمجتمع السوفياتي، وحينما يكون الفكر الإسلامي في أفوله كما هو شأنه اليوم فإن المغالاة تدفعه إلى التصوف، والمبهم، والغامض، وعدم الدقة، والتقليد الأعمى، والافتتان بأشياء الغرب.[8]

لقد قدم مالك بن نبي ثلاثة عوالم هي عالم الأفكار، وعالم الأشياء، وعالم الأشخاص. وعالم الأفكار عنده هو الأساس ويشكل مجموعة المعتقدات والمسلمات والتصورات والمبادئ والنماذج التي تحتويها عقول مجتمع ما في لحظة تاريخية ما، ويدخل في هذا العالم أيضا كل أنماط التفكير والقيم والمشاعر والأحاسيس، يعني عالم الأفكار مرتبط بالمجردات من الأفكار والقيم التي لا تتأثر بالأشياء والأشخاص بقدر ما تؤثر فيهم، وهذا هو العالم الذي ينبغي على الإنسان أن يدخله فيرفع من مستواه الحضاري والإنساني[9].

كما يعتبر بن نبي عالم الأفكار أساس أيديولوجي ينتجه أفراد المجتمع في عملية البناء الثقافي والحضاري، اْي أن عالم الأفكار هو رأسمال المفاهيمي للمجتمع. وعالم الأفكار عند مالك بن نبي دعامة أساسية يساهم في بناء وإعادة بناء المجتمع، فلا تتوقف القضية عند إنتاج أفكار بل يجب أن نوجهها طبقا لمهمتها الإجتماعية المحددة التي نريد تحقيقها[10]، وهنا يطالعنا موقفان متعارضان في الظاهر ولكنهما مع ذلك نتيجة لوجهة النظر الإجتماعية، حيث في البلاد العربية غالبا ما نصادف هذين الموقفين متجسدين في نموذجين مختلفين:

النموذج الأولى: هناك من يدعي أداء العمل السياسي مثلا دون أن يرجع في عمله إلى قاعدة أو فكرة معينة كاْن يكون النشاط فعالا وفاعله أعمى وهذا الفاعل غالبا ما يكون سليم القصد وحينئذ لا يفسر موقفه إلا بجهله في المشكلات الإنسانية. في حين أنه قد يحدث أن يعتلي المسرح مقاول ماهر في الدجل السياسي، يكتشف طيبة البسطاء وسرعة إنقيادهم، فهو يريد أن يحتفظ بهذا المنجم الثمين بأي ثمن، بينما يعلم اْنه لن يحتفظ به إلا بنشر الظلام، وطبيعي أن يفقد النشاط فعاليته إذا ما اْدار ظهره عمدا للمقاييس والقواعد اْي إذا ما اْدار ظهره للأفكار[11].

النموذج الثاني: هناك صورة أخرى تمثل نموذجا آخر من انعدام الفاعلية فهي بصفة عامة رجل مخلص وهبته الطبيعة فكرا خصيبا لكن لديه ذوق خالطه التلف العقلي فهو لا يتخيل الفكرة من والى تنسج عليه الظروف بل لنشاط الإجتماعي بل هي لديه لون من الترف يخلق المسرة وغرام بالأفكار أشبه بالغرام بجمع تحف ثمينة يقول بن نبي: (وإنني وصفت هذا الفكر بصورة أستعيرها، قلت اْنه ليس مصنعا تتحول فيه الأفكار إلى أشياء بل هو مخزن تتكدس فيه الأْفكار بعضها فوق بعض)[12] .

تصنيف الأفكار عند مالك بن نبي:

يروي لنا مالك بن نبي أنه: (قد سنحت لي الفرصة لأقوم بتجربة مع فريق من العمال الجزائريين الأميين حين اضطلعت مهمة تعليمهم القراءة والكتابة بفرنسا سنة1938م، وكلما تقدمت التجربة شيئا فشيئا التي تابعتها مدة تسعة أشهر، كنت أرى وجوه تلاميذي تتغير كانت الوجوه ذات وميض وحشي وقد تاْنسنت تدريجيا وقد اختفى بريقها الحيواني ليحل محلها شيئا ما ينم عن فكرة داخلية، من جهة أخرى فالشفاه أطبقت أو ازداد تقاربها والرأس الذي تلقى فكرة قد شغل عضلات الصدغ التي تعمل كنابض يشد نحو الفك الأعلى والفك الأسفل الذي يغلق الفم، حين إذ تتغير ملامح الوجه بطريقة ظاهرة يمكن على ما اْعتقد قياسها بالنسبة لمن يهتمون بالعلاقات الجسدية والنفسية، وبالإمكان أن نتوصل إلى الملاحظة نفسها بمقارنة مباشرة بين ملامح اْخوين يختلف المستوى المعرفي لديهم)[13]. كما يرجع  بن نبي  تخلف المجتمع الإسلامي  إلى الاهتمام المفرط بمشكلة الاستعمار والغفلة عن مشكلة القابلية للإستعمار وهذه الفكرة القاعدية لصياغة نظرته حول عالم الأفكار كلها..

1.الأفكار المطبوعة والأفكار الموضوعة:

لقد اشتغل مالك بن نبي بكل جد واجتهاد وعمق في كشف ملابسات مشكلة التخلف والفساد الذي أصاب المسلمين في أخلاقهم، مرجعا ذلك هو ابتعاد المسلم عن أفكاره وعقائده، فمالك بن نبي يرى أن عالم الأفكار أسطوانة يحملها الفرد في نفسه عند ولادته وتختلف هذه الأسطوانة من مجتمع لآخر ببعض النغمات الأساسية وتتناغم الأجيال والأفراد مع سلمها الأساسي، معبرا بالقول: "المثير للدهشة أن الموسيقى الهندوسية لا تشبه أي موسيقى أخرى وقد أحببتها دائما دون أن أدري لماذا. كل ما أعرفه هو أنها تخاطب أرواحنا بطريقة مختلفة، لأنها طبعت في ذاتية الهند بطريقة مختلفة وإن أسطوانة كل مجتمع تختلف عن أسطوانة مجتمع آخر وتتناغم الأجيال والأشخاص مع سلمها الأساسي وهم يضيفون إليها أنغامهم الخاصة)[14]. أي أن عالم الأفكار على حد تعبيره، أسطوانة لها أنغامها الأساسية ونماذجها المثالية وهي الأفكار المطبوعة، ولها أيضا توافقاتها الخاصة لدى الأجيال والأفراد وهي الأفكار الموضوعة.[15]

2. الأفكار الميتة والأفكار المميتة:

لقد انتبه مالك بن نبي إلى ما لم ينتبه له غيره، حيث عند استماعه لأحد خريجي جامعة الزيتونة وهو ينتقد قصيدة للشاعر اْحمد شوقي مدح فيها باريس، لأنه في هذه القصيدة  مجد الأثر المفسد لتلك الثقافة الغربية فأفسدت هذه القصيدة حسب رأي الزيتوني نسبة كبيرة من النخبة المسلمة، فيقول خريج جامعة الزيتونة:(ماهو خطاْ شوقي الكبير في نظر المستعمر والقابل للإستعمار الرفيع؟ (خطأهْ كما يقول هذا الخريج هو تمجيده الأثر المفسد لتلك الثقافة الغربية التي ربطت 90 بالمائة من النخبة المسلمة بإدراك أو بغير إدراك منهم في خدمة الاستعمار، وأن خطر هذا التأكيد يبرز في أن المظاهر تؤيده وما يهمنا من ذلك كله الواقع المرضي الذي يكمن وراء هذا التأكيد وتلك المظاهر إنها الأفكار الميتة وهي الأفكار التي بها خذلت الأصول، وهي الأفكار التي انحرفت عن مثلها العليا ولذا ليس لها جذور في العصارة الثقافية الأصلية والتي نتجت عن إرثنا الإجتماعي [16] .

رأى مالك بن نبي أن هذا الرأي في أحمد شوقي لم يكن رأياً شخصياً ولكنه رأي ترعرع  في عالم ثقافي استحكمت في داخله الأفكار المنسلخة عن جذورها، وهي ما أطلق عليها مالك بن نبي الأفكار الميتة مع أخرى استوردت بصورة سيئة من الخارج من عالم ثقافي آخر تركت جذورها فيه، فأضحت بذلك مميتة وقاتلة وهذا ما أسماه بن نبي بالأفكار المميتة التي دخلت على العالم الإسلامي وأضرت به..

الأفكار الميتة هي تلك الأفكار التي فقدت الحياة وقد ورثها العالم الإسلامي منذ فترة عصر الانحطاط اْي عصر إنسان ما بعد الموحدين، وتشكل الجانب السلبي في نهضته وهي اْخطر من الأفكار القاتلة (المميتة) . حيث يشرح لنا مالك بن نبي  عبر مثال حي  ظاهرة الأفكار الميتة في المجتمعات الإسلامية،  فالحاج الذي ينزل بميناء جدة يُسَّر حينما يفاجأ بقراءة إعلان معلق على أحد الأبواب مكتوب عليه: هيئة الأمر بالمعروف، ثم عندما يتقدم خطوة بالبلد، يبدأ في اكتشاف حقيقة يبدو إزائها الإعلان مجرد سخرية: إنه فكرة ميتة. لكن الأمر الأدهى عندما نبدأ إحياء عالم الثقافة المحشو بالأفكار الميتة بأفكار قاتلة مستوردة من حضارة أخرى[17].

ويرى مالك بن نبي أن الأفكار الميتة التي ورثها العالم الإسلامي من عصر ما بعد الموحدين هي الأخطر وإن هذه الأفكار التي لازالت - بإعتبارها أصبحت ميتة – تكوّن الجانب السلبي في نهضتنا، بعدما كانت تكوّن الجانب الإيجابي (القتال) في عهد التقهقر والأفول الذي مر على الحضارة الإسلامية، هذه الأفكار إذن كانت قاتلة في مجتمع حي قبل أن تصبح ميتة في مجتمع يريد الحياة، غير أنها بكل تأكيد لم تولد بباريس أو لندن بل ولدت بفاس والجزائر وتونس والقاهرة... لم تنشأ في مدرجات أوكسفورد والسوربون..و لكنها نشأت تحت قباب جوامع العالم الإسلامي وفي ظل صوامعه [18].

ولقد هيمنت الأفكار الميتة على المجتمع الإسلامي وقد ترتب عنها إنفصال بين الإنسان المسلم وأفكاره المطبوعة لذلك فهو اليوم يدفع ثمن انفصاله عن نماذجه الأساسية.

هذه حقيقة في منتهى الوضوح، إن كل مجتمع صنع بنفسه الأفكار التي ستقتله، لكنها تبقى بعد ذلك في تراثه الإجتماعي (أفكاراً ميتة) تمثل خطرا أشد عليه من خطر (الأفكار القاتلة)، إذ الأولى تظل منسجمة مع عاداته، وتفعل مفعولها في كيانه من الداخل، إنها تكون ما لم نجر عليها عملية تصفية، تكون الجراثيم الموروثة الفتاكة التي تفتك بالكيان الإسلامي من الداخل، لأنها تخدع قوة الدفاع الذاتي فيه. ويجب أن نطبق تفكير باستور في المجال البيداغوجي والتربوي،  وذلك كي ندرك الجانب المرضي في مشكلة الثقافة عندنا. وهذه الأخيرة يدل عليها مالك بن نبي بالصورة التي أعطاها الكاشاني عن الجانب  المرضي في المجال السياسي، إذ تمثلت فيه الجرثومية الداخلية أو(الفكرة الميتة) التي خدعت وخدرت قوى الدفاع الذاتي في ضمير الشعب الإيراني -ويرى بن نبي- اْنه من الجدير بالملاحظة أن دكتور مصدق لم يسقط تحت ضربات الاستعمار- المتمثل في أكبر شركة بترول في العالم- ولكنه خر تحت ضربات القابلية للإستعمار الناطقة بإسم الله والوطن [19].

أما الأفكار القاتلة فهي أفكار فقدت شخصيتها وقيمتها الثقافية بعد أن فقدت جذورها التي ظلت في مكانها في عالمها الثقافي الأصلي.

ويوضح مالك بن نبي أنه "ما إن نبدأ بمعالجة الأفكار الميتة في العالم الإسلامي حتى نصطدم بالأفكار المميتة وهي الأفكار المستعارة من الغرب وهي الفكرة التي فقدت هويتها وقيمتها الثقافيتين بعد ما فقدت جذورها التي بقيت في مكانها في عالمها الثقافي الأصلي ووفدت إلى عالمنا الإسلامي ، وأحيانا يجسد الأشخاص أنفسهم ظاهرتي هذه المشكلة فالفيروس الوراثي فيهم يمتص الميكروب الخارجي الوافد إليه اْي أن الفكرة الميتة التي يحملها تنادي وتستدعي الفكرة المميتة التي تلقاها المجتمع الإسلامي" [20].

و هنا يشير الدكتور الجزائري محمد شوقي الزين[21] في كتابه المهم (الثقاف في الأزمنة العجاف) إلى مسألة جدا مهمة بقوله: لا يجوز أن نتساءل لماذا توجد عناصر فكرية قاتلة في الثقافة الغربية؟ بل فليكن سؤالنا في صورة أخرى:  لماذا تمتص طبقتنا المثقفة في البلاد الإسلامية  هذه العناصر القاتلة؟ فالأفكار الميتة هي المعوق والأفكار القاتلة هي العائق والأفكار الميتة تخص القابلية للاستعمار والأفكار القاتلة تخص الاستعمار.

يبقى حسب  نظرة مالك بن نبي الفكرة الصادقة ليست دائما فعالة والفكرة الفعالة ليست دائما صادقة، فتظهر الفكرة في العالم فتكون صحيحة أو خاطئة فإذا كانت صحيحة تظل محتفظة بصحتها إلى آخر الزمان إلا أنها برغم ذلك قد تفقد فعاليتها خلال حياتها المديدة[22] ...   (يتبع)

***

ا. مراد غريبي – كاتب وباحث

...............................

[1] الميلاد زكي، مقال مالك بن نبي والطور النقدي، المجلة العربية العدد  532

[2] ن.م

[3]  كتاب شروط النهضة، ترجمة: عمر مسقاوي وعبد الصبور شاهين،،2013، دار الوعي،الجزائر صفحة 89

[4]  ن.م ص 84

[5]  بن نبي، 2002، كتاب مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، ترجمة د. بسام بركة ود. أحمد شعبو، دار الفكر، دمشق صفحة 21-22

[6]  في المقابل المثال الأول عالج روبنسون بروزو وحدته بملء يومه بصناعة طاولة

[7] ن.م الصفحة 22

[8]  ن. م الصفحة 24

[9] ن.م الصفحة 16.

[10] فكرة كومنولث إسلامي، ترجمة  الطيب شريف، ط3،دار الفكر للطباعة والنشر،دمشق،2000، الصفحة 53

[11]م مشكلة الثقافة، ترجمة عبد الصبور شهين، ط5، دار الفكر للطباعة والنشر، دمشق،2000،ص 67

[12] مشكلة الثقافة، ص 68

[13]م. س، مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، ص 59

[14]Malek bennabi: le problème des idées dans le monde musulman،page 51

[15]  مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، ص71.

[16]مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، ص 147

[17]  ن. م الصفحة 75

[18] في مهب المعركة،  ص 136

[19] في مهب المعركة، ص 136

[20] مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، ص 149

[21] ستكون لنا في الحلقات القادمة  وقفة مع نقد الدكتور الزين المهم لبعض أفكار مالك بن نبي

[22] تبسيط مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، مالك بن نبي، ترجمة وتلخيص عبد العظيم علي، ط1، دار الدعوة للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة،1997، ص 28

كنت في الرابعة عشرة من العمر حين التحقتُ بحلقة تدرّس كتاب «منية المريد في آداب المفيد والمستفيد». وموضوع الكتاب واضح من عنوانه، فهو يعالج أخلاقيات التعلم والتعامل بين التلميذ وأستاذه وعلاقتهما بعامة الناس، وما يتصل بالعلم من مواضيع. وقد توقفت عن الدرس بعد أشهر، لكن رسخ في ذهني تأكيد الأستاذ الربط بين العلم وتطبيقاته في الحياة اليومية. ولطالما كرَّر عبارة «كل علم لا ينتهي بعمل فهو لغو». وأذكر أن زميلاً كتب في تحريره اليومي كلمة «فضل» بدل «لغو» ومعناها «زائد عن الحاجة» فتوقف الأستاذ عندها، وأنفق بقية وقت الدرس في تأكيد أنه لغو وليس فضلاً.

تحوَّلت هذه الفكرة في ذهني إلى مسلّمة لا تقبل الشك، إلى أن زرت عالماً حكيماً في دمشق، فوجدته منخرطاً في النقاش مع شخص آخر يثير السؤال بعد السؤال. وكلما أجابه الحكيم ردَّ عليه مشيراً إلى نقطة ضعف في جوابه. وبقيت أستمع إلى هذا الجدل نحو ساعة، حتى طلب الرجل تأجيل النقاش إلى الغد، فقلت ضاحكاً: وما الفائدة من جدل لا نتيجة وراءه؟ فالواضح أن الرجل لا يسأل كي يتعلم، بل لمجرد الجدل. فأشاح الحكيم بوجهه، وأمرني بالحضور يوم غد أيضاً. فقادني الفضول للموافقة. وخرجت وأنا أضحك في سرِّي من هذا الجدل العقيم. في المساء جلست أسترجع مجريات اليوم، فوجدتُ نفسي راغباً في استذكار تفاصيل الجدل والنقاط التي أُثيرت فيه. فقررت الذهاب مبكراً في الغد لسؤال الحكيم عن سر هذا الجدل، فأجابني بكلام فحواه أنها طريقة في العلم وليست سراً. وحين حضر الرجل، وبدأ النقاش، وجدت نفسي منخرطاً فيه، بالإصغاء حيناً وطلب التوضيح حيناً آخر. وفي نهاية اليوم، فهمت أن قناعتي بفكرة «العلم للعمل» قد حوَّلتني إلى ما يشبه جهاز التسجيل، أقرأ وأقول للناس ما قرأت، ويسألني شخص عن شيء فأجيبه بما قرأته أو سمعته من أستاذي أو ما قلته مرات كثيرة من قبل، حتى لقد شعرت أحياناً بأن الإجابة عن الأسئلة لا تحتاج إلى تفكير أصلاً، لأن كل الأسئلة معروفة وكل الأجوبة عنها جاهزة.

النقاش الذي تابعته هذا اليوم، أظهر أن الكثير من قناعاتي، بل المسلّمات الراسخة في ذهني، ضعيفة أمام النقد، وبعضها لا يقوم على برهان منطقي. لقد آمنت بها لأنني لم أعرف غيرها، ولأنني لم أواجه من يجادلها مثلما حصل اليوم.

التقيت الحكيم بعد ذلك بسنتين أو ثلاث، فسألني عن تلك الجلسة فأخبرته أنها كانت حجر زاوية في رؤيتي للأشياء. ثم سألته عن السبب الذي يجعل شخصاً مثلي يحشو ذهنه بالثوابت والمسلّمات، فأجابني بأن السبب هو الافتقار إلى البرج العاجي، وذكَّرني بقصة العلاقة بين العلم والعمل التي درستها في سنين الصبا. ثم قال إن التركيز على تلك العلاقة، يؤدي إلى انفعال النفس بالعلم القليل الذي نتعلمه، فنتبناه لا بوصفه معرفة عامة، بل على أنه شيء يخصّنا، ينتمي إلينا وننتمي إليه، فندافع عنه كما ندافع عن حقوقنا الشخصية وأملاكنا الخاصة، ونتعامل معه على أنه معيار للقرب والبعد والصداقة والعداوة، بيننا وبين الآخرين.

قال لي ذلك الحكيم إن اكتساب المعرفة العالية شرطُه الفصل بين العلم والعمل، والانغماس في العلم لذاته، والتفكير المتحرر من أي قيد ديني أو آيديولوجي، شخصي أو اجتماعي أو طبقيّ أو غيره، أي أن تلتحق بجماعة «الأبراج العاجية» الذين لا يهمهم شيء سوى التوصل إلى فكرة، مفيدة أو غير مفيدة، ولا يتركون هذا حتى لو قامت الدنيا ولم تقعد. هنا سوف تدرك عيوب أفكارك وتجادل قناعاتك، حتى لو لم تتخلَّ عنها. المهم أنك أمسيت عارفاً بما هو فكرة وما هو عاطفة. وذلك جوهر العلم.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

في كل المجتمعات التي تعيشُ وطأة الدكتاتورية ينصبُّ جهد الطاغية على خلق قطيعٍ من المؤمنين بأفكاره على سبيل القسر، فهو إيمانٌ خلق من القهر والخوف والقلق والترقب. أما في الجمهوريات التي يصنعُ فيها القطيعُ مؤمناً بقداسة الحاكم، فهذا المجتمع يتميزُ بالطاعة غير المشروطة، لأنها جاءت عن وعيٍ وإيمانٍ عميقين بهذا الكبير والمقدس. هذا النوع من القطيع من العسير أن يتغيرَ مكنون إيمانه، لأنه إيمانٌ خلقَ من جهلٍ مقدس. والمعروف حسب التاريخ الديني في كل الأديان أن رجال الدينِ على وعيٍ تامٍ بمتطلبات ترويض هذا القطيع أو ذاك. يميل المقدسُ مع ريح السائد من رغبات المجموع. فيعملُ على تدعيمِ أركان هذا المفهوم بعدد كبير من المعتقدات، من قبيل اختلاق المعجزات الوهمية، والكرامات الزائفة، وتأليف الحكايات الخارقة للعادة، حتى تمتد إلى أعمال خيرية باسم المقدس.

المعروف بل ومن لوازم أي دينٍ وطائفة، أن تكون لديه مصادر مالية بدونها لا يكتبُ النجاحُ والاستمرارُ له. تتعدد مصادرُ المال عند هذه المؤسسة المقدسة. مرة تسميها باسم النذر المقدس، ومرة باسم الزكاة، وأخرى باسم الصدقة، وأخرى باسم الخمس، والغنائم وغيرها. ولو اقتنعنا بأن الشريعة هي التي فرضت هذه الحقوق المالية، فمن ذا الذي يقنعني أن هذه الثروة توزعُ حسب قواعد الشريعة المالية؟!.

عرفنا من الروايات التي تنوء بها ثنايا الكتب التاريخية أن الخلفاء بعد النبي محمد، وخاصة أبو بكر وعمر وعلي، كانوا يقسمون كل ما يجمعونه من أموال بين أفراد المجتمع بكل شفافية ووضوح، بحيث يعرفُ كل إنسانٍ مقدار حقه وراتبه لو جاز التعبير. ورغم كل هذه الشفافية، تجدُ عدداً من الأفراد يشككون بأمر القسمة. في ذلك الزمن لم يهتم أو يفكر الحاكم ومنهم رسول الله بأمر استثمار هذه الأموال في التجارة مثلاً أو الزراعة لأن الناس كانوا فقراء، يؤمنون بالله الغني!!، وبمن يملأ أفواههم ليس إلا. أما في هذه الأيام وبالنظر إلى مقدار الأموال التي تجمع من الحقوق الشرعية بكل أصنافها، فالأمر لا يمكن أن يجري كما كان في ذلك الزمان. نعيش الآن في مجتمع رأسمالي منتج يتسابق مع عجلة التطور وحركة الأموال، واشتراكيٍّ على سبيل نجاة قد انجرف قسراً إلى الرأسمالية دون مقاومة. وحين نعود إلى المقدس، والمتولي لأمر هذه الأموال الطائلة، والتي تقدر بمليارات الدولارات، فلن نجد فرقاً بينه وبين النظام الاقتصادي العالمي، من ناحية استثمار كل هذا الكم من الأموال. ومن الجيد والمطلوب جداً أن تستثمرَ هذه الأموال في السوق المالية، تحسباً لمُجدِباتِ الزمن. لكننا حينما نتكلم عن حقوق مقدسة، تسمى حقوق الله والفقراء واليتامى والمساكين وابن السبيل وطلاب العلم والمرضى وما إلى ذلك من المحرومين، فإن الأمر لابد أن يختلف كثيراً. الفقراء والمساكين في المجتمع والمحرومون ومن لم يجدوا وسيلة للكسب، يشكلون الكثرة الكاثرة في مجتمع المسلمين هذه الأيام وخاصة في العراق. هذه الأموال المقدسة فُرضت إليهم، ولا دخلَ لأي أحد بها إلا ما كان من أمر جمعها وتوزيعها بينهم حسب الأصول الشرعية. لكن أن يصلَ الأمرُ إلى استثمار الأموال المقدسة في مشاريع (مقدسة) تحمل (أسماءَ مقدسة)، وتبنى في (مدن مقدسة)، وتكتب على أبوابها (لافتات مقدسة)، ويُعلنُ عنها في (القنوات المقدس)، ويديرها (كادر مقدس)، ويكتبُ عنها في (الكتب المقدسة)، وينادى عليها وإليها من (أماكن مقدسة)، ويُقصُّ شريطُها المقدسُ بأيدي المقدس، وتباعُ قداستُها إلى هؤلاء الفقراء أصحاب الحق الأول والأخير فيها فهذا هو (العهرُ المقدس) أو (المكرُ المقدس) حسب رأيي (غير المقدس)!!.

 تفتتحُ مستشفى تحمل اسماً مقدساً، ومن أجل تطمين القطيع وترويضه مدة عامٍ واحد فقط تقدمُ إليه الخدمات الطبية مجاناً (على افتراض تقديمها بالفعل)، ثم تتحولُ إلى مستشفى تمتصُ ما تبقى من دماءِ هؤلاء الفقراء ، أصحاب الحق المالي المقدس، فهذا ما لا يمكن أن أنعته إلا بالمكر المقدس!! وإلا لمَ لا تستمرُّ بالمجان؟

وليت عقيل ابن أبي طالب يعيش هذه الأيام لما حُرمَ من هذا المال الذي طلبه من أخيه الخليفة العادل، ولما احتاج إلى التذلل إلى معاوية فلدينا ألف معاوية وألف.

***

بقلم د. علي الطائي

 22-5-2024

بقلم: إلنا شوتز

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

فقط لأنك تعيش في جسد، لا يعني أنك تشعر بالاتحاد معه. علم نفس التجسيد يمكن أن يساعدك على إعادة التواصل

***

تخيل أنك تنظر في مرآة غرفة تغيير الملابس في متجر لبيع الملابس، وترتدي شيئًا لا يناسبك تمامًا. أثناء قيامك بسحب الجينز، تتبادر إلى ذهنك أفكار حول الشكل الذي يجب أن يكون عليه جسمك. أو تخيل نفسك جالسًا على مكتبك لساعات طويلة. جسمك يصرخ ليتمدد ويتحرك، لكنك تقمع الانزعاج وتستمر في الضغط. في كلا السيناريوهين – والعديد من السيناريوهات الأخرى – فأنت تتحدث مع نفسك عن جسدك كما لو كان شيئًا منفصلاً عن "أنت". الكثير منا اليوم يستمر بهذه الطريقة، متجاهلاً العلاقة العميقة بين العقل والجسد.

كنت أعتقد أن لدي علاقة جيدة مع جسدي وصورة جسدي صحية إلى حد ما. إذا سألتني إذا كنت أشعر بالارتباط بجسدي، ربما كنت سأنظر إليك في حيرة بعض الشيء، وفكرت في دروس اليوغا المنتظمة التي أمارسها وفي إحساسي العام بالرفاهية، وأومأت برأسي.

تغير كل شيء عندما بدأت أعاني من آلام مزمنة تمنعني من الحركة بسهولة وحرية كما في السابق. وفجأة غمر ذهني بالأفكار حول كيفية عمل جسدي وأن يكون أفضل. وبينما كانت تجربة جسدي دائمًا في قمة تفكيري، فإن آخر شيء أردت القيام به هو أن أكون في منزلي. أدركت أن التواصل الحقيقي مع جسدي كان أكثر تعقيدًا من مجرد التعامل بلطف مع نفسي من خلال زيادة الوزن.

كنت غاضبة مما كان يفعله جسدي بي، وفي البداية ظللت أحاول دفعه لتنفيذ إرادتي، وهو ما يعني عادةً القيام بأكثر مما هو معقول. إذا كنت قد حاولت التغلب على الإرهاق أو حتى الأنفلونزا القوية، فستعرف أن أجسامنا لا تقبل أن يتم التعامل معها على أنها عناصر تستخدم لمرة واحدة.

وأخيراً عقدت اتفاقاً مع نفسي. جلست على سرير هادئ في المستشفى بعد رؤية عدد لا يحصى من الأطباء، ووضعت يدي على أطرافي المؤلمة وهمست: "حسنًا، لقد فزت". أنا على استعداد للاستماع إلى ما تحتاجه، وليس فقط ما أريد.

في علم النفس، يُطلق على هذا النوع من الخطوات نحو ربط نفسك بجسدك اسم التجسد. يتعلق الأمر بإدراك أن تجربتك العاطفية والعقلية تؤثر بعمق على جسمك والعكس صحيح. سواء كانت تجربتك مع الانفصال الجسدي مثيرة مثل تجربتي، أو أكثر دقة، فإن تعلم كيفية التعرف عليه وإعادة الاتصال به له فوائده.

كيف يحدث الانفصال

قد تبدو فكرة الانفصال عن جسدك غريبة في البداية. قد يفترض المرء أننا متصلون تلقائيًا وبشكل مستمر. وفي حين أن هذا صحيح من الناحية العملية حيث أن الدماغ يتواجد في الجسم، إلا أن العديد من السيناريوهات أو الأنماط يمكن أن تعطل الاتصال النفسي والعاطفي. الألم الذي عانيت منه هو أحد الأسباب البارزة، ولكن هناك العديد من الأسباب الأخرى، بعضها اجتماعي أو خفي.

فكر في الطرق التي يستخدمها الأطفال ويستكشفون أجسادهم. عندما يسيطر الفضول أو الرغبة في الحركة على طفل صغير، يمكنك التأكد من أنه سيتبعه عن طريق الزحف أو الإمساك أو التمدد أو الثلاثة معًا! إذا شعروا بعدم الراحة الداخلية من أي نوع، فمن المرجح أن يخبروك بذلك بصوت عالٍ جدًا. ارتباطهم بأجسادهم لا يمكن إنكاره.

الآن، قارن هذا بالطريقة التي يعيش بها الكثير من البالغين، حيث يجلسون لفترات طويلة على مكتب وكرسي عاديين، ويأكلون في أوقات محددة. إذا تحدثنا عن احتياجاتنا وتجاربنا الداخلية، فعادةً ما تكون عابرة وبطرق مقبولة اجتماعيًا فقط.

تدفعنا جوانب الحياة في المجتمع الغربي الحديث نحو الانفصال الجسدي التدريجي

كتبت المعالجة هيلاري ماكبرايد في كتابها حكمة جسدك: العثور على الشفاء والكمال والتواصل من خلال الحياة المتجسدة (2021) ما يلي:

التجسيد هو الطريقة التي أنت بها في العالم، لكن هذا التجسيد يتأثر بما سُمح لك أن تكون عليه - من خلال ما تم تثبيطه وتشجيعه - وإحساسك بالأمان والقوة في كل ذلك.

بالنسبة للكثيرين منا، كان هناك خيبة أمل أكبر من العكس. في مكان ما على طول الطريق، طُلب منا أن نجلس ونتصرف بشكل جيد، وهو ما يعني عدم الاستماع لأنفسنا حقًا.

قد يكون المصدر الآخر للتحرر من الجسد هو الروايات التي أخبرتك بها بيئتك أو مجتمعك عن جسدك. إن المجموعة الدينية التي تروج للامتناع عن ممارسة الجنس باعتبارها نقاء قد تغرس شعوراً بالانفصال عن الرغبات الجنسية. قد يبدأ المراهق الذي يتعرض وزنه للانتقاد المستمر بالعمل كما لو أن جسده كله وجوعه سلبيان وغير جديرين بالاهتمام. ربما يكون شخص ما من عرق أو مجموعة مهمشة قد تعرض للعديد من الاعتداءات الصغيرة لدرجة أنه يبدأ دون وعي في التحرك عبر العالم كما لو أن شخصيته غير صالحة ومرحب بها.

هذه الأشكال من التحرر من الجسد موجودة بشكل خاص في الثقافة الغربية الحالية، والتي تركز على دفع الجسد إلى أقصى الحدود أو استخدامه بدلاً من العمل معه. يشرح لي عالم النفس الإكلينيكي سكوت ليونز أن الفجوة الملموسة بين العقل والجسد عمرها بضعة قرون فقط وهي في الغالب منظور غربي؛ تركز العديد من التقاليد العالمية الأخرى بشكل أكبر على العلاقة بين العقل والجسم. ضع في اعتبارك كيف تنطوي الممارسات الشرقية لليوجا والتاي تشي على وعي وتقدير متأصلين للجسم. تمثل هذه التقاليد في جوهرها بالفعل ما يسميه علم النفس الحديث بالتجسيد.

في حين أن بعض جوانب الحياة في المجتمع الغربي الحديث تدفعنا نحو الانفصال الجسدي التدريجي، إلا أن الانفصال المفاجئ يمكن أن يحدث أيضًا بعد تجربة مؤلمة. قد يحاول العقل حماية نفسه من الأذى من خلال محاولة الانعزال أو الانفصال عن الجسم لأن الصدمة حدثت بطريقة أو بأخرى داخل الجسم أو حوله. يمكن أن يصبح هذا التفكك عادة أو نمط رد فعل اللاوعي.

تعطيني المعالجة النفسية الجسدية مانويلا ميشكي ريدز مثالاً للمريض الذي يميل إلى الجلوس منحنيًا أو مكورا، دائمًا مع وضع ذراعيه أو ساقيه أمامه. ربما لا تكون على علم بذلك، ولكن نظرًا لأنك تعرضت للعنف الجسدي، فإن جسدك يحاول حمايتك باستمرار. ومع ذلك، إذا طلبت من المريض تحديد ما يشعر به جسده أو يختبره، فقد يكون التفكير فيه مخيفًا وقد يزيد من إحساسه بالضعف.

لماذا من المهم معالجة كونك شبحًا يمشي؟

على الرغم من أن مشكلة الانفصال الجسدي هي مشكلة نظامية وشائعة، إلا أنها غالبًا ما تمر دون أن يلاحظها أحد أو لا تؤخذ على محمل الجد. أحد الأسباب هو أنها تميل إلى الظهور على أنها صرخة مؤسفة لطلب المساعدة بدلاً من مجموعة واضحة من "الأعراض".

في حالتي، ركزت بشدة على الألم الجسدي وأسبابه المحتملة، ولم آخذ على محمل الجد مدى تأثير موقفي تجاه جسدي على تجربتي الشاملة في هذا الوقت العصيب. كثيرًا ما شعرت بالغضب والإرهاق العاطفي، مما جعل من الصعب علي أن أتعرف عقلانيًا وعمليًا على ما أحتاجه للشفاء.

ولأنني لم أكن على اتصال بجسدي، فقد جعلتها العدو في ذهني. المشكلة الواضحة في هذا، والعديد من أشكال التحرر من الجسد، هي أننا في نهاية المطاف نفتقد الإجابة، التي تكمن حرفيًا داخل أنفسنا.

نحن بعيدون جدًا عن التواصل، لدرجة أننا لا نعرف ما هو المفقود

ويصفه ليونز بأنه شبح يمشي: "قد تكون تقود سيارتك في مكان ما وتفوتك المخرج". هذا هو السير في الحياة بدون تجسد؛ الافتقار المستمر للحميمية الحقيقية بين الآخرين وداخل نفسك، وعدم القدرة على الاستماع إلى رغباتك ودوافعك واحتياجاتك وتسجيلها. وبعبارة أخرى، نحن منفصلون للغاية لدرجة أننا لا نعرف ما هو مفقود.

عندما يتصرف الناس انطلاقًا من هذه الحالة غير المجسدة، غالبًا ما تكون التكلفة باهظة ولكنها تبدو غامضة. قد تبدو وكأنها انفجارات عاطفية تبدو غير متناسبة مع الوضع الحالي، ولكنها في الواقع تمثيل لمعتقد أو شعور مخفي منذ فترة طويلة. في حالتي، كان ذلك يعني أنني سأدفع نفسي مرارًا وتكرارًا إلى ما هو أبعد من حدود جسدي، مثل حضور الأحداث عندما كنت أشعر بألم شديد لأنني لم أرغب في مواجهة الواقع، ومسؤولية أن أكون لطيفة مع نفسي.

بعض الخطوات نحو الاتصال

بالنظر إلى الأسباب والآثار الواسعة النطاق للانفصال الجسدي، لن يكون من المفاجئ أنه لا يوجد حل واحد يناسب الجميع لتطوير إحساس أكبر بالتجسيد.

قد تبدو فكرة أن جسدك جيد، أو شريكك أو منزلك، فكرة بسيطة ووقحة، لكن فهم ذلك هو جوهر التجسيد. في كتابها Somatic Psychotherapy Toolbox (2018)، تقدم ميشكي ريدز أوراق عمل تصف ذلك بأنه "تكوين صداقات مع جسدك"، مثل لمس أجزاء من جسدك بلطف لتصبح أكثر وعيًا بها. يتضمن تمرين التحدث إلى نفسك بلطف عبارات مثل: "أرحب بك. أنا أحبك/أقبلك أيضًا. شكرًا لك." يمكن أن تكون هذه الأفكار والممارسات الإيجابية نقطة انطلاق لتعزيز الشعور الصحي بالجسد، لأنها تتعارض مع المعتقدات والعادات التي تساهم في الانفصال.

خطوة أخرى بسيطة ولكنها مهمة هي إيلاء المزيد من الاهتمام لما يحدث في جسمك. وتوصي ميشكي ريدز بأسئلة استفسارية يمكنك طرحها على نفسك أثناء جلوسك أو المشي، مثل: "ماذا أشعر؟" ما الذي أشعر به؟ ما هي تجربتي الآن؟ يجب أن تركز هذه الأسئلة على ما يشعر به جسمك وما يستشعره. لو كان بامكانها أن تحكي لك قصة، ماذا ستكون؟ قد يكون من المفيد البدء في تتبع ذلك بمرور الوقت، وطرح هذه الأسئلة على نفسك بانتظام ورؤية كيفية ظهور التغييرات.

على سبيل المثال، دعونا نتخيل شخصًا تعرض للعنف، خاصة في مرحلة الطفولة، ولديه عادة جعل جسده صغيرًا وحذرًا، مما يعكس ويعزز أن العالم ليس مكانًا آمنًا. بالنسبة لهذا الشخص، فإن استكشاف هذا الوضع والبدء في توسيعه بعناية يمكن أن يكون جزءًا من تطوير اتصال أكثر صحة بجسده.

يمكن أن تساعدك تمارين التحرير الجسدي، مثل هز جسمك، على الشعور بمزيد من التواصل

هناك خطوة أخرى يمكنك تجربتها بنفسك وهي تحريك جسمك بعناية. يمكن أن يكون المشي والرقص وممارسة الرياضة جزءًا من جعلنا أكثر وعيًا وارتباطًا بأجسامنا. يمكن أن تساعدك تمارين التحرير الجسدي، مثل هز جسمك، على الشعور بمزيد من الوعي والتواصل. هناك علاجات أكثر رسمية وشمولية حول هذا الأمر، مثل تمارين التخلص من التوتر والصدمات (TRE)، ولكن هز جسمك لمدة تتراوح بين 10 إلى 30 ثانية في الصباح والمساء يمكن أن يكون مساحة جيدًا للبدء.

غالبًا ما يحدث التحرر من الجسد بسبب مشاعر أو تجارب غير معالجة من الماضي والحاضر. إذا كان هذا ينطبق عليك، فيجب عليك التفكير في مسار العمل الذي سيساعدك على التعامل معه بشكل بناء وآمن. تقول ليونز: "عندما تقوم بمعالجة الأشياء التي لم يتم تفعيلها أو الاحتفاظ بها في جسمك، فجأة، هناك مجال لإعادة الاتصال."

على سبيل المثال، يمكنك كتابة يومياتك أثناء وبعد تجربة بعض التمارين التي ذكرتها. إن جلب الوعي بجسمك إلى أشكال أخرى من العمل الشخصي أو النفسي الذي تقوم به بالفعل يمكن أن يساعد أيضًا - سواء كان ذلك التحدث مع المعالج الخاص بك، أو الذهاب إلى فصل التمارين الرياضية أو أي شيء آخر.

إذا وجدت أن فكرة التحرر من الجسد تسبب لك صدمة أعمق أو هي شيء تريد معالجته بشكل أكثر شمولاً، فإن العمل مع معالج متخصص في هذا المجال يمكن أن يفتح مستويات رائعة من التواصل. تعد منصة التعلم الخاصة بشركة ليونز، Embody Lab، أحد الأماكن لبدء استكشاف الطرائق العلاجية.

رريمارس ميشكي ريدز طريقة هاكومي. هذا العلاج النفسي موجود منذ أكثر من 40 عامًا ويتضمن اليقظة الذهنية والتدخلات الجسدية العملية التي تركز على تحويل المعتقدات التي تنقلها التجارب التكوينية واستعادة "التجارب المفقودة" الإيجابية. إن التجربة الجسدية، التي طورها بيتر ليفين، هي طريقة مشابهة ومستخدمة على نطاق واسع تركز على معالجة وقبول وإطلاق الطريقة التي تنتقل بها الصدمة داخل جسمك.

حق أصلي، إعادة الاتصال

أفضل طريقة للتفكير في التجسيد هي عملية وممارسة في نفس الوقت. عندما تدرك لأول مرة كيف ولماذا انقطع اتصالك داخليًا، قد يبدو الأمر كاشفًا ومؤثرًا للغاية. لقد وجدت أنني أدركت فجأة دور جسدي في كل شيء. جزء كبير من هذا هو إدراك ما منعك من التواصل.

بالنسبة لي، كانت تلك اللحظة في سرير المستشفى، إلى جانب العديد من اللحظات الصغيرة الأخرى المشابهة، نقطة تحول. وكان كتاب ماكبرايد الآخر هو الذي شجعني على أن أقول بصوت عالٍ أنني هذا الجسد. بكيت عندما أدركت أنه لا بأس في البقاء على اتصال والشعور وكأنني في بيتي مع نفسي، حتى عندما دفعني الألم والضغوط الاجتماعية في الاتجاه المعاكس.

ولكن مثل العديد من لحظات "آها"، وجدت أن هذا يصبح استثمارًا أطول وأكثر هشاشة، وقد ينطبق هذا عليك أيضًا. يحذر ليونز من أن هذا ليس في الأساس تمرينًا فكريًا. وكما أنه من غير الممكن "فهم الفرح من الناحية النظرية"، فإنه يقول إن التجسيد "شيء يمكنك تجربته فقط".

في النهاية، التجسيد هو شيء تستوعبه في علاقة صحية وناضجة مع نفسك، وليس عملاً نفسيًا. تقول ديردري فاي، معالجة الصدمات ومؤلفة كتاب "أن تصبح مجسدًا بأمان" (2021)، "إنها مهمة تنموية أن أصبح شخصًا بالغًا لأدرك أنني يجب أن أعرف نفسي، وأعرف ما أحتاج إليه وأريده، حتى أتمكن من أن أكون على علاقة مع العالم."

بينما تتدرب على الشعور بمزيد من الارتباط، نأمل أن تجد سهولة طبيعية في ذلك، وطريقة جديدة للاستماع إلى تجربتك وفهمها. لا أستطيع أن أسمي نفسي متجسدة بشكل كامل، أو حتى جوهريًا، لكن القيام بهذا التحول المتعمد لإعادة الاتصال أكثر بجسدي قد غيّر حياتي. يظهر هذا بقوة في كيفية تعاملي مع نفسي عندما أشعر بالألم. أنا الآن قادرة على أن أعيش اللحظة، وأستمع إلى جسدي، وأسمح بالتجربة دون الرغبة في تغييرها على الفور. عندما أمارس هذه الطريقة في الارتباط بجسدي، يصبح من الأسهل الاستماع إلى ذاتي بالكامل في مجالات أخرى، مثل غرفة تغيير الملابس الرتيبة بمراياها.

قد يبدو ذلك بسيطًا. ولكن من الطبيعي والمجزي بشكل رائع قبول تجارب جسدك والسماح بها والتحرك ببطء نحو اتصال أقوى. يقول فاي: "أعتقد أن هذه هي طريقتنا الطبيعية". "هذا هو المكان الذي توجد فيه قلوبنا وأرواحنا، إنها عملية وربما لن تحدث أبدًا."

***

.......................

الكاتبة: إلنا شوتز /Elna Schützis  صحافية مستقلة ظهرت أعمالها في مجلة The Economist وعلى قناة BBC. تتراوح اهتماماتها بين الأعمال التجارية والعلوم والصحة، مع التركيز بشكل خاص على الصحة العقلية وحقوق الإنسان. وقد فاز عملها بعدد من الجوائز، وهي تشارك في تدريب الآخرين وتسهيل التواصل. وهي تعيش في جوهانسبرغ، جنوب أفريقيا.

https://psyche.co/ideas/you-are-your-body-heres-how-to-feel-more-at-home-in-it

عاشت الفلسفة ردحًا من الزمن في اغتراب ما ورائي، شغلت الإنسان عن واقعه وسنن الطبيعة، فكانت علة الوجود الأولى أخذت حيزًا كبيرًا من رؤيته وتفلسفه، ثم الإغراق في كشف صفاته وعلاقته بالمتناهي، وهل هو خارج عنه أو فيه أو هو ذات سننه ووجوده، حينها كان التفلسف في معرفة الذات والآخر والوجود ثم اللامتناهي ما يبرره، حتى جاء عصر الأنوار، فنقل الإنسان إلى البحث في الذات والطبيعة من خلال ما يصلح الإنسان في هذا الوجود، ومن خلال علوم مختلفة نشأت عنها، كالأخلاق والدولة والدستور وحقوق الإنسان والجمال والنظام وقيمه الكبرى، فلم يعد العدل مثلا في اغترابه الماورائي، بل أصبح لصيقًا بالإنسان كقيمة كبرى في علاقته مع ذاته والآخر، من الأسرة إلى نظام العمل والدولة.

ومن يحضر بعض مؤتمرات الفلسفة في عالمنا العربي يجد عناوين كبرى تلامس الواقع المعيش، وهذا شيء حسن، بيد أنه يجد العديد من ورقات المؤتمر لا تريدك أن تخرج من اغترابات اليونان أو العهد الوسيط، أو حتى اغترابات المصطلحات المعاصرة، فتعيش في اغتراب آخر يماثل الاغتراب الماورائي، وبعض الأوراق أشبه بقاموس أسماء الفلاسفة، وكأنه يستحضر أنه يحفظ عشرات الأسماء وطرقهم الفلسفية، وبعض الأوراق لا تتجاوز «تهافت الفلسفة» «وتهافت التهافت»، فأصبحت الفلسفة أقرب إلى جدليات يربط الواقع بها لا أن تربط بالواقع، ويرهن الحاضر بظرفيتها لا أن ترهن بظرفية الواقع، فهناك من يلبس لباس الفلسفة المعاصرة، لكنه لا يتجاوز اغترابات المصطلحات الفلسفية وعلماء الفلسفة والجدليات العللية البعيدة عن الواقع المعيش.

لست هنا في موقع الحجر في دراسة المباحث الفلسفية الماضوية والمعاصرة، ولكني أجد عناوين كبرى في مؤتمرات فلسفية ترتبط بواقع الإنسان المعاصر، من الذات والمجتمع وحتى العلاقات الدولية، ومن البيئة والحدود القطرية إلى الطبيعة والعالم الأوسع، لتبحث في مشكلاته، وتسعى لإحداث حلول لواقعه، في شيء من التفلسف والتعقل والبحث والنظر، لكنك لا تخرج في الجملة عن نسخ ولصق ما يقال في هذا المؤتمر، هو ذاته ما سيقال في مؤتمر آخر، من جدليات المشائين والوراقين، إلى جدليات العصر الوسيط، مع ربطها بنظريات فلسفية معاصرة، أكثر من كونها إبداعا ذاتيا، فتضعف التجربة الذاتية في محاولة علاج القضايا البشرية والطبيعية والوجودية المعاصرة، بشيء من الإبداع والتفلسف الذاتي، وليس الاغتراب في المصطلحات والرموز والعلل الفلسفية التي تجدها بسهولة في قواميس وكتب الفلسفة، خاصة عن طريق التقنيات المعاصرة.

ومثيل هذا ما تجده في بعض المؤتمرات الفقهية، فتضع عناوين معاصرة، لقضايا اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية في واقعنا الراهن، بتعقده وفلسفاته، وبتداخل نظرياته، ولكن أوراقها أو بعضها لا تتجاوز تفكير عهد السلف بنصوصه ومروياته، وإن تجاوزت إلى عصر المقاصد بكلياته الخمس أو الست، فتكون رهين تلك اللحظات التأريخية، وتريد أن تضيق العالم الواسع وتختزله في تفكير ماضوي له ظروفه وأسبابه ومشاكله الزمكانية الخاصة به، فيرتفع الإبداع في مناقشة قضايا الواقع الراهن.

ومقصدي هذا أنني لست ضد دراسة المباحث الفلسفية الماضوية والمعاصرة، في جوها الموضوعي والتقني البحت، فهذه حالة ليست سيئة، كما أنني لست ضد دراسة المفاهيم الفقهية والأصولية والكلامية في جوها المعرفي الموضوعي والتقني الخاص بها، ولكن أن نضع عناوين معاصرة لمناقشة وتحليل مشكلات الإنسان المعاصر، بينما تجد الأوراق المطروحة لا تريد أن نتجاوز ذات الاغترابات التي جاءت الفلسفة لتفكيكها، والبحث عن الإنسان وصلاح وجوده في الحياة، وتحقيق قيمه الكبرى في الوجود، فتجعلك مثل هذه الأوراق إما نسخا ولصقا لقضايا قتلت بحثا، أو تعيش اغترابا مصطلحيا أكثر منه إبداعا فلسفيا ومعرفيا، وقد تصبح بعض الأوراق المقدمة أقرب إلى الطلاسم، هدفها إظهار العضلات، وبأنه يحفظ رموزا فلسفية ماضوية ومعاصرة، أكثر منه إبداعا ذاتيا، يظهر فيها رؤية الباحث، واستقلال تفكيره، ونتاج دراسته وتأمله، ونقد واقعه، واستلهام مستقبلة، بحيث يقدم رؤية فلسفية إصلاحية واقعية، توجد حلولا لقضايا الإنسان الكبرى، وواقعه المعيش.

نعم، قد تكون من المؤتمرات أو الملتقيات التي أعدت سلفا في مناقشة القضايا الفلسفية في جوها التأريخي والموضوعي والتقني، في أوراق علمية محكمة، شأنها كشأن المجلات المحكمة، والتي تركز على القضايا الفلسفية البحتة، فهذا شأن آخر تماما يختلف عن مقصدنا، فهو حالة صحية بذاته، لا يمكن بحال الاستغناء عنه، ولا يمكن اليوم مثلا ترك المعارف في العهد الوسيط مثلا، فنحن بحاجة إلى إعادة قراءتها من خلال الذات، أو من خلال المعارف المعاصرة، لكن أن نعيش في اغترابها، مقابل عناوين معاصرة، أو نرهن الواقع بظرفيتها، فهذا موضع الإشكال، إذا لن يختلف العقل الفلسفي هنا عن العقل الفقهي، فكلاهما عقل سلفي تقليدي، الاختلاف فقط في اللباس، فهذا يلبس لباس الفلسفة، وذاك يلبس لباس الفقه، بيد أن التفكير واحد بينهما، تفكير نتاجات القرون الأولى، ونسخ لإبداعهم في ظرفية مختلفة تماما، مع رهن الواقع المعاصر بها.

أتصور أننا بحاجة أن نخرج المؤتمرات أو الملتقيات الفلسفية أو حتى الفقهية والأصولية والكلامية، وعموم الدراسات الإنسانية، من جوها الماضوي والتكراري، إلى جو آخر من النقد والإبداع وظهور رؤية الباحث ونظريته الخاصة، خصوصا إذا كانت القضايا المراد علاجها متعلقة بالواقع المعيش، وبقضايا الإنسان الكبرى، وبرهان مستقبله في ضوء المتغيرات المعاصرة، حتى لا ندور في دائرة الاغتراب الذي جئنا لتفكيكه من حيث الابتداء.

***

بدر العبري – كاتب وباحث عماني

 

كثر الحديث عن التسامح في الفلسفة والأديان وعلم النفس وعلم الأجتماع وغيرها من العلوم الأنسانية لما في التسامح من قيمة اخلاقية وسلوكية في نبذ الكراهية في داخل المجتمع الواحد بكل مكوناته وبين المجتمعات العالمية التي تتنوع في بنيتها الثقافية والفكرية والسلوكية والأخلاقية أنطلاقا من مكانة الأنسان بأعتبارها قيمة اخلاقية عليا بغض النظر عن التنوع الذي تتسم به المجتمعات الانسانية بصورة عامة وكذلك الأفراد في داخل كل مجتمع.

يشهد مجتمعنا العراقي حراكا على مختلف الأصعدة السياسية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية بما ينذر بتحولات في الأخلاق والسياسة والمرجعيات العقائدية وهي ناتجة بمجملها من انفتاح العراق على العالم الخارجي وعلى المجتمعات القريبة والبعيد عنا بفعل عوامل التواصل التكنومعلوماتية بما يجعل الناس تقترب من مختلف المعارف والابتعاد نسبيا عن عوامل الأيمان المتحجر وتتصارع هنا المسحتان السلبية والأيجابية في هذا الأنفتاح إلى جانب أزمة اقتصادية واجتماعية خانقة منذ عقود تهدد المنظومة الفكرية والأخلاقية وتضفي على الصراع الدائر مسحة تدميرية تستهدف ألغاءالآخر وتشظيته واقصائه وتصفيته عن المشهد المجتمعي.

في خضم هذا الصراع المعقد هناك حراك ايجابي وإن كان بطيئ دون مستوى الطموح يجسده انتقال الكثير من الأفراد التي تمتلك جمهورا او مساحة من التفاعلي الأجتماعي المؤثرة، تنتقل من معسكرها الفكري التقليدي الى معسكر اليسار الأجتماعي وليست اليسار السياسي وقد اقتنعت الكثير من هذه الفئات أن الأسلام السياسي ليست هو الحل بل هو جزء من المشكلة وفي وسط هؤلاء حالات من المعممين والتي تظهر على وسائل التواصل الأجتماعي منتقده انتمائها السابق ومعلنة الخروج عن الطاعة العمياء.

هذه الأستثناءات يجب التعامل معها من قبل القاعدة المجتمعية برحابة الصدر والقبول والتسامح وليست بسلوكيات الرفض والتشكيك واستخدام ماضيهم ذريعة للهجوم عليهم واضفاء عدم الجدوى فيهم او اتهامهم بأنهم أناس متحايلين ولهم أجندة خاصة او التنمر عليهم في وسائل التواصل الاجتماعي واستدراجهم لمقابلات صحفية لغرض اهانتهم وتوجيه الرأي العام سلبا نحوهم. إن من ثقافة القاعدة المجتمعية اذا أرادت  تشكيل بديل مجتمعي متقدم عليها قبول الأستثناءات وتوفير فرص الاندماج السلوكي والفكري للآخرين المغايرين فهم طاقة لا يمكن الاستهانة بها ويشكلون رافدا مهما في التنوع الفكري لليسار الأجتماعي كما أن قبولهم يشكل رافدا وسدا منيعا لعدم تقهقرهم ثانية.

أزمة التسامح في مجتمعنا هي أزمة مستعصية ولا يمكن معها بناء مجتمع متسامح بتنوعاته المعرفية والفكرية والدينية والمذهبية ويتزامن هذا مع أزمة بناء دولة المواطنة التي لا تعترف بالتنوع بكل مدياته بل تختزل الدولة والمواطن بالانتماء العرقي والمذهبي وتختزل الحق بالأنتماءات الفرعية المذهبية والعرقية والمناطقية عبر تحالفات حزبية غير نزيهة بذات الصلة، ليست هدفها خدمة المكونات بل الأفساد فيها.

أزمة التسامح هذه تطال أيضا المتحولين جنسيا' وبعيد عن بعض من سلوكياتهم المخلة والتي يفترض ان يحاسب عليها القانون في ظروف عامة قانونية وحكومية صحية وبما لا يؤثر ويسيئ إلى حريات الآخرين' فأن تلك الفئات تشكل استثناء في كل مجتمعات العالم وغالبا ما يعيش الاستثناء إلى جانب القاعدة ويعيشان حالة من الحراك الداخلي بعيدا عن السبي والقتل والتنكيل.

المتحولون جنسيا هم ليس مجتمع بحد ذاته بل هم افراد في المجتمع ويخضعون كغيرهم للمسائلة والقانون حول سلوكياتهم عندما يتم التجاوز على حرية الآخرين أسوة بغيرهم في المحيط الاجتماعي ' ولكن هشاشة الدولة واجهزتها ودخول تلك الفئات في إطار مافيات تصفية ثأرية والأستعانة بالمتحولين والبلوكرية يجعل منهم أزمة مجتمعية.

لقد تطور مفهوم التسامح عبر الحقب الزمنية المتتالية حتى اصبح يعني احترام حرية الآخر وطرق تفكيره وسلوكه وآرائه السياسية والدينية، وأن التسامح يعني قبول آراء الاخرين وسلوكهم على مبدأ الاختلاف، وهو يتعارض مع مفهوم التسلط والقهر والعنف، ويعد هذا المفهوم من أحد أهم سمات المجتمع الديمقراطي الذي يطمح العراقيون لبنائه. فالتسامح مع الآخر المختلف هو ليست هبة وفضل يمن به حزب سياسي او حكومة على مكون اجتماعي او على الأفراد بل هو قيمة اخلاقية واجتماعية للمجتمعات الديمقراطية او التي تريد ان تبني مجتمع ديمقراطي، وهو مؤشر لتماسك المجتمع بكل مكوناته وهو ضمانة للسلم الأهلي والامتناع عن حروب المكونات الطائفية والمذهبية والعرقية والفكرية والسياسية. والتسامح لا يعني ابدا التهاون مع من يهدد أمن المجتمع او الدعوة الى تعريض المصالح الوطنية للخطر او التخابر مع الأجنبي ضد سيادة الوطن أو سرقة المال العام واشاعة الفساد الأداري والمالي.

وفي الدورة الثامنة والعشرين التي استضافتها العاصمة الفرنسية باريس من عام 1995 حدد المؤتمر العام لمنظمة اليونسكو معنى التسامح في اعلان (مبادئ بشأن التسامح) حيث يرى فيه ما يلي:

1ـ إن التسامح يعني الاحترام والقبول والتقدير للتنوع الثري لثقافات عالمنا ولأشكال التعبير وللصفات الإنسانية لدينا. ويتعزز هذا التسامح بالمعرفة والانفتاح والاتصال وحرية الفكر والضمير والمعتقد. وأنه الوئام في سياق الاختلاف، وهو ليس واجبا أخلاقيا فحسب، وإنما هو واجب سياسي وقانوني أيضا، والتسامح، هو الفضيلة التي تيسر قيام السلام، يسهم في إحلال ثقافة السلام محل ثقافة الحرب،

2 ـ إن التسامح لا يعني المساواة أو التنازل أو التساهل بل التسامح هو قبل كل شئ اتخاذ موقف إيجابي فيه إقرار بحق الآخرين في التمتع بحقوق الإنسان وحرياته الأساسية المعترف بها عالميا. ولا يجوز بأي حال الاحتجاج بالتسامح لتبرير المساس بهذه القيم الأساسية. والتسامح ممارسة ينبغي أن يأخذ بها الأفراد والجماعات والدول.

3 ـ إن التسامح مسؤولية تشكل عماد حقوق الإنسان والتعددية (بما في ذلك التعددية الثقافية) والديمقراطية وحكم القانون. وهو ينطوي علي نبذ الدوغماتية والاستبدادية ويثبت المعايير التي تنص عليها الصكوك الدولية الخاصة بحقوق الإنسان.

4 ـ ولا تتعارض ممارسة التسامح مع احترام حقوق الإنسان، ولذلك فهي لا تعني تقبل الظلم الاجتماعي أو تخلي المرء عن معتقداته أو التهاون بشأنها. بل تعني أن المرء حر في التمسك بمعتقداته وأنه يقبل أن يتمسك الآخرون بمعتقداتهم. والتسامح يعني الإقرار بأن البشر المختلفين بطبعهم في مظهرهم وأوضاعهم ولغاتهم وسلوكهم وقيمهم، لهم الحق في العيش بسلام وفي أن يطابق مظهرهم مخبرهم، وهي تعني أيضا أن آراء الفرد لا ينبغي أن تفرض علي الغير.

كما حدد الأعلان دور الدولة في اشاعة قيم التسامح وحماية المجتمعات من التعصب بمحتلف اشكاله ولخصها بما يلي:

1 ـ إن التسامح علي مستوي الدولة يقتضي ضمان العدل وعدم التحيز في التشريعات وفي إنفاذ القوانين والإجراءات القضائية والإدارية. وهو يقتضي أيضا إتاحة الفرص الاقتصادية والاجتماعية لكل شخص دون أي تمييز. فكل استبعاد أو تهميش إنما يؤدي إلي الإحباط والعدوانية والتعصب.

2 ـ وبغية إشاعة المزيد من التسامح في المجتمع، ينبغي للدول أن تصادق علي الاتفاقيات الدولية القائمة بشأن حقوق الإنسان، وأن تصوغ عند الضرورة تشريعات جديدة لضمان المساواة في المعاملة وتكافؤ الفرص لكل فئات المجتمع وأفراده.

3 ـ ومن الجوهري لتحقيق الوئام علي المستوي الدولي أن يلقي التعدد الثقافي الذي يميز الأسرة البشرية قبولا واحتراما من جانب الأفراد والجماعات والأمم. فبدون التسامح لا يمكن أن يكون هناك سلام، وبدون السلام لا يمكن أن تكون هناك تنمية أو ديمقراطية.

4 ـ وقد يتجسد عدم التسامح في تهميش الفئات المستضعفة، واستبعادها من المشاركة الاجتماعية والسياسية، وممارسة العنف والتمييز ضدها. وكما يؤكد الإعلان بشأن العنصر والتحيز العنصري فإن "لجميع الأفراد والجماعات الحق في أن يكونوا مختلفين بعضهم عن بعضٍ‘‘.

بالـتأكيد ان قيم التسامح الديني والفكري والعقائدي وقبول الآخر المختلف هو ضمانة وصمام أمان لبناء المستقبل وضمانة اكيدة لترسيخ السلم المجتمعي وهو مؤشر لديمقراطية راسخة لا تتأثر بمزاج حزب سياسي او قائد ميداني يرى في الفرقة والخداع ضالته في البقاء، والتسامح مبني على قيم الحق والعدل والجمال، فلا تسامح مع مرتشي او قاتل ارهابي او متحايل على الديمقراطية او سارق للمال العام او من يصدر الفتنة الطائفية والعرقية بواجهات محتلفة، لأن جميعها شرور والتسامح مع الشر يعني اعادة انتاجه، والتسامح هنا يعني ضمانة تطبيق القانون بالتساوي على الجميع دون تميز وحسب الأفعال.

***

د.عامر صالح

الحرب، بطبيعتها، هي نشاط وحشي وعنف غالبا ما يبرز الأسوأ في الإنسانية. في أوقات الحرب، يتم دفع الناس إلى حدودهم، ويجبرون على اتخاذ قرارات صعبة، وشهود أعمال العنف التي لا توصف. يمكن لضغوط الحرب وصدمة الحرب أن تلبس حتى أقوى الأفراد، مما يؤدي إلى حل وسط قيمهم الأخلاقية باسم البقاء على قيد الحياة أو النصر. سوف يستكشف هذا المقال كيف تولد الحرب الأخلاق المنخفضة وتدهور النسيج الأخلاقي للمجتمع.

في أوقات الحرب، تصبح الخطوط الفاصلة بين الصواب والخطأ غير واضحة حيث يتم إجبار الأفراد على الاختيار بين بقائهم الخاص والصالح الأكبر. في مثل هذه المواقف عالية الضغط، قد يلجأ الناس إلى تكتيكات غير أخلاقية من أجل الحصول على ميزة على أعدائهم. هذا يمكن أن يشمل أعمال الخداع أو الخيانة أو حتى العنف ضد المدنيين الأبرياء. إن الرغبة في الفوز بأي ثمن يمكن أن تؤدي إلى التخلي عن بوصلة الأخلاقية والانخراط في أعمال لن يفكروا فيها أبدًا في أوقات السلام.

يمكن أن يؤدي تجريد العدو خلال زمن الحرب إلى نقص التعاطف والتعاطف مع الآخرين. عندما ينظر الأفراد إلى أعداءهم على أنهم تحت الإنسان أو لا يستحقون الحقوق والكرامة الأساسية، يصبح من الأسهل تبرير أعمال العنف أو القسوة ضدهم. يمكن أن يكون لهذا التجريد آثارًا طويلة الأمد على المجتمع، لأنه يأكل القيم الأساسية للتعاطف والاحترام للآخرين.

يمكن أن تؤثر الإجهاد وصدمة الحرب على الصحة العقلية للأفراد، مما يؤدي إلى انهيار القيم الأخلاقية والسلوك الأخلاقي. قد يطور الجنود الذين يعانون من أهوال الحرب أعراض الصدمة، مثل اضطراب ما بعد الصدمة، والتي يمكن أن تزعج حكمهم وتؤدي إلى سلوك مدمر. يمكن أن يؤدي التعرض المستمر للعنف والموت إلى إزالة حساسية الأفراد لمعاناة الآخرين، مما يسهل عليهم ارتكاب أعمال القسوة دون ندم.

إن ثقافة الحرب غالباً ما تمجد العنف والعدوان، وتشجيع عقلية "قد تجعل الصواب" وتبرير استخدام القوة لتحقيق أهداف الفرد. يمكن أن يؤدي هذا التطبيع للعنف إلى إزالة الحساسية لعواقب تصرفات الفرد، مما يسهل على الأفراد تبرير السلوك غير الأخلاقي باسم الوطنية أو الواجب. إن نشر الحرب كمسعى نبيل وبطولي يمكن أن يشوه تصورات الأفراد عن الصواب والخطأ، مما يؤدي إلى الانخراط في سلوك غير أخلاقي دون تردد.

بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن تخلق ديناميات القوة في الحرب أرضا تكاثر للفساد وإساءة استخدام السلطة. في أوقات الصراع، قد يستغل الأفراد في مناصب السلطة سلطتهم لتحقيق مكاسب شخصية أو لتعزيز جداول أعمالهم. قد ينطوي ذلك على اختلاس الأموال، أو إساءة استخدام السجناء، أو التلاعب بالرأي العام لتحقيق مكاسب سياسية. يمكن أن يخلق الفوضى وعدم استقرار الحرب فرصا للأفراد للعمل دون عقاب، مما يؤدي إلى انهيار المعايير الأخلاقية والمساءلة.

إن الدمار العام والدمار الناجم عن الحرب يمكن أن يخلق شعورا باليأس واليأس بين السكان المدنيين، مما يؤدي إلى انهيار المعايير الاجتماعية والقيم الأخلاقية. يمكن أن يترك فقدان المنازل وسبل عيشهم وأحبائهم الناس يشعرون بالضعف والعاجزة، مما يؤدي إلى اللجوء إلى تدابير يائسة للبقاء على قيد الحياة. قد يتضمن ذلك أعمال النهب أو العنف أو الخيانة من أجل تأمين الضروريات الأساسية مثل الطعام والمأوى. يمكن أن يؤدي انهيار النظام الاجتماعي في أوقات الحرب إلى خلق مناخ من الفوضى والانحطاط الأخلاقي، حيث يضطر الأفراد إلى إعطاء الأولوية لبقائهم على قيد الحياة قبل كل شيء.

إن الطبيعة الطويلة للحرب الحديثة يمكن أن تخلع الأفراد إلى عواقب أفعالهم، مما يؤدي إلى شعور بالتخدير الأخلاقي واللامبالاة. إن التعرض المستمر للعنف والمعاناة يمكن أن يملأ شعور الأفراد بالتعاطف والرحمة، مما يسهل عليهم أن يغضوا عن معاناة الآخرين. يمكن أن يكون لهذا الخدر الأخلاقي عواقب بعيدة المدى، لأنه يقضم القيم الأساسية للإنسانية واللياقة الضرورية لمجتمع سلمي وعادل.

تولد الحرب الأخلاق المنخفضة من خلال دفع الأفراد إلى حدودهم، وإزالة الإنسانية من العدو، مما يعزز العنف والعدوان، وتعزيز الفساد وإساءة استخدام السلطة، وخلق شعور باليأس واليأس، وتهريب الأفراد إلى عواقب أفعالهم. يمكن أن تلبس الصدمة وضغط الحرب حتى أقوى الأفراد، مما يؤدي إلى حل وسط قيمهم الأخلاقية باسم البقاء أو النصر. من الضروري للمجتمع أن يدرك الآثار المدمرة للحرب على القيم الأخلاقية والعمل على خلق ثقافة السلام والتعاطف التي تقدر حياة الإنسان قبل كل شيء من خلال التزام جماعي للتقليل من آثار الحرب.

***

محمد عبد الكريم يوسف

بقلم: آن ألكيما وماركو بوكس

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

إن كشف المسارات من الأشكال المختلفة لسوء معاملة الأطفال إلى المرض العقلي يمكن أن يؤدي إلى علاجات أفضل.

يتخذ سوء معاملة الأطفال أشكالاً عديدة، ولكل منها عواقبه الخاصة. لننظر، على سبيل المثال، إلى الأم التي تترك طفلها بمفرده لعدة ساعات بشكل روتيني، مما يعرض سلامة الطفل للخطر ويثير مشاعر الهجر؛ أو أب ذو مشاعر غير مستقرة يصرخ ويسب – أو حتى يهدد ويضرب – في لحظات غير متوقعة. وماذا عن مقدم الرعاية الذي الرعاية المخصصة والسلوك المسيء؟ وفي حين أن كل حالة من هذه الحالات سوف تنطوي على آثار نفسية سلبية، فمن غير المرجح أن تكون تلك التأثيرات هي نفسها. والسؤال المهم هو كيف ستكون الاختلافات ــ وكيف نستخدم هذه المعلومات لتقديم أفضل دعم ممكن لأولئك الذين عانوا.

لدى معظم الناس فكرة تقريبية عما تعنيه إساءة معاملة الأطفال، ولكنها، كما تشير هذه السيناريوهات، تشمل شبكة معقدة من التجارب. من المحتمل أنك سمعت عن مجموعة من الفئات ذات الصلة المعروفة باسم "تجارب الطفولة السلبية" (ACEs). وتشمل هذه الاعتداءات الجسدية، والاعتداء الجنسي، والإساءة العاطفية (والتي يمكن أن تعني سلوكيات مثل النقد المستمر والتهديدات والترهيب)، والإهمال الجسدي، والإهمال العاطفي. يمكن أن تشمل التجارب السلبية الأخرى الخلل الوظيفي الأسري، والمرض العقلي في الأسرة، ومشاهدة العنف المنزلي أو أشكال أخرى من العدوان (النفسي والجنسي والمالي والعاطفي) بين الشركاء الحميمين. تُعرف إساءة معاملة الأطفال بشكل عام  على أنها أحداث حياة سلبية قبل سن 18 عامًا، وهي بمثابة مصطلح آخر لهذه التجارب المتنوعة.

لسوء المعاملة في مرحلة الطفولة ككل تأثير هائل على الصحة العقلية: تشير التقديرات إلى أن حوالي ثلث جميع الأمراض العقلية لدى البالغين ونصف جميع الأمراض العقلية في مرحلة الطفولة مرتبطة بها. لذلك، نحن وعلماء آخرون نهدف إلى تحسين فهم مشكلة الصحة العامة الحرجة هذه. ولكن لفهم تأثيرها حقًا وتحسين علاج المتضررين، نحتاج إلى حل آثار التجارب السلبية المختلفة. نقطة البداية الجيدة هي التمييز بين سوء المعاملة والإهمال. تمثل هاتان الفئتان تجارب نفسية مختلفة تمامًا للأطفال، وعلى الرغم من أن آثارها ليست مختلفة تمامًا، إلا أنها تختلف بالفعل.

تشير إساءة الاستخدام إلى أي فعل غير عرضي ينطوي على خطر كبير من الأذى الجسدي أو العاطفي. تعتبر هذه الأفعال بمثابة أحداث تهديدية للغاية وغالبًا ما تؤدي بالأطفال الذين تعرضوا للإيذاء إلى الاعتقاد بأن سلوكهم هو الذي يثير الإساءة أو يسببها. يمكن أن تقودهم هذه الفكرة إلى استيعاب اللوم والمسؤولية عن أفعال البالغين المسيئة. وقد يظنون أنهم "أطفال سيئون" وأنهم إذا تصرفوا بشكل أفضل، أو استمعوا بانتباه أكبر، أو تصرفوا بشكل مختلف، فإن الإساءة سوف تتوقف. إن تصورات الذنب هذه لها عواقب بعيدة المدى، ومن المحتمل أن تؤثر على التطور، والتعرف على المشاعر، والتكيف الاجتماعي والعاطفي،وعمل نظام الإجهاد في الجسم الذي يسمى محور الغدة النخامية وقشر الكظر (HPA). يمكن أن تسبب الاستجابة غير المنتظمة للضغط ردود فعل أكثر حدة تجاه المواقف العصيبة.

بشكل عام، لا يتم أخذ الطبيعة المحددة وتأثير تجربة الطفولة الشاذة في الاعتبار في بروتوكولات العلاج.

من ناحية أخرى، يتميز الإهمال بالفشل - سواء كان متعمدًا أو بسبب الإهمال أو العجز - في توفير الحد الأدنى الكافي من الرعاية للطفل، بما في ذلك الغذاء والملبس والمأوى والرعاية الطبية والمراقبة والاستقرار العاطفي الأبوي ،وفرص النمو.إن الافتقار إلى الرعاية الأساسية، والخبرات المحفزة (على سبيل المثال، التحفيز الفكري مثل اللعب الإبداعي والكتب المناسبة للعمر، أو الأنشطة الاجتماعية مثل مواعيد اللعب أو النزهات العائلية)، وعلى وجه الخصوص، يؤثر الافتقار إلى الارتباط العاطفي على النمو العاطفي والمعرفي للأطفال المهملين.قد يؤدي هذا إلى صعوبات في الارتباط بالآخرين، والشعور بالوحدة، والتعرض لمشاكل في العلاقات. من المهم أن نلاحظ أن إساءة معاملة الأطفال وإهمالهم غالبًا ما يحدثان معًا، مما قد يؤدي إلى عواقب أكثر خطورة. إن التعرض لأنواع متعددة من سوء معاملة الأطفال يمكن أن يؤدي إلى تراكم الآثار الضارة.

على الرغم من أننا نعلم أن سوء المعاملة والإهمال يختلفان في تأثيرهما على النمو النفسي والتكيف، إلا أن القليل من الأبحاث قد قارنت بشكل منهجي كيفية ارتباط سوء المعاملة والإهمال بخطر الإصابة بأشكال معينة من الأمراض العقلية بعد الطفولة. يعد فهم ذلك أمرًا ضروريًا لتطوير التدخلات المستهدفة وأنظمة الدعم للناجين الذين يعانون من شكاوى نفسية مثل المزاج المكتئب أو سماع الأصوات. إنها خطوة حاسمة نحو توفير الموارد اللازمة لمساعدتهم على الشفاء والازدهار في مرحلة البلوغ، حيث أن الطبيعة المحددة وتأثير تجربة الطفولة الشاذة لا تؤخذ عادة في الاعتبار في بروتوكولات العلاج.

لذا، في تحقيق حديث، سعينا نحن وزملائنا إلى كشف العلاقات بين هذه الأشكال المختلفة من سوء المعاملة والأمراض العقلية، وفحص ارتباطاتها بثلاثة حالات نفسية محددة - الاضطراب الاكتئابي الشديد، والاضطراب ثنائي القطب، والفصام - وأعراض الاكتئاب. هذه الشروط. كان هدفنا هو تمييز المظاهر السريرية المتميزة المرتبطة بالظلال المختلفة لمحنة الطفولة.وللقيام بذلك، قمنا بتحليل بيانات من عدة دراسات هولندية طويلة الأمد، شملت كل منها مئات البالغين الذين يعانون من واحد من الاضطرابات النفسية الثلاثة. استخدمنا أيضًا طريقة وبائية تسمى التوزيع العشوائي المندلي، باستخدام البيانات الجينية من أشخاص في المملكة المتحدة لاستكشاف اتجاه السبب والنتيجة بين سوء معاملة الأطفال ونتائج الصحة العقلية.

لقد وجدنا أن سوء المعاملة في مرحلة الطفولة كان عامل خطر قوي للإصابة بالفصام في مرحلة البلوغ: في عينتنا، كانت احتمالات الإصابة بالفصام أعلى بنحو 3.5 مرة بين أولئك الذين عانوا من سوء المعاملة. في المقابل، أظهرت تجربة إهمال الطفولة أقوى الارتباطات مع تطور الاضطراب ثنائي القطب (كانت الاحتمالات أعلى بأكثر من 2.5 مرة بين أولئك الذين تم إهمالهم) ومع الاضطراب الاكتئابي الشديد (الاحتمالات أعلى بأكثر من مرتين). وكان التعرض المشترك لكل من سوء المعاملة والإهمال هو الأكثر ضررا: وكانت مخاطر الإصابة بالاضطراب الاكتئابي الشديد والاضطراب ثنائي القطب أكبر. أضافت التحليلات العشوائية المندلية مزيدًا من الدعم للنتائج التي توصلنا إليها حول إساءة معاملة الأطفال والفصام، مما يوفر دليلًا أوضح على أن سوء المعاملة يسبب زيادة خطر الإصابة بالفصام.

يمكن أن يتفاعل الاستعداد الوراثي للإصابة بالأمراض العقلية مع تجارب سوء المعاملة في مرحلة الطفولة

وبالنظر إلى أبعد من ذلك، إلى مستوى الأعراض، وجدنا أيضًا أن التعرض للإساءة في مرحلة الطفولة كان مرتبطًا باحتمالية الإصابة بالهلوسة والأوهام ومشاعر عدم القيمة و/أو الذنب ومحاولات الانتحار، في حين ارتبط إهمال الطفولة بالإثارة وقلة الحاجة إلى النوم (أحد أعراض الهوس في الاضطراب ثنائي القطب).وكان الجمع بين سوء المعاملة والإهمال مرتبطًا بزيادة خطر الإصابة بالعديد من الأعراض.

تثير الروابط بين هذه الأنواع من سوء المعاملة والأشكال المختلفة للأمراض العقلية أسئلة مثيرة للاهتمام حول الآليات الأساسية.لقد تم اقتراح العديد من المسارات النفسية والاجتماعية والبيولوجية بدءًا من محنة الطفولة وحتى تطور المرض العقلي في الأبحاث السابقة، وبعضها يمكن أن ينطوي على تأثيرات ذكرناها سابقًا (على سبيل المثال، التغيرات في استجابة الفرد للضغط النفسي أو الصعوبات في العلاقات) لكن حتى الآن لا توجد إجابة واحدة تنصف مدى تعقيد القضية. ويتمثل أحد أجزاء اللغز في الدليل على أن الاستعداد الوراثي للإصابة بالأمراض العقلية من الممكن أن يتفاعل مع تجارب سوء المعاملة في مرحلة الطفولة، مما يؤثر على احتمال ظهور أعراض أو اضطرابات محددة.علاوة على ذلك، فإن العوامل البيئية مثل الوضع الاجتماعي والاقتصادي والأمراض النفسية لدى الوالدين يمكن أن تؤثر بشكل أكبر على هذه العلاقات. هناك حاجة إلى النظر في التفاعل المعقد بين علم الوراثة والبيئة وسوء معاملة الأطفال في تشكيل خطر الإصابة بالأمراض العقلية.

بالعودة إلى الوراء لتقييم الآثار المترتبة على النتائج التي توصلنا إليها، يمكننا أن نبدأ في رؤية إمكانية العلاج الموجه واستراتيجيات العلاج الشخصية.إن النتيجة التي تشير إلى أن سوء المعاملة يحمل علاقة قوية بشكل خاص مع مرض انفصام الشخصية تتناسب مع التقارير السابقة عن زيادة ثلاثة أضعاف في خطر الإصابة بالذهان لدى الأشخاص الذين لديهم تاريخ من إساءة معاملة الأطفال. يمكن أن تكون معرفة هذا الارتباط مهمة لزيادة تحسين الوقاية من سوء معاملة الأطفال وزيادة الوعي بمخاطر الصحة العقلية لدى أولئك الذين يتعرضون لها. بالإضافة إلى ذلك، فإنه يثير مسألة ما إذا كانت التدخلات مثل العلاج الذي يركز على الصدمة قد يكون مفيدًا للأشخاص الذين لديهم علامات مبكرة لمرض انفصام الشخصية وتاريخ من سوء المعاملة. سيكون من المثير للاهتمام دراسة كيف يمكن أن يكون العلاج مثل إزالة حساسية حركة العين وإعادة المعالجة (EMDR) - الأكثر استخدامًا لعلاج اضطراب ما بعد الصدمة - بمثابة خيار علاج شخصي لتقليل العبء لدى هؤلاء الأشخاص. تشير الأبحاث الحديثة إلى أن علاج الـEMDR للأشخاص الذين يعانون من الهلوسة هو علاج آمن وفعال.

وبينما نتعلم المزيد عن التأثيرات المختلفة للإساءة والإهمال، فإن الاعتبارات الجديدة تتطلب اهتمامنا، بما في ذلك كيفية فهم المسارات من الشدائد إلى النتائج النفسية بشكل أفضل وما إذا كان بإمكاننا التمييز بين الأنواع الأخرى من محنة الطفولة (مثل الصدمات العاطفية والجسدية) . ونظراً للأثر الكبير الذي يخلفه سوء معاملة الأطفال على الصحة، فإن الفهم الأفضل للآليات وتحسين العلاجات يشكلان احتياجات ملحة في المجتمعات المثقلة بشكل متزايد بالأمراض العقلية.

والآن، من الواضح أن الظلال التي تلقيها الإساءة والإهمال ليست موحدة. إنها تتخذ أشكالًا مميزة ويبدو أنها تؤثر على نتائج الصحة العقلية بطرق فريدة. إن فهمنا المتزايد لهذه التأثيرات يمكن أن يؤدي في نهاية المطاف إلى تحسين فرص حصول الأشخاص الذين يتعرضون لسوء المعاملة في وقت مبكر من حياتهم على الدعم الذي يحتاجون إليه.

***

.............................

المؤلفان:

1- آن ألكيما/ Anne Alkema: طبيبة مقيمة في الطب النفسي في المركز الطبي الجامعي في أوتريخت في هولندا، وتجمع بين تدريبها السريري ومسار الدكتوراه حول التأثيرات التشخيصية لمحنة الطفولة والارتباطات بين الجينات والبيئة.

2- ماركو بوكس / Marco Boks: استشاري الطب النفسي وأستاذ مشارك في مركز الدماغ التابع للمركز الطبي الجامعي أوتريخت في هولندا، والقائد السريري لبرنامج الإجهاد والصدمات. يتركز عمله العلمي على الآليات البيولوجية لدور صدمة الطفولة في خطر الإصابة بالاضطرابات النفسية.

فى البداية لابد أن أشير إلى قيمة "التنوع البيولوجي" وأثره الأساسى للحياة على الأرض، إذ تساهم الأنواع البرية والجينات داخلها مساهمة كبيرة في تطور الزراعة والطب والصناعة. وبالرغم من أن الإنسان استعمل أكثر من 7000 نوع من النباتات للطعام، إلا أن 20 نوعاً فقط تشكل 90 %من الغذاء المنتج في العالم، وتشكل ثلاثة أنواع فقط ـ القمح والذرة الشامية والأرز - أكثر من 50 %منه. وهناك ثلاثون نوعا من الثدييات والطيور التي استأنسها الإنسان توفر له نحو 30 %من غذائه.

ومن هذا المنطلق تأتي خطورة نبوءة اينشتاين بنهاية العالم بدأت تتحقق؛ وهي نبوءة منسوبة للعالم الفيزياء ألبرت أينشتاين وهذه النبوءة يبدو فيها شيء من الغرابة ولم يتوقعها أحد: وهي أن اختفاء النحل قد يؤدي إلى نهاية العالم.

 هذا الشيء لا يخطر على بال أحد فالمتوقع هو حدوث كوارث بيئية أو الحديث عن الحروب النووية ...التي تنهي العالم وهذا معقول،  أما الحديث عن انقراض النحل فهذا شيء غريب جدا. بالفعل بدأ يتراجع النحل في العالم بشكل كبير وخاصة في آخر 50 سنة بدأت تنقرض في أماكن مختلفة في العالم؛ فمثلا حوالي 75 % في أمريكا من النحل قد انقرض وأيضا في كندا والصين وفي استراليا واوروبا.

والسؤال هنا: لماذا النحل يتراجع بهذه النسبة المهولة؟ ولو انقرض ماذا يحدث للبشرية؟

 فالإجابة على السؤال الأول: واضح جدا لو ركزنا في أمور حياتنا التي نمر بها فمثلا نجد التغيرات المناخية قد أثرت بشكل كبير على النحل كما أثرت على كائنات أخرى. وأيضا نجد شبكات الاتصالات والهواتف المحمولية والموجات التليفزيونية والأذاعية...كل هذا قد أدى إلى إضعاف النحل. وكما أكدت التجربة التى أقيمت في معهد بافلوف في روسيا حيث وضعوا مجموعة من النحل أمام شبكات (الواي فاي) وبالفعل بعد تعرضه لهذه الموجات (الواي فاي) فقد المناعة والشهية بعد 24 ساعة. فالمناخ والاتصالات وأشياء آخرى مختلفة أدت إلى تتدهور النحل في العالم.

لكن ما علاقة إنقراض النحل بإنقراض البشرية؟ مع العلم أن معظمنا يعيشون عادى بدون عسل النحل. فالموضوع يتجاوز كثيرا من عسل النحل الموضوع يتعلق بعملية التلقيح بالنسبة للنباتات فهناك 75 % من المحاصيل في العالم يلقح بواسطة النحل. لو النحل لم يكن موجودا لم يتم تلقيح النباتات بالنسبة كبيرة جدا. وبناء عليه يترتب مجاعة عالمية وبالتالى تنتهى المحاصيل والحيوانات أيضا تنتهي. إذن خطورة انقراض النحل الأساسية في حالة اختفائه لقدر الله يؤدي إلى نهاية النباتات والحيوانات وثم الإنسان.

***

شيماء سيد علي - باحثة

 

بقلم: كريستيان جاريت

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

تُظهر الأبحاث حول الجانب الاجتماعي لإدارة العواطف ما يميزها وفوائدها لجميع المشاركين.

نشعر جميعًا بالعواطف، لكننا بالتأكيد لا نتعامل معها جميعًا بنفس الطريقة. بعض الناس حساسون ويعانون من صعود وهبوط متكرر. من ناحية أخرى، لدى البعض الآخر جلد سميك وحتى مزاج. في المصطلحات النفسية، هم جيدون جدًا في التنظيم العاطفي. ربما يمكنك التفكير في الأصدقاء أو أفراد العائلة أو الزملاء في حياتك الذين ينطبق عليهم هذا الوصف.

وفي الوقت نفسه، هناك جانب اجتماعي لإدارة العواطف. لدى الكثير منا أصدقاء أو أقارب قادرون على تقديم الدعم العاطفي المستمر. عندما نشعر بالإحباط أو التوتر أو الشعور بالإرهاق، فإن هؤلاء هم الأشخاص الذين يقدمون لنا كتفًا لنبكي عليه. إنهم ماهرون في مساعدتنا على استعادة رؤيتنا والعودة إلى التوازن.

هل سبق لك أن تساءلت عما إذا كانت هذه المجموعات - الأشخاص الذين يجيدون إدارة عواطفهم وأولئك الذين يجيدون دعم الآخرين - هم في الواقع نفس الأشخاص؟ يمكن أن تؤثر الإجابة على من نلجأ إليه طلبًا للمساعدة، وكيف نرى أنفسنا، وقدرتنا على أن نكون موجودين من أجل الآخرين.

"أنا متأكد من أنك إذا سألت بعض الأشخاص عن هذا ... فسيقولون: "حسنًا، بالطبع، أعرف هذا الشخص الذي هو عظيم حقًا في مساعدة الآخرين، ولكن ربما ليس جيدًا في تنظيم عواطفه الخاصة،" أو، " تقول مايا تامير، مديرة مختبر الانفعالات والتنظيم الذاتي في الجامعة العبرية في القدس: "أنا أعرف هذا الشخص الرائع في كليهما". "لكن الشيء الجميل في العلم هو أنه يساعدنا على وضع هذه البديهات جانبًا ودراسة هذه الأشياء بموضوعية قدر الإمكان."

لقد تم الاعتراف منذ فترة طويلة بأن القدرة على إدارة عواطف الفرد هي أحد أهم جوانب الشخصية. ويقال إن الأشخاص الذين لديهم مشاعر أكثر استقرارا وأكثر مرونة هم أقل عرضة للعصاب، ويميلون إلى التمتع بمجموعة كبيرة من المزايا في الحياة، بما في ذلك صحة بدنية أفضل وانخفاض خطر الإصابة بالاكتئاب والقلق.

المشاركون الذين كانوا أفضل في تنظيم عواطفهم لم يكونوا أفضل في مساعدة شخص آخر على إدارة مشاعرهم.

لقد درس الباحثون الاستراتيجيات المختلفة التي يستخدمها الناس لتنظيم عواطفهم، مثل الإلهاء  أو إعادة التقييم (إعادة صياغة الصعوبات في ضوء أكثر إيجابية). وقد بحثوا في الطرق التي يفكر بها الأشخاص المستقرون عاطفيًا بشكل مختلف عن الأشخاص الأكثر حساسية. على سبيل المثال، هناك أدلة على أن الأشخاص الذين يتمتعون بمهارة في تنظيم عواطفهم يجدون أنه من الأسهل تذكر المزيد من الذكريات الإيجابية.

وفي الوقت نفسه، هناك أيضًا مجال دراسة أحدث بكثير يركز على قدرة الأشخاص على المساعدة في تنظيم مشاعر الآخرين. أظهرت الأبحاث في هذا المجال أن مساعدة الآخرين في التعامل مع عواطفهم يمكن أن تجعل كلا الطرفين يشعران بالارتقاء، وأن بعض الاستراتيجيات - كما هو الحال مع التنظيم الذاتي - أكثر فعالية من غيرها. على سبيل المثال، وجدت إحدى الدراسات أن النهج الفعال بشكل خاص هو مساعدة شخص ما على إعادة صياغة تجربته الصعبة بشكل إيجابي - تخيل مساعدة صديق على إعادة تفسير يوم مرهق في وظيفة جديدة باعتباره تجربة تعليمية قيمة.

تشير أبحاث أخرى إلى أننا أكثر ميلاً إلى بذل الجهد لتنظيم مشاعر الأشخاص المقربين منا. لكنه يشير أيضًا إلى أننا، في تلك المواقف، لا نذهب بالضرورة إلى أبعد من ذلك للمساعدة في تهدئة الشخص، وغالبًا ما نلتزم بسلوكيات مثل مجرد الاستماع إليه وهو يصف مشاعره الصعبة. تقول كارولين ماكان، عالمة النفس في جامعة سيدني، والتي شاركت في تأليف هذا البحث: "قد تكون هذه الأنواع من الاستراتيجيات مهمة، ليس لتغيير مشاعرك، ولكن للحفاظ على الروابط الاجتماعية".

وبينما كان علماء النفس منشغلين بدراسة هذين الجانبين من تنظيم العواطف ــ البعد الفردي والبعد الاجتماعي ــ لم يكن هناك حتى وقت قريب أي دراسة حول كيفية ارتباط الجانبين ببعضهما البعض. وهذا ما ألهم تامير وطالبة الدكتوراه نوا بوكر سيجال وزملاءهما لإجراء بحث جديد قارنوا فيه قدرة الأشخاص على التنظيم العاطفي وقدرتهم على مساعدة الآخرين في التعامل مع عواطفهم.

وشملت الدراسة، التي قادها سيجال، 128 مشاركًا، حاول كل منهم تنظيم مشاعره من خلال عرض الصور المزعجة. وفي حالة أخرى، طُلب من بعض المشاركين تنظيم مشاعر الشريك أثناء عرض الصور. تقول سيجال: "كان لدينا مجموعة كاملة من الصور"، بما في ذلك الصور ذات الارتباطات السلبية، مثل الماشية في الأقفاص، وغيرها التي كانت "أكثر تصويرية، مثل الحروق والإصابات". قدمت المقارنة بين الحالات العاطفية للمشاركين قبل وبعد نظرهم إلى الصور مقياسًا لمدى نجاحهم في التحكم في عواطفهم (وعواطف شركائهم).

والمثير للدهشة أن المشاركين الذين كانوا أفضل في تنظيم عواطفهم لم يكونوا أفضل في مساعدة شخص آخر على تنظيم مشاعره. تقول تامير: "لقد وجدت الأمر مفاجئًا بناءً على تجربتي اليومية، ولكن أكثر من ذلك، استنادًا إلى الأدبيات التي تشير إلى أنه إذا كان لديك مجموعة من المهارات، فلا يهم إذا كنت تستخدم هذه المهارات لتنظيم هدف أو آخر". . "ومع ذلك، فقد تبين أنه ربما لا تكون هذه هي نفس المهارات." ربما تكون هناك حاجة إلى أنواع مختلفة من المهارات.

في بعض الأحيان نجيد حقًا عزل العالم عنا... ولكن عندما نغلق العالم علينا، فإننا نغلق أبواب الآخرين أيضًا

هذا بالضبط ما تشير إليه البيانات. من بين الأشخاص الذين تمكنوا من إدارة عواطفهم بشكل فعال أثناء الدراسة، كانت إحدى استراتيجيات تنظيم العواطف، التي قالوا إنهم ينشرونها عادةً في حياتهم، هي الإلهاء - على سبيل المثال، محاولة التفكير في شيء آخر أثناء المرور بتجربة مزعجة. ومع ذلك، فإن هؤلاء الأشخاص أنفسهم الذين استخدموا الإلهاء وأداروا عواطفهم بشكل فعال كانوا في الواقع أسوأ في مساعدة شخص آخر على تنظيم عواطفهم.

تقول تامير: ’’في بعض الأحيان، نجيد حقًا عزل العالم عن الآخرين. "وهذا يمكن أن يساعدنا على الشعور بالتحسن.""ولكن عندما نغلق العالم أمامنا، فإننا نغلق الباب أمام الآخرين أيضًا." وهكذا، كما تقول، فإن أشكال تنظيم العواطف مثل الإلهاء "يمكن أن تكون مفيدة لنا، ولكنها يمكن أيضًا أن تفصلنا عن الآخرين".ومن المفارقات أن يجعلنا أقل فعالية في مساعدة الآخرين على التعامل مع مشاعرهم.

الأمر نفسه ينطبق على استراتيجيات التنظيم الذاتي المتمثلة في "اختيار الموقف" (القيام بشيء لتغيير الوضع) و"القمع" (بذل جهد لعدم التعبير عن المشاعر). يميل الأشخاص الذين أفادوا باستخدام هذه الاستراتيجيات بشكل أكبر إلى إدارة مشاعرهم بشكل أفضل أثناء الدراسة، لكنهم لم يكونوا أفضل من المتوسط في تنظيم مشاعر الآخرين.

بالطبع، هذه ليست الكلمة الأخيرة حول مسألة كيفية الارتباط بين قدرات تنظيم المشاعر التي تركز على الذات وعلى الآخرين.ولعل الأهم من ذلك هو أن الدراسة شملت أشخاصًا كانوا يلتقون لأول مرة، وليس الأصدقاء أو العائلة. لدى سيغال وتامير بالفعل المزيد من الدراسات الجارية التي تشير إلى أن هذا عامل مهم.على الرغم من أن النتائج الأحدث لم يتم نشرها بعد، إلا أن تامير تقول إنها تشير إلى أنه "كلما كنت أقرب إلى شخص آخر، زادت احتمالية تنظيم نفسك والآخرين بطرق مماثلة". وتضيف: "ما نجده مع الغرباء قد يحدث". لا تصف بالضرورة ما نجده في العلاقات الوثيقة.

وفي الأبحاث المستقبلية، يريدون أيضًا قلب الأمور للتساؤل عما إذا كان بعض الأشخاص أفضل في تلقي المساعدة من الآخرين. يقول تامير: "نحن عادة نعزو النجاح إلى المنظم [العاطفي]". "لكن، كما تعلمون، ربما يكون بعض الأشخاص أكثر قدرة على الاعتماد على الآخرين... وربما يكون المتلقي أكثر تأثيرًا من المانح." نحن لا نعرف. لكن هذا شيء نبحث فيه.

هناك نهاية مشجعة لهذه القصة. بالإضافة إلى مقارنة قدرات الأشخاص الفردية والاجتماعية على تنظيم المشاعر، بحث سيجال وتامير أيضًا في العواقب النفسية لمحاولة تهدئة مشاعر شخص آخر. تنقل النتائج التي توصلوا إليها رسالة مشجعة: عندما نحاول مواساة ودعم الآخرين، يبدو أن الجميع يفوز. أشارت النتائج إلى أن محاولات المساعدة في إدارة مشاعر شخص آخر تميل إلى جعل كل من الداعم والشخص المدعوم يشعران بمزيد من الإيجابية بعد ذلك. يقول سيجال: "إن مساعدة الآخرين، حتى الغرباء، يمكن أن تساعدك حقًا على الشعور بالتحسن، أو تقليل مشاعرك السلبية في بعض الظروف". "لذلك أعتقد أن هذه نتيجة إيجابية للغاية."

ومن خلال تكرار الأبحاث السابقة حول الجانب الاجتماعي للتنظيم العاطفي، وجد الفريق أيضًا أنه عندما يحاول شخص ما مساعدة شخص آخر في مشاعره، قد يشعر كلا الشخصين بالقرب من بعضهما البعض. على وجه الخصوص، كان هذا هو الحال بالنسبة للأشخاص الذين كانوا أكثر قدرة على تنظيم مشاعر الآخرين، على الرغم من أن هذا لا علاقة له بقدرتهم على إدارة أنفسهم.

تبدو هذه النتائج مشجعة بشكل رائع لأي شخص حساس عاطفيًا ولا يشعر بأنه نموذج للمرونة. يقول تامير: "حتى لو كنت تعاني من مشاعرك الخاصة، فهذا لا يعني بالضرورة أنك لن تكون قادرًا على مساعدة الآخرين". "وإذا ساعدت الآخرين، فربما تكون هذه طريقة لتجعل نفسك تشعر بالتحسن - وتقربك من الآخرين."

***

.........................

المؤلف: كريستيان جاريت/  Christian Jarrett محرر Psyche : عالم أعصاب معرفي من خلال التدريب، وكان كريستيان هو المحرر المؤسس لمجلة أبحاث الجمعية النفسية البريطانية وصحفي حائز على جوائز في مجلة The Psychoologist. تشمل كتبه الدليل الخام لعلم النفس، وعلم النفس في 30 ثانية، والأساطير العظيمة للدماغ. أحدث أعماله هو "كن من تريد: إطلاق العنان لعلم تغيير الشخصية"، الذي نُشر في عام 2021. لن ينسى كريستيان أبدًا حمل دماغ بشري بين يديه كجزء من فصل التشريح العصبي، الكتلة الرمادية ثقيلة جدًا كما لو كانت مليئة بالذكريات والأحلام.

من الحدث التاريخي إلى الظاهرة المعاصرة

إن التعامل مع الأفكار الدينية بمنطق فهم علمي يختلف عن التعامل معها بمنطق إيماني مؤدلج، فلا يمكن التفكير والتدبر في المعرفة الدينية من دون تجريد الذهن ولو نسبيا من كل المسبقات الفكرية والعقدية وربما حتى الايمانية، التزاما بمبدأ الموضوعية، برغم أنها لم ولن تتحقق بنحو تام، لكن يأمل أهل العلم والمعرفة أن تتحقق الموضوعية ولو بنحو نسبي.

إن الاشتغال في مجال العقيدة ليس بالأمر الهين، والتفكير والنقاش في مسائل العقائد يحيل إلى مساحات خطرة بنظر كثير من الدارسين والعاملين في المعرفة الدينية.

لذا فإن الاتجاهات في الفكر الديني تتعدد وهو أمر طبيعي مع إدراك كل حيثيات التدين والاعتقاد وأزمات التفكير الديني، وما انتجه الخطاب السلفي المتشدد من معارف يثير كثير من الإسئلة، ويستدعي قراءة ومراجعة كثير من السرديات التي نتجت عن تلك الرؤى التي اختلف في منهج تفكيرها كثيرا عن مجمل البيئات المعرفية في الاطار الديني الاسلامي.

وفي هذا المقال يتم تناول التوظيف السلفي المعاصر لمشكلة الارجاء، تلك المشكلة القديمة والحديثة في الوقت نفسه، بسبب إعادة انتاجها واسقاطها على الواقع الراهن، من قبل كثير من الدارسين في مجال المعرفة الدينية.

وتمت محاولة قراءة أحد أهم الكتب التي تناولت هذه المشكلة وهو كتاب سفر بن عبد الرحمن  الحوالي (ظاهرة الارجاء في الفكر الاسلامي) ومراجعته ومحاولة نقده وتسجيل بعض الملاحظات التي من شأنها أن تبين الفارق المنهجي بين التفكير العلمي الموضوعي، والتفكير المؤدلج الذي يتحرك في مساحات شديدة الضيق، وقد يصعب التحاور معها بسبب اختلاف منطق الفهم ومرجعيات التفكير، وفقدان حلقة المنهج العلمي البرهاني الذي يقرب وجهات النظر في الغالب ولو نسبيا.

تمثل مسائل الايمان والكفر، مساحة معقدة وحساسة لدى أغلب الاتجاهات العقدية والكلامية، ومنذ القرون الأولى للعهد الاسلامي، إذ دخل الفكر الكلامي في أنفاق ومتاهات متداخلة بسبب ما أختلف فيه من مسائل الايمان والكفر، وما يترتب على تلك المسائل من تكفير وإقصاء، جعل من الخوض في مثل تلك المسائل مدخلا لإخراج فئات ومجاميع من ملة الدين، والمشكلة أن هذا الاختلاف قد انعكس أيضا على الواقع الحديث والمعاصر، وكأن الأزمة مستمرة، والمساحات مفتوحة أمام إثارة تلك المسائل في كل زمان ومكان.

والإرجاء كمفهوم وظاهرة وحدث، كان متأثرا بمقولات الايمان والكفر من جهة، ومؤثرا فيها من جهة أخرى.

يمكن تحديد محل الاشكال في فكرة الإرجاء من خلال، ثنائية الإيمان والعمل، وعدم تمامية الإيمان من دون العمل، وعدم كفاية الانعقاد القلبي، والاذعان النفسي، ومجرد التصديق، في إسباغ صفة الإيمان على الإنسان، وهنا لنا وقفة تحليلية مع تلك المخاوف:

أولا: ما هو المراد من تقوّم الايمان بالعمل؟ وأن العمل جزء من الإيمان؟ وأن الإيمان يزيد وينقص باعتبار دخالة العمل ضمنه؟

للإجابة على هذه التساؤلات لا بد من إيراد احتمالات:

إما أن يكون سبب التأكيد على دخالة العمل بالايمان هو عدم كفاية اسلام الفرد من دون عمل يكشف عن إيمانه، بمعنى أن يصبح العمل هو الطريق إلى انكشاف إيمان المؤمن، ولا يكفي منه ادعاء (القول)، بل ضرورة (العمل).

أو أن يكون العمل مكملا للإيمان، وأن الإيمان يتقوم بالعمل على مستوى الواقع العملي، الذي يستحق معه المؤمن صفة الإيمان الحقيقي ويكون مستحقا للثواب.

وهنا لابد من الالتفات إلى خطورة الموضوع، فمن آمن في قلبه وكشف عن إيمانه هذا بمجرد قول أو ما يوازيه، هل يكفي ذلك في اعتباره مسلما محقون الدم؟ حتى لو لم يعمل؟

أم أن ذلك غير كاف؟ بل يبقى كافرا مالم يبين عليه العمل؟

هذه التساؤلات لم يتم تناولها بنحو صريح في المدونات التي تناولت موضوع الارجاء، لكن الهاجس الفعلي وراء تلك الإشكالية مرتبط بمسألة الإيمان والكفر.

ثانيا: إن القول بكفاية الانعقاد القلبي في تحقق الإيمان يُفهم على نحوين:

إما أن يكون الإنسان مسلما بمجرد قناعته الداخلية، من دون الحاجة الى القول والعمل أو يكون الاكتفاء بالانعقاد القلبي على مستوى تحديد مفهوم الإيمان، إذ يتم تحديده بالتصديق والاذعان، وهما فعلان نفسيان، والعمل مفهوم مغاير للإيمان كما صرحت في ذلك نصوص القرآن الكريم في عطفها بين الإيمان والعمل الصالح في أكثر من موضع، (الذين آمنوا وعملوا الصالحات)، (من آمن وعمل صالحا).

إذن الغاية من فصل العمل عن الإيمان متعددة، فإما أن تكون لأجل الفصل المفهومي، وهو ما لا شك فيه، أو تكون لأجل الفصل الواقعي العملي، وهو مما يسبب مشكلات عدة، أبرزها تقويض الفعل الايماني في حدود الواقع القلبي، مما يفضي الى انحسار فعل التدين بالفعل النفسي الداخلي،

إن المرتكز الذي يقوم عليه الخطاب السلفي هو ربط العمل بالايمان، وجعله مقوما لحقيقة الإيمان، ولا يكفي أن تتم صياغة مفهوم الإيمان على أنه اعتقاد في القلب كما يستفاد منه لغة واصطلاحا، بل تلزم إعادة صياغة المفهوم بالنظر إلى واقع العمل، وأثره في تمام الإيمان، ونقصانه، وإذا كان الايمان الكامل يقتضي تحقق العمل، فإن الخطاب السلفي لم يكتف بذلك، مؤكدا على أن حقيقة الايمان مركبة من القول والعملفضلا عن الاعتقاد، وأن العمل كاشف عن حصول الايمان القلبي، ومن دونه لا يكون الايمان إيمانا، ومن هنا تم نقل الارجاء من الحدث إلى الظاهرة، فالصياغات التي تصوغ مفهوم الايمان على اساس لغوي واصطلاحي بأنه انعقاد في القلب فقط تمثل حالة الإرجاء كظاهرة مستمرة، ينبغي مواجهتها في مختلف الأحوال وعلى كافة الصعد.

لذا نجده يتناول تراث السلف في قولهم الايمان قول وعمل، محاولا التأصيل والدعوة لتلك الرؤية التي أثقلت مفهوم الإيمان بالنحو الذي أدى إلى تضخم مقولة الإيمان وربطه بالعمل، وليس أي عمل، بل سعى الخطاب السلفي إلى انتقاء نمط محدد من العمل، فالعمل الذي يراه السلف هو العمل الذي يندك بحالة الدعوة والجهاد والحرص على عدم الزيغ والضلال والبراءة من الكفر بحيث أصبح التكفير جزءً من العمل ولو بنحو ضمني كما يتضح مما يدونه سفر الحوالي، من أن إرجاء الاعمال الى الآخرة كما يتضح من مفهوم الارجاء لهو منطق يغاير منطق الايمان الصحيح، لذا فهو يكرس مبدأ الحكم على عقائد الناس، بنحو ضمني، لأنه ينتقد حالة التقاعس عن ايضاح الإيمان بمعناه الملازم لضرورة العمل، فالسلف يدخلون الأعمال في ذات الإيمان وحقيقته، وهذا بدور يؤدي إلى تكفير من لا يعمل ولو بنحو غير مباشر.

مما تقدم يتضح:

- تم ترحيل مشكلة الارجاء من بعدها التاريخي إلى واقع معاصر وراهن، من خلال التركيز على مدخلية العمل في حقيقة الإيمان، من دون الاكتفاء بكونه مكملا للإيمان، مما يفتح الباب إلى سلب اعتبار الايمان من مذاهب ومجتمعات في العصر الراهن، لكونها لا تعتقد بمدخلية العمل في حقيقة الايمان.

- إن اشتراط العمل في الإيمان بعد أن جرى اعتباره مقوما لمفهوم الايمان، يؤدي بنحو ضمني إلى تكفير كل من لم يعمل، فضلا عن انتقاء الخطاب السلفي للعمل في حدود ما ينتجه المنهج السلفي (اهل السنة والجماعة) من أنساق وأحكام وضوابط للأعمال الصحيحة، تختلف كثيرا عن ما تنتجه المعارف الدينية لدى بقية المذاهب والاتجاهات الاسلامية.

- يقوم منطق الفهم على الجانب البياني فقط، ولا يناقش الفهوم الأولى، (القرون الثلاثة) بل يجعلها مرجعية معرفية توجه خطابه المعاصر، ويضيف عليها من خلال اعتماده على المرجعيات اللاحقة (ابن تيمية، ابن عبد الوهاب، المودودوي، سيد قطب..).

- إن عملية تصنيف الناس في الواقع المعاصر وفرزهم  على اساس ديني متشدد يستدعي إحياء مشكلة عقدية موغلة في القدم وإعادة انتاجها وإسقاطها على واقع راهن، لتنتج مشكلة جديدة تتمثل بتكفير أغلب المسملين.

- يعتقد السلفيون المتشددون أن منهجهم معصوم من الخطأ، وهو الحالة التي بشر بها النبي (ص) بأنها ستعود بالاسلام غريبا كما بدأ غريبا، وهو يكشف عن منطق جازم في أفكاره، يجانب المنهج العلمي، ويستعين بالمعتقد من خلال توظيف الوجدان الايماني الذي يحشد الناس على التمسك بما ينتجوه من أفكار.

***

د. أسعد عبد الرزاق الاسدي

هل تعرف هذا الشعور عندما تتصفح صفحتك الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي؟ ويبدو الأمر كما لو كنت متصلاً بالجميع وبكل شيء؟ ولكن بعد ذلك، عندما تضع الهاتف جانبًا، تدرك أنك لم تتحدث حقًا مع أي شخص شخصيًا طوال اليوم؟ هذا ما أقصده بالشعور الزائف.

باعتباري متخصصة في علم الأجتماع الرقمي ومهتمة بدراسة التقاطع بين التكنولوجيا والمجتمع، فقد لاحظت التأثير العميق الذي يمكن أن يحدثه إدمان وسائل التواصل الاجتماعي على علاقاتنا الاجتماعية، وبينما توفر منصات وسائل التواصل الاجتماعي اتصالاً وفرصًا غير مسبوقة للتفاعل ، فإنها تشكل أيضًا تأثيراً كبيراً على صحة وعمق اتصالاتنا الشخصية.

إن جاذبية وسائل التواصل الاجتماعي، مع سرعة التمرير الذي لا يتطلب الظهور أحياناً يكفي أن تختبئ خلف شاشتك و المحتوى المنسق والإشباع الفوري، يمكن أن تدفع الأفراد إلى إعطاء الأولوية للتفاعلات الرقمية أو الأفتراضية  على المشاركة وجها لوجه.،لا يؤدي هذا التحول إلى تقليل جودة علاقاتنا خارج عالم الراوتر فحسب، بل يؤدي أيضًا إلى تآكل قدرتنا على التعاطف  والتواصل الهادف.

علاوة على ذلك، يمكن أن يؤدي إدمان وسائل التواصل الاجتماعي إلى تفاقم مشاعر الوحدة والعزلة والمقارنة الاجتماعية، حيث يقيس الأفراد بشكل متزايد قيمتهم الذاتية ومكانتهم الاجتماعية من خلال الإعجابات والتعليقات والمتابعين، يمكن لهذه الدورة الدائمة من سلوك البحث عن التحقق من مكانتنا أو وجودنا  أن تخلق إحساسًا زائفًا بالارتباط بينما تبعدنا عن الاتصال الإنساني الحقيقي .

ولمواجهة هذه التحديات، يجب علينا أن ندرك أن إدمان وسائل التواصل الاجتماعي هو قضية مجتمعية تتطلب عملا جماعيا وتدخلات ممنهجة ، يلعب التعليم دورًا حاسمًا في رفع مستوى الوعي حول الطبيعة الإدمانية لوسائل التواصل الاجتماعي وتمكين الأفراد من تطوير عادات رقمية صحية، ومن خلال تعزيز المعرفة الرقمية ومهارات التفكير النقدي( وهذا ماأشرت له في أطروحتي للدكتوراه)، يمكننا تزويد الأفراد بالوعي اللازم للتنقل عبر وسائل التواصل الاجتماعي بشكل مسؤول والحفاظ على التوازن بين حياتهم  عبر الإنترنت وخارجها خاصة.

***

د. فاطمة الثابت – أستاذة علم الاجتماع / جامعة بابل

 

 

(معًا نحو تيار نسوى شرقي إيزيس الشرق برفقة اوزوريس)

مع استيقاظي في فجر يوم جديد همست في أُذْني كلمات زوجة "سقراط" لا يوجد فائدة واراها أمامي عيني وهي مرتدية ثوبها الأسود حينما سخر منها "سقراط" أمام الملأ بمقولته القاتلة لقلبها "تزوج يا بني فإن وفقت في زواجك عشت سعيدًا وإِن لم توفق أصبحت فيلسوفا.(1)  وأخذت التساؤلات تتطاير أيعقل من أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض ودعا في فلسفته إلى الإصلاح والتغيير لم يستطع إيجاد سبل للعيش بود وتفاهم مع رفقة دربه؟..... وفجأة دق جرس الباب أعلم أنها صديقتي الصدوق.

- نور الهدي: صباح الخير يا آمال جئت في الصباح الباكر لنتناول معًا وجبة الأفطار أتعلمين أنَّ الفضول سيقتلني إلى أين رحلتنا اليوم؟

- أصبحت صديقتي من عشاق السفر عبر الأزمنة فنحن اليوم في استضافة سيدة كل الأراضي، الابنة الملكية والأخت الملكية، سيدة الأرضين  جدتي الملكة "حتشبسوت". (2)

- نور الهدي: ياله من اختيار صائب ما أعرفه عن جدتي أنها امرأة ذكية فعقب وفاة تحتمس الثاني زوجها وأخيها، استغلت الفرصة وأعلنت نفسها الوصية على تحتمس الثالث وعلى ابنتها لأنهما كانا صغيرى السن وأعلنت نفسها ملكة على  مصر السفلي ومصر العليا. (3) ونظرًا لشخصيتها المميزة استطاعت تحكم مصر رغم كونها امرأة.(4)

- ما بين غمضة عين وجدنا أنفسنا بمصر القديمة–نعم كل منا يستطيع أن يطلق العنان لخياله ليتجول عبر الأزمنة ما بين الماضي والمستقبل- استقبلنا  المهندس "سنموت" في جولة بمصر القديمة مشيرًا لأهم إنجازات جدتي الملكة "حتشبسوت"

المهندس: قد تمكنت سيدة الأرضين  بالقيام بالعديد من الأعمال مثل المعبد الملكي الخاص بها في منطقة الدير البحري بالقرب من مدينة طيبة، (5) بجانب عديد من الآثار في مناطق من شبه جزيرة سيناء، ومعبد في وادي حلفا من بلاد النوبة جنوب مصر. (6)

نور الهدي: وهذا دليل على أن مصر زمن حكم جدتي "حتشبسوت" تمتعت برخاء اقتصادي والدليل على ذلك هذه الأعمال العمرانية المميزة، فقد تمكنت أن تحكم بلاد مصر السفلى والعليا وأن تحقق عديدًا من الإنجازات بسبب قوة شخصيتها الفذة في الحكم، يرجع ذلك إلى تقدير المجتمع المصري القديم واحترامه لهذه الملكة وتعاونه معها. (7)

- صدقتي "نور" فالمجتمع يلعب الدور الرئيس في مساندة المرأة في تحقيق نجاحها. ومع تبادل الحديث المشرق بين صديقتي والمهندس عن إنجازات جدتي وصلنا إلى القصر الملكي ورايتها من بعيد وهى تجلس في حديقة القصر كانت جدتي متشبة بالرجال حيث تلبس التاج المزدوج واللحية الصناعية رمز الملك (8) جالسة برفقة امرأة يبدو عليها علامات الحزن واخذ التساؤل يراودني لماذا ترتدي ملابس الرجال وتتشبه بهم. أهل ذلك يعني أن القيادة خاصة بالرجال أم أن حقيقة المجتمعات لا تتقبل بحكم تعتليه النساء دخلنا على  جلاله الملكة وسلمت علينا ونادتنا بأسمائنا أحفادي كنت في انتظاركم منذ زمن ولكن قد حان اللقاء اليوم ويبدو أنه لمصادفة تواجدكم مع والدة أفلاطون.

- الحمد لله أن وفقنا الرحمن للقاء وقلبي يقول: لا أومن بالمصادفة فكل ما يأتي في حياتنا  إنما يأتي  بترتيب إلهي ولحكمة. وياله من يوم جميل حينما نجتمع بسيدة الأرضين بوصفها رمزًا لنساء الشرق ووالدة "أفلاطون" بوصفها رمزًا لنساء الغرب في الحضارات القديمة.

- الملكة حتشبسوت: جاءت السيدة "أرستون" والدة "أفلاطون" تحكى عن مأساتها التي عاشتها عقب وفاة زوجها إلينا. قد كانت نظراتها ممزوجة بالحزن والألم واليأس.

- والدة أفلاطون: كنت أتحدث مع جلالة الملكة قبل مجيئكما عن  ما حدث معي عندما مات زوجي "أرستون" والد "أفلاطون" وقت ولادته، حيث كان من المعروف منع القانون الأثيني الاستقلال القانوني للمرأة، لذلك تم تزويجي من العم، حيث كان الزواج بين العم وابنة الأخ، وكذلك بين الأقارب من الدرجة الأولى، شائعًا ومعترفًا به في أثينا، من أجل الحفاظ على ميراث الأسرة من الغرباء. (9) إن من أشد أنواع القهر عدم المساوة في نظام الميراث الذي تمثل في حضارتنا، فالأصل في الميراث للأبناء الذكور أما البنت لا ترث إلا بموافقة الأب، فإذا لم يكن يوجد أبناء فمن حق الأب أن يورث الابنة ويقوم بتزويجها لأي شخص يشاء أو يوصي بذلك، أي يزوجها حتى بعد الوفاة، فإذا مات دون أن يترك وصية جاز للوصي أن يزوجها لمن يشاء أو يتزوجها هو نفسه. (10) وللأسف إن وضع المرأة بشكل عام سىء للغاية فهي وأبناؤها ملكُ لأبيها أو لأخيها الأكبر، ثم ملكا لزوجها، إنها اُشْتُرِيت في الزواج كما كان يشترى العبد في الأسواق سواء بسواء، وأصبح للوالد الحق في أن يعامل زوجاته وبناته كما يشاء (11)، ففي أسرتنا اليونانية، أصبحت الزوجة وأبناؤها بمنزلة العبد لرأس الأسرة وهو الرجل.(12)

- مع أن السيدة "أرستون" كانت متصنعة الفرح على وجهها لمقابلتها جلالة الملكة إلا أنني أشعر بإنطفائها ورؤية عتمة صدرها من نبرة صوتها فأسوأ ما تشعر به الأنثى أن تفقد الشعور بالأمان مع رفيق درب  يعاملها كالعبد المملوك له .

- الملكة حتشبسوت: أما نحن في حضارتنا المصرية القديمة سيدة "أرستون" توجد العديد من الطرق لحصول المرأة المصرية على الثروة. ومن أهمها الوراثة عن طريق الوالدين. فممتلكاتها الخاصة تحصل عليها أما بالشراء أو عن طريق الهدايا من الوالدين أو الزوج.... ويحق للمرأة حرية التصرف في ميراثها، وكذلك تستطيع حرمان أي من أولادها منه إن شاءت.(13) وللمرأة الاستقلال القانوني الكامل وبخاصة حق إدارة أعمالها. فمن حقها أن تتصرف بحرية واستقلال تام في الضياع والخدم والعبيد والمال والأشياء الثمينة ، وكذلك إبرام العقود بكل أنواعها، وأن تمنح العبيد حريتهم، أو حتى أن تتبنى أي شخص. (14)

نور الهدى: على حد علمي "جدتي" كانت نساء المجتمع المصري قديما تتمتع بحقوق مساوية للرجال وحاول المجتمع بجميع الطرق أن يعبر عن توقيره للنساء واحترامهم لهن, بأن جعلوا منهم آلهة السماء.(15)

- ولكن جدتي الوضع اليوم اختلف عن الماضي فللأسف على الرغم تأكيد حضارتنا القديمة والشريعة الإسلامية على توريث النساء إلا أن سنوات الاحتلال التي أصابت مجتمعاتنا سعت إلى واد النساء وإجهاض أحلامهن وسلب حقوقهن والتي بدورها أصبحت عادات وتقاليد خاطئة متوارثه عبر الأجيال: منها الحق في الميراث، فالعائلات -خاصة بصعيد مصر- تحرص على أن تتفاخر بما تملك من ممتلكات وأراضٍ، وترتب على ذلك حرمان النساء من الميراث حفاظاً على ممتلكات العائلة من أن تتشتت بتوزيعها على العائلات الغريبة  هذا بصدد قضية الميراث. إلى جانب عديد من المشكلات التي تواجه النساء في الزواج أو حق الانفصال...إلخ وكذلك عديد من المشكلات التي تواجهها في الحياة المهنية فالمعضلات في المجال الخاص والمجال العام كثيرة وتحتاج إلى لقاءات ولكن الأهم سعي المجتمع الغربي لتحسين وضع المرأة في القرن التاسع عشر بظهور الحركة النسوية التي تطالب بالاعتراف أن للمرأة حقوقًا وفُرَصًا مساوية للرجل، وذلك في مختلف مستويات الحياة العلمية والعملية. (16) أي تعني مبدأ المساواة بين الجنسين في مختلف الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمدنية.(17) ولكن ما يقلقني "جدتى" أنه مع تنوع مراحلها وتياراتها حاد بعض منها عن الهدف المنشود وأصبح طرحها مزيجًا ما بين الاعتدال والتطرف يقتحم مجتمعاتنا الشرقية ويؤثر على ابنائنا وأخشي عليهم من الفهم الخاطئ لكلمة النسوية الذي اكتسب دلالات سلبية بسبب تيارات الراديكالية الصاق بها بعض من الأطروحات المنافية للفطرة البشرية فنحن في حاجة إلى أهمية التواصل الحضاري مع الآخر ولكن مع الحرص على الحفاظ على البنية الثقافية والفكرية والعادات والتقاليد الاجتماعية لمجتمعاتنا الشرقية.

- الملكة حتشبسوت: ومن أجل ذلك آن الأون لإعلان مولد تيار شرقي يحمل قضايا ومشكلات المرأة العربية - تتمثل ركيزته على الدعوة إلى التكامل بين "ايزيس" و"اوزوريس" على مستوى الحياة الخاصة والحياة العامة والحرص على دعم الأسرة الشرقية بوصفها النواة الأولى في تكوين مجتمعاتنا وتقدمها. والحرص على معالجة غياب النساء واستبعادهن من السجلات التاريخية على مر العصور من خلال إبراز الدور الذي مثلته النساء في كافة  المجالات التاريخية والسياسية  والأدبية والفلسفية والعلمية وغيرها.

 وفي نهاية اللقاء بجدتي رددت لي - بنبرة مليئة بالقوة والحماسة-  يا ابنة الشرق - تذكري حتى لا تتشتتي بين مفترق الطرق عليك أن تضعي بين نصب عينيك "إيزيس" ومفتاح الحياة .

- نظرت إلىّ صديقي نظرة استفهام تريد أن تدرك كلمات جدتي  الأخيرة فقلت: لها تمهلي فنحن في بدء المسير.

معًا نحو تيار نسوى شرقي "إيزيس الشرق برفقة اوزوريس".

***

د. آمال طرزان

......................

المراجع

(1) مصطفى غالب: سقراط في سبيل موسوعة فلسفية، ط1، دار مكتبة الهلال، بيروت،1989م، ص 11.

(2) مجموعة مؤلفين: حتشبسوت قادة مصر الفرعونية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ص2008م، ص35.

(3) شاكر محمود إسماعيل: مقالة خصوصية إمكانية المرأة في حكم الشرق الأدنى القديم الجزائر، مجلة المعارف للبحوث والدراسات التاريخية ،2016، ص148.

(4) مجموعة مؤلفين: حتشبسوت قادة مصر الفرعونية، مرجع سابق، ص11.

(5) شاكر محمود إسماعيل، مرجع سابق، ص149.

(6) مرجع سابق، ص149-150.

(7) مرجع سابق، ص149-150.

(8) مرجع سابق، ص148.

(9) Debra Nails: The Life of Plato of Athens, In: "A Companion to Plato Blackwell Companions to philosophy", Ed by: Hugh H. Benson, Blackwell Publishing Ltd, USA, 2006, p.1.

(10) إمام عبدالفتاح إمام: المرأة في الفلسفة "أفلاطون والمرأة"، ط2، مكتبة مدبولي، القاهرة، ١٩٩٦م، ص 57.

(11)  ول وايريل ديورانت: قصة الحضارة نشأة الحضارة،ج1، مج1، ط1، ترجمة زكى نجيب محمود، محى الدين صابر، دار الجبل للطبع والنشر والتوزيع، بيروت، د.ت، ص62-63.

(12)  مرجع سابق، ص71.

(13) محمد فياض: المرأة المصرية القديمة ، دار الشروق، ط1، 1995م، القاهرة، ص19-20.

(14)   مرجع سابق، ص19.

(15)   مرجع سابق،ص17.

(16) Simon Blackburn: The Oxford Dictionary of Philosophy, Oxford University Press, Oxford, 1996, p.270.

(17) N.S.Doniach: The Oxford English Arabic Dictionary of current USAGE, 1Th, Oxford University press, New York, 1972, p.433

فى وصية «ربّانىّ الأمة» لتلميذه كميل بن زياد (قتل عام ٨٣ هجرية) حكمة بالغة، نحن أحوج ما نكون إليها فى زمن القيم الساقطة، زمن فقدنا فيه حكمة العقول وحكمة القلوب، وأخذنا بالحرف والعنوان دون الجوهر واللباب حتى خرج علينا الأفاكون من كل حدب وصوب، جعلوا من نقاء القلوب مجرّد أساطير خُرافية، فكانوا أساتذة فى أسطرة المعقول واللامعقول على السواء، كما جعلوا من حكمة العقول ظواهر برانيّة لا تلبث أمام أباطيلهم أن تتهافت، فلا منطق العقل مقبول لديهم ولا حكمة القلب، ناهيك عن بصيرة الذوق أو ذوق البصيرة، جعلوا أهدافهم حفنة من الأموال يُحصّلونها ليشبعوا شهواتهم وآفاتهم ومطامحهم التى تقام، فى زعمهم، على أنقاض الدين.

ولم يكن لأوكارهم الموبؤة التى يؤسسونها حديثاً صلة مقطوعة النسب بما (تكوّن!) قديماً، ولن يقدّموا طعناً أكثر ولا أحجى ممّا قُدِّم فى السابق من ليّ الألسنة ومن طعن فى الدين.

نحن أحوج ما نكون اليوم، وكل يوم، إلى تأمل وصية الإمام لتلميذه، لتعطى صورة صادقة وافية عن حقيقة الإمام من حيث نزوعه إلى الملأ الأعلى، ولتملأ النفس جلالاً وروعة، وليكون على الحقيقة هو أول فقيه للقلوب يمثل سلامتها من الدّغل والتعطيل.

يُقال، حسبما يروى المؤرخون، إنّ علياً أخذ بيد كميل بن زياد، وأخرجه إلى ناحية القبور، وتنفس نفساً طويلاً ثم تكلم عن القلوب، فقال: «يا كميل القلوب أوعية، فخيرها أوْعاها للعلم، أحفظ ما أقول لك : الناس ثلاثة :

عالمٌ ربّانى. ومتعلمٌ على سبيل النجاة. وهمجٌ رعاعٌ أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق». ثم يمضى الإمام فى تفضيل العلم على المال، ويخبر تلميذه أن فى قلبه علماً يخشى أن يُلقنه للناس فلا يحسنون استخدامه، غير أنه لن يعدم حجج الله فى الأرض، إذْ لم تخلو الأرض مطلقاً من قائم لله بحجة، لكيلا تبطل حجج الله وبيناته، أولئك هم الأقلون عدداً - هكذا يقول الإمام - الأعظمون عند الله قدراً، بهم يحفظ الله حججه، حتى يؤدونها إلى نظرائهم ويزرعوها فى قلوب أشباههم.

هجم بهم العلم على حقيقة الأمر، فاستلانوا ما استوعر منه المترَفون، وأنسوا بما استوحش عنه الجاهلون، صحبوا الدنيا بأبدانٍ أرواحها مُعلقة بالمنظر الأولى، أولئك خلفاء الله فى بلاده، ودعاته المخلصون إلى دينه، ثم يتنهد الإمام شوقاً إلى مشاهدة رؤيتهم.

حقاً .. إنّ الشبيه يدرك الشبيه كما كان يقول الفلاسفة قديماً؛ فالمُخلصون لله يدركون بعضهم بعضاً. وأصحاب المطامع والأهواء والمخازى أيضاً أشباه وأنداد يدركون أنفسهم ويعرفون أهدافهم ويجتمعون على الدَّنيّة. أولئك هم الهمج الرّعاع أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق، كما تقول الوصية.

هذه سنة الدنيا مذ قامت، ولن تجد لسنة الله تبديلاً : نسخٌ آدميّة مأجورة مستخدَمة، تتكرر فى كل زمن وفى كل عصر، وهى لا تعرف معنى لتحرير القلب ولا لحرية العقل.

وأهل الباطل فى كل جيل أشباه وأنداد. وأهل الحق كذلك هم من يتخذون من كنز العلم والتحقيق غاية نحو وَحْدَة قصد، ولا يخشون من أجل الحق فى الله لومة لائم.

وربّانيُّ الأمة هو على التحقيق المثل الأعلى للولى العالم العامل، الجامع بين علوم العقل وعلوم التصفية، وربما وجدنا من مؤرخى التصوف (أبو نعيم صاحب حلية الأولياء) من يضع على لسان عبدالله بن مسعود حديثاً مسنداً : «إنّ القرآن أنزل على سبعة أحرف، ما منها حرفٌ إلا له ظهر وبطن، وإنّ علياً بن أبى طالب عنده علم الظاهر والباطن».

أو يذهب صاحب نهج البلاغة إلى أن علياً يعلن أنه اندمج على مكنون علم لو باح به للناس لاضطربوا اضطراب الأرشية فى الطوى البعيدة. أى أنه، عليه السلام، أنطوى على علم لم يعلمه أحد لو أظهره لاضطرب الناس مثل اضطراب الحبال فى البئر العميقة.

حقيقة، لن تضام أمة وفيها الأمثلة العليا من كبار العقول وكبار القلوب، فإذا ظهر فيها اليوم، كما ظهر فيها فى السابق، من يقدح فى ثوابتها أو يطعن فى أصولها، تحت دعاوى لقيطة، فحكمه حكم من سبقه عبر تطاول الأزمنة والدهور : فى مزبلة التاريخ.

ولن تخلو أمة التوحيد من قائم لله بحجة، كما صحّ عن الإمام.

(وللحديث بقيّة)

***

د. مجدي إبراهيم

في جلسة حميمة جمعتنا خلال زيارتي للندن قبل سنتين أنا والصديق العزيز الشاعر عدنان الصائغ مع الدكتور الفنان علاء بشير في صالة فندق الهلتون متروبول، تحدث الفنان علاء بشير عن أشياء وقصص عديدة حول أعماله الفنية في العراق ورأيه في الفن العراقي المعاصر والقديم بشكل عام، والذي يرى فيه أن أغلب الأعمال الفنية العراقية المعاصرة تبدو خاوية، فارغة، وبلا أصول تربطها بتاريخ البلد وحضارة وادي الرافدين العريقة، كما لو كانت شجرة بلا جذور، وأن كثيرا من الفنانيين العراقيين قد سقطوا في المحذور حينما ملأوا لوحاتهم بألوان الفلكلور والطبيعة الصامتة والبورتريهات ذات الطابع التجاري، وأن أية مقارنة نجريها بين أية لوحة أو عمل فني مما أنجزه الفنانون العراقيون القدماء مثل ذلك التمثال الصغير للإلهة العراقية الشهيرة عشتار المعروض في المتحف البريطاني لكفيلة وحدها أن تظهر لنا الفرق بين ما تنطوي عليه تلك الأعمال الخالدة من إبداع وعبقرية وغنى وقوّة ودلالات لا تكاد تقع تحت حصر، وبين الغالبة العظمى من أعمال الرسم والنحت العراقي المعاصر من التي لا نكاد نعثر فيها على شيء يربطها بالواقع المعاصر، وما ينطوي عليه من انكسارات وأحداث وحروب وتحولات كبرى شهدها المجتمع العراقي الحديث.3920 ضياء خضير

وهو رأي يبدو للوهلة الأولى صادما لما هو سائد من آراء عن الفن العراقي المتميّز عربيا في كثير من إنجازاته الجادة والكثير من فنانيه الكبار من الذين تختلف أعمالهم عما أشار إليه الدكتور علاء من أعمال (فنية) فارغة في موضوعاتها وأساليب تنفيذها. وهي، في مجموعها، مختلفة بالتأكيد عن خطاب التشكيل الفني السائد في العصور التاريخية القديمة (السومرية والبابلية والآشورية) المحتشدة بالغيبيات والقوى الأسطورية غير المرئية؛ مع أن عديدا من الفنانيين العراقيين قد درسوا بعض تلك الأعمال ونفذوا أعمالهم في الرسم والنحت بوحي منها.

وقد كان ذلك التمثال - اللوح الذي أشار إليه الدكتور علاء يعكس، مثل غيره من أعمال النحت العراقي القديم، هذه المعاني والدلالات ذات القوى الماورائية المتحكمة بفكر الإنسان الرافديني القديم ورؤيته للعالم والكون من حوله، والتي تجسّد، في سطوحها وتكويناتها وما تنطوي عليه من تبسيط واختزال ورموز، موهبةً وقوة فريدتين في التمثيل والخلق اللذين يتجاوزان محدودية المكان والزمان المحليين والدلالات الطقسية والشعائرية الخاصة بزمنها القديم لتظل ملهمةً وخالدة عبر العصور.3919 ضياء خضير وعلاء بشير

لقد كان ما تحدث به الدكتور علاء بشير بتلك الطريقة الحميمة والواثقة مما تقول نوعا من التحدي الشخصي الذي صارت فيه رؤية بعض الأعمال العراقية القديمة الخالدة على مرّ العصور والتي يقبع بعضها في المتحف البريطاني القريب، فرصةً ثمينة لا تعوض بثمن ولا بدّ من القيام بها خلال زيارتي القصيرة تلك للندن، بعد أن فتح الدكتور علاء عيني على ما لم أفكّر فيه حول الموضوع بنفس الطريقة، على الرغم من زيارة سابقة قمت بها قبل أكثر من عشرين عاما لهذا المتحف. وهو ما يدفع أيضا إلى إعادة التفكير برؤية الدكتور علاء وفلسفته الفنية المختلفة، وبما تنطوي عليه من ولع بوجود الرموز والقيم الفكرية والفنية ذات الدلالات التكوينية واللونية والتخطيطية الخاصة في معظم لوحاته وأعماله النحتية، والتي تحاول أن تبرز محنة الإنسان العراقي الراهنة بالارتباط مع ذلك التاريخ الغائر في عمق تربة الحضارة العراقية القديمة بمختلف عصورها.

ولقد توثّق هذا الشعورُ في نفسي وأنا أقف في صباح اليوم التالي مذهولا أمام العشرات من الأعمال الفنية العراقية المعروضة في القاعة البابلية بالمتحف البريطاني بلندن، ومنها ذلك التمثال الذي استشهد به الدكتور علاء، والذي يظهر معي في الصورة المرفقة.3921 ضياء خضير

والتمثال الذي عثر عليه في مقبرة أور الملكية، كما يظن، ينطوي، كما هو واضح، على ما يزيد عن صورة جسد امرأة عارية لها جناحان وتقف بقدميها اللذين ينتهيان بمخالب على أسدين، وتمسك بدوائر تشير إلى رموز الحكمة الكونية ذات الطبيعة الدائرية، وقرون في الرأس ترمز إلى الأصل الإلهي لهذه المرأة العجيبة. وهو، كما يصفه الدكتور علاء "عمل اعظم من رائع، يتوحّد فيه البصر والبصيرة بشكل مذهل، وتبدو امامه معظم الاعمال الحديثة خائبة فارغة". وهناك، فضلا عن ذلك، بومتان تحيطان بالتمثال عن يمين وشمال لم نستطع أن نفسر ما يعنيه وجودهما، لا أنا ولا الدكتور علاء الذي اضطر لدى سؤالي له عن ذلك أن يتصل بالدكتور خزعل الماجدي في هولندا، الذي أوضح في ردّه أن هذا التمثال ليس لعشتار – إينانا، إلهة الحب والجمال والخصب، وإنما هو يعود لاختها الهة العالم السفلي، [وإن كتب عليه اسم عشتار]، واسمها (ارشكيكال)، هذا العالم الذي يسوده الموت والظلام، والذي دلالته البوم التي تنشط في الليل. والجناح هنا يشير إلى أنّ باستطاعتها الصعود إلى عالم الضياء. وهي تمسك بيدها العدالة والقانون وتقف على لبوتين، وليس أسدين، كما تفعل أختها عشتار. وعلى رأسها غطاء يحمل قرونا دلالة على أنها إلهة.

فهي إذًا الوجه الآخر لأختها عشتار، إلهة الحب والجمال الشهيرة.

والمهم في كلّ هذا هو ما ينطوي عليه هذا العمل الفني المثير من معان ودلالات استطاع صانعُه المثّالُ العراقي القديم أن يجسدها فيه، في حين تفتقد كثير من أعمالنا الفنية المعاصرة هذه الروحَ العظيمة التي ترتبط فيها كل حركة وكل تكوين وإشارة ولون بمعنى ودلالة ما، تومئ إليه وإليها وتجسّدهما.

وهو سؤال عن الفن العراقي القديم والمعاصر مطروح على الأصدقاء ليفكروا فيه ويشاركوا في محاولة الإجابة عنه...

***

الدكتور ضياء خضير

طاب مساؤكم عزيزاتي أعرّائي. أحيّيكم أطيب تحيّة، وأشكر لكم تفضّلكم عليّ بهذا الحضور الكريم؛ كما أشكر للجمعيّة العراقيّـــة الكنديّة في أتاوا دعوتهـــا إيّاي، لأتحـدّث إليكم في هذه الأمسية الثقافيّة عن تجربتي الشعريّة. ولاريب في أنّ الحديث عن تجربة شعريّة جاوز عمرهــا نصف قرن أو أزيد ليس بالأمر الهيّن ولا السهل؛ لكنّي سأختصر القول فيها، وأحصره في ارتبـاطي بالـواقـع، والتزامي بـحاضره، ورؤيتي في تغييره.. وأعني بالواقع البيئة العراقيّة التي ولدت فيها سنة خمسين وتسعمائــة وألف للميـــلاد، ونشأت فيها حتى أدركت معنى الحريّة، فقاومت الترهيب والترغيب السلطويين اللذين أراداني، في السبعينيّــات من القرن الماضي، على أن أشارك الشعراء العبيد في جرّ عربات االسلطة المستبدّة، فأتخلّى بشعري عن كرامتي الإنسانيّة والوطنيّة وعن قيمتي الفنيّة. وحين " بلغ السكّين العظم"، كما يقال، اضطررت الى الهجــــرة القَسريّة من وطني إلى المغرب الأقصى في سنة تسع وسبعين وتســعمائــــــة وآلف للميلاد، وزاولت التعليم هناك مدّة عشرة أعوام، ثَمّ اضطررت إلى الهجرة القسريّة ثانية حتّى استقرّ بي المقام بينكم في كندا. ومن باكورة شعري في غربتي واغترابي بعض قولي في رسالة شعريّة جوابيّة لأبي وقتذاك:

"أبَتِ الحنونْ

لا. لن أعودْ

لا. لن أعود الى القيودْ

لا. لن أعود إلى اليبابْ

وإلى السرابْ

مزّقتُ تذكرة الإيابْ

لا لن أعود لغربة تُدعَى وطنْ

ولمُخبرٍ يُدعَى صديقْ

لا لن أعود الى الكفنْ

وإلى اللحودْ

لا. لن أعودْ.

لا. لن أعودْ.

قرَّرتُ كالرّيح العتيّةِ أَن أَثورْ،

لا كالنسيمْ.

قرَّرتُ كالأشواكِ أنْ أَبقَى عنيدْ.

لا كالأزاهر في الربيعْ.

ورضيتُ أنْ أَحيا شريدْ.

مثل الصّقورْ.

لا كالدواجنِ في القَفَصْ.

لا. لن أُباعَ وأُشترَى مثل العبيدْ

لا. ألْف لا.

لا يا أَبي!

لاتخشينَّ عَلَيَّ إنْ نضبتْ من النَّقدِ الجيوبْ.

لا لن أموتْ

من فرط إملاقٍ وجوعْ

الموت في ذلّ الشعوبْ

والموت في عمق السكوتْ

لكمْ اللّجــــامْ.

وليَ الكــلامْ.

لا. لن أَعودْ. "

ولئن كان الواقــع العـراقيّ يعاني من التخلّف السـيـاسيّ والإجتـمـــاعيّ والدينيّ وحتّى الإقتصاديّ، وكنت محتجّاً على تخلّفه كلّ الإحتجــاج؛ فإنّي، على الرغم من تخلّفه واحتجاجي عليه، لم أتنكَّر له البتة، بل بقيت مرتبطاً به داخل العـراق وخارجــه، وملتزماً بالعمــل الجادّ للنهوض بـه، مهما كلّفني ذلـك العمـل من ثمن؛ لأنّي لم أرَ غير الإرتباط به والإلتزام بحاضره من سبيل لتغيير مستقبله. وقد أعلنت هذه الرؤية في شعري تصريحاً وتلميحاً.

ومما يدلّ على ارتباطي بمصير العراق قولي:

"لو أسهو يوماً عن وطني. لو أنساهْ.

آهٍ وطني آهٍ آهْ!

لم تبقَ سوى الذكرى منك، ولم تبقَ سوى الآهْ!

آهٍ وطني آهٍ آه!"

أو قولي:

"أنا ابن المجد والشهــــداء فخــرا** ببذل النفس للبيض الرقاقِ

أأغضي الطرف عن وطن تدمّى** بطعن جـاهــليّ لانشـقــاقِ"

وممّا يدلّ على التزامي بحاضره لتغييره قولي:

"تعبتُ ولـــم يتعبْ بأَعمـاقــيَ الحبُّ** وشـبـتُ ولـــمْ يَبلـــغْ صباباتيَ الشيبُ

وأَشــغلَ جنحيَّ الزمــــانُ بغربــــــةٍ** ولم يَنشـغــــلْ عمَّن أُحـبُّ ليَ القلـــبُ

لئِنْ غيَّبتْني عن بــــلادي عصابــــةٌ** ففي كلِّ ليلٍ من حضوري بهـــا شُهبُ

بـــلاديْ بها جـذريْ ومائيْ وطينتي** وضوئيْ وإنّي من قطافٍ بهــــــا اللبُّ

إنْ ابتسـمـتْ بِشــراً، فإنِّي شـفاهُهــا** وإنْ دمِعـتْ حـزنـاً، فـإنِّي لـهــــــا هدبُ

يَسيــرُ معي النَّخــلُ الجميـــلُ وظلُّـه** ويَجثو معي النَّهرانِ والطّينُ والعشبُ

وللسعفـــةِ الجــــرداءِ منِّيَ خضــرةٌ** وللطائـــرِ الظمآنِ من أَدمعيْ شـــربُ

وما كان بُعديْ بُعدَ مَن نَسيَ الهـوَى** ولكنّـــه بُعــدٌ يزيـــــدُ بــــــه القُـــربُ

فَديــتُ بنفسي بلـــــدةً لـــمْ تُعــــزَّنيْ** ولــمْ يَتّســعْ فيهــا لعاشــقِهــــا الدَّربُ

أُريـــدُ بهـــا شــربـاً وأَكوابُــهـــا دمٌ** وأَبغيْ بهـــا أَمْنـاً وأَحـلامُهـــــا رعبُ

وأَنسَى لهــا ســمّاً وإنّــيْ صريعُـــه** وأَهوَى لها وصــــلاً وما بيننــا حربُ

صُلبتُ بهــا أَلْفــاً ومــازالَ في دمي** حنيــنٌ لعينيهـــا يَطيـبُ بــــه الصَّلبُ

حبيبـــةُ قلبــي لا حبيبـــةَ بَعــدَهــــا** فِدَى حَبّةٍ من رملِها الشَّـرقُ والغـربُ"

كما أنّني أعلنت في شعري قبولي بدفع الثمن الباهظ مقابل ذلك الإرتباط وذلك الإلتزام كقولي:

"تعالَ وخذْ ياجـوعُ قمحَــك من دمي ** ودعني أمتْ وحدي على رمح آلامي

وخلِّ عــراقَ الحـزن يَبتـلَّ رملُــــه ** وتخضرَّ باليــــوم المذهَّب أحــــلامي

أنا المغــرم الهيمــان شـعبي حبيـبتي** وأنفاســـه لحني وعينــــاه إلهـــــامي"

أو قولي لصاحبي:

"تعـالَ، إذن، نفتـحْ شـبابيـــــكَ من دمٍ ** تُنـــــوِّر بيـتــاً فيـــــه يختبئ الغـيــبُ

إذا أنا لــم أُحــرَقْ ومثليَ صــاحبــي** فمن ذا يضئ الدربَ إنْ أظلم الدربُ؟

لقــد ملّني صبــري. أُريــــدُ جنـــازةً** لحبّيَ أو شـمسـاً يُغـنّي لهــا الشعـبُ"

أو قولي:

"إنّني أخرج من غمد السكوتْ.

إنّني أحمل قدّام الغيومْ.

لافتات المطرِ،

ومرايا الشجرِ.

فاقتلوني واقفا كالنخل في وجه الرياحْ.

واقفاً إنّي أموتْ. "

وسأترك الحديث عن الجانب الاقتصاديّ لأهله، وأقصر حديثي على ثالوث التخلّف العراقيّ أي السياسيّ والإجتماعيّ والدينيّ الذي تتناقض صوره فيما بينها حزبيّاً وعشائريّاً وطائفيّاً إلى درجة دمويّة بحيث يخرج بها الإنســـان من صفته الحضاريـّـــة التي تميِّــزه عن وحوش الغاب إلى صفته البدائيّـة الهمجيّــة. فالحاكم السياسيّ يقتل المعارض السياسيّ باسم الخيانة الوطنّية، والرجل العشائريّ يقتل المرأة المتمرّدة على قيوده باسم الشرف والأخلاق، والمؤمن الدينيّ يقتل أخاه المؤمن الدينيّ باسم الإيمان والدفاع عن المذهب. وقد انتقدت بشعري العقـل الجمعيّ لذلك العنف السلوكيّ في الصراع الداخليّ. ومنه هذه الأبيات:

"أعقاربٌ مسمومــــةٌ أم نــاسُ ** أم إنها الآثــام والأرجـــــــاسُ؟

لم يشربوا غير الدمـاء ولـم تقـمْ** إلا على جثثٍ لهـم أعــــــراسُ

متوحّشون فلاتغرّك بـسـمـــــةٌ ** إنسيّةٌ أو يخدعنْــك لبـــــــــاسُ

سُحقاٌ لقـوم كالذئــــاب وهالـــكٌ** من ليس بينهـمُ لــه أضــــراسُ

فكأنَّ سمَّ الموت وسط كلامهـمْ ** يجري وبين حروفــه الأرماسُ

إنّي لأكفرُ بالإخوَّة زهـرهـــــــا** نابٌ يعضُّ وعرقهـا دسـّــــاسُ

ألقَى بيَ الرحمن وسط بهائــــمٍ ** جرباءَ لا طابتْ لهـا أنفـــــاسُ

وقد ابتــلاني بالمصائـــب غدوةً** وأجلُّ كـلِّ مصائبي الإحسـاسُ

عشـرون ماتمّتْ فأذبلني الأسى**زهراً، وأوشك أنْ يشيب الراسُ"

غير أنّ هذه الصور المتناقضة مع بعضها إلى حدّ سفك الدمـــاء أحياناً؛ تتّفق كلّهــــا ضدّ التفكير العلميّ والوعي الوطنيّ. ولاتتورّع، حين تعجز عن مناقشة المفكّــر التنويري أوالمناضـــل الإجتمـــاعي، من أن تتّهمه بمختلف الإتهامات الجاهزة، ومن أن تجوّعه أو تشرّده أو تقتله دون أن تبـالي بأهميّة عقله النظريّ وفعله العمليّ في تطوير البـــلاد وتقدّمهــا. ومن تلميحي إلى المعاناة العامّــة للمثقفين التنويريين في العراق قولي:

"أدري وتدرين يابغــــداد كـــــم نغــمٍ**حلوٍ تلعثـــم بين البــوم والحجـــــــرِ

أدري وتدرين كـم قيثــــــارةٍ صُلبتْ** أوتارها السُمـر في هــمٍّ وفي كــــدرِ

أدري وتدرين كم شمسٍ وكم شهبٍ** مذبوحــة الضـوء قد راحت لمنحـــدرِ

هاتي المرايــــا أَرينا كيف أوجهنــا** أضحت صحارَى دمـوعٍ ذلـّةٍ خَـورِ؟

وكيــف ألقـتْ منــاراتٌ أشـــعّتهـــا** إلى الرماد، ودبّ الصمت في الشررِ؟

خلّي الحكايــة ســــكّينــاً تَجـزّ بنــا ** وزغــردي فغـداً لابــدّ مـن مطــــرِ"

ومن تلميحي إلى معاناتي الخاصّة قولي:

"أجرمتُ من فرط إِحساسي ومن فِكَري** وغـربـتـــي بين قــــــومٍ لــيـس كالبـــشـــــــــــــرِ

وتهمتي أَنّهـــــمْ نامُــــــوا وأَقلقَهـــــمْ **ضوئي، وأَزعجهمْ من أَجلِهم سهَـــري

وتهمتي أَنَّ كلَّ الأَرضِ قـــد لبِســـتْ ** صخراً، ومازال مُخضرَّاً لهم شجـري

وتهـمـتي أَنّني أَجــريــتُ مـن قــلقـي** نهـــــراً، لأُنقذَهــمْ من قبضةِ الحجـَــرِ

وتهمتي أَنّني أَدعـــــــو الريــــاحَ إلَى** رمـادِهـم، وأَصبُّ الزيـتَ في الشَّـــرر

إِذا يقولونَ:"مجنـونٌ" فقـد صــدقــــوا** فيما يقولونَ عن رعدي وعن مطري"

وأحسب أنّ سلطة الدولة في العراق هي أوّل المسؤولين عن كلّ ذلك التخلّف المتداخـل نــسيجـــه سياسيّاً واجتماعيّاً ودينيّاً، لأنّ زمام التشريع والتنفيذ بيدهــا. ولو كانت سلطـــةً وطنيّــــــةً حقّاً؛ لأصلحت الواقع المتخلّف، وحسّنته لإسعاد الإنســـان العراقيّ؛ لكنّها سـلطة فساد واســتبــداد. . غايتها تناقض غاية الشعب فضلاً عن انّها تابعة للأجنبيّ على الرغــم من الاستقــلال الشكليّ. وعلى الشاعر العراقيّ في مثل هذه الحال أن يختار موقفاً من موقفين. إمّا أن يكون دميـــةً بيـد الحاكم الفاسد والمستبد، ويشاركه في فساده واستبداده ضدّ شعبه وسيادة وطنه، وإمّا أن يكون إنسـاناً وطنياًّ صادقاً يقــاوم ظالــم شعبه وخائن بلاده. ولكم كنت صريحاً باختيــــار الموقــف الإنسـانيّ والوطنيّ من خلال شعري المناهض للحكّام العراقيين، كقولي:

"بيننا والقادةِ (الغُرِّ) ســيــاجُ ** لهم النفط وللشعب العجــــاجُ

كلّهــم صاروا ديوكــــاً معنـا ** ومع الديك الحقيقيّ دجـــــاجُ

نرجـسيّـــون طفيليّـــون. لــــم** ينضجوا. حُمقٌ مخانيثُ سِماجُ

ليس تعنيهـم ضحايــــا وطـنٍ** ونزيفٌ له في الكون ارتجـاجُ

همّهم أنْ يقسمـــوا الحبّ ولا** يتبقّى بيـن قلبيــن امتــــــزاجُ

وادّعوا الدين ولا دينَ لهــــم**مالهم في جوهر الدين احتيـاجُ

كلّهـــم جانٍ فإنْ غـــاب فمي** فلشعبي لم يغب فيه احتجــاجُ

وطني عرشي وفخـري أنّــه** فوق رأسي أينما سافرت تاجُ"

أو قولي:

"أصـاروا الله متجــرةً بســــوقٍ** وخيرَ الأنبيـاء ذوي ارتـــزاقِ

لقد باعـوا العــراق، وهـانَ حتّى**لأخجـلُ أنْ أقــول أنـا عــراقي

رأيـت الشـــعــب مختلفـاً ولكـنْ** على كرهٍ لهــــم هو في وفـاقِ

لصــوصٌ إنَّ أنظفـهــــــم لقـذْرٌ** وأحلاهـــــــم لمـرٌّ كـالزُعــاقِ

ستكنسهــــم يــد التاريــخ حتماً ** ولايبقَى لهم في الأرض باقي"

أو قولي في أعوان الحكّام:

"يُحاربون يزيـدَ الأمس في خُطبٍ** وإنّهـــم ليزيـد اليــــوم خــدّامُ

إنّ الشعـوب إذا أخبتْ مشاعلهــا ** قامت عليها من الأشباح حكّامُ"

ولاشكَّ في أنّ من يختارالإنسانيّة والوطنيّة صادقاً في ظلّ هذا التخلّف الشامل، سيشعر بالإغتراب بين أهله في وطنه الذي لم يعد وطناً إلا بالاسم، بل صار قبراً يضمّ مواطنيه الأحرار بين أطباقه وهم مايزالون أحياء. ومهما تكن الغربة خارج الوطن، تكن أهون من الإغتـراب داخلـه. وقـد عبّرت عن هـذا الشعـور المريــر في أغلب قصائــدي. ومن شعوري أنّي في مقبرة لا في وطن قولي:

" تبّاًّ لحاليَ نسراً ليس يُنجدُني ** جنحي علَيّ من الأشراك أكوامُ

قد صرت أبحث عن طهري بمقبرة** لكثر ماحاط بالأحياء آثـامُ"

وكقولي:

"إنّي سـأرحــل عن أرضي وجنّتهــا**كرهاً، وأَبعدُ عن نخلي وأنهـاري

قد طال صبـري خفيضاً رهن مقبـرةٍ** فما انتظاريَ نسراً بين أحجـارِ"

ومن شعوري بالإغتراب بين قومي داخل الوطن قولي:

"وليت همّي كهمّ النـاسِ مأدبةٌ** وكنـزُ مالٍ وكرسيٌ وأربــــاحُ

يذوب بينهـــمُ قلبي وقد جـلدوا** كما يذوب بعمق الليل مصباح

أكاد أبكي عليهم كلّما ضحكوا** أكاد أضحك منهم كلّما ناحـوا"

وكقولي:

"أنا الظمأ المهمـوم ألهث حامـــلاً ** على ظهريَ المسبيِّ تابوتَ أحلامي

فـلا فـرسـي يعـدو فانقــذَ رايـــتـي** ولاحربتي تُردي ولاساعـــدي رامي

وهـا أنـا يـابغـــــــداد جئتــــك ميّتاً** قفي واخلطي الحنّاء بالمدمع الهـامي

هبيـني رصيفــاً تــستـكنّ حقائـبـي** عليه فقد ماتت من السيـــر أقــــدامي

فمـا مَنحتْـني غيــر حزنٍ مدينـتي ** وغيــر انكســـاراتٍ وذلٍّ وأوهــــــامِ

أنا القمح والنخـل العـــراقيّ أنحني** جفافاً وأهوي جانب الشاطئ الطامي

أنا القريـة الخضــراء قحطٌ أذلّــني** فأطفـأتُ فانـوسي وأخفيتُ إكــرامي"

وأحسب أنّ أساس كلّ هذا الخراب الذي ذكرت، بصوره السياسيّة والإجتماعيّة والدينيّة في العــراق، يكمن في وضع المرأة فيه، لأهميّة دورها في العطاء الإجتماعيّ. وبدلاً من أن تحتفي السلطة الذكوريّة في العراق بهذه الإنوثة الخلاّقة المعطاء، وتساعدها علي نيل حريّتها واستقلالها؛ نراها ترهقها بقــيود العبوديـّـة والتبعيـّـة وتستهين بكرامتها وقيمتها الإجتماعيّة. ولعمري لا أكاد أرى إستهانة في الحيــاة أقسى من الإستهانة بالإمومة التي هي رمز الخصب والتجديد في المجتمع. ولقد أعظمت معنى الإمومة بشعري وأشدتُ به. ومن قولي في ذلك المعنى:

"ياعالم السحـر ياجمـــــالاً** يصيح. حُسنٌ يَشدّ حُسنا

ياأنتِ معنى الوجـود لولا **كِ لــم يكن فيـه أيّ معنى

ثوري نحطّمْ معاً قيـــوداً **غاصت عميقاً بنا وسجنا"

أو قولي في مخاطبة الأمّ:

"من نفح روحكِ هذا الطيب في طيني** كالله أنت وقــد أحسـنتِ تكويــني

سبحان نوركِ. روحي بعض خمرتــــه** وبعض أكؤســه شــكلي وتزييني

إليّ صــدركِ يـا ظـــلاً ألـــــوذ بــــــه** حبّاً ليُنسيَني حقدَ الســـكاكيــــــنِ

هيّآ لنهـــرب من سجنٍ نمــوت بـــــــه** ذلاً، ونخلص من حكم السلاطينِ"

وما إسراف أكثر الرجال بظلم نسائهم إلا دليل على عجزهم عن مواجهة سلطة الأقوى، وعلى رضوخهم لحكمه وطغيانه. ومهما يكن من شيء، فإنّ وضع المرأة في العراق وخصوصاً المسلمة هو مخالف لحقوقها المدنيّة، ومخالف لحقوقها الشرعية أيضاً.

وكيف لايخالف وضعُها حقوقها المدنيّة وقد ميّزتها االسلطة الذكوريّة عن الرجل على أساس الجنس، ولم تقرّ المساواة بينهما في الحريّة الشخصيّة الكاملة التي أصبحت تخصّه هو وحده ولاتخصّها هي؟ولكم دعوتها في شعري للثورة على ذلك التمييز لكي تتحرّر من قيود العبوديّة والتبعيّة،. وممّا يدلّ على تثويري إيّاها في هذا الميدان قولي:

"ثوري على القيدِ في اللَّيلِ.

ثوري أُقبّـلْـكِ. ثوري أُعانقْـكِ. ثوري أَرينيْ

جماحَ الخيولِ بعينيكِ. لستُ أُحبُّـك تابعةً كالكلابْ.

ولستُ أُحبُّكِ عصفورةً مُفزَعهْ

تلوذُ بريشِ انحناءْ.

أُحبُّـكِ عُريانةً في المساءْ.

تَشعِّينَ كالنَّجمةِ النائيهْ.

أَأَنتِ الإلهْ؟

يُميتُ، ويَبعثْ

سأُعلنُ رغم ذكوريّةِ الأنبياءْ،

سأُعلنُ:إِنَّ الإلهَ مؤنّثْ.

وإنّكِ كلِّي.

وفيكِ اندمجتُ، وفيَّ اندمجتِ

أَأَنتِ أَنا أَمْ أَنا هو أَنتِ؟

كلانا هو الله وحدَه. ما مِن إلهٍ سواهْ"

وممايدلّ على إصراري على مساواتها قولي:

"ولتكوني شريكتي** بصعودٍ إلى الذرى

أنا طيـــر ولم أزل** فيك أرجو تحرّرا"

أو قولي:

وأَحبّيـــني عميـــقـــاً إفعــلي **تجدي ردّي لفعــــلٍ أعمقا

وليَقــلْ عنـــك وعنّي جاهـــلٌ** خالفا العرفَ وساءا خُلُقا"

وكيف لايخالف وضعها حقوقها الشرعيّة أيضاً، وقد اتهمتها السلطــة الذكوريـّـة بنقصان العقل والدين خلافاً لنصوص التنزيــل والحديـث التي ساوت بينها والرجـل عقليّاً ودينيّاً؟ولكـم أكّدت بشعري آنّ المرأة ليست جسدا منفصلاً لهدف بيولوجي وحسب، وانّما هي النصف البشــــــريّ والرجل هو النصف الآخر. والنصفان يلتقيان في وحدة الإنسان العقليّة والنفسيّة والجسديّة. ولقد عبّرت عن مثل هذا المعنى بقولي:

"أخرجيــني من جنــــانٍ أغلقتْ** كوّةَ الضــوءِ على كـــلّ فطيـــنِ

وإلى صـدري هلمّي شــجـــــراً** وإلى صـدرك عصفـــوراً خذيني

خـوّفــــوك الأهـــل منّي، وأنـــا ** منك باســم الدين أهلي خوّفــوني

فتعـالي نتعــــانـــــقْ قبــــلمـــــا** يتلاشى العمر في صمت المنونِ"

وبناءً على نقصانها العقليّ والدينيّ المزعومين ركّزت السلطة الذكوريّة على حجابها الشكلىّ الذي لــيس هو من الفرائض الشرعيّة بشئ. ولم تلتفت تلك السلطة كثيراً إلى حجابها الجوهريّ الكامن في علمها وفي عملهــــا المؤكّدين في التنزيل والحديث؛ وهي تظن (أي السلطة الذكورية) أنّها بذلك الحجاب الشكليّ تحمي المرأة من السوء. وكيفما يكن الحجاب الخارجي، فإنه لايقي نفس المرأة إذا أمرت بالسوء حتّى لو كان من حديد. إنّ الذي يقيها من السوء هو وعيها وعلمها وتربيتها. وقد أشرت في أبيات لي إلى هذا التناقض بين صورة الداخل الحقيقيّة وصورة الخارج غير الحقيقيّة بإزاء نقد الشكليّة في الحجاب؛ إذ قلت:

"أريني غير همّــك بالحجــــابِ** فما أهوَى القشور بلا لبـــابِ

أتخفيــن الهــوَى عبثــاً بثــوبٍ ** وهل يُخفَى حريقٌ بالثيـــابِ؟

وتُبدين الوقــارَ بخفـض صوتٍ** وفي عينيك زلزال الشــبـابِ

أتخشيــن الحســـاب وأيَّ شيء**جنيتِ لكي تُساقي للحســـابِ؟

فـلاتثــقي بمــا قــــالــــت رواةٌ** بهم من غابـةٍ طبـع الذئـــابِ

فمـا في الحبِّ تخريــــبٌ ولكن** رأيت بحقدنا كـلّ الخـــــرابِ

فكــم من زوجــــة زُفّت بعقـدٍ ** وكان زواجها شبـه اغتصابِ

أفكّـــر ضدّ مملكـتي وعـرشي** على حكم الذكورة بانقـــلابِ"

وأخيراً إنّني أنادي بحريّة المرأة العراقيّة، لسببين. الأؤل هو أنّها هي أسـاس البناء الإجتماعيّ في العـــراق الذي لايمكن أن يكون قويّاً صحيحاً مالم تتحرّر المرأة فيه من هيمنة ثالـوث سلطات التخلّف التي ذكرتها آنفاً. والآخـر هو آنّ حريّتي الشخصيّة لا يكتمـل معناهــا من دون معنى حريّتهـا هي.. كيف يمكن لي أن أكـون حرّاً في وطني وأمّي أو أختي أو بنتي أو حبيـبتي، مثلاً، تعيـش فيــه غيـر حرّة؟. كــيف؟إنّ حريتهنّ هي جزء لايتجزّأ من حريّتي الشخصيــّـة التي هي جوهـــر حيـاتي، ومعنى وجـــودي. وما كان لكائن بشريّ أن يكون إنساناً ذا قيمة من دون حريّته وحريّة الآخرين الذي يعـيشــون معه. هذا وشكراً لكم جميعاً.

***

عبدالإله الياسريّ

.........................

* هذه محاضرة. ألقيتها مساء الأحد المصادف 12 أيّار/ماي 2024م استجابةً لدعوة الجمعيّة الكنديّة العراقيّة في مدينة أوتاوا بكندا، واحتفاءً بمهرجانها الثقافيّ. وهي على الرابط الآتي:

https://www. com/Ottawaicso/videos/1343407859866021

لعل القراء الأعزاء يلاحظون معي أن غالبية الناس يتعجلون نسبة الحوادث والأسئلة إلى تفسير وحيد، مع أننا جميعاً ندرك أن كل قضية، صغيرة أو كبيرة، نتاج لسلسلة من التحولات والعوامل. وثمة - إضافة لهذا - من يميل أيضاً إلى ربط تلك الحوادث والظواهر بعوامل خفية، لا يمكن التحقق منها ولا لمسها والتحكم فيها.

هذا ميل إنساني عام. فالبشر بطبعهم ينفرون من الغموض والنهايات المفتوحة، ويريدون تفسيراً كي يتجاوزوا الحدث وأسئلته. وتدرّس هذه الظاهرة في علم النفس تحت عنوان «الإغلاق المعرفي» Cognitive closure وهو مصطلح صاغه عالم النفس الأميركي آري كروجلانسكي، لوصف موقف الإنسان الذي يواجه سؤالاً محيراً أو ظاهرة غير مفهومة، أو حتى موقفاً غير مقبول من جانب شخص آخر، فهو يريد أن يتخلص من الحيرة بإضافة وصمة أو عنوان يفسر هذا الحدث، كي ينتهي منه.

كل الناس إذن يكرهون الغموض ويريدون تفسيراً. لكن ما يلي هذه النقطة محل اختلاف كبير بين المجتمعات. فهناك من يتخذ السؤال أو الحدث المحير نقطة انطلاق للتعرف إلى موضوعه. وهناك من يتعجل بنسبة الحدث إلى قوى غيبية أو بعيدة عن متناول الإنسان، مادياً أو معرفياً.

خذ مثلاً سلوك المجتمع الأميركي، حين فوجئ بالهجوم على نيويورك عام 2001، فقد انصرف إلى القراءة حول الإسلام وحول الإرهاب. وذكر تقرير اطلعت عليه قبل سنوات أن عدد الكتب حول الإسلام والمسلمين، التي نشرت في الولايات المتحدة، خلال السنوات الثلاث التالية لذلك الحادث قد تجاوز 600، فضلاً عن مئات المقالات العلمية حول مختلف أوجه الحدث. هذا يعني أن المجتمع الأميركي يميل بقوة لفهم المشكلات التي تواجهه، فهماً علمياً. لا أريد القول إن كل أميركي يفعل هذا، لكنني أشير إلى وصف عام مقارن.

السلوك المقابل هو إغلاق السؤال بنسبته إلى قوى بعيدة عن متناول الإنسان. خذ مثلاً النقاشات التي دارت بعد السيول الغزيرة التي شهدتها الإمارات وعمان وأفغانستان وإيران في أبريل (نيسان) الماضي. فقد قطع بعضهم بأنها نتيجة الاستمطار الصناعي، وادعى آخرون أنها عقوبة للناس على ما ارتكبوه من آثام. وعلى النقيض من هذا، اعتبرها فريق ثالث تمهيداً للوعد النبوي بتحول الجزيرة العربية إلى مروج وأنهار.

هذا النوع من التفسيرات يصدر عن قناعة مسبقة، فحواها أن كل ما جرى وسيجري له تفسير مختزن في الثقافة الموروثة. ولهذا فكل الأجوبة تأتي على النسق المعتاد، وتنتهي بإقرار أن الأشخاص الذين واجهوا الحدث، لا يحتاجون للمزيد من البحث والتفكير في ما وراء ذلك التفسير الجاهز.

أود استعارة وصف «الثقافة المتصلبة» الذي أطلقه منقذ داغر على الميل الذي شرحته آنفاً، أي الاعتقاد بأن كل الإجابات مختزنة في الثقافة السائدة، وأن ما فيها يكفي لتفسير كل جديد.

حين يتأكد هذا الاعتقاد في نفسك، فلن تفكر في احتمالات أخرى ربما تختفي وراء الحدث أو الظاهرة التي شهدتها. ومن هنا فإن هذا الشيء الغريب لن يلعب دور المحفز لعقلك كي يفكر ويتأمل ما حوله. الواقع أن هذا ما حدث تكراراً في المجتمع العربي. فحين تعرفوا إلى الراديو، قرروا فوراً أنه «صندوق فيه جني». ويوم رأوا البوصلة، قرروا أنها عمل سحري.

بعبارة أخرى فإن التعجل بنسبة الحدث الجديد إلى قوى ماورائية، بل حتى نسبته إلى المؤامرة أو ما يسمى بالدولة العميقة، تلعب كلها دور الحاجب الذي يمنع عقل الإنسان من رؤية الإمكانات البحثية، التأملية أو التجريبية، التي ينطوي عليها ذلك الحدث أو السؤال.

أريد الخروج بنتيجة محددة، هي دعوة القراء الأعزاء إلى عدم التعجل بتفسير الأشياء الجديدة أو نسبتها إلى قوى بعيدة المنال. تحملوا قليلاً ودعوها سؤالاً مفتوحاً، فقد تجدون الجواب وقد لا تجدون، لكنكم بالتأكيد ستربحون ثمرة التفكير.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

(سَيَكُونُ الاُّنسانُ المنحى الظُّهْر، اَلْمُسْتَغلُ المُقاتِلُ مِنْ اَجَلِ الِاسْتِقْلالِ، هوَ اَلَّذِي سَيُقَرِّرُ مَا اَلَّذِي يَخْتَارُهُ. وَهُوَ حَتْمًا سَيَخْتَارُ الحُرّيَّةَ)... كُوَامِي نُكُروما

الاستعمار من الظواهر المؤثرة في تاريخ الشعوب، ويمكن القول ان تاريخ الاستعمار يلخص بالضرورة تاريخ الإنسانية في جانبها المأساوي المؤلم والمظلم، بداية من الكولونيالية و الإمبريالية ووصولا الى الاستعمار الجديد أو ما يسمى الاستعمار المعاصر،هذا الاخير أصبح يتميز بالتخفي و بالقدرة على اعادة انتاج نفسه والتحور تماما كالفيروسات القاتلة لكن بصورة تجعله أكثر فتكا وغير قابل للملاحظة لذلك سنحاول في مقالنا هذا النبش والحفر في ظاهرة الاستعمار الجديد و هي ظاهرة مركبة ومعقدة يتقاطع فيها ما هو تاريخي مع ما هو ثقافي واجتماعي انطلاقا من تساؤلات نراها ضرورية لممارسة فعل التفكيك

فماهي الدلالات التي يحملها مفهوم الاستعمار عبر محطاته التاريخية المختلفة؟ ما هو الثابت والمتغير في هذه الظاهرة؟ وإذا كان هناك اختلاف بين الاستعمار الحديث والمعاصر كيف نفهم هذا الاختلاف وماهي ملامح ونتائج هذا التحول؟ وهل يمكن القول اننا مازلنا اليوم نعيش تحت وضع استعماري؟ ثم ماهي ألياته وكيف السبيل الى التحرر منه؟

من التصور الكلاسيكي للاستعمار إلى المفهوم المعاصر

لاشك ان الاشتغال على المفاهيم يعد بحد ذاته مشكلة ففي كل الحالات هناك دائما عوائق وعقبات  تقف في وجه تحديد مفهوم محدد ودقيق للظواهر الانسانية ليس فقط لتشابك هذه الظواهر وانما ايضا لصعوبة تحقيق الموضوعية في الطرح لاسيما ان هناك دائما أحكام عاطفية تتأرجح بين الاستهجان والاستحسان وهذا ما ينطبق على ظاهرة الاستعمار واول هذه العقبات صعوبة التعريف والتصنيف و التفسير ومن ثمة سيكون الرهان على فهم هذه الظاهرة والتنبؤ بها صعب وسنلاحظ منذ البداية ان التحديد المعجمي لا يساعدنا على فهم حقيقة هذه الظاهرة سواء في اللغة العربية او اللغات الاجنبية لأنه يحمل تناقضا وينطوي على مغالطات ولو عدنا الى ابن فارس مثلا- في معجم مقاييس اللغة- نجد ان مفهوم الاستعمار يحمل من الدلالات التي تجعله يندرج في  دائرة الافعال المستحسنة :" ..عَمَرَ الناس الأرض عِمَارةً، وهم يعمُرونها، وهي عامِرةٌ معمُورةٌ، وقولهم عامرة محمول على عمرَت الأرض، والمعمورة من عَمرت، والاسم والمصدر: العُمران، واستعمر الله الناس في الأرض ليعمروها" هذا المفهوم في ظاهر دلالاته يحول الاستعمار الى فاعلية انسانية تروم تحقيق منافع وفق غايات اخلاقية غير ان الدلالة المعجمية تتناقض مع حقيقة الاستعمار كواقعة تاريخية فالاستعمار كان يستهدف دائما- ولايزال- إحلال الهيمنة السياسية والاقتصادية والثقافية  وإلغاء هوية الاخر واستلابه والحجر عليه واستنزافه سواء من الناحية المادية أوالمعرفية وهذا ما اشار اليه رامون غروسفوغل في حوار له متحدثا عن الاستعمار الاوربي الحديث او ما يسمى الكولونيالية قائلا:"لقد سرقوا المعارف والعلوم من باقي الشعوب ثم أعادوا تدويرها و نسبوها لأنفسهم على أساس أن العلم كان شيئا خاصا بهم و بطبيعتهم كأوربيين، مع أن أوربا و حتى القرن الخامس عشر كانت قرية مظلمة مهمّشة من قبل باقي العالم، فعلم و تطور القارة جاء بفضل حضارات أخرى، جاء من حضارة الهنود في أمريكا و من الحضارة الصينية و الاسلامية و الهندية و الافريقية، و كل هاته المناطق كانت تعرف تطورا اقتصاديا و سياسيا و اجتماعيا و علميا ضخما، فيما كانت أوربا مهمشة و فقيرة مقارنة مع الاخر"

نفس المغالطة نلمسها في المصطلح اللاتيني colonus وهذه الكلمة تعني المزارع وهنا نقع في ما نسميه منطقيا سوء الدلالة بالألفاظ على المعاني  ذلك ان الأصل في مفهوم الكولونيالية ارتبط بفعل انتقال مواطنين من دولة الأمة المحتلة إلى الأرض الواقع عليها الاحتلال، واستعمل المصطلح غالبا لوصف أماكن مثل أمريكا الشمالية ونيوزيلندا وأستراليا والبرازيل والجزائر، حيث انتقلت أعداد كبيرة من المواطنين الأوروبيين، وأنشأوا مستعمرات منفصلة عن أماكن معيشة السكان الأصليين وممارسة الهيمنة العسكرية والثقافية-  والحقيقة انه عبر مراحل تاريخية مختلفة حافظ الاستعمار على نزعته التسلطية اتجاه الاخر وتجلى كنوع من الهيمنة سواء هيمنة افراد او جماعات على اقليم او سلوك اشخاص وجماعات اخرى. او تغيير وضع ثقافي بالإكراه في مجتمع ما .وهذا ما أشار اليه أيضا  -هورفاث جيه رونالد- في مقال له عن الاستعمار الجديد حيث اشار الى ان الهيمنة التي يمارسها المستعمر تمت بطريقتين :اولا بين الجماعات وثانيا داخل الجماعة ذاتها ففي بريطانيا سابقا والى الان نلاحظ هيمنة الانجليز على الويلزيين والإسكوتلنديين والايرلنديين وداخل المجتمع البريطاني نجد تراتبية من حيث السلطة والمال والمكانة وفي نظره ان العلاقة بين الْمُسْتَعْمِرُ وَالْمُسْتَعْمَرِ تأخذ ثلاثة اشكال فهي إما عــلاقة ابادة ومثال ذلك  الاحتلال الاوربي لجزر الكاريبي او ما حدث في امريكا وأستراليا او ما يحدث اليوم في غزة  وإما تداخل اجتماعي كما وقع في امريكا اللاتينية او التوازن النسبي كما حصل في مصر مثلا.

وفي كل شكل من الاشكال الثلاثة عمل الاستعمار على تغيير فلسفته ومن ثمة ادواته مرتكزا على تفوقه العسكري وقدرته على القمع وعلى تفوقه المعرفي مستفيدا من بحوث فلسفة التنوير والاستشراق من هنا اشار إدوارد سعيد الى أن الخطاب الاستشرافي ليس خطابًا علميًّا بل نتاج للقوى الإمبريالية الغربية فالاستعمار بحسب ادوارد سعيد كان بحاجة الى اقامة حاجز كبير بين الشرق الذي وصف بالتقليدي والرجعي البدائي الخال من العقل والغرب الحداثي العقلاني التنويري كي يتمكن من الهيمنة والنفوذ على البلدان التي يستعمرها.

وفي نفس السياق تحدث احمد رهدار عن الاستعمار الجديد من حيث انه نوع يكون فيه القادة من نفس البلد المستعمر حيث يلاحظ ان القادة المحليين يتمتعون بحماية خاصة واضحة ومباشرة هذه الحماية يتمتع به ايضا بعض من النخبة المثقفة حيث يعمل المستعمر على تحقيق اهدافهم في الحصول على مناصب سياسية وعزل منافسيهم مقابل الدفاع عن مصلحة المستعمر وفي مرحلة لاحقة يكون المستعمرون واتباعهم المحليين متخفيين وغير ظاهرين للعيان.

آليات الاستعمار المعاصر

قوة الاستعمار المعاصر تتجلي في تحكمه في الحقول البرمجية من خلال سلطة العلم او ما يسمى التحكم في الثقافة ومثال ذلك ISI وهو مُصطلح مُختصر لجملة ISTITUTE FOR SCIENTIFIC INFO، بمعنى (معهد المعلومات العلمية) والذي يقع مقره بولاية بنسلفانيا الأمريكية، ويُعَدُّ تصنيف ISI أشهر التصنيفات للمجلات الدولية المحكمة، ووضع إطار ذلك التصنيف العالم "يوجين جارفيلد"، أحد مؤسسي المعهد في بداية ستينيات القرن الماضي. وفي فترة التسعينيات قامت مؤسسة "ثومسون رويترز" بالاستحواذ على المعهد، وأصبحت هي المتعهدة بذلك التصنيف، وفي ظل ظهور شبكة الإنترنت ظهرت مواقع متنوعة خاصة بتصنيف ISI، وتُعرف باسم INERNATIONAL SCIENTIFIC INDEXING"، وتتضمَّن قواعد بيانات ISI عددًا كبيرًا من المجلات التي تتضمَّن مادتها ملخصات بحوث وتقارير وأوراق علمية، وتُقاس قيمة هذه المجلات وفقًا لمعامل التأثير IMPPACT FACTOR.مما ادى الى ما يسمى وهم الانتشار العلمي عن طريق زيادة المقالات في فهرسة ISI وبالتالي تحولت الجامعات -وهذا ما نلاحظه في الجزائر مثلا- الى مراكز للفهرسة ونشر المعلومات وبدل الاهتمام بالمضمون اصبح الاهتمام بالشكل حيث افرغ البحث العلمي من محتواه القيمي وقدرته على التأثير في الواقع وقد سجل احد الباحثين ان ربط مسالة الارتقاء في المراتب الجامعية بامتلاك مقالة في ISIليس بالأمر الجيد وربما يتعارض والروح العلمية هذه الالزمات عادة ما تتخذ بناء على خلفيات سياسية حيث ان اجبار الجامعي على كتابة مقالة في المجلة الفلانية لتأكيد مصداقية صلاحيته العلمية هو امر بالغ في عدم الاحترام لكلا العلم والعلماء فالعلم حيثما كان فهو علم والعلم هو الذي يعطي الصلاحية للمجلات وليس العكس.

وهكذا الاستعمار المعاصر أصبح يمارس سلطته عبر التحكم الثقافي وهذه مسألة يجب الانتباه الى خطورتها فلا يمكن ان نتصور تاريخا حقيقيا للتحرر بلا ثقافة والشعب الذي فقد ثقافته فقد ولا شك تاريخه كما كان يقول المفكر الجزائري مالك بن نبي لاسيما إذا فقدت الثقافة المبادئ التي يجب ات تقوم عليها كالمبدأ الاخلاقي الذي يحدد الدوافع والغايات والبعد الجمالي الذي يشكل الصياغة والمنطق العملي الذي يحول الفكرة الى انتاج يستفاد منه اجتماعيا والعلم الذي يزودنا بالوسائل لتحقيق هذه الغايات.

والواقع ان محاولة فرض نمط ثقافي واحد ممثلا في الثقافة الغربية قوبل بالرفض حتى داخل الجامعات الاوربية فقد عبرت منظمات طلابية في بريطانيا عن نبذها لتاريخ البلاد الاستعماري لكن الغريب في الامر ان جامعة مثل جامعة "أوكسفورد" رفضت دعوات اتحاد طلبتها بإزالة تمثال سيسيل رودس (1853-1902) من كلية أوريل، أحد أبرز الشخصيات الاستعمارية البريطانية في جنوب أفريقيا، مؤسس De Beers الشركة التي تملك أكبر مناجم الألماس، والتي كانت حتى وقت قريب مسيطرة على 90% من سوق الألماس في العالم. وبدلاً من أن يرتبط اسمه بالضحايا الذين قضوا في مناجمه أو جرائم الاستعمار، يرتبط اسمه بمنحة دراسية رفيعة تقدّمها أكسفورد التي درس فيها. وذات ملاحظة نسوقها ونحن نرى اعتصامات الطلبة في الجامعات الامريكية وبدل من معاقبة الجاني يتم توجيه اللوم الى الضحية في مفارقة حزينة.

ويمكن القول أيضا ان الاستعمار المعاصر هو بالأساس استعمار لغوي واللغة ليست مجرد رموز للاتصال والتواصل او اداة للتخاطب والتعبير عن المشاعر والافكار اللغة في جوهرها أكثر من ذلك انها تشكل روح الامة والإطار الذي تشكلت فيه ثقافتها ولذلك قيل انت تتكلم لغتي انت تنتمي الى مجموعتي واهمية اللغة تتجلى في كونها تشكل جهاز الادراك عند الفرد فهي تحدد له  زاوية النظر الى العالم الداخلي والخارجي وحياة او موت الامة متوقف على حياة او موت لغتها الام  من هنا اشتغل الاستعمار الكلاسيكي و المعاصر على هذه المسالة ووظفها لصالحه من خلال فرض لغته يقول فيليبسون صاحب كتاب الهيمنة اللغوية : “هناك نظام لاختيار اللغات في كل دولة، وليس بالضرورة أن تشمل الخيارات الإنجليزية أو أن تكون الإنجليزية الخيار الأول في كل مكان! في تنزانيا مثلا تتصدر الإنجليزية المشهد ويتلوها السواحيلية ثم عدد من اللغات المحلية، وانطلاقاً من هذا الوضع فإن عددا ًمن اللغات في نيجيريا وتنزانيا ستنقرض مع مرور الوقت، وتلك مأساة، لأن معرفة أن الثقافات مندمجة في اللغات سيعني أن عددا ًمن الثقافات ستخرج وتنتهي من التعدد الثقافي في ذلك البلد، وربما من العالم… والسبب الرئيس في هذا هو الفشل في التخطيط اللغوي خاصة على مستوى التعليم”.حيث خلص البروفيسور البريطاني روبرت فيليبسون في كتابه “الإمبريالية اللغوية” إلى أن تعليم الإنجليزية هو في الحقيقة فعل استعماري بأدوات لغوية. ويضيف البروفيسور البريطاني: أن الرئيس السنغافوري لي كوان يو قد ندم كثيراً على اهتمامه المبالغ بفرض الإنجليزية مقابل التقليل من شأن المحليات وأهمها اللغة الصينية ذات الثقل الكبير اقتصادياً.

وتذكر احصاءات انه بإنجلترا وبسبب السياسات الاستعمارية اللغوية ذهبت لغة الأيرلنديين والأسكتلنديين أدراج الرياح ولم يبقى منها إلا النزر اليسير (أقل من 2%) يتحدثها وأقل من ذلك من يكتب أو يقرأ بها. لقد استعادت إيرلندا استقلالها، لكنها لم تستطع استعادة لغتها!

ومن المفارقات ان الدول التي لها تاريخ استعماري تدرك خطورة الهيمنة الثقافية كفرنسا مثلا التي تعمل على فرض لغتها في العديد من المستعمرات السابقة لكن في نفس الوقت تضع القوانين التي تحمي لغتها مثل قانون رقم 94-665 في 4 أغسطس 1994 المتعلق باستخدام اللغة الفرنسية ويعرف باسم (قانون توبون (‏، نسبة إلى وزير الثقافة جاك توبون، يرتكز على ثلاثة أهداف رئيسية هي: إثراء اللغة؛ والالتزام باستخدام اللغة الفرنسية ؛ والدفاع عن الفرنسية كاللغة الرسمية للجمهورية كما تهدف لضمان أسبقية استعمال المصطلحات الفرنسية التقليدية، لضمان السيادة الفرنسية في فرنسا. واستجابة لتزايد استخدام اللغة الإنجليزية في فرنسا، ولا سيما في الإعلانات التجارية، حيث يلزم قانون توبون جميع الإعلانات والملصقات الترويجية أن تكون مكتوبة باللغة الفرنسية. والمجالات التي يسرى عليها الحظر هي:

- كافة الوثائق والمستندات والإعلانات المسموعة والمرئية.

- كافة مكاتبات الشركات العاملة على الأرض الفرنسية، وبوجه خاص المحلات التجارية، والأفلام الدعائية التي تبث عبر الإذاعة والتلفزيون. وعقوبة المخالفة تتضمن السجن أو غرامة مالية. وقد اثار مقطع فيديو لحفيدة الرئيس الأميركي السابق  دونالد ترمب وهي تغني وتنشد باللغة الصينية ضجة كبيرة كما تداول نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي الصينية مقطعاً آخر لابنة الملياردير الأميركي جيم روجرز وهي تردد بطلاقة أغنية صينية. وكان المستثمر الأميركي قد أشار في تصريحات صحفية إلى أنه عادة ما يشدد في محاضراته على ضرورة تعليم الأطفال الصينية باعتبارها لغة القرن الجديد. وقال إن القرن التاسع عشر كان قرن بريطانيا، والقرن العشرين قرن أميركا، وتوقع أن يكون القرن الواحد والعشرين قرن الصين.

من اليات عمل الاستعمار الجديد التحكم في الخارطة السياسية لدول العالم الثالث

عموما والدول العربية على وجه الخصوص والعمل على لجم الثورات العربية التي عجزت عن تحقيق اهدافها وقد استنتج حكيم بن حمودة في مقالٍ له نُشر في شباط/فيفري 2011:" انّ اليقظة العربيّة الثانية- وكان يقصد الربيع العربي - لن تُترجم بعمليّة دمقرطة، بل بتغيير في قمم (رؤوس) الطبقة الحاكمة، وفي بعض الحالات، بتغيير الأنظمة. عمومًا، مع ذلك، هم لن يتغيّروا. المصالح الداخليّة والخارجيّة التي تحميهم قويّة جدًّا. وفق هذا التفسير، فإنّه من المرجّح أنّ قدر «الربيع العربيّ» هو أن يصبح، بسرعة، خريفً قاسيًا، دون المرور بصيف أو خريف. الإصلاحات التي ستجرى لن تكون إلّا شكليّة، سيتمّ إرساء ديموقراطيّات معادية لليبراليّة شبيهة بسابقاتها. ويرى بعض المعلّقين الأكثر تشاؤمًا، أنّها يمكن أن تكون الجديدة أسوأ ".

وجدير بالملاحظة ان الاستعمار الجديد يتغذى على  نشر نظام التفاهة وتغليب الكم على الكيف وتغييب النظرة النقدية وقد اشرنا الى ذلك في مقال سابق عن اغتيال الفلسفة والتأسيس لنظام التفاهة نضيف هنا فقط قول مالك بن نبي وهو يتحدث عن القابلية للاستعمار :" هذا الوجه المتخلف الكئيب مازال حيا ...نصادفه في المظهر الكاذب الذي يتخذه ابن صاحب المليارات نصف المتعلم الذي انطبع في الظاهر بجميع اشكال الحياة الحديثة فاكسبه مليار ابيه وشهادة البكالوريا مظهر الانسان العصري بينما تحمل اخلاقه وميوله وافكاره صورة انسان ما بعد الموحدين" كما يمكن العودة الى احدى نصوص ابن خلدون وهو يحلل ظاهرة تقليد المغلوب للغالب في كتابه المقدمة يقول :" والسبب في ذلك ان النفس ابدا تعتقد الكمال فيمن غلبها وانقادت اليه،اما لنظرة بالكمال بما وقر عندها من تعظيمه،أو لما تغالط به من انقيادها ليس لغلب طبيعي،انما هو لكمال الغالب،فاذا غالطت واتصل لها حصل اعتقادا،فانتحلت جميع مذاهب الغالب وتشبهت به،وذلك هو الاقتداء.....ولذلك ترى المغلوب يتشبه ابدا بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه ..بل وفي سائر احواله،وانظر ذلك في الابناء مع ابائهم كيف تجدهم متشبهين بهم دائما وما ذلك الا لاعتقادهم ان الكمال فيهم .وانظر الى كل قطر من الاقطار كيف يغلب عليه زي الحامية وجند السلطان في الاكثر،لانهم هم الغالبون لهم،حتى اذا كانت امة تجاور اخرى ولها الغلب عليها فيسري اليهم من هذا التشبه والاقتداء حظ كبير،كما هو في الاندلس لهذا العهد من امم السلاجقة،فانك تجدهم يتشبهون بهم في ملابسهم وشاراتهم والكثير من عوائدهم واحوالهم،حتى في رسم التماثيل في الجدران والمصانع والبيوت،حتى لقد يستشعر من ذلك الناظر بعين الحكمة انه من علامات الاستيلاء .والامر لله.

وكتخريج عام نقول إنه في كل المحطات التاريخية اقترن مفهوم الاستعمار بالهيمنة والتعالي والسيطرة على الاخر والتعامل معه وفق ثنائية السيد والعبد وثنائية الشرق المستبد والغرب الحداثي الديمقراطي او ثنائية الجنوب المتخلف والشمال المتقدم بل ان الاستعمار الغربي لايزال يواصل حربه القذرة بأسلحة اخرى ولكنها أكثر فتكا. ويمكن القول اننا لا زلنا نعيش حالة من الاستعمار والإستدمار وانه لا سبيل للتحرر الا من خلال تحرير الانسان المستعبد ونشر قيم التسامح اتجاه الاخر والتواصل معه والاعلاء من شان التفكير النقدي والاحتكام الى منطق العقل لا العاطفة وهذه مهمة المثقف الثوري فإما فلسفة جديدة للحياة او الكارثة والاُّنسانُ المنحى الظُّهْر، اَلْمُسْتَغلُ، اَلَّذِي يُعَانِي مِنْ سُوءِ التَّغْذِيَةِ، المُقاتِلُ مِنْ اَجَلِ الِاسْتِقْلالِ، المُغَطَّى بِالدَّمِ، اذا ما احسن اختيار الطريق الذي يسلكه هوَ اَلَّذِي سَيُقَرِّرُ مَا اَلَّذِي يَخْتَارُهُ. وَهُوَ حَتْمًا سَيَخْتَارُ الحُرّيَّةَ"

***

علي عمرون – أستاذ فلسفة - الجزائر

................

هوامش

01-   كُوَامِي نُكُروما: فَيْلَسوفٌ وَرَجُلٌ سياسيٌّ وَقائِدٌ وَطَنيٌّ ثَوْريٌّ غاني 1909 – 1972

02-   رامون غروسفوغل باحث بورتوريكي متخصص في السوسيولوجيا. يشغل منصب أستاذ بجامعة بركلي بالولايات المتحدة الأمريكية، مهتم بسؤال الكلونيالية والسلطة.

يعد التعليم العالي حجر الزاوية في اي مجتمع متقدم، وقياس نجاحه يشير إلى مدى تقدم هذا المجتمع وازدهاره. لكن، ما هي حقيقة التعليم العالي في جامعاتنا اليوم؟ هل هي فعلاً ورش عمل لبناء جيل المستقبل، ام انها ساحات تعج بالمشكلات والتحديات؟ هذه بعض الاراء ابداها لي شخصيا عدد من القيادات الاكاديمية والتربوية العراقية عن المشاكل والتحديات التي تواجه التعليم العالي حاليا، قمت باختصارها واعادة صياغتها، وعرضها حسب تواترها. واعتذر لوجود تكرار او تشابه بين بعض الاراء.

استهلال

أحد الأساتذة الموقّرين أجابني في بداية حديثه عن جوانب الضعف في التعليم العالي ومشاكله بقصة شبّه فيها تلك المشاكل بحكاية ذلك العراقي الذي شرب الخمر حتى الثمالة، فقرر في تلك اللحظة كتابة رسالة للرئيس يشرح فيها حالته. وعندما جلس صباحاً واستيقظ من سكره، قرأ الرسالة وانهار بالبكاء. سألوه: لماذا تبكي؟ فقال: كل هذه المشاكل عندي ولم أكن أعلم بها؟

عرض المشاكل:

1. التضخم في أعداد الطلاب:

ازدحام هائل في الجامعات، يفوق قدرتها الاستيعابية.

توسع غير مبرر في القبول بالدراسات العليا.

2. ضعف التوجه للتعليم المهني والتقني:

عزوف عن الدراسة في المعاهد التكنولوجية والتطبيقية.

تهافت على الكليات النظرية، خاصة الأهلية.

3. أوجه قصور في بحوث الدراسات العليا:

ضعف جودة البحوث، خاصة في التخصصات التطبيقية.

قلة فرص التمويل.

شبهات حول نزاهة بعض البحوث.

4. غياب التنسيق بين الجامعات واحتياجات السوق:

عدم وجود خطط لربط مخرجات التعليم العالي باحتياجات سوق العمل.

ضعف التواصل بين الجامعات والمؤسسات والشركات.

5. منح درجات الامتياز دون استحقاق:

منح درجات علمية عليا دون تقييم موضوعي.

ضغوطات على لجان المناقشة.

6. تراجع الموضوعية العلمية في المناقشات الأكاديمية:

حضور غير أكاديمي في مناقشات رسائل الدراسات العليا.

ضغوطات سياسية أو اجتماعية على لجان المناقشة.

7. ضعف انضباط أعضاء هيئة التدريس:

تأخر عن الدوام.

قلة التواصل بين أعضاء هيئة التدريس.

ضعف التزامهم بالتطوير المهني.

8. نقص التطوير المهني لأعضاء هيئة التدريس:

عزوف عن تطوير المهارات العلمية والتربوية.

قلة فرص التدريب والتطوير.

9. مناهج دراسية قديمة وتركيز على التلقين:

مناهج دراسية غير محدثة.

تركيز على التلقين وحفظ المعلومات.

قلة فرص التقييم المستمر.

10. صراعات بين أعضاء هيئة التدريس:

تنافسية غير صحية بين اعضاء هيئة التدريس.

محاربة المتميزين.

11. غض الطرف عن سلبيات بعض أعضاء هيئة التدريس:

عدم محاسبة أعضاء هيئة التدريس على تقصيرهم.

غض الطرف عن سلوكياتهم السلبية.

12. المحسوبية في التقييمات:

عدم تقييم أعضاء هيئة التدريس ورؤساء الأقسام والعمداء بشكل موضوعي.

المحسوبية والمنسوبية في التقييمات.

13. غياب التخطيط الاستراتيجي:

عدم وجود خطط واضحة لتطوير التعليم العالي.

ضعف التنسيق بين مختلف أطراف العملية التعليمية.

14. سوء إدارة الموارد المالية:

عدم وجود خطة لتوظيف الموارد المالية بشكل فعال.

هدر للموارد في بنود غير ضرورية.

15. ضعف الولاء والانتماء للمؤسسة:

شعور أعضاء هيئة التدريس بالإحباط وعدم الانتماء للجامعة.

غياب الرؤية المشتركة للمستقبل.

16. غياب التنسيق بين وزارتي التعليم العالي والتربية:

عدم وجود خطة تعليمية تكاملية بين الوزارتين.

فجوة بين المناهج الدراسية في المراحل المختلفة.

17. سوء اختيار القيادات الأكاديمية:

الاعتماد على المحاصصة الحزبية أو الطائفية في اختيار القيادات.

غياب معايير الكفاءة في التعيينات.

18. انتشار التملق والمداهنة:

غياب الشفافية والنزاهة في العمل.

سيطرة بعض الشخصيات المتنفذة على القرارات.

19. ضعف الإدارة الأكاديمية:

قلة الخبرة والكفاءة لدى بعض القيادات الإدارية.

انتشار البيروقراطية.

20. هوس التصنيفات العالمية:

تركيز مبالغ فيه على تحسين ترتيب الجامعات العراقية في التصنيفات العالمية دون التركيز على الجودة الحقيقية للتعليم.

اتباع ممارسات غير أخلاقية لتحسين التصنيفات.

21. كثرة الشهادات الممنوحة من جامعات ضعيفة او غير معترف بها:

سهولة الحصول على شهادات عليا من جامعات غير رصينة خارج العراق.

معادلة هذه الشهادات مع الشهادات الصادرة من الجامعات العراقية.

22. تولي الخريجين الجدد لمناصب إدارية دون خبرة:

تعيين خريجين جدد في مناصب إدارية دون خبرة أو كفاءة.

إهمال الكفاءات العلمية المتمرسة.

23. التركيز على الجوانب النظرية وإهمال التطبيق:

تركيز المناهج الدراسية على الجوانب النظرية دون التركيز على التطبيق العملي.

نقص في الوسائل التعليمية الحديثة.

24. ضعف البنية التحتية للجامعات:

نقص في المباني والمرافق الجامعية.

قلة فرص حصول الطلاب على خدمات تعليمية مناسبة.

ضعف التمويل لصيانة البنية التحتية.

25. محدودية الموارد المالية:

قلة الموارد المالية المخصصة للتعليم العالي.

عدم كفاية التمويل للبحث العلمي.

26. نقص الاستقلالية للجامعات:

تدخلات حكومية في شؤون الجامعات.

قلة حرية الجامعات في اتخاذ القرارات.

27. تقادم النظام التعليمي:

عدم تحديث المناهج الدراسية والبرامج التعليمية.

غياب التطوير المهني لأعضاء هيئة التدريس.

28. الفساد والتدخلات السياسية:

انتشار الفساد في الجامعات.

استخدام المناصب الأكاديمية لتحقيق مكاسب شخصية.

تدخلات سياسية في شؤون التعيينات والترقيات.

29. انعدام الاستقرار الأمني:

الأوضاع الأمنية غير المستقرة في العراق.

تكليف التدريسيين بمهام امنية.

30. محدودية التعاون الدولي:

ضعف التواصل بين الجامعات العراقية والجامعات العالمية.

قلة فرص تبادل الخبرات والبحوث.

31. نقص النزاهة في بعض جوانب التعاون الدولي:

انتشار ظاهرة شراء الشهادات والاستشهادات العلمية من مؤسسات أجنبية مشبوهة.

التعاون العلمي المزيف المبني على شراء البحوث المشتركة.

32. تقادم التشريعات والقوانين:

عدم تحديث القوانين والتشريعات المنظمة للتعليم العالي.

قلة المرونة في التعامل مع التطورات المتسارعة.

33. فقدان الثقة في الجامعات:

شعور الطلاب والمجتمع بفقدان الثقة بالجامعات كمؤسسات أكاديمية نزيهة.

34. تزييف البحث العلمي:

انتشار ظاهرة سرقة البحوث العلمية.

تزوير البيانات والنتائج.

35. ضياع التقاليد والأعراف الجامعية:

تراجع احترام المعلم والأستاذ الجامعي.

انتشار ظاهرة الغش والتزوير.

ضعف الوعي بأخلاقيات البحث العلمي.

36. هيمنة أصحاب الجامعات الأهلية:

تزايد نفوذ أصحاب الجامعات الأهلية على القرارات الإدارية في الجامعات والكليات.

تهميش دور أعضاء هيئة التدريس.

37. منح النجاح دون استحقاق:

منح درجات النجاح للطلاب دون تقييم موضوعي.

انتشار ظاهرة الغش والتزوير والمحسوبية.

38. إهدار ثروة الكفاءات العلمية المتقاعدة:

عدم الاستفادة من خبرات الكفاءات العلمية المتقاعدة.

إقصاءهم عن المشاركة في العملية التعليمية.

39. تخبط القرارات الوزارية:

عدم وضوح الرؤية في القرارات الوزارية المتعلقة بالتعليم العالي.

تردد الجامعات في اتخاذ القرارات.

40. هوس النشر العلمي وعرض الإنجازات الوهمية:

تركيز بعض أعضاء هيئة التدريس على نشر أوراق علمية في مجلات غير رصينة.

عرض إنجازات وهمية لتحسين الصورة الشخصية.

41. نقص الدعم المالي لبحوث الدراسات العليا:

عدم حصول الباحثين على تمويل لبحوثهم.

ضعف البنية التحتية للبحث العلمي.

42. عيوب قانون الترقيات العلمية:

وجود ثغرات في قانون الترقيات العلمية تفتح المجال للظلم والمحسوبية.

تركيز معايير الترقية على النشر يهمش جوانب أخرى مهمة من العمل الأكاديمي.

43. إشغال أعضاء هيئة التدريس بأمور غير أكاديمية:

تكليف أعضاء هيئة التدريس بمهام إدارية غير مرتبطة باختصاصاتهم.

عدم توفير الوقت الكافي للبحث العلمي والتدريس.

44. افتقاد فلسفة تعليمية تربوية:

غياب الرؤية الواضحة للتعليم العالي في العراق.

عدم وجود خطة استراتيجية لتطوير التعليم.

45. تراجع مكانة الأستاذ الجامعي:

فقدان احترام الأستاذ الجامعي.

ضعف المشاركة الاجتماعية.

46. القبول الواسع غير المدروس في الجامعات:

قبول أعداد كبيرة من الطلاب في الجامعات دون تقييم قدراتهم وإمكانياتهم.

عدم وجود خطط لتنظيم عملية القبول.

47. تحول الجامعات إلى مدارس ثانوية:

ضعف الأنشطة الطلابية والرياضية والثقافية في الجامعات.

غياب دور الجامعات في تنمية مهارات الطلاب الشخصية.

48. ضعف الإبداع والابتكار:

تركيز المناهج الدراسية على التلقين وحفظ المعلومات دون التركيز على تنمية مهارات التفكير النقدي والإبداع.

ضعف بيئة البحث العلمي في الجامعات.

49. هجرة الكفاءات العلمية:

شعور الكفاءات العلمية بالإحباط وعدم وجود فرص مناسبة في العراق.

ضعف مكانتهم الاجتماعية.

50. ضعف استخدام التكنولوجيا في التعليم:

نقص في استخدام التكنولوجيا الحديثة في العملية التعليمية.

عدم توفير البنية التحتية اللازمة لاستخدام التكنولوجيا.

51. ضعف التعاون بين الجامعات والمجتمع:

قلة التعاون بين الجامعات والمجتمع المحلي.

عدم وجود خطة للتواصل بين الجامعات والمؤسسات المختلفة.

52. غياب الرؤية المستقبلية للتعليم العالي:

عدم وجود خطة استراتيجية واضحة لتطوير التعليم العالي في العراق.

عدم وجود رؤية واضحة لمستقبل التعليم العالي في العراق.

خاتمة:

يواجه التعليم العالي في العراق العديد من المشكلات والتحديات التي تتطلب حلولاً جادة وفعالة. ويعتبر معالجة هذه المشكلات مسؤولية وطنية تقع على عاتق الجميع. فمن خلال العمل معا، يمكننا ضمان حصول الأجيال القادمة على تعليم جامعي عالي الجودة يساهم في بناء مستقبل أفضل للبلاد.

***

ا. د. محمد الربيعي

 

كان لودفيج فان بيتهوفن ونابليون بونابرت من الشخصيات المؤثرة التي شكلت مسار التاريخ في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر. على الرغم من أن حياتهما لم تتقاطع بشكل مباشر، إلا أن بيتهوفن ونابليون كانا معاصرين تربطهما علاقة معقدة اتسمت بالإعجاب وخيبة الأمل وفي النهاية الخيانة.

ولد بيتهوفن في بون بألمانيا عام 1770، قبل سنوات قليلة من ميلاد نابليون الذي ولد في جزيرة كورسيكا عام 1769. جاء كلا الرجلين من بدايات متواضعة وأظهرا علامات مبكرة على الموهبة في مجال تخصصهما. كان بيتهوفن معجزة موسيقية وسرعان ما صعد إلى الشهرة كملحن وعازف بيانو، بينما أظهر نابليون براعة عسكرية استثنائية ومهارات قيادية قادته في النهاية إلى أن يصبح إمبراطور فرنسا.

في السنوات الأولى من حياته المهنية، كان بيتهوفن من أشد المعجبين بنابليون واعتبره بطلا للحرية والمساواة. حتى أن بيتهوفن أهدى سيمفونيته الثالثة، المعروفة أيضا باسم "إيرويكا"، لنابليون، الذي كان يعتقد أنه يجسد مُثُل الثورة الفرنسية. كان اسم السيمفونية في البداية "بونابرت"، لكن بيتهوفن غيرها لاحقا إلى "إيرويكا" بعد أن أعلن نابليون نفسه إمبراطورا، الأمر الذي خيب أمل بيتهوفن بشدة وأثار غضبه.

من ناحية أخرى، كان نابليون يدرك جيدا إعجاب بيتهوفن به وقدّر التكريم الذي حظي به في موسيقى الملحن. اعترف نابليون بموهبة بيتهوفن ودعاه إلى الأداء في بلاطه، وهو ما رفضه بيتهوفن من حيث المبدأ. وعلى الرغم من ذلك، استمر نابليون في دعم موسيقى بيتهوفن، بل ومنحه معاشا تقاعديا لضمان استقراره المالي.

ومع ذلك، فإن سياسات نابليون القمعية والفتوحات العسكرية أفسدت في النهاية رأي بيتهوفن فيه. أصيب بيتهوفن بخيبة أمل بسبب طموحات نابليون المتعطشة للسلطة وتجاهله للمثل الديمقراطية التي دافع عنها ذات يوم. ردا على ذلك، قام بيتهوفن بتأليف أوبراه الوحيدة "فيديليو"، والتي عكست إيمانه بانتصار الحب والعدالة والحرية على الاستبداد والقمع.

ومع انتهاء عهد نابليون بهزيمته في معركة واترلو عام 1815، أصبحت مشاعر بيتهوفن تجاهه واضحة. في سيمفونيته التاسعة، أدرج بيتهوفن "نشيد الفرح" لفريدريك شيلر كخاتمة، والتي احتفلت بالأخوة العالمية للإنسانية وانتصار الروح الإنسانية. كانت هذه السيمفونية بمثابة شهادة على إيمان بيتهوفن الدائم بقدرة الموسيقى على نقل المشاعر العميقة وإلهام التغيير الإيجابي في المجتمع.

وفي الختام، كان بيتهوفن ونابليون يمثلان قوتين متناقضتين في أوائل القرن التاسع عشر ــ قوة الموسيقى في الارتقاء والإلهام، وقوة القوة العسكرية في الهيمنة والسيطرة. وبينما اتسمت علاقتهما بلحظات من الإعجاب وخيبة الأمل، إلا أن إرثهما لا يزال يتردد صداه حتى اليوم. لقد صمدت موسيقى بيتهوفن أمام اختبار الزمن وتبقى مصدر إلهام للأجيال القادمة، في حين أن تراث نابليون هو إرث الغزو والقوة، مشوب بطعم الخيانة المرير. في نهاية المطاف، يعمل بيتهوفن ونابليون بمثابة تذكير لتعقيد الطبيعة البشرية والصراع الدائم بين المُثُل والواقع.

فهل نعي دروس الحياة؟

***

محمد عبد الكريم يوسف

المملكة المغربية، الأرض الضاربة في عمق التاريخ الغني والفسيفساء الثقافي النابض بالحياة، تتنقل بدورها كباقي دول المعمور العريقة في هذا المشهد الرقمي الراهن والمتشابك حيث تلوح الإنترنت والذكاء الاصطناعي بعصر مزدهر من التواصل الفائق وتدفق هائل لأنهار من المعلومات والبيانات الضخمة.

وبينما توفر هذه التطورات التكنولوجية إمكانيات مثيرة للغاية ، فإنها تمثل أيضًا تحديات لخصوصية الهوية الثقافية المتفردة للمغرب.

إن التراث الثقافي المغربي هو مدارة التقاء الروافد الأمازيغية والعربية والإفريقية والأندلسية. والدين الإسلامي الحنيف يعتبر بمثابة العماد العقائدي الذي تقوم عليه الدولة منذ إثنا عشر قرنا، وكياننا الرصين متشابك مع تقاليدنا الأمازيغية العريقة وغني بالمرجعيات الدينية وخصوصا الإسلامية واليهودية.

إن هذه الفسيفساء الرائعة والملهمة تتألق بتنوعها المتأصل، والذي يتم التعبير عنه من خلال الموسيقى العريقة النابضة بالحياة وسرود الحكايات الشعبية وآلاف القصائد الملحونية الحكيمة وأطباق الأطعمة والتصاميم المعمارية القديمة والعصرية..إلخ

ومع ذلك، فإن هذا التنوع الغني والمتفرد في المنطقة العربية يصطدم بتحديًات العصر الرقمي إذ يمكن لشبكة الإنترنت، بميولاتها المتشابكة وإمكاناتها كفضاءات لترديد الصدى، أن تؤدي عن غير قصد إلى التآكل المبطن لهذا النسيج الفسيفسائي حيث التدفق لهذا المحتوى الأجنبي، الذي غالبا ما يفتقر إلى التنخيل وإلى السياق المرغوب فيه أو لا يراعي القيم المغربية قبل كل شيء، يمكن أن يخلق فينا شعورا بالاغتراب الداخلي ويقوض تماسكنا الثقافي الجماعي.

فعلى مستوى التجانس الثقافي يمكن للسرديات الأدبية والترفيهية الغربية المسيطرة على العالم في الوقت الراهن أن تطفو على المحتوى المغربي المحلي. وهذا يمكن أن يؤدي إلى الشعور بمركب النقص الثقافي وإذكاء الرغبة في محاكاة الآخر وتقليد التيارات الأجنبية الوافدة عبر الطرق السيارة الرقمية ، مما قد يؤدي أخيرا إلى اضمحلال تقاليدنا المغربية.

إنه لم يعد خاف على أحد أن شبكة الإنترنت تزدحم بالمعلومات المضللة والملغومة. وهذا يمكن أن يؤدي إلى إذكاء لمختلف التوترات والنعرات الإثنوغرافية والسياسية ، مما سيشكل عائقا لترسيخ الوحدة الوطنية من الشمال إلى الجنوب أي من مدينة طنجة بوابة المغرب نحو أوروبا إلى مدينة الداخلة جنوب الصحراء المغربية بوابتنا نحو القارة الإفريقية .

يمكن لطبيعة شبكة الإنترنت غير المفلترة أن تعرض المواطنين، وخاصة الشباب منهم، لمحتوى يتناقض مع القيم والأعراف الاجتماعية. وهذا يمكن أن يؤدي إلى اختلالات أخلاقية وتراجع في التماسك الاجتماعي.

يمكن لخريطة الطريق الهندسة الثقافية ، عندما يتم توظيفها بشكل رصين ومدروس، أن تكون بمثابة درعا قويا لمواجهة هذه الاتجاهات السلبية والهدامة لشبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي من خلال دعم إنشاء المحتوى المحلي حيث يعد تشجيع ودعم إنشاء محتوى مغربي أصيل وعالي الجودة عبر مختلف المنصات الإعلامية الورقية منها والرقمية أمرًا بالغ الأهمية. يمكن أن يشمل ذلك مختلف فنون التعبير مثل الموسيقى والأفلام الروائية والوثائقية والمواد التعليمية التي تحتفي بالثقافة والتراث المغربي.

كذلك من خلال المعرفة الرقمية ومهارات التفكير النقدي حيث إن تزويد المواطنين بمهارات القراءة والكتابة الرقمية يمكّنهم من تمييز المعلومات الموثوقة من المغلوطة. إن مهارات التفكير النقدي ستسمح لهم بتقييم المحتوى عبر شبكة الإنترنت من خلال مجهر ثقافي مغربي أصيل.

وتطوير التواجد القوي على شبكة الإنترنت باللغتين العربية والأمازيغية يمكن أن يؤمن وصولاً أوسع للمحتوى المغربي ومواجهة هيمنة اللغات الأجنبية على الإنترنت.

كما إن رقمنة وأرشفة التراث الثقافي المغربي، من الموسيقى التقليدية إلى المواقع التاريخية والمخطوطات القديمة ، سيضمن إمكانية الولوج إليها والحفاظ عليها للأجيال القادمة.

ومما لاشك فيه أن الذكاء الاصطناعي من جانبه يمكن أن يكون وسيلة قيمة في جهود إرساء هندسة ثقافية ناجعة. هناك بعض التطبيقات المحتملة التي تشمل إنشاء المحتوى حيث يمكن للأدوات المدعومة بالذكاء الاصطناعي أن تساعد في إنشاء محتوى جذاب وذي صلة ثقافيا بالهوية المغربية ، مثل الألعاب التعليمية أو تجارب سرد الحكايات التفاعلية التي تحتفي بالتقاليد المغربية.

ومن جانب آخر يمكن لأدوات وكفايات تعلم اللغة المدعومة بالذكاء الاصطناعي أن تساعد المغاربة في الوصول إلى المحتوى عبر الإنترنت بلغات أخرى مع الحفاظ على المحتوى الخاص بهم. بالإضافة إلى ذلك، يمكن لأدوات الترجمة المدعومة بالذكاء الاصطناعي ضمان وصول أوسع للمحتوى المغربي المترجم إلى لغات كونية أخرى.

وعلى مستوى الإشراف على مكونات المحتوى يمكن تدريب خوارزميات الذكاء الاصطناعي لتحديد المحتوى المسيء أو الذي لا يحترم القيم المغربية والمؤسسات السياسية والإبلاغ عنه. ومع ذلك، يجب النظر بعناية لتجنب الرقابة أو التضييق على المعارضة الفكرية المشروعة.

ويجب أن تحقق جهود الهندسة الثقافية كذلك توازناً دقيقاً بين الحفاظ على التراث الثقافي وتكريس الانفتاح على العالم الخارجي حيث سيستفيد المكون الثقافي المغربي الغني من التبادل الثقافي السليم. والهدف هو ضمان دمج التأثيرات الأجنبية بشكل مدروس وعقلاني ورصين، وإثراء الثقافة المغربية من خلال المثاقفة دون المساس بقيمها الأساسية.

إن حماية الهوية الثقافية المغربية في العصر الرقمي تتطلب مجهودات تشاركية مكثفة حيث يمكن للحكومة من خلال وزارة الثقافة والاتصال إلى جانب المجتمع المدني أن يلعبا دوراً حاسماً من خلال دعم المبادرات التي تدعم منتوج المحتوى المحلي، ومحو الأمية الرقمية، والحفاظ على الثقافة عبر شبكة الإنترنت. بالإضافة إلى ذلك، يمكنها بلورة قوانين عمل لتطوير الذكاء الاصطناعي المسؤول والإشراف على المحتوى.

أما على مستوى المؤسسات التعليمية بكل أسلاكها فيجب أن تلعب دورًا حيويًا في دمج المعرفة الرقمية ومهارات التفكير النقدي في مناهجها الدراسية. بالإضافة إلى ذلك، يمكن تشجيع إنشاء محتوى تعليمي يحتفي بالثقافة المغربية بجميع وجوهها وأشكالها الأدبية والفنية والفلكلورية.

أيضا على مستوى صناعة الإعلام بجميع أسانيده يمكن أن تلعب دورًا حاسمًا من خلال إنتاج محتوى عالي الجودة يعكس الثقافة والقيم المغربية إذ يمكن أن يشمل ذلك الأفلام والبرامج التلفزيونية الجادة والهادفة والأشكال الموسيقية والمحتوى عبر الإنترنت الذي يلقى صدى لدى الجماهير الشابة.

ومما لاشك فيه أن منظمات المجتمع المدني يمكنها المساهمة من خلال رفع مستوى الوعي الجماهيري حول تحديات وفرص العصر الرقمي، ودعم السلوك المسؤول عبر الإنترنت، والدعوة إلى السياسات التي تدعم الحفاظ على الثقافة.

من جهة أخرى يلعب المواطنون دورًا حيويًا من خلال التفاعل النشط مع المحتوى المغربي عبر شبكة الإنترنت، والتقييم النقدي للمعلومات، وتعزيز شروط الحوار السوسيوثقافي المسؤول.

إن التراث الثقافي المغربي هو عبارة عن فسيفساء نابض بالحيوية الراسخة، وهو محبوك بخيوط من التقاليد والتنوع والابتكار. ومن خلال تبني آلية الهندسة الثقافية كأداة للوحدة والمرونة، يستطيع المغرب أن يبحر في العصر الرقمي بأمان مع الحفاظ على خصوصية هويته المتفردة. ومن خلال الجهد التشاركي، يستطيع المغرب الاستفادة من التكنولوجيا لإنشاء هوية رقمية مزدهرة تحتفي بتراثه الثقافي الغني مع البقاء منفتحًا على التأثيرات الإيجابية للعالم المترابط به.

يظل إذن مفهوم الهندسة الثقافية مفهوما ديناميكيا يتطور باستمرار جنبا إلى جنب مع التقدم التكنولوجي. ومع استمرار نمو إمكانات الذكاء الاصطناعي، سيكون من الأهمية بمكان ضمان استخدام هذه الأدوات بشكل أخلاقي ومسؤول في سياق الحفاظ على هوية الثقافة المغربية.

كما يجب أن تكون خوارزميات الذكاء الاصطناعي المستخدمة لإنشاء المحتوى أو الإشراف عليه شفافة وخاضعة للمساءلة . وتساعد في بناء الثقة وضمان عدم استخدام هذه الأدوات لأغراض عنصرية أو تمييزية.

إنه من خلال تبني هذه الخارطة، يمكن للمغرب أن يضمن تكريس هندسته الثقافية كقوة من أجل الوحدة والخير العميم، وحماية هويته الثقافية المتفردة مع دعم مساحة رقمية مزدهرة تحتفي بالوحدة والتنوع والمرونة.

إن التراث الثقافي للمغرب وموقعه الجغرافي الإستراتيجي يجعله منارة للعالم، وشهادة فخر على قوة احتضان التنوع في إطار الوحدة والقيم المشتركة. وفي العصر الرقمي، يتمتع هذا الفسيفساء الغني بالقدرة على الازدهار عبر شبكة الإنترنت، والوصول إلى جمهور عالمي وإلهام جيل جديد. ومن خلال توظيف الهندسة الثقافية بشكل مدروس، يمكن للمغرب أن يضمن استمرار فسيفساءه الثقافي في التألق لأجيال قادمة.

***

عبده حقي

 

(منصة (X) نموذجا)

الطبيعة الإنسانية هي علائقية بالدرجة الأولى، بمختلف دوائر الاجتماع البشري من أسرة وبيئة عمل ونحوه، وما التفاعل الذي تعجّ به منصات التواصل الاجتماعي، إلا دائرة من تلك الدوائر التي تشغل حيزا كبيرا في تفاعلنا الإنساني، إن لم تكن الأكبر لأسباب متعددة، فهو عالم حقيقي لا افتراضي كما هو المفهوم السائد، لكننا ندخل إليه بنسخة معدّلة منّا بما تقتضيه الشخصية التي نريد أن نظهر بها للعالم سواء وراء معرّف حقيقي أو وهمي.

ولعل منصة (X) من بين أعلى منصات التواصل الاجتماعي التي تستحوذ على نصيب الأسد من التفاعل الكتابي في ارتباطه بـ (الترندات) والتي تعطي مؤشرا على الرأي العام لديموغرافيا محددة تجاه مسألة جدلية.

إن التفاعل الكتابي في منصة (X) يمثّل مساحة حيوية لمظاهر ذَوق المُخالطة، الذي أعني به هنا فن التعامل الحضاري في العلاقات الإنسانية، إلا أنّنا نشهد كيف أنّ هذا التفاعل الكتابي يرصد جانبا كبيرا من العنف اللفظي، خصوصا لدى طرح القضايا ذات الطابع الجدلي.

وأودّ أن أقدّم تعريفا للعنف اللفظي لأستند إليه في طرحي، فيكون: استعمال لغة هجومية مفرغة من الإنسانية، تتراوح من مجرد تراكيب ومفردات استعلائية إلى أقذع ألفاظ السباب والانتقاص والطعن في الشخوص.

إنّ الحَيدة عن لُبّ الأفكار - محلّ النقاش - صوب التعدي اللفظي على الآخر، أمسى مشهدا بديهيا في (الترندات) اليومية على منصة (X)، فأصبح عالم (الشخوص) متسيّدا عالم (الأفكار)، وهي ظاهرة لا تتواءم والانفتاح المعرفي والحضاري.

ولنا أن ندّعي أنّ هذا العنف اللفظي لا يأخذ نمطا مماثلا لِما لو كان النقاش وجها لوجه، ويزداد تكهرب الشحنة الهجومية فيما لو كان التفاعل يحدث عبر المعرفات الوهمية وليس الحسابات الشخصية، إذن عامل التخفي أو البُعد الفيزيائي له تأثيره على كثافة ونوعية العنف اللفظي الممارَس؛ والذي تزداد رعونته مقارنة بالوضع على الأرض.

وأراني مضطرا هنا للإشارة إلى أنني أجد صعوبة في مساواة العنف اللفظي بوصفه فعلا ابتدائيا معه بوصفه ردةَ فعل، ففي حين يكون الأول جليّ السوء، فإنّ الثاني يعكس قدرا معقولا من الطبيعة البشرية، والناس تختلف في الاستجابة، من التغاضي أو الرد بالتي هي أحسن، وحتى المعاملة بالمثل، بل وقد يصل الأمر إلى ردّ الصاع صاعين.

ومهما يكن، فإن علم نفس اللغة يقضي بوجود دوافع نفسية تُذْكي جذوة العنف اللفظي، سأتعرّض لبضعة دوافع منها، مع التنبيه على أنني لا أسعى إلى تخطئة مَن يصدر عنه العنف اللفظي بقدر ما أبغي تفهّم الدوافع وطرح بعض أدوات التحكم.

١. قصور الوعي في إدارة الشعور:

عند استعراض هرم غراهام للاختلاف، الذي يضم سبعة مستويات في كيفية الاستجابة للاختلاف في الآراء، فإنّ أول مستويين متعلقان بالوقوع في الطرف الآخر شتمًا وانتقاصا، فاللغة تَبَعٌ لمستوى الوعي، فإذا كان الوعي مُنمّطا بالتهجّم الشخصي في حالة الاختلاف فإنه يَعتبر العنف اللفظي التعبير الأمثل للرد على الرأي الآخر.

إن اللغة بطبيعتها حيادية، فحين تكون الاستجابة بالشخصنة يتم استحضار قاموس العنف اللفظي لأداء مهمته، والشعور عقبها بأريحية نفسية، وكأنّ حِملا كبيرا قد أُزيح عن العاتق، فالعنف اللفظي يصدر - فيما يصدر بسببه - لإشباع رغبة نفسية، وتضميد جرح غائر، فهو إسكات للصراخ الداخلي وتنفيسٌ عن مكبوتات متراكمة، وقد اعتبرتُ قصور الوعي دافعا للعنف اللفظي؛ كونه البيئة الحاضنة والمبارِكة والمبرِّرة، ففي هذا المستوى تكون لغة الاختلاف هي العنف اللفظي!

٢. الارتباط العاطفي:

من الطبيعي أن يخبو وَهج العنف اللفظي لدى الانخراط في مواضيع لا تشكّل أهمية بالغة، لكن ما إنْ يتصل الأمر بالانتماءات الذاتية كالدينية والوطنية والقبلية فإنك تكاد ترى نسخة متطرّفة من الشخصية المتزنة عادة، وفي الحقل الديني يكون الأمر أخطر؛ إذ يستمد العنف اللفظي شرعيّته من المقدّس، فيتحول المذموم إلى محمود بل وواجب، ويتم استحضار نصوص دينية في سياق الطعن الشخصي، فيكون العنف اللفظي مادةً تعكس الغيرة الدينية - بحسب تعبير المبررين - كما أنه يعدّ قُربةً يتعبّد بها مرتكبها، فيغدو الحطّ من المخالف الديني بما يضادّ الأخلاق الإنسانية سبيلا للذَّود عن حِمى الدين الذي يتم تصديره في الأساس حاميا لحياض الأخلاق!

إن التعلق العاطفي بالأفكار محل النقاش بسبب الانتماء، يُضعف التحكّم بالقاموس اللغوي، فيعيش (ذوقُ المخالَطة) أسوأ لحظاته، وعند عتبة الردود تُقطَّع أوصاله، وتُسقى الأرض بدمائه قربانا للانتماء!

٣. الاحتياج لأنْ نُسمع:

في تقديري أن محورية (أنْ نُسمَع) راجعة في الأساس لـ (الاحتياج للتقدير) وليس غريبا أن يضعه ماسلو ضمن هرمه المشهور للاحتياجات الإنسانية، ‏فنحن كائنات معبّرة ومدنية! ‏ولذا كانت ماهية تكويننا البشري تحتّم علينا الرغبة العارمة لأنْ نُسمع، ‏ونميل لمن يستمع لنا، ‏ونغبط مَن يجد قلبا ينصت لهواجسه مهما كانت ساذجة وواهمة.

فإذا كان ذلك كذلك، فإنّ أي قصور في تلبية هذه الحاجة حال النقاش ينبري العنف اللفظي يدًا تأخذ ما تراه حقَّها عنوة! فهو إعادة صياغة فَظّة لـ: أنت لا تكترث للاستماع إليّ.

٤. التشفّي الاجتماعي:

العَمْد إلى الهجوم اللفظي على الطرف الآخر على انفراد يكاد لا يعدّ شيئا بإزاء أن لو كان الهجوم ذاته أمام الملأ، فالنيل اللفظي من الإنسان وسط الأعين مؤذٍ لدرجة مهولة؛ لأنّ الاعتراف الاجتماعي ضرورة بشرية؛ ولذا لا يكون ثمّة تشويه ولا تشهير بلا مجتمع يشهد على ذلك، فيكون العنف اللفظي هنا ممارسة متعمَّدة ومنظَّمة وجماعية! والعقل الجمعي يستمرئ الهجوم اللفظي الأهوج على الشخوص تحت أي شمّاعة كانت، ويجد الأفراد مبررا وبيئة حاضنة ودعما اجتماعيا يرعى العنف اللفظي بهدف التحييد الاجتماعي.

هذا التطواف العام يجرّنا للبحث عن أدوات من شأنها أن تعيننا على التحكم بعنفنا اللفظي، مع الأخذ في الاعتبار أن العنف اللفظي قد يكون عَرَضا لمرض نفسي أو عاهة شخصية مزمنة كالتنمّر، وهذا له معالجة مختلفة، وفيما يلي عدة مقترحات تمثّل لَبِنة جادّة في بناء استجابة واعية ومسؤولة في التعبير عن الاختلاف:

١. خلق عادة التركيز على النقد الموضوعي، وإدراك أنّ الشخصنة تَشِي بضعف مستوى الإنسانية وتدنّي النضج المعرفي، علاوة على الظهور بمظهر ضعيف الحجة، إذْ اللجوء للهجوم على الطرف الآخر عوضا عن التعاطي الصحي مع جوهر الفكرة، هو هروب ينضح منه الافتقار للبراهين، فيتم تغطية العجز وتمويه الإفلاس من البرهان بمثل هذه الأساليب.

إنّ خلق هذه العادة البديلة ليس من السهولة بمكان، ولكن يمكن البدء بطرح هذا السؤال: أين محلّ النزاع؟ أي: أين موضع الاختلاف بين الرأيين؟ وفي ضوء ذلك يتم النظر في الحجج والحجج المضادة، هذه العادة من شأنها أن تجفف منابع العنف اللفظي إلى حد كبير، إذ يتم استدعاء الفكرة بدلا من الآخر المختلف، فيتم توجيه التركيز للوجهة الصحيحة، واللغة تَبَعٌ لهذا الاستدعاء الواعي، مع التأكيد على أنّ العادة حتى تترسّخ يجب التدريب عليها ردحًا من الزمن حتى تنتقل من منطقة الشعور إلى منطقة اللاشعور لتستقرّ ردةَ فعلٍ تلقائية فيما بعد.

٢. تجنّب الاسترسال مع أي طرف يوظّف العنف اللفظي في ردوده، سواء بالانسحاب أو بالتنبيه الصريح؛ حيث إن الردود اللطيفة في مقابل العنف اللفظي يُنظر إليها - في الجملة - على أنها ضربٌ من الضعف، والضعف يستميل الطرف الهجومي لزيادة وتيرة العنف اللفظي، كما أنّ استفزاز المعتاد على العنف اللفظي خاصة في المواضيع المتعلقة بالانتماءات سهلٌ للغاية، وبإمكان هذا الأسلوب أنْ يدفع الآخرين للتعرّف على منهجيتك الحوارية الحازمة، وفي المقابل تجنّب نفسك من الانزلاق إلى مستنقع اللغة السوقية.

٣. تدوين عبارات تعبّر بشكل صحي عن الاختلاف، والتدرّب عليها، حيث إنّ ذلك يساعد بشكل فعّال على ترويض ردة الفعل الارتجالية في المستوى اللاواعي على تراكيب مسؤولة، عِوَضا عن الأساليب الرعناء، فإيجاد البديل الحاضر في مستوى اللاشعور دافعٌ متين للعمل بالنهج الجديد في التحكم بانفعالاتنا اللفظية بوجه عام.

أود أن أُلملم طرحي بالزعم بأنّ التفاوت في الاستجابة اللغوية على المستوى الفردي يُحيل على وجود عدة قواميس لفظية للفرد الواحد - إن صحّ التعبير - ونحن نصطفي منها ما هو أليق وألصق وأوفق بالموقف، أو بشخصية محدد من شخصياتنا! بحسب مفهوم عالم النفس الأمريكي روجرز حول التمثيل الذاتي، دوائر روجرز متحدة المركز (Rogers Concentric circle) الذي يرى أن الذات تتمظهر في (٣) شخصيات، الشخصية الذاتية والشخصية الخاصة والشخصية العامة، فالشخصية الذاتية تكون خاصة بصاحبها، لا تشارك منطقتها غيرها كالأسرار والتخيّلات، وتكون هي المهيمنة في المعرفات الوهمية! وأمّا الشخصية الخاصة فهي تتضمّن ما تشاركه دائرتها المقربة من حبيب وصديق مقرب وعائلة، في حين تأتي الشخصية العامة لتمثّل ما تختار إظهاره أمام عموم الناس من اهتمامات وممارسات وغيره.

فالشخصية الأولى تمثّل الشخصية الحقيقية في أصدق تجلّياتها، وفي الثانية رغم نسختها المعدّلة يمكن أن تتلمّس فيها جوانب شفافة من الشخصية، فمع الأحبّة ترتفع الكُلفة، أما الثالثة فهي الأكثر تهذيبا وتشذيبا لتتواءم وأعرافَ المجتمع وإكراهات القوانين، ولكل شخصية قاموسها اللغوي الخاص! فحين تتم ممارسة العنف اللفظي رغم ذاك فهو بشكل ما خرقٌ لسمات الشخصية العامة، وكأن الشخصية الذاتية أو الخاصة تتعدى على حدود الشخصية العامة وتخترق فضاءاتها، سواء في حالات معدودة أو حالةً ذات ديمومة، وما هذا الاختراق إلا لداعٍ ذاتي قوي، يجب تفهّم جذوره النفسية، وإيجاد آلية جادة لضبطه.

***

بقلم: محمـــد سيـــف

مفتتح: قرأت مقالة (مؤسسة تكوين وضجيج مؤتمر التأسيس) للصديق الأستاذ بدر العبري من سلطنة المحبة والتسامح والحوار والتعارف والابداع الثقافي حول الضجيج الذي انتشر في ربوع أرض الكنانة مصر الحبيبة بخصوص المؤتمر التأسيسي لمؤسسة تكوين، للأسف مصر عاصمة الفكر والثقافة والتأليف والطباعة، التي قرأنا وسمعنا عنها أيام الدكتور طه حسين والأديب العالمي نجيب محفوظ والدكتور نصر حامد أبو زيد والدكتور حسن حنفي والدكتور عبد الفتاح إمام وغيرهم كثر، هذه البلاد التي لا تكف عن ميلاد العباقرة والعلماء والمفكرين الأحرار والمجددين والمصلحين المميزين في التفكير الديني وغيره، للأسف غابت عنها تقاليد الحوار وإحترام الرأي الآخر والفكر الآخر وما هنالك من صور التمدن الذي راح ضحيته عمالقة في الفكر والثقافة والدين، ليس مصر العربية وحدها التي أصبح الفكر الحر فيها غير محترم رغم الاختلاف مع بعض تفاصيله، إنه العالم العربي برمته كذلك حيث اكتسح التلوث الفكري – كما يعبر المفكر الراحل حسن التل- كل أركان التفكير العربي الحديث والمعاصر، فلا غرابة في هكذا ضجة مفتعلة – كما يعبر المفكر الفلسطيني الشهيد فتحي الشقاقي-  لأن ضرورات دوام التلوث والضمور والتطرف ووالتسقيط تستدعي مثل هذه السيناريوهات عبر الاعلام وعبر وسائل التواصل الاجتماعي وفي الأماكن العامة وكأن القيامة قامت، لا لشيء سوى لأن الحرية الفكرية والحوار العلمي والتعارف الثقافي مهددات لواقع التفاهة والرداءة المستشري من طنجة إلى مسقط ..

الراهن الثقافي العربي:

هذه اللحظة الثقافية المشوهة من المشهد الثقافي الأصيل هي محل إشكال ليس مصري فقط بل عربي أيضا وبإمتياز: لماذا هذا التشظي في تركيبة الذهنية العربية المعاصرة ؟ ومتى تنتهي الخصومة في الثقافة العربية برسالة تسامح ضد التخلف والرجعية والحاكمية الثقافية المطلقة بلا شرعية ولا أدنى مسوغ منطقي؟

بكل بساطة إن من يفكر بحرية في جغرافية مأسورة للتطرف الطائفي وو الإثني والجهوي والحزبي لا يمكنه أن يرفع رأسه، لأنه بالأساس فوق ميول مجتمع ملوث فكريا وبيئيا والمنحرف أخلاقيا، هنا بالتحديد تبرز وظيفة المثقف الحر النزيه المخلص الكوني – بتعبير صديقي الدكتور سامي عبد العال-[1] على طول المحاور الثقافية في العالم العربي، لأن المثقف الكوني ( هناك مفهوم أراه مماثل المثقف الرسالي عند الأستاذ ماجد الغرباوي[2]) يحمل غاية واحدة هي بعث الوعي بالكرامة للجميع لذلك كان يمازح الدكتور علي الوردي -و هو القامة العراقية العربية التي عاشت وماتت دون أن تنتبه لها المجتمعات إلا بعد عشر سنوات من رحيلها - لا تتحدثوا علانية عن ابن خلدون لأن اسمه فقط مستفز للرداءة والتلوث وما هنالك...

هناك حاجة ماسة للوقوف والمعاينة والتمحيص بكل قوة وحزم وصلاية على ردود الفعل – المسماة ثقافية- وهي واقعا إفرازات لقيم اجتماعية وأخلاقية لا حضارية، هناك أعطاب أخلاقية وإنحرافات إجتماعية تمكنت من ترسيخ "البلطجة" كثقافة تهدد كل فكرة حرة تطرح للنقاش أو للحوار أو للمداولة بين من هم أهل لذلك، مما ضيق الخيارات على الأحرار في الفكر والثقافة والدين والجامعات رغم رحابة بلادنا العربية وغنى مخزونها الثقافي الخلاق للوعي والنباهة والابداع، أليست القاهرة وبغداد ودمشق وبيروت والجزائر العاصمة وطنجة وتونس والكويت كانت مدن حافلة بالانتعاش الثقافي في سبعينيات القرن الماضي ومسقط مع نهايات القرن الفائت، كلها كانت مقاصد المثقفين العرب بكل مشاربهم وتوجهاتهم، لقد كانت تحتوي كل التنوعات لذلك انتعشت ولم تتسم بالأحادية الفكرية الخانقة لثقافة السؤال والضاغطة على رقاب الوعي، حيث أجدني هنا مضطرا للتنبيه أن كل ما يفتعل من ضجات مرجعه الأساسي هو القبلية الثقافية ( قيم العشيرة الناتجة عن الاستبداد الديني والسياسي كما يعبر عن ذلك المفكر الغرباوي[3]) حيث يعبر بالقول: الفرد الغربي يعتز أيضا بإنتمائه لعشيرته وبيته، لكن الفارق أن قيم العشيرة لا تفرض سلطتها عليه، ولا تنافس القانون في ولائه، فهو منحاز دائما للقانون وسلطته، وعليه ينبغي لنا من أجل نهوض حضاري ناجح تحرير عقل الفرد من سلطة العشيرة وقيمها، حينما تتعارض مع القيم الإنسانية أو تتقاطع مع القانون. فيكون ولاء الفرد أولاً للقانون، وليس العكس كما في المجتمعات المتخلفة . بل يجب التحرر من سلطة كل نظام أبوي، في البيت والمدرسة والعمل والسلطة[4]. ولعل هناك سبب آخر يوافق ما سبق ذكره، ساهم في صناعة التلوث الثقافي في المجتمعات المهزومة أو الضعيفة وهو الانشداد إلى الماضي والجمود الفكري وتقديس غير المقدس، وهذه حالة شعورية تسيطر على المهزوم وتجعله – هاربا من تحديات الواقع وإخفاقات الوعي المتحكمة فيه- فيلوذ بالماضي ويقدسه بغثه وسمينه بحيث يصبح لا يفرق بين المقدس وغيره وما هو دليل أصلي عما هو فرعي وتابع كما لدى الأصوليين، لذلك نلاحظ إعلاء غير عقلاني للماضي ومكوناته كلها بلا تحقيق ولا تمحيص، والأكيد أن هذه الظاهرة موجودة لدى كل المجتمعات البشرية وعاشتها في مرحلة ما، كل ما هنالك أن هناك من تجاوزتها وتحررت من قيودها وأخرى ظلت أسيرة فيها، وهنا الضحية الأولى هي الحقيقة والوعي والموضوعية، لأن الواقع الذي يتعاطى مع الأسئلة والنقاشات ومداراتها ومضامينها وآفاقها بعقلية ملوثة وجامدة في مرحلة تاريخية معينة وبخطاب تحنيطي للتخلف سيشكل – بلا أدنى شك- عائقا ومعوقا وسدا أمام حركة التجديد الثقافي والتنمية الحضارية، لأن العقل المستغرق في التلوث الطائفي وملكية الحقيقة وهالات الشرعية وما هنالك من شعارات محرفة محجوب عن بلوغ الحقيقة، هذا العقل الفرعوني البيزنطي المهووس بالأحادية الفكرية لا يتحمل حضور العقل النقدي في المشهد الثقافي..

ماذا عن مفهوم السلم الثقافي الصحيح؟

إن انحسار دور العقل النقدي في المجتمعات العربية، يعني تفسير الواقع وظواهره بتفسيرات غيبية وأسطورية أحيانا بعيدا عن منطق الأسباب والمسببات، ولعل العلة الأولى لذلك أن ذوي العقول الملوثة هم المسيطرين على الشأن الثقافي غالبا والديني تحديدا منه في الأغلب وإلا لماذا هناك توجس غير طبيعي من أي محاولة لمناقشة سبل التجديد والإصلاح ونقد التراث وما هنالك، فالمقدس معلوم ومحدد وليس هناك أية جهة لها سلطة منح القداسة لما ليس بمقدس، لكن العقل الملوث فكريا يعمل على شيطنة كل ثقافة السؤال حتى يبقى الحال على حاله ولا يتجاوز المجتمع إخفاقات الوعي لديه في تفاصيل واقعه، والمؤسف أن تلفق مفاهيم حضارية لتعمل عمل المخدر ويبقى الواقع في رداءته والمدينة تترّيف أكثر فأكثر حتى تنتفي معالم التمدن نهائيا، فمفهوم السلم الثقافي يراد له أن يتماهى ومفهوم الخمول الثقافي، لأن اللوثة الثقافية التي لا تعالج، تستشري وتسيطر فتروض المشهد الثقافي لتنطفئ مصابيح الوعي فيه وعندها تدرج مفهوم السلم في سياق معاكس كليا وتماما لمدلوله الصحيح، بينما السلم الحقيقي لا يجنح إلى العنف ويخضع للاعتدال والحوار العلمي الموضوعي، ولا يتحقق إلا في جو من الديمقراطية السليمة من الفساد والعجز الفكري ودناءة السلوك، لأن السلم الثقافي يعني فيما يعنيه الشعور بالآخر واحترامه والدفاع عن حقوقه والتعارف معه والإحساس بجمال التنوع والتعدد الذي يقوي الوحدة الجامعة والعادلة..

السلم الثقافي ومحنة المثقف:

هناك شرائح عدة من المثقفين في عالما العربي أو كما يسميهم الدكتور سامي عبد العال بأنماط المثقفين، شريحة انبهرت بالغرب لحد الذوبان فيه، وهذا ما يطلق عليه الإغتراب الثقافي بحيث يعمل هذا المثقف على إجراء قطيعة مع تكوينه الثقافي ورؤاه وقيمه الأخلاقية والاجتماعية، لكن الخطورة بالنسبة لهذه الشريحة أنها خدمية في الغالب وليست موضوعية كل همها إرضاء الآخر الغربي بمشروعها الذي يسعى لللحاق بمشروع القطيعة مع ثقافة العصر الوسيط لدى الغرب، فمشكلة الثقافة لدى هذه الشريحة قد تصل لحد الخيانة وقد تسمى اندماجا ثقافيا ولكنها في الحقيقة انسلاخ عن التكوين الثقافي واللهث وراء الثقافة الغربية بلا كرامة ولا حتى موضوعية في ذلك سوى هروب من محنة الثقافة في الوطن العربي لا هي علمانية بالمعنى العلمي ولا هي ملحدة بالمعنى اللا ديني، فقط تعاني من لوثة ثقافية أفقدتها وعي المخاض وسبل الخلاص.

بينما الشريحة المقابلة هي على العكس تماما من الشريحة الخدمية للغرب، إنها شريحة مستبدة فكريا وسلوكيا وتجنح للعنف بشكل مروع، لا تقبل نهائيا الرأي الآخر، تمتهن الابتزاز الفكري والإعلامي والثقافي الاجتماعي وتسعى للسيطرة على المؤسسات الدينية والثقافية والإعلامية ومحاصرة الخطاب الثقافي وتسييجه بحدود تتوافق مع مداراتها الفكرية والعقائدية والثقافية، فتعادي الغرب بكليته حتى علومه، بينما هي تستخدم تقانته تحت غطاء أنه مسخر لخدمتها ضمن معادلة القداسة التي ترسم معالمها في اللاوعي الجمعي حولها، فالسلم الثقافي لدى رواد هذه الشريحة هو ما يقبلونه ويدعون إليه غير ذلك فهو عدو وخطر ولابد من محاربته، ولا تقتصر على الدينيين فقط لأن خلفية هذه الشريحة هي العصبية القبلية والإثنية والدينية والطائفية والسياسية، يمتازون بالتثبيط الثقافي إلى درجة العنف بشتى أشكاله من أجل تحقيق استبدادهم الذي يعبرون عنه بهتانا وزورا بالسلم الثقافي الذي يتأسس بثقافة "البلطجة" السيئة الصيت !!

في حين الشريحة الأخيرة وهي المثلى والتي كانت ولا تزال وسطا في ركوب أمواج البحث عن الحقيقة دون التفريط أو الإفراط في الدين والأخلاق والعلم والمعرفة والتكنولوجيا، هذه الشريحة رسالتها إنسانية وليست من أجل الغرب وعيونه أو العصبيات ونزواتها، وتعمل جاهدة من أجل تجاوز أشكال الاستبداد والقابلية للإستعمار وتنقية التلوث الفكري الكاسح للعقول والمجتمعات والمتحكم في الواقع بالتثبيط والإخفاق والرجعية والشذوذ، هذه الشريحة سلمها سلم لأنها تستمد رؤيتها من ثقافة السلام العادل والكريم والحضاري، هذه الشريحة تؤمن بالحوار العلمي والتعارف الثقافي والاحترام المتبادل بين الذات والآخر الجواني والبرّاني، أهدافها واضحة في البحث عن الحقيقة، لا تتوقف أمام الضجيج المفتعل لأنها تدرك حالة إخفاق الوعي لدى ذلك المبرمج لتعطيل كل مشاريع النقد والإصلاح والتجديد والتنوير في العالم العربي، تعلم أن هناك يد للمستعمر تتلخص في مناهج فكرية وثقافية محددة يراد لها أن تنتشر دون أخرى، وتركز بجسارة في مشروعها التنويري حتى لا تستقطب نحو مستنقعات التنويم الثقافي للشعوب والقتل البربري للأفكار والمشاريع الفكرية الهادفة للتجديد والإصلاح، إن مثقف هذه الشريحة لديه كامل الوعي والأهلية والمصداقية في تصور مناورات الاشتباك الثقافية، إنه مثقف رسالته إنسانية كونية تحترم الإنسان وتسعى من أجل تخليصه من إخفاقات الوعي الحاصلة لديه، إنه مثقف أفكاره حية بحياة الإنسان وليست قاتلة أو مميتة أو ميتة...

و كما يعبر المفكر الغرباوي "سلسلة اليقينيات-طبعا السلبية- تتناسل في ثقافتنا" في معرض تحليله لما يطلق عليه اليقين السلبي والذي أراه يقينا مبتلى به أتباع الشريحتين السابقتين كل بحسب مقاصده ومصالحه، لكن ما يهمنا بهذا الخصوص هو اليقين الإيجابي لدى المثقف الكوني والرسالي في محنته الثقافية داخل المشهد الثقافي العربي، لكن هذا اليقين هو مغاير تماما لليقينيات السلبية المسيطرة على مجتمعاتنا والتي تحاط بقداسة عظيمة أحيانا تستغرب أن أغلبها لا تعرف من أين حصلت على القداسة تلك !!

يقين المثقف الكوني الرسالي هو يقين يتطور بالايجابية أي هو تحصيل مسيرة بحث وتنقيب وتمحيص وتحقيق متجدد وليس جامدا كمجمل اليقينيات السلبية المقيدة للوعي والنباهة والنهضة في عالمنا العربي، ولعل هناك طرفة فيزيائية إن صح التعبير، المتيقن أن كل ماهو سلبي يتطلب إيجابي حتى ينتج طاقة، لذلك سلبية الواقع الثقافي المنتشرة بحاجة لمثقف يفكر بإيجابية حتى تنتج طاقة التغيير والتجديد والتنوير، فليس هناك مبرر للسلبية في التعاطي مع النقد والحوار فحتى الدين شرّع السؤال ليكون الإيمان نتاج مسيرة البحث عن اليقين، الله تعالى يدعو الناس لسؤال أهل الذكر إن كانوا لا يعلمون، فتركوا الأمر بالسؤال وانشغلوا بالصراع حول أهل الذكر، رغم وضوح معالم أهل الذكر عقلا ونقلا، هنا طبيعي أن ينتج يقين سلبي جامد مستغرق في التفاصيل وغافل عن الأساسيات ومنقلب على الضروريات للتقدم نحو اليقين الإيجابي والاقتراب من مقتضيات القلب السليم، وأحد مسببات هذا التلوث الفكري في جمهور الشريحة الثانية أن علم الكلام في تموضعه التاريخي في الثقافة العربية الإسلامية أصيب بالركود والخمول بسبب التقليد الذي ساد العقل الفقهي في حقبة من تاريخ المسلمين وخصوصا مرحلة أفول الحضارة الإسلامية- يمكن البحث حول حركة علم الفقه وعلم الكلام ما بعد الموحدين- فتمدد التقليد لكل أبعاد المعرفة الإسلامية خصوصا علم الكلام إلى يومنا هذا، حيث نجد أغلب من اشتغلوا ونادوا بإحياء علم الكلام وسموه علم الكلام الجديد هم من غير المثقفين العرب، بل أكثر من ذلك كانوا من المثقفين النقاد وأصحاب مشاريع فكرية حساسة[5].

عموما محنة المثقف الكوني أو الرسالي تتلخص في انه مجمل المشهد الفكري في الفضاء العربي يفتقد للسلم الثقافي، مما طور الحساسيات على حساب مناهج البحث والحوار والتفكيك والتحليل، فأصبح الإبداع ابتداع والعنف وسيلة في فرض الإستبداد المدعى أنه سلماً، فالتقليد في علم الكلام جعل القوم جامدين في عصر غير عصرهم ويدّعون فهم تحديات معاصرة مركبة وخطيرة بمنهج كلامي تقليدي لو حضر أصحابه لاستنكروا صنيعهم هذا، وفي السياق أستشهد هنا بما تمناه الكاتب المصري أحمد أمين من عودة الفكر المعتزلي إلى واقعنا في كتابه ضحى الإسلام: لكان للمسلمين موقف آخر في التاريخ غير موقفهم الحالي، وقد أعجزهم الضعف وشلهم الجبر وقعد بهم التواكل"[6]..

و عليه إن الضجة المفتعلة بخصوص مؤتمر التأسيس لمؤسسة فكرية ثقافية، التي وقع فيها هؤولاء الرافضين للآخر هي في العمق عجزهم عن الموائمة بين الحرية الفكرية الذاتية والقراءة المتعددة فكريا في الواقع، إننا أمام هذا الشكل من أشكال الغطرسة الفكرية والثقافية التي تبخس الآخر حقه في التفكير والتعبير والمواطنة، مع تهميش دوره وعزله لا يسعنا سوى القول: إن هذه الضجة سوى تلوث فكري يحاول تطويق المشهد الثقافي العربي بأي شكل من الأشكال العنفية مسيئا لكل ماهو مقدس حقيقي للإنسان العربي ويؤثر بسلبية بالغة في الواقع العربي..

إن الهدف من السلم الثقافي وتحققه هو البناء المعرفي والابستيمي للفكر والثقافة العربية والإسلامية، ولقد حاولت الوقوف على عدة صور ومشكلات وإشكاليات بعجالة حيث واقعنا مليء بالطروحات الطائفية والعصبية الجاهلية المنافية لمفهوم السلم تماما، وتناولت بالشيء من الإسهاب الشريحة الثالثة من المثقفين لمحاولاتها التوفيق والعمل بجد واجتهاد وحزم وجسارة في التفكير الحر والبناء والبحث عن الحقيقة خارج الصندوق العربي المتوقف في ما بعد الموحدين أو أكثر رجعية من ذلك، كما أشرت في عدة مواضع لضرورات الوعي الثقافي بالدراسات النقدية وخصوصا الظاهرة الدينية، فبينما الغرب انتقل بهرمس إلى اللغوس، نَقَلنَا أهل الضجيج والبلطجة من السلم إلى الاستبداد، ولن يكون هناك سلم ثقافي ما لم يتصالح الفقيه مع الفيلسوف في راهننا... لابد للصراع الفكري في البلاد العربية أن يتهذب بالحوار الموضوعي والحماية الفكرية والقبول بالآخر والتعارف معه، تأسيسا لمجتمع مدني حقيقي مرتكز على قيم التسامح والحوار والتعارف والسلم ...

أختم بحوار جرى بيني وبين أحد الأصدقاء طبيب ببلد أوروبي قبل مدة، حيث قال لي: إنني مندهش في القوم يقرأون في كل مكان حتى في وسائل النقل المكتظة بالناس، فسألته: هل تعلم لماذا يقرأون في كل مكان؟ فأجابني: أكيد للزيادة من المعرفة والثقافة !! فأجبته: هذه جزئية، لكنهم يقرأون في كل مكان لأنه الهدوء متوفر للتركيز والنهل المعرفي، والهدوء دليل احترامهم لبعضهم البعض، وغالبا يقرأون الروايات الهادفة في الأماكن العامة بينما العلوم فلها أمكنتها وأهلها كونهم يحترمون والعلوم وتخصصاتها والآخر المفكر ومشاريعه، هناك سلم ثقافي فعلي نتاجه مجتمع مدني متقدم، وصل لما بعد الحداثة لأنه مجتمع مفتوح على آفاق المعرفة العظيمة كما عبر كارل بوبر وفريديريك هايك...

***

أ. مراد غريبي – كاتب وباحث ومترجم

................

[1]

  https://almothaqaf.com/aqlam-3/969699

[2] يمكن العودة إلى كتاب إشكاليات التجديد للمفكر ماجد الغرباوي

[3] راجع كتاب تحرير الوعي الديني الجزء 5 من سلسلة متاهات الحقيقة لماجد الغرباوي، ص 388

[4] ن، م

[5] يمكن العودة لكتاب علم الكلام الجديد للدكتور عبد الجبار الرفاعي للاستيعاب أكثر

[6] ضحى الإسلام الجزء 3 ص 70

 

(التراث كائن حي يحيا في وسط تاريخي ولغوي وجغرافي ويتغذى على التأويل وإرادة الفهم)... غادامير

اللغة روح الأمة والتاريخ ذاكرتها، والأمة التي تجهل او تتجاهل تاريخها هي أمة مريضة بلا ذاكرة اما الأمة التي تتنازل عن لغتها فهي دون ريب في عداد الأموات هكذا كان يفكر المرحوم ساطع الحصري وهو يناقش مسألة العلاقة بين الاصالة والمعاصرة، والحقيقة انه لا يجب ان يفهم من الاعتزاز بهوية الامة وتراثها التنكر لقيم العصر ورفض الاخر، بل ان الحكمة تقتضي المزج بينهما والعمل على احداث التفاعل بين منهج العلم ونسقه التقني الذي يعكس روح هذا العصر واحياء تراثنا المادي واللامادي.

لقد شهدت الجزائر في الأيام الماضية حراكا ثقافيا على مستوى الإعلام الرسمي ومنصات التواصل الاجتماعي حركية أوحت للبعض بوجود ما يشبه الزخم الفكري او السحاب الثقافي لكن لم يكتب لهذا السحاب المفكك ان يتحول الى مطر يسقي العقول ويحيي النفوس المتعطشة لدهشة السؤال والباحثة عن التحرر من قيود السذاجة والتفاهة، فقد غلبت الكثير من المؤسسات والهيئات الرسمية الشكل على المضمون وتجلى ذلك بوضوح ضمن فعاليات الاحتفال بشهر التراث (18 أفريل-18 ماي) وهذه الفعاليات تتوافق في اجندتها مع اليوم العالمي للمواقع الأثرية والمعالم التاريخية واليوم العالمي للمتاحف والذي جاء هذه السنة تَحت شعار "التراث الثقافي الجزائري وامتداداته الافريقية" تزامنا مع ذلك احتفلت الشقيقة تونس على غرار باقي بلدان العالم بشهر التراث تحت شعار “تراثنا ..رؤية تتطور..تشريعات تواكب”

والمجتمع الدولي يوم 18 أبريل سنوياً يحتفل بفعاليات يوم التراث العالمي. باعتباره اليوم الذي حدده المجلس الدولي للمباني والمواقع الأثرية للاحتفاء به كل عام برعاية منظمة اليونسكو ومنظمة التراث العالمي. وذلك بحسب الاتفاقية التي أقرها المؤتمر العام لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة في باريس في عام 1972.وقد جاء الاحتفال بيوم التراث العالمي بغرض حماية المواقع التراثية من العبث وتدميرها. وذلك من خلال إعداد التشريعات والأنظمة والسياسات العامة التي تلزم المؤسسات والأفراد بالحفاظ على المواقع التراثية والأثرية. وفقاً للاتفاقية التي وقعتها اليونسكو.

في مفهوم التراث؟

يمكن العودة الى الندوة التي اشتغلت عليها مجلة الفيصل ضمن اعدادها القديمة في حديثها عن ندوة التراث وسنحاول في هذه الورقة الإشارة الى بعض ما جاء فيها فقد حدد الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي، مفهوم التراث قائلا: " تراث أي أمة من الأمم هو موروثها الحضاري في شتى العلوم والفنون والآداب، وتراثنا العربي هو كل ما أبدعه العقل العربي من ذخائر الفكر والعلم والأدب، والفن، وبقي لنا ساطعاً في كتب مخطوطة أو مطبوعة، وهذا التراث العربي يتناول ما دون من آثار أدبية مأثورة عن العصر الجاهلي، ومن معارف وأساطير، وقصص وأحداث تاريخية مروية للجاهليين، كما يتناول الآثار الدينية والأدبية والعقلية والعلمية والفنية التي تركتها الحضارة الإسلامية، والعبقريون من أسلافنا المسلمين على اختلاف عصور التاريخ، منذ ظهور الإسلام حتى العصر الحديث بل حتى اليوم " ويطلق لفظ التراث، بالمعنى الواسع، على نتاج الحضارة في جميع ميادين النشاط الإنساني، من علم وفكر وأدب وفن، ومأثورات شعبية وآثار ومعمار، وتراث فلكلوري واجتماعي واقتصادي و كلمة تراث مأخوذة من مادة (ورث) والتي تدور معانيها حول حصول المتأخر على نصيب مادي أو معنوي ممن سبقه، ويقول الأستاذ عبد السلام هارون مانصه: أجمع اللغويون على أن التراث ما يخلفه الرجل لورثته، وأن (تاءه) أصلها (الواو) أي: (الوراث)، وله نظائر في كلمات أخرى منها: التجاه وأصلها الوجاه أي الجهة .. وهكذا يدور قلب الواو المقصورة لهذه الكلمات ثاء، لأنها أحيذ من الواو، ولا تتغير بتغير أحوال ما قبلها كما يقولون . ولعل من أقدم النصوص التي وردت فيها هذه الكلمة ما جاء في القرآن الكريم من سورة الفجر: (وتأكلون التراث أكلاً لما) كانوا في جاهليتهم يمنعون توريث النساء وصغار الأولاد ... ومدلول التراث عرف حركية وتبدلا في العصور الحديثة فقد تشعب البحث في كل الميادين وأصبح هناك تراث تاريخي. وتراث حضاري وتراث في الفن والأدب.

وتاريخيا العلماء العرب كان لهم السبق في شتى مجالات الفكر الإنساني ويرجع اليهم الفضل في كثير من العلوم المستحدثة، وتذكر (ابن فارس) في كتابه (مقاييس اللغة (الذي استطاع أن يستنبط نظرية لغوية دقيقة لم يسبقه إليها مفکر، حيث أرجع كل مادة لغوية من مواد المعاجم إلى أصل أو أصلين أو عدة أصول معنوية، وهذه النظرية تعتبر من الأعمال الفريدة في عالم التأليف، وكذلك (ابن خلدون) في كتابه (مقدمة ابن خلدون)، والزمخشري في كتابه أساس البلاغة)، وابن سينا في كتابه (القانون)، ونصير الدين الطوسي صاحب على حساب المثلثات، وكذالك الخوارزمي صاحب علم الجبر والبصري صاحب علم الضوء .. ...

أهمية التراث تتمثل فيما يلي:

- إنه يمثل قيمة تاريخية فريدة ثمنه

- انه يكشف لنا عن تطور الإنسانية في عصورها الماضية، الأمر الذي يجعلنا على قدرة من استكشاف المستقبل واستشعاره.

- إنه يمثل قيمة قومية فهو يحمل قيمة تعلو على كل قيمة.

- إنه الأساس الذي يجب أن نبني عليه نهضتنا المعاصرة.

كيف يمكن الاعتناء بالتراث؟

يجيب الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي عن هذا التساؤل بأن أي خطة لأحياء التراث والاستفادة منه يجب ان تتضمن ما يلي:

- نقيم المؤتمرات العلمية الدائمة من أجل خدمة التراث .

- زيادة عناية مراكز التراث في جامعاتنا به عناية أكثر .

- ضرورة الاستفادة بما سبق من تجارب الأمم الأخرى

- تدريب طائفة كبيرة من المشتغلين بالتراث على العمل من أجل خدمته وتحقيقه

- نشر خلاصات علمية لأهم ما نقف عليه من كنوز علمية .

- الفهرسة البيبليوجرافية الكاملة لمخطوطاتنا،

- تحسين مردودية التراث الوطني بين مختلف القطاعات ليصبح قطاعا واعدا وحيويا خالقا للثروة.

- أهمية التراث وقيمته العلمية والإنسانية لنا عملية معقدة تحتاج إلى (التمويل)، فإن وجد هذا التمويل بالقدر الكافي وضعت الخطة اللازمة لإنقاذ التراث من الدمار.

النصوص القانونية لحماية التراث في الجزائر

النصوص عديدة ولا يمكن حصرها وسنكتفي بالإشارة الى بعضها

1- الدستور:

أولى الدستور الجزائري الجديد ولأول مرة وبشكل صريح أهمية للتراث الثقافي، حيث نصت الفقرة الثالثة من المادة 76 ما نصه: "تحمي الدولة التراث الثقافي الوطني المادي وغير المادي، وتعمل على الحفاظ عليه" (الجريدة الرسمية، 2020، ص. 18).

2- قانون الولاية:

تضمن قانون رقم 12 – 07 مؤرخ في 28 ربيع الأول عام 1433 الموافق 21 فبراير سنة 2012 المتعلق بالولاية مادتين فيهما ما يفيد بضرورة مساهمة المجلس الشعبي الولائي في إنشاء الهياكل الخاصة "بحماية التراث التاريخي والحفاظ عليه بالتشاور مع البلديات وكل الهيئات الأخرى المكلفة بترقية هذه النشاطات أو الجمعيات التي تنشط في هذا الميدان" حسب المادة 97.

كما يساهم حسب المادة 98: "في حماية التراث الثقافي والفني والتاريخي والحفاظ عليه بمساهمة الصالح التقنية المؤهلة وبالتنسيق مع البلديات وكل هيئة وجمعية معنية. ويطور كل عمل يرمي إلى ترقية التراث الثقافي والفني والتاريخي بالاتصال مع المؤسسات والجمعيات المعنية ويقترح كل التدابير الضرورية لتثمينه والحفاظ عليه" (الجريدة الرسمية، 2012، صص. 5-25).

3- قانون البلدية:

تضمن قانون رقم 11 – 10 مؤرخ في 20 رجب عام 1432 الموافق 22 يونيو سنة 2011، يتعلق بالبلدية في المادة 116 ما فيه إشارة إلى أن البلدية بمساهمة اJصالح التقنية المؤهلة، على المحافظة وحماية الأملاك العقارية الثقافية والحماية والحفاظ على الانسجام الهندسي للتجمعات السكنية وذلك في إطار حماية التراث المعماري وطبقا للتشريع والتنظيم المعمول بهما المتعلقة بالسكن والتعمير والمحافظة على التراث الثقافي وحمايته (الجريدة الرسمية، 2011، صص. 4-28).

4- قانون الجمارك:

نص القانون رقم 79 – 07 مؤرخ في 26 شعبان عام 1399 الموافق 21 يوليو سنة 1979 يتضمن قانون الجمارك، المعدل والمتمم بالقانون رقم 98 – 10 مؤرخ في 29 ربي الثاني عام 1419 الموافق 22 غشت سنة 1998، والمعدل والمتمم أيضا بالقانون رقم 17 – 04 مؤرخ في 19 جمادي الأولى عام 1438 الموافق 16 فبراير سنة 2017، في فقرة من المادة الثالثة منه على أن إدارة الجمارك من مهامها السهر على حماية "التراث الفني والثقافي"، و"مكافحة المساس بحقوق الملكية الفكرية والاستيراد والتصدير غير المشروعين للممتلكات الثقافية"، وقد أوجد المشرع من أجل ذلك عدة إجراءات عقابية في حق مرتكبي جرم تهريب أو بيع وتصدير أو استيراد بدون وجه قانوني لكل ما له صلة بالتراث الثقافي (الجريدة الرسمية، 1979، ص 678. الجريدة الرسمية، 1998، صص. 6-60 ؛ الجريدة الرسمية، 2017، ص. 5).

5- القانون البحري:

تضمن الأمر رقم 76 – 80 مؤرخ في 29 شوال عام 1396 الموافق 23 أكتوبر سنة 1976 يتضمن القانون البحري، المعدل والمتمم بالقانون رقم 98 – 05 مؤرخ في أول ربيع الأول عام 1419 الموافق 25 يونيو سنة 1998، والقانون رقم 10 – 04 مؤرخ في 5 رمضان عام 1431 الموافق 15 غشت سنة 2010، نصوصا تحمي حطام السفن وكل الممتلكات الثقافية والتاريخية الغارقة في عرض البحر ضمن حدود المياه الإقليمية للجزائر، وحدد الآليات والعقوبات المرتبطة بها في القسم الرابع منه والخاص بإنقاذ حطام السفن، خاصة المادة 358، 360، 381 (الجريدة الرسمية، 1977، العدد 29؛ الجريدة الرسمية، 1998، العدد 47 ؛ الجريدة الرسمية، 2010، العدد 46).

6- قانون الأملاك الوطنية العمومية:

أكد المشرع الجزائري في القانون رقم 90 – 30 المؤرخ في 14 جمادي الأولى عام 1411 الموافق أول ديسمبر سنة 1990 يتضمن قانون الأملاك الوطنية المعدل والمتمم بالقانون رقم 08 – 14 المؤرخ في 17 رجب عام 1429 الموافق 20 يوليو سنة 2008، على أن "الآثار العمومية والمتاحف والأماكن الأثرية" و"الأعمال الفنية ومجموعات التحف المصنفة" و"المحفوظات الوطنية" و"حقوق التأليف وحقوق الملكية الثقافية الآيلة إلى الأملاك الوطنية العمومية" تعد من ضمن الأملاك الوطنية العمومية (الجريدة الرسمية، 1990، العدد 52 ؛ الجريدة الرسمية، 2008، العدد 44).

7- قانون التهيئة والتعمير:

أولى المشرع في مختلف النصوص القانونية المتعلقة بالتهيئة والتعمير عناية كبيرة بأخذ كل الاحتياطات الضرورية التي يستوجبها التراث الثقافي المادي خاصة المواقع والمعالم الأثرية والتاريخية أثناء إعداد مخططات التعمير وشغل الأراضي، حيث أفرد لها قسما ضمن القانون رقم 90 – 29 مؤرخ في 14 جمادي الأولى عام 1411 الموافق أول ديسمبر سنة 1990 يتعلق بالتهيئة والتعمير، المعدل والمتمم بالقانون رقم 04 – 05 مؤرخ في 27 جمادي الثانية عام 1425 الموافق 14 غشت سنة 2004 (الجريدة الرسمية، 2001، العدد 77 ؛ الجريدة الرسمية، 1990، العدد 52).

8- قانون العقوبات:

تضمن الأمر رقم 66 – 156 مؤرخ في 18 صفر عام 1386 الموافق 8 يونيو سنة 1966 يتضمن قانون العقوبات، المعدل والمتمم نصا صريحا في المادة 160 من هي جرم ويعاقب مرتكبي مختلف المخالفات التي تخص التراث الثقافي بما فيها الاتلاف أو الهدم أو التشويه والتخريب (الجريدة الرسمية، 1966، العدد 49). كما حددت المادة 350 مكرر 1 و350 مكرر 2 من القانون رقم 09 – 01 مؤرخ في 29 صفر عام 1430 الموافق فبراير سنة 2009، المعدل والمتمم للأمر رقم 66 – 156 مؤرخ في 18 صفر عام 1386 الموافق 8 يونيو سنة 1966 يتضمن قانون العقوبات على أنه يعاقب "كل من سرق أو حاول سرقة ممتلك ثقافي منقول محمي أو معرف" (الجريدة الرسمية، 2009، العدد 15).

9- قانون مكافحة التهريب:

حدد الأمر رقم 05 – 06 المؤرخ في 18 رجب عام 1426 الموافق 23 غشت سنة 2005 والمتعلق بمكافحة التهريب المعدل والمتمم عقوبات مشددة على مرتكبي جرم تهريب "التحف الفنية أو الممتلكات الأثرية" حسب المادة 10 والتي تصل العقوبة إلى الحبس لمدة 10 سنوات، وغرامات مالية تساوي عشر مرات قيمة البضاعة، وتتضاعف هذه العقوبات في حالة استعمال وسيلة النقل حسب ما جاء في المادة 12 منه (الجريدة الرسمية، 2005، العدد 59).

***

علي عمرون  - الجزائر

 

لا ندري أين وصل المشروع العراقي للطاقة السلمية، وهل أجازته الوكالة الدولية للطاقة الذرية (IAEA) وهي التي لها شروط ومتطلبات وإلتزامات وضمانات أساسية هامة عديدة، تُلزِم البلد تنفيذها قبل منحه الرخصة والضوء الأخضر للشروع بإنشاء المفاعل النووي أو محطة للطاقة النووية السلمية.

الوكالة الدولية مخولة دولياً في هذا المجال، وهي تحتكم لمعاييرها التي توفر نظاماً لمبادئ الأمان الأساسية، وصولآ لضمان حماية الناس والبيئة من التأثيرات الضارة للإشعاعات المؤينة. وقد ُوِضعتها لتطبق في جميع أنواع مرافق الإستخدامات النووية السلمية، وكذلك في الأنشطة النووية التي تُستخدم في الإجراءات الوقائية لتقليص المخاطر الإشعاعية القائمة. وتتحقق من خلال نظام المراقبة والتفتييش، وامتثال الدول الأعضاء للإلتزامات التي قطعتها على نفسها بموجب الإتفاقيات الدولية المتلقة بحظر إنتشار الأسلحة النووية، والإمتناع عن استخدام المواد والمرافق النووية لغير الأغراض السلمية.

وعدا هذا، فالوكالة الدولية تُعُدُ محور المشروعات النووية للأغراض السلمية. وهي تروج وتعمل مع الدول الأعضاء والشركاء في جميع أنحاء العالم لتعزيز الإستخدامات الآمنة والمأمونة والسلمية للطاقة الذرية وللتكنولوجيات النووية.

ضمن توجيهاتها، تنبه الوكالة الدولية الحكومات التي تفكر بإختيار الطاقة النووية السلمية الى ان إنشاء المنشأة/ المفاعل/ المحطة/ ووسائل السلامة والأمان النووي لعملها وإنتاجها، وتوفير المعدات والتكنولوجيا، الى جانب الكوادر العلمية والفنية، الخ. تتطلب أموالآ طائلة لابد من توفيرها.

ووضغت الوكالة وثيقة إرشادية ليسترشد بها صانعي القرار عند التفكير بالمشروع. وتبين إمكانية تقسيم الفترة ما بين الفكرة المبدئية لتبني خيار الطاقة النووية السلمية وحتى البدء في تشغيل محطة الطاقة النووية / المفاعل، الى 3 مراحل:

1- إجراء دراسات قبل إتخاذ القرار، والبدء بإطلاق برنامج الطاقة النووية.

2- القيام بأعمال تحضيرية لإنشاء المفاعل/ المحطة/ بعد إتخاذ القرار السياسي.

3- أنشطة لتنفيذ برامج الطاقة النووية.

ومن هذه الأنشطة ما يتعلق بإحتياجات البنية التحتية، التي تشتمل على مكونات متعددة، بدءاً من البنية التحتية الصناعية، مثل مرافق التصنيع، والإطار القانوني والتنظيمي، والإجراءات المؤسساتية لضمان الأمان والأمن، وحتى الموارد البشرية، والمالية، كإدراك مطلوب بان الطاقة النووية تقوم على تكنولوجيا متقدمة، ولذا تتطلب بنية تحتية متقدمة مماثلة.

ومن الشروط والإلتزامات ما يتعلق بالمشروع وحيثياته وأغراضه. وأخرى بالمفاعل النووي/ المحطة النووية. وثالثة بالقوى البشرية المطلوبة لإدارته و لضمان تشغيله وفق الأمان النووي والإستعداد للطوائ، وغيرها.

إن جميع الإلتزامات والمتطلبات مشروطة بعقد إتفاق للإلتزامات وللتعهدات والضمانات، يُعقد بين حكومة البلد والوكالة الدولية، هدفه تأمين السلامة النووية والإشعاعية، وصولآ لتحقيق أعلى معايير الأمان والأمن للمفاعل النووي، ولأنشطة مرافق المشروع، والحماية الملائمة للإنسان والبيئة من آثار الإشعاع المؤين الضارة، ومن أي تعرض إشعاعي فعلي أو محتمل. وكذلك الأمان في سلامة نقل المواد المشعة، وعند استيراد وتصدير المواد النووية ومتعلقاتها.

وهكذا، في تسلسل المتطلبات يأتي: إستحصال الموافقة الأصولية، أي الإجازة، من الوكالة الدولية. وأول الضمانات الألتزام بتنفيذ بنود المعاهدة الدولية لحظر إنتشار الأسلحة النووية، ثم الإنضمام إلى الأطراف المتعاقدة في اتفاقية الأمان النووي، التي تهدف إلى إلزام البلدان التي تشغِّل محطات قوى نووية أرضية بالحفاظ على مستوى رفيع من الأمان، والتخلص الآمن من النفايات النووية الخطرة، وتجنب مخاطر الطاقة النووية الضارة بالإنسان والبيئة معاً، ومنها تسرب مياه المفاعل أو مواده المشعة، و حدوث ذوبان للمفاعل النووي، مما يؤدي الى كارثة وخسائر بشرية ومادية جسيمة، لا تقتصر على البلد وإنما تهدد الدول المجاورة. ولذا تُعدُ الطاقة النووية من الصناعات المرتبطة بالمجتمع الدولي، رغم كونها محلية بطبيعتها، ومن هنا مشاركة عوامل دولية عديدة يتعين أخذها في الحسبان عند إنشائها، ومراقبة تشغيلها، وقبل ذلك، في مساندة إجازتها أو معارضتها..

ومن المتطلبات أيضاً ما يتعلق بالبنية التحتية للمفاعل النووي للإستخدامات السلمية، بدءاً من موقعه، الذي ولو يشغل مساحة جغرافية ليست كبيرة نسبيا من الأرض، لكنه يستلزم بنية تحتية خاصة، بحيث تكون الأرض، التي يُبنى عليها، أرضاً صلبة، ومتينة، وملائمة. وان يبنى المفاعل النووي عقب إجازته ً في موقع مناسب، ويُشترط ان لا يقع في منطقة زلازل أو معرضاً لكوارث طبيعية أخرى. ويكون بعيدً جداً عن المناطق السكنية، وعن مقرات مراكز ودوائر الدولة والمؤسسات الأخرى، كالمدارس والمحال التجارية والمعامل والمتنزهات وأماكن الراحة..

ولابد من الأخذ بالحسبان إزدواجية الطاقة النووية السلمية، فهي عدا فوائدها العديدة، ثها مخاطر تهدد الإنسان والبيئة معاً. فالمفاعلات النووية لتوليد الطاقة النووية السلمية تحتاج إلى وقود من اليورانيوم المخصب عالي الإشعاع (U-235). وان عملية الحصول عليه تخلف نفايات مشعة بالغة الخطورة على البشر والحيوانات والنباتات. كما يسبب الماء المستخدم في المفاعلات النووية بمشكلات تهدد سلامة البيئة والمياه الجوفية بإشعاعاتها الخطيرة.

إقترانا بذلك، يتعين ان يتوفر في المشروع جناحاً لعملية معالجة منتوجات المفاعل الثانوية المشعة، والتخلص من النفايات النووية الخطرة، الناتجة من عمله، بطريقة تتفق مع المعاهدات الدولية، وتحت إشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية، التي تشترط وتراقب وتشرف على تطبيق إستخدام العلوم والتكنولوجيا النووية إستخداماً سلمياً واَمناً. وهذه المهمة تتطلب تقنيات عالية لتفادي الأضرار، إضافة لتوفير كوادر علمية وفنية متدربة وكفؤة للتعامل بها.

نتوقف بإختصارعند المشروع العراقي المطروح، والذي أُطلقت عنه تصريحات رسمية إفتقرت للدراية بمتطلبات الوكالة الدولية. ففي 26/3/ 2024 أدلى رئيس هيئة الطاقة الذرية والوزير نعيم العبودي بتصريح أعلن فيه: " الموقع المختار لإقامة المفاعل سيتم تطهيره من التلوث الإشعاعي".. أي أن المفاعل النووي للطاقة السلمية العراقي، سيبنى في موقع أقل ما يقال عنه غير ملائم تماماً، وذلك لكونه ملوث بالإشعاع. وهذا مخالفة صريحة لمتطلبات وضمانات إجازته..

فالموقع الذي تحدث عنه يقع، غالباً، في التويثة، أي في الموقع السابق لمقر الطاقة الذرية العراقية، الذي تم قصفه من قبل إسرائيل في عام 1981، ومن ثم قصفته القوات الأمريكية عدة مرات، في أعوام 1991 و 1998 و 2003. ولم يعد سراً انه ملوث بإشعاع عالي وخطير جداً. فوفقاً للدكتور م. د. أستاذ الفيزياء الذرية السابق في جامعة بغداد، يُعدُ (مفاعل تموز) في التويثة من أكثر المناطق الملوثة إشعاعيا في العراق. وان مخلفات المفاعل وركامه ملوثة بنسب تصل إلى أكثر من ألف ضعف الحد المسموح به دوليا، وهذه النسب حددها فريق خاص في الأمم المتحدة كان قد زار الموقع.

وليس سراً أيضاً ان عمليات تنظيف الموقع بدأت منذ 18عاماً، ولم تنته لحد اليوم. و ليس مستبعداً سوء الإدارة البيئية، وتجاهل إدارة الطوارئ، إضافة للإستهانة بمخاطر التلوث، هي التي حالت دون إتمام تنظيفه لحد الآن. وقد كشفت تقارير إستقصائية وتسريبات وجود تعتيم وتستر على واقع حال التلوث الإشعاعي الخطير في موقع التويثة، الذي بسببه سمي "تشرنوبيل العراق"، والذي حصدت إشعاعاته القاتلة أرواح أعداداً كبيرة من المواطنين، من سكان المناطق القريبة للموقع، كالرياض والجعارة والوردية وجسر ديالى والزعفرانية والمدائن، إضافة للعشرات من الموظفين التابعين لدوائر وزارة العلوم والتكنولوجيا، الذين شاركوا في عملية التنظيف، وأُصيبوا بالسرطان وعلل أخرى غير قابلة للعلاج..

وكانت عضو لجنة الصحة والبيئة البرلمانية النائبة اكتفاء الحسناوي، قد كشف تقديم الوكالة الدولية للطاقة الذرية 80 ملاحظة بشأن اشعاعات (مفاعل تموز) وتصفيته، جواباً على استفسارات وزارة العلوم والتكنولوجيا. ونصحت بعدم طمر نفاياته المشعة إلا بتطبيق التوصيات التي وضعتها بشكل صحيح. وتحدث عضو مجلس النواب، محمد البلداوي، عن صعوبات بمعالجة التلوث الإشعاعي للمفاعل المضروب، مؤكداً " ان المعالجة ليست بللمعايير العالمية". ودعا الحكومة الى " التعامل مع ملف التويثة على أنه ملف خطر".. سنعود للملف لاحقاً..

ختاماً، إذا صح ما كشفه العبودي، نجزم بأن الوكالة الدولية للطاقة الذرية لن تسمح بتشييد مفاعل نووي في منطقة موبؤة بالإشعاع القاتل. وإذا واصل المسؤولون العراقيون تخبطهم، وإفتقارهم للمعرفة، فان المشروع العراقي للطاقة النووية السلمية برمته لن يرى النور لا الآن ولا بعد 10 سنوات !

***

د. كاظم المقدادي

أكاديمي عراقي متقاعد - مقيم في السويد

 

في المثقف اليوم