قضايا

أنا اندهش إذن أنا اتفلسف

كانت تنظر إليه وهو يسير في طريقه لا يلتفت الى أحد، لم يكن يسير كما يفعل معظم الناس ممن يعرفون هدفهم ويتأكدون من مواضع أقدامهم. فقد كان رافعاً رأسه الى السماء ومشغولاً بتأمل النجوم. وما هي لحظات إلا ويجد نفسه قد وقع في حفرة لم ينتبه إليها، هذا المشهد الغريب استهوى المرأة التي تتابع " طاليس المالطي " الذي اشتهر في بلاد الإغريق قبل أكثر من ألفين وخمسمائة عام بتنبوئه بحدوث كسوف للشمس، يكتب برتراند رسل ان حكاية طاليس المالطي لا يستحق من خلالها لقب اول فيلسوف وانما ايضا لقب " اول الاساتذة شاردي الذهن "، وتقول الحكاية ان المرأة عندما رأت الشيخ المهيب يقع في الحفرة أطلقت ضحكة عالية وهي تقول له:" أنَّى لك أن تعلم كل شيء عن السماء يا طاليس وأنت لا تستطيع أن ترى ما تحت قدميك؟".

ماذا تعني ضحكة المرأة التي يقال إن بها بدأت قصة الفلسفة؟ أكان بمحض الصدفة أن يجد طاليس نفسه موضع سخرية؟ هل نفهم إن التفلسف يخالف المألوف في الحياة؟، وإنه في بعض الأحيان يصبح موضع استنكار وسخرية، يخبرنا افلاطون ان هذه الضحكة هي الجواب الذي يردُّ به " العاقلون" و" العمليون" في الحياة اليومية على كل سؤال فلسفي.

كان طاليس المولود عام " 624 ق.م " اول من تساءل عن الحقيقة القائمة وراء الاشياء الطبيعية، وحاول تفسيرها لا على غرار المؤمنين بالاساطير والخرافات، بل على غرار العلماء، فبفضل هذا الرجل الذي كان قصير القامة، على شيء من الوسامة، عكس سقراط كان يهتم بمظهره الخارجي، انتقل الفكر من الاسطورة إلى المنطق، ونجد ارسطو في كتابه " ما بعد الطبيعة " يؤكد ان طاليس خطى بالفلسفة خطوة الى الامام، ذلك انه اسس مبدأ الدهشة، وكيف كانت هذه الدهشة باعثا على النظر، ولهذا نجد ان اول الاشياء التي اثارت الدهشة عند طاليس هي حركة القمر والشمس والنجوم، ثم نشاة العالم، ويضيف ارسطو ان " طاليس مؤسس نوع من الفلسفة يرى ان المبدا الاول للاشياء هو الماء " ويقال ان هذه الفكرة استمدها طاليس من البابليين حيث تحكي احدى الاساطير البابلية بأن " كل شيء كان بحرا.. وقد وضع الإله مردوخ حصيرا من القصب فوق سطح الماء فتراكم عليه الطين "، لكن طاليس استغنى عن الآلهة واستبدلها بعمليات طبيعية، وفي هذا يكون طاليس انتقل بنا من التفسير الاسطوري الى التفسير العقلي للاشياء، وهو في محاولة بحثة عن مادة طبيعية تكون اصل العالم، كان يسعى الى تبسيط ظواهر العالم وتوحيدها، والأهم كان يسعى الى المعرفة، عوضا عن الاستعانة في تفسيره بكثير من الآلهة.

يكتب برتراند رسل ان قدرة الإنسان على الاندهاش هي قدرته على البقاء إنسانًا، طالما بقي في استطاعته أن يسأل مَن هو الإنسان؟ إن دهشته نابعة من إحساسه بوجوده، في محاورة " المأدبة " لافلاطون – ترجمها الى العربية مجدي عبد الحافظ - تقول ديوتيما موجهة حديثها إلى سقراط: ما من أحد من الفلاسفة يتفلسف، والحمقى كذلك لا يتفلسفون، ذلك لأن ما يفسد في الحمق أن يتوهم الإنسان أنه مستغنٍ بنفسه." ويمضي سقراط قائلًا: " سألتها مَن هم الفلاسفة إذن يا ديوتيما، إن لم يكونوا هم الحكماء ولا الجهلاء؟ " عندئذٍ أجابت قائلة: " إن هذا لأمر واضح حتى للطفل، إنهم أولئك الذين يشغلون من الفئتين مكان الوسط "، هذا الوسط هو الذي قال عنه باسكال عبارته المشهورة: " نحن لسنا شيئًا، نحن نأمل أن نكون".

في كتابها " الدهشة الفلسفية " – ترجمه الى العربية محمد آيت حنا – تكتب جان هرش ان الدهشة هي الخصيصة المميزة للانسان، فالدهشة اساس الشرط الانساني، وربما يقول البعض: هل ما يزال بوسع الانسان المعاصر ان يندهش وهو يعيش في عصر التكنلوجيا المتطورة، ويعتقد على الاقل ان العلم كشف له كل شيء؟، هل يمكن أن تساعد نصائح فيلسوف مثل ابيقور عاش في اواخر القرن الرابع من الميلاد، على ان يستمد منها شاب يعيش عام 2020 النجاح؟، وهل يصلح فيلسوف الماني مثل ايمانويل كانط، اثار الجدل بحياته الغريبة، ان يصبح معلما ويشير لنا نحنن أبناء هذا القرن والحروب، الى اهمية بناء مجتمع ديمقراطي يحمي حريات الافراد، وينشد السلام، صحيح ان تاريخ الفلسفة يخبرنا ان ايمانويل كانط عاش حياته من خلال الالتزام بنظام حياتي صارم،كان يستيقظ في الخامسة صباح كل يوم، يخصص ثلاث ساعات للكتابة، وبعدها يذهب الى الجامعة يلقي محاضرات لمدة اربع ساعات فقط، لاتزيد ولا تنقص، يتناول الطعام في مطعم واحد لم يغيره لمدة اربعين عاما، بعد الظهر يذهب في جولة رياضية، ثم يعود الى البيت ليقرا وينام الساعة العاشرة مساء بالضبط ..وكان جيرانه يقولون انهم يستطيعون ضبط ساعاتهم على مواعيد خروجه وعودته، كان كانط يولي جسمه الكثير من العناية الشديدة، فهو يعتقد ان من المهم ان يطول عمر الإنسان، وكان يحتفظ بقائمة لأطول السكان عمراً في المدينة التي يسكن فيها، وظل مدير الشرطة يوافيه شهرياً بحالات الوفاة التي تقع في المنطقة القريبة من بيته.

ما الذي فعله هذا الرجل الذي عاش حياة نمطية مستقرة، بحياتنا نحن ابناء هذا القرن؟.. يعتقد الكثير من القراء أن الفلسفة تقول شيئا لا يفهمه الناس، ويهتم به النخبة فقط . ولكننا ياعزيزي عندما نتعرف على سيرة المرحوم إيمانويل كانط سنكتشف ان الرجل تدخل في معظم شؤون حياتنا، فمن بيته الصغير في مدينة كونيغسبرغ عمل بجدارة وتصميم على تهديم لأفكار قرون مضت، وساهم في توجيه العالم اكثر مما ساهم الاباطرة وزعماء الدول، فاذا كنت تنعم بالديمقراطية لا بد ان تعرف ان كانط كان قد اعلن في كتابه " ميتافيزيقيا الاخلاق " والذي ترجم الى العربية باكثر من ترجمة اشهرها قام بها عبد الغفار مكاوي، والاخرى ترجمها محمد فتحي الشنيطي، وفيها يقول ان لكل انسان كرامة اصيلة ملازمة له ينبغي احترامها ورعايتها، وكان اول شخص يتصور تاسيس هيئة عالمية قادرة غلى ضمان السلام في العالم وكانت هذه الفكرة التي طرحها في كتابه " مشروع للسلام الدائم " ترجمه ال العربية عثمان امين، هي التي اوحت بتاسيس منظمة الامم المتحدة، وستساهم شروحه العميقة عن المكان والزمان في ان يتوصل آينشتاين الى تحقيق نظريته النسبية.. وتقول جان هرش في كتابها " الدهشة الفلسفية " ان كانظ سيظل يشغل العالم اكثر من غيره من الفلاسفة، فهو وحده الذي استطاع ان يغير زوايا نظر الفكر الفلسفي ومفاهيمه تغييرا جذريا، ولهذا تتفق هرش مع مارك مانسون صاحب كتاب " خراب " الى انه اذا اهملنا كانط لن يكون بمقدورنا ان نفهم شيئا عن التطور الفلسفي الذي حصل بعده.كان كانط يعتقد بأن ما يجعلنا بشرا، على خلاف الحيوان، هو قدرتنا على التفكير بطريقة نقدية في اختياراتنا.

كانت الفلسفة في العقود الماضية تعد مجالا معرفيا معقدا لا يقصده إلا المتخصصون، فلماذا خرجت في السنوات الاخيرة من الفضاء الأكاديمي الخاص والمحدود إلى الفضاء العام الرحب ولاقت رواجا بين القراء؟

يعزو الفرنسي ميشيل اونفري، رواج الفلسفة إلى الأزمات العالمية الحالية، ويقول إن الفلسفة الأخلاقية والعلاجية ازدهرت أيضا في العصر الهلنستي الذي شهد تحولات كبرى، تزامنا مع انهيار الدويلات اليونانية، وصعود قوى عظمى مثل الإمبراطورية المقدونية والإسكندر الأكبر.

ويرى آلان دو بوتون أن القرن العشرين كانت تسوده روح التفاؤل والإنجاز، وزاد الناس ثراءً، ومن ثم زاد الإقبال على المبالغة في الشراء بلا اكتراث. ثم فوجئ العالم بأزمة الائتمان، وتلاشى هذا التفاؤل. وتساءل الناس عن دوافعهم وأهدافهم في الحياة، ومن هنا ظهر الشغف بكتب النصح والإرشاد. ويقول دو بوتون إن أعلام الفلسفة القديمة دأبوا على تقديم هذا النوع من الحكم والنصائح، بمعنى أن هذه الكتب تركز على جوهر الفلسفة كما كانت في أول عهدها.

لجأ الناس للفلسفة بحثا عن نصائح تساعدهم على مواجهة تحديات الحياة ووجدنا روائية مثل سارة بكويل تؤلف كتابا بعنوان " كيف تعاش الحياة او حياة مونتاني " – صدرت مؤخرا الترجمة العربية للكتاب عن دار التنوير " حيث ترشدنا الى ان مونتاني يرى أن الحياة فنّ، وعملية بدهيّة للاكتشاف والتفكّر وإيجاد المتعة خلال رحلتنا فيها.. وكانت كتابات مونتاني التي اختار لها عنوان " المقالات " محاولة كما يقول لان يُمنح الانسان فرصة، وان يجرب الحلول للمشكلات التي تحيط به، كان مونتاني يقرأ كثيرا، ويعلق كثيراً على ما قرأه، متطرقاً الى معظم أوجه المعرفة يكتب:" إن أعظم ما في العالم أن يكون المرء نفسه "، وقد تجمعت له من مقالاته اكثر من كتاب حيث نشر عام 1580 كتاب " المقالات " بجزئين ثم أضاف لهما جزءاً آخر. كان ياسبرز اول من اطلق صفة الدهشة على الفلسفة حيث اكد ان الفلسفة تمثل الدهشة، وهذه الدهشة تدفع الانسان الى المعرفة:" حين اندهش، معنى هذا انني اشعر بجهلي فانا ابحث عن المعرفة بغية المعرفة ذاتها، فالتفلسف يقظة "، ويبدو ان هرش استمدت العنوان من استاذها الذي تنقل من دراسة الطب الى ممارسة العلاج النفسي، الى التفرغ للفلسفة، وقد كان لهرش لقاءات مع هايدغر وسارتر، وتولت رئاسة قسم الفلسفة في منظمة اليونسكو وقد توفيت عام 2000، بعد ان تركت عددا من الكتب المهمة كان " الدهشة الفلسفية " واحدا منها.. في الكتاب، تاخذنا هرش في سياحة فكرية ممتعة مع كثير من الفلاسفة تبدأ من طاليس وتنتهي عند استاذها كارل ياسبرز

" الفلسفة مغامرة مدهشة " هكذا يضع لها كارل ياسبرز تعريفا في كتابه " مدخل الى الفلسفة "..وهي شكل غريب من الحوار بدأ في اليونان القديمة قبل ما يقارب الألفين وخمسمائة عام.. حيث بدأ الفلاسفة تُحركهم تجربة ما او احساس ما يعصف بهم فضولاً واهتماماً وشغفاً، وهو لا حقا ما يدفعهم لطرح الاسئلة..اسئلة تبدأ بـ " لماذا؟ ". يريدون اجوبة لاسئلتهم، اي يريدون ان يفسروا لِمَ هي الاشياء على ما هي عليه؟.. فالفلاسفة يأسرهم التساؤل والبحث عن الاجابة دائما.

كان كانط يعتقد بأن ما يجعلنا بشرا، على خلاف الحيوان، هو قدرتنا على التفكير بطريقة نقدية في اختياراتنا. سنشبه آلات إذا لم نكن نفعل الأشياء عن قصد ووعي، وظل كانط يؤمن هو أنه لا يجب على الشخص استعمال الناس بل معاملتهم باحترام، والاعتراف باستقلالية الناس الآخرين و قدرتهم كأفراد على اتخاذ قرارات معقولة لأنفسهم. هذا الاحترام لكرامة وقيمة المخلوقات البشرية الفردية، هو أصل السؤال الفلسفي وغاية الدهشة التي جعلت طاليس يقع في الحفرة.

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

بعد عشرة الاف عام من المجتمعية بلا ادراك للظاهرة المجتمعية ومنطوياتها، ظل العقل بحالة سعى للخروج من قصوريته الحائله بينه وبين اكتمال مقومات حقيقته الوجودية، وها هي الساعه الفصل العظمى تلوح في الافق بعد انتهاء الزمن اليدوي، وما تبعه من  لحظة احتدام توهمي قصوى كافتتاح مثقل بوطاة متبقيات ماقبله، طغت على الانتقالية العقلية المجتمعية الاليه الابتدائية، مولدة اختلالا مضطربا مشحونا بالعنف والاحتكام للتخيلات باسم العلموية والعقلانيه،  الى ان وصل محطته الاخيرة الافظع، الاقرب الى التدميرية التناقضية المتاتية عن اختلال العلاقة بين الحقيقة الواجبة الضرورة المتزايدة الحاحا بما لا يقبل التاجيل، ومتبقيات التوهمية التصورية المختلة والمصرة على معاكسة مسار التاريخ وحكم الزاميته التحولية الكبرى المنتظرة.

 ترى هل ثمة على امتداد الكرة الارضية من احتمالية نطقية مواكبه للحدث الالي  غير تلك الاوربية؟ ومن اين تاتي هذه، وفي اي موضع  يمكن ان يتناسب والحالة  وما تتطلبه من مقومات التفاعلية مع الحدث الانقلابي الكوني المادي النوعي، هنا ندخل حكما عالما اخر ظل كما سبق وكررنا خارج الانتباه، ومقصيا عن الادراكية للاستحالة القصورية العقلية، مع ما يضاف لها من اسباب الاستحالة  مع ركام المنجز التوهمي الاوربي وقد صار متصدرا للمشهد التحولي الالي واقعا ورؤية، ما قد تولد عنه لدى الالتقاء مع  بدايات القرن العشرين حين حضر الانكليز محتلين ارض مابين النهرين، حال من الاستثنائية التصادمية المتعدية لعنصريها كما كانا لحظة اللقاء المباشر بينما، ساعة انبثقت وقتها آليات من النوع الافنائي للكينونه والنموذج على الجبهتين.

  ولو ان الحملة البريطانيه عام 1914 وصلت للعراق وهو في حال انهيار انحداري او انقطاع كلي كما هو القانون الناظم لتاريخه، لاختلفت سياقات الاصطراع بين الطرفين وقتها، ولم تتخذ الشكل الذي اتخذته ارتكازا للحضور التشكلي العراقي الحديث الراهن، المبتدء  قبل اكثر من ثلاثة قرون، مر خلالها بفترتين رئيستين، الاولى "قبلية" تبدا مع القرن السادس عشر مع ظهور "اتحاد قبائل المنتفك"، والثانيه "انتظارية" نجفية اخذت بالتبلور  ابتداء من القرن الثامن عشر بعد "الثورة الثلاثية" التي حررت العراق من المماليك العثمانيين، من[U1] [U2] [U3] [U4] [U5] [U6]  بغداد الى الفاوعام 1787 مترسما طبيعته التاريخيه، حيث التبلور والنشاة تبدا من الجنوب كصيغة مجتمعية نوعيه مصطرعه مع البيئة الطارده، كما كان عليه الحال في الدورة الاولى السومرية البابلية الابراهيمية، وفي الثانيه العباسية القرمطية الانتظارية التي نشات ابتداء في ارض السواد مجسدة في  الكوفة التي منها هرب العباسيون ليبنوا مدينتهم/ الامبراطورية بعيدا عن المجتمع  اللاارضوي الاسفل المستمر بالثورة بلا توقف،   ناهيك عن البصرة.

 وتطرا اليوم ابان الدورة الاليه او المواكبه للزمن الالي، اختلافات نوعية عن التي عرفتها الدورتان السالفتان، الاولى الموكوله الى التفاعلية الذاتيه، والثانيه المتداخله فيها الفعالية الذاتيه مع التحفيزية الجزيرية الابراهيميه النبوية العائدة الى ارضها ومنطلق تشكلها، في حين تنشأ الدورة الراهنه تحت وطاة  وثقل البرانيه الشرقية ابتداء من 1258 مع سقوط  عاصمه الخلافة الازدواجية بغداد على يد هولاكو، وصولا الى العثمانيين، قبل الطبعة البرانيه الاليه البريطانيه، لنتعرف على نوعين من الاصطراعية مع البرانيه المتركزة في العاصمه المنهارة سلالات ودول واشباه امبراطوريات، هي في الطبيعة "يدوية"، يواجههاالتشكل الحديث العراقي يدويا بحكم وضعه على هذا الصعيد ساعتها، الى ان تنقلب المعادلة ويتحول الصراع  الى طرف نشوئي يدوي، واخر آلي محتل غير مسبوق التعامل معه، او التعرف على نوعه.

 والمميز الواضح اليوم ان اشتراطات التشكل الكياني الازدواجي ماكانت واردة ولا متاحه بالاصل لان التبلور الحالي الراهن يبدا محكوما للاصطراع مع البرانيه من جهه، وللانقلابيه التاريخيه العالمية الالية، مامن شانه وضع ارض الازدواج والكونيه امام اختبار فريد نوعي يقارب اشتراطات  ومتطلبات البدئية الثانيه الالية، بعد تلك الاولى اليدوية  حيث تحددت في حينه خاصيات المكان ونمطيته، فاذا بارض الرافدين تواجه التحدي الاكبر الافنائي متمثلا في النموذج "الكياني / الوطني" و ( الدولة/ الامه) على النمطية الاوربية الغالبه، لنصبح فجاة وبين ليلة وضحاها امام عراق حديث له دولة، اضطر المحتل لفبركتها كحاجة لامعدى عنها لضمان استمرار نفوذه بعد الثورة الكبرى اللاارضوية  غير الناطقة التي هبت بوجهه، وجعلته يقرر الانسحاب عام 1920 ، ردا على دخوله غير المسبوق من نقطة الامان التاريخي من جنوب العراق، المكان المرتكز الوجودي الوحيد الذي لم يعرف الاختراق على مر تاريخ هذا الموضع، مقارنه بالشرق والغرب والشمال حيث الانصبابات السلالية، ما قد جعل الدخول الاستثنائي المشار اليه يتخذ مع الطبيعة المستجدة الاليه للجيش المحتل، معنى الافنائية الوجودية، ما اقتضى ردا من نوعه في حينه، وان بلا نطقية.

 وهكذا كان الغرب قد تعرف للمرة الاولى على الحالة التصادمية النقيضة لنوعه كما لم يحدث في اي مكان من قبل ومنذ الساعات الاولى، فالاحتلال الاوربي والبريطاني يصل عادة  بجيوشه ليحتل البلدان ويخضع حكوماتها القائمه لسطوته كما الحال في مصرمثلا، في حين هو اضطر  هنا لاقامة "حكومة من اهل البلاد" تكون واجهه لنفوذه المتعذر بذاته وبلا وسيط، جاء به وركبه من العاصمة المنهارة نفسها، مركز التعاقب البراني .

  واذ كان الامر يستوجب مروية  انبثاق "العراق الحديث" فلقد نهض بالمهمه ضابط ملحق بالحملة البريطانيه هو فيلب ويرلند، موجد سردية العراق المعروف على قاعدة الالتحاق بالسوق الراسمالية العالمية،  وبالتحديد مع 1831 خلافا لواقع البدئية التشكلية الفعلية المعاشة المستمرة من القرن السادس عشر بحسب قوانين التشكل التاريخي البنيوي العراقي، اي قبل بداية الثورة الالية الصناعية، لندخل من يومها تاريخيا من الهيمنه المفهومية الاخطر من العسكرية والسياسية المباشرة، حيث العراق محكوم وجودا ورؤية للوطنيه الويرلندية، بظل غياب ولانطقية العراق التاريخي العراقي الازدواجي اللاارضوي .

  ولم يسبق بالطبع بحسب اجمالي الاشتراطات المنوه عنها، ان عرف في التاريخ او في الاراء المتعارف عليها مفهوم من نوع "سياسة الاستعمارين" فمفهوم " الاستعمار الجديد" عرف لاحقا في الستينات،  بينما كانت الكولونيالية والاستعمار القديم غالبة وسائده منذ وجد الاستعمار بينما كان الحال في العراق وقتها عام 1920/ 1921 حال ازدواج "مفهومي" وآخر "مباشر"، فلا احد في العراق الى اليوم انتبه الى انه من موضع في العالم لم يعرف على الاطلاق في مجمل تاريخه الاطول بين التواريخ، مفهوم "الكيانيه الوطنيه" ولا "المجتمعية الاحادية"، وهو مايشمل القوى او التيارات الحديثة الايديلوجيه التي ظهرت في العراق على قاعدة مناصبة الاحتلال الرفض والعداء على قاعدة مفهوم الغرب نفسه، حيث المطلوب "طرد النموذجية الغربية باسم النموذجية الغربية ومن اجل الالتحاق بها"، مثل اليسار والقومية والليبرالية، فالمفاهيم التي اعتمدتها وتاسست عليها القوى المشار اليها مستعارة وتنتمي للغرب وموضوعاته التي  احتوت عليها  المعروف ب"حركة التحرر العالمية" المخالفة جوهرا لكينونة العراق وبنيته، ودوره المفترض اليوم، ونوعه، بعد ماكان له وتميز به عالميا في الطور اليدوي من التاريخ البشري.

***

عبد الأمير الركابي

ومضات ثقافية (2)

لا فراق بين الشعر والعراق – يتعرقه، يتعطر به، وبمباخره تطهر الارواح في المعابد والاضاحي والثورات، وبه تجيش الجيوش وتجمل النفوس، منذ نحو خمسة آلاف سنة، برز شاعر العراق الاعظم، والابرز، على الاطلاق، كلكامش، ملكا اسطوريا، وشاعرا يكثف الملاحم في رؤياه، وفي حكمة مسعاه للابدية، اما الشاعرة إنخيدوانا ابنة الملك سرجون الآكادي التي تشربت قبل اكثر من أربعة آلاف سنة من ذات النبع، فكانت اول شاعرة في التاريخ، تكتب التراتيل بنفس انثوي، يختزل تسامي المعاني بصيغ ليس لها مثيل، هي الرائدة التي تتفوق جماليا على فحول الشعراء قبل وبعد النوبل، كانت تكتب بضمير المتكلم وتوقع على نتاجها الشعري مخترعة إعتباريا ما ندعوه اليوم بحقوق الملكية الفكرية !

كلكامش:

هو الذي رأى كل شيء، فغني بذكره يا بلادي.

سيد الحكمة الذي بكل شيء تعمق.

...

إنخيدوانا:

في ذلك المزار الفخم للنظام الكوني المقدس،

يتابعون مرور القمر،

ضوء القمر المتضائل ينشر على البلاد،

ضوء النهار الجارف يملأ كل بلاد...

...

مسلات وجداريات والواح طينية، كتبت عليها بنسغ التجاوز، وبمداد الحرف المسماري المطروق على العقل الباطن للتاريخ، خواطر الاوائل الذين تعلموا ان هذه الارض وهذه السماء وهذه الكواكب وهذه الدنيا يمكن تهذيبها، تثقيفها، يمكن التسامي بها لمستقر هو المستقرُ، الى حيث لا ينفع الهاربين والقانعين عذرُ، بين حافة الفناء، وحافة الشعر تختلط الازمنة، ليخرج طقس مليء بالقلق من تعذر تحقيق المرتجى الذي طال تأجله، فالموت لما الموت؟ ما كنهه؟ وما سره؟ انه الطقس الذي يسبغ جينات النفوس بسبغة التمرد؟

يا ايتها الآلهة انزلي من سترة المنتهى وأنفخي بجوف أنكيدو سر الخلود، انزلي، انزلي ولا تخذلي هذا الذي رأى وعلم العلم كله بما لا يعلم، انزلي، ولا تكرهيه على الصعود اليك، انزلي، فكلكامش راح يناطح الثور المجنح، وهاهو يمتطيه ليصعد اليك، هاهو يحوم حول غابة الارز وعلى خلجان البحور، هاهو يلوح لاهل النهرين والبحرين، وها هو الثور يشق بقرونه كل طبقات السماء السبعة،،، استقبلته عشتار وحاولت اقناعه، نزلت معه الى اوروك بوعد نزول كل الالهة، لتنظر في مسعاه، ومازال كلكامش ينتظر نزول مجمع الالهة العليا !

مذ كلكامش والشعر في العراق بحث عن آلهة لا شياطين، آلهة الشعر لا شياطينه !

بلاد الثقلين: الشعر والسياسة

"هي بلاد بين نهرين، بلاد بين سيفين "

...

كل الاغاني انتهت، إلا اغاني الناس، والصوت لو يشترى ما تشتريه الناس،

عمدا نسيت الذي بيني وبين الناس،

منهم انا مثلهم والصوت منهم عاد.

يوم انتهينا الى السجن الذي ما انتهى

منيت نفسي وقلت المشتهى ما انتهى

يا واصل الاهل خبرهم وقل ما انتهى

الليلة بتنى هنا والصبح في بغداد.

الخالد والشامخ ابدا " سعدي يوسف "

**

يا طعم يا ليلة من ليل البنفسج

يا حلم يا مامش.. ابمامش

طبع كلبي من طباعك ذهب

ترخص وغليك وحبك.

*

اشلون اوصفك وانت كهرب

وآنا كمرة عيني.. دمعة ليل ظلمة !

*

يا عذر عذرين يا شنهي وحبك !

شاعر اللسانين " الشعبي والفصيح " الفذ مظفر النواب

شاخ الزمان جميعا والعراق صبي: المبدع عبد الرزاق عبد الواحد

حتى الظلام هناك اجمل فهو يحتضن العراق: الرائد بدر شاكر السياب

انا بالحكومة والسياسة اعرف - أأُلام في تفنيدها واعنف

سأقول فيها ما اقول ولم اخف - من ان يقولوا شاعر متطرف

*

علم ودستور ومجلس امة - كل عن المعنى الصحيح محرف.

شاعر العراق المجيد معروف الرصافي

شعرك هذا شعر أعور

ليس يرى إلا ما يحذر

فهنا منفى وهنا سجن

وهنا قبر وهنا منحر

وهنا قيد وهنا حبل

وهنا لغم وهنا عسكر!

ماهذا؟

هل خلت الدنيا، إلا من كر يتكرر؟

شاعر الصدمة: الشاعر الحي احمد مطر

**

يا دجلة الخير: أدري بالذي طفحت – به مجاريك من فوق الى دون:

وأنا حتفهم ألجُ البيوتَ عليهمُ - أُغري الوليد بشتمهم والحاجبا.

وسلام على جاعلين الحتوف جسرا للموكب العابر

سلام على نبعة الصامدين تعاصت على معول الكاسر

وليس على غصن ناعم رشيق يميل مع الهاصر

سلام على مثقل بالحديد ويمشي كما القائد الظافر

كأن القيود على معصميه مفاتيح مستقبل زاهر.

 العتيد "الجواهري"

 نبيذ الشعير، اكسير الالهة، يسكر الغاوون بحلم كلكامش وحالة تمرداته على الذات والالهة، فالارض ذات الارض والطقس هو الطقس، حتى صار الواحد منهم يحمل ضده، هم كثر والاسماء كلها محفوظة على الالواح الغرينية التي تسرب الشيفرة المسمارية، للنخيل والسنابل !

***

يتبع - شعراء العراق والاحزاب..باب خلف باب.

***

جمال محمد تقي

التطور العلمي موجود قبل هذا القرن، لكن ما يميزه اليوم هو أن عصر التقنية أتاح مخرجات ومنتجات التطور الصناعي والتقني للجميع، فصار بمقدور الجميع على اختلاف إمكاناتهم المادية أن يقتنوا هذه الأجهزة والتطبيقات وأدوات الاتصال والتواصل. موضوعة الاتصال والتواصل قديمة منذ بدأ الإنسان يتعرف إلى الطبيعة والمجتمع وعمل على تطويرها، لكن ما يميزها اليوم هو ان التطور العلمي عمل على تمكين الجميع من استخدام هذه التقنية المتطورة حتى وان كانوا لا يعرفون شيئاً عن علم الحاسبات أو علم الاتصالات، وهيأ بذلك مساحة كبيرة جداً للاستخدام تضمنت وفرة في المعلومات وتدفقاً هائلاً للبيانات وسرعة في الوصول إلى الخبر والمعلومة وحرية في التعبير وحرية في النشر. مما لا شك فيه ان مساحة الاستخدام الكبيرة هذه تحتوي على محتوى ضخم وبالتأكيد لا يخلو هذا المحتوى من مادة جيدة ومادة رديئة ومن خير وشر، وهذه الثنائية قديمة قدم وجود الإنسان على الأرض لكن ما يميزها اليوم هو ان الصراع يجري بعيداً عن محور الإنسانية.

الإنسانية هدف الثقافة، والثقافة مشروع إنساني في المجتمع، لذلك فالتعريف الثقافي الذي يقول إن الثقافة هي ذلك العطاء وذلك الإبداع الذي يقدّمه المثقف للمجتمع، لم يعد كافياً في اعتقادي. بل ينبغي أن تصبح الثقافة هي ذلك العطاء الذي يقدمه المثقف للمجتمع من اجل تمكين المجتمع ثقافياً.

بدون هذه العبارة – تمكين المجتمع ثقافيا – إذا قارنا بين زماننا وبين الماضي، نجد مثلاً في عصر الجاهلية شعراء مبدعين وخطباء مفوهين، لكن المجتمع في ذلك الوقت لم يكن متمكنا ثقافياً، كما إن مجتمعنا اليوم هو مجتمع غير متمكن ثقافياً. الفارق بين الزمنين هو ان الثقافة المعاصرة استفادت من التطور التقني ووظفته لصالح العطاء الذي يقدمه المثقف للمجتمع، فصرنا نجد عنوانات كثيرة للكتب، وأسماء كثيرة لمؤلفين وكتّاب. توسعت حركة النشر، وتنوعت المحاضرات الثقافية وكثرت الندوات والمؤتمرات، وصار بمقدور عدد من الأشخاص المتباعدين عن بعضهم جغرافياً ان يلتقوا في الوقت نفسه في محاضرة الكترونية، كما انتشر الكتاب الالكتروني والكتاب المجاني على مواقع الانترنت. كل هذا ولا تزال الثقافة العربية غير متطورة بما يكفي لمواكبة التطور العلمي التقني المتسارع، واذا كان بعض المثقفين اليوم يُعدّ هذا تطوراً ثقافياً فإني لا اتفق معهم، لأن هذا التطور هو تطور تقني بإمتياز استفادت منه الثقافة.

لكي تتطور الثقافة من المهم جداً لها أن تمر من خلال علم الإنسان – الإنثروبولوجيا - لإشتغاله على دراسة كل ما له علاقة بطبيعة الانسان والمجتمع في الجوانب الحياتية والثقافية واللغوية والاجتماعية.

علاقة الإنسان بالآلة علاقة قديمة تعود إلى ملايين السنين. كانت هذه العلاقة تتحرك في حدود الوجود الطبيعي للإنسان في الحياة، لكن هذا المفهوم تغيّر في عصر التقنية بعد التطور العلمي والتطور الصناعي ودخول الأنانية على خط الإنتاج الصناعي، فتضررت الطبيعة وتعقدت الحياة وازدادت احتياجات الناس، فصارت علاقة الإنسان بالآلة علاقة يراها المشتغلون في هذا المجال إنها وصلت حد تدخل الآلة في حياة الإنسان، وذهب فريق أخر إلى أن التقنية اليوم تتحكم في مصير الإنسان، وحمل القلق بعضهم على التصريح بأن مستقبل عصر التقنية الرقمية سيقضي على إنسانية الإنسان حيث يتحول الإنسان إلى كتلة بشرية فاقدة لمعنى الإنسانية، وتتحول المجتمعات إلى تجمعات فاقدة لمعنى المجتمع، ويتحول العالم الى آلة ميكانيكية متحركة فاقدة لمعنى الحياة , ويشمل هذا القلق الثقافة أيضاً، إذ تتحول إلى مظهر حياتي بينما هي جوهر الحياة وهذا القلق يشمل المثقف والمواطن. فالتطور التقني لم يتوقف عند الخدمات التي يقدمها للمثقف في إتمام بحثه وإعداد كتابه من وفرة وتنوع وتعدد في المصادر إلى تنضيد الكتاب ثم طبعه ونشره، وغيرها من هذه الخدمات الرائعة، فمشاريع الذكاء الإصطناعي تذهب إلى توفير تطبيقات ذكية تصل قدراتها إلى تأليف الكتاب وكتابة الشعر، فهناك تطبيق يمكن من خلاله اعداد كتاب كامل بمجرد ان يقوم المستخدم بترشيح عنوان للكتاب واختيار المباحث او عدد الفصول وعدد الصفحات التي يريدها. وخلال وقت قصير جداً يقدم له التطبيق الذكي كتاباً جاهزاً. سيتسبب هذا العمل في المستقبل في ظهور عدد من المثقفين الرقميين الذين يعرّفون انفسهم من خلال الوسط الثقافي في مجتمعهم وسيتسبب هذا النشاط في ظهور حالات الشك في مصداقية العمل الثقافي المقدّم من قبل الباحث أو الكاتب، ومع كل هذا يبقى الرهان على الإبداع، لأن الإبداع عطاء انساني لا آلي. وهنا تأتي اهمية صناعة وعي ثقافي في المجتمع يعدّه ذاتياً للتمييز بين المثقف المبدع والمثقف المبتدع.

يقسم العطاء الانساني الى نوعين: نوع يًراد منه ان يعرف الناس عن فلان انه شاعر او كاتب او عالم او.. فقط. ونوع ثاني يراد منه تدريب الناس على ممارسة التجربة الابداعية لصاحب العطاء لكي يكونوا مبدعين واصحاب عطاءات منتجة تخدم رقي المجتمع. نحن اليوم بحاجة ملحة الى النوع الثاني من العطاء الإنساني، ويأتي تحقيق ذلك من خلال المفهوم الانثروبولوجي للثقافة حيث الثقافة هي دراسة طريقة حياة الناس وكيف يتعاملون فيما بينهم للبحث عن السبل الآمنة لتطوير تلك الطرق الحياتية بما يحفظ للمجتمع طبيعته وهويته.

في عصر التقنية حيث وفرة البيانات والمعلومات وسهولة الحصول عليها وسرعة الوصول اليها وتوفر الاجهزة ووسائل التواصل التي تخدم ذلك مع ما يمر به المواطن العربي من تغيير في انماط الحياة وطرق العيش وازدياد الحاجة الى المال، لم يعد امامه متسع من الوقت يكفيه للتفكير والتأمل والقراءة، واصبحت التقنية المتطورة هي عالمه وهي مصدر ثقافته وهي ذاكرته، وربما لا ابتعد عن الصواب اذا قلت انها صارت العقل الذي يفكر به، فإذا ما علمنا ان غالبية الشباب العربي اليوم يعتمد اعتماداً كلياً على الانترنت في استحصال المعلومة والخبر وان الشبكة العنكبوتية صارت مرجعيته ومصدره، فإننا معنيون بدراسة طريقة الحياة هذه، لأن عصر التقنية لم يقف، ولن يقف عند حدود التطور التقني الذي يوفر للمستخدم ما يريده من معلومات واخبار ومن رصيد ثقافي، فهناك مشاريع تعمل على ان يتشكل تفكير المستخدم وتتشكل شخصيته من خلال ما يستخدمه من تطبيقات وبرامجيات واتصالات والعاب وبرامج علمية واجتماعية وثقافية وسياسية وتجارية و.. وهذا المحتوى كما اسلفنا لا يخلو من المتضادين - الخير والشر - ولأن الجيل الجديد يعتمد كلياً على الانترنت في تكوين تصوراته فسيصاب بالحيرة حين يرى تضارباً في الآراء وتبايناً ملحوظاً في المعلومات، وهذه الحيرة ستسبب له فقدان الثقة بالمصادر وبالتالي سيتهدد بناء شخصيته، ولأنه لا يجد مشروعاً آخر يعتمد عليه فإنه سيتحول الى مستهلك لا يقوى على شيء، وقد يصبح كل عطائه الذي يشعر من خلاله انه على قيد الوجود هو مقدار ما ينفقه من مال في السوق وكمية وانواع الحاجيات التي يشتراها والاطعمة الجديدة التي يجربها لأول مرة والاخبار الغريبة التي يشاهدها. لذلك أرى ان من بين الجهود الثقافية التي ينبغي بذلها في مواجهة هذا القلق وربما الخطر هو استخدام التطور التقني في مشروع الثقافة الانساني فمسؤولية المثقف اليوم هي اكبر من مجرد تقديم انتاجاته الأدبية والفنية للناس بنشرها على الانترنت وتوفيرها مجاناً من اجل تمكين اكبر عدد ممكن من القراء والمشاهدين لأجل فائدتهم وتعريفهم بتلك الجهود. مطلوب من المثقف اليوم دور اكبر من ذلك اجده متجسداً في قول الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد في قصديته التي كتبها في رثاء الشاعر محمد مهدي الجواهري:

علمتني مذ شراييني برت قلمي

كيف الأديب يلاقي موته حربا

وكيف يجعل منا اعصابه نذراً

حيناً وحيناً نذوراً كلما وجبا

فالمرحلة الحالية هي مرحلة “ النذور”. يذهب خبراء التقنية اليوم الى ان مستقبل التطور التقني الرقمي سيتسبب في عدم قدرة الناس على التمييز بين ما هو حقيقي وما هو مزيف، بين ما هو صح وما هو خطأ. بين ما هو عقلاني وما هو انفعالي. بين ما هو ابداع صادق وما هو تقليد متقن لإبداع الغير. بالاضافة الى ان هناك تقنيات ذكية تخدم هذا القلق المرتقب تُستخدم اليوم على انها تطبيقات تقنية هدفها التسلية واللعب لكنها يمكن ان تتحول الى سلاح خطير يهدد مرجعية الجيل القادم الثقافية والمعرفية والتاريخية فتقنية “ التزييف العميق “ مثلاً يمكنها ان تقدم آراءً وافكاراً واقوالاً وحكماً وفتاوى مزيفة وغير حقيقية أو مفبركة أو حقيقة لكن تم اعادة هيكلتها بواسطة تلك التقنية فحُذف منها كلمة او مقطع او أُضيف اليها كلمة أو مقطع من شأنها تغيير المعنى الحقيقي الذي أرادته الشخصية التاريخية ومثلما استهدفت هذه التقنية الذكية عند إطلاقها أشخاصاً معروفين لأجل إبتزازهم أو التشهير بهم أو الإساءة الى سمعتهم لأغراض تجارية او دعائية او ما شابه، فربما ستستخدم الطريقة نفسها مع شخصيات بارزة عُرف عنها رجاحة التفكير وسلامة الانتاج الثقافي والعلمي من كتب ومقالات وحكم ورسائل عملية وغيرها بحيث يظهر واحدهم عبر تقنية التزييف العميق وهو يقول اليوم عبر هذا التطبيق ما لم يقله في حياته. يخدم هذا التزييف التقني حركة انحراف التاريخ الانساني التي يخدم مشاريع الاقتصاد السياسي والصناعي التي تخطط لإنتاج نظام عالمي غالب على كل الثقافات. ان الحرب اليوم هي حرب الكترونية في تفاصيل الحياة المدنية مثلما هي حرب عسكرية في مواقع القتال وجبهات المواجهة. فالحرب العسكرية تستهدف المقاتلين، والحرب الالكترونية تستهدف المواطنين وفي اعتقادي ان الحرب الالكترونية هي الحرب الأخطر في القرن الحادي والعشرين وان كان النظام العالمي يلوح بحرب عسكرية عالمية فإنني اراها حرباً ثانوية يأتي دورها في إقرار ما تنتجه الحرب الالكترونية ليصحو من سيبقى من الناس حياً على قواعد جديدة ونظم جديدة لا محيص لهم عن الإذعان لها..

***

د. عدي عدنان البلداوي

أعلم أن بعض القراء الأعزاء يطمع في جواب للسؤال المحير الذي أثارته مقالة الأسبوع الماضي. أما أنا فما زلت آمل أن يتحمس الأصدقاء للتأمل في جوهر السؤال واحتمالاته.

إحدى المسائل المهمة التي أثارتها القصة الواردة في هذا المقال، هي القيمة النسبية لحقوق الفرد، مقارنة بالجماعة. بيان ذلك: افترض أنك وجهت السؤال التالي لجمع من الناس: إذا تعارضت حقوق شخص واحد مع حقوق 100 شخص... فأي الطرفين أَولى بالرعاية؟

أتوقع أن معظم الناس سيميل لترجيح مطالب الجماعة على حقوق الفرد. هذا أمر متعارف في كل الثقافات، لكنه سائد بدرجة أكبر في المجتمعات التقليدية، التي تميل لإعلاء الرابطة الاجتماعية، ولو أدى إلى خرق حقوق الأفراد.

كان إيمانويل كانط، الذي يُعد أبرز آباء الفلسفة المعاصرة، قد طالب كثيراً باحترام كرامة الإنسان الفرد، وعدم اتخاذه أداة أو وسيلة. الإنسان - وفقاً لهذه الرؤية - غاية في ذاته. وكل ما يفعله هو أو غيره ينبغي أن يستهدف إسعاد هذا الكائن العاقل ورفعته. يمكن للفرد أن يعمل على إسعاد غيره، في الوقت الذي يعمل لسعادته الخاصة أيضاً. لكن لا يصح استغلاله أو التضحية به في سبيل إسعاد الغير.

حسناً، ما الميزان الذي يعيننا على التمييز بين الأفعال التي لا تتعدى التفاعل العادي مع الناس، وتلك التي تنطوي على علاقة استغلال؟

يجيب كانط بأن ملاحظة انعكاس الفعل - ولو بصورة افتراضية - على الذات هو الذي يكشف لنا عن حقيقته. فإن أردت التحقق من سلامة فعلٍ ما، فافترض أنك تريد جعله قانوناً لكل الناس، ومنهم أنت. وهو هنا يشير إلى الجانب الآخر؛ أي كيف يكون الوضع لو انتقلت أنت من جانب الفاعل إلى جانب المتأثر بفعل الغير. دعنا نفترض مثلاً، أنك تعطي رأياً في استحقاق شريحة من الناس قروضاً بنكية أو منحة حكومية أو وظيفة ما، أو ربما كنت قاضياً يصدر حكماً في واقعة. تخيل لو أن حكمك هذا أو رأيك ذاك سيتحول إلى قانون لكل الناس، وأن غيرك سيستخدمه مستقبلاً ضدك؛ أي حين تطلب قرضاً أو منحة أو وظيفة، أو حين تقف أمام محكمة. لو فكرت في هذا الاحتمال بجدية، فهل ستتريث قبل اتخاذ القرار أم لا، هل ستفضل اتخاذ الجانب اللين أم ستختار الجانب الخشن؟

تذكرت، الآن، حادثة واقعية رواها ضابط عراقي سابق، وخلاصتها أنه طلب من مدير الأمن العام تزويد عنابر السجناء بمراوح هواء؛ للتخفيف من شدة الحر، أو السماح بتدبيرها من متبرعين. فغضب المدير وهدده بالعزل لو سمعه مرة أخرى يجامل من سمّاهم المجرمين. ومرت الأيام، فإذا بالمدير سجيناً في تلك العنابر، وكان طلبه اليومي هو السماح له بتركيب مروحة هواء. يقول الضابط إنه ذكَّر المدير السابق - السجين حالياً - بطلبه القديم، فاعتذر أيما اعتذار، لكن فرصة الإحسان فاتته ووقع أسيراً لقراره. هذا معنى أن تفكر في رأيك أو قرارك، كما لو أنه سيمسي قانوناً لكل الناس.

يذكّرنا هذا بوصية الإمام علي بن أبي طالب لولده الحسن، رضي الله عنهما: «يا بُنيّ، اجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك، فأحببْ لغيرك ما تحب لنفسك، واكره له ما تكره لها... واستقبح من نفسك ما تستقبح من غيرك، وارض من الناس بما ترضاه لهم من نفسك». ورسالة هذا النص تُطابق تماماً فكرة كانط «قانون لكل الناس».

خلاصة ما يقال إذن إن الميل العام لترجيح مصالح وحقوق الجماعة على مصالح الفرد وحقوقه قد ينطلق من مبررات معقولة، في حالات كثيرة، لكنه ينطوي على مشكلة أخلاقية واضحة. فالمسألة هنا لا تتعلق بعدد المستفيدين، بل بالفعل نفسه: إذا قبلنا بفعل خطأ؛ لأنه يخدم أكثرية الناس، فقد وضعنا تشريعاً يجعل الخطأ مقبولاً وقابلاً للتطبيق. وإذا كان ضحيته، اليوم، شخصاً واحداً، فقد يكون ضحيته غداً آلاف الناس. المسألة إذن تتعلق بالفعل نفسه، وليس بعدد الذين يقع عليهم.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

هكذا تفعل بنا بعض المقالات والكتابات حين نقرأها قراءة دقيقة. قرأت مقالة الدكتور عبد الجبار الرفاعي الأخيرة، فشعرت كأنها كتبت لي أنا فقط، إذ رسمت لي معاني الحب الأصلية، وشرحت لي خارطة الوصول للسكينة والسمو والارتقاء. هذه المقالة أعطتني وصفة بكلمات قليلة مكثفة، تشير إلى أن حياة القلب وسلامته تكمن في الحب فـ "الحب يوقد جذوة الضوء في القلب، القلب الذي يعيش الحب لا يدركه الوهن، ولا ينهكه تقدم العمر "، حسب تعبير الرفاعي في مقالته المنشورة في جريدة الصباح البغدادية، يوم الأربعاء الماضي 13-11-2024، بعنوان: "يترجم القلب كلمات الحُبّ بمعنى واحد".

قراءة واحدة لمثل هذه الكلمات لا تروي ظمأ روحي. الكتابة تجسد أفكارنا وآمالنا، وتترجم أحيانا أهدافنا ونبضات قلوبنا، فنحن حين نكتب نمسك قلم القلب بمداد الروح ليخط الوجدان أعمق آلامنا وأفراحنا وأتراحنا، ويصل لذائقة الجمال ومكنوناته فينا، ويعرج إلى مخاوفنا وقلقنا، ويمر على ارتيابنا والشك الملتصق بأفكارنا، لتنبعث معاني الكلمات من داخل العقل تارة، ومن القلب تارة اخرى، ومن الروح أحيانا، فترسم وتعبر وتضع نقاطا على بعض الحروف العالقة في مكنون العالم الداخلي، عندها نشعر بالراحة والانتشاء والهدوء الذي يعقب عاصفة وضجيج دواخلنا .

يأتي الرفاعي في مقالته ليأخذ بمجامع قلوبنا، ويستحث بصيرتنا على أن المقصود بالحب الذي ينير القلب هو الحب الأخلاقي الأصيل فقط، الحب غير المشروط، حيث يقول: "الحُبّ الأخلاقي الأصيل ضربٌ من الامتنان والإكرام، مَن يحبّك يكرمك ويعبر عن امتنانه العميق لك. الحُبّ المشروط مُشبَّع بالمن لا بالامتنان، والإكراه لا الاختيار، والفرض لا التطوع، والتكلف لا المبادرة، مما يجعله ضربًا من الاستعباد…الخ".

ثم يمنحنا وصفة بليغة لتهدأت روعة قلقنا ومخاوفنا، وتقليل آثار سمومها على هدوء أيامنا، إذ يقول: "الحُبّ الأصيل يخفضُ وتيرةَ الخوف والقلق، ويحرّر الإنسانَ من الاكتئاب وفقدان المعنى. الحُبّ الأصيل مُلهِمٌ، الاستبصاراتُ الحاذقة يُلهمُها الحُبّ، استفاقةُ العقل يُلهمُها الحُبّ، العفو والغفران والرفق واللطف يُلهمُها الحُبّ. لا يتوقف فعلُ الحُبّ عند القلب والعواطف، بل يظهر أثرُه بشكل واضح في توجيهِ بوصلة التفكير وغاياته في العقل، وبناءِ رؤية جماليّة لله والإنسان والعالَم..".

ولم يقف معنا لهذا الحد، بل يستمر بإرشاد قلوبنا المتعبة إلى بر السكينة والمعنى والأمان، حين يقول: "يظلّ الحُبّ أعذبَ منابع المعنى في حياتنا. لن يتراجع الأثرُ المُلهِمُ للحب مهما تقلّبت أيامُه واختلفت. يلبث الإنسانُ حتى اللحظات الأخيرة من عمره بأمسّ الحاجة إلى كلمةِ حب صادقة".

ويستمر معنا، وهو يمدنا بالجمال والمعنى، ليمنحنا مصباحا ننير به مسارات ومتاهات دروبنا المظلمة فيقول: "ما دام الحُبّ أثمنَ ما يظفر به الإنسانُ من المعاني وأغلاه، فإن نيلَه يتطلب معاناةً شاقةً وجهودًا مضنية. الحُبّ ليس صعبًا فقط، بل هو عصيٌّ على أكثر الناس، لا يسكن الحُبّ الأصيلُ إلا الأرواحَ السامية.."

هنا لم يفرش لنا الرفاعي طريق الحب بالورد، بل أشار لعظمة الجهاد واهمية ترويض القلب على الحب، حتى يصير جزءً لا يتجزأ من ماهيته وسجايا روحه.

مثلت المقالة، في كل شذرة من شذراتها نكهة عطرة تلامس شغاف قلبي، وتنير بصيرة روحي، وتحفز ذهني، وتوقد تفكيري، وكأنها كتاب كبير بمعانيه وعمقه وأهميته، فرحت جدا لاقتنائه كمرجع أعود اليه بين الحين والحين، فقراءة واحدة لا تكفيني.

يختم الرفاعي مقالته بكلمة ذات دلالة عميقة، حيث يقول: "كما أنَّ أخطرَ شيءٍ على الفكرِ والأدبِ هو عبادةُ الأصنامِ الفكريّةِ والأدبيّةِ، فإنَّ أخطرَ ما يفتكُ بالقلبِ هو تحويلُ المحبوبِ إلى صنم". هذه الكلمة تمثل لي توصية مهمة، لابد ان تبقى عالقة بقوة في عقلي، لأن تحويل المحبوب لصنم يفقد الحب روحه وجوهره ومعانيه، بل يتحول معه الحب إلى سمّ فتاك.

***

د. حميدة القحطاني

(لولا الجهل لجاع الكهنة وسقط الطغاة).. كارل ماركس

(العالم أصبح مكانا خطرا جدا للعيش فيه، ليس لكثرة الأشرار، بل لصمت الاخيار عما يفعله الأشرار).. ألبرت انشتاين

في القرن العشرين والذي سبقه التاسع عشر، ظهر عدد غير قليل من العلماء والمفكرين في مجالات متعددة منها: الداروينية أي نظرية تشارلز داروين والتطور البيولوجي، وفي علم الوراثة مندل وقوانين الوراثة في مجال النباتات وكذلك الإنسان، ونيوتن وقوانينه مثل قانون (الفعل ورد الفعل) وقوانين الحركة وكذلك في مجال العلوم الإنسانية في الاقتصاد نظرية آدم سمث في كتابه  (ثروة الامم) ودايفد ريكاردو وكتابه (مبادئ الاقتصاد السياسي والضرائب) والفلسفة هيغل في الديالكتيك وفيورباغ في المادية وفي علم الاشتراكية سان سيمون وربورت أوين وشارل فوريه ، وكارل ماركس في الاقتصاد و(قانون فائض القيمة) وكتابه الموسوم (رأس المال) أي القيمة الزائدة وقوانين أخرى منها ١- قانون التغير الكمي يؤدي إلى التغير النوعي ٢- قانون نفي النفي ٣- وحدة وصراع الاضداد ، وفريدريك انجلس وكتابه (اصل نظام الاسرة والدولة والملكية الفردية) وما كتبه في الاقتصاد السياسي والثورة واشترك مع رفيق دربه كارل ماركس بصياغة (البيان الشيوعي) عام 1848 والذي أصبح منهاج عمل للحركة الشيوعية والعمالية العالمية، العلماء والفلاسفة قدموا خدمات جليلة كل في مجاله ولا ننسى علماء في مجال الطب ممن اكتشفوا من خلال دراستهم في مجال الميكروبيلوجي (البكتريا، والفيروسات) أمراض أطلقوا عليها تسميات وهذه الأمراض قبل اكتشفها كان الإنسان يموت ولا احد يعرف السبب في وفاته، ومن ثم اكتشفوا القاحات، التي أنقذت الأطفال من الأمراض لاحقا، ومنها السل الرئوي وأنواعه الاخرى ، الهيضة، شلل الأطفال القاح الثلاثي ويضم (الخناق -الكزاز - السعال الديكي) وغيرها من الأمراض السارية والمعدية .

ولعبت الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر والعشرين دورا مهما في تطوير الصناعات في مجالات متعددة منها القاطرة البخارية في القطارات وكذلك الطائرات والسيارات بكل أشكالها من أجل حل مشكلة المواصلات وأصبح العالم فعلا قرية صغيرة تصلها متى شئت، واكتشاف الريبوت ما هو إلى خطوة في ايجاد عامل مساعد للانسان في تقديم الخدمات في مجالات متعدد منها الصناعية والخدمية في مجال السياحة وتقديم المساعدة للسائح وكذلك كدليل مساعد في الجواب عن تساؤلات ممكن الجواب عليه، ويعتبر هذا الاكتشاف هو بالتأكيد بمساعدة التكنلوجيا الرقمية للانسان،

مع تطور العلوم في كل المجالات المتعدد والتي تم ذكرها، والفضل يعود إلى العلماء والفلاسفة لرسم خارطة طريق في تطوير العلم للأجيال الاحقة وبفضل التكنلوجيا وظهور الحاسوب، وظهر ما يسمى اليوم ب (الذكاء الاصطناعي). والذكاء الاصطناعي هو مجال واسع ومتشعب يدخل ضمن علم التكنولوجيا الحديثة وبالتخصص في مجال علوم الكومبيوتر (الحاسوب) وعلى سبيل المثال لحل المشكلات المعرفية والتي لها صلة بالذكاء البشري في مجال التعليم والإبداع به وتغير طرقه، والهدف هنا من الاستعانة بالذكاء الصناعي هو انشاء أنظمة وطرق ذاتية في التعليم تتلخص وبالاستنتاجات المعاني من البينات الواردة، لقد اجمع الباحثون والمختصون في العلوم والتكنولوجيا، أن الذكاء الاصطناعي له فيه مزايا عديدة، ويمكنه في تغير سبل الحياة على كل الصعوبة وفي كل المجالات للتحديث، وفي الوقت نفسه أكدوا أن له مخاطر يجب الانتباه اليها، وتحديد كيفية التعامل معها من أجل لا تقع مخاطر على العالم.

. وفي مجال الأبحاث الطبية في وقتنا الحالي يتم استخدام المعلومات من الذكاء الإنسان لتبسيط العمليات الجراحية والعلاجية واتمتة المهام في العمل الطبي، وممكن استخدام تقنية الذكاء الاصطناعي في الأبحاث الطبية لتسهيل عملية اكتشاف الادوية الطبية وتطويرها مثل اللقاح الثلاثي المعطى إلى الأطفال وهو يتضمن ثلاثة أمراض تصيب الإنسان (الخناق - الكزاز - السعال الديكي) . ولا يمكن أن لا نذكر أن الإنسان وبمساعدة التكنلوجيا استحدثت الروبوتات والتي تقوم بفعل كما يقوم الإنسان به في مجال الصناعة وكذلك في تقديم الخدمات في مجالات السياحة والعمل الفندقي.

و مجال تقديم المعلومات للزبائن في معارض للصناعات المختلفة في مجال الدعاية للمصنع وللشركة.

و هناك إمكانية للذكاء الاصطناعي أن يقوم بوضع بيانات للمشاريع المعدة من قبل الحكومة في هذا البلد او ذاك، ومن خلالها وبعد وضع البيانات، يتم الكشف عن ارتفاع في الأسعار والكشف عن تحويل الأموال لمسؤولين اصحابي العلاقة والأنشطة التي تقوم فيها، وهنا ممكن ضرب الأمثلة كما يجري اليوم في العراق، كصفقات العقود المبرمة مع شركات النفط ومشتقاته وكذلك الغاز، وبهذا يتم الكشف في البيانات من خلال الذكاء الاصطناعي.

وممكن الكشف عن تقارير صدرت من وكلاء للاجنبي، من عراقي الجنسية، إلى مخابرات بلدان أجنبية تدرس كبيانات وثم تحول إلى خطط وفق الذكاء الاصطناعي كما حدث للعراق في الحصار الجائر، من ثم غزوه وموت الالف من الطفال والنساء وكبار السن التدمير البنية التحتيه له وفق بيانات مفبركة حول اسلحة الدمار الشامل والعلاقة مع القاعدة. والعراقيين يتذكرون ما جرى في ضرب ملجأ العامرية وقتل الامنين من الناس الهاربين من القصف المتواصل من قبل الأمريكان وحلفائهم .

أن أهمية الذكاء الاصطناعي تكمن بالمطلوب منها ليس العمل على إنتاج وتطوير اسلحة الدمار والتي تستخدم من الجو ومن البر والبحر، وقتل المزيد من البشر وتدمير الأرض وتلويث المياه، إنما المطلوب هو اسعاد البشرية وتطوير العلم لخدمة الإنسان في التعليم والصحة والحياة الحرة الكريم وهذا ما نترجاه وبسلام من أجل بناء عالم يسوده الأمن والاستقرار والحفاظ على البيئة.

***

محمد جواد فارس - طبيب وكاتب

 

يغلب على استخدام كلمة (آفة) الجانب الأخلاقي ولا يغلب عليها جانب التحليل العقلي، فهل يُفهم من العنوان أن المقصود هو الحديث عن الأخلاق من حيث افتقار الثقافة العربية الى قلة العناية بالضوابط الخلقية؟

الحق أن الأخلاق جزءٌ لا يتجزأ من التفكير العربي لا ينفصل عنه ولا تنفصل هي عن سياقاته المعنية، ولكننا لسنا نقصدها بالمباشرة في هذا المقال، لأن ما ينطبق على الكل هنا ينطبق على الجزء بغير مراء؛ إذ الكل الذي سنتحدث عنه يشمل جزيئات الأخلاق وغير الأخلاق في مناقشة مسائل التقدّم أو التخلف في العقل العربي سواء.

وقد تناولنا في المقال اللاحق (التدّين والثقافة) حديثاً غير مفصول عمّا سنذكره تباعاً ما دمنا لا زلنا نطرح قضية تجديد العقل العربي، والخطاب الدّعويّ منه على وجه الخصوص في إطار تأصيلها واستنادها على العقل من جهة وعلى القلب من جهة أخرى. فإنّ العقل العربي بحاجة إلى إعادة صياغة في إطار بنيته الدينية التي تشكل بما يدع مجالاً للشك إحدى ركائزه الأساسية.

ولا خلاف على أن الدين - بقيمه ومعتقداته - هو لبُّ عملية التجديد والبناء، وأن الخطاب فيه ينبغي أن يقع دوماً تحت مبضع النقد الفاحص، لأن الخطاب الديني فيه يشمل تلك الأبنية ويدل عليها من حيث القوة أو الضعف، أو من حيث التسامح وقبول الآخر، أو من جهة التطرف والعنف ورفض المغاير المختلف، يدل عليها من أقرب طريق.

فإذا ارتفع الخطاب وترقى في ذاته ارتفعت قيمته في الناس وترقت في المجمعات، ودلّ من أقرب الطرق عن التعبير على تلك الحقيقة العليا المتسامية. وإذا هبط وانتكس هبطت معه القيم الدينية، ووصم الدين بما ليس فيه من جرّاء الخطابات المترهلة المنتسبة إليه، وهو في الغالب منها براء. وليس يقدح في الدين سوى الفهم المغلوط الذي يقترب من دواعي الانتكاسة والهبوط في رافدين عظيمين: رافد القلب الذي هو ممد الهمم بالإحساس والتبتل، ورافد العقل الذي يفند وينقح ويختار.

إنه؛ إذا كانت معاجم اللغة تشير إلى أن أصل (الوهم) هو التُّهَمة. والتهمة: هى توهّم الإنسان أن أخاه قد أساء إليه أو تجاوز حَدَّاً من الحدود، وأصلها الوُهَمة، وعلى ذلك يصبح الوهم تهمة ووهمة؛ فكل موهوم متهوم وكل متهوم متوهم أو موهوم؛ فإنّ ثقافتنا العربية على هذا الأصل متهومة عندنا؛ لأنها مؤسسة على الوهم مستندة على تصورات هى في الغالب قائمة على الوُهمَة.

آفة الثقافة العربية؛ إذا هى لم تستطع أن تفعِّل "عقيدة التوحيد" على صعيد التذوق والتبْصرة أو على المستوي العقلي والفكري والثقافي، وأن تصل من النزوع إلى الفصل والمباعدة إلى الانخراط في وجوب الوحدة بحيث تُقرن الأشباه والأضداد وتربطها بعضها مع البعض الآخر بما يجعل منها وحدة توحيديّة واحدة في غير تنافر تفرضه شكلية الأداء أو تناقض يجيزه منطق المحسوس …

أقول؛ إنّ آفة الثقافة العربية إذا لم تقتدر أن تجعل من التوحيد غايتها ومطلبها؛ فهى لا شك تنطلق في أغلب أحوالها وتعدد مواقفها من وهم، وتعود على وهم، وتتصور الحقائق على الجملة فضلاً عن التفصيل بفاعلية الوهم المعشعش في أدمغة منتجيها؛ ومنتجو الثقافة لا يبلغون من الحقائق المجرَّدة مبلغهم من العلم بفاعلية الوهم أبداً، وإنمّا يبلغونها بالتجرَّد وببذل النفس طواعية في سبيلها؛ لكننا محكومون في أفكارنا وآرائنا وأحكامنا ومنطلقاتنا الفكرية والشعوريّة بالهوى لا بالعقل المرّوض على التفكير البصير.

ومن شأن حكم الهوى أن يُملي علينا خيوطاً متشابكة ومختلطة بخليط عجيب من "الوهم"، ويظل الوهم يلفنا لفاً لا فكاك لنا من خيوطه الكثيفة المتشابكة، حتى ليملأ صدرونا بالتضخم، وعقولنا بالاعتقاد التقليدي المنبوذ، وذواتنا بالفراغ والسطحية، وسلوكنا بالتصرف الرزيل المشين، فيبدو كل ما نقوله أو نفعله إلى الوهم المتفشي في أعماقنا أقرب وأدنى من بلوغنا للحقائق التي يسبقها جهادُ للنفس شريف.

ومتى تغلغل الوهم في أفكارنا ومعتقداتنا؛ مضينا مع "الهوى" إلى غايته فيسوقنا الهوى إلى ضروب متشابكة لا شك فيها من الأنانية وحبّ الذات وتضخم الأنا … إلى كثير من الصفات التي يغلب عليها حُكمه فينا، ولا يغلب عليها فينا حكم العقل المقيّد بضبط الأهواء ومجاهدة الآفات، وبلوغ الحقائق من ثمَّ بمقتضى هذا الجهاد لا بفاعلية الهوى الذي يتحكم فينا تماماً كما تتحكم فينا العادات، والمألوفات، والمرذولات، تحكم الأغلال تغلنا عن الحركة، وعن الحرية، وعن الاعتقاد الحُر النزيه عن الأغراض:

اعتقاد التوحيد، وفهم التوحيد، وإدراك التوحيد، وتصحيح التوحيد، وتفعيل التوحيد في حياتنا الباطنة قبل الظاهر منها لبصر الشاهد العيان.

هذا هو الاعتقاد الذي يعلو متسامياً عن كل عقيدة مقيدة بقيود الوهم بلا هداية يرومها قصد السبيل؛ فنحن - والله - واهمون في أقوالنا وأحكامنا وثقافتنا وعقائدنا؛ لأننا محكومون فيها بالهوى، مسيَّرون فيها بالأنانية وحبّ الذات، ناشطون النشاط كله في بلوغ الأهواء منا مبلغ العقائد الثابتة؛ ونحن - في ثباتها وتحققها في الحق - واهمون !

فأي غربة غريبة تستشعرها الذات العربية أغربُ من كونها تنمي قدراتها على "الوهم" وتُرْبي إرادتها على الزيف؛ وتصل إلى الأمور من طريق "الوهم" لا من طريق "الحقيقة"، وتنطلق بادئ ذي بدء من حكم "الهوى" لا حكم "الإرادة العاقلة" ثم ماذا؟

فإذا بذواتنا العربية تتشتت وتتفرَّق حيث لا يجمعها رابط من التوحيد وطيد.

حتى إذا شئنا نقد أنماط التدُّين وجدنا من أكبر المشاكل التي تواجه ضمير المتدين: عزل التوحيد عن واقعات الحياة، حتى ليتسأل المرء إزاء هذه الانقسامات التي تشهدها صباح مساء: إذا لم يكن التوحيدُ معزولاً عن الواقع الديني أصلاً لما أضحى معزولاً كذلك عن الواقع النظري والفكري ثم الواقع الفعلي بكل ما فيه من تفرّق وتمزق وتشتت وانقسام !

الأمر الذي جعل الإيمان الديني لدى المسلم قشرة سطحيّة تخلو أو تكاد من المضمون العملي؛ ذلك "المضمون" الذي لا نشك لحظة واحدة في أنه ينتج لغة ومدنية وعلماً وفناً وحضارة؛ ولو كان تدينه بالفعل مرهوناً ببصيرة التذوق الدافعة إلى العمل والإنتاج؛ لربط كل الأشباه والأضداد وصعد بها عارجاً إلى توخِّي الوحدة.

ولكن الواقع الثقافي العربي الحالي يقول لك بأبلغ لسان: إن هذه البصيرة الذوقية مفقودة أو تكاد، هى مفقودة نعم ! وعندي من الأدلة على فقدانها أولاً قراءة هذا الواقع قراءة مستبصرة جيدة ومتابعة الأحداث الجاريّة فيه من قريب، والانغماس فيها، وتحليلها والوعي بملابساتها ونتائجها في العقل والشعور ....

وهى مفقودة ثانياً؛ لأنها في الأصل ما وجدت تامة، نشيطة، فعالة، وحيويّة، إلا في فرع واحد من فروع الثقافة العربية والإسلامية، وأعني به الفرع الذي يضم علوم التزكية سواء كانت تزكية خُلقية إنْ على مستوى الفرد، وإنْ على مستوى المجموع.

وهذه العلوم بالنسبة للوعي العربي والإسلامي كانت ولا تزال تمثل تراثاً مهجوراً، يُنْبَذ اليوم من العقل العربي كما كان قبلاً منبوذاً بالأمس؛ ولو قدِّر لهذا الفرع أن يجري في حياتنا الفكرية والثقافية مجراه الطبيعي، وأن يُنظَّر له كما نظِّر لفروع أخرى غيره، لكانت تلك "الرؤية الموحَّدة" أو أحادية الرؤية الغائبة عن ثقافتنا الإسلامية من أولى اهتمامات العقل العربي قاطبة: تنقذه من الضلال.

الواقع الإسلامي يغلي بالتيارات الإسلامية المتشددة المضطربة العفنة؛ والتي أساءت إلى الإسلام من حيث أرادت به الإحسان .. فهلا جربتم سماحة التصوف وهو مقام الإحسان في الإسلام؟

ماذا تقول يا رجل؟!

التصوف!!

ألم تقرأ اليوم في رسالة علمية ضخمة نتيجة غربية عجيبة يستخلصها باحث مفادها أن الغرب أهتم بنشر التصوف بين المسلمين لإسقاط العقائد الصحيحة! فأي تصوف هذا الذي تعوّل عليه طلباً للإصلاح؟!

ثم ألم يكن تديّن المتصوفة نمطاً كسائر الأنماط الثقافية التي تتخذ لنفسها شكلاً من أشكال التدين ينتهي آخر الأمر إلى توجّهات أيديولوجية؟ فلم تنحاز إليه رافضاً سواه، هل هذه موضوعية الباحث يتوخاها بغير تزيد ولا مبالغة؟

للقارئ الحق في أن تدور في أم رأسه مثل هذه التساؤلات. فأمّا عن تلك النتيجة الغريبة العجيبة المنقولة لا المستخلصة فهي نتيجة متخلفة غارقة في التخلف إلى أبعد الحدود، فضلاً عن كونها صدى لرأي مستشرق من جماعة المستشرقين الذين لا يؤخذ لهم رأي بغير نقد أو تمحيص؛ لأن المستشرقين الذين نشروا ذخائر التراث الصوفي والفكري، وقاموا بتعريف المسلمين بتراثهم العقلي والروحي هم أولى بتقديم واجب الشكر من نقيصة النكران ثم نأتي بعدُ لدراسة آرائهم مع ما فيها من غلو لنقدها وتقيمها لا أن نقول فيها ما يقوله الجاهلون المتخلفون.

غير أنهم - ما عدا القليل منهم - محددون سطحيون يحومون حول المسائل الحسيّة، ولا يتوسّعون في النظر أو يتعمّقون وراء الظواهر التي يلمسها شاهد الحسّ لمساً فلا تخرج عنده من حدود ما يثبته أو ينفيه من وقائع السّماع والعَيَان. والمعهود في جماعة المستشرقين أن الكثيرين منهم يقرنون سوء الفهم بسوء النية، لأنهم يخدمون سياسة المستعمرين أو سياسة المبشرين المحترفين، أو ينظرون في بحوثهم نظرة الغربي الذي ينظر إلى الشرقي نظرة المتعالي عليه في حاضره وماضيه.

وأمّا كون تدّين المتصوفة نمطاً ثقافياً كسائر الأنماط الثقافية الأخرى للتديُّن يجوز نقد خطابه تماماً كما يجوز نقد غيره من الخطابات، فهذا ممّا لا شك فيه عندنا، لكنه النقد الذي يفحص الفوارق بين الأنماط المختلفة ويقيس مقياس التدّين بمطابقته للاعتقاد الصحيح ولممارسته للقيم البناءة ...

ومن هنا يتميّز خطاب عن خطاب.

فالتسامح وقبول الآخر المختلف مثلاً فارقٌ نقدي ظاهر بين نمط ونمط؛ فإذا توافر في شكل من أشكال التدّين واختفى في سواه قبلنا ما هو متوافر ورفضنا النمط الذي يدعو إلى ضده، ويظهر نماذج التشدّد التي تخلف آثاراً سلبية وتضرُ بالعقيدة عموماً بمقدار ما تقدح في المنتسبين إليها من أقرب سبيل.

وعليه، فالمثقف الذي يدّعي أنه يتمتع بكل معطيات الثقافة الرفيعة؛ لن يكون مثقفاً - في تقديري - وهو يكره الثقافة العرفانيّة، ولا يريد شيوعها في بلادنا العربية مع أن التصوف الذي هو في الأساس ثقافة عرفانيّة تتأسس على المحبّة والمعرفة ليحمل بالمطلق خُلق الإسلام السّمح الطهور.

أما بقيّة فروع الثقافة الإسلامية؛ فهي على انتشارها وسعتها وكثرة الطالبين لها، الداعين إلى تزكيتها وتفضيلها، الآخذين على عاتقهم بفرضها قسريّاً على واقعنا الفكري والثقافي؛ فهي السبب المباشر في تعطيل النظر إلى "أحادية الرؤية"، فداعية إلى الفصل والمباعدة، وذاهبة إلى التجزيئية الغارقة في نفسها وعلى نفسها في غير معنى، والفاقدة لعناصر التجمُّع والائتلاف، والذاهبة إلى التفاصيل والجزئيات دون الارتداد إلى وحدة تجمعها في مبدأ واحد عام مشترك.

ما معني أن تكون متديناً بدين التوحيد الذي فطرت عليه تمارسه شكلاً دون أنْ تجريه واقعاً فكريّاً وثقافيّاً ومعنويّاً وروحيّاً؛ ليكون هو عينه مجري التجربة على المستوى الفعلي والتطبيقي؟!

ومع ذلك أقولُ؛ إن افتقار العربي المسلم المفطور على غريزة التوحيد لم يتمكن في ذاته أن يُفعِّل هذه الغريزة على المستوى العقلي والثقافي، ولكنه ينتكص على عقبيه ويعودُ أدراجه مستغرقاً في التجزيئية المُفرطة، ولم يهيئه توحيده الفطري لأن يجري عليه ممارسته العمليّة والواقعية؛ فأضحى تدينه في كفة، ونشاطه الفكري والثقافي والعلمي في كفة أخرى؛ فجاءت عقليته عقلية فصل ومباعدة لا ربط فيها ولا توحد بين أجزائها، وليس بمقدورها أن تصل إلى الوحدة التي هى غريزتها الأصيلة المفطورة عليها، لكأنما العربي لم يستطع أن يفهم: ماذا عَسَاهَا تكون غريزة التوحيد، وماذا عَسَاهَا كانت تكون فطرة الوحدانية؟!

لكأنه لم يستطع بعدُ - لأجل تدينه الساذج البسيط - أن يكوِّن لديه "رؤية موحَّدة"؛ يجريها على الواقع الفكري والنظري تماماً كما يجريها على الواقع الفعلي والتطبيقي كما هى مقرّرة قبلاً في الواقع الديني بالفعل؛ إذ إن فكرة "الرؤية الموحدة" تلك؛ إنمّا هى فكرة دينية بالأساس مصدرها الدين لا الفلسفة؛ فلو صحَّ أن الفلاسفة نادوا بها أو قصدوها فيما نادوا فهي مٌستلهمة من الدين؛ وليس للعقل فضل فيها إلا فضل الشرح والتحليل.

ليس صحيحاً أن العقل أنضج من القلب أو أصدق، بل الصحيح هو أن القلب أصدق من العقل وأنضج، ولو عرفنا لعلمنا أن العقول أدنى من القلوب؛ وأن حظنا من معارفنا القلبيّة أقل بكثير من حظنا من علومنا العقلية. (وكل كلام يبرز وعليه من كسوة القلب الذي منه بَرَز) كما تقول إحدى حكم المحققين النبهاء.

يصدر الكلام عن القلب وهو تعبيرٌ عمَّا في القلوب مباشرة، وإنما جُعل اللسان على الفؤاد دليلاً. حقاً صدق الله العظيم:" إنها لا تعمي الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور". وربك رب قلوب فانظر ماذا خالط قلبك؟ حتى إذا ما وجدت ما يُخالطه غير اعتقاد التوحيد وتطبيقاته الحيوية واقعاً يجري في الناس فاعلم أن ثقافاتهم آفات وجل حركاتهم وسكناتهم تقليد يجر وراءه التقليد وهو أسُّ البلاء وآفة الآفات.

وليس صحيحاً أن كفة العقل هي على الدوام في رجحان؛ بل القلب أرجح في أغلب الأحوال. القلب دليل العقل في أكثر الأحايين؛ وعمى القلوب أشدُّ وأنكى من عمى العقول والأذهان.

***

د. مجدي إبراهيم

 

قلتُ لـ(ذي القُروح)، وأنا أناقشه:

ـ ما يفتأ صاحبك (القبَّانجي) يردِّد الادِّعاء البلاغي وتمييز الأساليب.

ـ ما عرضتَه عليَّ من كلامه لا يدلُّ على أنه من أهل البلاغة في شيء- إلَّا لدَى مَن لا يُفرِّق بين البلاغة والبلاهة- ولا مِن الجديرين بالتفريق بين مستقيم الأساليب ومُعْوَجِّها في قليل ولا كثير، ورحم الله امرءًا عرف قدر نفسه، وأخذَ من البلاغة ببلاغة السكوت.

ـ وما بلاغة السكوت؟

ـ يروي (الجاحظ)(1) عن (ابن المقفع) في أنواع البلاغة قائلًا: «لم يفسِّر البلاغة تفسيرَ ابن المقفع أحدٌ قط. سُئل ما البلاغة؟ قال: البلاغة اسمٌ جامعٌ لمعانٍ تجري في وجوه كثيرة. فمنها ما يكون في السكوت، ومنها ما يكون في الاستماع، ومنها ما يكون في الإشارة، ومنها ما يكون في الاحتجاج، ومنها ما يكون جوابًا، ومنها ما يكون ابتداءً، ومنها ما يكون شِعرًا، ومنها ما يكون سَجْعًا وخُطَبًا، ومنها ما يكون رسائل. فعامَّة ما يكون من هذه الأبواب (الوَحْي فيها)، و(الإشارة إلى المعنى)، و(الإيجاز)، هو البلاغة.» 

ـ صاحبك- في هذا المخاض- لا يفضِّل بلاغة السكوت الذهبي، بل سأبغتك بمذهبه الغريب.  هو يفضِّل «نهج البلاغة»، المنسوب (لعليٍّ، كرَّم الله وجهه)، على «القرآن الكريم» في البلاغة! 

ـ عجيب.. إلى هذا الحدِّ بلغ ضغط العمامة؟!

ـ نعم، هكذا يرى وكذلك يعتقد، أو قل: هكذا يريد أن يحتجَّ لتسويغ دعواه، وكذلك يشاء المقارنة الجائرة بين النصَّين. 

ـ شتَّان شتَّان!  على كلِّ حال، هذا يؤكِّد مقدار وعي هذا الرجل بالبلاغة! ويدلُّ على ما وراء هذا التفضيل أصلًا، لدَى القائلين به. ويُنبئ عن ذاك (الما وراء)، لدَى الشغوفين به مذهبيًّا، أن ترى أحدهم يستظهر تلك الخُطَب الطنَّانة، في غير كَلَلٍ ولا سأم، حتى «يُبَلْبِلَ بها الأسماعَ بَلْبَلَة، ويُغَرْبِلَها غَرْبَلَة»، حتى إذا قرأ آيةً من «القرآن» تلجلجَ واضطربَ، ولحَنَ وأخطأَ الصواب!  ويلزم هنا إيضاح مغالطةٍ شائعة، لدَى الملحدين، ولدَى الطاعنين في «القرآن» عمومًا، لأسباب اعتقادية أو فكريَّة أو لغير ذلك.  وهي قياس النصِّ القرآني على النصوص الأدبيَّة.  ولئن كان «القرآن» نصًّا رائع الأدبيَّة، فليست بغايته الوظيفة الأدبيَّة، ولا بوظيفته التأثير الجمالي، ولا الإدهاش البلاغي فحسب، بل هو- قبل ذلك وبعده وفي أثنائه- كتاب عقيدةٍ وتشريع.  ونصوص العقائد والتشريعات كثيرًا ما تقتضي التفصيل، والتدقيق، والشمول؛ تلافيًا لما يُعرَف بالثغرات القانونيَّة.  وهذا النهج معروف في عصرنا في إعداد نصوص الأنظمة والقوانين وصياغتها، حيث تلحظ أنها لا بُدَّ أن تَنُصَّ على أدق التفاصيل- التي قد يرى كثيرون أنها تحصيل حاصل، أو مفهومة بالضرورة- وتُسهِب في تعديد أشياء، ربما رأى بادي الرأي أن ذِكرها بلا معنى. 

ـ كلامك هذا يَردُّ على بعض الظرفاء، أو المتظارفين، الذين يقفون متسائلين، مثلًا، أمام التفصيل في آيات قرآنيَّة، كما في (سُورة النُّور): «لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ، وَلَا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ، وَلَا عَلَى المَرِيضِ حَرَجٌ، وَلَا عَلَى أَنفُسِكُمْ، أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ، أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ، أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ، أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ، أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ، أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ، أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ، أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ، أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ، أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ، أَوْ صَدِيقِكُمْ؛ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا. فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا، فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ، تَحِيَّةً مِنْ عِندِ اللهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً. كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ.»

ـ الحُكم على النصِّ فرعٌ عن الوعي بطبيعته ووظيفته.  أمَّا حين يكون وراء الحُكم غَرَض، فلا سبيل حينئذٍ إلى الحِجاج.

ـ وتَلحظ في هذا السياق أن الذين توقَّفوا عند تحدِّي «القرآن» للإتيان بمثله، إنما يلتفتون إلى الجانب البلاغي من المسألة فقط. 

ـ يفعلون ذلك منذ (مسيلمة الكذَّاب) إلى آخر الكذَّابين.  مع أن التحدِّي في «القرآن» لم ينصَّ على التحدِّي البلاغي تحديدًا، وإنَّما جاء تحدِّيًا مفتوحًا للإتيان بـ«مثله» بصفةٍ عامَّة؛ ولم يقُل: «بمثله بلاغةً»، أو «بمثله جمال نصٍّ». 

ـ وإنْ كان هذا رأس التحدِّي لأُمَّة اللَّسَن والبيان، وأسواق الشِّعر والخطابة.

ـ أكبر الآيات المتحدِّية للإتيان بمثله، هي: «قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرْآنِ، لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ، وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا.» (سُورة الإسراء).  أمَّا التحدِّي بالسُّورة، أو العشر سُوَر، فكان تدرُّجًا في التحدِّي للمشركين.  والثابت تاريخيًّا أن التحدِّي قد ظلَّ قائمًا، يقرع الأسماع، والرِّهان قد بقي مرفوعًا في الوجوه. والثابت تاريخيًّا كذلك أنَّه لم يستجب للتحدِّي من أحد، ولو جَدَلًا، وأنَّ المحاولات التعيسة، التي جرت على مرِّ العصور، قد جاءت أضحوكة للعالَمين، هزيلةً وهزليَّةً جِدًّا، حتى في المستوى البنائي. 

ـ وليست في حاجةٍ إلى شهداء لإثبات أنها ليست بمثل النصِّ القرآني، حتى في المستوى البنائي، فضلًا عن غيره من المستويات. 

ـ على حين قال الواهمون إنه إنَّما صُرِف الناس عن الإتيان بمثله، وإلَّا فالإتيان بمثله ممكنٌ جائز!  وتالله، لقد اقترف هؤلاء الواهمون بقولهم هذا فِرْيَةً على النصِّ وعلى الناس في آن، من وجوه.  فمن الوجه الأوَّل، سيقال: ما حُجَّة المحتجِّ بإعجازٍ قد صُرِف الناس عنه؟!  ثمَّ هي فِرْيَةٌ على الناس، من وجهٍ آخَر- مع أنها ما كانت لتسوغ لدَى الملاحدة منهم، ممَّن لا يؤمنون بوجود الله أساسًا، فضلًا عن حكاية الصَّرْفة تلك- فالناس لم يأتوا بمثله، مع حرص بعضهم الشديد على ذلك. 

ـ إذن، ترى أنَّ التحدِّي القرآني لم يكن في مستوى المبنى وحده، بل هو في المعنى أيضًا. 

ـ أجل، ليس إعجازًا بلاغيًّا فحسب، بل هو إلى ذلك إعجاز في المحتوى الدلالي، المشتمل على قضايا لم تجتمع في كتاب من قبل ولا من بعد.  فمَن يعرف اليوم في العالم كتابًا، بأيَّة لغةٍ من اللغات، يضم بين دفتَيه قضايا الخلق، والحياة، والبعث، والعبادات، والمعاملات، وقضايا الإنسان، والمجتمع، وقَصص الأُمم، والكون، والدنيا، والآخرة، مع ما ينطوي تحت هذا كُلِّه ممَّا لا يُحصَى من مضامين وإشارات لا تنضَب، مَن يعرف كتابًا يشمل ذلك في كتابٍ واحدٍ غير «القرآن»، فليأتِ به؟ 

ـ وهو كتابٌ ليس بالكبير الحجم. 

ـ هل هناك من كتابٍ آخَر يتوافر على كلِّ ذلك عدا «القرآن»؟!  ثمَّ إنَّه ليس من كتابٍ سِواه من العُمق والشمول بحيث لا يكاد يخطر في الذهن سؤال، في أيِّ زمان أو مكان، إلَّا وجدتَ عنه إشارة لافتة في «القرآن». 

ـ ربما اتهمك هؤلاء بالمغالاة عن عاطفةٍ دينيَّة، لا أكثر!

ـ وما أبرِّئ نفسي من العواطف، لكنَّني هنا أطرح الأسئلة بتجرُّد، فمن وجد إجابة- مجرَّدة من العواطف- فليُجِب!  هذا الكتاب الذي جاء في غضون عشرين سنة فقط، كانت مخاضًا رهيبًا من المواجهات والحروب، والحصار والتهجير، والقلق والاضطرابات، على يدَي رجلٍ أُمِّي، هو أمرٌ غير متصوَّر.  ولقد كان (محمَّدٌ، عليه الصَّلاة والسلام) أُمِّيًّا بالفعل، لا بالتأوُّل، كما يزعم بعض الزاعمين. 

ـ ما دليلك؟

ـ تَدُلُّ على هذا طرائق حفظ «القرآن» نفسه، وروايته، وجمعه، وترتيبه. ولو كان الرجل يقرأ ويكتب، بل لو كان يأخذ بهذه الآليَّة الكتابيَّة، مذ أوَّل يوم، بصورةٍ منتظمةٍ منضبطة، لما استدعى الأمر تلك الرحلة الشفاهيَّة الشاقَّة حتى استقرَّ النصُّ في (مصحف عثمان). 

ـ ولقد جاء هذا الكتاب في نهايات حياة (محمَّد)، وإبَّان كهولته، القلقة، ودعوته الثوريَّة، المضطرمة بالتحدِّيات الوجوديَّة، له وللعَرَب جميعًا. 

ـ بقطع النظر عن الظروف، ما كان ليتسنَّى أن يأتي بمثله فريقُ بحثٍ كاملٌ، متفرغٌ شابٌّ. دع عنك أن يأتي بمثله طالب دكتوراه ممتاز، مثلًا، أو فيلسوف، منصرف تمامًا للإتيان بمثله، وإن افتُرض أنَّ هذا أو أولئك بعيدون بالكلِّيَّة عن تلك الظروف الوجوديَّة التي كانت محدقة بمحمَّد في أدقِّ تفاصيل حياته وأجلِّها.  فمن كان لديه كتاب، إلى اليوم، بمثل تلك المواصفات، فليدلَّنا عليه.  فلئن لم تكن تلك معجزة، فما الإعجاز؟!  المحاكمة المنطقيَّة، إذن، وبغضِّ النظر عن الإيمان، تحكم بالإعجازيَّة في الأمر.  بيد أن الإعجاز ليس في نصوصيَّة النصِّ، فقط، كما تقدَّم القول، كي تُقارن سُورة بخطبة، أو سُورة بقصيدة، من حيث البناء البلاغي.  فذلك هو الغِلاط في الحِجاج.

وأمَّا «نهج البلاغة»، فما «نهج البلاغة»؟  تلك قِصَّة أخرى، نقصَّها معًا في المساق التالي.

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

............................

(1) (1998)، البيان والتبيين، تحقيق: عبد السلام محمَّد هارون، (القاهرة: مكتبة الخانجي)، 1: 115- 116.

 

من أيما نبع تعشوشب القفار؟

من أيما سماء يهطل غيم؟

لم يعد (السواد) يرتعش بالسراب!

يا حادي العيس إلى أي مدى تفضي الخيول؟

إلى مدائن الطين الخراب التي تيبّست وجفّ ريقها ولا مطر؟ أم للأشجار التي لا مفرّ لها إلا أن تموت ميتة معجّلة؟ كما أراد صناع الموت بلا قراءة وبسملة، والأرض الظمآنة في غيابة للريح.

كان مغول اجتثاث (السواد) من أرض العراق يستدرجون النخيل فيقطعون جذوره ليسرقوا سعفه، ثم ينحروه من أعلى الرِقاب !

لم نتعلم بعد أبجديات الحروف الأولى ونحن نسمع حكاية تسمى : (الحزام الأخضر)، ولم ندرك بعد علاقة الحزام باللون، حتى أدركتنا الأعوام وقرأنا في الكتب المدرسية أن مشروعاً " حلماً " تخطط له الحكومات منذ قامت الدولة العراقية في عشرينات القرن الماضي تحت هذا العنوان، انه يعني باختصار : زراعة الأشجار الدائمية على أطراف الصحراء الممتدة من الشمال إلى الجنوب في غرب العراق، وكنا نقرأ كذلك في كتب التاريخ أن جيوش المسلمين حين قدموا إلى العراق رأوا سواداً، لكثافة الزرع في سهوله الخضراء وشدّة اللون فيه، فأطلقوا عليه (أرض السواد). ويلحّ علينا السؤال بين الحين والآخر عن معنى (الحلم) في بلاد يخترقها من الشمال إلى الجنوب نهران عظيمان، وروافد تنبع من اليمين واليسار، فاقترن اسمها بهذين النهرين وأصبحت تعرف البلاد منذ فجر التاريخ بـ ( وادي الرافدين، أو أرض ما بين  النهرين). أرض تعيش على لهاث الندى وما يشتهي الطيبون.

نقرأ في صفحات التاريخ أن بلاداً حطّ فيها طوفان، يجيئها الخير في عقر دارها. ماذا جرى لتتحول هذه الأرض إلى مرتع وخيم للهوام؟ تغصّ بالدمع والآهات؟ والجفاف.

ونقرا أن هذه البلاد كانت إحدى المناطق التي ارتبط تطورها التاريخي بالزراعة المروية منذ أقدم العصور، وكان على الفلاحين التكيف مع البيئة والبقاء على قيد الحياة في الظروف الصعبة التي عاشها الانسان وهو يواجه مشكلات الأرض والمياه حين تتشابك الأسباب فيهجر الأرض المطر ليعم الجفاف والتصحر.

التصحر المتزايد سيترك آثاره الخطيرة على مجمل الواقع الزراعي، في ظل نظام سياسي يواجه أزمات حادة عديدة، الأمر الذي سيضاعف المصاعب والتعقيدات الاجتماعية والاقتصادية والتنموية للبلاد.

المؤسف حقاً ان مبالغ خيالية تبددت وضاعت عبر مشاريع وهمية، أو لم تنفذ بسبب الفساد المتفشي في أجهزة الدولة من دون استثناء، وشيوع ظواهر الرشوة والسرقة والاختلاس في معظم مفاصل الحكومة، ان هذا العبث المتوحش بالمال العام ضيّع على البلاد فرصاً كبيرة في التنمية والبناء، وخلق فئات طفيلية أسرعت في الثراء بأساليب قذرة على حساب تعطيل أي مشروع إصلاحي تنموي.

تراجعت أعداد أشجار النخيل من 30 مليون نخلة إلى 9 مليون نخلة بسبب الحروب وبالأخص الحرب العراقية – الإيرانية، واتساع المدن العشوائي على حساب بساتين النخيل الكثيفة المحيطة بالمدن، جرى ذلك بأبشع صورة في المدن الكبيرة، وعلى وجه الخصوص العاصمة بغداد، إذ امتدت الجرّافات لتمسح مساحات واسعة من بساتين النخيل لحساب مشاريع الإسكان وبناء أبراج العمارات لصالح حفنة من أصحاب رؤوس الأموال الكبيرة في مشاريع غسيل الأموال التي تضخمت بشكل سريع في الآونة الأخيرة.

بدأنا نخشى أن الشمس لم تعد تضيء في وسط النهار حين يحجبها تراب العراق فتختنق الأنفاس وتضيق الصدور، آه.. يا ذا البلاد الممحلة التي ما استراحت بأعوامها السيئة!

هي الأرض قد طواها العطش لسوء الإدارات التي توالت في حكم البلاد، جفّت سواقيها واتسعت صحاريها وغزاها الجراد، ضاعت بين وهم ووعود وخراب، انهكها جلادو النخيل، أحالوا مدنها وأهوارها إلى مدن تشبه الطين أو تشبه القش، مدن تشبه العواصف الترابية، أو تشبه الملح عطشانة.

***

د. جمال العتّابي

إن عملية توحيد الخطاب الإعلامي في مواجهة التحديات والأزمات التي تواجه أي دولة، يعدّ أداة استراتيجية تُستخدم لتحقيق أهداف متعددة لا تقف على موضوع محدد، من أجل الحفاظ على الاستقرار المجتمعي وتوجيه الرأي العام وتوفير المعلومات الدقيقة للجمهور والسعي لأستمرارية البناء والتنمية المستدامة، لذا ينبغي التخطيط وإتخاذ السُبل والآليات لتوحيد الخطاب الإعلامي. فأي دولة، تتعرض خلال سنوات تأريخ حكمها الى العديد من الأزمات، فإن لم تكن القيادات السياسية والإعلامية وبقية مؤسسات الدولة المنضوية تحتها لا تمتلك الستراتيجية والعمق الفكري في رسم مساراتها الراهنة أو المستقبلية، فقد تواجه تحديات عديدة ومتنوعة تكون غير مؤهلة لحظة مواجهة الأزمة، لأن سوء الفهم والتقدير، قد يأتي بعواقب وخيمة، خاصة في الأوقات التي تشهد فيها العلاقات الدولية توترات وأزمات وصراعات.

فوسائل الإعلام السابقة قبل ظهور شبكات الانترنت والفضائيات وانتشارها، كانت تمثل قوة مثلها كالقوة العسكرية؛ حيث سيطرة الدولة عليها والتحكم بها والسيطرة على كل ما تسعى الدولة من بث ونشر من معلومات للجمهور، والتحكم بمشاعره وتوجيه أفكاره او حتى التلاعب بأهواه.

إلا إن التطور التكنولوجي وظهور العولمة وانتشار الفضائيات وشبكات ومنصات التواصل الاجتماعي، أصبحت خارج سيطرة الدولة والتحكم بها (في أغلب الاحيان) كما كانت عليه في العقود السابقة، وأصبحت الدول المضادة والمعادية أكثر قوة وتأثير في ما تسعى اليه لنشر ما تنوي نشره من معلومات مضللة من خلال هذه الشبكات والمنصات.

 لذا ينبغي التنسيق بين وسائل الإعلام الحكومية والخاصة، وتحديد الرسائل الأساسية وتنسيق الخطاب بشكل يتماشى مع الاهداف والاولويات الوطنية والرسمية، ويتم ذلك من خلال إنشاء منصات للتواصل وتبادل المعلومات بين الإعلام الرسمي والإعلام الخاص؛ بهدف توحيد الرسائل وتجنب التضارب بينهما، وأن تحمل الرسائل معاني موحدة لا اختلاف بين الفريقين، كي لا يؤدي الى ردود أفعال لا يحمد عقباها إن كان على الجانب الحكومي أو الخاص.

كما إن توفير مصادر معلومات موحدة وموثوقة تقع على مسؤولية الحكومة، إذ ينبغي لها أن تؤسس مراكز إعلامية تكون هي المصدر الرئيسي لتزويد وسائل الإعلام بالأخبار والمستجدات حول الأزمة، مثل المركز الإعلامي والصحفي الحكومي أو منصات رسمية عبر شبكات الانترنت، يرافقها التوجيهات الإعلامية الرسمية، وذلك من خلال إصدار التوجيهات لوسائل الإعلام حول كيفية تناول الإحداث وتقديمها بما يتناسب مع المصلحة الوطنية، ويتضمن ذلك تجنب الشائعات والتركيز على المعلومات الموثوقة.

فضلاً على التدريب المستمر للعاملين في مجال الإعلام، حيث يختار من أساتذة الإعلام من الأكاديميين والخبراء والمستشارين بتدريب كوادره على كيفية التعامل مع الأزمات، وتوفير التدريب اللازم للمتحدثين الرسميين للدولة والإعلاميين لضمان قدرتهم على نقل الرسائل بفاعلية، ويشمل ذلك من خلال التدريب على التواصل الجيد، والتحكم بالمشاعر، واستخدام لغة عالية الدقة كي يستوعبها المتلقي، وتطوير مهاراتهم في توجيه الرسائل التي تعزز من وحدة الصف الوطني، وتعزيز الثقة في الدولة وبوسائلها الإعلامية.

كما يقتضي العمل بغية توحيد الخطاب الإعلامي، الى إستخدام لغة موحدة ومصطلحات مشتركة بين الإعلام الرسمي والخاص، تتبناها وسائل الإعلام؛ وهي لغة إعلامية تتسم بالوضوح والتوازن والاعتدال، والاستناد الى المعلومات والحقائق المدعومة بالبيانات والأرقام والحقائق الموثوقة، لكي يعزز المصداقية، وتقبل الجمهور بكل ما يطرح من مفاهيم غير مبالغ فيها، فضلاً عن تجنب المصطلحات التي قد تؤثر وتثير التوتر أو الفهم الخاطيء لدى المتلقي من الجمهور، وهنا يكون التعاون مع الجهات الأكاديمية والمختصين، من خلال إستضافة خبراء من مجالات مختلفة لتقديم تحليلات ووجهات نظر تتفق مع الخطاب الوطني، وتساعد الجمهور على فهم أبعاد الازمة.

ومما لا شك فيه، فأن أستخدام وسائل التواصل الاجتماعي كجزء من الاستراتيجية الإعلامية، إذ يعد الإعلام الرقمي من أسرع الطرق للوصول الى الجمهور، لذا ينبغي إستخدام تلك المنصات بذكاء للتفاعل مع الجمهوروتقديم المعلومات أولاً بأول، ومواجهة الشائعات، حيث يتم نشر الرسائل الرسمية والرد على الاستفسارات؛ لتهدئة الجمهور وطمأنتهم بشكل مباشر وسريع، فتلك الوسائل والمنصات المختلفة تلعب دوراً كبيراً بالتأثير، خاصة بين شرائح الشباب والمراهقين؛ الذين يقضون أوقات كبيرة بين تلك الوسائل، تتوزع بين المتابعة لإشباع الرغبات الذاتية، أو بغية البحث والدراسة أو للتواصل المختلف.

 ولابد من الإشارة الى أن وضع الرقابة على الشائعات والمعلومات المضللة مسؤولية في غاية الأهمية، ولابد من وضع وتطبيق القوانين والإجراءات اللازمة؛ لمنع نشر الاخبار الكاذبة وتحديد وتحجيم مصادر الشائعات؛ بهدف حماية الرأي العام من التضليل، وتعزيز ثقتهم بالوسائل الرسمية، وأن تكون هناك آلية سريعة لرصد الشائعات والأخبار المغلوطة وكيفية الرد عليها بوضوح؛ لمنع وتجنب انتشارها والسيطرة عليها قبل ان تتسبب في تزايد القلق أو التشويش.

إن الرسائل التي تسعى الى بثها ونشرها عبر وسائل الإعلام المختلفة، لابد من تكون محكمة من قبل المرسل المسؤول على الوسيلة، وأن يفهم طبيعة الجمهور المستهدف، على ان تكون هذه الرسائل وفقاً لإحتياجاتهم وأهتمامهم ومستوى فهمهم، مما يسهم في تحقيق أستجابة أفضل وتفاعل أكبر وتحقيق نتائج أعلى.

وليس هذا فقط، بل أن يكون هناك متابعة وتقييم لتأثير الخطاب الإعلامي بشكل دوري، بغية التعرف على على مدى تحقيقه لأهدافه، وإجراء التحسينات اللازمة، بالأضافة الى الأخذ بعين الاعتبار، في إتخاذ تحقيق التوازن بين الشفافية والحذر، فمن الضروري أن يكون الخطاب الإعلامي شفافاً، لكن مع الحذر أيضاً في الإفصاح عن المعلومات التي قد تؤدي الى تفاقم الأزمة أو نشر الذعر بين شرائح المجتمع المختلفة، ففي حالات المواقف الحرجة تستدعي بعدم الافصاح عن تفاصيل الرسالة، فقد تؤدي الى رد فعل سلبي.

إن هذه الآليات تهدف الى ضمان أن تكون الرسالة الإعلامية موحدة وموضوعية، مع إظهار الالتزام الوطني بمواجهة التحديات والأزمات بطرق تضمن الأستقرار، وتغرس الثقة بين الدولة ومواطنيها، لتوحيد الخطاب الإعلامي لأجل دقة المواجهة، وإتباع السُبل التي تساهم في تحقيق التأثير المرجو منه في إيصال الرسائل بفاعلية ووضوح.

إن توحيد الخطاب الإعلامي يتطلب التنسيق والتعاون بين جميع الأطراف المعنية، الإعلامية بالدرجة الأولى وغير الإعلامية ثانية، كما يتطلب مرونةً وآستعداداً للتكيف مع تغيرات الموقف وتحدياته، لضمان بقاء الجمهور على إطلاع ودراية، فالأزمات والتحديات التي تواجه العالم، تقتضي رسم سياسات إعلامية عالية الدقة تتناسب وحجم هذه التحديات.

***

د. عصام البرّام - القاهرة

السماوية "الابراهيميه"  كتشكل اعلى مكتمل للتعبيرية اللاارضوية اذن، هي تدبيريه مجتمعية، اسباب وعوامل تشكلها وخروجها من موضع ولادتها/ حيث المنشأ والتبلور/ دالة على  كون الظاهرة المجتمعية بالعموم "مزدوجه"، يقابلها فرديا على مستوى كينونة مادتها البشرية ازدواج الكائن البشري ( عقل / جسد)، وهذا ماقد ظلت البشرية تجهله، والعقل قاصرا دونه وصولا الى العتبة  الاولية الابتدائية الجزئية التي تحول المجتمعات  الى "ازدواج" طبقي من دون مغادرة للاحادية الارضوية، وهو ماقد حصل مع الغرب المعروف بالحديث، وما قد تكفل به شخص مثل ماركس من تكريسية قصوى ل"الصراع الطبقي"،  المحكوم بحسب رؤيته لقانون و"حتمية" اخذة اياه نحو منتهى انفكاك الطبقية، مقطوع النهايات، بلا ما بعد، ولا مستقر محدد معلوم.

 ليس ثمة من شك بان الغرب الاوربي قد حقق مع انقلابه الالي الافتتاحي على مستوى المعمورة، شيئا من  محاولة كسر القصورية العقلية المهيمنه والغالبه على مدى الطور اليدوي، انما من دون ان تصل حد اماطة اللثام الكلية عن المنطوي  الكامن في العملية المجتمعية اصلا وابتداء، ما كان من شانه ومع الغلبة النموذجية والتفكرية التي حازها الغرب الالي، ان اشيعت في حينه والى الساعة، حالة من التوهمية الالية الابتدائية الكبرى، ظلت مستمرة الى اليوم من دون ان تظهر دالات ما على احتمالية بدء الانتباه لوطأتها، فضلا عن  محاولة تغيير المروية المتعلقة بالالة كونيا، محل ما هو غالب من سردية محدودة بحدود "اوربا"، بحكم اسبقية انبجاس الاله في الموضع الاوربي.

  على الاساس المشار اليه، ومن هذا المنطلق كان على الالة وانتقاليتها الكبرى ان تمر  بمحطتنن، اولى استهلالية ابتدائية تظل هي الغالبة مدعمه برسوخ اسس ومنطلقات ما قبلها، وثانيه تظل غائبة الى ان تكتمل عناصر الانتقالية وتشكليتها العالمية تجاربا واختبارات وتطور  يطرأ على الالة نفسها، بعد شكلها او صيغتها الانبثاقية  الاولى "المصنعية" قبل التكنولوجية الانتاجية الراهنه ومابعدها، مايترافق حكما مع  انقلابيه عقلية وعلى مستوى الادراكية والاستيعاب،  غير تلك الابتدائية التي  تكون اوربا  موضع البدء قد اقترحتها وذهبت الى تكريسها على انها الحقيقة المطلقة قبل الاوان، وقبل استيفاء الحدث الانقلابي النوعي الحاصل لاسباب الاكتمال والنضج الواقعية والمادية الموافقة لطبيعته ادراكا.

 وانا اعرف ان مايرد هنا سيوضع في احسن الاحوال ضمن خانه الخراقه والتجاوز غير المقبول، ولا الوارد اعتباره بمثابة افتراض مناسب عقليا لموضوعه الشديد "العلمية" و " الرسوخ"، هذا اذا لم ينظر اليه ككفر، خصوصا انني لا اناور او احاول ان اخفف وطاة المعروض املا في تسريبه ب"الحسنى". وبكلمه وبلا مواربة اقول: بان الانقلاب الالي هو انقلاب لا ارضوي لم يتحقق بعد، وان ما قد حصل الى الان على هذا الصعيد ما هو الا ممهدات ضمن عملية لم تكتمل حتى الساعه، بانتظار تمخض ما مشار اليه من الاشتراطات والظروف والممكنات  والعناصر اللاازمه والضرورية للانقلابية العظمى العقلية المنتظرة على مر تاريخ العملية المجتمعية، بما انها هي العنصر الفاصل والحاسم الذي لا انتقال، ولا انقلاب اكبر ما بعد يدوي من دونه.

 ومع عدم نسيان الصلة الوثيقة بين الواقع المعاش والوعي، يفترض التمييز بين "الواقع الفكرة" و"واقع الملموس والمادة"، الاول اللاارضوي الكتابي  كما تحقق في التاريخ والى اللحظة الراهنه "كتابيا" لاكيانيا جغرافيا، بمانعرفه من "كيانيه ابراهيمه" توراتية، انجيلية، قرآنيه، مقابل مالا يحصى من الكيانات والدول والحكومات الارضوية، وكل هذه لها مسارات وتاريخانيه وتشكليات تطورت بموجبها او انهارت وتمزقت، او حل محلها غيرها ضمن اليات الصعودية التفاعلية التاريخيه، يمكن البحث لها عن اسباب ومحركات وعوامل دفع او اسباب اعاقه وتاخير او انهيار، وصولا الى ماقد سبق واشرنا اليه من "مادية تاريخيه" وحتمياتها ومنتهياتها.

  بالمقابل لم يكن متوقعا بالمطلق نشوء تاريخيه لاارضوية بينما هي خارجه اصلا عن الادر اكية وغير حاضرة كنمطية وكينونه، تجمل من يومها الى الان ك "دين" وظلت حتى بعد العتبه او الخطوة الاولية التي اجترحتها اوربا الاليه مع "علم الاجتماع" اخر العلوم، فما كان لها ان تتفضل على اللاارضوية وتعبيريتها سوى ب "علم الاجتماع الديني"، دالة على استمرار القصورية العقلية التاريخيه، حيث استحالة القفز المستحيل كما هو مطلوب ولازم الى "علم اجتماع اللاارضوية".

  ولاشك ان قفزة من هذا النوع ستكون بالحد الادنى بمثابة انقلاب  كلي شامل في الرؤية والنظرة البشرية للوجود والذات والمنطوى المترتب على الظاهرة المجتمعية ككل، اولها والمبتدا المناسب لها، هو حيثيات التشكلية التاريخيه الابتدائية والتاريخيه الرافدينيه التي تنتظم تفاعليتها الاصطراعيه، بنمطيتها الاولى اللاارضوية  الكونيه المتعدية للكيانوية، وازدواجها المجتمعي الاصطراعي، وآلياته المطابقة لنوعه، ولخاصية الدورات والانقطاعا ت التي تنتظم وجوده وسيرورته، دورة اولى سومرية بابلية ابراهيميه تنتهي بسقوط بابل 539 قبل الميلاد، ودورة ثانيه عباسية قرمطية انتظارية، انتهت مع سقوط بغداد 1258، ودورة ثالثة هي الراهنه المستمرة من القرن السادس عشرمع قيام "اتحاد قبائل المنتفك" في ارض سومرمجددا، في الطور الالي، والمحكومه للنطقية النوعيه النمطية، بعد دورتين خاضعتين ل"اللانطقية" المتعدية للممكنات الادراكية  العقلية بقدر ما متاحة ومتوفرة للكائن البشري يدويا.

 لاعلم اجتماع، ومن ثم فلااي مقاربة لقانون التاريخ المجتمعي ووجهته، من دون اماطة اللثام عن اللاارضوية، اي عن الازدواجية المجتمعية، ومن ثم عن التفاعلية المجتمعية التاريخية الاصطراعية بين النمطيتين، وصولا الى التحوليه الكبرى المتولدة عن الانقلابية الالية بصيغتها اللاارضوية العقلية، مع وسيلة الانتاج المادية/ العقلية، التي هي مقصد ومآل تشكل الاله ابتداء من صيغتها الاولى "المصنعية" قبل التكنولوجية الانتاجية الحالية، حين يبدا التفارق من هنا فصاعدا، بين طبيعة وسيلة الانتاج بصيغتها الاخيرة التكنولوجية العليا/ العقلية، واشتراطات الانتاجية المتبقية من الطور اليدوي، بما هي انتاجية حاجاتيه جسدية ارضوية، خلاصتها والوصف الدال على طبيعتها ( التجمع + انتاج الغذاء).

ـ يتبع ـ

***

عبد الأمير الركابي

يستقصي غرانت بارتلي الفيلم كتركيز لشخصية جيجك

ترجمة: علي حمدان

***

على عكس مظهره السطحي الذي يبدو مجرد لقطات متصلة، فإن هذا الفيلم الوثائقي عن الفيلسوف السلوفيني الملقب باسمه لا يتيح له فقط التعبير عن فلسفته، بل يسعى أيضًا ليكون تجسيدًا لهذه الفلسفة. في هذا المعنى، يسعى الفيلم إلى الكمال الفني، من خلال عكس مبادئه الفلسفية في شكله، وينجح إلى حد ما. العلامة التعجبية الموضوعة بعناية ضد اسمه في العنوان هي حالة في هذا السياق. إنها أكثر من علامة ترقيم من السخافة ما بعد الحداثة المعتادة: إنها توضح عمداً وبشكل هولوغرافي فلسفة جيجك - ومن ثم الفلسفة التي تم بناء الفيلم من خلالها.

اسمحوا لي أن أشرح لكم...

يبدأ الفيلم بخلق الكون: وجود الكون. بأسلوبه الوقح المعتاد، يشرح لنا جيجيك أن "لا شيء هناك- حرفياً ـ وأن الكون عبارة عن     "فراغ مشحون إيجابياً". بطبيعة الحال، هذا هراء ميتافيزيقي لا معنى له ـ إذا أخذناه على محمل الجد. ومن السمات المميزة لأسلوب جيجيك أنه يقول كل شيء على محمل الجد، حتى تصريحاته الأكثر استفزازاً، مثل أن جوزيف ستالين كان "رجلاً أميناً". وهناك شيء من السخرية في تصريحاته المتواصلة الواثقة، وكأن جديته غير المعقولة تدعوك على وجه التحديد إلى عدم أخذه على محمل الجد؛ ولكن كل هذا جزء من الحبكة. وبينما يشرح أفكاره، يمكننا أن نبدأ في فهم كيف أن تحديه المستمر من خلال أفكار غير خاضعة للرقابة يتناسب تماماً مع نظريته الشاملة. ولأنه يأخذ الفكر على محمل الجد، فإن كل هذا الاستفزاز والتهديد موجود. انه يعمل ويعيش من خلال تفكيره.

في الفيلم نرى جيجك وهو يجري مقابلات ـ واحدة في برنامج حواري في نيويورك، وأخرى في السرير، وأخرى أثناء اللعب مع ابنه. ولإبراز غرابة جيجك نشاهد في شقته: ملصق لستالين، الذي علقه على الحائط لصدمة كل من قد يصدمه ويدفعه إلى المغادرة؛ وأدراجه وخزائنه في المطبخ حيث يحتفظ بملابسه إلى جانب أدوات المائدة (وهي علامة تعجب أخرى ضمنية هنا)؛ وارفف كتبه حيث يحتفظ بنسختين من الكتب الأجنبية التي يمتلكها، لأسباب لم يتم شرحها بشكل كافٍ على الإطلاق. يقول جيجك أشياء مثل: "الحب اختلال كوني"، و"الواقع غبي!" و"الحب شرير ـ بالمعنى الرسمي". ولكن حتى إضافة عبارة "بالمعنى الرسمي" تشير إلى أن وراء ثرثرته أكاديمي جاد، مستعد للانقضاض. وبدلا من مجرد تصريح غبي آخر، ربما يكون هذا التصريح صحيحا.

ولإثبات جدارته الفكرية، نجد الفيلم مليئاً باقتباسات من كتب جيجيك، والتي اعتقدت أن عبارة "نحن نشعر بالحرية لأننا نفتقر إلى اللغة التي تمكننا من التعبير عن عدم حريتنا" هي من أكثرها وضوحاً. والانطباع الذي تشكل لدي، وهو حقيقة تأكدت للأسف من خلال قراءة أحد كتبه، هو أن جيجيك أكثر فعالية ووضوحاً في التواصل لفظياً من خلال الكلمة المكتوبة. فليس من السهل أن يكون المرء معبراً بشكل تلقائي ومتواصل عن أفكار عميقة كما يظهر الفيلم جيجيك؛ ولكن من المؤسف أن كتاباته تعاني من مرض الفيلسوف الشائع المتمثل في الخلط بين بساطة التعبير وغباء الفكر.

في وقت مبكر، وبعد أن طاردته مجموعات من الناس للحصول على توقيعاته في الحرم الجامعي، ادعى أنه يكره الشهرة وقال: "أنا أحب الفلسفة باعتبارها عملاً مجهولاً". أجل، هذا صحيح! المعنى الوحيد المعقول لهذا الرجل هو أنه شخص يستمتع بالاهتمام ــ بالمعنى الراقي للتأكيد من خلال فعل توصيل أفكاره المهمة. جيجك واضح، وإن كان يدفع دائمًا تعبيره عن نفسه إلى ما هو أبعد مما قد يفرضه رقيب المعقولية. ويقول إن قلقه لا ينبغي تجاهله بل قبوله. ويقول أيضًا إنه يخشى التوقف عن الحديث، في حال لاحظ الناس أنه لا يوجد شيء حقًا هناك. ولكن ما هو موجود هو أبعد ما يكون عن العدم.

إن جيجك ماركسي لاكاني. وهذه طريقة للنظر إلى المجتمع من منظور ديناميكياته النفسية. وبالنسبة له، هذه هي الطريقة التي يمكننا من خلالها فهم جوانب المجتمع مثل العنصرية الأصولية الحديثة (مثاله). إن نظرياته صعبة ومعقدة ــ تحليل نفسي دقيق للدوافع والآليات النفسية التي تعمل من خلالها "الرأسمالية العالمية المتأخرة" والتي تدعمها. ولكن كما يقول في الكلمات الأخيرة من الفيلم، فإن تقديم مثل هذه الأفكار على أنها صعبة هو "دعاية طبقية من جانب العدو". وفي النهاية يقدم لنا تحليله الثاقب للوضع الاجتماعي الاقتصادي.

في عام 1990 كان جيجيك مرشحاً لرئاسة سلوفينيا. (أين في الغرب الناطق باللغة الإنجليزية "المتقدم للغاية" يمكن اعتبار أن مثقفاً محترفاً يمكن أن يترشح لمنصب رئيس الجمهورية؟ أعتقد أن هذا الاحتمال السخيف يوضح حضارتنا وثقافتنا بشكل جيد للغاية). أعلن أحد المرشحين المنافسين أن جيجيك أكثر ذكاءً من أي منهم، ولكنه للأسف لم يفز ــ وهو تعليق واضح على العملية الديمقراطية.

إن مكانته كـ "نجم روك أكاديمي" تؤكدها رؤية مئات، وربما ألافالاشخاص، يحضرون إحدى محاضراته في بوينس آيرس. وهنا يتحدث عن إعادة اختراع اليوتوبيا - "ولكن بأي معنى؟" يشرح أنه من منطلق الحاجة إلى البقاء يجب أن نخترع مساحة فكرية حيث يتم تصور اليوتوبيا الجديدة. كما يقول لاحقًا، فإن المشكلة الحديثة لليسار هي أنهم يريدون ثورة بدون الثورة. يريد التقدميون تغيير العالم، ولكن في نفس الوقت الحفاظ على أنماط حياتهم الغنية والمريحة. أعتقد أن هذا تعبير واضح جدًا عن إحدى المشاكل المركزية للقلق الميتافيزيقي الليبرالي في القرن الحادي والعشرين. نريد منع كارثة المناخ، لكننا لا نريد قطع الرحلات الجوية الرخيصة أو ملكية السيارات الشخصية، على سبيل المثال. ولكن كما يقول جيجك، فهو لا يرى دوره في تقديم الحل الكبير، والإجابة الكبيرة التي ستخبر الثوار بالضبط ماذا يفعلون: كما يقول، "أنا لا أعرف الصيغة!" وبدلاً من ذلك، باعتباره "لاكانيًا يحمل بطاقة هوية" وله خلفية في التحليل النفسي، فإنه يرى دوره بطريقة تحليلية نفسية: استفزاز "الثوريين" حتى يصبحوا على دراية بأنفسهم والمشاكل النفسية المعاصرة التي تحاصر السياسة التقدمية على وجه الخصوص، فضلاً عن المشاكل (المختلفة) التي تحاصر العقول البشرية عمومًا داخل عملية النظام الاقتصادي الحالي.

إن إحدى هذه المشاكل العامة هي أن كل شيء أصبح محظوراً بدلاً من أن يكون كل شيء مسموحاً به: فنحن نخشى الحياة إلى الحد الذي يجعلنا عاجزين عن الاستمتاع بها تلقائياً دون أن نتأكد من أننا لا نضر بصحتنا. وفي الوقت نفسه، هناك أمر من مجتمعنا بالاستمتاع بالحياة ـ وهو الأمر الذي يستنزف أيضاً استمتاعنا، لأن استمتاعنا لم يعد يشكل بالتالي حماساً طبيعياً حراً للحياة. ولقد شعرت بأن هذا هو المجال الذي يرفض فيه جيجك بشدة الامتثال. وبدلاً من ذلك، قرر أن يستمتع بنفسه تلقائياً، من خلال أن يكون على طبيعته. ومن المؤكد أنه متحمس لأفكاره الخاصة. وهو يحاول باستمرار أن يشرح نفسه: يمكنك أن ترى الشرر يتطاير من أطراف أصابعه. ويبدو وكأنه مندهش من وجود كل هذه الأفكار المذهلة ـ فكل عبارة تبدو وكأنها رد فعل تلقائي. إن لم تكن من المتحمسين للأفكار، فإن هذا الفيلم لا يقدم لك أكثر من مقطع عرضي من حياة فرد فضولي شوهه إيمانه وتفكيره الخاص عن سلبيتنا البشرية "الطبيعية" تجاه الأفكار. ولكن هذا السلوك غير الطبيعي يشكل أيضاً جزءاً من النظرية العامة، لأنه كما يعبر عن اتفاقه مع فرويد، فإن السلوك "الطبيعي" هو "تشويه مرضي" للإنسانية الطبيعية. لذا فإن انفعاله الذي لا يمكن كبته بالتفكير يظهر كيف أن حياة جيجك توضح تفكيره. فعندما نراه يشاهد مقطع فيديو للاكان وينتقدهi، فإنه يشرح كيف أن الإيديولوجية الحقيقية هي أن تكون إنساناً، وأن أسوأ تشويه للإيديولوجية هو تشويه شخص ما تماماً من خلال الضغط عليه من خلال التلاعب الاجتماعي أو الثقافي أو الإعلامي ليقوم بدور، ويصبح ما هو زائف بالنسبة له، ويصور نفسه كما لو كان شيئاً آخر غير ما هو عليه. وهذا ضغط اجتماعي شامل يدفع إلى سوء النية، وهو ما يرفض جيجك بشدة أن يقدم له خدمة فكرية أو لفظية، وهو مؤامرة من أجل التوافق لن يتواطأ الفيلم فيها أيضًا.

إن الفلسفة في حد ذاتها تقف إلى جانب فرقة اللغة. ويقول إن الغرض من الفلسفة "ليس حل المشاكل، بل إعادة تعريف المشاكل". إن المشاكل الحقيقية لا تحتاج إلى فلسفة، بل إلى حلول عملية. فلو كان المذنب متجهاً نحو الأرض، فلن تحتاج إلى فلاسفة، بل إلى أسلحة نووية. والفلسفة لا تقدم إجابات، بل تطرح سؤالاً مثل "ماذا يعني هذا؟" على سبيل المثال، "ماذا يعني أن تكون حراً؟". والطريقة التي يصوغ بها جيجك هذه المهمة هي أن الفلسفة تستكشف "آفاق الفهم الضمنية".

وعلى مدى آفاق افتراضاتنا الأولى، لا يكون المجنون مجنوناً، ولا يكون الكوميدي ممثلاً كوميدياً. وفي وقت متأخر من الفيلم، وبعد أن تم التلاعب بنا لتكوين وجهة نظر متعالية بعض الشيء عن هذا الرجل صاحب الآراء الصاخبة التي تتعدى عمداً على الحواف الدقيقة للعقل، يسأل جيجك نفسه: "لماذا أستفز دون داع؟" والإجابة: "فقط من أجل إيصال الرسالة!". لقد تخلى عن نفسه للحصول على رد فعل. إنه يعيش استنتاجاته.

إن الفيلم نفسه يطبق تفكير جيجك ـ من خلال إظهاره كما هو، ولكن بطريقة تكشف عن تصوراتنا المسبقة الموروثة. فعندما نراه أولاً في الضوء "العادي" الذي نحلل أو نفهم به عادة، نراه غريب الأطوار في تعبيره الحر عن أفكار متطرفة، وغريبة أحياناً، وبالتالي فهو شخص لا ينبغي لنا أن نأخذ تفكيره على محمل الجد. ولكن بحلول نهاية الفيلم، يتبين لنا أن هذا التفاعل هو نتيجة لتأثير معاييرنا الثقافية على توقعاتنا ووجهات نظرنا. ويوضح لنا الفيلم أن الأفكار، والتأمل، والعمق، والتعبير الحر الكامل تذبل في "التفكير العادي" بفضل التوقعات التي تغذيها الثقافة بأن هذه الأشياء لا تستحق النظر إليها. والرسالة التي يحملها النص الفرعي هي أن اقتصادنا وثقافتنا العالمية المصاحبة له تشجعنا على أن نكون أغبياء، أو على الأقل متوافقين فكرياً بشكل سلبي: ولكن جيجك يعيش تفكيره الخاص ضد هذا الركود العقلي من خلال رفضه بعناد أن يتناسب مع القالب الذي نعتقد أن التفكير والسلوك الطبيعيين يجب أن يكونا عليه. إن الفيلم يحفز هذا الإدراك بطريقة خفية ولكن مثيرة للإعجاب، وذلك من خلال جعلنا في النهاية نعيد النظر في انطباعاتنا الأولى المتلاعب بها عن هذا الرجل. إن علامة التعجب في العنوان تتناسب تمامًا مع النظرية لأن إضفاء الإثارة الساخرة على المفكر يأتي في سياق الكشف عن الافتراضات الخفية لثقافة التحفيز التي يفكر المفكر ضدها. إن العلامة هي مفتاح لأولئك الذين يعرفون كيفية فك شفرتها على وجه التحديد لأنها ترمز إلى الحاجة المشكوك فيها إلى الترويج من خلال الإحساس. ولكن من خلال وجود علامة التعجب هناك، فإنها تلفت الانتباه إلى السؤال حول سبب وجودها هناك.

***

..........................

‏© Grant Bartley,Philosophy Now, 2007

 

Towards a new theorization of creativity in the Arab world
الابداع هو عملية عقلية عالية المستوى تتسم بطريقة جديدة في التفكير تؤدي الى نظريات اصيلة، او نتاجات او ابتكارات تحظى بالقيمة والاهمية، او حلول لمشكلات حياتية، يمتاز بها اشخاص يتصفون بالتفكير الراقي وسعة الخبرة تمكّنهم ان يضيفوا شيئا جديدا في ميدان تخصصهم يثير المتعة والدهشة ويساعد على ازدهار الحياة وتقدم المجتمع.
ولقد انتبهت الدول الى ان تقدمها ما عاد يعتمد على القوة العسكرية بل على ما تمتلكه من عقول مبدعة. وكانت بداية هذه الانتباهة تعود الى اطلاق الاتحاد السوفياتي السابق سفينة فضائية في خمسينيات القرن الماضي ادهشت العالم وفاجأت امريكا.. كيف ان "دولة العمال والفلاحين " تسبقها في غزو الفضاء!.. ووجدت الخلل في نظامها التربوي فعملت على اصلاحه وبعثت بخبراء الى العالم الثالث يلتقطون العقول المبدعة ويأتون بها الى امريكا.. لترعاها وتستثمرها، وكانت هذه العقول احد اهم اسباب تطورها وتقدمها.
ما قالته مؤتمرات عالمية
في تموز 2011 ، شاركنا في مؤتمر حول الموهبة والأبداع والتربية النوعية عقده المركز الدولي للتطوير التربوي، ومقره في المانيا بالتعاون والتنسيق مع جامعة اسطنبول وعدد من المؤسسات الدولية تحدث فيه علماء من دول متقدمة: أميركا، كندا، بريطانيا، اليابان، السويد، ايطاليا.. وأخرى آسيوية وأفريقية عبر (130) بحثا واكثر من عشرين محاضرة لمتحدثين عالميين بارزين (Keynote Speakers ) محاور توزعت بين: التربية النوعية، الموهبة والابداع والقيادية، التعلم الالكتروني، بيئات التعلم الافتراضيه، التربية من اجل السلام، برامج الاعداد والتمكين، قضايا ومشكلات التعليم العالي، التوجهات المستقبلية في التربية والتعليم العالي، الابداع وما وراء المعرفة، الدوغماتية والقدرات العالية، والمعوقات الثقافية التي تواجه المبدعين.. نقتطف منها آراء ثلاثة باحثين:
في بحثه (الابداع.. نوع واحد ام انواع) لفت الانتباه (دين سيمونتن) من جامعة كاليفورنيا الى ان الفكرة المأخوذة عن الابداع بأنه (ظاهرة متجانسة) تعرضت الى النقد بعد ان توصلت البحوث الحديثة الى ان الابعاد الرئيسة للابداع يمكن ترتيبها هرميا، من العلوم الى الفنون حيث الفيزياء في القمة تليها الكيمياء، البيولوجي.. ، علم النفس، علم الاجتماع.. ، واخيرا الفنون الشكلية Formal والفنون التعبيرية Expressive . واوضح أن الابداع في العلوم الصرفة يتصف بالموضوعية والمنطق والعدّ الرقمي والمنهجية، فيما يكون في الفنون ذاتيا"، حدسيا، انفعاليا، تباعديا، وغير مقيّد. وان خصائص المبدعين تختلف بحسب موقع المبدع في هرم الابداع، من الانفتاح الى الذهان في مجالات الفن والثقافة، وانهم يختلفون ايضا في خبراتهم التطورية بما فيها الخلفية الأسرية والتربية المدرسية والتدريب والمناخ الاجتماعي الحضاري.
في بحثه الموسوم (تطور المهارات التصويرية في الطفولة والمراهقة) اوضح (فولفانك شنوتز) من المانيا بأن التعليم والتعلم، كما التفكير وحل المشكلات، تستعمل اشكالا تصويرية متعددة، غير ان التفكير الابداعي يكون قائما على مرونة متبادلة بين المعارف المختلفة للقضايا التي نواجهها وما يقابلها من عمليات عقلية. وفي حين يلعب تعلم القراءة والكتابة دورا رئيسا في الأنظمة التربوية المعاصرة فأن استخدام: الصور، الخرائط، الرسوم البيانية، النقوش، في الموضوعات المعقدة وحلّ المشكلات لم يحظ باهتمام هذه الأنظمة. ودعا الباحث الى مغادرة طرائق التعليم التقليدية، وقدم تحليلا لأنواع الاشكال التصويرية وما يقابلها من عمليات ادراكية ومتطلبات معرفية لدى المتعلم من وجهة نظر العلم المعرفي وعلم النفس التطوري والتربوي.
وفي ورقته الموسومة (تأثير العلماء المتفوقين في فهم العالم) اشار (توماس كورنتز) من المانيا الى أن الأفكار الممتازة للعلماء المبدعين عبر التاريخ احدثت تغييرا في طرائق وصيغ تفكيرنا افضى الى التقدم الحضاري الذي نشهده ، وفرض علينا ضرورة تجاوز عاداتنا المعرفية والثقافية وطرائق تفكيرنا المتحجرة. ونبه الى دور التربية في احتضان الأطفال الموهوبين ورعايتهم علميا ونفسيا بخلق شخصيات منهم تتمتع بمواصفات المبدع.
وفي(16 تشرين الثاني 2013) شاركنا بمؤتمر عقد في عمان-الاردن خاص بالموهوبين والمتفوقين.. واقر توصيتين تقدمنا بهما:
الأولى: تشكيل لجنة من المؤتمر لانضاج مقترح بعنوان استراتيجية لتطوير الأبداع في وزارات التربية والتعليم العالي في العالم العربي منطلقين من افتراض أن ازدياد المبدعين في العالم العربي يساعد على ازدهاره ويسهم باشاعة السلام في العالم.
والثانية: اصدار بيان بأسم المؤتمر يدعو لاتخاذ اجراءات عاجلة للحفاظ على العقول العربية المبدعة، وتأمين عودة الأكاديميين والعلماء المهاجرين ليسهموا في بناء أوطانهم.
بيئات الأبداع
أولا: الأسرة
ان البيئة الأولى لنشوء الابداع هي الأسرة، وتحديدا في أساليب تنشئتها للأطفال، لما لها من علاقة بنمو القدرات الابداعية. فالدراسات العلمية وجدت علاقة إيجابية بين الأسلوب الديمقراطي الذي يعتمده الوالدان ومستوى التفكير الإبداعي لدى أبنائهم، وعلاقة عكسية بين الأسلوب التسلطي الذي يعتمدانه ومستوى التفكير الإبداعي لدى أبنائهم. وأفادت بأن الطفل الذي يعيش في جو أسّري ينعم بالدفء، ، ويمنحه الوالدان الحرية والاستقلال وطرح الأفكار دونما خوف من نقد أو سخرية، فأنها تعمل على تنمية عمليات عقلية تؤدي به الى الابداع ، وبه يتوافر للطفل واحد من الشروط الأساسية لأن يكون مبدعا في المستقبل.. فيما يشير واقع الحال العربي ، كما تشخصه الدراسات النفسية والاجتماعية، الى ان اساليب التنشئة الاسرية تقوم على العقاب الجسدي بالضرب والسجن والترهيب والتهديد والقمع النفسي بالازدراء والاحتقار والسخرية والتهكم، وان غالبية الأسّر العربية تفتقر الى اساليب التنشئة التي تساعد على نشوء ونمو الابداع.
المدرسة.. البيئة الثانية
تعدّ المدرسة والمناهج المصدر الثاني لنشوء الابداع وتنميته. ويشير الواقع العربي الى أن الصفة الغالبة عليها هي افتقارها الكثير من مقومات الإبداع سواء في مناهجها أو طرائق تدريسها أو أنظمتها العامة ، وأنها لا تعمل على تحريض النشاط الإبداعي لدى الطالب، وان المعلم فيها ناقل معلومات ويخشى التحديات. بل ان التعليم في الأنظمة التربوية العربية من الابتدائية الى الجامعة، يقوم على التلقين وحشو الذاكرة الذي ينتج بالضرورة عقلا يأخذ بالأمور كما لو كانت مسلّمات دون أن يتحاور معها بفكر ناقد.وبهذا صاغ النظام التربوي العربي عقولا عودها على أن(تستقبل) لا على أن ( تحاور).. فضلا عن اننا لا نعمد الى تحديث مناهجنا بالسرعة التي يتطور بها العلم، التي يفصلنا عن التقدم في عدد من العلوم اكثر من ربع قرن!.
واذا كانت الأسرة والمدرسة غير حاضنتين للأبداع فأن المجتمعات العربية فيها من معوقات الابداع ما يميته او ينفيه او يخدّره ، من بينها:
- الفهم الخاطئ للدين والميل للاتّباع ومقاومة الابتداع.
- القيود المفروضة على حرية التعبير.
- إهمال المواهب الفردية وجعل الفرد في خدمة المجتمع.
- والجمود الفكري وقراءة السلف من دون تطوير أو إبداع.
بل أن الثقافة العربية ايضا معيقة للإبداع.. يكفي ان نشير الى انها تشيع بين الناس التشبث بالماضي والتغني بأمجاده وضعف الاهتمام بالقضايا الراهنة والمستقبلية، وتوجّيه النشء للتعايش مع مفاهيم الامتثال والتقليد والابتعاد عن المغامرة والاكتشاف والتجريب.
على ان اخطر طارد للأبداع هو السياسة.. اليكم وقائع عنها:
- العالم العربي ما يزال، من نصف قرن، ميدان حروب واضطرابات استنزفت موارد اقتصادية هائلة، نجم عنها أزمات نفسية واجتماعية وانشغال فكري في الأمور السياسية على حساب استثمار العقول الوطنية في الإبداع بالعلوم الإنسانية والابتكار بالعلوم التطبيقية.. وزادها الآن سوءا جرائم الأبادة الجماعية الوحشية التي ارتكبتها اسرائيل في غزة ولبنان.
- الأنظمة السياسية في البلدان العربية لا تتمتع بالاستقرار، وغالبا ما توظف المنجز الإبداعي لخدمتها.ولهذا تعدّ البلدان العربية أكبر مصدّر للعقول المهاجرة.مثال ذلك لو أن الأطباء النفسيين العراقيين في بريطانيا قرروا العودة الى العراق لاختلت الخدمات الطبية فيها.. فيما الإبداع يزدهر اذا عملت الدولة على توفير متطلبات نموه غير المشروطة بتوظيف المنجز الإبداعي لخدمة نظامها.
- في العراق أودى العنف، في ثلاث سنوات(2004 – 2006) ، بحياة 185 أستاذا جامعيا، و73 طبيبا و140 من الملاكات الطبية، عدا المئات من محاولات القتل والخطف لآخرين من الطاقات العلمية المبدعة، اضطرت القسم الأكبر منهم الى الهجرة (متابعة صحيفة، لغاية نيسان، 2006). فيما أشارت احصاءات اليونسكو(2010) الى مقتل 500 شخصية اكاديمية وعلمية وهجرة ثلاثة آلاف عالم وباحث واستاذ جامعي خارج العراق بعد 2003.. بل وصل الحال الى اغتيال ثلاثين عراقيا في العشرة أيام الأخيرة من آذار/مارس 2011 بمدينة بغداد وحدها! أغلبها بأسلحة كاتمة للصوت بينهم أطباء وأساتذة ومهندسون.
ان النظام التعليمي في العالم العربي يعمل على حشو رؤوس الطلبة بالمعلومات دون ان يعلمهم كيف يفكرون بها، ما يعني أننا لا نربي اجيالا، بل ننتج روبوتات بشرية مبرمجة على اعطاء الاجابات النمطية والسطحية في الامتحانات، ولكنها عاجزة عن حل ابسط المشكلات في الحياة الواقعية – العراق مثالا، مع انه كان مهد الحضارات وأرض العلماء والفلاسفة، تحول الى امة تعتمد على الحفظ والتلقين الذي يقتل الأبداع والأبتكار ويحولنا الى نسخ متخلفة ومكررة، وحوّل التعليم من سلاح لتحرير العقول الى اداة لتخديرها.
زد على ذلك ان العالم العربي ينفرد بأربع (كوارث):
- الأولى.. ان ما ينفق على التعليم ضئيل جدا بالقياس لما ينفق في شراء الأسلحة. فبحسب المركز الروسي لمبيعات الأسلحة، بلغت مبيعات الأسلحة الأمريكية الى دول الخليج العربي فقط 123 مليار دولار ، فيما لم ينفق ربع هذا المبلغ على التعليم.. وما تنفقه اسرائيل على البحث العلمي اضعاف ما تنفقه الدول العربية مجتمعة.
- والثانية: ان السياسة دفعت الدول العربية الى ان يكيد بعضها ضد البعض الآخر، واشغلتها بخلافاتها العقائدية، وصراعات الأخوة الأعداء على السلطة والثروة وسلوكياتها اللااخلاقية التي حولت الفساد من خزي الى شطارة.. وأنموذجه العراق.
- والثالثة: ان رياح التغيير التي هبت على العرب في يناير وفبراير 2011 كان يتوقع لها ان تفتح الباب واسعا لابداع عربي وديمقراطية وسلام.. والنتيجة سارت الرياح بالاتجاه المعاكس.. ولهذا كانت البيئة العربية طاردة للأبداع من الف سنة.. ولن تكون حاضنة للأبداع الا بتطبيق الديمقراطية عمليا وتحقيق العدالة الاجتماعية.
- اما الرابعة: ان العقل السياسي العربي مصاب بعلّتين:
الأولى: ان الحاكم العربي تتحكم به سيكولوجية احاطة نفسه بأشخاص يقولون له ما يحب أن يسمعه.. فيتحول مستشاروه الى وعاظ سلاطين ( يمدحون وينافقون ) ولا علاقة لهم بالأبداع.
والثانية: اوصلتنا متابعتنا لأحداث الأربعين سنة الأخيرة في العالم العربي الى ابتكار مصطلح جديد في علم النفس هو (الحول العقلي) خلاصته.. ان المصاب به يرى في جماعته، طائفته، دولته.. الجوانب الأيجابية ويغمض عينه عن سلبياتها، ويرى السلبيات في الجماعة الأخرى ويغمض عينه عن سلبياتها، ويحمّلها ما يحصل من ازمات مع ان جماعته شريك فيها. وهذا الحول مصاب به الحاكم العربي والمواطن العربي ايضا.. وعقل كهذا لا يمكن ان يكون مبدعا، ولن يدرك أن المبدعين هم الذين يغيرون العالم ومسار التاريخ أيضا.
ان هذه الأدلة تشير الى ان البيئات العربية ما تزال طاردة للأبداع والمبدعين حتى تلك التي صارت تسمى انظمة ديمقراطية، بل ان مكانة المبدعين تراجعت في بعضها مقارنة بما كانت عليه في الأنظمة الدكتاتورية، لأن الذين استلموا الحكم اعتمدوا مبدأ الثقة والأقارب في اسناد المسؤوليات الكبرى وتجاهلوا الكفاءة والخبرة.
في ضوء ذلك نخلص الى توصيتين:
الأولى: تشكيل لجنة من مؤتمر ( الموهبة والأبداع) لأنضاج اهم الأفكار الواردة في هذه الورقة وتقديمها الى وزارات التربية والتعليم العالي في الدول العربية.
الثانية: توعية الأجيال العربية بأهمية وأيجابيات الذكاء الأصطناعي بوصفه يمثل مرحلة متقدمة من تطور التكنولوجيا الإبداعية لحلول المؤسسات ، ويفتح عالمًا جديدًا من الإبداع المرئي ويوفر مجموعة كبيرة من إمكانيات توفير الوقت وإثارة الخيال للأشخاص الذين يقومون بأعمال إبداعية، و يُلهم أفكارًا جديدة تتجاوز التفكير التقليدي بتوسيع آفاق العقل البشري.
الثالثة: لأن معظم التوصيات التي تخرج بها المؤتمرات العربية.. توضع على الرفوف، فأننا نوصي بتشكيل لجنة ممثلة للبلدان العربية تعمل على متابعة تنفيذ التوصيات التي خرج بها المؤتمر، وتسمية الدولة والمؤسسة التي اخذت بها وتلك التي لم تأخذ بها، واقتراح ما تراه مناسبا لتفعيلها.
شكرا لهيئة مؤتمر الموهبة والأبداع ، وتحية لكل المساهمين فيه .. مع خالص تمنياتنا بالموفقية.
***
أ.د. قاسم حسين صالح
مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية
...........................
بحث مقدم الى مؤتمر الموهبة والإبداع، دبي 11 - 13 نوفمبر 2024، الموافق 9 - 11 جماد الأولى

"لقد تعلمت شيئا واحدا في حياتي الطويلة: أن كل علومنا، مقارنة بالواقع، بدائية وطفولية - ومع ذلك فهي أثمن شيء لدينا" (آينشتاين، من سنواتي الأخيرة، ص. 23)
كتب مؤخرا في مجلة الفيصل السعودية العدد 575-576، الدكتور زكي الميلاد المفكر الإسلامي السعودي مقالا مهما بعنوان: لولا أينشتاين لما كان كارل بوبر، حيث قارب بين الفكرين ومدى تأثير السابق للاحق مقتبسا العنوان من مقولة: (لولا نيوتن لما كان كانط)، حيث طرح فكرة عامة لما يتصل بتأثير آينشتاين في بوبر ، كل هذا جميل ومثير للنباهة لكن المثير في المقال ذو ارتباط بقضية أشار إليها المفكر الدكتور عبد الجبار الرفاعي في كتابه "مفارقات وأضداد في توظيف الدين والتراث" هذا الكتاب الذي يعتبر سابقة مميزة في راهن العقلانية النقدية العربية والإسلامية إن دامت بالطبع ليس بمستوى الجدلية البوبرية ولكن على الأقل نظم الأمور فيما يتعلق بالموتى والتراث وما أنتجته من الآثار، هناك من يستغرق في الثناء والتعظيم والتقدير لمفكر لدرجة التيه عن الواقع وهذا ما أشار إليه الأستاذ الدكتور الرفاعي: (لأننا محكومون بالتراث وقيمه وأحكامه، ترسخت لدينا تقاليد الاحتفاء المبالغ به بالأموات، والإفراط في الثناء على آثارهم، والإعلاء من قيمة منجزهم، وتجاهل ما أنتجته هذه الآثار من تعصبات وكراهيات وأحقاد وجروح نازفة في حياتهم وبعد وفاتهم) هذا الواقع جعل العقلانية النقدية بيننا كعرب ومسلمين إلحاد وكفر لعل ذلك لكون كارل بوبر رائدها في الزمن المعاصر وهو اللا أدري !!
فكرة التقليد على طول الزمن والجغرافية العربية منذ عدة قرون ترسخت وتعمقت في مفكرة الإنسان والمجتمع، فالمفكر أي مفكر بعد رحيله يأتي بعده طوفان من التضخيم والنفخ والتبجيل والتقديس لآثاره عبر طباعة مجموعة آثاره وتراثه وآرائه دون الاكتراث بماهية هذا التراث أو دراسته وتمحيصه بل نجتهد ونعض على النواجذ لننافح عليه بتعصب وتطرف، وحتى لو كان هذا المفكر مميز وفذ وفيلسوف وما هنالك من مسميات ترفع له، أليس الأحرى هو إعطاءه حجمه الذي يستحقه بكل موضوعية وعدل وأمانة من أجل الارتقاء بالعقل العربي والمسلم من سفوح التقليد والأدلجة والطائفية والتحيزات الفكرية والحزبية ، نحو قمم التفكير الحر والعقلانية الناقدة بحكمة وروية والقراءة الموضوعية للفكر وأصحابه مع طرح سؤال مصيري: ماذا بعد فلان؟
لا ريب أن التعامل العاطفي مع أهل الفكر والثقافة والفلسفة لا ينتج وعيا، لأن التموضع في إطار التقليد محال أن يفضي إلى أي تجديد وإصلاح ونهضة ، فالأمم التي تقدمت عرفت كيف تتعامل مع التراث الفكري والديني وما هنالك، حيث اتجهت نحو العقلانية النقدية التي لا تؤمن بالحقيقة المطلقة أو احتكارها ، بل على العكس السعي نحو خلق مناخ ثقافي يناقش الأفكار ولا يقدسها وأصحابها بل يفكر بحرية وموضوعية من أجل فتح آفاق العلم لا الوهم والشعوذة والأسطورة ، حيث صدق آينشتاين حين قال: "الشيء المهم هو عدم التوقف عن طرح الأسئلة" وهذا الأخير تخلى عن الوضعية في سنواته الأخيرة وأسر لبوبر أنه يأسف لدعمه موقفا لا يعتبره الآن خاطئا فحسب، بل خطيرا على التطور المستقبلي للعلوم الفيزيائية وفلسفتها. هكذا المفكر الحر في أواخر حياته لا يخجل من البوح بما يراه خطيرا على الوعي العلمي والفكري والثقافي والديني، للأسف واقعنا العربي والإسلامي عانى ولا يزال وسيظل يعاني مادام التقليد الفكري والرثاء الثقافي كاسحا للعقول والجماعات والتيارات والمؤسسات الأكاديمية والإعلام، بدلا من النقد الموضوعي البناء في مجتمع مفتوح كما أسماه بوبر، أي الفلسفة المنبوذة في واقعنا ، الفلسفة التي نفهمها شيء معايش وذو صلة بالجميع، وليست نشاطاً أكاديمياً أو تخصصاً - وبالتأكيد ليست شيئاً يتكون في المقام الأول من دراسة كتابات الفلاسفة المحترفين. بل هي وعي تصنعه اختبارات نقدية للنظريات والأفكار والمطارحات والواقع، وبالتالي العديد من المناقشات حول "المعتقدات والمفارقات" والعديد من التلميحات إلى مفكري الماضي والحاضر خاصة، بينما فقر التقليد بلغة المتفقهة لا يمكنه تطوير هذه الاهتمامات المعرفية لأنها تتطور بالتوازي مع تطور الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي للمجتمع، لأن فضيحة التقليد أنه ذو طابع شمولي في التعامل مع الأفكار والأشخاص والأشياء، وهذا يشبه في بعض تمثلاته التاريخانية، حيث التقليد ينطلق من التاريخ بمعنى الماضي والاستغراق فيه وتزييف إشكالاته ومشكلاته بدل حلها …
بالمختصر ليس بمقدورنا ولا قدرنا أن نبقى نجتر المواضيع والمقاربات والأفكار والأزمات، الخطورة تكمن في أننا أصبحنا ندمن الاعجاب من كثرة ادماننا على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي بدلا من ادمان الدهشة والفضول في قراءة صفحات الواقع المنغلق والمعقد والمغلوط والخطير والفوضوي ، ليس قدرنا أن نستغرق في المدح والصياح لأفكار غيرنا سواء من هم منا أو أولئك البعيدين عن واقعنا والمؤثرين فينا ، يكفي ألا نبخس الناس أشياءهم ونركز في وعينا الذاتي ووعينا لأهمية المنهج في المعرفة وجدلية النظام في الواقع، فتحقق المشهد الثقافي النقدي العربي والإسلامي للواقع والخطاب والتفاؤل بحاجة لصدمة نقدية عميقة وطويلة المدى حتى يتم فرز مقتضيات التفكير النقدي في العالم العربي والإسلامي لمواجهة موجة تقديس التراث الفكري والديني والثقافي ورجاله، بالتوازي مع أعلى فضول للتحقق من حيثياته ومخزوناته ومناهجه ولغته...
من خلال كل الكتابات النقدية الهامة للواقع من طنجة إلى مسقط والملاحظات والمنبهات للجيل الجديد، لابد أن نتذكر أن قيمنا ومبادئنا تتشابك مع بعضها البعض في تسلسل هرمي، مثل الدمى الروسية: دمية كبيرة تخفي أخرى وتخفي أخرى.... بالنسبة لكل واحد منا، هناك قيم معينة أكثر أهمية من غيرها. بينما في الواقع، أعتقد أن بعض القيم والمبادئ أكثر أهمية من غيرها حسب مراحل حياتنا. لذلك أقول: لولا النقد العقلاني ما تحققنا من معارفنا ولا وعينا قيم ومبادئ الرقي والتقدم والكرامة التي ترتبط بدقة بحقيقة معتقداتنا وبالأساس المبادئ الإنسانية: إعطاء معنى للحياة الكريمة، والتصرف بوعي، وحب واحترام الآخرين، وتغذية الروابط بين الناس، والتواصل مع الكل دون احتكار الحقيقة..
***
بقلم: أ. مراد غريبي

الصمت في الفلسفة يعتبر موضوعاً غنياً ويمكن تناوله من عدة جوانب ومن هذه الجوانب. الصمت كوسيلة للتأمل والتأمل الذاتي، والصمت عند الفلاسفة مثل لاوتزو في الفلسفة الطاوية يعتبر أداة مهمة للوصول إلى الحكمة الداخلية والتوافق مع الطبيعة، ويشدد لاوتزو على أهمية الصمت في تهدئة العقل وفتح المجال أمام الفهم العميق للوجود. أما الصمت في التأمل البوذي، فهو يستخدم كوسيلة لتحرير العقل من الأفكار المتكررة ولتحقيق حالة من السلام الداخلي والتنوير، وكذلك الصمت كفعل عند مارتن هايدغر، يعتبر الصمت طريقة لفهم الكينونة بطريقة لا يمكن الوصول أليها من خلال اللغة، ويرى هيدغر أن اللغة يمكن أن تكون محدودة في التعبير عن الوجود، والصمت ممكن أن يكون أحياناً أكثر تعبيراً، أما لودفيج فتغنشتاين ينظر إلى الصمت على أنه جزء من حدود اللغة ويقول في كتابة رسالة منطقية فلسفية، ما لا يمكن الكلام عنه ينبغي الصمت عنه، ويعكس هذأ الاعتقاد بأن بعض الحقائق أو الخبرات لا يمكن التعبير عنها بالكلمات، ولذلك يجب احترامها بالصمت .وأيضاً الصمت كاحتجاج أو مقاومة، وهو وسيلة للتحدي الاجتماعي، وفي بعض السياقات يستخدم الصمت كوسيلة للاحتجاج أو المقاومة، والصمت ممكن أن يكون أداة قوية للتعبير عن رفض نظام معين أو كنوع من الرفض للسلطة. والصمت في سياق الفلسفة السياسية يستخدم للتعبير عن الرفض أو المعارضة، حيث يختار الأفراد عدم التحدث أو الرد كشكل من أشكال المقاومة السلبية.
وفي الفلسفة الوجودية ينظر إلى الصمت على أنه مساحة لإعادة التفكير وإعادة تقيم الحياة، والوجودية تعترف بالصمت كحالة يمكن للفرد من خلالها أن يواجه الفراغ الوجودي أو العبثية، من ثم يبحث عن المعنى الشخصي في داخلة. والصمت من وجهة نظر فلسفية يمكن أن يتخذ أبعاد أعمق وأكثر تعقيداً عند اكتشافه من زوايا متعددة. وعند جان بول سارتر الصمت يعتبر جزءاً من الحرية الفردية، والصمت ممكن أن يكون اختياراً واعياً يمارس في مواجهة الضغوط الاجتماعية والسياسة، حيث يتجنب الفرد المشاركة في الحوارات ألتي يعتقد أنها تفرض معاني أو توجهات خارجية على الذات، والصمت هنا يعتبر شكلاً من أشكال التحرر من تأثير الأخرين. أما الفلسفة التفكيكية المتمثلة بجاك دريدا، يعتبر الصمت جزء من مفهوم التأجيل في اللغة، حيث يعتقد أن المعاني لا تخلق فقط من خلال الكلمات، بل أيضاً من خلال ما يقال، والصمت هنا ليس غياباً للمعنى بل هو جزء من تكوين المعنى ذاته، حيث يشكل التوتر بما يقال وما لا يقال طريقة لفهم أعمق للنصوص والأفكار. أما إيمانويل ليفيناس يعتبر الصمت تعبيراً عن احترام الأخر وتقدير حضوره دون الحاجة إلى قول شيء، والصمت هنا يمثل مستوى عميق من التواصل الذي يتجاوز اللغة والكلمات، ويتيح مساحة لاحترام الأخرين دون فرض ذاتية الفرد علية. الصمت عند المتصوفة ليس فقط الامتناع عن الكلام، بل هو موقف داخلي يتضمن الامتناع عن التفكير فيما يشوش العلاقة مع الله، والمتصوفة يرون أن الصمت يعزز صفاء القلب ويتيح للفرد الدخول في حالة من القرب الروحي من ألله، حيث يصبح الصمت وسيلة للوصول إلى الإلهام الإلهي .أما من وجهة نظر معرفية يناقش ميشيل فوكو العلاقة بين السلطة والمعرفة من خلال الصمت، حيث يشير أن ما يحظر قوله وما يصمت عنه، هو جزء من آليات السيطرة والتحكم الاجتماعي، والصمت هنا يصبح أداة لفهم القوى في المجتمع، وكيفية تحديد ما يعتبر مقبولاً أو محظوراً في المجتمع. أما الصمت عند المفكرين المعاصرين ينظر للصمت على إنه علامة للعجز عن التعبير أو التواصل، حيث تكون هناك أمور لا يمكن للفرد أن يعبر عنها لفظياً بسبب عمقها أو تعقيدها، وهذا النوع من الصمت يعكس حدود اللغة البشرية وعدم قدرتها على احتواء كل أبعاد التجربة الإنسانية. والصمت في الفلسفة ليس مجرد حالة سلبية أو غياب للكلام، بل هو مفهوم غني ومعقد ممكن أن يعبر عن مجموعة واسعة من الحالات الإنسانية والمعرفية والروحية، وفي المجمل الصمت ليس مجرد غياب الكلام بل هو يتيح للفرد إمكانية فهم أعمق للذات والعالم.
***
م. م. قائد عباس حمودي

القسم في اللغة هو اليمين لان الناس كانوا اذا اختلفوا او تعاهدوا على شئ ضرب كل واحد منهم يمينه على يمين صاحبه. وقال اخرون ان الناس اصطلحوا مع بعضهم على تشديد القسم على رفع اليد اليمنى ومصافحة صاحبه وبذلك يسمى يمينا.
وكان العرب في العصر الذي سبق الاسلام يقسمون بكثير من الامور ومن ابرزها: القسم بالله، القسم بالهدي، القسم بالاصنام، القسم بالنار، القسم بالرماد، القسم بالاباء والاجداد، القسم بالكعبة (ببيت الله) القسم بالقبر، القسم بالعزيز، وغيرها.
وكان للعرب قصص كثيرة في هذا الموضوع وخاصة فيما يتعلق بأخذ الثار، فقد كان العربي يحرم على نفسه مثلا شرب الخمر طيلة مدة طلبه لاخذ الثار وذلك لان شرب الخمرة تشغله عن تحقيق هدفه في اخذ الثار. ومن هذه القصص قصة الشاعر(امرؤ القيس) عندما قتل والده (حجر) من قبل (بني أسد)، فغزا (امرؤ القيس) ديار بني اسد طالبا بثأر ابيه. ويروى ان امرؤ القيس عندما قتل والده كان جالسا في مجلس شرب الخمر عندما سمع بمقتل ابيه، فقال عبارته المشهورة "ضيعني صغيرا وحملني دمه كبيرا اليوم خمر وغدا امر، لا صحو اليوم ولا سكر غدا " ثم شرب سبعا، ولما صحى حلف ان لا يأكل لحما ولا يغسل رأسه، ولا يشرب الخمر، ولا يقرب النساء حتى يدرك ثأره اما اشهر حروب العرب في الجاهلية فهي حرب (البسوس) وهي حرب واسعة بين قبيلتي بكر وتغلب ابناء وائل وذكر انها استمرت (40) عاما وكان فيها ايام عديدة، اشهرها يوم (تحلاق اللمم) وسمي بهذا الاسم لان قبيلة بكر اقسموا ان يحلقوا رؤوسهم استبسالا للموت. فكان النصر فيها الى قبيلة (بكر) على قبيلة (تغلب). ويروى ان الذي اشعل نار هذه الحرب هو ان (كليب) اصاب ناقة البسوس، والبسوس هذه هي خالة (جساس) فذهب جساس الى (كليب) معاتبا لكنه قتل (كليب) فنشبت الحرب بين القبيلتين وقد اسرف (مهلهل) وهو اخ (كليب) في قتل قبيلة (بكر) طلبا لثأر اخيه (كليب). وتنعطف القصة انعطافا اخر في سردها الروائي حيث تقول: ان زوجة (كليب) واسمها (جليلة) انجبت ولدا اسمه (هجرس) فيقوم خاله (جساس) بتربيته ثم يزوجه ابنته ويظل (هجرس) لا يعرف من هو اباه وقد زوده (حساس) بعد زواجه بالسيف والدرع. وبعد سنوات عرف (هجرس) ان (حساس) هو قاتل اباه فأخذ وسط رمحه ثم اقسم قائلا: وفرسي واذنيه ورمحي ونصليه وسيفي وغرييه، لا يترك الرجل قاتل ابيه وهو ينظر اليه، فاستل سيفه وطعن به (حساس) وقتله.
وكان الشاعر الجاهلي يمدح الابطال المقاتلين ويمدح الكرماء ومن عمل على اطفاء نار الحرب واحلال السلام. وخير من تغنى بهذا الشاعر (زهير بن ابي سلمى) في مدحه (للحارث بن عوف) و (هرم بن سنان) لانهم تحملوا ديات القتلى في حرب (داحس والغبراء) واصلاحهما ذات البين بين قبيلتي (عبس) و(ذبيان) في هذه الحرب التي استغرقت فترة طويلة حيث قال الشاعر (زهير بن ابي سلمى) وقد اقسم بالبيت (الكعبة) في معلقته المشهورة:
"فاقسمت بالبيت الذي طاف حوله
رجال بنوه من قريش وجرهم
*
يمنيا لنعم السيدان وجدتما
على كل حال من سحيم ومبرم
*
تداركتما عبسا وذبيان بعدما
تفانوا ووقفوا بينهم عطر منشم
وعطر منشم هذا قيل فيه الكثير، ومن هذه الاقوال:"ان العرب كانوا اذا قصدوا حربا اغمسوا ايديهم في العطر الذي تبيعه هذه المرأة واسمها منشم) ثم اقسموا على ان يستميتوا في الحرب وان لا يولوا الادبار الى ان ينتصروا او يموتوا، وقد تمثل الشاعر به.
ومن جهة اخرى اقسم العرب على نصرة المظلوم فعقدوا الاحلاف التي كان ابرزها حلف " الفضول " وسببه ان رجلا من اليمن قدم مكة ببضاعة فاشتراها منه (العاص بن وائل) وكان من اشراف مكة الا انه لم يدفع له المبلغ مما دفع الرجل الى الاحلاف وهم عبد الدار، مخزوم و سهم فاجتمعوا في دار (عبد الله بن جدعان) وتعاهدوا واقسموا على نصرة المظلومون أي تعاهدوا على ان لا يجدوا بمكة مظلوم من اهلها او من غير اهلها الا نصروه حتى ترد مظلوميته.
وبعد مجئ الاسلام استمر العرب فى القسم كما جاء ذلك في سور وايات القران الكريم حيث اقسم بالطبيعة: (والشمس وضحاها والقمر اذا تلاها) وكذلك: (والسماء والطارق والنجم الثاقب) وكذلك القسم بالثمار المعروفة مثل: (والتين والزيتون)، (نون والقلم وما يسطرون) وغيرها كثيرة.
ونقرأ للشاعر (ابو صخر الهذلي) الذي توفي في عام (80 هـ) بيتا من قصيدة له فيها خمسة انواع من القسم يقول:
اما والذي ابكى واضحك والذي
امات واحيى والذي امره الامر
***
غريب دوحي

 

لا توجد في الأدب شخصية (أب) أكثر مأساوية من "غوريو البالزاكي"، العجوز المحتضر في عزلته، الذي قدّم كل شيء لبناته، ورغم أنه صحيح دللهن بشكل كبير، إلا أنه لا يوجد قارئ على الأرجح سيقول إنه استحق مثل هذا المصير.

بطل رواية "الأب غوريو" للكاتب "أونوريه دي بلزاك"، كان رجلًا غنيًا جدًا في السابق، حقق ثروته خلال الثورة الفرنسية عن طريق المضاربة في المواد الغذائية عندما ارتفعت أسعارها بشكل حاد، عمل بجد لتأمين مستقبل آمن لأسرته، وبعد وفاة زوجته الحبيبة، وجه كل حبه لبناته. كان يلبي جميع رغباتهن ولم يبخل بالمال على تربيتهن. استأجر أفضل المعلمات اللاتي اهتممن بتعليم "آناستازيا" و"دلفين" وتدريبهما على آداب السلوك، كما ضمن لهما "غوريو" مكانة اجتماعية مرموقة. تزوجت "آناستازيا" من رجل يحمل لقب بارون، بينما تزوجت "دلفين" من مصرفي ثري. وكان دخول البنات إلى مجتمع النخبة في فرنسا في القرن التاسع عشر هو السبب في هلاك الأب "غوريو".

كونه مجرد تاجر بسيط، لم يكن مناسبًا تمامًا لدوائر أزواج بناته الاجتماعية، لم يستطع التصرف بشكل لائق في هذه الأوساط، وكان أصله المتواضع وقلة معرفته بالايتيكيت مصدر إزعاج ليس فقط لأزواج بناته، بل لبناته أنفسهن. أصبح وجوده غير مرحب به في منازلهن، ولم تعد بناته يزرنه إلا عندما يواجهن مشاكل مالية. وعلى الرغم من أن كلتاهما حصلتا على مهور كبيرة من والدهن، أكبر بكثير من المبلغ الذي احتفظ به لنفسه لتأمين مستقبله، إلا أن أموالهن كانت في أيدي أزواجهن. وبما أنه لم يبخل يومًا على "آناستازيا" و"دلفين" بالمال لتلبية رغباتهن، حتى الأكثر فخامة، ولأن "الظهور في المجتمع" – كما هو معروف – يفرض ارتداء أفضل الأزياء وأغلى المجوهرات، فقد طلبتا مرارًا من والدهما إنقاذهما عندما تقعان في الديون. لم تكن "آناستازيا" فقط تستنزف الأموال من والدها لنفسها، بل أيضًا لعشيقها المدمن على القمار. وكان "غوريو"، الذي أعمته محبته لبناته، قد أنفق أولاً مدخراته، ثم رهن مجوهراته، وتخلى عن معاشه الضئيل الذي كان يملكه، ليصبح في النهاية شخصًا معدمًا.

مات في عذاب رهيب، ليس فقط الجسدي، رغم أن الألم كان يمزق رأسه، بل أيضًا النفسي، لأنه أدرك أخيرًا ما كان يعنيه لأولئك اللواتي أحبهن بصدق وتفانٍ طوال هذه السنوات، كانت رغبته الوحيدة هي زيارة بناته. فقط هن كن قادرات على تهدئة معاناته. لكن للأسف، لم يحدث ذلك. مات وهو مقتنع أن بناته اللواتي أحبهن بشدة وكرس لهن كل ما يملك، لم يستطعن أبدًا أن يظهرن له الامتنان. لم يحببنه.

لم يكن الشهود على عمق معاناة الأب غوريو "ملائكة"، بل أشخاصًا عاديين لديهم العديد من الخطايا، من بينهم الطالب "أوجينيو راستينياك"، الذي لم يكن لديه أي تردد أخلاقي في قبول دور العاشق والمُعال "لدلفين". ومع ذلك، فإن موقف بنات الأب "غوريو" تجاه والدهن الذي أحبهن بلا حدود هزّه بعمق. كان يهتم بالشيخ برفق، وبذل كل ما في وسعه حتى اللحظات الأخيرة لإحضار بناته وتهدئة ألم والدهن المُهان. كان جميع شهود وفاة الأب "غوريو" مقتنعين بعدم إنسانية بناته: الطبيب الشاب "بيانشون"، وسكان وخدم منزل السيدة "فوكر".

لا أعرف قارئًا لرواية "بلزاك" لم تهزه النهاية الحزينة للأب "غوريو". لماذا؟ ليس فقط بسبب الاعتقاد بواجب إظهار الاحترام تجاه الوالدين، بل بسبب الاعتقاد بواجب الامتنان، الذي يرتبط بعمق الاحساس بالظلم.

عندما نقبل أي هدية، فإننا نلتزم بشكل ما بالاعتراف بها، وشكر من قدّمها، وبقدر الإمكان رد الجميل. لكن للأسف، يجد الناس أحيانًا صعوبة حتى في الاعتراف بأنهم تلقوا أي شيء من شخص ما. تصرف بنات "غوريو" كما لو أن كل ما قدّمه لهن والدهن كان حقًا مكتسبًا. بدا أنهن لم يفهمن تمامًا الوضع الذي كان يمر به، وعلى الرغم من أنهن كنّ يشاهدن تدهور حالته المعيشية باستمرار، إلا أنهن لم يتوقفن عن طلب الدعم المالي، دون أن يقدمن له أي شيء بالمقابل، حتى ولو قليلاً من الدفء أو العناية. إن هذا الجحود الواضح هو ما يثير الغضب الأخلاقي لدى القراء.

بالعودة إلى قصة الأب "غوريو"، يمكن القول إنه لم يكن ليعاني هذا القدر من التعاسة لو علّم بناته فضيلة الامتنان، وكما تُظهر الأبحاث الحديثة في مجال علم النفس الإيجابي، فإن هذا كان سيجعل بناته أكثر سعادة أيضًا.

تشير العديد من الدراسات التجريبية إلى أن الشعور بالامتنان يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالإحساس بالسعادة الشخصية والميول للسلوكيات الاجتماعية الإيجابية، ومن المثير للاهتمام أن الأشخاص الذين يستطيعون الشعور بالامتنان تجاه الآخرين وتجاه الحياة بشكل عام، يتمتعون بقدر أكبر من الطاقة الحياتية ويكونون ببساطة أكثر صحة. إنهم يشعرون بمشاعر إيجابية أكثر من السلبية، يميلون إلى التسامح، ويفهمون الآخرين بشكل أعمق، يشعرون بغيرة أقل ولا يحملون الكراهية. هؤلاء الأفراد يتسمون بالتعاطف ويميلون إلى مساعدة الآخرين، مما يجعلهم أكثر قبولًا لدى الناس، ويزيد ذلك من ثقتهم بأنفسهم.

فكم من أب "غوريو" يعيش بيننا اليوم، وكم يلزما حتى نكون ممتنين.

***

الأستاذ محمد إبراهيم الزموري

يولد الحُبّ في لغة القلب، وهي من أصدق وأعذب اللغات في العالم. يترجم القلبُ كلَّ لغات الحُبّ وكلماته المتنوعة في مختلف اللغات بمعنى واحد، لا يرى الإنسانُ في كلمات الحُبّ بكلِّ اللغات إلا الضوء. الحب يعيد إنتاج الذكريات وكأنها ضوء يخلِّد أجمل ما يمكث من الإنسان، الحُبّ يوقد جذوة الضوء في القلب، القلبُ الذي يعيشُ الحُبّ لا يدركه الوهنُ، ولا ينهكه تقدمُ العمر. مَن يتعلم الاستثمار في الحُبّ يرى الضوء بمن يتعامل معه، ويجعل حياته أسهل، وعيشه أسعد، ويظفر بجذوة الروح وبهجتها.
الحُبّ الأصيل يعنى كون الإنسان المحبوب يمتلك ضميرًا أخلاقيًّا يقظًا، هذا الضربُ من الحُبّ لا يرهقه فعلٌ مهما كان شاقًّا، بل يجعل كلَّ شيء عذبًا، وإن لم يكن في ذاته عذبًا. ما أعنيه هو الحُبّ الأخلاقي الأصيل غير المشروط، الحُبّ الذي يبادر فيه كلٌّ من المحبَّين بالعطاء بلا أية مقايضة أو استرداد لما أعطى، ويكون مَن يُحب مستعدًا لتقديم كلِّ شيء بلا أن يمنّ بما أعطى. أتحدثُ عن الحبِّ الأصيلِ الذي يحميهِ سياجٌ أخلاقي، لا أعني بعضَ الأخلاقِ الكلاميةِ والفقهيةِ المضادةِ لما يحكمُ بهِ العقلُ الأخلاقي1. الأخلاقُ هنا بمعنى العقلِ العمليِّ، وهي ما يُحسِّنُهُ ويُقبِّحُهُ العقلُ الأخلاقي.
الحُبّ الأخلاقي الأصيل ضرب من الامتنان والإكرام، مَن يحبّك يكرمك ويعبر عن امتنانه العميق لك. الحُبّ المشروط مُشبَّع بالمن لا بالامتنان، والإكراه لا الاختيار، والفرض لا التطوع، والتكلف لا المبادرة، مما يجعله ضربًا من الاستعباد. يتحول الحُبّ المشروط بمرور الأيام إلى قائمة مطالب لا تنتهي، تتراكم وتضاف إليها كلّ يوم مطالب جديدة، حتى يشعر الإنسان أنه يتعرض إلى عملية ابتزاز تستنزفه وتنهك قلبه، وتعبث بسلامه الداخلي.
الحُبّ الأصيل يخفضُ وتيرةَ الخوف والقلق، ويحرّر الإنسانَ من الاكتئاب وفقدان المعنى. الحُبّ الأصيل مُلهِمٌ، الاستبصاراتُ الحاذقة يُلهمُها الحُبّ، استفاقةُ العقل يُلهمُها الحُبّ، العفو والغفران والرفق واللطف يُلهمُها الحُبّ. لا يتوقف فعلُ الحُبّ عند القلب والعواطف، بل يظهر أثرُه بشكل واضح في توجيهِ بوصلة التفكير وغاياته في العقل، وبناءِ رؤية جمالية لله والإنسان والعالَم، واثراءِ الشعور بسحر تجليات الجمال في الوجود، وإيقاظِ البهجة في أعماق الإنسان. الحُبّ ينقذ الإنسان من الاغتراب الاجتماعي، ويخفض الاغتراب الوجودي. اكتشاف الحُبّ الأصيل من أثرى اكتشافات المعنى الجميل الملهم لحياة الإنسان.
في مراحلِ عمر الإنسان كلّها، وبتنوّعِ دروب حياته، واختلافِ أنماط عيشه، وتجّددِ احتياجاته ومصالحه، وتضاعفِها، أو تضاؤلها، يظلّ الحُبّ أعذبَ منابع المعنى في حياته. لن يتراجع الأثرُ المُلهِمُ للحب مهما تقلبت أيامُه واختلفت. يلبث الإنسانُ حتى اللحظات الأخيرة من عمره بأمسّ الحاجة إلى كلمةِ حب صادقة، وضوءِ قلبٍ محب، ومحبةِ روحٍ مشفِقة. جوهرُ المحبة ضوءٌ يكشفُ تجلياتِ جمال المُحِب والمحبوب. محبّة خلق الله من أعظم النعم الإلهية، هذه النعمةُ يفتقر إليها بعضُ الناس الذين يتظاهرون بالتديّن. أعرف بعضَهم يدمن الطقوسَ والشعائر، لكنه يعجز عن المبادرةِ بأيِّ موقفٍ جميل أو فعلٍ أو كلمة تجسِّد محبتَه للناس.
القلوب مرايا؛ عندما يكون الإنسان سخيًّا بكلمة الحُبّ الصادقة يمتلك قلوب الناس السليمة من الأمراض الأخلاقية، ويسهم في مداواة النفوس المصابة بأمراض نفسية. المحبة الصادقة هي رصيد العلاقات الإنسانية المثمرة، يكرسها العمل المتواصل على اكتشاف المشتركات العاطفية والأخلاقية والإنسانية مع الآخر، مع التغاضي عن الاختلافات الاعتقادية والأيديولوجية والفكرية والمزاجية، وتجاهل الكلام والمواقف والثرثرات المزعجة، وعدم التدخل في الخصوصيات الشخصية، إلا إذا بادر الآخر بإخبارنا بمشكلة في حياته الخاصة وطلب منا التدخل والدعم بشأن خاص به، يدعونا العيش بسلام إلى أن نكفّ عن ملاحقة عثرات وأخطاء الآخرين. لو رأينا أعماق الإنسان كما هي لأصابنا الذعر؛ الحُبّ هو الحالة الوحيدة التي تجعلنا نرى الإنسان كما يراه الله بنوره ورحمته التي وسعت كلَّ شيء. الإنسان الذي يمتلك القدرة على الاستثمار في الحُبّ وتذوق تجليات الجمال في العالم لا يدركه الهرم. يضيع الإنسان، حتى وإن ظفر بكلِّ شيء، عندما يضيع عليه الطريق إلى الحُبّ الأصيل في حياته.‏
الإنسانُ منذورٌ للحُبّ؛ يولد وتولد معه الحاجةُ الأبدية للمحبّة، الرضيع يتشبث بأمه ليل نهار، لا يطلب رضاعة الحليب فقط، بل يرتضع المحبة ودفء حنان الأم وحميميتها وشفقتها. وإن كان لا يستطيع في تلك المرحلة العمرية التعبير عن ذلك بالكلمات، فإنه يعبر عنه جسديًّا برغم عجزه عن التعبير اللغوي. كلمات المحبة الصادقة، الصادرة من إنسان يتقن صناعة المحبة الأصيلة والاستثمار فيها، تبعث الطمأنينة في القلب والسكينة في الروح. عندما يفتقر الإنسانُ إلى المحبة، يشعر كأنه يعيش في منفى كئيب داخل أسوار مدينة موحشة، لكن حين يعثر على منبع للمحبّة، يسترد ما يفتقر إليه من سكينة وطمأنينة تصيّر عيشَه عذبًا.
مادام الحُبّ أثمنَ ما يظفر به الإنسانُ من المعاني وأغلاه، فإن نيلَه يتطلب معاناةً شاقةً وجهودًا مضنية. الحُبّ ليس صعبًا فقط، بل هو عصيٌّ على أكثر الناس، لا يسكن الحُبّ الأصيلُ إلا الأرواحَ السامية، ولا يناله إلا مَن يتغلّب بمشقةٍ بالغةٍ على منابع التعصّب والكراهية والعنف والشر الكامنة في أعماقه. حُبّ الإنسان من أشقِّ الأشياء في الحياة، لأن الإنسان بطبيعته أسيرُ ضعفه البشري، يصعب عليه أن يتخلّص من بواعث الغيرة في ذاته، وما تنتجه غيرتُه من منافساتٍ ونزاعاتٍ وصراعات، وما يفرضه استعدادُه للشرِّ من كراهياتٍ بغيضة، وآلامٍ مريرة2.
كما أنَّ أخطرَ شيءٍ على الفكرِ والأدبِ هو عبادةُ الأصنامِ الفكريةِ والأدبيةِ، فإنَّ أخطرَ ما يفتكُ بالقلبِ هو تحويلُ المحبوبِ إلى صنمٍ. الحُبُّ يُغذِّي النرجسيةَ ويُشبعُها، وأحيانًا يُضخِّمُها إلى درجةٍ تُفسدُ الحُبَّ، حين يُسرفُ بعضُ المحبين في الثناءِ على ذواتِهم، ويفرطون في استعمالِ كلمةِ "أنا" بشكلٍ مبتذل، وتكرارِ الإعلانِ المُثيرِ عن مزاياهم وما يتفوَّقون به على غيرهم، بأسلوبٍ تسودهُ كثيرٌ من المبالغاتِ وحتى الأكاذيب. ويظلُّ بعضُهم يُلحُّ، داعيًا حبيبَهُ للإصغاءِ إليهِ في كلِّ مرةٍ يثرثرُ بهذهِ الكلماتِ المُملّة، ولا يسمحُ لهُ بالتحدثِ عن ذاتِه، وكأنَّهُ يُبلغهُ برسالةٍ مفادها التفوّقُ عليهِ وعلى غيرِهِ، حتى يشعرَ مَن يُنصتُ إليهِ بالاشمئزازِ من الحديثِ وتنضبُ روافدُ التواصلِ معهُ بالتدريج.
***
د. عبد الجبار الرفاعي
.......................
1- راجع "البنية الكلامية والفقهية للأخلاق"، الفصل الخامس من كتابي: "الدين والكرمة الإنسانية".
2- الرفاعي، عبد الجبار، الدين والكرامة الإنسانية، ص 114، ط 2، 2022، دار الرافدين، بيروت، مركز دراسات فلسفة الدين، بغداد.

يقال أن الزمن مصاب بمرض مزمن، ولكن لا احد يحس بهذا المرض وبأعراضه، وهم كثيرون، أما القلة القليلة فقد أدركوا العلة الكائنة فيه. ولكن، نسي الناس هذه العلة ولم يعد لديهم ما يغوصون من أجله للوقوف على حقيقة الزمن الذي يمضي بخطوات متسارعة ولا احد يحصي خطواته منذ الولادة وحتى انتهاء الأجل .
ورغم أن هذه الخطوات معدودات في عرف الكائن البشري، إلا أنها لا تحصى في عرف الزمن السرمدي اللآنهائي، فهل هناك سرطان يعاني منه الزمن البشري حسب الفيلسوف الإيرلندي المهاجر الى فرنسا "صموئيل بيكت".؟
يقول بيكت أن الزمن مصاب بـ(سرطان العادة والروتين) ولكنه لم يشر إلى أي زمن، هل هو زمن الكائن البشري أم الزمن السرمدي الذي ليس له حدود.. فالعادة والروتين علتان متلازمتان تتعاملان بصورة تراتيبية طاحنة في زمن الكائن البشري، وتختفي ملامحهما تماماً في الزمن اللآنهائي.. فهما ، زمن تحت الإحصاء، وزمن سرمدي من الصعب أن يخضع للحسابات أبداً.
تلآزم العادة والروتين زمن الكائن البشري، ولكنه لا يحس بأنه مقيد، وحين يدرك طبيعة تكرار العادة في مسار الروتين، فإنه قد ينتفض مذعوراً يفتش عن مخرج للإنقاذ نحو التجديد والتحديث أو إعادة صياغة المكرر ولكن سرعان ما يفقد وهجه تحت خيمة التكرار الذي يتحول إلى عادة لا تغير شيئاً.
فالعادة والروتين اللذان يتلبسان الكائن البشري هما إشكاليتان ذهنيتان لا تظهران للجميع في اطار فلسفة التحدي والإستجابة .. فالتحدي يتوجه الى الجهة الكامنه في الذات الانسانية لكي تستيقظ ، كما أن في داخل كل كائن بشري، كما يقول بيكت، جزء لا يحبه فيه ولا يفصح عنه ويتمنى ان يتخلص منه. وهذا يخلق توتراً من شأنه أن يضعف ذلك الجزء ولكن لن يقضي عليه، الأمر الذي يبقي التوتر مستمراً طالما ظل الإدراك هو الآخر يراقب مسرى العادة والتكرار في زمن هذا الكائن.
ويبدو ان الشعور بأزمة العادة والروتين هو علة السلوك الإنساني التي تفصح عن العادة التي تتحول الى روتين قد يثقل وقد يدفع الى التغيير ومن ثم الدوران في حلقة التكرار المفرغة من جديد.
الأكل تكرار فيه والشرب تكرار والنوم تكرار والجنس تكرار والعمل تكرار ولا مفر من التكرار حيث ثقل العادة التي تتحول الى روتين، بعضه ممل وبعضه قاتل ببطأ والبعض الآخر استسلام بحكم الواقع.
التجديد والتغيير هما المعول الذي يهدم اسوار التكرار بطريقة تحديث الأنماط التي تفرضها العادة ،ولكن هل يتخلص الكائن البشري من عودة التكرار بثوب جديد..؟
***
د. جودت صالح
15/ تشرين الثاني 2024

 

تتعرض الفلسفة والاقسام الفلسفية في الوطن العربي إلى مرحلة يمكن تسميتها بالركود، وذلك لقلة عدد المتقدمين الدراسة في هذا القسم العلمي، ‏وقد يعود ذلك إلى عدم تجديد المناهج الفلسفية أو التقدم التكنولوجي التي بدأ بتقديم الصور أخرى بديلة عن الصور الفكرية، أو قد يعود ذلك إلى عدم تدريس هذه المادة بشغف فلا تكون محبوبة عند الكثير من الطلبة، أو ربما السبب إلى عدم تدريس هذه المادة قبل المرحلة الجامعة فيما يتعلق مرحلة الإعدادية.
‏وايا ما كانت الأسباب فنحن أمام مسألة تقويض لهذا الدرس الفلسفة في العراق والوطن العربي، المسألة لا ترتبط بوظيفة الأستاذ الجامعي الذي يقوم بتدريس الفلسفة بل لها علاقة بالبنية التحتية لكل مجتمع والذي يعني جانب الفكر ي وتخطيطاته.
‏وأعتقد بأننا اساتذة الفلسفة في الوطن العربي والعالم مطالبون بتقديم البدائل أو الأفكار التي تساعد على استمرار درس الفلسفي وعدم ذهاب هذا الشغف بالنسبة للطلب متخرجين من المرحلة الإعدادية.
‏ونحتاج بكل تأكيد إلى عقد جلسات العصف الفكري وأدوات للخروج بمقررات يمكن لها أن ‏تعيد بوصله الدرس الفلسفي .
‏ومن الأفكار التي يمكن طرحها في هذا المجال:
1- ‏العمل بإحياء مفهوم الفلسفة التطبيقية وذلك بأن نقسم مراحل الدراسة الفلسفية في الجامعات إلى قسمين الأول يتعلق بالدراسة الفلسفية الخالصة وتكون من مرحلتين هي الأولى والمرحلة الثانية بالنسبة للطلبة .
2- في المرحلة الثالثة والرابعة يخير الطلبة بين إكمال الجانب النظري للفلسفة النظرية الخالصة لما تبقى من مراحل القسم الفلسفة وهي المرحلة الثالثة والرابعة أو الاكمال في اتجاه خاص يعد له منهج يسمى (الفلسفة التطبيقية).
3- ‏وعلى هذا النحو يكون لكل قسم في المرحلة الثالثة والرابعة اتجاهين الأول هو الفلسفة النظرية والثاني هو الفلسفة التطبيقية أو العملية.
4- ‏بالنسبة للفلسفة النظرية فهي تعتمد على ما تعودنا عليه من مناهج سابقة تتعلق بنظرية المعرفة والفيزياء والمنطق والأخلاق والجمال وبقيت محاور متفلسف الدين والسياسة والتاريخ ووسائل أخرى.على يكثف الجانب النظري ويترك الجانب العملي التطبيقي ليدرس في مرحلة الفلسفة التطبيقية .
5- أما الفلسفة ‏التطبيقية لمن اختارها في المرحلة الثالثة والرابعة فنضع لها منهجا، نمهد له بتحليل العلاقة بين الجانب النظري والتطبيقي في الفلسفة، وهو يتكون من الآتي:
ا- الأخلاقية التطبيقية: ‏وهي تشمل أخلاقيات البواتيقا، أخلاقيات البيئة، ‏ الاخلاقيات والجانب الإلكتروني .تطبيقات النظام الاخلاقي للفلاسفة .
ب- المادة المنهجية للفلسفة التطبيقية .
ج- فلسفة العلم التطبيقية (الفلسفة والتكنلوجيا، قوانين الطبيعة، ادلة اثبات الله، مادة فلاسفة العلم، مادة مشتركات الفلسفة وعلم النفس،
د-تطبيقات فلسفة التاريخ والاجتماع والسياسة .
هـ- المنطق والرياضيات وتطبيقاته( المنطق الضبابي، الفضاء السبراني،الخوارزميات، المنطق والرياضيات،تطبيقات المنطق الاحصائي لكارناب )
و- الدراسات المستقبلية، فلسفة النظم وعلم المستقبل،
ز- فلسفة اللغة التطبيقية
ح- تطبيقات الفكر الاقتصادي
ط- مفاهيم حقوق الانسان والحوار
ي-الادب الفلسفي التطبيقي
ملاحظات:
1- وفق المخرجات الفلسفية الجديدة المبنية على هذا المنهج سيتم العمل على مفاتحة الوزارة واولي الامر بضرورة توظيف طلبة الفلسفة لحاجة المجتمع الماسة الى الجانب الفكري التطبيقي الذي تعلمه الطلبة .وذلك بعد عقد جلسة تشاورية وورشة عمل مشتركة بين الاقسام الفلسفية المناظرة في العراق .
2 - لا يجب ان يحصل تمييزا بين طلبة الجانب النظري والعملي في التعيين .
3- يمكن تطبيق هذا المنهج على طلبة الدراسات العليا من الماستر والدكتوراه .
4- تتم الاستفادة من المخرجات والبحوث التطبيقية المهمة في بناء قضايا المجتمع الهامة .
5- تحول هذه البحوث التطبيقية الى الدولة و الوزارات كافة بوصفها علاجات او شبه علاجات لازمات المجتمع.
6- على الدولة او الحكومة تنشيط الدرس الفلسفي، وعدم تركه فريسة سهلة للتقدم التكنلوجي او الانترنت او الذكاء الاصطناعي .
7- ضرورة العدالة في تعيين الطلبة، وضرورة تدريس الفلسفة بمنهج مختلف جدي في المرحلة الثانوية، وان تعدل مناهج الفلسفة وفق جدية التحديات، وتراجع الدرس الفلسفي .
8- على اساتذة الفلسفة الايمان بدرسهم الفلسفي وبموادهم وتقديم الافضل، وتدريس الفلسفة بطريقة اقرب الى المحبة منها الى الدرس الجامد .
9- اعتقد انه لا جدوى من الحضارات او الدول التي تنحسر فيها الفلسفة، او يقدم كل شيء ما عدى الفكر فيها.
***
ا. د. رحيم محمد الساعدي – أستاذ فلسفة / الجامعة المستنصرية

وجد الموضع المعروف اليوم باسم العراق كبؤرة تحولية كونيه ما فوق ارضوية، متعدية للطاقة العقلية البشرية، وللمتاح للكائن البشري في حينه والى اليوم من قدرة على الاحاطة، تظل بمثابة قصورية غالبة على الكينونه والديناميات المجتمعية التاريخية على امل التخلص من وطاتها، وقت تكتمل العملية المجتمعية البشرية، بتوفراسباب ومتطلبات ماكان وظل ينتقص كينونتها بداية، واستمر يحول دون ايفائها بمنطواها وماهي مهياة له، ومكلفة بادائه، ماقد ظل خافيا مطويا غير مكشوف عنه النقاب على مر القرون، مادام الطور الانتاجوي اليدوي سائدا، والمجتمعية الاحادية الارضوية الحاجاتيه الجسدية بناء عليه هي الغالبة، اتفاقا مع ماكان من اشتراطات وممكنات.
ومع ان الظاهرة المجتمعية حين تبلورت ابتداء في الشرق المتوسطي نهرينيه، اولى مجتمعية نهرين، تقابلها مجتمعية نهر واحد، مختلفتين اختلافا كليا نوعا ونمطية، فان ماعرف وظل يعرف منهما واحد وحيد هو النمطية الارضوية الاحادية، مهما لوحظ من اختلافات او تكرر من الشواهد الدالة على التباين، فما دام العقل محكوما لحدود بعينها من الادراكيه غير قابله للتجاوز فان هذا يصير هو من يخلق بداهة وتوهما، الظاهرة التي يعيش بين جنباتها او يلاحظها عن بعد، وعلى العموم فان مسالة النمطية المجتمعية ماكانت مطروحه اصلا الامنذ امد قصير، فلم تلاحظ يوما علاقة المجتمع بالبيئة ومفاعيلها على تبدلها كما هو الحال مابين حال ارض النيل حيث التوافق بين النهر عمود الانتاجية الفقري، وتناغم فيضا نه مع الدورة الزراعية زائدا الحماية التي تؤمنها الصحاري شرقا وغربا، والبحر شمالا للشريط المسكون على ضفتي النهر ومايترتب على المذكور من توافقية انتاجيه مجتمعية، تتجسد في الدولة والكيانيه / الوطنيه/ فرعونها اله يكرس نوع مجتمعية الدولة الاحادية السكونية التكرارية بلا اصطراعية داخليه.
بالمقابل تتبلور مجتمعية مابين النهرين ضمن اشتراطات الطرد البيئي القصوى، مع النهرين المدمرين العاتيين ومعاكستهما للدورة الزراعية، وفيضاناتهما المدمرة واجمالي البيئة المعاكسه الناظمة للحياة، بما يجعل الانتاجية نوعا من الاحتراب تنتزع فيه اللقمة من فم الوحش الكاسر، ما لايترك للعوامل الحاجاتيه البشرية العادية سطوه بذاتها، ويفرض البحث عن معادل لسطوة ظروف العيش على حافة الفناء، بتوجه العقل والاحاسيس الى صناعة المعادل الانقاذي اللاارضوي من خارج الارض، وصولا الى التالهية والسماوية المفارقة لموضع الوجود المفروض والمدمر، مامن شانه صياغة نمطية معاشية تتحول الى كينونه، فلا مجال هنا للتجسد الكيانوي المحلوي، ولا للتمايزية السلطوية والتملكية مع قوة فعل الحاجة القصوى للتضامنيه المساواتيه، واحلال الحكم الاختباري كضرورة على الاشخاص ومكانتهم، لااي حكم مسبق او اعتباري، بما يجعلنا امام نمطية مجتمعية مختلفة لاارضوية الاتجاه، الماوراء كنزوع هو حقيقتها الواقعية المطابقة، ومحدد نوعها ككيانيه متعدية للكيانوية، كونية بنية وجوهرا، مايعني وقائعيا ان الظاهرة المجتمعية تنشأ ابتداء مجتمعيتين،"وطنيه" كيانوية محلوية، و"كونيه" متعدية للوطنية والمحلوية بمختلف اشكالها.
ولاتتوقف ظاهرة المجتمعية اللاارضوية عند ماذكر من حدود مع فرادتها وصغر حجمها، المحصور ابتداء في ارض السواد، بدأ اصلا في ارض سومر جنوبا، فاللاارضوية نمطية كونيه تتجلى بناء على، وبحسب ماهي عليه نوعا لاارضويا، وجوده وديمومته ليست مشروطة بالارضوية الجغرافيه، ومايتطلبه العيش الحاجاتي الجسدوي، خارج مفعول المعاكسة البيئويه القصوى، بالاخص ابان الطور اليدوي من التاريخ المجتمعي.
ولا يتوقف تشكل الكيانيه المجتمعية اللاارضوية هنا، فاللاارضوية ليست نتاج التصادم مع البيئة وحسب، وهذا الجزء الاصطراعي الابتدائي ينتهي بعد عشرات القرون الى اكتمال بنية وكينونه اللاارضوية نمطيا، لياتي دورالعامل الثاني الاساس، فالمكان الرافديني كما اشرنا في الحالة النيلية موضوع ضمن ظروف مخالفة كليا، فجنوب ارض الرافدين هو مصب للسلالات والامم على مر التاريخ من الجهات الثلاث، الشرقية، الغربية، والشمالية من الجبال الجرداء والصحارى باتجاه ارض الخصب، مايوجد اليات اصطراع قصوى، ويضع الديناميات المجتمعية في القمة، وهو ماينجم عن ميل النازلين من الاعلى الى الحاق ارض السواد وسومر والسعي لاخضاعها وضمهما كما هو معتاد ومتعارف عليه، وكما هي مفاهيم النازلين الارضويين للغلبة والسيطرة، مايولد من ساعتها حالة اصطراع لاتنتهي، تظل غير موعاة من ناحية الاسباب والمحركات، بالاخص من لدن الطرف الارضوي الذي يظل يحاول ويمارس الغزو الداخلي المكلف والمستحيل لانه افنائي، لايمكن ان يحقق اغراضه بوجود المجتمعية اللاارضوية الراسخه نوعا والمتشكلة على مدى القرون، الى ان يبدا الطرف النازل الغازي بالاقتناع باستحالة مايرغب به ويريد تحقيقه، فيميل وقتها الى التصرف بصفته "آخر"، ووقتها تقام "الامبراطورية المدينيه" خارج ارض السواد وسومر، على اطرافها العليا، داخل مدن معزوله منيعه ومسورة بامتن اشكال الاسوار، تمارس اذا ارادت غزوها الداخلي ثم تعود الى ماوراء اسوارها الحصيلة، من دون اي تفاعلية مع ماتحتها وخارجها الذي يظل محكوما لقوانيه من دون اعلان كياني، وهو الحال الذي تجسده باعلى الاشكال نموذجية بحالة كل من "بابل" و"بغداد".
ومع ان الطرف الاعلى النازل يظل بقدر مايمكنه ومامضطر له الى اللجوء للغزو الداخلي، الاانه يتحول مع الوقت متغيرا عما كانه ابتداء يوم وصل الى حواف ارض مابين النهرين، ليصبح مجتمعية اصطراعية ازدواجية، تحكمها آليات ومحركات اصطراعية كونيه، سرعان ماتجد الحل في النزوع الامبراطوري، بالعودة الى الخلف، ابتداء من سرجون الاكدي اول امبراطور ازدواجي في التاريخ، لا احادي كما حال الامبراطوريات الارضوية الشرقية والغربية الاوربيه بل ك " حاكم لزوايا الدنيا الاربع" كما صرح بعد احتلاله من نقطة بنمتهى الصغر جنوبا :عيلام شرقا، وساحل الشام والاناضول، وعبر البحر الى جزيرة كريت.
هكذا تتشكل كيانيه "الازدواج" واصطراعيتها الكونيه، حيث لاوجود لمايسمى المجتمعات الوحيدة الاحادية، كما كان يعتقد قبل العصور الحديثة بخصوص الازدواج الطبقي، قبل الاكتشاف المتاخر للصراع الطبقي الاوربي، بغض النظر عن محاولات تعميمه واعتباره قاعدة شامله بحكم استمرارالمنظور الاحادي الارضوي وغلبته الطاغية الناجمه عن الانقلاب الالي الاوربي ومترتباته وعيا وواقعا.
ولن يتوقف الامر عند مانتج عن الاصطراعية النوعيه المجتمعية من ظاهرة "الامبراطورية الازدواجية"، فاللاارضوية لاتتوقف في غمرىة اصطراعها مع "المدينه الامبراطورية" مكتفية بذاتها، بالاخص مع احتدام الاصطراعية المستمر، وتعاظم الطاقات والممكنات الافنائية لدى الطرف الاخر، وهو ماتظل تسعى اليه مدن الامبراطوريات بداب وبقدر ماتستطيع، مايحفز بالمقابل اسباب الحضور المضاد اللاارضوي الكوني، ويؤدي الى تبلور المنظور الاساس السماوي التالهي الابتدائي، متحولا الى النبوية الحدسية الكونيه وهو ماقد تمثل واقعا ب"الابراهيمه" المتحققة بطريقتها وحسب نوعها"امبراطوريا لاارضويا" متلائما مع اشتراطات تبلوره ضمن الغلبة المفهومية اليدوية الارضوية الاحادية.
***
عبد الأمير الركابي

ومضات ثقافية (1)

يقول المفكر الامريكي نعوم تشومسكي: "ان معظم تاريخ المثقفين يميل للخنوع للسلطة، واذا لم أخن هذا العرف سوف أشعر بالخجل من نفسي".
ويقول احمد مطر مخاطبا الاعلاميين: احذروا ان تعبثوا بالحقائق، واحذروا بلع اطراف الحروف، فالكلمة حساسة جدا، يمكن تحويلها بلمسة بسيطة غير مسؤولة، من اداة إحياء الى اداة قتل، ان عبئا بكلمة "اعلام" يحولها ببساطة الى "إعدام" !
ويقول ستيف بيكو: اقوى سلاح بيد القامعين هو عقول المقموعين !
ويقول الفيلسوف الكندي آلان دونو في كتابه " نظام التفاهة ": العالم يبرمج بكليته نحو التفاهة وتزييف الحقائق، لنتخيل عالم يقوده حفنة من الحقراء، انهم يتفهون القيم الانسانية والثقافة النزيهة، ببهرجة تسويقية فائقة التسطيح، ويجعلون من النخب دمى تدمن الانتهازية وتتهافت للحاق بركب العرض والطلب، فيسود الادعاء وينحرف الشرف الاكاديمي والثقافي النبيل لمصلحة الخسة والابتذال !
اما المفكر الايطالي غرامشي فقد توصل الى: أن قدرة اي طبقة اجتماعية على الصعود وتحقيق الهيمنة على المجتمع تكمن في قدرتها على تكوين مثقفين عضويين مرتبطين بها، وبالتالي ضرورة الهيمنة الثقافية من اجل نجاح اية سلطة، فتفوق اي مجموعة اجتماعية يظهر عبر طريقتين، سيطرة وقيادة فكرية، ووجدانية !
وقال الفيلسوف جورج لوكاش في كتابه " التاريخ والوعي الطبقي": ان دور الوعي بالذات يوازن قوة القوانين الموضوعية التي تحكم التاريخ، بل يتفوق احيانا على فعلها، وقد وجه باهمية الوعي النقدي للراسمالية التي تجدد استبضاعها لمجمل النشاط البشري وتحديدا الفعل الثقافي والمعرفي ناهيك عن الاجتماعي الاقتصادي، فتحويل البشر ووعيهم الى اشياء يمكن تبضيعها يحط من انسانية البشر وقيمهم الثقافية بما يخل بسويتها الحرة لمصلحة الاغتراب الكلي الذي يجعل من البشر مسيرين بفعل قوانين السوق نحو التشيء !
في اعقاب اغتيال غسان كنفاني 1972 قالت غولدا مائير رئيسة وزراء اسرائيل وقتئذ: اليوم تخلصنا من لواء فكري مسلح !
وقال محمود درويش عن عطاء كنفاني الثقافي والفكري: لدى قراءة كنفاني اليوم نكتشف اولا ودائما، انه في عمق وعيه كان يدرك ان الثقافة اصل عدة اصول للسياسة، وانه ما من مشروع سياسي دون مشروع ثقافي !
جوزيف غوبلز وزير الدعاية اثناء الحكم النازي نموذجا مثاليا لما يمكن ان يؤديه الانحراف الفكري والتنظير الكاذب من ادوار خطيرة يكون لفعلها أعمق الاثر في العقول لتقاد الجموع كالقطعان نحو الجحيم، من اشهر مقولاته: كلما كبرت الكذبة سهل تصديقها، اعطني اعلاما من دون ضمير اعطيك شعبا من دون وعي، اكذب واكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس !
***
جمال محمد تقي

 

في الآونة الأخيرة برزت علينا الكثير من مظاهر القبور والأضرحة لشخصيات حقيقية وغير حقيقية، يدعي مبدعيها إنها لشخصيات ذوي كرامات. السؤال أين كانت هذه القبور والأضرحة مغمورة؟، ولماذا خرجت الآن للظهور والعلن؟، وأين كان الناس عنها؟ أسئلة تنتظر أجوية علمية، ولكن كشخص تعنيني هذه المظاهر، وماتأؤل له، وماذا تعبر عنه كظاهرة أجتماعية، وماهو تأثيرها السلبي على عقيدتنا كمسلمين، أثارت أهتمامي، وفضولي معاً، لاشك إن بروز، وانتشار هكذا ظاهرة هو تعبير عن حالة نفسية وثقافية وأجتماعية وعقائدية لجماعة من الناس تتصف بالأعتلال المجتمعي، والسفه الثقافي، فهي تعبر عن حالة نفسية لأنها تكشف عن حالة من القلق واليأس من واقع يعتقدون بصعوبة معالجته، وقد أصابهم حالة من اليأس والأحباط الشديد من أصلاحه،كما أن هناك شعور من الخذلان وعدم الثقة من مجتمع لايبادر بجدية وأخلاص الى أصلاح ماينبغي أصلاحة على كل المستويات، سواء كان يتمثل بجانب صحي،أم جانب أقتصادي، أو عاطفي، أم سياسي. هذا الشعور المشبع بالأحباط، والمملوء بالعجز، قاد في اللجوء إلى منقذ، ولو كان ميتاً في قبره ينجده فيما هو يكابده من معاناة، ومشاكل عصيبة، يسبق هذا التوجه الذي تحرضه الحاجة الملحة هو الإشاعة المكثفة والقوية من قِبل أدعياء تكمن وراءهم طموحات مادية، ومساعدة جمهور جاهل، ويائس يشترك في البحث عن نجدة تنجده من مشاكل أستعصت عليه فَخُيل له، وبفرط زخم مايتملكه من أمل الظفر بالحل، أجمعوا هؤلاء الحائرين، بالإيمان بهذا صاحب القبر أو المقام، طبعاً من غير الأنبياء والأئمة الطاهرين، على إنهم من يحقق مبتغاهم، مع سرد سرديات عن حالات يُدعى إنها حصلت لأناس آخرين في زمن ما، حققت لهم هذه المزارات آمالهم. هذه المزارات المتناثرة على أرجاء وطننا لاشك إنها تحقق للبسطاء من الناس حالة من الاطمئنان النفسي، الذي هو بالحقيقة مقدمة ضرورية لأي حالة يقتضي علاجها سواء كانت نفسية أم عضوية، لكنها بنفس الوقت أصبحت مشروعاً أقتصادياً مدراً لكثير من الأموال لأصحاب وسدنة هذه القبور والمزارات، حتى باتوا من الذين يُشار لهم بالبنان في الغنى والثراء الفاحش، أضافة لما تجلبه من مقام ووجاهة أجتماعية، كما إن هذه الظاهرة لها دلالاتها الأجتماعية والتي تعبر عن بؤس ثقافي خطير، وأجتماعي أخطر،حيث هي كذلك نتاج مايمارسه أصحاب مهنة الطب من ممارسات تتسم بالجشع المادي، الذي وصل الى حد التوحش،وممارسة للدجل الطبي بأبشع صوره، ومن الضروري بمكان أن لا نقتصر بالأسباب على ما ذكرنا أعلاه، بل هناك مسألة في غاية الأهمية، وهو العامل السياسي، وما عكسه على الناس من مصائب وويلات خاصة في العهود الدكتاتورية، وما تعرض له الناس من ظروف صعبة وقاسيه على مستوى حالات الأضطهاد والمعاملات المجحفة والأليمة، وما زجووا به من حروب وويلات وما رافقه من الموت الزوؤام، وظروف أقتصادية قاسية وبائسة تمثلت بالقحط والجوع والحرمان، وبسبب القصور، وعدم القدرة على أزاحة كابوس الدكتاتوريات الجاثمة على صدور المضطهدين والفقراء والبائسين من الناس، وبفعل قسوة اجرام السلطة من قِبل السلطات الدكتاتورية عليهم، أختفي الأمل لديهم من حالة الخلاص التي تحررهم مما هم عليه، فيلتجأ الإنسان إلى ممارسات وتوجهات غير مثيرة لغضب السلطة، أو أثارة حفيظتها، وذلك باللجوء الى هذه المزارات، والتي تكون معظمها في مواقع نائية وبعيدة عن عيون رجال السلطة ورجالاتها، لكي يبثون عندها شكواهم،ومظالمهم من عبث وجبروت وظلم السلطان، ومن جور وعقوق الولد بالنسبة للأمهات،ومن أهمال وقسوة الزوج بالنسبة للزوجات، حتى أصبحت هذه المزارات ملاذ لكل من لا ملاذ له،وليس هناك من وسيلة تنجده فيما هو يعاني منه ويقاسي من مرارته، كما لا يمكنني أن أغفل عامل مهم، وهو البعد الأسطوري لبعض هذه الأضرحة والمقامات،وخاصة كمثل عليها بما يُسمى بمقام الخضر، والذي تهفو اليه النساء على ضفاف الأنهار لطلب الحاجة، وهذا النوع من الأعتقادات لها جذور تلمودية قديمة، تمتد الى العصور السومرية القديمة، ولكنها لبست مع الزمن لبوس مقدس، والتي لها قصة طويلة لا مجال لذكرها في هذا المقام، لحد هذه النقطة تعرفنا ولو بشكل أجمالي على جذور هذه الظهورات من المزارات الممتدة في معظم بلداننا العربية والإسلامية، وخاصة بالعراق، ولكن بنفس الوقت لا يمكنني أن أغادر الموضوع في تتبع أسبابه،من دون الأشارة الى حالة مستجدة ذات مغزى ودافع سياسي، حيث نتذكر في ثمانينات القرن الماضي برزت بعض الشخصيات فجأة على المستوى الشعبي كشخصيات ذات بُعد قدسي، وهي لم تكن كذلك من غير دفع وتوجه حكومي مدروس، لغرض حرف البوصلة عن توجهات تعتبره الحكومة خطرة عليها، فتعمد الحكومة الى ممارسة الأحلال والأبدال لرموز يمكن التحكم بها، والسيطرة عليها،بل وتوجيه الناس من خلالها لما تريده الحكومة، ويتفق مع توجهاتها، ويخدم أهدافها،أو على الأقل تخفيف من زخم التوجه نحو مزارات وشخصيات محترمة يشكل التوجه إليها حالة من الخطر على السلطة الحاكمة، وقد حصلت هكذا ظواهر كما في ظهور بعض الأسماء من السادة كظاهرة سيد مالك في جنوب العراق. لاشك هكذا نوع من الظواهر لم تكن بمنأى عن عيون ودراسات أجهزة المخابرات في العالم، وخاصة في دول هي محل أهتمام دول أخرى طامحة بثرواتها، أو في محاولة لتجنب صعودها،بما تظن إن تقدمها يمثل خطر وجودي عليها، كما هو الحال في العراق، وما يمثله من قوة تمتلك كل مقومات النهوض لصناعة بلد متقدم، يمكن أن يفرض وجوده على المنطقة ويشكل خطر على كيان، كالكيان الصهيوني، فتعمد أجهزة المخابرات لتلك الدول على أحداث كل مايعمل على تمزيق نسيج كل مجتمع يُراد توهينه وتمزيقه، وصناعة المزارات المزيفة واحدة من هذه الوسائل الفعالة، وذلك لتشتيت الأنظار وتفتيت التجمعات عن الحالات الأصيلة بأبتداع أخرى مزيفة، تستقطب جزء غير يسير من أتباع الأولى إلى الحالة الثانية لأضعاف الأولى، لما رأوا بما للأولى من جاذبية وقوة كبيرة على التحشيد وشحذ الهمم بالتحدي مثلاً لمحتل أجنبي أو دكتاتور وطني، وكلنا نحن العراقيون نعرف كيف كانت صلاة الجمعة في مرقد الأمام الحسين ع من أثر على رفع الزخم وقوة التحديد بالتصدي للصناعة الأمريكية داعش، وكيف كان للأمام الحسين ع ومبادئه الثورية من شحذ همم الرجال، ورفع معنوياتهم، في التصدي لوحوش داعش الأرهابية وطردهم من العراق، وتحرير العراق منهم، وأبطال أخطر مخطط كاد يُطيح بتاريخ ووجود بلد يضم أقدم حضارة على وجه الأرض، وأطفاء فتنة الطائفية المقيته، وتكرر الأمر في سوريا، حيث كان لمرقد السيدة زينب من أثر تحشيدي وتضحوي بالدفاع عن سوريا، ودفع عنها مشروع التقسيم، وانتهى المشروع الى الفشل، والآن زحف الشر على لبنان، ولم يتصدى للعدو الصهيوني إلا الجموع التي جمعتها المراقد الحقيقية والمقدسة، فأنصار المراقد الحقيقية هم اليوم من يقاتلون نيابة عن هذه الأمة التي أستسلم أكثر رجالها وجل حكامها، حتى بات هؤلاء المقاتلين وحدهم حماة كرامة هذه الأمة، ولكن هذا لا يخفي عن عيون أجهزة المخابرات ومراكز بحوثها للبحث بالوسائل التي تشتت هذه الجماهير وتبعثر قواهم وأضعاف عزمهم، ولا يتحقق ذلك إلا بمعرفة نقاط ضعفهم، وتشخيص مراكز قوتهم، فوجدوا الأثنين معاً، فجاءت حملات التشويش،والتقسيط، والتشكيك بكل القيم والأشخاص من ذوي الشأن، ولم يستبعدوا تكنيكاً جديداً قديماً ولكن بزخم أكبر وهو تشجيع بناء المزارات والمقامات المزيفة،أملاً بتوزيع وتفريق هذه الطاقة الجبارة، في تشتيت ولاءاتها، وتوزيع أنتماءاتها لفك عضدها وتدمير شملها، فخرجت علينا أسماء شخصيات ومراقد ومقامات ما أنزل الله بها من سلطان، وأصبح بدل الواحد مئات، حتى أصبحت ظاهرة تثير الحزن والرثاء. أنا ليس ممن يعلق كل شيء عن المؤامرة ولكني لا أنكرها، ولا أتغافل من يشتغل عليها، فهناك مراكز متخصصة تبرع وتجتهد في صناعة ظواهر مؤذية ومعرقلة لمسيرة حياتنا، ينبغي الأنتباه لها، ولا يكون ذلك إلا بالوعي والإيمان الحقيقي، فمعرفة الحقيقة كفيل بسد الطريق على كل الخرافات والمزيفات والخزعبلات، التي مصدرها جهلنا، ودسائس الآخر المعادي لنا.
***
أياد الزهيري

 

في مجادلته للفلسفة النفعية، روى برنارد ويليامز، الفيلسوف الإنجليزي، قصة رجل اسمه «جيم»، حط رحاله فجأة في قرية صغيرة في الجنوب الأميركي. في الساحة الرئيسية للقرية، كان ثمة كتيبة من الجنود تستعد لإعدام 20 هندياً، اتهموا بالتمرد على الحكومة الفيدرالية. توجه جيم لتحية قائد الكتيبة، الذي رحب به كأجنبي شريف، وعرض عليه أن ينقذ حياة 19 من الهنود الأسرى، شرط أن يقتل أحدهم بنفسه. أكد الضابط أنه سيعدم الجميع لو رفض جيم العرض.
طبقاً للمفهوم المبسط لفعل الخير في الفلسفة النفعية، يتوجب على جيم أن يقتل أي شخص فيهم، كي يحافظ على حياة التسعة عشر الباقين. لأن قيمة الفعل في هذا التيار الفلسفي، رهن بحجم المنافع التي ينجزها لأكبر عدد من الناس، حتى لو تضرر أحدهم أو عدد قليل منهم.
أورد ويليامز هذا المثال، كي يوضح النهايات المنطقية للتبرير النفعي. وهو تبرير يتبناه كثير من الناس، من دون تأمل أو قراءة نقدية في معانيه ومآلاته. تتجلى المعضلة التي تواجه جيم، في شعوره العميق بالمسؤولية عن موت 20 شخصاً، فيما لو تمسك بأخلاقياته الأساسية، ورفض الانخراط في هذه اللعبة القبيحة. لكنه - في المقابل - يسأل نفسه: هل من الصواب أن يقتل شخصاً لا يعرفه أو ربما لا يستحق القتل؟
هذا سؤال قد يطرح بمفرده، أو كجزء من الحدث. وقد يوجه للشخص الفاعل، أو يوجه للأسرى العشرين.
- حسناً، ما موقفك عزيزي القارئ، لو كنت في موقع جيم؟
تأمل في موقف الطرف المتضرر، باعتباره إنساناً مثلك، واسأل نفسك: ماذا لو كنت أنا في هذا الجانب، وكان على شخص آخر أن يتخذ القرار: هل يتوجب علي القبول بالموت كي يحيا بقية الأشخاص؟
دعنا نأخذ مثالاً أكثر قسوة: افترض أنك دخلت المستشفى، فوجدت 10 أشخاص في غرف العمليات ينتظرون متبرعين بأعضائهم كي يعيشوا، وإلا فسوف يموتون. أنت سليم الجسد، ولديك هذه الأعضاء جميعها: هل سترضى بأن توضع على طاولة العمليات، كي يؤخذ قلبك وكبدك وعينك ورئتك وبقية أجزاء جسمك، لتزرع في أجسام المرضى الآخرين؟
هذا السؤال يحمل نفس مبررات السؤال الأول: إذا كان بقاء العشرة أشخاص أولى من بقاء شخص واحد، فإنه يتوجب على طاقم المستشفى أن يأخذوك فوراً إلى غرفة العمليات، كما يجب عليك أن تقبلها بطيب خاطر. أما لو اعتبرت هذا الفعل غير أخلاقي، فعليك أن تتحمل وفاة العشرة أشخاص، من دون أن تشعر بالذنب.
هذه المعضلة عالجها مايكل والزر، الفيلسوف الأميركي الذي نشر في 1973 مقالاً عنوانه «الفعل السياسي: مشكلة الأيدي القذرة». وتبنى موقفاً مقارباً للموقف النفعي، لكنه قدم تصوُّراً مختلفاً.
أثارت مقالة والزر جدلاً كبيراً، وتحولت إلى نص مرجعي في أخلاقيات الفعل السياسي، لأنها عالجت تجارب فعلية يمارسها السياسيون كل يوم. ويقول والزر إنه أراد العثور على خط معقول بين من يريدون التمسك بمعايير أخلاقية صارمة، صحيحة، لكنها غير مفيدة في ميدان العمل، مقابل أولئك الذين لا يتورعون عن تبني أفعال مفزعة، يبررونها بما يترتب عليها من إنجازات ضرورية وكبيرة.
هذه الرؤية تطرح سؤالاً ضرورياً:
- هل من الأخلاقي استعمال وسائل سيئة لتحقيق غايات عظيمة، وهل من الأخلاقي أن نقتصر على الوسائل الحسنة مع علمنا بأنها لا توصلنا لأي نتيجة، أو ربما تكلفنا خسائر باهظة؟
نفهم طبعاً أن الغاية لا تبرر الوسيلة. لكن ماذا لو كانت الوسيلة القبيحة طريقاً ضرورياً لمنع الكارثة؟
ما يميز رؤية والزر عن المقاربة النفعية، هو اعتباره فعل السياسي خطأً، وإن كان الإقدام عليه ضرورياً لتفادي الكارثة. بينما ينظر النفعيون إلى هذا الفعل باعتباره صحيحاً، ولو كان - خارج هذا الإطار - خطأً وقبيحاً.
أعلم أنني قد أوصلت القارئ إلى نقطة تثير الحيرة. لكنني أفهم أيضاً أن ما سبق، قد يحفز بعضنا لإعادة التفكير في بعض قناعاته المستقرة.
***
د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

(قراءة في بِنية العقليَّة الاتِّباعيَّة)

قلتُ لـ(ذي القُروح)، وأنا أناقشه:
ـ وأخيرًا يذهب (القبَّانجي) إلى أنَّ من التناقضات في «القرآن» أن يأتي قوله: «إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا»، ثمَّ يقول: «إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ». فلماذا يُقفل باب التوبة هنا؟ كما يتساءل.
ـ فلنقرأ الآيات، دون هذا التلويح بعبارات مبتورة من سياقاتها، كما يفعل صاحبك. يقول تعالى: «قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ: لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ؛ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.». ويقول: «إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ، وَمَن يُشْرِكْ باللهِ، فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا.» ففي الأُولى يخاطب المؤمنين: «يَا عِبَادِيَ»، الذين أسرفوا على أنفسهم في الذنوب. وفي الأخرى يذكر أهل «الشِّرك»، وعدم إخلاص الإيمان بالله. فذاك شيء وهذا شيء. ثم إن الشِّرك لا يُعَدُّ ذَنْبًا يُتاب منه، بل هو افتراء، وإثمٌ عظيم، كما جاء في الآية. ومن ثَمَّ فلا يُعَدُّ الشِّرك مجرَّد ذَنْب، يُتاب عنه، بل لا بُدَّ من الخروج منه، أوَّلًا، وقبل كلِّ شيء، والدخول إلى الإسلام التوحيدي، وإنَّما التوبة تكون عن ذَنْبٍ من الذُّنوب، وأنت داخل دائرة الإسلام، أمَّا ذلك المُشْرِك، فهو خارج الدائرة أصلًا؛ فعليه أن يُسلِم أوَّلًا، كي ينطبق عليه خطاب الآية الأخرى: «قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ: لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ؛ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.». فهمتَ؟ أ فهذا رجلٌ يعقل ما يقرأ أو يقول؟!
ـ وأيُّ افتراءٍ عبر هذا الهراء؛ إذ يزعم الاختلاف الكبير في «القرآن»، غير مدركٍ أن منبع الاختلاف إنَّما هو لاختلالٍ كبير في تركيب عقله هو، وهذا تشخيصٌ لما يُعرِب عنه هو بلسانه؟! ثمَّ يقترح على المسلمين ما يسميه «الإعجاز الوجداني» في القرآن؟
ـ ما شاء الله! وهذا ابتكار جديد صِنْو البِدعة السابقة في القرن العشرين: «الإعجاز العِلمي في القرآن»، التي ظلت تلهث وراء النظريَّات العِلميَّة، في عُقدة نقصٍ عِلميٍّ فاضحة.
ـ وثالثة الأثافي «الإعجاز العددي في القرآن»!
ـ هذه جاءت متأخِّرة، قائمة على مزاعم الإحصاء والحوسبة، القائلة لنا، مثلًا: إنَّ كلمة «الدُّنيا» قد وردت في «القرآن»: 115 مرَّة، وكلمة «الآخِرة»: 115 مرَّة كذلك.
ـ عجيب! هذا ملحظ مثير!
ـ هكذا يبدو أوَّل وهلة، للتَّقابل بين (الدُّنيا) و(الآخِرة)، واتفاق مجيئهما بالعدد نفسه، وهذا ما لا يتأتَّى في كتابٍ آخَر، وإنْ تأتَّى مرَّة فلن يطَّرد! غير أنك حين تدقِّق في هذا الادِّعاء، تجد أنَّ كلمة «الدُّنيا» لا تكاد تُذكَر في «القرآن» إلَّا مقترنةً بـ«الآخِرة»، ومن هنا كأنهما كلمة واحدة؛ فمن الطبيعي، بلا إحصاء، أن تكون النتيجة في عدد تكرارهما متشابهة. بل أكثر من هٰذا، ستجد أنَّ هذه الإحصائيَّة إنَّما تُحصي الألفاظ آليًّا، مغمضة العينين عن المعاني. وإلَّا فإنَّ «الآخِرة» المقابلة لـ«الدُّنيا» ، بمعنى (الدار الآخِرة)، لم ترد 115 مرَّة، بل أقل من هذا الرقم. لأنَّهم قد أحصوها وإنْ وردت بمعنى لا يتعلَّق بالدار الآخِرة، بل صفةً لموصوفٍ آخَر؛ لأن جماعة هذا الإعجاز- بوصفهم أصحاب دِقَّةٍ وإحصاء- يُحصون صفة «الآخِرة» عشوائيًّا، حيثما وردت. ومن هذا مجيئها في عبارة مثل «النشأة الآخِرة»! مع أنها هنا بمعنى: الأخرى. وكذا في عبارة «المِلَّة الآخِرة»، أي: الأخرى، ولا علاقة لـ«الآخِرة» هاهنا بالآخِرة في مقابل «الدُّنيا». إلى غير هذا من الاستعمالات التي لا علاقة لها بمعنى (الدار الآخِرة). ثمَّ جاء مهندسٌ آخر- واللافت أنَّ جلَّ هؤلاء، إنْ لم يكونوا كلَّهم، مهندسون!- ليجعل معجزة «القرآن» كامنة في الرقم (تسعة عشر)؛ فشرعَ يحصي القِيَم الرقميَّة للحروف ومضاعفاتها، زاعمًا أنَّ رسم المصحف توقيفي. ومن هذا المنطلق، ذهب إلى أنَّ رسم (إبراهيم)، مثلًا، يَرِد مرَّةً بالياء، ومرَّةً بدون ياء: (إبراهم)، لحكمةٍ عدديَّة. فضلًا عن أنَّ الاسم كذلك مكتوب في اللوح المحفوظ! ولا ندري ما أدراه؟! قال: فهذا الاسم إنَّما يَرِد بدون ياء في ذِكر إبراهيم قبل أن يُولَد له ولد، فلما صار له ولد، اكتسب اسمه ياءه!(1) وهنا تبدو المعجزة أشبه بالعَجْز؛ لأنَّ الكاتب لم يستطع الرمز لهذا المعنى إلَّا بحيلة إملائيَّة، بحيث يكتب الاسم مرَّةً (إبراهم)، ومرَّةً (إبراهيم)! علاوة على أنَّ في هذا تضليلًا للقارئ، وإخلالًا بالعَقد التواصلي بينه وبين الكاتب، الذي يقتضي أن لا يكتب الكاتب الاسم كلَّ مرَّة بطريقة، مع أنَّه اسمٌ واحد، ومنطوقه واحد، وإلَّا كان يكتب ما لا يُمكن أن يُقرأ على نحوٍ سليم. والواقع أن الإملاء المصحفي القديم إنَّما يمثِّل إملاءً بدائيًّا متواضعًا، بوصفه طورًا من أطوار الخطِّ العَرَبيِّ، والإملاء الكتابيِّ خلال القرن السادس الميلادي.(2) علمًا أنَّ صاحبنا إنَّما يبني حساباته على رسم ما يُسمَّى (مصحف عُثمان). فكيف يُصبح عجز الكاتب إذ ذاك، أو تواضع مهاراته الإملائيَّة، وربما أخطاؤه وتصحيفاته- التي أدركها أحيانًا بعض معاصريه(3)- آياتٍ معجزات، تُنسَب إلى الله، تعالى الله، وإلى أنها كذلك مكتوبة في اللوح المحفوظ؟!
ـ على أنَّ السؤال: إذا صحَّ ما زعم سعادة المهندس من حسابات، فماذا عن القراءات القرآنيَّة السبع؟ أو غير السبع؟ أتطابق نظريتَه، (نظريَّةَ إحدى الكُبَر)؟
ـ ذلك ما يحتاج إلى إيضاح؛ لأن اختلال منظومته الحسابيَّة بتغيير حرفٍ واحد، رسمًا أو نطقًا، كفيلٌ بإبطال نظريَّته. على أنَّ نتيجة هذا كلِّه ليست أكثر من أن يتحوَّل «القرآن»- على يدَي مهندسنا الهمام- إلى ما يشبه كتاب «شمس المعارف الكُبرَى»، لـ(أحمد بن علي البوني، -622هـ)، وهو كتاب في السيمياء والطلسمات والأعمال السِّحرية!
ـ خلاصة القول؟
ـ خلاصة القول: إذا كان المسلمون قد انتظروا 1400 سنة ليُثبِّت الحاسبُ الآليُّ إيمانهم، فلن يَثبت لهم إيمان؛ لأن «القرآن» ليس بكتاب إحصاء، أو معادلات رياضيَّة، أو جداول ضرب وقسمة. كما أنَّه ليس بكتاب في الفيزياء الكموميَّة، مثلًا، أو علم الكيمياء، أو الطِّب، أو الفَلَك، بل هو كتاب هداية وتبصُّر، جاء بلسان العَرَب.
ـ وفي النهاية: من شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر.
ـ وما كان الله ليحجب هذه الآيات الإعجازيَّة النصيَّة، من هذا النوع، طوال القرون الماضية، وما أُثِرت عن الرسول قط إشارة إلى أنَّ في حروف «القرآن» أو كلماته أسرارًا حسابيَّة، وقد كانت جديرة، لو صحَّت، بأن تَكسَب إليها عقول البَشَر.
ـ هذا فضلًا عن نفي «القرآن» الإتيان بالآيات والمعجزات الحِسيَّة، وهي أسهل ممَّا يبحث عنه أرباب الإعجازات العِلميَّة والكونيَّة والرقميَّة في عصرنا، ولم يستثن سِوَى المعجزة البيانيَّة التي تحدَّى بها العَرَب.
ـ هذا تِبيانُ أنَّ الإنسان ما انفكَّ يبحث في «القرآن» عمَّا ليس فيه، أو بالأحرى عمَّا ليس له، وصولًا إلى بِدعة القول بـ«الإعجاز الوجداني». لكن ما ذاك اللون الإعجازي المبتكر، المُسمَّى «الإعجاز الوجداني»؟
ـ إنه اتجاهٌ إعجازيٌّ نقيضٌ للاتجاهين الإعجازيَّين السالفَين. يفسِّره صاحبه بأنه نغمةٌ إلاهيةٌ في النصِّ القرآني غير موجودة في سِواه، ولا تختلف في «القرآن» كلِّه.
ـ يا سلام سلِّم! لكن نحن سنتساءل هنا ما جدوى تلك النغمة الوجدانيَّة، ما دام خطاب «القرآن» متناقضًا- كما يزعم (القبَّانجي)- بل أيُّ احترامٍ يبقى لخطابٍ تلك صفته (التناقض)؟ إنَّما يُفضي هذا القول إلى تجريد النصِّ من كلِّ قيمة تشريعيَّة، أو حتى منطقيَّة، بحيث يظلُّ نصًّا وجدانيًّا، طقسيًّا، حُلوًا، للتسلية، لكنَّه بلا معنى منطقيٍّ ولا عملي! وهذا ما تلحُّ عليه نظريَّة القبَّانجي- إنْ صحَّت تسميتها بهذا المصطلح(4)- من أجل تجريد الدِّين، الإسلامي تحديدًا، من وظيفته المعرفيَّة، أو التشريعيَّة، أو حتى العقلانيَّة، فلا يبقى منه إلَّا القيمة النفسيَّة، والشاهد التراثي. ولن نخوض في هذا وغيره من اعتقاداته، التي لم يقل بها قبله مسلم، أو ألوهي قط، اللَّهم إلَّا أنَّ بعض أفكاره سبقه إليها (ابن الراوندي الملحد، أبو الحسين أحمد بن يحيى بن إسحاق، -298هـ= 910م)، تاجر الأديان والأفكار المشهور في عصره، قبل أكثر من ألف سنة.
ـ ولعلمك، يا (ذا القُروح)، الرجل يصرِّح باعتقاده أنَّ «القرآن» مصدره ما يسمِّيه: «الوحي الوجودي»، وتارةً- فتعبيراته غير منضبطة-: «الوحي الوجداني»، وليس بمعجزة بلاغيَّة.(5)
ـ ألا ليتك أخبرتني قبل هذا الحماس في النقاش؛ لكي أغسل منه يدي وأستريح!
***
أ. د.عبد الله بن أحمد الفَيفي
.........................
(1) يُنظَر ما نُشِر على موقع «يوتيوب» تحت عنوان «أكبر كشف إعجازي في القرآن الكريم منذ تنزيله حتى الآن!»:
https://www.youtube.com/watch?v=sek52clKRqw
(2) هذا الرأي السائد. غير أني أتساءل: أكانت كتابة صلاة: صلوٰة، وحياة: حيوٰة، وزكاة: زكوٰة، وغيرها في المصحف العثماني بتلك الصُّوَر الكتابيَّة عن طريقة إملائيَّة عتيقة لا يُقاس عليها، وذاك كلُّ ما في الأمر؟ أم أنها تُسجِّل لنا طريقة نُطق العَرَب لهذه الكلمات إبَّان مجيء «القرآن»؟ نحن لا نعلم عن لغة العَرَب المنطوقة غير ما نقرأه في ما دوَّنه المدوِّنون. فربما كان العَرَب في صدر الإسلام ينطقون (صلاة)، لا كما ننطقها نحن المتعلِّمين- المتعلِّبين وَفق نمطٍ واحد- اليوم، ولكن كانوا ينطقونها: صَلُوْة، وينطقون حياة: حَيُوْة، وزكاة: زكُوْة. بصوتٍ واويٍّ خفيفٍ قبل آخرها. وهذا النُّطق ما زال مسموعًا في بعض اللهجات الحديثة، ولا سيما في جَنوب الجزيرة العَربيَّة وشرقها. ولا شكَّ أنَّ تلك اللهجات الحديثة إنَّما هي امتدادٌ لتاريخٍ لُغويٍّ قديم، ولم يخترعها أهلها من عند أنفسهم في العصور المتأخِّرة. ويؤكِّد هذا أن نجد من خلال نقوش المعينيِّن أنهم كانوا يُسمُّون صلاتهم التي يؤدُّونها لآلهتهم، كما في نقوشهم: «صلوت». (يُنظَر، مثلًا: الفاسي، هتون أجواد، (1993)، الحياة الاجتماعيَّة في شمال غرب الجزيرة العَرَبيَّة في الفترة ما بين القرن السَّادس قبل الميلاد والقرن الثَّاني الميلادي، (الرِّياض: ؟)، 268). وكذلك جاء رسم الكلمة في المصحف العثماني. وقد أورد (الخليل)، و(الجوهري) و(ابن دُريد)، و(الصاحب بن عبَّاد) كلمة (صلاة) في مادة (صلو). وقال (الخليل، العَين، (صلو)): «الصَّلاةُ ألفُها واوٌ؛ لأنَّ جَماعتَها: الصَّلَوات، ولأنَّ التثنيةَ صَلَوان.» وقال (الصاحب، المحيط في اللُّغة، (صلو)): «هُذَيْلٌ تقول: صَلَّوْتُ الظُّهْرَ: بمعنى صَلَّيْتُ.» كذا في أصوله، وعُدِّلت العبارة في معاجم أخرى إلى: «صَلَوْتُ الظَّهْرَ: بمعنى صَلَيْتُ»، أي ضربت صَلاه. (يُنظَر: ابن منظور، لِسان العَرَب، (صلا)). وبهذا أخذ محقِّق «المحيط»، مستصوبًا. (يُنظَر: بتحقيق: محمَّد حسن آل ياسين، (بيروت: عالم الكتب)، 8: 184). وأضاف (ابن دُريد، الجمهرة، (صلواي)): «اختلفوا في اشتقاق الصَّلاة؛ فقال قوم: الصَّلاة: الدُّعاء، ومنه: اللهمَّ صلِّ على محمَّد، وكانوا في صدر الإسلام إذا جاءوا بالرجل إلى المصدِّق، قالوا: صلِّ عليه، أي ادْعُ له. وقال قوم: بل اشتقاق الصَّلاة من رفع الصَّلا في السجود. والأول أعلى.»
(3) من هذا شهادة (عائشة): «يا ابن أخي، هذا من عمل الكُتَّاب، قد أخطأوا في الكتاب.» (يُنظَر: أبو عبيد القاسم بن سلام، (د.ت)، كتاب فضائل القرآن، تحقيق: مروان العطية، محسن خرابة، وفاء تقي الدِّين، (دمشق- بيروت: دار ابن كثير)، 287).
(4) ثمَّة خلطٌ شائعٌ في الخطاب العَرَبيِّ العامِّ بين مفهوم «نظريَّة» و«وجهة نظر».
(5) من مقاطع، ومحاضرات عِدَّة على موقع «يوتيوب»، وإن كان بعضها لم يعد متاحًا على رابطه القديم.

 

الحمد لله: الحمد لله على نعمتيّ الإيجاد والإمداد. الحمد لله أعظم الحمد وأكثر الثناء. يكمن الدين كله في ظلال الحمد، وبالحمد في البدء والمنتهى، والحمد لله سلوك الإنسان المؤمن بإزاء الغيب : أن يحمد الله على الدوام بغير انقطاع، وهذا الحمد ينقله إلى رحاب المعيّة نقلاً في مثل لمح البصر من الغفلة إلى الحضور، ومن الإستنامة إلى اليقظة والتنبُّه. إذا صَحّ - ولا بدّ أن يصح - أن يكون الحمد عنوان حضور داخل المعيّة الإلهيّة لا هو بخارجها، فهو من ثمّ فلسفة لها دعائمها المُثلى في الإسلام، فلسفة تحيط بالمعنى بداية ثم تنزع إلى العمل بمقتضى فهم المعنى وفهم المضمون من ورائه.
والحمدُ أساسٌ جامع للدين في مبادئه التأسيسية، وجامعٌ للشعور - كما هو جامع للتفكير- بموجبات التحقق بأجواء المعيّة الإلهية، فالذي يتحقق من فاعلية الحمد فيما هو بسبيل إدراك قوة وصلته بحضور المعيّة الدائمة، يصدق صدقاً مباشراً مع كل توجه من توجُّهات الحق، فيكون الحمد أساس توجهه، ومصدر فاعليته، وحركة تجاريبه الواعية في كل حال.
وإنمّا قلنا فلسفة؛ لاتصال مفهوم الحمد بالجانب العقدي بدايةً، أعني جانب الإيمان بالله كركن تتحقق فيه عمل الأحكام الشرعية الاعتقادية، ثم تطبيق هذا المفهوم من الناحية العمليّة كسلوك دائم للمسلم الذي يعرف بالتحقيق ألطاف الله عليه، ويحترم أقداره فيه، فيكون الحمد غاية مبتغاه؛ ديدنه الدائم وهجّيره العميم.
فاتحة الكتاب تبدأ بالحمد لله. وأسماء سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، محمد وأحمد ومحمود : محمودٌ في الأرض ومحمودٌ في السماء، والصلة بينهما أوثق ما تكون.
كان أبو طالب يقول:
وشقّ له من اسمه ليُجلّه فذو العرش محمودٌ وهذا محمّد
العلاقة بين سورة الحمد، (فاتحة الكتاب)، واسم سيدنا رسول الله علاقة وطيدة، لم يكن أحبّ إليه من فاتحة الكتاب، الحمد لله رب العالمين، وإنما سُمي نبينا بهذا الاسم العظيم؛ لأنه محمودٌ عند الله، ومحمود عند ملائكته، ومحمود عند إخوانه من المُرسلين، ومحمودٌ عند أهل الأرض كلهم، وإن كفر به بعضهم، فإنّ ما فيه من صفات الكمال محمودةٌ عند كل عاقل، وإن كابر عقله جحوداً وعناداً، أو جهلاً باتصافه بها.
وهو صلوات الله وسلامه عليه أختصّ بجماعٍ من صفات الحمد بما لم يجتمع فيها لغيره؛ فإنَّ اسمه - كما تقدّم - محمد، وأحمد، قال القاضي عياض صاحب كتاب (الشّفاء) قد حمي الله هذين الاسمين، يعني محمداً وأحمد، أن يتسمّى بهما أحدٌ قبل زمانه، أمّا (أحمد) الذي ذكر في الكتاب وبُشّر به عيسى عليه السلام، فمنع الله بحكمته أن يتسمّى به أحد غيره، ولا يُدْعى به مدعوّ قبله، حتى لا يدخل اللّبس ولا الشك فيه على ضعيف القلب. وأمّا (محمد) فلم يتسمَّ به أحد من العرب ولا غيرهم إلا حين شاع قبيل مولده أن نبياً يبعث اسمه محمد، فسمى قوم قليل من العرب أبناءهم بذلك رجاء أن يكون أحدهم هو، والله أعلم حيث يجعل رسالته.
وكما خصّه الله باجتماع صفات الحمد في ذاته وفي اسمه، كذلك خصّ الله أمته بخصوصية الحمد الدائم والتسليم القويم لله رب العالمين؛ فأمته الحمّادون، يحمدون الله على السّراء والضرّاء، وهو صلى الله عليه وسلم، حمد ربه قبل أن يحمده الناس، وصلاته وصلاة أمته مفتتحة بالحمد، وخطبه مفتتحة بالحمد، وهكذا كان في اللوح المحفوظ عند الله، أن خلفاءه وأصحابه يكتبون المصحف مفتتحاً بالحمد، وبيده، صلوات الله وسلامه عليه، لواء الحمد يوم القيامة.
ولمّا يسْجُد عليه السلام بين يدي ربّه للشفاعة، ويُؤذن له فيها : يحمد ربّه بمحامد يفتحها عليه حينئذ، وهو صاحب المقام المحمود الذي يغبطه به الآخرون والأولون كما قال تعالى :" وعسى أن يبعثك ربّك مقاماً محموداً".. ، وإذا قام في ذلك المقام، حمده حينئذ أهل الموقف العظيم كلهم، مُسلمهم وكافرهم، أولهم وآخرهم، فجُمعت له، صلى الله عليه وسلم، معاني الحمد وأنواعه.
وهو، صلوات الله وسلامه عليه، محمودٌ بما ملأ به الأرض من الهُدى والإيمان، ومحمودٌ بما ملأ به الأرض من مزايا العلم النافع وفضائل العمل الصالح، ومحمودٌ بما فتح الله به القلوب وكشف به الظلمة عن أهل الأرض، واستنقذهم من أسر الشياطين، ومن الشرك بالله والكفر به، والجهل به، حتى نال به أتباعه شرف الدنيا وشرف الآخرة وهو مُستحق الحمد تحقيقاً في كل ما أعطى وكل ما أبقى ممّا لا يقدر فضله علماً وهداية سوى الله.
ومُجرّد النظر إلى رسالته مستحقٌ الحمد، وكل ما فيها من مطالب وأغراض يستوجب الحمد ويستقصيه ومع ذلك لا يستوفيه؛ فإنّ رسالته وافت أهل الأرض أحوج ما كانوا إليها، وأغاث الله به البلاد والعباد، وكشف به الظّلَم، وأحيا به الخليقة بعد الموت، وهَدَى به من الضلالة، وعلم به من الجهالة، وكثر به بعد القلة، وأغنى به بعد العيلة، ورفع به بعد الخَمالة، وسمَّى به بعد النكرة، وجمع به بعد الفُرقة، وألف به بين قلوب مختلفة، وأهواء مُشتتة، وأمم مُتفرّقة، وفتح به أعيناً عُمياً، وآذاناً صٌماً، وقلوباً غلفاً.
فعرف الناس ربّهم ومعبودهم غاية ما يمكن أن تناله قُواهم من المعرفة، فأبدأ وأعاد واختصر وأطنب في ذكر أسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه حتى تجلّت معرفته في قلوب عباده المؤمنين، وانجابت سحائب الشك والرِّيب عنها، كما ينجاب عن القمر ليلةَ إبداره، ولم يدع لأمته حاجة في هذا التعريف وغيره، لا إلى من قبله ولا إلى من بعده، بل كفاهم وشفاهم، وأغناهم عن كل من تكلم من الأولين والآخرين، بما أوتيه من جوامع الكلم وبدائع الحكم : (أو لم يكفهم أنّا أنزلنا عليك الكتاب يُتلى عليهم إنّ في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون).
وكفى بهذا كله من محمدة لرب العالمين لا نظير لها ولا شبيه، ولا انقطاع لدوامها حيث ينقطع كل شيء ولا يدوم.
ومن صفته - صلوات الله وسلامه عليه - في التوراة : محمد عبدي ورسولي سمّيته المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخّاب بالأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء، وأفتح به أعيناً عُمياً، وآذناً صماً، وقلوباً غُلفاً، حتى يقولوا: لا إله إلا الله ..
وهو أرحم الخلق وأرأفهم بهم، وأعظم الخلق نفعاً لهم في دينهم ودنياهم، وأفصح خلق الله وأحسنهم تعبيراً عن المعاني الكثيرة بالألفاظ الوجيزة الدالة على المراد، وأصبرهم في مواطن الصبر، وأصدقهم في مواطن اللقاء، وأوفاهم بالعهد والذمة، وأعظمهم إيثاراً على نفسه، وأشدُّ الخلق ذَبَّاً عن أصحابه وحمية لهم ودفاعاً عنهم، وأقومُ الخلق بما يأمر به، وأتركُهم لما ينهى عنه، وأوصلُ الخلق لرَحِمه، إلى غير ذلك ممّا يجلُّ عن الوصف ولا يمكن حصره .. صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيرآ.
فليس هنالك أحقُ بالحمد الذي ينقطع معه النظير من تكرار الحمد لله على نعمة سيدنا محمد صلوات الله وسلامه عليه وجوداً وإمداداً واستمداداً، فهو الوجود الحق والإمداد الحق والاستمداد الحق، يستمد من الله مباشرة ونحن نستمد منه، وجوداً وإمداداً واستمداداً، هو وسيلتنا الى الله من حيث لا وسيلة لنا سواه، فلا شئ إلا وهو به منوط، إذ لولا الواسطة لذهب كما قيل الموسوط، كما تقول الصلاة المشيشية.
ونحن من بعدٌ ومن قبل لا نعرف الله، وليس لنا من قدرة على معرفته إلا من خلاله: "قل إن كنتم تحبّون الله فاتّبعوني يُحببكم الله"، مُمُد الهمم بالقيل الأقوم، صلى الله عليه وسلم وبارك وشرف وعظم وحقق وأكرم وعلى آله وصحبه وسلم.
ومن مولده المبارك حتى الانتهاء إلى الرفيق الأعلى عاش، صلوات الله وسلامه عليه، حياته في بعدها الزمني المحدود بزمان ومكان، تحت ظلال الحمد فكان كاملاً مكمّلاً في خصاله الشريفة ومناقبه العفيفة. لم تصف اللغة، ولن تستطيع أن تصف، وصفاً من أوصافه على التحقيق؛ لأن الكمال فيه لا يوصف بلفظ ولا يحيط به تصوّر محدود، وبخاصّةٍ إذا كان الكامل يجسّد صفة إلهيّة لا وصف لها إلا النور الذي يشملها ويضمّها.
محمدٌ رسول الله، ولكنه مع ذلك هو قبضة النور. محمدٌ المُبلغ رسالة الله للعالمين، هو الرحمة المُهداة من قبل الله إلى خلق الله، ولكنه مع ذلك لولاه لم تُخلق الدنيا من العدم، لولا محمد في البعد الروحي لا البعد الزمني ما خُلقت الدنيا من العدم. وجوده الروحي أسبق من وجود جميع الأنبياء، ومددُ الأنبياء وعلومهم ومعارفهم من مدد نوره السابق.
ولمّا أن ولد صلوات الله عليه في الفترة الزمنية التي وجدت في زمانها ومكانها، تمثل النور فيه كاملاً فظهرت حقيقته النوريّة الباطنة في مظهره الكامل، ولكنها مع ذلك لم تكن لتظهر فيه ولا في غيره من إخوانه الأنبياء إلّا لإظهار الحقائق الإلهيّة. ومع أنه السابق للخلق نوره إلا أن الأنبياء أسبق منه في الوجود الزمني، ولم يسبقوه في الوجود الروحي، غير أنه خاتمهم.
خاتم هذا الموكب الخالد، موكب النور الذي تقدّمه وختمه في نفس الحال.
لقد سمّاه القرآن الكريم داعياً إلى الله بإذنه، وسمّاه سراجاً منيراً، فالدّعوة إلى الله على الإذن خاصّةُ محمد رسول الله كما كانت خاصّة الأنبياء جميعاً من قبله، فهو يدعو إلى الله بالإذن المخصوص بالرسالة، فهو رسول مبلغ للرسالة، مأذونٌ بالدعوة إلى الله على بصيرة لا بل على وحي الشريعة والتنزيل.
هذا بعدٌ زمني محدود بزمان ومكان، المساحة فيه مع كمالها محصورة في تاريخ المولد والنشأة والدعوة ثم الانتقال إلى الرفيق الأعلى، لكنه في نفس الوقت رحمة للعالمين، تتجاوز حدود الزمان والمكان والمدّة الزمنية التي عاشها في حياته الشريفة المباركة بمدد لا ينقطع ولا يزول، هو مدد الحمد، ومدد النور المحمّديّ : أوليّته وقدمه.
ومن أجل هذا، سمّاه سراجاً منيراً، سراجاً منيراً للكون من الأزل إلى الأبد. الإنارة سرمديّة لا تتوقف على فترة زمنية محدّدة بزمانها ومكانها، فإذا السّراج المنير هذا لا ينصرف إلى البعد الزمني وحده بل يتعدّاه إلى البعد الروحي الذي لا ينقطع بانقطاع فترة النبوّة، فهو الذي منه يشع النور ليملأ الأرض والسّماء كما يملأ القلوب والأرواح والأسرار واللطائف والأذواق، ومنه تكون الهداية يتوخّاها الصُّلحاء، وفي التعلق به يكون الهُدى والكمال والرفعة كما تكون علوم الأولياء.
لم يكن عُرفاء الإسلام بالذين يستقون من مشكاة الأنوار نوراً غير نور النبوة؛ ليمدُّهم بمدد موصول لم يكن لينقطع ولا ليزول في حين انقطعت النبوة بوفاته على التحقيق، وبقى منها الميراث وهو الأبقى والأدوم، يدور في فلك إظهار الحقائق الإلهيّة حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
ولم يكن ميراث النبوة سوى هذا المدد الدائم من فيض فضل نوره عليه السلام، سواء كان علماً أو خُلقاً أو نوراً أو ولاية وتحقيقاً.
وسمّاه القرآن الكريم الإمام المبين؛ إذ أحصى كل شيء فيه، (وكل شيء أحصيناه في إمام مبين). ولم يكن المجيئ سابقاً في الترتيب على المعجزة إلا بفضلٍ تقدّمه سبق النور (قد جاءُكم من الله نورٌ وكتابٌ مبين) فالنور أسبق في الترتيب من المعجزة التي هى الكتاب المُبين، إذا كان النور التام الكامل هو محمد رسول الله.
وسمّاه القرآن الرحمة المُهداة وأهداها منه ومن خلاله للعالمين: (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا، هو خيرٌ ممّا يجمعون)؛ ففضل الله هو القرآن، ورحمته هى سيدنا محمد صلوات الله وسلامه عليه.
وعلى هذا البعد الروحي جاز للذين عرفوه أن يصلّوا عليه بمطلق الأمر الإلهي، وبمطلق استمراريته في قوله "يصلون": الفعل المضارع الذي يدل على الاستمرارية، بمثل هذه الصيغة: (اللّهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد النور الذاتيٍ والسرُّ السّاري سرُّه في سائر الأسماء والصفات، وعلى آله وصحبه وسلم). وفي الصلاة عليه اتصال باليقين الذي لا شك فيه. فلا يتصل متصل إلا من طريق الصلاة عليه، ولا ينقطع منقطع وفي قلبه محبته وموالاته على تحقق المنهج وموافقة الاتباع.
تحتاج الحفاوة بسيّدنا النبيّ إلى لطيفة ربّانية ملآنة بالمحبّة له تتحقق فيها ظلال الحمد على الدوام الذي لا ينقطع. والمحبّة اتّباع : (قُل إنْ كنتم تحبُّون الله فاتّبعوني يُحببكم الله). ولا يجب في كل ما كان محبوباً أن يكون محبوباً لشيء آخر وإلا لدار أو تسلسل، بل لا بدّ أن ينتهي إلى ما يكون محبوباً لذاته. وعليه؛ فالاستقراءُ يدلُّ على أن معرفة الكامل من حيث هو كامل يوجبُ محبّته. ومحبته تقتضي الحمد على نعمة وجوده وإمداده، صلوات الله وسلامه عليه.
***
بقلم : د. مجدي إبراهيم

مفتاح النجاح للأطفال العرب في الأهواز" تطبيق فرضية الاعتماد المتبادل لكومينز

تُعَدُّ اللغة أحد أبرز عناصر الهوية الثقافية، حيث تلعب دورًا حيويًا في تشكيل التفكير والتواصل بين الأفراد. في منطقة الأهواز، حيث يتحدث السكان اللغة العربية، يواجه الأطفال تحديات كبيرة نتيجة لتعليمهم باللغة الفارسية. هذا الوضع لا يؤثر سلبًا على قدرتهم على التعلم فحسب، بل يعيق أيضًا تفاعلهم الاجتماعي وتواصلهم مع محيطهم. في هذا السياق، تبرز أهمية تطبيق فرضية الاعتماد المتبادل لكومينز، التي تؤكد على الترابط الوثيق بين الكفاءة في اللغة الأولى (L1) والثانية (L2). إذ تشير هذه النظرية إلى أن تعزيز مهارات اللغة الأم يمكن أن يسهم بشكل كبير في تحسين الأداء الأكاديمي واللغوي للأطفال في لغتهم الثانية، مما يسهل عليهم التكيف والنجاح في بيئة تعليمية متعددة اللغات.
تأسست فرضية الاعتماد المتبادل لكومينز على فكرة أن المهارات اللغوية المكتسبة في اللغة الأم يمكن أن تعزز التعلم في اللغة الثانية. تنقسم هذه المهارات إلى نوعين: (المهارات الأساسية) (Basic Interpersonal Communicative Skills - BICS) التي تتعلق بالتواصل اليومي، و(المهارات الأكاديمية) (Cognitive Academic Language Proficiency - CALP) التي تتطلب فهماً عميقاً للمفاهيم. يشير كومينز إلى أن الأطفال الذين يتمتعون بكفاءة عالية في لغتهم الأم سيكون لديهم قدرة أفضل على اكتساب لغة ثانية، مما يعزز من أدائهم الأكاديمي بشكل عام.
أهمية اللغة الأم
تشير هذه الفرضية إلى أن تطوير مهارات اللغة الأم يُعزز من قدرة الأطفال على تعلم لغة ثانية بشكل أكثر فعالية. هذا يعني أن الأطفال الذين يتمتعون بكفاءة عالية في لغتهم الأم (مثل اللغة العربية) سيكون لديهم أساس قوي يمكنهم من اكتساب مهارات اللغة الثانية (مثل اللغة الفارسية) بسهولة أكبر.
لذلك، يعد إدخال مناهج تعليمية باللغة العربية في المدارس خطوة أساسية نحو تحقيق هذا الهدف. فهذه المناهج لا تقتصر فقط على تعليم اللغة العربية كلغة منفصلة، بل تشمل أيضًا مواد دراسية متنوعة تعزز من فهم الطلاب لثقافتهم وهويتهم.
على سبيل المثال، يمكن أن تتضمن هذه المناهج دروسًا في الأدب العربي، حيث يتعرف الأطفال على نصوص أدبية غنية تعكس تاريخهم وثقافتهم. كما يمكن تضمين مواد عن التاريخ العربي، مما يساعدهم على فهم السياقات التاريخية والاجتماعية التي شكلت مجتمعهم. بالإضافة إلى ذلك، يمكن إدخال دروس في الثقافة العربية، مثل الفنون والموسيقى والعادات والتقاليد، مما يعزز من انتمائهم وهويتهم الثقافية.
كل هذه العناصر تعمل معًا على بناء قاعدة قوية في اللغة الأم، مما يساهم في تعزيز الثقة بالنفس لدى الأطفال ويشجعهم على استخدام اللغة العربية بشكل فعال. عندما يشعر الأطفال بأن لغتهم الأم تُدرس وتُقدّر في المدرسة، فإن ذلك سيعزز من قدرتهم على التعلم والتفاعل بلغة ثانية، مما يؤدي إلى تحسين أدائهم الأكاديمي العام.
تطوير المناهج المزدوجة
إذن من الضروري تصميم مناهج تعليمية تجمع بين الفارسية والعربية. يمكن أن تشمل هذه المناهج دروسًا متكاملة تتناول مواضيع مشتركة. على سبيل المثال، في مادة العلوم، يمكن تدريس المفاهيم الأساسية باللغة الفارسية مع توفير شروحات باللغة العربية. كما يمكن استخدام الكتب المدرسية التي تحتوي على نصوص ثنائية اللغة، مما يسهل الفهم ويعزز من التعلم.
تدريب المعلمين
يعتبر المعلمون حجر الزاوية في أي عملية تعليمية ناجحة. لذا، يجب توفير تدريب شامل للمعلمين حول كيفية تدريس اللغتين بشكل متكامل. على سبيل المثال، يمكن تنظيم ورش عمل لتعليم المعلمين استراتيجيات مثل "التعلم القائم على المشاريع"، حيث يقوم الطلاب بإنشاء مشاريع تتطلب استخدام كلتا اللغتين. هذا النوع من التدريب يساعد المعلمين على تطوير مهاراتهم ويعزز من فعالية التعليم.
تشجيع القراءة والكتابة
تعد القراءة والكتابة من المهارات الأساسية التي يحتاجها الأطفال للنجاح الأكاديمي. لذا، يجب إنشاء برامج تشجع الأطفال على قراءة الكتب باللغة العربية وممارسة الكتابة فيها. على سبيل المثال، يمكن تنظيم مسابقات للقراءة أو ورش عمل للكتابة الإبداعية لتعزيز هذه المهارات. كما يمكن إنشاء مكتبات مدرسية تحتوي على مجموعة متنوعة من الكتب العربية التي تناسب مختلف الأعمار والمستويات.
التفاعل الاجتماعي والثقافي
لتعزيز استخدام اللغة العربية في الحياة اليومية، يجب تشجيع الأنشطة الاجتماعية والثقافية التي تستخدم هذه اللغة. يمكن تنظيم فعاليات ثقافية مثل المهرجانات الأدبية أو العروض المسرحية التي تركز على التراث العربي وتعزز من استخدام اللغة. مثال آخر هو إقامة مسابقات شعرية أو قصص قصيرة باللغة العربية، مما يشجع الأطفال على التعبير عن أنفسهم بلغة أمهم.
ختاما نقول إن تطبيق فرضية الاعتماد المتبادل لكومينز في الأهواز يمثل خطوة حيوية نحو تحسين التعليم وتعزيز الهوية الثقافية للأطفال.
إن هذه النظرية لا تساهم فقط في تعزيز المهارات اللغوية، بل تحد أيضًا من ظاهرة الرسوب في المواد الدراسية والتخلي عن المدرسة. عندما يتمكن الأطفال من التعلم بلغتهم الأم، فإن ذلك يعزز من فهمهم للمحتوى الدراسي ويزيد من ثقتهم بأنفسهم. وبالتالي، يصبحون أكثر قدرة على التفاعل مع المواد التعليمية، مما يقلل من معدلات الرسوب ويشجعهم على الاستمرار في التعليم. فمن خلال إدخال التعليم الثنائي اللغة وتطوير المناهج المناسبة وتدريب المعلمين وتشجيع القراءة والكتابة، يمكننا توفير بيئة تعليمية تدعم النمو الأكاديمي والاجتماعي للأطفال وکل هذا یأتي من اهتمام حكومي ومؤسساتي شامل بالموضوع. إن الاستثمار في لغتهم الأم ليس فقط واجبًا ثقافيًا، بل هو أيضًا مفتاح لتحقيق مستقبل أفضل للأجيال القادمة.
***
سعيد بوسامر/ كاتب و باحث أهوازي
نوفمبر 2024
..........................
المصادر التي راجعها الباحث:
Teemant, A., & Pinnegar, S. E. (2019). The Interdependence Hypothesis: Jigsaw Reading B1. Principles of Language Acquisition. https://edtechbooks.org/language_acquisition/jigsaw_reading_d.
-أبوعميشة، خالد. كيف أطور مهاراتي في اللغة العربية؟ نشر في:
https://learning.aljazeera.net/ar/node/944
-كويونكو، علي. تأثير اللغة الام على اكتساب اللغة الثانية، مراجعة علمية. مجلة كلية اللاهوت. 2021.

 

يقال إن الحب هو تلك القوة الخفية التي تتجاوز كل المقاييس المادية والتصورات الحسية، فهو قوة شاملة، "كالمحرك الكوني" الذي يربط الوجود، كما أشار إليه أرسطو في حديثه عن "الصداقة الفضلى". هذا الحب يكتسب معناه من القدرة على تفتح النفس البشرية ونقلها إلى فضاءات أسمى، حيث لا حدود للإخلاص، وحيث النقاء النابع من الروح يُجبر الإنسان على إظهار أعمق ما لديه من جمال وأصالة.
فالحب الحقيقي، كإيمان أفلاطون بأن الخير والجمال هما غاية الوجود، يُعد عملًا روحانيًا ساميًا. هو مغامرة نغامر فيها بكل مشاعرنا وقلوبنا، دون أن نعرف ما إذا كان الطرف الآخر سيقدر هذه المشاعر أو يبادلنا الحب. إن الحب الحقيقي يبني الثقة، ويثبت الأمل، ويرسخ الصبر، وكما قال الروائي الفرنسي أنطوان دو سانت-إكزوبيري: "المحبة ليست أن تنظر في أحدهم، بل أن تنظر في نفس الاتجاه"، حيث يشير إلى أن الحب هو وحدة في الهدف والرؤية، لا في المصالح والمكتسبات.
ومن أبرز تجليات هذا الحب النقي هو مفهوم "الأغابي"، ذلك الحب الذي يتعالى عن الأنانية والشروط، فكما يرى الفيلسوف مارتن بوبر في نظريته عن "علاقة الأنا والأنت" بأن الحب الحقيقي هو أن ترى الآخر ككيان كامل، لا كوسيلة لإشباع رغباتك الشخصية. إنه الحب الذي يشمل الجميع بغض النظر عن سلوكهم أو ردود فعلهم؛ حب يعبر عن تعاطف غير محدود وعطاء غير مشروط.
وقد يرى البعض أن الحب هو نوع من الحرية المطلقة، أو كما قال سبينوزا: "الحب هو الفرح المصحوب بفكرة سبب خارجي." فالحب ينشئ علاقة بين الذات والآخر، لكنه لا يُحتكر في مطالب معينة أو شروط، بل يمتد ليُطلق حرية الشخص الذي نحبه، فيعطي دون أن ينتظر، ويتمنى الخير للآخر حتى ولو لم يُبادَل. إنه نوع من الترفع عن المكافأة والتقدير، لأن المحبة الحقيقية تكمن في أن تمنح دون أن تتوقع، فإذا لم تتوقع شيئًا ولم تطلب شيئًا على الإطلاق، فلن تخون أو تشعر بخيبة أمل؛ فقط عندما يطلب الحب، يُصبح سببًا للألم.
ومن هنا، فالحب ليس أنانيةً تتسع أو تعاظم، بل هو تجرد تام من الأنانية، ويُظهره الناس في "الاهتمام بالسعادة الداخلية للآخر"، كما قال أريك فروم، فهو يرى أن الحب فعل إرادةٍ ونضج، حيث إن العطاء هو جوهر الحب الحقيقي، وهو عطاء لا يحده شرط أو توقُّع، بل ينبع من قناعة داخلية بأن الفرح الحقيقي يكمن في إسعاد الآخر، حتى وإن لم يدرك هذا الشخص قيمة ما تقدمه له، لذلك فهو يتطلب قوة روحية عميقة. وكما قال الفيلسوف الصيني لاوتسو، "من يعرف الآخرين حكيم، ومن يعرف نفسه مستنير."، فالحب غير المشروط هو تجسيد لهذا الفهم العميق للذات، والقدرة على رؤية الآخرين كامتداد للنفس، دون الحاجة للسيطرة أو التحكم.
الحب الحقيقي هو عندما تخبر شخصًا ما أنك تهتم بمشاعره، بينما الحب المشروط هو عندما تخبره أنك تحب ما يجعلك تشعر به. الحب المشروط أناني وأحادي الجانب، وهو ما يقدمه الناس لنا عندما نفعل ما يريدون، وللأسف، هو النوع الوحيد من الحب الذي عرفه معظم الناس. لقد أحبنا الناس أكثر عندما جعلناهم يشعرون بالرضا عن أنفسهم، مما يعني أننا بحاجة لشراء الحب المشروط. وعندما لا نعرف الفرق بين الحب الحقيقي والحب المشروط، نجد أنفسنا نستقر على "أخذ وعطاء" الحب المشروط الذي يتركنا دائمًا فارغين، غير سعداء، محبطين ومستائين، لذلك من المستحسن معرفة علامتين موثوقتين تدلان على أن الحب ليس حقيقيًا، وهما: التجاهل وخيبة الأمل.
وهنا تبرز أهمية "الثقة" كركيزة في الحب، فهي ذلك الجسر الخفي الذي يُمكننا من الاقتراب من الآخرين بصدق وأمان، كما قال سقراط، "إن النفس التي تملك فضائل الحب تستطيع أن تكون في سلام مع العالم." الثقة هنا ليست مبنية على ضمانات أو وعود، بل على استعداد دائم للعطاء دون مخاوف. إنها الثقة التي تتغذى على وعي عميق بأن الحب الحقيقي لا يُقاس بما يُنتظر، بل بما يُمنح بلا حدود.
أما عندما لا يعرف أحد كيف يحب، فإن واجبنا لا يقتصر على تعليمهم بالكلام، بل بإظهار ذلك الحب في أفعالنا اليومية، فالفيلسوف الروماني سينيكا يرى أن "التعليم الحقيقي هو أن يكون المعلم مثالًا حيًّا"، وهكذا فإن الحب الصادق يظهر نفسه في العطاء المستمر، الذي يُظهر للآخرين كيف يمكن أن يكونوا محبين بلا شروط.
ليظل الحب بمثابة تلك الطاقة الدافئة التي تتجاوز التوقعات، وتدفع الإنسان لأن يصبح جزءًا من كينونة جماعية أوسع، يسهم فيها بنقاء وإخلاص. إنه ذاك السلام الداخلي الذي يحقق الأمان النفسي، والذي لا يتبدد عند المحن، بل يزهر في ظل الصعوبات، متحولًا إلى قوة خلاقة تبث الحياة في النفس الإنسانية.
***
الأستاذ محمد إبراهيم الزموري

الإقبال على إعادة محاولة فهم "الاستبداد"، ليس استثناء زمنيا، أو رافعة منذورة لتصيد الفراغ من أحداث تجبر العالم على النظر البعيد والانتظار الحاسم لعواقب شديدة العتمة.
لقد كان "الاستبداد" كحالة فلسفية متعاقبة وسيرورية، متحركا ومتشابكا، وأحيانا غامضا ومغلقا، يحتاج دوما إلى تفكيك متعالي عن طبيعة التفكير ومراوحة التأويلات المتعددة. ولهذا نجد أنفسنا محاطين بالشكوك حول درجاته، وقدراته الخفية، و(برمجياته) الخرافية التي تطبع جزءا كبيرا من تفوقه على نفسيات الإنسان وسلوكياته المتقلبة وتجاويف إحداثياته في الكينونة والمصائر المستتبعة.
إن أهم احتمالات وقوع الاستبداد، كما هو مطبوع في الذهنيات الثقافية والتاريخية، كونه ينتج عن صراع الفعل المرضي للسلطة لدى الحاكم، أو "الحكومة"، ما يشكل نسقا طبائعيا عنيدا، يراكم الخيبات والضلالات واللا عدل وتكريس الفساد وإغراق المجتمع بالنظام الفرداني الاستحواذي، وتعليق كل أشكال قيم الحرية والمساواة والكرامة الإنسانية؟، وهو أمر عكف معظم الفلاسفة والمفكرين على تحليله وشرحه، وتقريضه وتنكّبه، حتى بلغ الحلقوم، وانتهى في تخوم علوم النفس المرضي وأراجيفه، فلم يبق سوى النزوع إلى تعليق جثثه على حبل النفض والاستغفال.
ولم يصر الشعب المنقاد المستسلم، شعبا "توكليا" و"جاهلا" وفاقدا للهمم ومنشغلا بمعيشته البهيمية البدائية، بعيدا عن الحرية الفكرية والأخلاقية، إلا لأن المستبد أسير قفص التعظيم وهوى النفس، وما وُجِدَ الاستبداد إلا لتشويش الحقائق وقلب الموازين، والأمة التي لا يشعر كلها أو أكثرها بآلام الاستبداد لا تستحق الحرية، كما قال الكواكبي.
وأضحت هذه الظاهرة العولمية القاهرة، مندوحة للقطعيات الكبرى، في عالم السياسة الدولية، ونوازعها المثاقفاتية المشمولة بقوة الصراع الحضاري والانزياحات الحاضرة في النسيج العام للقرية الكونية الصغيرة.
وهي إلى قهريتها المفرطة، وشدة بأسها في آليات الردع الجديدة، ضمن معيارية "التخلف" و"التبعية"، صارت تؤطر الواقع السياسي الدولي، بحمولاته التجزيئية وتفاعلاته مع وضعيات "سلط العالم الجديد" الذي تنظمه وتسيطر على قواعده "الدول العظمى" المسيطرة. وقارئ التاريخ الحديث، يعلم جيدا، أثر هذا "الاستبداد" وحتمياته الفظيعة، ولم تكن اتفاقية سايكس بيكو الموقعة في 1916 ، المعاهدة السرية بين فرنسا والمملكة المتحدة بمصادقة من الإمبراطورية الروسية وإيطاليا على اقتسام منطقة الهلال الخصيب بين فرنسا وبريطانيا، ولتحديد مناطق النفوذ في غرب آسيا وتقسيم الدولة العثمانية التي كانت المسيطرة على تلك المنطقة في الحرب العالمية الأولى، سوى دليل على استمرار اصطراع منظومة "الاستبداد الدولي" في تدوير "العالم" وإغاضته على الشكل المطلوب والآمن، بحسب المصالح والمنافع الاستعمارية المعلومة.
ومن ثمة يصبح "الاستبداد" طبعا عولميا متحولا، ينجذب إلى التقليد والمراوحة، ومغايرة الثقافة واستئثار لغة الآخر بكل صروف الحذاقة وسرعة التقييس، وتوطين مخالفة الذات ونقذها، مع التفريخ اللازم لتقبل تشويه الذاكرة وتحجيم قيمها وأخلاقها.
والعالم الآن، يهيأ لنزوع استبدادي أكثر قتامة ومسخا مما انجلى في قرون غابرة. فقد توسع افتراق الاستبداد بالحدود الجغرافية وبالعددية الديمغرافية للأوطان المستقلة بحدودها المفترضة. واستقصدت الحاضنة العقلية والوجدانية للشعوب، لتكون أحوازا بديلة للقارات الكونية المشدودة بمؤثرات وخلفيات أيديولوجية وسيكولوجية فتاكة، تسكر أدمغة التابعين الخانعين، وتجمد أوردة عروقهم، وتحاصر أفكارهم وأحلامهم وخيالاتهم، وتروض في أقصى مواجهاتها الصعبة مناطق الارباك والتشويش، حتى آخر الحسم، الذي يصل السكين بالعظم والقشرة الدقيقة بمخ المآل الحتف؟.
ومن قتامة هذا الغزو الجبروتي الكذوب الأفاق، أن يركب المثقفون ونخب المجتمع موج الكمين، فلا يكاد يرى من كثرة الغيم والشبورة، من يكون القدوة، ومن يحمي الحمى، ومن ينثر العدل، ومن يحفظ الكرامة ويصونها، ومن يقاوم العسف والإذعان، ومن يكسر شوكة الاستبداد ؟.
ذلك أن الاستبداد/ الموت الأسود الآن، أغلق مسامع كل شيء، مما كان يطلق به سحر البروبجندا قبلا، ك "حقوق الإنسان" و"الديمقراطية" وقيم المساواة والحرية والكرامة الإنسانية والرحمة... إلخ، متساقطا عبر واقع استعباد العالم وإحالته على السجن، بكل معاني الوحشية والتطويع والتركيع والتجويع والإبادة والتهجير القسري. وما عاد لنا اليوم، سوى العودة مجددا إلى اقتفاء أسرار تقشير بصل "الاستبداد" وتوسيع دياجيره، حتى يكون طعما مستحضرا لتجميل صورة "الغرب" النكوصي وتابعه "العربي" الطائع، الذي استنفذ وجوده الحضاري وأعادنا إلى الصكوك الأولى من وجع التخلف والقصور والشذوذ عن آفاق الممكن وحتمياته في الصيرورات والسنن الكونية.
***
د. مصـطـــفى غَـــلْمَــان

"نفي الهوية" خيار ليس بالارادي، منطو في الجوهر على نفي لمايعتبر "مجتمعية" بالحكم المتداول، مع شيء من التدقيق وتعديل زاوية النظر ومنظومة المقاربة، لن نعدم مايدلل على تاريخيته غير المكشوف عنها النقاب، متحققة واقعا ودائمه ابتداء من تبلور الظاهرة المجتمعية باللاارضوية السماوية الحدسية وتاريخها النبوي نشأة وانتهاء متعاقبا غير مقر ولامعترف بكينونته، لالنقص فيه بذاته، بدلاله وجوده ضمن اشتراطات امتناع تحققه، بقدرما في الطاقة الادراكية العقلية البشرية المتاحه والباقية مستمرة حتى الساعه، كما في غياب الوسائل الضرورية المادية.
تتبلور المجتمعية ابتداء كونية لاكيانوية متعدية للحدود والجغرافيا، متجاوزة اشتراطات الارضوية الجسدوية، غير انها تبدأ غير مهياة للتحقق بمقابل النمطية الاخرى الارضوية الموافقة لاشتراطات الجسدوية وقصوريتها التي تغلب وتسود على مدى التاريخ اليدوي، بينما تتخذ اللاارضوية شكل التعبيرية الشامله، تخترق كيانوية الدولة والبنية الارضوية، مكرسة حالة "الازدواج" المجتمعي الدال على المؤقتيه المميزه للطور اليدوي، بانتظار القفزة الفاصلة الالية حيث تتوفر الاسباب، وماهو لازم وضروري للتحقق اللاارضوي الكوني، بما يضعنا امام تعاقبية، تبدا باللاارضوية غير الممكنه التحقق، مايتيح الفرصة والمجال للغلبة الارضوية، وصولا الى الطور النهائي اللاارضوي، وكأن الحال لهذه الجهه يذكرنا بما قد وضع توهميا بخصوص المسارات الطبقية على يد ماركس، من "الشيوعية البدائية" الى "الشيوعيه الالية العليا"، بغض النظر عن بدائية المنظور "الحتموي" الاصطراعي الازدواجي الطبقي المشار اليه، والعائد الى لحظة متقدمه من محاولة الخروج من القصورية الارضوية،محكوما للطبقية بدل الحقيقة الاساس الكبرى الابتدائية، تلك الموصولة بالاصطراعية الازدواجية "المجتمعية".
اي من المجتمعيتين هي المجتمعية، اللاارضوية ام الارضوية، وهل لهذه الظاهرة سيرورة تشكلية تاخذها للاكتمال، مقابلها هل الكائن البشري الحالي هو الغاية والمنتهى كينونة، ام انه بالاحرى حالة توسط انتقالي بين الحيوان والانسان، لنا ان نرى مايتناسب مع مستوى وممكنات ادراكيتنا بالاخص بعد طول تراكم تصوري واعتقادي ليس لنا ان نتبين نطاق قصوريته المبني عليها، ولاحتى التساؤل الواجب الضرورة: كيف يمكن لكائن انتقالي لم يكتمل بعد وهو موضوع ضمن اشتراطات تفاعليه ترقوية منها يستمد اسبا ب نشوئه وصولا لغاية وجوده، كيف يمكن لكائن من هذا الصنف او النوع الانتقالي، ان يشكل بناء اجتماعيا مكتملا ابتداء من دون استثنائية في الاشتراطات وظروف النشاة والتبلور كما الحال في ارض سومر كمثال، الوضع الذي لم يكن وادرا بيئيا وطبيعة، شموله لاجمالي المعمورة الامر غير المتلائم مع الكينونه المستجده الانتقالية الناتجه عن الوثبة العقلية الاولى من مغادرة الاشتراطات الحيوانيه، مع حلول زمن الانتصاب واستعمال اليدين والنطقية.
ثم هل من الممكن ان نتعرف على مروية تسرد لنا المعاش مجتمعيا تكون في حينه غير "انسايوانيه" الامر المستحيل بنية وكينونه بشرية، بانتظار ساعة الاقتراب من مغادرة المجتمعية الارضوية الانسايوانيه، مع بد توفر الاشتراطات الانتقالية النهائية العظمى التحولية، ساعة يصير لازما النظر في المجتمعية بما هي حالة انتقالية، تبدا كغلبة جسدوية ارضوية محكومة لتفاعلية مفضية الى الالية بعد اليدوية، حين تفقد مقومات استمرارها وصلاحيتها بما هي طور ومسار لازم، ومحطة اولية انتقالية في المسار المجتمعي، ليس من باب الاجحاف القول بانها" ليست مجتمعية" بل مجتمعية غير مكتملة او في طور الاكتمال، منطوية على اسباب وديناميات الانتقال والتحول الى المجتمعية.
فماذا بناء عليه بما خص الذاتيه، وهل مايعرف بالكيانات والدول والامم والقوميات هي غاية ومقصد، مقابل نفي الكيانيه ومايتصل بها، اذا كان لمثل هذا النفي ضرورة حتى يتلائم مع مقتضيات الانتقال التحولي الاكبر، والنضج، مايعني في التطبيق "نفي الذاتيه" باعتباره الهدف والمبتغى المطلوب كغاية لسيرورة المجتمعات وقت تتحول الى مجتمعات مكتملة القوام والبنيه، مايعني تحول هذا المقصد الى مهمة واجب الاضطلاع بها عند لحظة من التاريخ المجتمعي.
ومن المؤكد على هذا الصعيد ان "نفي الذاتيه" الكيانوية لن تكون له نفس المكونات واشكال التحقق الضروري مقارنه بالكيانيه المنقضية الصلاحية، مع عالم الدول، ومع الخروج من ربقة الجغرافيا والعيش المشترك وغيرها من التشابهات، فان قوة وحضور "الكتابية" اي الرؤية المعدلة للتاريخ المجتمعي وللحقيقة المجتمعية ومآلاتها، تغدو هي القوة الفاعلة، وهذا مايعيدنا الى الصيغة التحققية الكتابية الاولى الابراهيمه، المتخلصة من وطاة الجغرافيا، والحاضرة كتابيا كونيا على مر تاريخ الظاهرة المجتمعية، وان هي وجدت حدسيا متلائما مع اشتراطات عدم التحقق الطويل المستمر حتى اليوم.
تحضر "الكتابية" اللاارضوية الشرق متوسطية بما هي كينونه كونية متلائمه مع الحقيقة المجتمعية مع اكتمال اسباب نضجها بعبورها طور الاارضوية والقصورية العقلية البشرية الانسايوانيه حيث تتجلى بالاصطراع الافنائي الذي يسلطه الغرب على بؤرة اللاارضوية التاريخيه(1)، ضرورات الانتقال الكبير اتفاقا مع منطويات وحقيقة الانتقال الالي، بالضد من تلك التوهمية الارضوية التي يشيعها الغرب ويحولها الى مسلك تخبطي تدميري متناقض مع ماصار مع الاله وتدرجاتها وصولا الى " التكنولوجيا العليا/ العقلية" حال افتراق، بين وسيلة الانتاج العقلي، والعملية الانتاجية الارضوية الجسدوية، مايضع مع العولمه ولاندحار العملي للكيانوية كبداية، اجمالي الحياة القائمه ودولها مدعية الرفعة الحضارية الحداثية، في الاضطراب المستمر والفوضى والعنف الابادي الساخق للاخر، بما يحمل العقل على البحث عن مسرب اخر للاستمرار بظل اشتراطات استثنائية تعيد حضور حال "العيش على حافة الفناء" وقد صارت كونية شامله لعموم المعمورة، بينما يستمر الاصرار الارضوي بالقوة والتدمير على فرض ماقد صار من قبيل الماضي، وهو ماغدت البشرية تعيشه اليوم ومن هنا فصاعدا.
الذاتية الشرق متوسطية هي موضع "نفي الذاتيه"، الذي هو ومن هنا فصاعدا قضية وهدف الوجود الذي لا حياة ولا مجتمعات من دونها، بينما تكون هي قد بلغت عالم الانتقال من النبوية الحدسية اللاارضوية الاولى الانتقالية، الى العليّة التحولية السببيه، وهنا يتمثل " العصر" لافي التوهمية الحداثوية الغربية المواكبه للانتقال الالي بلحظته الافتتاحية، المغمورة بسطوة القصور العقلي الارضوي اليدوي.(2)
***
عبد الاميرالركابي
............................
(1) يراجع ( كتاب العراق)، عبد الامير الركابي، دار الانتشار العربي، بيروت.
(2) مايزال الطريق طويلا امام الرؤية الكتابيه الثانية الضرورة النهائية اغير النبوية تفصيلات ومنظورا.

شارك استيفان كوكاف من جامعة باديربورن الألمانية بورقة بحث قدمها لمؤتمر «العقلانية في علوم الدين الإسلامي بين التقاليد والحداثة»، وناقش فيها تطور مصطلح التسامح ومفاهيمه وتطبيقاته (وبالأخص في بلدان تمر بمرحلة غامضة وقلقة مثل العراق – الذي مزقته حربان، الأولى شنها النظام ضد أطياف متعددة من النسيج الوطني، والثانية شنتها قوات التحالف الدولي ضد النظام حتى نجحت بإسقاطه). وترتب على ذلك نوع من الفوضى الكونية، ما أعاد فكرة التسامح للصدارة.
يبدأ كوكيف مداخلته من اتهام راينر فروست للتسامح بأنه مصطلح تأزيم. فهو يفترض وجود مشكلة اجتماعية تحتاج للمصالحة. وقد ظهرت كلمة tolerantia لأول مرة على يد شيشرو المتوفى عام 43 ق. م. وكانت تعني بنظره تحمل الألم، ثم طورها الفكر المسيحي المبكر إلى معنى يحمل إساءة وتكفيرا للآخرين. ولكن تطور المفهوم لاحقا بعد الحروب التي عصفت بأوروبا الحديثة، وأصبح موضوعا مستقلا عكس الأزمة الناشبة بين الأديان والمعتقدات. ويرى فروست أن رسالة جون لوك 1689 هي ذروة هذا التيار، وأن الليبرالية كانت الحارس الحقيقي لكل التفاهمات. فقد وضعت حجر الأساس لثلاث نقاط هي: الاحترام المتبادل، احتفاظ كل طرف بسيادته، رعاية القانون للجميع. لكنه لم يبين ماذا يقصد بمعنى القانون.
وبعد دخول عصر التنوير أضيفت للتسامح ضمانات علمانية، ولكن بعد انتشار التطرف في القرن العشرين، وظهور الجماعات الراديكالية، بمعنى الجهاديين وليس الثوريين الحالمين والمبشرين بيوتوبيا واقعية، ضمن إطار اجتماعي، تبنت منظمة اليونسكو عام 1995 ما يعرف اليوم باسم «إعلان التسامح». وعلى أساسه أمكن لنا أن نفهم أنه «احترام وتقبل وتفهم التنوع الكبير في الثقافات». ويضاف لذلك الالتزام بتعدد الثقافات ودور القانون وحرية الاختيار والانتماء – ما يسميه الإعلان الديمقراطية. وهو تعبير اجتماعي إغريقي تمت تعبئته لاحقا لخدمة الأيديولوجيات والسياسات المتصارعة في الدول الغربية. وحسب كلام ويندي براون أنتجت السياسة الغربية هوية منفصلة للتسامح هدفها الأساسي التحكم بأشكال النفور بين جميع الأطراف لأجل إعادة رسم الحدود بين الأديان والثقافات والأعراق، وليس لإلغائها – وهو المفهوم نفسه الذي تبناه جاك دريدا، فقد كان مع التأكيد على الاختلاف وليس زيادة التكرار – والكلام الأخير للموريتاني السيد ولد أباه.
ويضيف كوكاف أن القرآن نظر للتسامح على أنه ضرورة تفرضها ظروف الدولة الناشئة. وبتعبير يوحانان فريدمان، كان القرآن نص إثبات يدعو للمسامحة. بمعنى الاستيعاب وحسن الجوار مع أتباع بقية الأديان، فقد منع القسر في مسائل الإيمان. وبدأت حركة الإصلاح الإسلامي المعاصر نشاطها من هذه الفكرة، ورغم وجود محددات منها دفع الجزية ومحاربة من يحاول التأثير على المسلمين، وبالأخص ضعاف النفوس، لم يفقد الذمي حقه بحرية التعبير عن معتقداته. ويذكر وجود أحاديث تعزى للنبي محمد، سمح فيها بالاختلاف واعتبر أنه رحمة.
ويعتبر فروست أن الغزالي وابن رشد من أهم الأمثلة التي تثبت وجود تنويع في قراءة وفهم الآيات القرآنية. ولكنه في الوقت نفسه أكد أن الغزالي غائب تماما أو تقريبا عن الساحة الأوروبية، بينما استطاع ابن رشد أن يشق طريقه وأن يفرض نفسه على عصر النهضة. ومن بين النهضويين العرب لا يمكننا غض النظر عن التونسي الطاهر بن عاشور الذي استمد معنى التساهل مع غير المسلمين من القانون الإلهي (الشريعة). وربما كان العراقي ماجد الغرباوي أحد أهم المشتغلين بالفكر الإسلامي، الذي خصص الطور الأخير من حياته لتحديد ضرورات التسامح، بحيث نفهم منه أنه تحول من ظاهرة إنسانية عامة إلى ضرورة حضارية وسياسية. وكما ورد على لسانه في أكثر من موضع لا يوجد إنسان ولا وجود دون ثغرات وأخطاء ونقاط ضعف، ولذلك لا بد من العفو على أخطاء الآخرين، لأننا نتوقع منهم أن يعفوا أيضا بالمثل عن هفواتنا. وبهذه الطريقة نضمن تقوية شروط حياتنا وبالمقدمة الحريات المدنية. وإذا ساعد تدهور سلطة الكنيسة في أوروبا على تغليب أخلاق العفو، نحن حاليا بحاجة ماسة لإعادة النظر بجملة من الثوابت المشكوك في أصالتها، ولذلك يتوجب علينا فتح النهايات والدروب المسدودة. وأن نتعامل مع الماضي بقراءة نقدية. بمعنى أن نفهم المعنى وأن لا نتوقف عند ظاهرية النصوص. وبهذا السياق يعود لفعلية كل نص ولدور الناسخ والمنسوخ ولحدود الأحكام والتشريعات. ويقدم جملة من الأدلة التي ترفض أي إكراه في الدين الإسلامي. وهذا في مرحلة القوة والتمكن، فما بالك الآن، والمسلمون بوضع أضعف، وأكثر من نصفهم يبحثون عن حل لمشكلاتهم المستعصية في بلدان غير مسلمة. ويتوقف مطولا عند مشكلة محاسبة المرتد. ويؤكد أن الحساب مؤجل ليوم الدينونة ولا يوجد أي نص يثبت أنه مطلوب في الحياة الدنيا.
وفي نهاية ورقته يذكر كوكاف أن الغرباوي لا ينفرد وحده بهذه الرؤية، ويقف معه الإيراني عبد الكريم سروش وزميله محمد مجتهد شبستري، والسوري هيثم مناع، والسعودي محمد محفوظ.
***
د. صالح الرزوق - كاتب سوري

 

لا تحتاج الدعوة الدينية لشئ أكثر من التحقق برافدين: العلم والنور. ولكن يُلاحظ أن الذين يكتبون في الدين فضلاً عن الذين يقولون فيه ما ليس فيه، يركبهم غرور أجوف لا يستند لا على العلم، ولا على النور؛ بل على الصلف وحب الظهور وسياق الناس بالإكراه إلى حظيرة الإيمان، مع أن الدعوة الدينية شريفة سامية هى من معدن الرسالة تستقي مددها.
قال صاحبي وهو من ذوي العمائم المقدسة: لم ترد "التناكة" باسم الدين في الذهن بالمرة، ولكننا حين نكتب في الدين نكتب لأنفسنا لعل شيئاً ممّا كتبناه يرسخ في النفس فيقوِّيها على الهداية ويلزمها الاستقامة. وهذا هو القصد حتى إذا صادف توافقاً مع أحد فمسّ كلامنا فؤاده؛ فبها ونعمت، وإنْ لم يكن فالله من وراء القصد، وهو خير شاهد وخير معين.
قلت: وما الذي تراه من غرور بالعلم والعبادة، ومن تعالى بما ليس في الإنسان من حقائق بل متاجرة بالأكاذيب، ألم يكن الأمر بحاجة إلى تطهير؟ ثم استطرد ليصف مهمة التجديد التي يعتبرها في زماننا هذا مهمة شاقة، بل مستحيلة فرددت عليه قائلاً:
مهمة شاقة نعم. أمّا أن تكون مستحيلة أو شبه مستحيلة فلا؛ لأنها لو كانت مستحيلة لما وجد مجددون ومصلحون، وما تقدًمت الإنسانية قيد أنملة. الأصل يا صديقي هو الإمكان لا الاستحالة، وبالإمكان يقدم التفاؤل البناء على الهدم والإنكار، وليس التجديد هدماً ولا إنكاراً. وإنما تفاؤل بمستقبل إنساني أفضل وأرقى في ظل قيم جديدة تتجاوز وتستنير.
فالإنسان ليس من طبيعته الميل إلى التقوقع والخلود إلى الراحة، وإلا لما عمّر الأرض وصعد القمر وتحالف مع الشيطان، فهو ابن النضال مجبول على العزم والمضاء. غير أن التجديد في هذه المنطقة مشروط بشروط تستوفى في المجدد وفق تقدير شروط الاجتهاد، لكن البصيرة يا صديقي كالبصر أقل هفافة عابرة تؤثر فيها. والدين قائم على البصيرة ومن فقدها فقد الدعوة إلى الله على بصيرة، وفقد تباعاً التجديد في أسلوب الخطاب، ولم يعالج العارض الذي عرض لبصره حتى أعماه. خذ مثلا صارخاً على ما عساك هربت من التعليق عليه.
عندما اجتمع جلال الدين الرومي بـ شمس تبريزي للوهلة الأولى، كان الرومي ماسكاً بيده كتاباً، فأخذ التبريزي الكتاب من الرومي ومسكه بالمقلوب، وأخذ يتطلع فيه ثم رماه في النهر، فجن جنون الرومي وقال له: لماذا ألقيته في النهر، إنه علم، ولا توجد نسخة أخرى من الكتاب. غير أن التبريزي لم يكترث لحديث الرومي وقال: أتريد الكتاب؟ فقال الرومي: نعم فمد التبريزي يده في الماء وأخرج الكتاب سليماً، فتعجب الرومي، ولم يكد التبريزي يراه على هذا الحال حتى قال: أطلب علماً لا يمحوه الماء، علماً يثبت في القلب؛ فذهل الرومي وقال: أتبعك على أن تعلمني، فقال التبريزي: إنك لن تستطيع معي صبراً، قال الرومي: بل أصبر.
رد التبريزي: أريدك أن تأخذ جُرّة من الخمر وتطوف في المدينة لتبيعه، فقال الرومي: كيف أعمل هذا المحرم؟ فقال: كما تشاء. قال الرومي: أطلب مني شيئاً آخر فقال: لا أريد غير هذا.
ذهب الرومي ومكث الليل يفكر في الأمر ثم وافق. فأخذ جرة الخمر بملابسه وعمامته وهو يجوب الشوارع يبيع الناس الخمر، فقال الناس: جُن الرجل، وقال أناس آخرين: لقد فضحه الله، وهذه حقيقته. فعاد منكسراً ذليلاً إلى التبريزي وهو يقول: لم يشترِ مني أحد. قال التبريزي: هذا يكفي ألقِ ثيابك وأغسلها، وتطهر. فقال الرومي: ثم ماذا ؟ فقال لا شئ، بل أنت الآن إنسان عادي كنبتةٍ صغيرة، لقد كان على رأسك صخرة كبيرة من غرور عمامتك، وها قد كسرتها.
إنّما أردت أن أزيل عنك هذا العجب والشعور الدائم بالأنا؛ لترجع الى حقيقتك بلا عنوان ولا ألقاب، ترجع كما أنت وتنزع عن روحك كل ما يكدرها، وأن تذهب هذه الهيبة المصطنعة لرجال الدين على أنهم مقدّسون في أعين الناس.
***
بقلم: د. مجدي إبراهيم

عند تعريفنا الحضارة اي حضارة الانسان، ‏ سوف يبرز مفهوم المنتج، او التميز ولذلك فإن الحضارة توصف بانها ما يميز أمة عن امة أو شعب عن شعب في ‏مفهومين الأول هو نتاجهم في الجانب النظري والآخر هو الجانب التطبيقي أو العمل أو المادي، فهو تميز بشكل عام في جوانب العادات والتقاليد، او في الاداب والفنون والعلوم والعمران، والسياسة والاقتصاد، وقد تأتي كلمة “حضارة” من الجذر العربي “حضر”، مما يشير إلى التحضر والاستقرار في مكان معين، خلافاً للترحال أو البداوة.
وتتميز الحضارات بعناصر مثل النظام الاجتماعي، الأنظمة القانونية، التعليم، العمارة، اللغة، والأديان، التدوين، الادارة.
والحضارات عديدة ومتنوعة، منها الاصلية ومنها المصنعة التي هي اقرب الى النمو الورمي منها الى تكون طبيعي لنشاة متطورة، ومن الحضارات حضارة الظل فهي تعتاش على منتجات او مخرجات عباقرة الشعوب الاخرى، وهذه حضارة الفلاش او السرقة مع تاكيد لقوتها وعلومها، اي اننا نلحظ تطورها العمراني والدعم الفني، والنشاط الادبي، ولكنها تبدو اشبه بمجموعة من التائهين السارقين حصلوا على مغانم فاسسوا المشاريع العالمية، لاستقطاب اهل الادب والفن.
ويتوجب علي هنا العروج وتحليل حضارة الشيطان، وهو امر كتبت عنه مقالا تحت عنوان الموجات الحضارية السالبة، واستعرت في وقتها مصطلح توفلر لاقوم بنحت مفهوم الحضارة السالبة، والتي وزعتها على مراحل بدات باعتراض ابليس ثم النظرة ثم المراحل المتوالية حتى وصلنا الى الحروب العالمية التي تاسست فيها العلوم وخلع المجتمع الغربي الحياء، ومارس الحرية بابشع صورها.
وما يمكن تسميته بحضارة الشيطان تعني ان الانسان الذي يؤسس للعلوم او الاداب او الفنون او الادارة والاقتصاد والسياسة او العادات والتقاليد، وفق منظور عقلاني ومستقل عن الحث الشيطاني فيمكن وصفها بحضارة الانسان، اما صبغة الفعل او المنتج الانساني وتغليفه بغرض او قصد يتعلق بحرف الانسان عن القواعد الانسانية الصحيحة او الطبيعية او الفطرية او المنطقية والعقلانية، فان هذا منتج او سلوك، يدرج ضمن مفهوم حضارة الشيطان، ونحن هنا لسنا بمعرض الحديث عن مدينة الله او الانسان، بل تشخيص الفعل الانساني على مر التاريخ وتمييزه فيما اذا كانت بوصلته او غايته هي السير بمنهج الشيطان ام في منهج الانسانية.
لكن كيف نحدد هذه الحضارة او تلك من زاوية تبعيتها للانسان او الشيطان؟ اعتقد بان الحوادث التاريخية التي وصفت في يوم ما كانها قطع من الثلج تسير في محيط التاريخ والزمن، فان هذه الحوادث، تعطيك دليلا لا مجال للشك به، من تدخل شيطاني، يتصل من دون شك بالسرديات المقدسة التي اشارت الى ان الشيطان كان لديه فعلا قصديا وغائيا موجها الى منظومة الانساني لتغير خارطة وجودهم وبقائهم واسس عملهم، وحتى هيئاتهم واشكالهم (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ وَ عَنْ أَيْمانِهِمْ وَ عَنْشَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ)وقال تعالى (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَ لَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّـهِ وَ مَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّـهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً).
وخذ امثلة للحوادث في التاريخ تجد ان يد الاختلاف والعبث والتغيير نحو القبح والفساد حاضرة، ومنها الحروب وقتل الابرياء والمثلية، والبغاء، والدكتاتوريات، وقد تتضح لك صورة ان هذه الافعال هي نتاج انساني، وبالتالي فهي حضارة الانسان، الا ان الحد الفاصل بين فعل وفعل هو التدخل الالهامي الخارجي، وهو الايحاء، وللشيطان خصيصة الايحاء الى اوليائه، واخطر اساليب هذا الايحاء هو الجماعي والمدعوم من السلطة الغاشمة او العالمية.
وحتى التكنلوجيا يمكن تمييزها على هذا الاساس، فالالة الذكية والذكاء الاصطناعي اليوم قد يكون حضارة انسانية، لكن استثمار البعض منه في القصدية الشيطانية لغرض الهاء المجتمعات وتمرير الاهداف المختلفة، يجعله سكينا بحدين، فقد تنتمي للبشر او تاتمر بحضارة الشيطان.
اعتقد ان ما يميز حضارة الشيطان، انها كيان طولي في التاريخ، وليست كيانا عرضيا كما هي حضارة الانسان،فهذا المخلوق الذي رافق البشرية بوصفه عامل الاعاقة الاقوى والاكثر اجتهادا بتنفيذ منهجه، وبوصفه الثنائية التي ترافق نسخة الانسان الذي اعترض عليه في اول بدايات البشرية، تلك الثنائية التي جعلت الشيطان ايضا احد علل وجودنا، والا فان عدم وجود الشيطان وحضارته سيحيلنا الى مجموعة نساك وزهاد ومتالهين، اقول ان هذا الشر المضاف لوجودنا او الذي اضفناه نحن بفعل مخالفة ابونا ادم للوصية الالهية يمثل محرك تاريخ حضارته التي تتداخل بشكلها الطولي مع الجانب العرضي الذي يؤسسه الانسان بين فترة واخرى، وقد نقول بان ما فعله هولاكو وهتلر ومن تصادم معه وصدام وقتلة الاطفال والانبياء، وكل طغاة العالم هو فعل ينتمي الى الحضارة السالبة او حضارة الشيطان، وهو كلام منطقي لان غاية ونتائج هذه الافعال تتلائم وغاية حضارة الشيطان.
فكل مخرجات الفعل الانساني، لم تؤسس على اساس فائدة وتهذيب او تطوير او تنمية الجانب الاخلاقي والجمالي او المعرفة لديه، لاجل محبة المعرفة والاخلاق والجمال او العدل، بل لاجل تخريب جزئي للغريم الانساني على مر التاريخ، وبتعبير شعبي دارج جدا فان لدى الشيطان (عتبة) وهي تعني الثار الذي جرح كبرياء وجوده بتفضيل الطين على النار، وكان النار تعني النور، وهو وهم معرفي ووجودي واستراتيجي لدى منظومة حضارة الشيطان، وكل تمييز لفرد عن فرد اخر باي مواصفات يتمتع بها، انما هي مسالة تستند الى محاججة ابليس، القائل انا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين، وهذه صورة تستخدم اليوم في المجتمع بشكل مخيف، سيما مجتمعنا العشائري، الذي يميز الفرد عن عن الاخر، بالمواصفات الجينية او الحسبية العالية، في حين ان الية الاسلام هي التقوى.
ان ترفع وطغيان الدول العظمى اليوم ينتمي الى حضارة الشيطان الذي يغير العلاقات الاحتماعية، والتقاليد، والغرائز، ويشتري الدول ويبيعها، ويقوم بهيكلة الاوطان، ويغير الرؤساء، ويسطو على موارد الدول الفقيرة، ويخلق الحروب ويشرع القوانين لتخريب الخلقة، وتغيير حتى طعوم الاشياء وجينات البذور، والتلاعب بالانواء والزلازل والامطار والبيئة،ان كل ذلك وان قام به الانسان فانه فعل ينسجم وحضارة الشيطان، اما الافعال التي يقوم بها الانسان وتسمى حضارة الانسان فهي تشمل كل من يقدم خدمة فعلية من دون قصد تخريبي الى المجتمع.
يتبقى لي الحديث في مناسبة اخرى عن خضارة الله، وهذا يشمل الفعل الانساني الجيد الذي امر به الله، وقاد الى بناء جيد، وطقوس وتقاليد وعلوم واداب وفنون جيدة.
***
ا. د. رحيم محمد الساعدي

 

بين الفينة والآخرى تخرج علينا كتابات تتناول فيها أحداث وتصورات حضارات التاريخ القديم عن خلق الإنسان وتكوين العالم وما جرى فيه من أحداث، متناولة ما له علاقة بالأديان السماوية، في محاولة للربط بين الحضارات القديمة من سومرية، وبابلية، ومصرية قديمة، أضافة لحضارات أخرى هندية وفارسية ويونانية، ناسبين جل ماتحمله الأديان السماوية من أحداث تاريخية الى هذه الحضارات كأساس، وباكورة لكل هذه التصورات والأفكار والأحداث، وإن الأديان السماوية، ماهي إلا صدى وأستنساخات لها، ولكن بطبعات منقحة وَمحورة لها، أضافها محرريها من كتاب وأنبياء، وإن هناك متوازيات بينها وبين ما جاء في ألواح هذه الحضارات، وقد برز كتاب قديرون لا نشك في روحهم العلمية أمثال الباحث فراس السواح، والأستاذ محمد القلاوي، ولكن لا نخفي سر بأن هناك من يسعى من خلال مايلتقطه من غيره كوسيلة في الصراع الآيديولوجي ضد الأديان، كما هناك مراكز تسعى للتشويش الفكري لأغراض ونوايا ذات بُعد أستعماري خبيث، ولكن ما نود الأشارة أليه، هو ما أنتجت أيدي الباحثين الجادين الذين نشد على أيديهم بما قدموه من بحوث علمية رصينة، مادامت الغاية الحقيقة، والهدف سامي، ولكن الى جانب هؤلاء الباحثين الجادين، هناك كتاب ينحون منحى ترقيعي، مغموسه بنفس آيديولوجي كما في كتابات البعض . من خلال ما مررت به من هذه البحوث لمست بها حساً علمياً خالصاً، ولكن كُتبت بروح أقرب للأطلاق، وكأنها حقائق نهائية، وهذا ما يُحيد عما يحملونه هؤلاء الكتاب من نمط فكري حداثي، وهو نمط يقول بنسبة الفهم، والتفسير، وعدم القول بالحقيقة المطلقة، كما إن مايقدمونه من أفكار، فهي لا تعدو من أنها من مصادر غير مكتملة المحتوى، ففيها الكثير من الحلقات المفقودة، بالأضافة الى أمكانية ضعف الترجمة للغات مندثرة، مما يعرض ترجمتها الى خلل اكيد، كما أشير الى أن ما نُقل لا يمثل إلا الجزء اليسير من التراث الإنساني القديم، ودليل ذلك هو الأكتشافات المستمرة للتراث الإنساني ليومنا هذا، وهناك من الأقوال مايُشير الى إن المستكشف لا يمثل حتى ١٥% من الموجود الحقيقي، وهناك حقيقة تَعرض الكثير من هذه البحوث للأهتزاز والشك، وهو إن هذه التصورات نقلت لنا معلومات في أقصاه هو النصف الأول من الألف الثالث قبل الميلاد، وهو تاريخ ليس بالبعيد مقارنة مع تاريخ وجود الإنسان على هذه الأرض، سما وأن هناك تاريخ طويل للإنسان لم تكن فيه كتابة، وهو تاريخ أطول بكثير لزمن مابعد الكتابة، وهذا ما يجعلنا نذهب إلى أمكانية وجود أديان سماوية أقدم من هذه الحضارات التي جاءت بمدونات مكتوبة، ولاشك قد تكون ما نُقل من قصص من هذه الحضارات راجع بالأصل لما جاءت به هذه الأديان السماوية التي سبقت هذه الحضارات، وبما إن المنقول جاء بطريقة شفوية، وعبر آلاف السنين، فلاشك قد أدخلت الكثير من الأساطير والتخيلات الشعبية إليها مما جعلها بالصورة التي حصلنا عليها من خلال كتاباتهم . أن الدافع لما أكتبه في هذا المقال هو خطورة ما يتناول البعض لهذه البحوث وكأنها نتاج ذو نصوص نهائية، وأنها الحقيقة المطلقة، في حين عند التدقيق بها، تجد فيها الكثير من الظن، والترجيحات، وهي أمور لا تغني عن الحق شيء، ولا تعطي طابعاً يقينياً خالصاً، وهناك الكثير ما يمكن أن يأتينا به الزمن، وما تكتشفه التنقيبات الأركيولوجية المستمرة، ولكن ما أحببت أن أُشير إلية هو خطورة طريقة التسويق التي تستخدمها بعض المراكز ذات الوجودات المتخفية، والأهداف المشبوه للتموية والتشوية على الفكر العام، واستخدامها لغايات خطيرة، لذا رأينا ضرورة التنبيه، والوقوف على هذه الأبحاث بنفس علمي حقيقي، وأن لا نكون ضحية لبعض المدارس الإستشراقية العنصرية، الممهدة لطمس حضارتنا، وتمزيق هويتنا . أن خلاصة ما وددت القول حوله، إن ما جاءت به الحضارات السومرية والبابلية، ومحرري التوراة، والقرآن الكريم، هي حقائق حَدثت في الواقع في الزمن البعيد جداً، زمن لم يكن للكتابة وجود، ولكن مدوني الحضارات القديمة حين أكتشفوا الكتابة دونوا ما تلقوه شفاهةً، والذي جاءهم عبر آلاف ولعل ملايين السنين، ومن المعروف كم سيكون مقدار التغيير الذي يقع على قصة حدثت عبر هذا العدد الهائل من السنين، وما يلعبه المخيال الشعبي من أضافات لها، وعندما جاء كتاب سماوي كالقرآن الكريم، لاشك سيكون هناك بعض المشتركات لحقائق وقعت أصلاً، ولكن بالتأكيد سيختلف معهم بالبعض نتيجة لما طرأ عليها من تغيرات وتحولات ذكرنا أسبابها، لذا لا أتفق مع ما زُعم من تناص جاء به القرآن ممن سبقه من حضارات قديمة، ومدوني العهد القديم، ولكن لا أستبعد، إن هناك تناص حدث بين الحضارات القديمة والعهد القديم، وذلك بسبب واضح، إن العهد القديم كُتب بأيدي محررين بعد مضي فترة طويلة من موت النبي موسى عليه السلام، وخاصة بعد العودة من السبي البابلي، وهذه الفترة الطويلة بين موت موسى وكتابات العهد القديم، كفيلة بأحدث تغيرات كبيرة وهائلة، وخاصةً بعد النهل والتلاقح مع ثقافات وحضارات أخرى، ولكن ما حدث للعهد القديم غير ملزم، ولايمكن أسقاطه على القرآن الكريم، وذلك لسبب غاية بالوجاهة، وهو إن القرآن كُتب في زمن وجود النبي (ص)، ولم تكن هناك قطيعة زمنية بينه وبين كتابة النص القرآني، كما أني أنفي المزاعم التي أشار بها البعض وخاصة الأستاذ محمد القلاوي بأن النبي محمد (ص) لم يكن بعيداً عن ما جاء به العهد القديم من أخبار وروايات، وإنه كان على تماس مع اليهود في الزمن الذي عاش فيه، كما إنه تلقى الكثير من موروث بيئته العربية في العصر الجاهلي، وهناك مايدحض ذلك هو عدم تمكن النبي محمد (ص) من القراءة والكتابة لكي ينهل من العهد القديم، وكذلك لم يُعرف من سيرته إنه كان على تواصل مع يهود ونصارى ذلك الزمن، بل رجل كان راعي للغنم، وعمل بالتجارة في مقتبل عمره وهذه النوع من العمل لا يتيح له كثافة التواصل مع الآخرين، ولم توفر له درجة عالية من الأستقرار، لكي تسمح له بالأطلاع، والفهم العميق لما جاء في مدونات الحضارات، والأديان السماوية، كما من المعلوم إن النبي (ص) يذهب إلى عزلته في غار حراء، كمكان للتفكير والتأمل، لذلك ينبغي التنوية الى عدم الخلط بين ما مر على اللوائح المكتشفه للحضارات القديمة ومدونات العهد القديم، وبين ما جاء في القرآن الكريم للسبب التي ذكرناها أعلاه.
***
أياد الزهيري

 

ظاهرة فوز ترامب في العام 2016 على منافسته الديمقراطية (هيلاري كلينتون) هزّت العالم وصدمته في حينها.. بل ان بعضهم وصفها بالزلزال. وظاهرة فوزه على منافسته الديمقراطية الثانية (كمالا هاريس) في 2024 كان زلزالا اعنف، والسبب الرئيس يعود الى قدرته على مواجهة التحديات والانطباع الذي احدثته شخصية ترامب حدّ وصفه بالمجنون، وتوقعهم لخطر قد يوازي خطر النازية بصفته سيكون رئيس أقوى دولة في العالم.
وللتوثيق، فاننا كتبنا في 6 /11/ 2016 مقالة بعنوان من سيفوز (هيلاري ام ترامب.. تحليل سيكولوجي) فاجأت المحللين السياسيين الأمريكان والأطباء النفسيين الذين وصفوا فوز ترامب بالمستحيل.. فيما خالفناهم توقعهم مستندين في تحليلنا على قراءة سيكولوجية للمناظرات بين الديمقراطية هيلاري كلينتون والجمهوري دونالد ترامب.. وقد وضع غوغل صورتنا بين صورتين لترامب، وعلّق كاتب عربي في الحوار المتمدن بقوله:
(لو ان الدراستين العلميتين اللتين توقعتا فوز اوباما وفوز ترامب كتبهما سيكولوجست امريكي او بريطاني، لظهر مانشيت في الصحف والمواقع يقول: سيكولوجست اميركي/بريطاني يتفوق على المحللين السياسيين في تحليله السكولوجي بفوز ترامب كما تفوق عليهم قبلها في تحليله السيكولوجي بفوز اوباما!.. فلماذا لا يحصل هذا لعراقي حقق ذلك؟!)
لم يكن توقعنا بفوز ترامب (2016) حدسا، بل كان متابعة لادائه وأداء منافسته هيلاري في حملاتهم الانتخابية.. وكتبنا بالنص:
(ان احد العوامل الاساسية في نجاح المرشح في انتخابات الرئاسة الأمريكية هو تمتعه بـ(كاريزما) تدغدغ مشاعر الناخب الأمريكي التي لعبت هوليود والثقافة الامريكية وانتخابات اربعة واربعين رئيسا على ترسيخها في اللاوعي الجمعي الامريكي.وتقوم هذه الكاريزما على صفات الابهار والذكاء والنباهة والمظهر وقوة الشخصية والحذلقة الفكرية واللغة التجديفية Profanity).. ) والاتيان بافكار مدهشة تقوم على فكرة (التغيير) التي عزف عليها اوباما وجاءت به الى البيت الأبيض، ويميل هذا المؤشر الى ان يكون لصالح ترامب.فبرغم ان الرجل بدا في ايام حملته الانتخابية الأولى (سخيفا) ملفّق اكاذيب، عنصريا، مريبا، محرّضا على العنف وداعية حرب، مثيرا لانتقاد حتى حزبه، وغامضا لا يعرف من يستمع اليه ما الذي يريده بالضبط.. وبرغم تعرّضه الى حملة تشهير لفضائح جنسية جعلت الفارق بينه وهيلاري كبيرا، الا انه استطاع ببراعة ان يقصي اولا خصومه الجمهوريين من حلبة المنافسة على الانتخابات الرئاسية في السباق الرئاسي، وأن يتقدم ثانيا على هيلاري في الاسابيع الأخيرة.. ما يعني ان ترامب ضمن أهم عامل سيكولوجي في الفوز هو (كاريزما) شخصيته.. التي بها ايضا فاز على منافسته الجديدة كمالا هاريس.
أخطر ما في شخصية ترامب
مع ان ترامب يعد متطرفا، وانه " يعتنق صورة سلبية عن الأسلام والمسلمين" وفقا لصحيفة نيويورك تايمز، فأن أخطر ما فيه انه مصاب بـ( تضخم الأنا) للأسباب الآتية:
يعني (الأنا).. الفكرة او الصورة التي يحملها الفرد عن نفسه، وتكون على ثلاثة انماط: موضوعية، تكون فيها احكام الفرد عن نفسه وقدراته مطابقة لما يمتلكه فعلا.. وهذا ما يتصف به الأفراد الذين يتمتعون بالصحة النفسية. وتبخيسية، يتم فيها الحط من قيمة الفرد وقدراته ويصل فيها الحال الى ان يصف نفسه بأنه (تافه) في الأكتئاب الحاد.وتضخيمية، يحصل فيها ان الفرد ينظر الى نفسه بانه يمتلك قدرات استثنائية، ويعتبر نفسه بأنه (فلتة زمانه) ان وصل مرحلة النرجسية المرضية.
والغريب في شخصية " الأنا المتضخم " إنها تجمع صفات في " توليفة " من ثلاث شخصيات مختلفة هي: النرجسية والتسلطية والاحتوائية . فهي تأخذ من الشخصية النرجسية حاجتها القسرية إلى الإعجاب.. أي إنها تريد من الآخرين أن يعجبوا بها بالصورة التي هي تريدها، وأن لا يتوقفوا عن المديح والإطراء، فحالها في الإعجاب كحال جهنم، يسألونها: هل امتلئت ؟ تقول: هل من مزيد !. وتأخذ أيضا منها شعار النرجسي: " أنا مميز "، وخاصيتها الأساسية المتمثلة في الإحساس بتفخيم أهمية الذات، والتظاهر بامتلاك قدرات فريدة، وان على الآخرين أن يتعاملوا معه على أساس أنه مميز. وتأخذ من الشخصية التسلطية، انفعالاتها الغاضبة واندفاعيتها، وتصنيفها الناس بثنائيات، في مقدمتها ثنائية الأصدقاء مقابل الأعداء، أي من كان معي فهو صديقي وما عداه فهو عدّوي. وتأخذ من الشخصية الاحتوائية السعي إلى السيطرة على الآخرين واحتواء وجودهم المعنوي وأفكارهم، سواء بالإبهار أو بأساليب درامية أو التوائية.
وواضح لدينا نحن المهتمين بدراسة الشخصية ان ترامب لديه تضخم أنا عال، ولكنه ليس من النوع المرضي او الذي يدّعيه الفرد بل ناجم عن انجازات استثنائية في ميدان المال والشركات والعقارات وناطحات السحاب.. اوصلته الى ان يكون مليارديرا مميزا واستثنائيا فعلا.وبالتعبير العراقي فان الرجل حقق ما عجز عنه آخرون (بزوده) وليس ادعاءا او هبة من آخرين.فضلا عن ذلك فأنه يمتلك جسما رياضيا بمواصفات (البطل) الأمريكي في السينما الأمريكية، ويتصرف بطريقة البطل الخارق الهوليودي!
والخطر في المصاب بتضخم الأنا يتعلق بـ(المعتقد) الذي يعني الفكرة التي يكّونها بخصوص شيء او موضوع ما اذا كانت عقلانية ام غير عقلانية، واقعية ام وهما.ولأنه يتصف بالعناد فانه يرى في معتقداته غير العقلانية وافكاره غير الواقعية بأنها حقائق مطلقة.ومن هنا كان خوف العالم.. ان يتخذ ترامب قرارات غير عقلانية ويجبر الآخرين على تنفيذها.ومثل هذه الأوهام لها سوابق.. فقد اعتقد صدام حسين بامكانية توحيد الدول العربية في دولة واحدة يكون هو رئيسها، واعتقد هتلر بأنه يمكن السيطرة على العالم، ومن هنا خشي الناس ان العالم سيدفع اضعاف ما دفعه في حرب الخليج والحرب العالمية الثانية، ان عمد ترامب الى تنفيذ أخطر اوهامه!
والأشكالية، ان القائد المصاب بتضخم الآنا يكون مستبدا برأيه، وستثبت الأيام القادمة ما سيفعله بخصوص وعده بانه سيوقف الحروب في العالم (فلسطين وأوكرانيا) تحديدا .واذا ما اضفنا لها أن مزاج النرجسي لا يراهن عليه، وان من يحاول عقلنة ترامب لم تلده أمه بعد!، وانه لن يكترث حتى بالمؤسسة الأمريكية، وانه يريد تحقيق شعاره (America Great Again Make)فأننا سنكون بين خيارين: اما ان يطيح تضخم الأنا والنرجسية بصاحبهما.. ترامب، او ان يطيحا بعالم ما كان في حساباته ان يحكمه (مجنون)!.
***
أ. د. قاسم حسين صالح
مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

 

التجربة الالمانية 

بعد ان تجاوزت ازمات الماضي، برزت المانيا كقوة عالمية مؤثرة واثبتت مكانتها كقوة عالمية لا تضاهى. ففي هذا البلد العريق، حيث تزدهر الصناعة والابتكار، يعتبر التعليم ركيزة أساسية لبناء مستقبل مزدهر. فكيف تمكنت المانيا من تحقيق هذا التوازن بين القوة الاقتصادية والتميز التعليمي؟ وما هي العوامل التي جعلت من نظامها التعليمي نموذجا يحتذى به عالميا؟ دعونا نستكشف معا هذا النظام الفريد الذي يجمع بين الجودة والابتكار، ونكتشف كيف يوفر فرصا لا حصر لها للطلاب من جميع أنحاء العالم، ويغذي العقول المبدعة التي تقود عجلة التقدم.
يشتهر النظام التعليمي الألماني بجودته العالية وتنظيمه، ويشمل ذلك بشكل خاص المرحلتين الابتدائية والثانوية. تتميز هاتان المرحلتان بالعديد من الميزات التي تجعلها نموذجا يحتذى به عالميا:
التركيز على الجودة:
يتميز التعليم الألماني بجودته العالية التي لا تضاهى، ويرجع ذلك إلى معايير صارمة ومناهج شاملة تخضع لمراجعة مستمرة لضمان مواكبتها لأحدث التطورات، كما يعتمد على معلمون مؤهلون ومحترفون يخضعون لتدريب مكثف وتقييم دوري، ويتسم بتقييم أداء الطلاب بشكل مستمر من خلال اختبارات وواجبات ومشاريع، مع التركيز على التعلم العملي من خلال الزيارات الميدانية والتدريب العملي في الشركات والمؤسسات المختلفة، ويشجع على الاستقلالية والمسؤولية لدى الطلاب، كما يتميز بالتعاون الوثيق بين المدارس والجامعات، ويستقبل طلاباً من مختلف الجنسيات والثقافات مما يخلق بيئة تعليمية غنية ومتنوعة، وتشمل الأمثلة على التعليمات التي تميز التعليم الألماني مشاريع البحث والرحلات المدرسية والبرامج التبادلية والأنشطة اللاصفية، وباختصار يركز التعليم الألماني على تنمية الفرد ككل وليس فقط على الجانب الأكاديمي، فهو يهدف إلى اعداد طلاب قادرين على التفكير النقدي والابداعي وحل المشكلات والعمل بشكل جماعي مما يجعلهم اعضاء فاعلين في المجتمع.
التنوع:
بعد اتمام المرحلة الابتدائية التي تستمر أربع سنوات، يتم توجيه الطلاب الى أنواع مختلفة من المدارس بناءً على عدة عوامل، من بينها أدائهم الأكاديمي وتوصيات المعلمين ورغباتهم وأهدافهم المستقبلية. هذا التقسيم يضمن أن كل طالب يحصل على التعليم المناسب لقدراته وميوله، ويتضمن خمسة مسارات:
Gymnasium: يمثل المسار الأكاديمي المتقدم، ويعد الطلاب لدخول الجامعات
Realschule: يوفر تعليماً عملياً اكاديمياً، ويؤهل الطلاب للالتحاق بالتعليم المهني او مواصلة الدراسة في مدارس ثانوية عليا.
Hauptschule: يركز على التعليم المهني والتطبيقي، ويعد الطلاب لسوق العمل مباشرة.
Gesamtschule: تجمع بين المميزات الثلاثة للمدارس السابقة، وتتيح للطلاب المرونة في تغيير مسارهم الدراسي.
Sonderschule: تقدم برامج تعليمية مصممة خصيصا للطلاب ذوي الاحتياجات التعليمية الخاصة.
هذا التنوع الواسع يوفر للطلاب مجموعة واسعة من الخيارات، بدءا من المناهج الدراسية الشاملة التي تغطي مختلف المجالات كالعلوم والتكنولوجيا والفنون والانسانيات، وصولا الى الأنشطة اللاصفية المتنوعة كالرياضة والفنون والنوادي والرحلات المدرسية. هذا التنوع يتعدى المناهج الدراسية ليصل الى التعليم المهني الذي يوفر فرصاً واسعة للتعلم اثناء العمل والتدريب المهني، كما يقدم النظام الألماني مجموعة متنوعة من المدارس الثانوية العليا المتخصصة في مجالات دراسية محددة. هذا التنوع يزيد من فرص نجاح الطلاب بتوفير مسارات تعليمية تناسب قدراتهم واهتماماتهم، وتساهم في تطوير مجموعة واسعة من المهارات الأكاديمية والاجتماعية والعملية، مما يعدهم لسوق العمل ويساهم في تعزيز التنوع الثقافي والتفاهم المتبادل. باختصار، يعتبر التنوع في التعليم الألماني احد اهم العوامل التي تساهم في تحقيق اقصى استفادة ممكنة لكل طالب.
العمق:
يتميز النظام التعليمي الألماني بعمق يركز على فهم المفاهيم بدلا من الحفظ الببغاوي للمعلومات. هذا النهج يشجع الطلاب على التفكير النقدي وحل المشكلات، ويظهر جلياً في مختلف المواد الدراسية. فبدلا من حصر الطلاب في حفظ التواريخ والأحداث الجافة، كما هو الحال في العديد من الأنظمة التعليمية التقليدية، يشجع النظام التعليمي الألماني على تبني نهج تحليلي عميق لمادة التاريخ. ففي دراسة الحرب العالمية الثانية، على سبيل المثال، لا يقتصر الأمر على حفظ تواريخ المعارك وأسماء القادة، بل يتعدى ذلك إلى تشجيع الطلاب على استقصاء الأسباب الجذرية التي ادت إلى اندلاع الحرب، ودراسة الآثار الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بعيدة المدى التي نتجت عنها. يتم ذلك من خلال طرح أسئلة مفتوحة تحفز التفكير النقدي، مثل: ما هي العوامل التي ساهمت في صعود النازية؟ كيف أثرت الحرب على حياة الناس العاديين؟ وما هي الدروس المستفادة من هذه الصراع العالمي؟ هذا النهج يساعد الطلاب على فهم السياق التاريخي بشكل أعمق، ويربط بين الأحداث التاريخية بالواقع المعاصر، مما يجعلهم مواطنين أكثر وعياً وقدرة على تحليل القضايا المعقدة.
وفي العلوم، يتم تشجيع الطلاب على إجراء التجارب والاستقصاء، وفي الرياضيات على حل المسائل التطبيقية، وفي اللغات على تحليل النصوص ومناقشة القضايا المعاصرة. هذا التنوع في النهج يضمن حصول الطلاب على تعليم شامل يعزز قدراتهم على التعامل مع التحديات المستقبلية والتفكير النقدي والقدرة على حل المشكلات ويجعل الخريجين أكثر استقلالية وقدرة على الابتكار، ليساهموا بفاعلية في تقدم مجتمعهم.
التطبيق العملي:
يربط التعليم الألماني النظرية بالواقع العملي بشكل وثيق، مما يشجع الطلاب على تطبيق ما تعلموه في حياتهم اليومية. يتم تحقيق ذلك من خلال مجموعة متنوعة من الأنشطة، مثل الرحلات المدرسية إلى المتاحف والشركات والمشاريع البحثية العملية والتدريب المهني في الشركات والبرامج التطوعية التي تساهم في خدمة المجتمع. هذا النهج لا يقتصر على تعزيز الفهم النظري فحسب، بل يساهم أيضا في تطوير مهارات حيوية مثل حل المشكلات والتفكير النقدي والعمل الجماعي. علاوة على ذلك، يزيد هذا النوع من التعلم من دافعية الطلاب ويجهزهم بشكل افضل لسوق العمل، حيث يكتسبون الخبرات والمعارف اللازمة للنجاح في حياتهم المهنية.
التعاون بين المدرسة والأسرة:
يعتبر التعاون بين المدرسة والأسرة في النظام التعليمي الألماني حجر الزاوية في بناء شخصية متكاملة للطالب وتحقيق نجاحه الأكاديمي. فمن خلال شراكة استراتيجية مبنية على الاحترام المتبادل والتواصل الفعال، يساهم كلا الطرفين في خلق بيئة تعليمية داعمة تحفز الطالب على التعلم وتشجعه على تحقيق أهدافه. وتتنوع أشكال هذا التعاون لتشمل الاجتماعات الدورية وورش العمل وبرامج التطوع والمشاركة في الأنشطة المدرسية، مما يعزز من بناء علاقة قوية مبنية على الثقة بين المدرسة والأسرة. ورغم وجود بعض التحديات مثل اختلافات في وجهات النظر وقلة الوقت، الا ان النجاح في تجاوز هذه التحديات يكمن في وضع اهداف مشتركة والمرونة في التعامل مع المتغيرات. وبالتالي، فأن التعاون بين المدرسة والأسرة هو استثمار في مستقبل الطالب والمجتمع.
الاهتمام بالعلوم والتكنولوجيا:
يشتهر النظام التعليمي الألماني بتركيزه القوي على العلوم والتكنولوجيا، حيث يتم دمجها بشكل مكثف في المناهج الدراسية منذ المراحل المبكرة، مما يهدف الى تجهيز الطلاب لسوق عمل يتطلب مهارات تقنية عالية ويعزز قدرتهم على الابتكار والابداع. ولتحقيق ذلك، توفر المدارس الألمانية مختبرات علمية متطورة، وتشجع الطلاب على تعلم البرمجة وتطوير التطبيقات وتنظم مسابقات علمية وتشجع الزيارات الميدانية للشركات وتعزز التعاون مع الجامعات والمؤسسات البحثية. هذا النهج يساهم في تحسين جودة التعليم وزيادة اهتمام الطلاب بالدراسة، بالإضافة الى تطوير مهارات حياتية مهمة وتهيئة الطلاب لسوق العمل، رغم وجود بعض التحديات مثل نقص المعلمين المؤهلين وتكاليف التجهيزات. وبالتالي، فإن الاهتمام بالعلوم والتكنولوجيا في التعليم الألماني يعتبر استثمار في مستقبل الأجيال القادمة، حيث يساهم في بناء اقتصاد قوي ومواكبة التطورات التكنولوجية المتسارعة. ويلعب نظام التعليم المزدوج بين المدرسة والصناعة دوراً حيوياً في دعم الاقتصاد الألماني. فهو يضمن توفير القوى العاملة الماهرة التي تحتاجها الشركات الألمانية، ويساهم في تعزيز القدرة التنافسية للاقتصاد الألماني على الصعيد العالمي. بالاضافة الى ذلك، فإن هذا النظام يساهم في تطوير منتجات وخدمات مبتكرة، مما يدفع عجلة التنمية الاقتصادية.
سر التفوق الالماني:
بفضل المعلمين المؤهلين والكفاءة العالية، الذين يقدمون تعليماً مخصباً بالاهتمام الفردي بالطالب، وبيئة تعليمية منظمة وهادئة تحفز على التركيز والتفكير النقدي، الى جانب تقييم مستمر وشامل لأداء الطلاب يساعد على تحديد نقاط القوة والضعف وتقديم الدعم اللازم، فضلاً عن مجموعة واسعة من الأنشطة اللاصفية التي تنمي مهارات الطلاب المختلفة وتثري حياتهم الاجتماعية، يوفر النظام التعليمي الألماني بيئة تعليمية محفزة تساهم في نمو الطالب الشامل، وتؤهله لمواجهة تحديات المستقبل بثقة واقتدار، مما يجعله قادراً على الاندماج بفعالية في سوق العمل أو مواصلة دراساته العليا.
مظاهر قوة التعليم في ألمانيا:
يشتهر النظام التعليمي الألماني بتميز نتائج طلابه في الاختبارات الدولية مثل PISA وTIMSS، وهو يعكس جودة التعليم العالي الذي يقدمه، والذي يرتكز على منهج دراسي شامل وبيئة تعليمية محفزة. هذا النجاح يجذب سنويا الاف الطلاب الدوليين الراغبين في الحصول على شهادة معترف بها عالميا، مما يدفع النظام التعليمي الألماني إلى التطوير المستمر لمواكبة احدث التطورات في مجال التعليم. ويركز التعليم الألماني على تنمية مهارات التفكير النقدي والابداع لدى الطلاب، لغرض تأهيلهم لمواجهة تحديات سوق العمل المتغيرة والاندماج بسهولة في الاقتصاد العالمي.
الخلاصة:
يعتبر النظام التعليمي الألماني نموذجاً يحتذى به عالمياً، حيث يتميز بتفوقه الأكاديمي وسمعته العالمية، وتركيزه على تطوير مهارات القرن الحادي والعشرين مثل التفكير النقدي والابداع والتعاون. يجمع هذا النظام بين التعليم النظري والتطبيقي، ويؤهل الخريجين لسوق العمل المتغير باستمرار. كما يشجع على التعلم المستمر، مما يضمن بقاء الأفراد على اطلاع دائم بالتطورات في مجالاتهم، ويساهم في بناء مجتمع معرفي متقدم.
***
محمد الربيعي
بروفسور ومستشار مهتم بالتربية والتعليم. جامعة دبلن

بقلم: جولي سيديفي
ترجمة: د. محمد غنيم
***

"أشعر بنشوة إضافية من البهجة عندما أقرأ جملة تحقق شيئًا خارجًا عن المألوف."

***

كأستاذة لغويات شابة، جاءت إليّ ذات مرة امرأة بعد المحاضرة الأولى من دورة كنت أدرسها. أبلغتني بأنها لن تواصل حضور الفصل. كانت شاعرة، كما قالت كنوع من التفسير، ولذلك كانت غير مرتاحة للنهج التحليلي المفرط في دراسة اللغة الذي شهدته للتو. أخبرتني بأنها ليست مهتمة بـ"تشريح" اللغة.
منذ ذلك الحين، كثيرًا ما واجهت هذا الموقف، وكأنه قد يختنق التفكير العلمي في اللغة بمصدر الإلهام الإبداعي. ربما هو جزء من الإحساس العام بأن التقدم العلمي والتكنولوجي قد أدى إلى شعور واسع بالخيبة، كما جادل الفيلسوف ماكس فيبر، حيث فقد البشر الوصول إلى أنماط التفكير غير العقلانية وإلى المشاعر من الإعجاب والدهشة التي يمكن أن تنشأ في مواجهة الغموض.
يجب أن أقول إن الأمر لم يكن هكذا بالنسبة لي. لقد كانت الدراسة الأعمق للغة ساحرة للغاية. الكثير عن بناء اللغة والعمليات الذهنية التي ترافقها غارق تحت الوعي الكامل؛ وقد شعرت أن التعلم عن هذه الأمور يشبه الدعوة إلى الغرف الخفية في روح الحبيب. وبعيداً عن إزالة الغموض عن اللغة، فإن طبقات التعقيد التي اكتشفتها لم تؤد إلا إلى مزيد من الغموض.
وعندما تركت الأكاديمية منذ بضع سنوات لأوجه جهودي نحو الكتابة، وجدت أن معرفتي العلمية تتخلل كل جانب من عملي، سواء كنت أكتب عن اللغة أو عن أي شيء آخر.
إن إسقاط الذات في ذهن القارئ هو تحدٍ يواجه جميع الكتاب. عملي كعالمة لغة يمنحني نموذجًا تفصيليًا لذهن القارئ لم أستطع اكتسابه من خلال الحدس وحده. إن انتباه الإنسان وذاكرته مقيدان بشكل مذهل، وعند تحليل جملة ما، يواجه القراء خطرًا دائمًا يتمثل في حدود كمية المعلومات التي يمكنهم الاحتفاظ بها نشطة في أذهانهم.
تساعدني معرفتي بهذه الحدود في فهم سبب شعور بعض الجمل بأنها غير متناسقة بينما تبدو أخرى أكثر سلاسة. إنها تساعدني في تسوية التجاعيد في التركيب النحوي التي قد تسيء إلى جملة مثل: "في سن السبعين، قبل الروائي العظيم جائزة نوبل التي لن تكون يومًا في متناول يده." أعلم من خلال تجاربي في المختبر أن عين القارئ قد تتعثر عند قراءة "لن تكون يومًا"، مما يشير إلى أنها قد قرأت "جائزة نوبل" بشكل خاطئ في البداية كموضوع للفعل "قبل"، وتتفاجأ عندما تكتشف أنها في الواقع هي فاعل جملة جديدة—وأن هذه التجاعيد يمكن تسويتها بسهولة إذا تم إدراج "أن" بعد "قبل" أو إذا تم استبدال الفعل بـ "عرف".
أعلم أن الانتباه يسلط على الجملة كما يسلط شعاع الشمس، فيضيء بعض الكلمات أكثر من غيرها. وقد استخدم دايفيد ماركسون هذه الظاهرة بمهارة كبيرة عندما كتب: "الآفات المقيتة، هكذا وصف هنري فيلدينج النقاد".
أعلم أن القراء هم خبراء في اكتشاف الأنماط وهم يتنبأون باستمرار بالمكان الذي ستأخذهم إليه اللغة؛ وهذا يمنحني إحساسًا بكيفية إدارة التوتر بين التوقع والمفاجأة.
وأنا أدرك أن الكلمات على الصفحة ليست أكثر من نقطة بداية للمعنى، وهذا يزيد من حدة إحساسي بما يمكن تركه دون أن يقال. فجملة "طعن بروستر ضحاياه بسكين" تبدو زائدة عن الحاجة، ولكن جملة "طعن بروستر ضحاياه بكعب عال من لوبوتان" لا تبدو زائدة عن الحاجة. وبمعرفتي بآليات التلميح، لدي إحساس بالحدود الدقيقة بين اللغز المغري والغموض المحير.
لكن أكثر من كل ذلك، فإن دراستي للغة قد زادت من تركيزي بطرق تعزز من متعتي بها.
إن الوقت الذي قضيتُه في "تشريح" أصوات الكلام جعلني أكثر انتباهًا للتناغمات وإحساس الكلمات في الفم. إن فهم كيفية تناسب العظام النحوية للجملة معًا يُعمق من تقديري للتراكيب الأنيقة في الجمل والعبارات، مدركة مجموعة من الترتيبات البديلة التي لم تكن لتحقق نفس التأثير. ولأنني منسجمة مع أنماط اللغة وانتظاماتها، أشعر بنشوة إضافية من البهجة عندما أقرأ جملة تحقق شيئاً خارجاً عن المألوف.
وأي مجال آخر من المعرفة العلمية يمكن أن يضيء الحالة الإنسانية مثل دراسة اللغة؟ إن اللغة متشابكة مع كل جانب من جوانب حياتنا. فهي في آن واحد واسعة وهشة، مقيدة بحدودنا العقلية. الطريقة التي نتعلم بها اللغة في الطفولة تعكس حاجتنا الملحة للتواصل الإنساني، والطرق التي تخذلنا بها تُظهر مدى ضعفنا أمام وحدة الفهم الخاطئ. إن الأفكار العلمية التي اكتسبتها في حياتي البحثية توفر لي إلهامًا لا ينتهي ككاتب.
عندما أفكر في الشاعرة التي نبذت فصلي التعليمي، أشعر بالحزن لأنني أعتقد أنها لم تحصد نفس المكافأة أبدًا. لقد فكرت فيها طوال الوقت بينما كنت أكتب كتابي "محب للغات" ، الذي يمثل تتويجًا لعمل حياتي كعالمة لغة وكاتبة، حيث كنت أفكر في ما كنت أتمنى أن أقوله لها، وكيف كنت لأود أن أقوله. أردت أن أكتب كتابًا ليس فقط عن علاقتي باللغة، بل كتابًا يجسد هذه العلاقة.
آمل أن يجد هذا الكتاب طريقه إليها.
***
........................
المؤلفة : جولي سيديفي/ Julie Sedivy: تقوم جولي سيديفي بتدريس علم اللغة وعلم النفس في جامعة براون وجامعة كالجاري. وهي مؤلفة كتاب "الذاكرة تتحدث: حول فقدان اللغة واستعادتها" و"الذات واللغة في العقل: مقدمة لعلم اللغة النفسي"، فضلاً عن مشاركتها في تأليف كتاب "البيع على اللغة: كيف يتحدث المعلنون إليك وماذا يقول هذا عنك". تعيش في كالجاري، كندا.
https://lithub.com/julie-sedivy-on-amplifying-the-pleasure-of-language?utm_source=Sailthru&utm_medium=email&utm_campaign=Lit%20Hub%20Daily:%20October%2025%2C%202024&utm_term=lithub_master_list

 

من اهم ان لم يكن الاهم من بين ما يكرسه المنظور القصوري الارضوي الاوربي للانقلابيه الالية/ البرجوازية، الابقاء على، ومواصلة القول بوحدانية المنظور البشري الادراكي، الامر الذي ظل ساريا على مدى الطور اليدوي، ارتكازا لشروط غلبة الارضوية الجسدية الاحادية بناء لنقص الطاقة الاستيعابيه العقلية في حينه، ماكان من المفترض ان يتم تجاوزه اليوم مع الانقلابيه الحاسمه الالية، علما بان ذلك كان يتطلب كمنطلق اساس انتقالة غير عادية على مستوى النظر الى "الظاهرة المجتمعية"، الامر الذي لم ينجح الغرب الاوربي بخصوصه في تعدي نطاق الابتداء واجتراح الخطوة الاولى المحكومه لاشتراطات الارضوية مع ماقد عرف ب "علم الاجتماع" اخر العلوم، لنشهد على هذا الصعيد ايضا بداية ونقطة انطلاق ناقصة واحادية، كان المفترض ان يطلق عليها تعريف مطابق لصنفها هو"علم الاجتماع الارضوي الاحادي" مع اوغست كونت ودوركهايم وماكس فيبر، بدل الاحتفاء غير العادي بالانجازالفريد المتاخر، الدال على مجرد بداية ومنطلق قبل زوال قصورية العقل النهائية بازاء الظاهرة المجتمعية ومنطوياتها.
اكثر من هذا فلقد زاد تكريس المنظور الاحادي وتاكيد اطلاقيته على انه "العلم" و " العقلانيه" بالذات بالمقارنه مع ماعد من قبيل الماورائية، اي كل مايخرج عن المنظور المرتكز للملموس الجسدوي المعاين، وبالذات مامعروف بصفة "الديني"، في وقت كان على العقل الالي ان يتميز عن ماقد مضى من ادراكية باعادته المنظور الماورائي المطرود لخانه "الدين"، بما هو واجب من اماطة اللثام عن كون المنظور النبوي المقابل للفلسفي الاغريقي، هو بالاحرى تعبيرية مجتمعية واقعية مستقله ومعاشة، سواء في قلب المجتمعات الاحادية كحالة ازدواج لااكتمال للمجتمعات وبنيتها من دونها، تحضر من دون كيانوية ارضوية محلوية، مستمدة اسباب تحققها من الكينونه البشرية وازدواجيتها والمكون اللاجسدي منها، مع انها محكومه "ماديا/ واقعا" شاخصا، الى نمطية مجتمعية متوافقه مع اشتراطات تحققها، علما بانها في المسار التاريخاني المجتمعي تمثل الابتداء بصفتها مجتمعية "لاارضوية"، وجدت انطلاقا في ارض سومر جنوب ارض مابين النهرين.
ولابد عند هذه النقطة بالذات من الانتباه الى فعل القصورية العقلية الارضوية، حتى بالصيغة الاخيرة الابتدائية الالية الاوربية الحداثية من حيث تدنيها المفهومي "الواقعي"، حيث التاكيد بالرفض لفكرة الاحالة الى السماء والعالم الاخر التي يقول بها المنظور اللاارضوي وتعبيريته عجزا عن الاحالة الى المصدر الواقعي الفعلي المجتمعي، واستبعادا لاحتمالية القول بان الدين هو تعبيرية مجتمعية واقعية وجهتها سماوية لاالعكس، متعلقة بخاصيات المجتمعية المشار اليها، غير المدركة نوعا، مع مالها المتجاوز للارضوية والجسدية.
وتزدحم لهذه الجهه مناحي القصور لتشمل بداهة النظر الى الكائن البشري ومصيره ومسارات وجوده على الكوكب الارضي، اذ يتم غلق الوجود لهذه الجهه على الابدية الجسدية الكوكبية الارضية، مع الاستبعاد الكلي لاحتماليات واستمرارية فعل قانون النشوء والارتقاء الذي هو من اكتشافات هذا الطور الانتقالي الالي البدئي وموحياته، ومايمكن ان يدل عليه من منقلبات وجودية تتكرس بعدم النظر الى الازدواج وفعله مجتمعيا وكينونه بشرية، فنحن ابناء الارض الى ابد الابدين، والكائن الحالي هو النهاية بعد الحيوانيه بصفته "الانسان"، باستبعاد كلي لاية احتمالية قد تتضمن النظر لواقع الكائن البشري الحالي من زاوية كونه حالة انتقال مابين الحيوان و"الانسان" الذي لم يوجد بعد، بينما نحن نعيش بصفتنا كائنات "انسايوانيه" مزيج من (عقل / جسد)، حياتها الحالية ووجودها محكوم الى التفاعلية النشوئية الترقوية العقلية بعد توقف الجسد عن الارتقاء مع بلوغ العضو البشري قمة تطورة، كنهاية ونتيجه للتفاعلية التاريخانية للعتبة"المجتمعية" الازدواجية"، اللاارضوية السماوية العقلية، ومقابلها "الارضوية" الارض جسدية.
هل النمطية المجتمعية وليدة وحدة الكائن البشري / البيئة كما تتبلور ابتداء ابان الطور اليدوي، متضمنة نوع اشتراطات دالة على عبقرية الطبيعة التي تبيح البحث عن "القدرة الالهية"، نازعة السلطة من الارض وحكامها نواب الاله سومريا مقابل الوهيتهم الفرعونيه(1)، ابان الطور التعبيري اللاارضوي الاول، بما يجعل النمطية اللاارضوية المجتمعية ممكنه، مع كيفياتها وعلائم مثل هذا النوع من المجتمعية.
نعلم ان المجتمعات تبلورت ابتداء في الشرق المتوسطي نهريا، بين مجتمعية النهرين العاتيين المدمرين المخالفين للدورة الزراعية، وانفتاح الحدود شرقا وغربا وشمالا للانصبابات البشرية النازله باتجاه ارض الخصب، وكل اسباب الطرد البيئي الانتاجوي المناخية، حيث الكائن البشري موضوع ضمن اشتراطات العيش على حافة الفناء، واحتلاب نتاج الارض بما يشبه الاحتراب واقتطاع اللقمة من فم الوحش، مايذهب بالعقل متجها الى ماهو "غير"، ومايمكن ان يؤمن التوازن المفقود مع الطبيعة من خارجها، ماكان قد ذهب بالتصورات والرؤى الى مافوق ارضوية، تبلورت في السماء، وهو ماكان حال ارض سومر حيث نتعرف على النزوع البشري اللاارضوي وعيا متالها قبل ان يستقر نبويا بالابراهيمه، مع المتوقع ساعتها من مجمل الادراكية المفارقة للارضوية، مقابل نمطية الارضوية الاولى النيلية حيث التوافق البيئي الانتاجي البشري النيلي، المتوافق كليا مع الدورة الزراعية، والحدود المحمية شرقا وغربا وشمالا، والمؤمنه ضد الغزو، ماكان من شانه تكريس " الكيانيه الوطنيه" مجسده في وحدة المجتمع/ الدولة مجسدة بالفرعون "الاله" كنموذج ونمطية، هي الاقرب نموذجية قياسا لمستوى الادراكية البشرية الغالبة حتى الساعه(2).
في الحصيلة وكواقع "ملموس" تنقسم التعبيرية والادراكية البشرية الى نوعين ونزوعين " اجتماعيا" ونتيجة فعل واقعين مختلفين كينونه، اللاارضوية تنتقل مع الصدام مع البيئة الطاردة ومن ثم الكيانيه المجتمعية الارضوية النازلة من اعلى مايحقق في حينه حالة " الازدواج المجتمعي" حيث الاصطراع اللاارضوي يكتمل بحضور المجتمعية المضادة نوعا، والساعية للافناء طلبا للهيمنه المستحيلة بحكم النوع والطبيعه المغايرة كليا، ليغدو ثنائيا مع الطبيعة مضافا لها الطاريء المجتمعي، المتشكل في دول "امبراطوريات مدن" من نمط بابل، وبغداد، المعزوله المحصنه اعلى تحصين بصفتها "آخر" يحتلب الريع الزراعي بالغزو الداخلي، يعمد ساعيا للتخلص من وطاة الاصطراع المستحيل والمكلف مع الكيانيه اللاكيانيه السفلى، بالانكفاء الى الخلف ابتداء من سرجون الاكدي اول امبراطور ازدواجي في التاريخ، الى هروب العباسيين من الكوفة وبناء بغداد بعد محاولات فاشلة الى الرمادي والهاشميه تخلصا من الانتفاضات التي لاتتوقف بوجههم.
الكائن البشري اليدوي تعبيريتان، لاارضوية تالهيه تنتهي وتنضج نبويا ابراهيما، وفلسفية ارضوية اغريقية نخبوية، الاولى حياة ومجتمعية بلا كيانيه طابعها كوني لامحلوي، والاخرى كيانوية " وطنية/ قومية"، والاثنان محكومان لدياميات تصيرية ذاهبة نحو نهاية موافقه للحقيقة الوجودية صعدا، مابين يدوية اولى، وآليه انتهائية، حين ننتقل من الاغريقية الفلسفية الارضوية التاسيسيه، الى الحداثية الاوربية الراهنه، ومقابلها وختامها مابعد النبوية الحدسية الاولى، الى التعبيرية الراهنه اللاارضوية الكونيه الانتهائية "العليّة/ السببيه"، التي تنتظرها المعمورة اليوم ومن هنا فصاعدا.
***
عبد الاميرالركابي
......................
(1) يراجع/ ماقبل الفلسفه: الانسان في مغامرته الفكرية الاولى/ هـ فرانكفورت ـ جون. أ. ولسون ـ هـ .أ. فرانكفورت ـ توركيلد جاكسون/ المؤسسة العربيه للدراسات والنشر/ ترجمة جبرا ابراهيم جبرا/ مع اجمالي التمييز الذي ياخذ به الكتاب بخصوص الفوارق بين مايعرف بالحضارتين الرافدينيه والنيلية، طبعا من دون مقاربة الاختلاف الجوهر النمطي الكوني اللاارضوي ومقابله الارضوي المحلي.
(2) يعتقد الجغرافي المصري جمال حمدان، مستندا كالعادة الى المنظور الحداثي الغربي ونموذجيته متوقفا عند "الوطنية" معتبرا اياها قمة ومنتهى الممكن بشريا من حيث الادراك والمعاش واقعا/ د جمال حمدان في ثلاثيته الكبرى/ دراسة في عبقرية المكان : شخصية مصر/ عالم الكتب.

 

اللاادرية ترجمة لكلمة يونانية ذات مقطعين تعني (العجز عن المعرفة) وقد أطلقت على الفلسفة الشكية التوفيقية التي تدعو الى عقد مصالحة بين المثالية والمادية أي انها عبارة عن فلسفة حيادية بينهما وكطريقة ثالثة حين احتدم الصراع في اليونان بين الماديين والمثاليين ويعد (بيرون) الفيلسوف اليوناني مؤسسها الأول (360_270 ق.م).
وتتصل جذورها اللاادرية بمذهب الشك الذي نشأ في اليونان والذي يرى عدم أمكانية التوصل الى حقائق الأشياء نظرا لافتقار الانسان الى أداة ادراك حقيقية وذلك لان العقل يدرك ظواهر الأشياء ولا يعرف حقائقها كما ان الحواس تخدع الانسان ولا يمكن اعتبارها شاهد اثبات حقيقي، وكان (بيرون) يردد دائماً عبارة (لا ادري) في الإجابة عن السؤال الفلسفي الكبير: هل الوجود مادي أم روحي؟ لذلك لقب بصاحب مذهب اللاادرية ولقب أتباعه باللاادريين .
المراحل التي مرت بها الفلسفة اللاادرية:
1-العصور القديمة: الفلسفة اليونانية:
ظهرت الفلسفة الشكية في اليونان كما ذكرت على يد (بيرون) مؤسس هذه الفلسفة خلال فترة احتدام الصراع الفكري بين المادية والمثالية حتى ظهور الفيلسوف اليوناني هرقليطس (530_470 ق.م) الذي حسم موقفه لصالح المادية حين اعلن (أن العالم أزلي يعمل وفق قوانين خالدة ليست من صنع أله أو بشر وسوف يظل شعلة خالدة حية تتوهج وتنطفىء وفق قوانين معينة) وقد شكلت رؤية هذا الفيلسوف نقطة نوعية في مفهوم الجدل فأن كل شيء يوجد في العالم يوجد في حركة وتغير وقد أشار الى ذلك بمقولته الشهيرة "انك لا تعبر النهر مرتين لان مياه جديدة تتدفق من حولك "
2- مرحلة العصور الوسطى وعصر النهضة:
(استمرت اللاادرية كمحاولة توفيقية بين المثالية والمادية غير انها وضعت نفسها في خدمة الفكر اليميني الرجعي وأصبحت مطية له فأستغلت من قبل الطبقة البرجوازية في تبرير مؤامراتهم الدنيئة ضد الفلسفة والعلم في آن واحد بهدف سلب حق الفلسفة في ان تدرك وتدرس بإرادتها الخاصة جوهر العالم وحرمان العلم ايضاً من حقه في طرح فرضيات تتعدى الوقائع الظاهرية السطحية، لذلك تلقت اللاادرية دعماً وتأييداً من الطبقات الرجعية لأنها تشكل ركيزة للدين)
المعجم الفلسفي، رؤية ماركسية:
أما في الشرق الإسلامي وبصورة خاصة في البصرة " فقد ظهرت نتيجة للاصطراع الفكري والشك أربعة اتجاهات فكرية قوية : اتجاه غير واضح المسالك والغاية إلا انه خطير في النواحي السيادية ظهر عند بعض الشعراء والأدباء مثل الشاعر بشار بن برد والحسن بن هاني (أبو نؤاس) وصالح بن عبد القدوس وابن أبي العوجاء وواصل بن عطاء وغيرهم .
وبالاضافة الى هذا ظهر في الشام الشاعر أبو العلاء المعري وفي بلاد فارس الشاعر عمر الخيام الذي ظهر من خلال رباعيته اتهم العلم والعقل بمعجزهما هن ادراك سر الحياة وهذه رباعية من رباعياته تؤكد حيرته وشكه.
حار الورى ما بين كفر ودين
وأمعنوا في الشك أو في اليقين
وسوف يدعوهم منادي الردى
يقول ليس الحق ما تسلكون
لقد بعثت لا ادريات الخيام في نفسه روح التشاؤم وكره الدنيا وما فيها وكان تشاؤمه هذا وليد حب الحياة والبقاء ولهذا نراه يتمنى لو انه يعود مرة أخرى الى الحياة ولو بعد مئات الألوف من السنين كما يعود العشب من قلب التراب .
3- مرحلة العصر الحديث:
(تعد هذه المرحلة امتداداً للمراحل السابقة إلا إن إضافات وأفكار جديدة طرأت عليها بمرور الزمن والتقدم العلمي الهائل الذي شهده العالم في مجالات متعدده فقد اثبت العلم الحديث إن للكون آلة تدير نفسها بنفسها وهذه الآلة لا تحتاج الى أي سبب فوق الطبيعة فإذا كانت المادة أزلية فلا يبدو إن هناك حاجة الى خالق)العلم في منظوره الجديد.
(ويعد دافيدهيوم من إنكلترا وعمانوئيل كانت من المانيا من ابرز ممثلي هذا المذهب في العصر الحديث فيرى هيوم ان الانسان لا يتعامل إلا مع مشاعره الخاصة ومع وقائع تجاربه الذاتية ولذا يتعذر عليه معرفه شيء عن العالم الخارجي أيا كانت فيسلم بالوجود الموضوعي للاشياء بحد ذاتها وهو يرى انه ليس لعقل الانسان أن يدرك إلا ظواهر الأشياء) .تاريخية المعرفة منذ الاغريق حتى ابن رشد الموسوعة الصغيرة .
وقد اتخذ الفيلسوف الفرنسي ديكارت مبدأ الشك منهجاً في فلسفته حيث اعلن مقولته الشهيرة " انا اشك فأذاً انا افكر، أنا أفكر فأذاً انا موجود " وهي تلخيص لجوهر فلسفته.
لقد وجهت الى المذهب اللاادري انتقادات كثيرة فهم بزعمهم ان العالم لا يمكن معرفته وان الظواهر المحيطة بنا لا يمكن كشفها انما هم لا يريدون معرفة العالم بالعقل البشري، لقد هاجمهم "انجلس" "قائلا" إن التطبيق والعلم والصناعة والتجربة هو اكبر تكذيب لهم "كما سماهم بالماديين الخجولين كما ان العقل الإنساني غير عاجز كما يدعون عن كشف المجهول وليس هناك مشكلات في اكتشاف الحقيقة بفضل تطور النشاط العلمي رغم اكتشاف الانسان للحقائق قد تأخر بسبب ضعف قوى الإنتاج في بداية نشوء المجتمعات وتفسير الظواهر الطبيعية كالمطر والرعد والبرق تفسيراً خرافياً إلا ان الانسان تمكن من تفسيرها بسبب تقدم العلم .
فاللادرية اذاً حياد سلبي ولم تكن حلا للمعارك الفكرية السائدة، وختاما فان العالم والكون سيبقى أزلياً لا بداية ولا نهاية له سيبقى شعلة وحاجة تسير وفق قوانين خالدة، كما عبر عنها الفيلسوف اليوناني المادي العظيم "هرقليطس"
***
غريب دوحي

 

في المثقف اليوم