قضايا

(قراءة في بِنية العقليَّة الاتِّباعيَّة)

قلتُ لـ(ذي القُروح)، عَقِب ما أثاره في المساق الماضي، حول: الفارق بين حقيقة النصِّ وقراءة القارئ الرَّغْبَوي، وما يحدث غالبًا مع معظم الآيات القرآنيَّة، التي يمكن أن يُحتجَّ بها على سماحة الإسلام وبِرِّه وعدله وحكمته؛ إذ ما تلبث أن تجد أنَّ هناك من السَّلَف من تطوَّع للقول بنَسْخ ما يُمثِّل تلك المعاني المشرقة، في الوقت الذي يُعمِّم، ويمطُّ، وينفخ، ويُطلِق العنان للمعاني التأويليَّة في آياتٍ أخر، تتعلَّق بالقتال، ليُظهِر الإسلام حربًا ضروسًا على العالمَين لا تُبقي ولا تَذر: 

ـ على أنَّ في مقابل هذا خطابًا تمييعيًّا خانعًا، يَصعَد منابر العقلانيَّة ونَبْذ العنتريَّات!  وكم تُزَيَّن الهزائمُ بدعوَى العقلانيَّة تلك! 

ـ وأنت لا ترى جبانًا، ولا عميلًا، ولا مستسلمًا، إلَّا يسوِّغ موقفه بـ«العقلانيَّة»، و«السَّلام»، و«نبذ العنتريَّات»، وإنَّما صاحبك «العقلاني» مهزوم.. مهزوم.. مهزوم.. يا ولدي! تلك هي الحكاية والسَّلام! 

ـ (عنترة بن شدَّاد العَبْسي)- الشاعر والبطل الواقعي أو الأسطوري- الثائر على الظُّلم، والعنصريَّة، والاضطهاد.

ـ لكنَّ العَرَب العباقرة قد اشتقُّوا منه صفة العنتريَّة المذمومة، ليمتدحوا: الظُّلم، والعنصريَّة، والاضطهاد، والسكوت عنها!  ولذلك فأنت لا تكاد تقرأ خطاب العقلانيَّة العَرَبيَّة المدَّعاة في غير هذا السياق!  لا تكاد تقرأها في شأنٍ اجتماعي، أو ثقافي!  غير أنَّها تقفز إبَّان المواجهات الحربيَّة إلى الواجهة.  فتسمع أنَّ على العَرَب أن يكونوا عقلانيِّين مع (إسرائيل)، مثلًا، وأن لا يُظهِروا العنتريَّات القديمة، وإنْ أفناهم العدوُّ عن بكرة أبيهم وأُمِّهم.  عقلانيَّة عَرَبيَّة فريدة من نوعها، لا تراها عند عدوٍّ ولا صديق أبدًا!  لا تراها عند (إسرائيل)، ولا عند (أميركا)، ولا عند (روسيا)، ولا عند (الفُرس)، ولا عند أيَّة أُمَّة من الأُمم التي تحترم نفسها، لا في التاريخ القديم ولا في العصر الحاضر.  بل إنَّ تلك الأُمم كثيرًا ما تمجِّد جُنون جُنونها، وتُعلي ذِكر أبطالها وعناترها؛ لأنها ترى في ذلك القُوَّة المعنويَّة لأجيالها، لتحفظ عليها كيانها، وحوافز بقائها ومواجهاتها، وإنْ لم تَجِد تلك البطولات والعنتريَّات، اختلقتها اختلاقًا، في إطار الدعم النفسي للذات، والحرب النفسيَّة على الخصوم.  وتظهر هذه الحالة لدَى كلِّ الشعوب الحيَّة في ظروف المواجهات القوميَّة بصفةٍ خاصَّة. 

ـ على حين يظهر خلاف ذلك لدَى بعض العُربان في تلك الظروف عينها، وإنْ ظلَّت تظهر العنتريَّات بين القبائل العَرَبيَّة منذ عصر عنترة الجاهلي! 

ـ طبعًا. والسبب واضح، وهو لتبرير الهزائم بالتكتيكات، وتسويغ الخَور بالعقلانيَّات، وتمرير الاستسلام بالسَّلام والجنوح إليه، وإنْ من طَرَفٍ واحد، هو جناحهم هم فقط!  فلا يختلط، إذن، حابل هذا بنابل ذلك في هذا التحليل، فلكل مقامٍ مقال. 

ـ ثمَّ لا تنس، يا (ذا القُروح)،  في هذا السياق، أنَّ التاريخ قد صُنع معظمه صناعةً منحازة، عبر رحلته الطويلة خلال منعرجاتٍ صراعيَّة شتَّى!

ـ هذا صحيح، ولذا أشتغلَ بتفسير «القرآن» علماءُ كان أشهرهم ذا يَدَين في الكتابة، يَدٌ تكتب التفسير، ويَدٌ تكتب التاريخ، مغلولتَين كلتيهما بسياسة العصر، وفِقه الدولة التي يدين لها بالولاء.  ولذا وُظِّف النصُّ أحيانًا لمآرب متناقضة، وما لم يستجب من النصِّ لتلك المآرب، لُوِيَتْ أعناقه بالتأويل، وإنْ كان مُعارضًا لها على نحوٍ صارخ، فإذا لم يُفلِح التأويل لتحقيق الهدف، لُجئ إلى التأوُّل، أو مقولة الناسخ والمنسوخ، التي توشك أن تمسخ النصَّ مسخًا، بل أن تقول بفكرة «البَداء»، وتنسبها إلى الله، كما فعل مَن قبلهم مِن أهل الكتاب! 

ـ مثال ذلك؟

ـ لقد جاء، مثلًا، مَن قال بنسخ آية «لا إِكراهَ في الدِّين»، أو بتخصيصها، أو بغير ذلك من أساليب الالتفافات البَشَريَّة المعهودة، التي طالما أعرضتْ عن صريح ما جاء في النصِّ، لتنتهي إلى نتيجة حتميَّة من تشويهٍ شامل، بعد أن يُلغَى النصُّ أو يُفرَغ من محتواه. 

ـ ما الفرق، إذن، بين فعل هؤلاء وفعل (بني إسرائيل) الذين عابهم «القرآن» في قوله: «تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ، تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا»؟! 

ـ تشابهت قلوبهم! وإلى أمثال هؤلاء يرجع الطاعنون، أمس واليوم، متقوِّين بأقوالهم المبثوثة في كتبهم، التي وجدوا فيها ضالتهم، قائلين: ها هي تي كتبكم التفسيريَّة تكذِّب ما تزعمون مجيئه في كتابكم؛ ففريقٌ مؤوَّلٌ وفريق تنسخون!

ـ وإنْ تعجب من مغالطات الآخَر، فالعجب الأكبر من تدليس أهل بيتك!

ـ ومن هؤلاء صاحبك المعمَّم بالسواد، الذي حدثتني عنه في المساقات السالفة. فهو إذ يشنِّع على رجال الدِّين لتدجيلهم على الناس، كما يقول، يشتغل على الجبهة المضادَّة، داعيًا إلى دِين وجداني جديد.  ومَن هذه غاية فكره فلا يُستبعَد منه شيء. وكان المتوقَّع أن يبدو عِلميًّا عقلانيًّا، في الأقل، فلا يكذب هو الآخَر على العوامِّ وأشباههم. 

ـ أتريد المزيد ممَّا يقول؟

ـ هات ما لديك!

ـ يسترسل سماحته العظمى في القول: إنَّ من أوجه التناقض في «القرآن» أنه مرَّةً يقول: «وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ»، ومرَّةً يقول: «خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ»! 

ـ انظر كيف يزيِّف المعلومات هاهنا؟! وهذا في غاية السخف والتدجيل. فما في «القرآن»: «وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالعَذَابِ، وَلَن يُخْلِفَ اللَّـهُ وَعْدَهُ. وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ»، وفي الآية الأخرى: «تَعْرُجُ المَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ.»  فالآية الأُولى، من (سُورة الحج)،  تتحدَّث عن اليوم «عند ربك»، والأخرى، من (سُورة المعارج)، عن الزمن الذي تعرج فيه الملائكة والرُّوح.  فذاك يوم وهذا يوم.  فلا تَناقض، والآية واضحة في الاختلاف بين الأمرَين ومُدَّة اليومَين.  أمَّا الافتراض أنَّ مجرد استعمال مصطلح «يوم» يوجب أن يكون زمنه واحدًا، فتحكُّم بلا معنى؛ فهناك يوم من أربع وعشرين ساعة، ويوم من ألف سنة عند ربك، وأيام أخرى قد تطول وقد تقصر.  ونحن نعرف الآن، مثلًا، السنة الحسابيَّة المعروفة: 365 يومًا، لكن هناك ما يُسمَّى السنة الضوئيَّة.

ـ وقياسًا على ذلك هناك اليوم الضوئي، ونحو هذه من الفوارق، التي لا ينكرها عاقل. 

ـ الرجل لا يحترم عقول الناس، ولا يراعي الأمانة العِلميَّة في ما يسوق مما يَعُدُّه شواهد دامغة! 

ـ وهو بالطبع يغمغم بالآيات أمام الجمهور في محاضراته، ولا يقرؤها كما هي، لكي يدهش الناس بعبقرية اكتشافاته، فيقول هكذا: «مرَّة يقول «وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ»، ومرَّة «خمسين ألف سنة»!»  ولا يقرأ الآيات.

ـ أ فمثل هذا يحكِّم العقل أصلًا، أو يراعي أمانة النقل؟

ـ ومن اكتشافاته الوجدانيَّة في تناقض «القرآن» أيضًا الآية التي تورِد عبارة: «لا يتساءلون»، ثمَّ الآية: «فأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ».  كيف؟ 

ـ كيف.. اسأله هو، لعلَّه يجد لك إجابةً تحت العمامة! يقول تعالى: «حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ، قَالَ: رَبِّ ارْجِعُونِ؛ لَعَلِّيْ أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ! كَلَّا، إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا. وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ. فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ، فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ، وَلَا يَتَسَاءَلُونَ.»  ويقول في آيةٍ أخرى: «فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ: قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: إِنِّيْ كَانَ لِي قَرِينٌ...». 

ـ وهذا تناقضٌ لديه، وبحسب تصوُّره أو دعواه! 

ـ دعنا نُحسِن به الظنَّ، فنقول إنَّ التناقض لديه ناشئٌ عن ضغط العمامة على يافوخه! ولا تستهن بهذا العامل! أمَّا ما زعمه، ففي منتهى الجهل بالأساليب والسياقات معًا. ذلك أنَّ الآية الأُولى تتحدَّث عن (الكافرين)، والآية الأخرى عن (المؤمنين)، من أهل الجنة.  ثم إنَّ قوله «يتساءلون» في الآية الأُولى بمعنى أنهم من ذهولهم عند النفخ في الصُّوْر لا يسأل بعضهم عن بعض، وإنْ كان من أنسبائه أو عائلته، «فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ».

ـ وهذا تعبير متداول حتى بالعامِّيَّة؛ فالذي «لا يسأل» هو الذي لا يكترث.

ـ نعم. أ فيقتضي التعبير بذلك القول: إنَّ التساؤل بعدئذٍ في مناسبةٍ أخرى لم يَعُد واردًا؟ وسيكون وروده مناقضًا لما جاء من قبل، كأن يتساءل أهل الجنة، أو حتى أهل جهنم، عن بعض شأنهم؟! 

ـ لست أدري كيف يفهم النصوصَ الرجُل؟ 

ـ هو غير مؤهَّل ليفهم ما دُون هذا، ما دام هذا قوله.

ـ الآيات أوضح من أن توضح، غير أن الغاية هنا إظهار مدى هذا التلاعب المؤدلَج بالنصوص.

ـ وهو- إلى جانب هذا كلِّه- ولفرط أمانته العِلميَّة، يفعل كما فعل القُمُّص المشلوح، الذي ناقشنا محاضراته هو الآخَر من قبل.

ـ تعدَّدت الأسماء- كتعدُّد أسماء العصر الأُموي بين (يزيد) و(الوليد)- والفعل واحد في النهاية، لا وليدَ ثمَّة ولا يزيد! 

ـ ذلك أنهما يرجعان إلى كتابٍ واحدٍ، هو «تأويل مشكل القرآن»، لـ(ابن قتيبة)، الذي عاش في القرن الثاني للهجرة، ويتظاهران بأنهما يكتشفان بفطنتَيهما مسائل جديدة، مفحِمة لا جواب عنها.  مع أن ابن قتيبة- قبل أكثر من ألف سنة- كان قد عرض تلك المسائل، وأكثر منها، في كتابه المذكور، مما سمَّاه «الحكاية عن الطاعنين»، من أجداد هؤلاء وسلفهم «الطالح»، ثمَّ ردَّ عليها واحدةً واحدةً بالتفصيل العِلمي، لُغويًّا وبلاغيًّا. 

ـ فما أشبه الليلة بالبارحة، والقُمُّص بالمُعَمَّم!

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

 

دوامة التفكير، مدورةٌ غير منتهيه.

التفكير أساس مشكلات الإنسان المعاصر، لا بل منذ أقدم العصور، هو الذي يقوده إلى أسوأ المواقف في الحياة، يجعل منه لا يفكر بما يدور في داخله لارتباطه بالانفعالات فضلا عن ما يدركه في بيئته الخارجية ومن حوله، ليس بقصر التفكير فحسب، بل فيما يريد فعله ويعبر عنه بلغة توصل هذا الفكر عبر اللسان، هي  طريقة التفكير، والأصح أسلوب التفكير Thinking Style ، وليس اللغة، اللغة الحامل – الناقل لإسلوب التفكير، واللسان منفذ هذا الأسلوب. ولو أردنا إختيار تعريف يتناسب مع ما نريد قوله لأخترنا هذا التعريف المنقول " نشاط ديناميكي هادف"، وهو أيضًا تكوين فرضي يعتمد على مجموعة من المتغيرات الوسيطة ويظهر في صور من السلوك المختلف الذي يمكن التعرف عليه.

ويحق لنا أن نقول بأن التفكير يسبب الاضطراب النفسي والعقلي إذا أشتد عند صاحبه، التفكير يقودنا إلى حيث مواطن الضعف فينا، ويضرب المناطق الواهنة بالنفس، التفكير كما تراه أدبيات علم النفس والتحليل النفسي هو نظام معرفي يقوم على اسستخدام الرموز التي تعكس العمليات العقلية الداخلية إما بالتعبير المباشر عنها، أو بالتعبير الرمزي، ومادة التفكير الأساسية هي المعاني والمفاهيم والمدركات كما أوردته موسوعة علم النفس والتحليل النفسي، وربما ما نراه  بالمعنى الأدق أن التفكير يعتمد على الإدراك والتذكر في طرفي المثلث الذي في قمته الإدراك وفي طرفه الأيمن التفكير، وفي طرفه الأيسر التذكر، فالإدراك هو الذي يخزن في اللاشعور – اللاوعي، والتذكر هو الذي يعيد الأفكار بشقيها المسرة وغير المسرة، إذن هو مفتاح اللاشعور – اللاوعي، وكما عبر عنه  فرويد في مقالة التذكر والتكرار والعمل من خلال قوله: ان الشخص الذي يتم تحليله سوف يستسلم للرغبة القهرية في التكرار، والتي تحل الآن محل الدافع للتذكر، وهي علاقة في جميع الأنشطة والعلاقات المتزامنة الأخرى في حياته، ويبدو ذلك جليًا في جلسة التحليل النفسي العلاجية، عندما يختار شيئًا محببًا، أو قام بمهمة من السهل أيضًا رؤية مقدار المقاومة، وكلما زادت المقاومة، كلما تم استبدال التذكر على نطاق أوسع بالتمثيل " التكرار". ويؤكد فرويد بإن الإنسان عندما يستخدم من ترسانة الماضي المدججة بالأسحلة التي يدافع بها عن نفسه من مواصلة العلاج التي يجب أن ننتزعها منه شيئًا فشيئًا، هي بحد ذاتها مقاومة لا يمكن وصفها بالواقع، ولنا أن نقول ما هي قوة الإنفعالات المصاحبة لما أراد فرويد فعله في الجلسة النفسية التحليلية ونستعير هذا النص من مقالة كتبتها في العام 2007 ومنشورة في الحوار المتمدن: الحوار المتمدن - العدد: 1954 - 2007 / 6 / 22 لكاتب المقال     (اسعد الامارة) وورد فيها: أما الانفعال أو الانفعالات فتعرفه ادبيات علم النفس بانها حالات داخلية لا يمكن ملاحظتها أو قياسها مباشرة، وفي اثناء تفاعل الافراد مع الخبرات التي يتعرضون لها تنشأ الانفعالات فجأة، وهي بنفس الوقت تتصف بعدم القدرة على التحكم فيها، لايمكن بسهولة اصدارها أو كفها. لذا نستطيع أن نستنتج أن الانفعالات هي حالات داخلية تتصف بجوانب معرفية خاصة، واحساسات، وردود أفعال سيكولوجية وسلوك تعبيري معين، وهي تنزع للظهور فجأة ويصعب التحكم فيها. ويضم التفكير الانفعالي ثلاث حالات هي: القلق، الغضب والعدوانية، والابتهاج. وكما أكده لنا " سيجموند فرويد " في مقالته من قوة المقاومة. وأزاء ذلك فالكلمة التي تصدر بلغة رمزية مقطعة ومدغمة كما هو حال الفصامي ولغته التي لها دلالة ومعنى حتى وإن غابت عن التفسير في الوقت الحاضر.

التفكير هو نمط Patrn كانماط الشخصية، يختلف عنه ولكنه يشبهه، فانماط الشخصية معروفة لدى معظم العاملين في المجال النفسي وبالأخص في دراسات الشخصية. فالتفكير في حياتنا يضم  الجانب السلبي في حياتنا المعاشة وإن كان التفكير هو الدافع للنجاح في حياتنا اليومية، إلا أنه  بشقيه السلبي، أو الإيجابي هو مؤشر للقلق – الحصر، ويحمل بين طياته القلق، وربما يؤدي إلى الاضطراب، ويمكن أنه يؤدي إلى الإضطراب النفسي والعقلي إذا أشتد عند البعض منا حتى وإن نجح صاحبه في تحقيق ما يريد تحقيقة، أو فشل في تحقيق ذلك، كلاهما يترك الأثر في النفس، فالتفكير بشقيه السلبي أو الإيجابي يخلق العصاب ومنها  الوساوس القهري، ففي الوساوس تضيع عنده الحدود، وربما لا يفهم النية الحقيقية لدافعه القهري المغلف بالقلق – الحصر -  النفسي.

التفكير المسبب الرئيس للصراع النفسي، والصراع النفسي بأبسط صورة هو وجود أكثر من دافع متناقض مع الدافع الآخر، ويحمل أحدهما رغبة أو مطلب لا أخلاقي، أو بين شعورين متناقضين، ويرى التحليل النفسي وجود الصراع في النفس البشرية هو الأساس في تكوين الإنسان ووجوده، ومن أمثلة الصراع، الصراع بين الرغبة والدفاع، الصراع بين الرغبات والحوافز المحركة في دواخلنا، وهو صراع بالتأكيد مُحركهُ الأساس هو التفكير. ويقودنا هذا إلى "هيجل " الفيلسوف العظيم الذي يرى بوجود الأطروحة " الفكرة " ونقيضها " الاطروحة المضادة " الفكرة المضادة " وما يحدث بعد ذلك هو جماع بين الفكرتين بتسوية متناغمة، ولنا أن نقول لا يحدث الجماع بين الفكرتين، حتى وإن حدث فهو لا ينتج بالضرورة فكرة ثالثة متناغمة توافقية، بل فكرة جديدة هي نتاج ذلك الصراع في التفكير، لم يتوقف التفكير عن إنتاج أفكار، ولن يهدأ أو يستكين، بل يظل في صراع مستمر وينتج الجديد، ربما سبق المحلل النفسي الفرنسي " جاك لاكان  " الجميع بأفكاره وهي عدم قدرة الجماع بين الأطروحة والأطروحة المضادة، بمعنى أدق بين الفكرتين النقيضتين، لا يوجد جماع بينهما، يستمر الصراع بولادة فكرة جديدة  وهكذا.

 كنا نفكر بفكرة التقدم والاستمرار المستقيم في مواجهة تفكيرنا الفردي والجمعي في كل المجتمعات، ثم تعقدت الحياة وازدادت صعوبتها وأصبحت فكرة التفكير بشكل الحركة الدائرية غير المنتهية، تدور حول نفسها ، ومع تعقد النفس من داخلها أصبح التفكير اللولبي الذي يبدأ ولا ينتهي في كل الأحوال وهنا يصدق "جاك لاكان"  بأن جماع الأطروحتين  لا يحدث أبدًا بتسوية بينهما، ويقودنا هذا الحوار الفلسفي – النفسي إلى كون التفكير عملية مضطردة ومتجددة ودينامية لا تنتهي بقبول الفكرة فقط، وهذا ما نجده بشكل واضح في المذاهب بأنواعها في كل الاديان والفلسفات والفنون حتى تصبح فكرة الدين والمعتقد بعدة مذاهب فرعية يتمسك بها مجموعة قليلة، أو شريحة واسعة، ويكون داخل المذهب الواحد عدة انشطارات واتجاهات متنوعة، كانت مختلفة، أو متوافقة، هذا هو التفكير بشكله المختصر وهو الذي يقود الصراع داخل النفس لإنجاب وليد جديد من المذهب، أو الفكر ونتفق مع القول يولد الجديد من رحم القديم ويتخلق من خلاله.

يرى الدكتور فرج أحمد فرج بأن الصراع ليس تقاتل وأقتتال، بل  هو دافع نحو الإنجاز في كثير من الأحيان، وربما يحقق لصاحبه الكثير من النجاحات، والنجاحات لا تتوقف، والرغبة لا تتوقف في الاستمرار بتحقيق ما يطمح له  الإنسان ، ولكن على حساب التفكير وإجهاده، على حساب حالته النفسية وصحتها وقول فرويد أن الناس لا يمكن أن يصبحوا حكماء في الواقع إلا من خلال الضرر وخبرتهم الخاصة " مقالة التذكر، التكرار، العمل من خلال، ترجمة الصديق محمد أمين من اللغة الألمانية "، ونقول كاد تفكيرنا أن يقتلنا ونحن  بحالة الوعي  الكامل، فكيف هو في حالة اللاوعي – اللاشعور مكمن الأسرار وطريقته المختلفة التي لديها لغة أعمق من اللغة التي نتحدث بها مع المحيطين بنا.

نحاول جاهدين أن نستعرض لموضوع التفكير عبر التخييل، فالتخييل كما تقول الاستاذ الدكتورة " نيفين مصطفى زيور"  إنما هو نوع من تحقيق رغبات خفية ومقموعة وهو يحمي الأنا من الحصر الذي يتمخض عن ذلك التوتر الناتج عدم تفريغ الغرائز، وتضيف " نيفين زيور " التخييل إنما هو نتاج صراع، ويمثل تسوية بين هذين النوعين الشعوري – الواعي الواضح واللاشعوري – اللاواعي، وتقول  أيضًا التخييل بوصفه نوعًا من التفكير، وهو أيضًا نمط من التفكير البدائي " نيفين مصطفى زيور، 2013، ص14 -15" كتاب التخييل دراسة في التحليل النفسي.

أما الفيلسوف الفرنسي " جان بول سارتر" فيعرض بوجود تأكيدات التخيل، وإن عناصر الوعي المتخيل الفكرية هي عناصر الوعي نفسها التي نمنحها عادة أسم الأفكار ويضيف "سارتر " قوله: على مدى السنوات العديدة الماضية، كُتب الكثير عن التفكير الرمزي ولا شك تحت تأثير التحليل النفسي، ويقول أيضًا ينظر معظم علماء النفس إلى التفكير على أنه نشاط انتقائي تنظيمي من شأنه أن يصطاد صورة في اللاشعور – اللاوعي لترتيبها ودمجها وفقًا للظروف "، وعليه فإن التفكير يحمل في طياته رذاذ من اللاشعور – اللاوعي، ومن ثم تخرج هذه الأفكار لتؤثر في حياتنا اليومية في حالة السواء، أو حالة المرض، والأمر سيان بينهما ولكن خير عقار، أو وسيلة تستخدم في مواجهة التفكير بشقيه الايجابي والسلبي هو تعرفه على نفسه بنفسه من خلال هذا النمط من التفكير، وهنا هو أسلوب بالإمكان مواحهته كما هو في عملية الطرح الموجب – التحويل الموجب، وهي مواجهة مع النفس أيضًا، مواجهة لتفكيك بنية الفكرة، أو الخاطرة، التي من المحتمل أن تصبح عصاب أو ذهان إذا ما أشتدت، وإذا أستطاع الفرد ربما يمسك بداية الضوء من الفكرة المسببة لصراعه العصابي التي أنبثقت من التفكير في لحظة حزن، أو لحظة فرح، ولا يغيب عن أذهاننا أن المسافة بين السواء واللاسواء خط واهن يقطعه التفكير بلحظة غير متوقعة، في مرض شديد يقود صاحبه لفقدان المناعة بأكملها ومنها المناعة النفسية، كما يحدث في بعض علاجات الدواء الكيميائي في حالات مختلفة، وفي النهاية نقول دوامة التفكير، لولبية غير منتهية، تبدأ بمدورةٍ، وتنتهي بحركة لولبية غير منتهية. أتمنى أن لا أكون أنهكت القارئ الكريم بالتفكير وهو مدخل للتفكير ليس إلا. 

***

ا. د. أسعد الامارة

قُبيل السبعين عامًا، الدكتور عبدالجبارالرفاعي قائلًا: "الإنسان هو مجموع معانيه الروحية والأخلاقية والجمالية" خُلاصة هائلة مُكثفةٌ بالمعنى القيّم للإنسان. هنا تكمن فرادة الرفاعي، كيف يأخذك في طريق شجاع وحر، وأخلاقي في الحين ذاته، كأنك على وشك الوصول، أشرعة المراسي تلوّح لك على الشاطئ لكنك فعليًا لازلت وسط البحر والأمواج تعصف بك يمنة ويسرة، هذه طبيعة الوجود، والله شرّع الأمواج للعصف بك، ليس تحديًا إنما ليُخرجك من قاع البحر نقيًا على سبيل النجاة، لن ينقذك أحدٌ من الغرق، فكل أنواع الغرق تحيط بك، إنما الأمر مُلقى عليك، فأنت حرٌ في عُرفه، مُكرمٌ بدخول مدينته الفكرية الإيمانية. ألست إنسانًا؟ إذًا أنت موعود بالضوء، والضوء كافٍ لإنارة الطريق.

المفتاح في اللقاء الأول

للقاءات الأولى طبيعتها الاستشرافية وليست القطعية، يأخذنا الفضول المعرفي للغوص أكثر وأكثر في بحر المعرفة إذا انفتح طريق الماء، فكيف انهمر الماء؟ كما يلتقي الناس في ميادين الحياة الواقعية؛ يلتقي القُراء والكُتاب في ميادين الفكر والمعرفة والآداب على أرفف المكتبات المنتشرة في العالم، وبين دهاليز الصفحات المُعتقة والمُحدثة، وهذا ما يجعل الكاتب كائنًا عولميًا يخترق الجغرافيات بهوية مُخففة من مادتها، يُقارب الثقافات في الفضاء الرحب، ينفذ في الأدمغة نفاذ الأكسجين، ويجري في الوعي مجرى الماء، ليؤثر في الإنسان أثر الفراشة، ذلك أثر القراءة. وكقارئة على سبيل النجاة، اشتدت قرائتي الجادة بعد تخرجي من الجامعة عام 2011 بدرجة البكالوريوس في الأدب الإنجليزي، تعلمتُ من تلك الدراسة الأكاديمية أن الدين عامةً يحضر بشدة في الأدب الإنساني العالمي، كما أن الميثالوجيا تُسيطر على المجتمعات الإنسانية كافة وفقًا لسياقاتها الثقافية والتاريخية المتباينة، وأن قراءة الإنسان للأحداث مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بوعيه وقدرته على التأمل والتفكير المنطقي والقراءة النقدية، وفي ذلك كله لا يمكن أن نغفل عن أثر الدين في تفسير الإنسان للأقدار والأحداث الواقعة من حوله.

ومن دراسة وقراءة الأدب تلمستُ أهمية الإطلاع على تحولات الفكر الإنساني بصيغته المباشرة عندما أقتنيت كتاب ’’الدين وأسئلة الحداثة “ حوار وتحرير د. عبدالجبار الرفاعي، في طبعته الأولى 2015 الصادر عن مركز دراسات فلسفة الدين ببغداد ودار التنوير للطباعة والنشر ببيروت، مدّ لي جسورًا هامة في ساحة تجديد الفكر الديني نحو قامات علمية أثرت المكتبة الفكرية الإسلامية، مثل د. محمد أركون، الأستاذ مصطفى ملكيان، د. حسن حنفي، د. عبدالمجيد الشرفي، فجاءت أشبه بالفتوحات على قراءة الفكر الديني الحديث، تعرفت أيضًا على الشيخ محمد مجتهد شبستري بكتاب “ نقد القراءة الرسمية للدين “ الطبعة الأولى 2013 الصادرة عن دار الانتشار العربي، ووجدت الدين برؤى مغايرة عن السائد والمشهور؛ فكتاب مثل “العقلانية والمعنوية“ لمصطفى ملكيان، يرفع منسوب التساؤل حول المعنى، أما أركون فبقوته يكسر حاجز التصالح والاستسلام والوهم بامتلاك الحقيقة بسؤال مائي “أين هو الفكر الإسلامي المعاصر؟“ في طبعته الرابعة الصادرة 2010 عن دار الساقي، ليترك القارئ في رحلة أشبه بالمعركة الجوانية أو الحرب السؤالية على الذات.

قرأت حتى بدأت أستشعر حسرة الجهل وغربة الوعي، تلمست تفكيك المفاهيم وهز المعتقدات المُعششة في الأذهان طويلًا مع جملة هؤلاء المفكرين، أعترف بأنهم هزوا قاعدة الثبات، ولكنهم لم يستطيعوا ازالتها كليًا أو استبدالها بما يُثبت الزلزال الفكري الحاصل، ليشعر القارئ بأنه عالقٌ في بحر عريض، لا هو قادرٌ على السباحة بأمان، ولا هو قادرٌ على العودة لشاطئ الراحة! وبين هذا وذلك كان لفكر الدكتور الرفاعي ملمحًا بارزًا بمحاولة تثبيت الزلزال وتهدئة الاهتزاز الشديد، برغم أن الفلسفة تعني بقرع جرس التساؤلات أكثر من تحصيل الإجابات، لكن ميزة الرفاعي أنه سعى لشد كل تلك الموجات والتذبذات نحو المركز - الذي هو انطولوجيا الدين -  تحقيقًا لمقاصد مركزية الإنسان في الأرض كامتدادٍ لمركزية الله في الوجود. كما أيقنت أن ما يواجه الإنسان من ظروف اجتماعية وسياقات جغرافية وثقافية وتاريخية لها الأثر البالغ في صناعته الفكرية، مع اعتبار أنّ لكل إنسان سياقًا خاصًا، يتمظهر فيه الدين تمظهرًا مُتغيرًا في بعده الشكلاني وثابتًا أزليًا في بعده الوجودي. وتأتي رسالة كتاب “الدين والظمأ الأنطولوجي“ للرفاعي، لتُمسك على الدين كمعنى أصيل بالنسبة للإنسان عامة، مهما تعددت أساليب التعبير عنه والتجسيد له، فالأهم أن يظل نبضه يقظًا في الروح وحيًا بالأخلاقية الإنسانية.

بيد أن طريق الوعي بهذا المعنى حسّاس وسالكه قد يشعر بغربة، فالناس لا تريد المعرفة، لأن المعرفة تتطلب الشك والتغيير الأمر الذي يهز منطقة الراحة، مما يدفع بالإنسان للثورة أمام الهزة البسيطة للمسلمات المتراكمة لدرجة التكلس، والمانعة للتغيير في حالات كثيرة، فهو يفرح بالوهم المريح أكثر، وهنا تكمن صعوبة تحريك القيم والمعتقدات السائدة لعصور وأزمنة طويلة، لكن الإشكالية أن هذا الركون له انعكاساته التراكمية السلبية جدًا، فقد يتسبب في إهدار العمر كاملًا، وتضييع فرصة الحياة بجودة عالية وتوازن معتدل بين الحاجات الإنسانية المادية والمعنوية.

الإنسان بوصفه مشروعًا تنويريًا

أؤمن بأن الفعل الفكري ينطلق من الإنسان بوصفه فاعلًا حيًا تنويريًا على المدى المفتوح، ينبثق وجوده - الفعل - بولادته الكتابية مُعبرًا باللغة عن أهم الأفكار التي تقرع في ذهن الإنسان، تُربك فكره، تهز عاطفته، تُثير شكوكه لتقوده إلى الإيمان في أفضل الأحوال أما الأسوأ فهناك ضياعات محتملة كثيرة! وأجمل ما يُميز هذا الفعل الجوهري هو البقاء المُرسل على سطوح المكتبات، مُتجذرًا في تاريخ الفكر البشري، محفوظًا كإرثٍ وجودي يُخلد صانعه أبدًا على قيد الحياة، ويظل يجري كالنهر السلسبيل دون توقف أو انقطاع موسمي، ليشق مسالكًا في الأذهان، ويُنشئ بنىً تحتية في فكر الإنسان الحديث، ليُشيّد عليها مبانيه التراكمية، فتبقى صروحًا يتوراثها علم الاجتماع البشري. على هذا النحو الوجودي، وقفت قِبالة مشروعه في تجديد الفكر الديني، وقد أتيتُ من موقعٍ مُختلف بكل أبعاده الاجتماعية والثقافية والتاريخية لأكتب بصفة لا تشبه ما كُتب سلفًا عن بعض الموضوعات من مشروعه في فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد، فأنا لستُ طالبة أبتغى شهادة علمية بكتابة بحثية، ولم أتبع يومًا أي انتماء. لستُ إلا قارئة على طريق النجاة، آتية من جيل الأبناء باعتباره من جيل الآباء، ومن بيئة اجتماعية وثقافية لا تشبه غيرها، فالتدين العنيف المُسلح الذي يتحدث عنه الرفاعي ويمقته بشدة ليس حاضرًا في مجتمعي – والحمد لله - بفضل الله ثم قوة الوطن الآمن، غير أن الحساسية المفرطة تجاه قضايا الدين هي المسألة الإشكالية، لكني أتلمس حاجة جوهرية لمشروع الرفاعي للإنسان الحديث لاسيما الأجيال المعاصرة والقادمة.

جدير بالذكر، أن فترة قرائتي تلك تزامنت مع تشكيلي للقاءات حوارية أشبه بالنادي القرائي للشابات في المنطقة، تدور الحوارات حول كِتاب مُنتخب أو موضوع مُجمع على تناوله، فتبدى لي ميلًا واضحًا لدى شريحة الشباب لقراءة الأدب الصوفي والفلسفي مثل رواية " قواعد العشق الأربعون " للروائية التركية أليف شافاق "، وكتاب "هكذا تكلمت زرادشت"  للفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه، بالإضافة لطرح أسئلة كثيرة حول الدين ومحدداته، نافرة من التقليدية. وكمشرفة على عملية الحوار - التي أخذت في النمو نموًا بناءً لتأسيس أرضية لاحترام الرأي والرأي الآخر - خاصة مع حصولي آنذاك على شهادة المدربة المعتمدة من مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني في المملكة العربية السعودية، وتقديمي لبرامج حوارية في مؤسسات متعددة ولشرائح متنوعة، لاحظت التعددية الفكرية وأدركت صعوبة ضبط الميزان بين تلك المستويات المتباينة من الوعي والإدراك بقيّم الدين، فالتدين مفهوم فضفاض في سياق تطبيقه الاجتماعي. فماذا يعني الدين؟ ماهو التدين؟ من هو الإنسان المتدين؟ ماهي ملامح المجتمع المتدين؟ هل هناك فرق بين المتدين والمؤمن؟ وهل الملامح الشكلانية برهان على جوهرية الدين في إنسان هذا المجتمع؟ وماهي العلاقة بين الدين والقيم العليا والأخلاق؟ تُطرح هذه الأسئلة باعتبارها خروجًا عن الفهم الشائع والسائد، لفتح نوافذ الفكر نحو إيمانية عقلانية، لأن جرس السؤال يفتح أبواب البحث والتقصي، وعليه؛ تنقشع أغشية وتسقط أقنعة وتنكشف حقائق وتتأكد براهين ويترسخ إيمان جديد، غالبًا ما يكون أقوى وأقوم من نسخة ما قبل البحث والسؤال. استخلصت من تلك التجربة الحوارية قناعة؛ الحاجة لفكر ديني حاضن للأجيال المعاصرة والقادمة، بمواصفات ديناميكية قابلة لمواكبة حاجات الإنسان العصري؛ باعتباره كائنًا عولميًا، منخرطًا في صيرورة الحياة، وعنصرًا أساسيًا في العالم الحديث، وليس كفردٍ محجوزٍ في أفقه الخاص، وهذا ينطبق على مشروع الدكتور عبدالجبار الرفاعي، لقيامه على مرتكزات تأصيلية في صناعة الوعي الديني، أذكر منها:

أولًا: الدين والمعنى

يقول الرفاعي: “الدين هو المعنى الذي يستجيبُ للمتطلَّبات الأساسية لحياة الإنسان، الجسديَّةِ والسيكولوجيَّةِ والأنطولوجيَّةِ، ويزوِّدُ الإنسانَ بطاقةٍ إيجابية، تكفلُ له خلقَ حالةِ توازُن بين مختلفِ احتياجاته، ويجيب عن سؤال الوجود والمصير، فيخفض وتيرة القلق الوجودي الذي يفترس حياة الإنسان إلى أدنى حد، ويحميه من وَحشة الوجود، ويمنحه مزيدًا من طمأنينة القلب وسكينة الروح"، من كتاب " الدين والاغتراب الميتافيزيقي " الطبعة 3 صفحة 57. وهنا ينبثق السؤال الأكبر عن المعنى، أعني المعنى الذي ينفثه الإنسان بوجوده في هذا الكون الهائل، وهو سؤالٌ يطرحه كثير من الناس إثر تفكير وتأمل أو استشعار بوقوع في مأزق الحياة.

فما هو المعنى الذي يقصده الرفاعي؟ يربط الرفاعي بين المعنى الوجودي للإنسان والدين باعتباره حاجة أنطولوجية تحقق للنفس البشرية الغنى والثراء والمعنى في الحياة، ومهما تعددت المسالك والطرائق وتباينت مظاهر معتقداتها وممارساتها، تبقى متفقة في أنطولوجيا المعنى المقدس، وأصالته للوجود الإنساني، كلبنة عميقة في بنيته الفكرية والروحية والجمالية والأخلاقية. ويأتي التنوع كطبيعة في التكوين البشري الذي أراده الله، في قوله:  " وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْ " حقيقًا لسبل الوصول الملائمة لتباين الوعي الإنساني والمعرفة المتنوعة في مشاربها.

ثانيًا: أنسنة الأديان، نذكر ثلاث تجليات:

1. المحبة والسلام:

المجتمعات الحديثة التي تعولمت في سياق تطورها الحديث، تعي أهمية العيش المشترك بالحب الإنساني تجاه الإنسان الآخر بما تضمنه الأخلاقيات والقيم العليا، أقربها ما يمكن إدراكه في حيز الإمكان بقوله تعالى " لِتَعَارَفُوٓاْ " وأبعدها ما هو خارج حيز الإمكان في قوله: " إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ"، سورة الحجرات (13) وهنا يمكننا تجاوز منطقة قبول الآخر في سياق النفعية الاجتماعية Social utilitarian إلى سياق علاقة إنسانية خلاقة تستند على أصالة الله في النفس البشرية على اختلاف رؤاها وأساليبها، وطقوسها، اعتمادًا على جوهرية الغاية التي هي الإيمان بالمطلق. فالرفاعي يُقيم مشروعه الفكري مُتكئًا على الإنسان كمحور أساسي تدور حوله الحياة على الأرض، وخليفة الله الذي هو مركز الوجود، وعليه، يقدم تعريفاته لهذا الإنسان مرتبطًا بمشتركات وجودية متعددة مثل:  الإيمان، الحب، الحرية، الرحمة.

2. الحرية:

يبدأ بناء الإنسان ببناء الذات الباطنية أولًا، مُنطلقًا من الداخل إلى الخارج، داعيًا لتحرير الذات الفردية من الذات الجمعية، والفكر الفردي من الفكر الجمعي، فالإنسان فردٌ في خلقه ووجوده، يأتي ذلك بمعنى تخليصها من القيود الخارجية المفروضة، اعتقادًا بحقها في الحرية، الحرية التي هي نقيض العبودية. فيسأل الإنسان ذاته في مرحلة التحرر:  من أنا؟ هذا سؤال الهوية الوجودية، الذي يصدم الإنسان بذاته كصورة منعكسة عن الذات الجمعية أو العقل الجمعي، كما عبر عنه عالم الاجتماع الفرنسي إيميل دوركايم، نتيجة لتراكم طبقات فكرية إنسانية أقوى، يصعب تحركها بصفة مستقلة، خارجة من إطار مُحدد لها سلفًا، فيظل الأفراد يتناسخون فكريًا عن نموذج واحد، وهذا ما اعتبره الرفاعي “ نمذجة “ في كتاب الدين والظمأ الأنطولوجي، واستعرضه بشكل وافٍ في فصل " نسيان الذات " إنما يعتقد الرفاعي بأن " الحرية ليست أمرًا ناجزًا قبل أن نشرع باستعمالها، وجود الحرية يعني ممارستَها. الحرية لا تتحقّق بعيدًا عن مسؤولية الفرد تجاه ذاته.  لحظة تنتفي الحرّيّة تنتفي الذات " من كتاب “ الدين والظمأ الأنطولوجي “ الطبعة 4 صفحة  36.

3. اللغة الرحمانية:

لغة الرفاعي تنفذ في النفس النبيلة، ذلك لأنه يكتب بقوة المفكر العقلاني والمؤمن الروحاني والإنسان الأخلاقي، هذا المزيج المتجانس هو ما يجعل تأثيره يتحقق بلين القول وشدة الحجة، فقراءة كتب الرفاعي لا تحدك بحدود أوراقها بل تفتح للقارئ أبوابًا على موضوعات أخرى وشخوص استثنائية وعديدة، فكأنك في حضرته بين التاريخ وعلم الاجتماع والفلسفة والدين في حصة واحدة، يحدث ذلك بلغة سلسلة بعيدة عن التعقيد الذي يحجب نشر المعرفة.  ويُمثل الحب في لغة وفكر الرفاعي قيمة عليا، تماثل الإيمان وترتبط بوجودية الإنسان، باعتباره كما ينص " الحب أعذب معاني الفرح " بالإضافة لكونه رافدًا ضد الكراهية والظلام في هذا العالم.

ثالثًا: مهمة الدين وتجديد علم الكلام

يعرف الرفاعي الدين بـقوله: "الدين حياةٌ في أُفق المعنى، تفرضُه حاجةُ الإنسان الوجودية لإنتاجِ معنىً روحي وأخلاقي وجمالي لحياتِه الفردية والمجتمعية". وفيه يقترن الدين بالمعنى الروحي والأخلاقي والجمالي لحياة الإنسان على المستويين الفردي والجماعي، إذًا هي معادلة بين الحاجات الإنسانية المتعددة في إطار أخلاقي، وهذا يعني إرساء قاعدة أخلاقية لضبط تلك الحاجات. وشخصيًا أرى أن هذه القيمة هي الأهم في سلم الوعي الديني المعاصر، الذي يواجه تحديات التغيير، التغيير على جميع الأصعدة، وهو مطالب بمواكبة الحياة المتطورة دون التخلي عن الدين. وهذا ما تقوم عليه رؤية الدكتور الرفاعي في تجديد الفكر الديني في الإسلام، ذلك؛ بإعادة تعريف المسلمات المنطقية في علم الكلام وهي: تعريف الإنسان، تعريف الدين، تعريف الطرق إلى الله، تعريف الوحي، تعريف النبوة، تعريف الشريعة، تعريف التكليف. يتحقق ذلك بتوظيف الفلسفة والعلوم الحديثة في قراءة وفهم النصوص الدينية.

سبعينية من الزمن

" الإنسان هو مجموع معانيه الروحية والأخلاقية والجمالية " خاتمة القول هي افتتاحيته، فالحكمة رفيقة الفيلسوف الأخلاقي صانعٌ للمعنى الوجودي، وهذا ما يبزغ لنا بالنظر لسيرة الإنسان المفكر بتتبع هذه التجربة، يأخذنا التأمل والتعلم والإعجاب بسيرة أبدعت في تقديم معناها، وحفرت وجودها عميقًا في تاريخ فلسفة الدين، الدكتور عبدالجبار الرفاعي، يمضي قُدُمًا في سماء السبعين، حاملًا على عاتقه رحلة طويلة لمركز دراسات فلسفة الدين ببغداد، ومجلة قضايا إسلامية معاصرة، ومشروع ضخم في علم الكلام الجديد يقود به أجيالًا معاصرة وأخرى قادمة في طريق الدين الديناميكي، القادر على السير الموفق نحو اللانهاية. نسأل الله أن يبارك له في عمره وعلمه وعمله، ويسبغ عليه رداء الصحة والعافية.

***

رجاء البوعلي - أديبة وكاتبة رأي سعودية

..................

* المشاركة رقم: (19) في ملف: آفاق التجديد في مشروع الرفاعي .. بمناسبة الذكرى السبعين لولادة عبد الجبار الرفاعي.

تنويه: هذا الموضوع يتضمن رسالة تخص أدباء وفناني العراق .

***

الأدب هو انعكاس للمشاعر الإنسانية المختلفة التي تعبر عن مواقف الحياة بما تزخر به من أحداث وصراعات وخبرات سارة، وأخرى أليمة.. وإحدى أهم هذه الخبرات وأعمقها أثراً في النفوس هي حالة الأكتئاب التي تنتاب الإنسان من بدء الخليقة وحتى يومنا هذا..

الاكتئاب في تراث القدماء:

إذا تتبعنا الفكر الإنساني منذ أقدم العصور نجد الاكتئاب يشيع في ثناياه حتى ليخيل إلى المرء انّ الكآبة واليأس ترتبط بالإنسان منذ يولد وحتى يستقر في قبره. ففي ما وصل إلينا من التراث الحضاري لمصر القديمة نجد أنّ أساطيرهم تعبر عن مآس متنوعة. فقصة الصراع بين الخير والشر التي ترمز لها أسطورة "إيزيس وأوزوريس"، وارتباط نهر النيل بالدموع المنهمرة، أرست منذ ذلك الحين طبائع اكتئابية راسخة لا تزال قائمة في مصر حتى يومنا هذا حيث يشترك الشعب بأكمله في تقاليد عميقة للأحزان، بينما لا يوجد للأفراح لدينا عادات بنفس العمق والاتساع.

وفي بلاد ما بين النهرين،عراقنا، يشير أقدم لوح كتابي إلى أن ملحمة جلجامش شهدت أول إشارة إلى الحزن من خلال رؤية جلجامش لجسد صديقه إنكيدو الذي مات بصورة محزنة، فيقول له "الآن، أي نوم هذا الذي غلبك واستولى عليك؟"، وطوال سبعة أيام يظل ينتف شعره ويمزّق ملابسه هائما على وجهه خارج أسوار مدينة أوروك السومرية.

الاكتئاب في آداب الغرب:

في مسرحية (هاملت) الخالدة ، جسّد "شكسبير" الأكتئاب في شخصية " هاملت" وكيف يصف يأسه من كل العالم، وكيف فقد الاستمتاع بكلّ متع ومباهج الحياة

وارتبط الاكتئاب بالمثالية لدى العديد من الأدباء والكتاب، ومنهم "شوبنهاور" الألماني الذي حدثت في وقته واقعة الانتحار الجماعي في ألمانيا. ويذكر لنا التأريخ انّ العديد من العظماء والمبدعين في الفن والأدب والسياسة قد اتصفوا بما يشبه الاكتئاب النفسي الذي كان يبدو عليهم في أحوال من التطرف تصل إلى الجنون أحياناً، من هؤلاء "ابن الرومي" الشاعر العربي المعروف الذي اشتهر بالتشاؤم وتوقع النحس، وشاعر فرنسا "بودلير" الذي كانت تنتابه الكآبة باستمرار.

وفي السياسة هناك "تشرشل" رئيس وزراء بريطانيا أبان الحرب العظمى الأخيرة حيث كان يعاني من الاكتئاب في أواخر أيامه وكان يتوهم عند وفاته انّه مطارد من كلب أسود. و"فان جوخ" الذي كانت تنتابه حالة اضطراب نفسي شديد اوصلته الى ان يقطع أذنه اليسرى ليهديها إلى امرأة، وحملت احدى أشهر لوحاته عنوان "المكتئب"!، التي تشكل مع لوحة (الصرخة) للفنان النرويجي (إدفارت مونك) اكثر اللوحات الفنية شهرة في تجسيد الاكتئاب.

اما في الشعر العربي فان الأكتئاب فيه.تحول في خيال الشاعر إلى تجربة شعورية توحي إليه بأشجى الأشعار، ولعل من فضل المصائب على الإنسان انّها تعيده بالألم إلى إنسانيته فإذا به يتحول إلى قيثارة تعزف لحناً يفيض بالشجن. وتزدحم كتب الشعر العربي بأشعار تعبر عن هذه التجربة في مناسبات مختلفة..اليك نماذج منها:

قال جرير يبكي زوجته:

لولا الحياء لهاجني استعبار

 ولزرت قبرك والحبيب يزار

ورثى مالك بن الريب نفسه وهو يحتضر:

ألا ليت شعري هل ابيتن ليلة

بجنب الغضا أزجى القلاص النواجيا

*

فليت الغضا لم يقطع الركب عرضه

وليت الغضا ماشي الركاب لياليا

فهو يتمنى لو تتأخر وفاته ليعود إلى أهله ووطنه ولا تنتهي حياته بهذه الصورة.

ونختمها بقول أبي العتاهية يبكي الشباب ويتمنى لو تعود أيامه:

بكيت على الشباب بدمع عيني

فلم يغن البكاء ولا النحيب

*

ألا ليت الشباب يعود يوماً

 فأخبره بما فعل المشيب

ان ما شهده العراقيون في الاربعين سنة الماضية من حالات اكتئاب، لم تحصل لأي شعب معاصر..فأين منها أدباء وفنانو العراق..هل استطاعوا تجسيدها بما يعكس وجعهم ؟! وهل وظّفوا فيها التفاؤل بان المستقبل لهم؟

تساؤل لهم..وليتهم اجابوا ..أدبا وفنا!

***

د. قاسم حسين صالح

إذا ما استبعدنا مثقفي بلدان العالم المتقدم (الغربي) عن دائرة المناقشات والمجادلات، إزاء طبيعة آرائهم ومواقفهم وتوقعاتهم حول فتوحات عصر (الذكاء الاصطناعي) وما يخبئه من نذر ومحاذير أو بشائر ومفاخر، باعتبار كونهم ينتمون الى ذات البيئة التاريخية والحضارية والمعرفية التي ساهمت بخلق الأسس العلمية والمقومات التكنولوجية، التي كان من شأنها تطور العقل الإنساني والارتقاء بمقومات وعيه الى مديات سامقة، لم يكن - قبل عقدين أو ثلاثة – حتى مجرد التفكير بها ناهيك عن تخيل أبعادها. بحيث ان كل مرحلة من مراحل التقدم العلمي والتطور المعرفي تأتي في سياقات اجتماعية وثقافية ونفسية (مهيأة) على نحو مسبق مما يتيح الانفتاح عليها واستقبال معطياتها، دون حصول تصدعات بنيوية وأزمات إنسانية تطال كيان المجتمع بعموم جمهوره من العامة والخاصة.

والحال، إذا ما أتيح لنا مقارنة ما تقدم على صعيد تعاطي مثقفي بلدان العالم المتخلف (الشرقي) مع تلك الفتوحات المتسارعة وما قد يتمخض عنها من نذر ويترتب عليها من مخاطر، فالواجب يستدعينا بداية مراعاة الخصائص النوعية للبيئة التاريخية والحضارية والمعرفية التي ينتمي إليها هؤلاء (النخبة)، قبل أن يصار الى البحث في طبيعة آرائهم ومواقفهم وتوقعاتهم حيال حصائل ونتائج ثورات (الذكاء الاصطناعي) المتسلسلة من حيث التتابع والمتناسلة من حيث الانتشار، والتي لا تني تستدعي فقط هواجس الخوف والقلق لدى شعوب البلدان (الرائدة) في هذا المجال البايوتكنولوجي فحسب، وإنما تثير الرعب والهلع لدى نظيرها شعوب البلدان (الراكدة) التي طالما كانت سرعة الانجازات العلمية وتوالي الابتكارات التقنية تباغتها وتفاجئها، إن لم تكن تحبطها وتجعلها في حالة من اليأس القنوط، على خلفية اتساع البون وبعد الشقة بينها وبين المراحل المعرفية والحضارية التي قطعتها شعوب العالم الأول. 

ومن هذا المنطلق، يمكننا تصور الكيفية التي يصوغ من خلالها (مثقفي) البلدان المتخلفة تصوراتهم ومواقفهم، ويعينوا طبيعة ردود أفعالهم وسلوكياتهم، ويرسموا حدود تطلعاتهم وتوقعاتهم، ويتاح لنا، بالتالي، الحكم على قدراتهم وإمكاناتهم في مواجهة المفاجآت والتحديات التي من المؤكد أن مخرجات (الذكاء الاصطناع) المتزايدة والمتسارعة، ستزعزع معمارهم المعرفي المتهالك، وستطيح بالكثير من ثوابت أفكارهم المبتسرة وتصوراتهم التقليدية التي ألفوها وتآلفوا معها، ليس فقط حيال الديناميات والسيرورات التي تتطور بموجبها المجتمعات المتقدمة والمتخلفة على حدّ سواء فحسب، بل وكذلك إزاء الخيارات والمسارات والمئالات التي ستتجه إليها في المستقبل.  

ولأن البنية الفكرية – المعرفية لمثقفي البلدان المتخلفة بنية رثة ومتآكلة لا تقوى على مغادرة معازلها الميثولوجية وأنساقها التصورية، فالمؤكد إن تعرض حاملي تلك البنية لصدمات عصر (الذكاء الاصطناعي) وما تحمله معها من زلازل ونوازل، من المرجح أنها ستطيح بكل ما تواضع عليه الإنسان من قيم ومبادئ ومثل على مدى أجيال متعاقبة، ستجعلهم في حالة من التيه والتخبط لا يحسدون عليها. ففي الوقت الذي لم يبرح فيه مثقفي (الطوائف) من التمترس والتخندق خلف انتماءاتهم البدائية وهوياتهم الهامشية وثقافاتهم الفرعية، ويحرصون كل الحرص على ثبات ولاءاتهم العصبية للجماعات المتشظية على أساس (القبائل / العشائر)، والمتذررة على أساس (المذاهب / الطوائف). فان فتوحات ومخرجات عصر (الذكاء الاصطناعي) وصلت الى حدّ إن كينونة الإنسان ذاته باتت محط شك وتساؤل !، لا من حيث طبيعته الاجتماعية ونزعته الحضارية التي جبل عليها فحسب، وإنما من حيث ماهيته البايولوجية كمخلوق بشري وتكوينه السايكولوجي كنوع ثقافي أيضا".

وهكذا، فالأرجح ان عصر (الذكاء الاصطناعي) التي باتت ملامحه تتكشف يوما"بعد يوم، سيكون وبالا"على مجتمعات البلدان المتخلفة والمتخلعة، ليس لأن ما يفصلها عن مسارات التطور العلمي والحضاري التي خاضت غمارها مجتمعات الغرب المتقدم سنين ضوئية، بحيث ان أي متغير يطرأ على تلك المسارات سرعان ما يجد صداها وقد انعكس بصيغ من الأزمات والتصدعات والصراعات فحسب، وإنما لكونها أدمنت حالة العبودية السياسية والعطالة الفكرية والقطيعة الحضارية. ولتدارك الوقوع في هذه المحنة – الكارثة، أو على الأقل التخفيف من شدة وطأتها والتقليل من زخم ارتداداتها، لا مناص أمام (مثقفي) هذه البلدان المتخلفة من إعادة التفكير بكل ما ألفوه من تصورات وتمثلات، وتواضعوا عليه من  علاقات وهويات، وإلاّ فان طوفان هذا العصر المرعب سيحيلهم الى كائنات ممسوخة أشبه ما تكون بالمومياءات المتحجرة لما قبل التاريخ!.  

***

ثامر عباس – باحث عراقي

 

تواجه ثقافتنا العربية في العقدين الاخيرين من بداية القرن الحادي والعشرين تحديات كثيرة من شأنها ان تهدد حركة تطورها في المجتمع يتعلق جزء كبير منها بالتطور التقني المتسارع الذي بات يفوق قدرة استيعاب الثقافة العربية لهذا التطور ولما يترتب عليه من تأثير في حياة الفرد.

يتطور العلم من حولنا تطوراً سريعاً بتقدم البحث العلمي وتكنلوجيا المعلومات وتقنية الأجهزة الآلية والحواسيب ومشاريع الذكاء الإصطناعي بشكل يتخطى قدرة استيعاب كثير من الناس، بل انه يتقدم بشكل يفوق الوقت الذي يحتاجه أحدنا لإعادة النظر في امور حياته، وإعادة ترتيب ما يستلزم منها . بالكاد يجد كثير من الناس وقتاً يتقنون فيه استخدام هذه التقنيات المتطورة، ويقضون في اعمالهم جزءاً كبيراً من يومهم كي يتمكنوا من كسب المزيد من المال الذي يجعلهم مواكبين لموديلات الأجهزة التي تطرحها شركات التقنية. بالتالي فغالبية الناس يجدون انفسهم - من حيث يشعرون ولا يشعرون - مجرد مستخدمين، يصنفهم المجتمع على وفق درجات إتقان أحدهم لإستخدام التقنية المتطورة. لم يعد لدى كثيرين وقت للتدبر والتفكير والتأمل، وسيترك التقدم المتسارع اثره النفسي السلبي على المستخدم، حيث شعوره بالضعف في شخصيته وقدرة تفكيره، بل وربما في جدوى حاجته الى التفكير في عصر تهيمن فيه الأرقام على الأفكار وتبتلعها في جوف سوقٍ عالمي يسلّع كل شيء. وسينتابه شعور متواصل بالتأخر، ليس في عجزه عن مواكبة تطور الدول الصناعية والدول الكبرى في العالم، وانما في عجزه عن إستيعاب هذه التطورات التقنية، فلا يكاد يجيد استخدام تطبيق تقني حتى يظهر أحدث منه، وهكذا. وهناك مسألة مهمة جداً، وهي ان المجتمع اخذ يتعامل مع تلك التقنية المتطورة كمعيار للحكم على ثقافة الفرد، فكلما كان بحوزته موبايل حديث كان مظهره اكثر ثقافة وامكانية من آخر يستخدم موديلاً أقدم من موديلات الموبايل.

في نهاية الفصل الأول من كتابه “ الدين والتحليل النفسي” يقول الفيلسوف الأمريكي من أصل الماني إيريك فروم “ ليس صحيحاً ان علينا التنازل عن إهتمامنا بالروح اذا كنا لا نقبل عقائد الدين، ذلك ان المحلل النفساني في وضع يسمح له بدراسة الإنسان عبر الدين وعبر نسق الرمز اللادينية “

التطور العلمي موجود قبل يومنا هذا، لكن ما يميزه اليوم هو ان عصر التقنية اتاح مخرجات التطور الصناعي للجميع فصار بمقدور الكل على اختلاف امكانياتهم المادية ان يقتنوا اجهزة الاتصال والحواسيب والانترنت. كما ان فكرة الاتصال والتواصل ليست بالجديدة فهي قديمة قدم بداية تعرف الانسان الى الطبيعة والى المجتمع عندما كان يسعى الى تطوير وسائل تواصله مع الاخرين، لكن ما يميز عالم الاتصال والتواصل اليوم هو ان التطور العلمي عمل على تمكين الجميع من استخدام هذه التقنية المتطورة حتى وان كانوا لا يعلمون شيئا عن علم الحاسبات او علم الاتصالات وهو بذلك يهيئ مساحة كبيرة جداً للاستخدام تتضمنها وفرة في المعلومات وتدفق هائل للبيانات وسرعة عالية في الوصول الى المعلومة والخبر، وحرية واسعة في التنقل والاختيار والاتصال، وحرية في التعبير والنشر. يقوم هذا التوسع على محتوى ضخم، وهذا المحتوى الضخم لا يخلو بحكم التوسع والتنوع من مادة جيدة ومادة رديئة، ومن نافع وضار، ومن خير وشر. وهذه الثنائة ليست بالجديدة، فهي قديمة قدم وجود الانسان على الارض وهناك حديث نبوي يورده اليعقوبي في تاريخه يخاطب فيه نبي الأمة الناس قائلاً : لا يقولن احدكم انا مع الناس.. وفي هذا القول اشارة الى نقطة ثقافية مهمة وهي ان الجو الغالب على مجتمع ما في فترة زمنية معينة لا يمكن اعتماده معيارا. كما لا يمكن اعتباره عذرا لتبرير السلوك. يقول النبي الخاتم: ايها الناس انما هما نجدان نجد خير ونجد شر.

اذا ثنائية الخير والشر فكرة قديمة زمنياً، لكن ما يميزها اليوم في عصر التقنية هو ان هذه الثنائية تتحرك بعيدا عن محور الانسانية.

الانسانية هي محور الثقافة، والثقافة هي مشروع انساني في المجتمع ، لذلك فإن القول بأن الثقافة هي ذلك العطاء الذي يقدمه المثقف للمجتمع لم يعد كافيا. وارى ان من الضروري جدا ان يصبح مفهوم الثقافة اليوم انها ذلك العطاء الذي يقدمه المثقف للمجتمع من اجل تمكين المجتمع ثقافيا. وبدون هذه الاضافة - تمكين المجتمع ثقافيا - اذا قارنا واقعنا اليوم بما كان عليه الحال في الماضي سنجد في عصر الجاهلية مثلاً شعراء مبدعون وخطباء متمكنون، لكن مجتمع ذلك الوقت لم يكن متمكنا ثقافيا، كما ان مجتمع اليوم غير متمكن ثقافيا. الفارق بين الزمنين هو ان ثقافة اليوم وظفت التطور التقني لصالح العطاء الذي يقدمه المثقف للمجتمع، فصرنا نرى اعدادا كبيرة من عنوانات الكتب واسماء كثيرة لكتاب ومؤلفين وصار هناك كتاب الكتروني وكتاب مجاني كما ان المحاضرات الثقافية تنوعت وتوسعت وصار بمقدور اشخاص في أماكن مختلفة ومتباعدة ان يتفقوا على عقد ندوة ثقافة في زمن محدد وان يتواصلوا مع بعضهم. لكن مع كل هذا الحراك لم تتطور الثقافة. وانا لست مع الذين يعدون هذا الانجاز تطوراً ثقافيا لأنني انسبه الى التقنية وليس الى الثقافة.

لكي تتطور الثقافة أرى من الضروري جدا اليوم ان تمر الثقافة من خلال الانثروبولوجيا علم الإنسان الذي يعنى بدراسة كل ماله علاقة بطبيعة المجتمع فهو علم يتناول الجانب الحياتي للانسان والجانب الاجتماعي والجانب الثقافي وتأثير اللغة.

علاقة الانسان بالآلة علاقة قديمة تعود الى ملايين السنين حيث الفأس الحجري، وكانت هذه العلاقة تتحرك في نطاق الوجود الطبيعي للانسان في الحياة، اما اليوم وبعد التطور العلمي والتوسع الصناعي ودخول الانانية على خط الانتاج الصناعي فقد تضررت الطبيعة واسيء الى المناخ وتعقدت سبل الحياة وكثرت احتياجاتها وفرض كل هذا على فهم علاقة الانسان بالالة تغيراً، فقد صارت الالة تتدخل في حياة الانسان ويراها بعض المشتغلين في التقنية انها تقرر مصيره، وحمل القلق بعضهم على التصريح بأن مستقبل عصر التقنية سيقضي على انسانية الانسان عندما يصبح كتلة بشرية فاقدة لمعنى الانسانية ويتحول المجتمع الى تجمعات فاقدة لمعنى المجتمع، وسيشمل القلق الثقافة حين تتحول الى مظهر حياتي بعد ان كانت جوهر الحياة.

المقلق في ذلك هو ان نشاط التقنية الرقمية لم يتوقف عند الخدمات الرائعة التي يقدمها للمثقف الباحث والمؤلف في الحصول على المصادر وسهولة الوصول الى المعلومة وسهولة التنضيد والاعداد للنشر ثم الطبع والتوزيع والنشر الورقي والنشر الالكتروني. فمشاريع الذكاء الاصطناعي تعمل على توفير تطبيقات ذكية تصل قدراتها الى تأليف كتاب، والى انتاج روبوت ذكي يقول الشعر. فهناك تطبيق يمكّن مستخدميه من اعداد كتاب من خلال عنوان ومضامين وحتى عدد الصفحات يحددها المستخدم، وما هي الا دقائق حتى يقدم التطبيق كتاباً مترابط المضامين. هذا العمل سيتسبب في ظهور القلق حيال ما ينتج من اعمال ثقافية وهذا القلق سيوصلنا الى الشك فيما نتلقى من مطبوعات وما نقرأ من مقالات وصحف ومجلات وهذا الشك سيغيّب المصداقية. عندها يبقى المعيار والرهان على الابداع، لأن الإبداع صفة انسانية لا الية.

يصنف العطاء البشري الى نوعين. نوع يراد منه اظهار الذات على انها ذات مبدعة، ونوع اخر يُراد منه تدريب المتلقين على تقليد الابداع لكي يبدعوا. اننا اليوم بحاجة ماسة الى تمكين المجتمع ثقافيا ليعتادوا على العطاء، ويتأتى لنا ذلك من خلال الانثروبولوجيا، ذلك العلم الذي يعرّف الثقافة انها دراسة طريقة حياة الناس والوسائل والسبل التي يستخدمونها للتعامل فيما بينهم من اجل تطوير تلك الوسائل والسبل.

في عصر التقنية اليوم وبعد وفرة وسهولة حصول الناس على منتجات التقنية المتطورة وتعقد سبل الحياة وصعوبة ظروفها لم يعد امام الفرد العادي متسع من الوقت للقراءة والتأمل والتفكير واصبحت التقنية الرقمية هي عالمه، وهي مصدر تشكيل ثقافته. رصدت دراسة ميدانية ان غالبية الشباب اليوم يعتمدون اعتماداً كلياً على الانترنت في الحصول على المعلومة، لذلك فإننا معنيون ومسؤولون اليوم عن تمكين المجتمع ثقافيا لأن عصر التقنية يشتغل على مشاريع الذكاء الاصطناعي التي توفر تطبيقات يمكن لها مستقبلاً ان تشكل خطورة على ثقافة الجيل القادم كتقنية التزييف العميق التي يمكن من خلالها تقديم احاديث وخطابات وتصريحات واراء واحكام على لسان شخصية لم تقل ذلك في الواقع، لكن التقنية الذكية ستتمكن من خداع المتلقي عبر دقة المقطع الصوتي الذي يتم انتاجه بواسطة هذه التقنية الذكية التي تحتاج الى صور للشخص وتسجيل صوتي مع فديو يظهر فيه حركات وجهه ويديه وبواسطة التزييف العميق يمكن اظهار هذه الشخصية للناس على غير محتواها الثقافي الحقيقي ومن شان هذا التطبيق ان يقدم مصادر مفبركة للجيل القادم الذي ستكون التقنية الذكية كل عالمه ومكتبته ومصادره.

يرى خبراء التقنية ان مستقبل التطور التقني ومشاريع الذكاء الاصطناعي ستتسبب في فقدان الناس القدرة على التمييز بين ما هو حقيقي وما هو مزيف وهنا يأتي دورنا الثقافي اليوم حيث تقع على المثقف الحقيقي مهمة تمكين المجتمع ثقافيا كي يمتلك قدرة التمييز بين الحقيقي والمزيف ويتأتى ذلك من خلال توضيح الخطوط العامة للحق الذي توفر معرفته قدرة تمكين الفرد من معرفة اهل الحق كما قال الامام علي عليه " اعرف الحق تعرف اهله "

إشباع الرغبات وتلبية احتياجات الانسان موضوع يشغل تفكير العقل الثقافي قديماً وحديثاً، لكن ما يميزه اليوم في عصر التقنية الرقمية المتطورة هو ان مشتريع الاستثمار الاقتصادي الصناعي لا تعطي مجالاً لوصول الى حد مقبول لإشباع هذه الرغبات، فدائماً هناك عروض جديدة واغراءات اكثر اثارة وتشويقاً من سابقاتها، وبهذا تقيدت حركة حياة الناس في حدود مواكبة الاصدارات الجديدة لسوق الاستهلاك في عالم التقنية الرقمية ووظفوا وجودهم في الحياة لخدمة ولمواكبة هذا التطور والتنوع، وصارت ثقافة الفرد تعني كثرة تسوقه وامكانيته المادية التي يمكنه من اقتناء موبايل احدث وسيارة افخم وارتياد مطاعم ارقى ومولات عالمية. نعم لقد نجحت مشاريع التقنية المتطورة في تحديد وربما في الغاء ظاهرة الموت جوعاً، لكن هذه المشاريع تسببت في نوع جديد من الفقر، يطلق عليه فقر الرفاهية. انها مرحلة ما بعد الجوع، مرحلة تعطيل الاعتقاد بفكرة القناعة واحلال مفهوم البراعة بديلاً عنه، إذ لم يعد تعليل الفقر في المجتمع على انه تقصير اداري في مؤسسات الدولة، وفشل سياسي وغياب للحس المجتمعي والمسؤولية الانسانية والالتزام الديني والاخلاقي، بقدر ما صار يعني فشل قدرة اولئك الفقراء في ركوب امواج التغيير الجديد في البلاد والعالم . تسبب هذا التعليل في دفع كثيرين الى تغيير اعتقاداتهم بخصوص ثنائية الحلال والحرام والمعقول واللامعقول في سبل كسب المال، وصارت ثنائية القبول والرفض بديلاً استهلاكياً مقبولاً يتيح لأشخاص توظيف الحيلة والغش على انها مواصفات معينة قابلة للقبول او الرفض ولا علاقة للأمر بالوعي الموضوعي الذاتي للفرد. وصار للشارع قوة فرض ثقافة المرحلة وان كانت ثقافة غير منتجة او غير صحيحة، لكن حرية استخدام وسائل التواصل وحرية النشر الالكتروني مع قلة وعي العامة من الناس وكثرة استخدامهم واعتمادهم الكلي على وسائل التواصل الاجتماعي، مكنهم من فرض ثنائية جديدة على المشهد الثقافي تتمثل في وجود نوعين من المثقفين. نوع مع ثقافة التبرير للتمرير، ونوع اخر مع ثقافة التغيير للتطوير. ثقافة التبرير اكثر إقبالاً وأكثر قبولاً في المجتمع، لأنها ثقافة تتناغم مع حاجة السلطة السياسية لفهم مجتزأ للثقافة ينحصر في الجانب الادبي والفني. كما تتناسب ثقافة التبرير مع محدودية استيعاب الشارع للنشاط الثقافي كدور فعال في التغيير، فقد شهدنا خلال العقدين الماضيين كثيراً من التظاهرات ومحاولات التغيير التي كانت تتم على يد وبجهود وسط جماهيري شعبي غاية مطاليبه تكمن في تلبية احتياجات المواطن الأساسية التي تنحصر في الماكل والملبس والمسكن والوظيفة الحكومية. النوع الأخر من المثقفين هو المثقف الذي يرى في الثقافة وسيلة للتغيير الحقيقي في عصر التقنية، لأن أساليب التغيير المالوفة كالتظاهرات والاحتجاجات والانقلابات لم تعد مجزية بعد ان تمكنت الآلة من التحكم في هذه الأساليب لصالح السلطات وقد لاحظنا ما حصل في تظاهرات هنا وهناك في دول العالم منها دول مصنفة ضمن الدول المتطورة صناعياً وعلمياً والاقوى نفوذاً مثل امريكا وكيف ان تظاهرات طلبة الجامعات المطالبين بإيقاف الحرب الصهيونية ضد الفسلطينيين لم تلق اهتماماً يرقى الى ثقافة انسنة الوجود البشري فقد طلبت رئيسة جامعة من قوات الشرطة الدخول الى الحرم الجامعي لفك اعتصام الطلبة، واعفيت رئسة جامعة اخرى لانها لم تتمكن من منع اعتصام الطلبة، ورفضت احدى الجامعات مطاليب المتظاهرين في فك ارتباط الجامعة بالمشاريع التي تقيمها مع شركات اسرائيلية واقترحت بدل ذلك مشاريع دعم للفلسطينيين.

ثقافة التمرير تنتج مثقفاً منهوماً بالشهرة والمظهر الذاتي للثقافة، بينما تنتج ثقافة التغيير مثقفاً مهموماً بالعبرة والمظهر الموضوعي للثقافة. فالمثقف المنهوم يتحرك بنشاطه الثقافي من اجل ان يصبح على مقربة من سلطة القوة ونفوذ المال والجاه. اما المثقف المهموم فإنه يتحرك بنشاطه الثقافي من اجل ان يصبح على مقربة من واقع الحال لتغييره الى ما ينبغي ان يكون عليه.

لا شك ان مناخات العالم المغبرة بشكل عام لها تأثيرها في ثقافات المجتمعات وفي تشكيل ثقافات جديدة بفعل هيمنة عالم الأرقام على طرق التفكير التي اخذت تنحرف عن انسنة نتاجات العقل الثقافي، وخلاصة القول كما يرى الأمريكي هاري ألين اوفر ستريت في كتابه (العقل الناضج) ص32 في الطبعة الثانية الصادرة سنة 1964م (ان الكائن البشري يمكن ان يصبح - في حدود معينة - أي شيء يراه محبباً اولئك الذين يحددون له المثيرات التي يستجيب لها..).

***

د. عدي عدنان البلداوي

لمناسبة انعقاد بطولة خليجي (25) في البصرة

كرة القدم والعنف

يقال ان لكل شيء جانبان مشرق ومظلم ، ايجابي وسلبي وكرة القدم عبر تاريخها الطويل لا تخلوا من هذه الصفة فهي ليست مجرد لعبة رياضية بل هي سياسة وثقافة وعادات تربط بين الشعوب.

لقد اختلف مؤرخو الرياضة في منشأ هذه اللعبة فمن  قائل ان اصلها من انكلترا ومن قال ان اصلها من روما وهناك من يقول ان منشـــأ كرة القدم من الصين مستندين الى مقولة قديمة تقول (لقد اخترعت الصين البارود وكرة القدم) وقد انكر الانكليز ذلك وقالوا ان الصين اخترعت البارود فقط اما كرة القدم فقد اخترعها الانكليز ، لكن اصر مؤرخي الصين يقول ان اول مباريات في لعبة كرة القدم جرت بين الصين واليابان عام 100 قبل الميلاد.

يقول لنا التاريخ ان الكرة كانت عبارة عن قطعة من الجلد تملأ بشعر من رؤوس النساء ثم تطورت الى قطعه من الجلد تملأ بالهواء وان الحضارات القديمة مثل بابل وآشور ومصر الفرعونية والرومان كانوا يعرفون هذه اللعبة لأغراض التسلية والضحك ، وكانت لعبة كرة القدم في روما والصين واليابان وحتى في بريطانيا نفسها تمارس بلا قيود وبلا قوانين وكانت ممارستها فيها الكثير من العنف والفوضى الى حد ان اهالي اسكتلندا لعبوا برؤوس القتلى الانكليز بعد انتهاء احدى المعارك بين الطرفين ، كما لعب الانكليز برؤوس قتلى الفايكنغ بسبب غزوهم لانكلترا الامر الذي جعل عدد كبير من ملوك برطانيا يصدرون اوامر ملكية بتحريم اللعبة والخالف تكون عقوبته الاعدام حين اصبحت المباراة عبارة عن معارك وحشية وظل الوضع في انكلترا على هذا المنوال حتى اصدرت جامعه كامبرج عام 1846م او قوانين مكتوبة لتنظيم هذه اللعبة   وفي عام 1863م صدر قانون اول اتحاد كروي نفذ فيه العنف داخل الملاعب وفي عام 1871م اقيمت اول بطولة لكرة القدم في انكلترا

اغرب حوادث العنف الكروية في اوربا وامريكا اللاتينية

في انكلترا وصل تحيز الناس الشديد لفريقهم ان وقعت معركة شديدة بين انصار الفريقين استخدمت فيها الاسلحة التي تستخدم عادة في الحروب مما ادى الى وقوع ضحايا من الجانبين مما اضطر ملك بريطانيا الى اصدار قرار بمحاكمة المتسببين في الحوادث وكان الحكم تحريم لعب كرة القدم على هذين الفريقين ثم الحبس على اللاعبين لمدة ثلاث سنوات مع الاشغال الشاقة وكما حصل في انكلترا حصل بين فرنسا وايطاليا ففي عام 1709م كانت هناك مباراة بين المنتخب الفرنسي والمنتخب الايطالي في ايطاليا وكانت الدولتان في حالة مشاحنات دولية وحروب مستمرة حيث سبق المباراة شحن نفسي رهيب للشعبين بسبب نتائج الحرب الاخيرة بينهما، وفاز الفريق الفرنسي على الايطالي بهدفين ضد لا شيء وسط آلاف الايطاليين المتهورين وبعد انتهاء المباراة القي القبض على كابتن الفريق الفرنسي وتم أستجوابه في غرفة الملابس وصدر الحكم عليه بالاعدام رميا بالرصاص ونفذ الحكم في الملعب وكان لهذا القرار اثر كبير حيث اشتعلت الحرب من جديد بين الدولتين .

وفي عام 1969 واثناء تصفيات كأس العالم لعام 1970 وقعت حرب بين دولتين من دول امريكا الوسطى هما هندوراس وسلفادور فقد كانت العلاقات متوترة بين البلدين وقد تزامنت لعبة كرة القدم بين البلدين مع هذه التوترات حيث بدات عمليات الشغب اثناء المباراة التي مهدت لقيام حرب بينهما 2 تموز من عام 1969 عندما شن الجيش السلفادوري هجوماً بالدبابات  على هندوراس وقد استمرت الحرب مدة اربعة ايام وسميت حرب الـ(100) ساعة ، اسفرت عن مقتل ثلاثة آلاف شخص واكثر من (15) الف جريح وآلاف المشردين .

***

غريب دوحي

سؤال مشروع يطرح نفسه علينا اليوم ونحن نعيش حالات عصيبة من فقدان الهويّة، بسبب مواقف ايديولوجيّة صماء مغلقة، أو بسبب عواطف جياشة تتحكم فيها رؤى سياسيّة تدفعنا لنكران الذات والتمسك بانتسابات تعود لجذور ثقافيّة لا تخلوا من البعد الأيديولوجي، على حساب انتسابات أعمق تاريخيّاً وأكثر أصالة تشكل القاع الحضاري الذي ننتمي إليه.

من هذا المنطلق دعونا نعود للنظر في ذاتنا، والبحث عن حقيقة وجودنا وانتمائنا كعرب، وذك من خلال طرحنا السؤال المشروع اليوم وهو التالي:

هل نحن ننتمي للحضارة العربيّة أم لحضارة دينيّة مسيحيّة كانت أم إسلاميّة؟.

لنتعرف بداية على معنى الحضارة؟.

الحضارة هي جملة المكونات المادية والروحيّة والقيميّة التي تعبر عن حياة مجتمع من المجتمعات أو أمّة من الأمم، كونتها تاريخيّاً هذه المجتمعات أو الأمم التي عاشت على أرض مشتركة، لها طبيعتها الجغرافيّة والمناخيّة التي تفرض تأثيراتها البيولوجيّة والنفسيّة والإنتاجيّة على هذه المجموعة البشريّة القائمة والمستقرة على هذه الأرض منذ لآلاف السنين، الأمر الذي أوجد لهذه الجماعة أو تلك تاريخاً مشتركاً، مثلما أصبح لها عبر السياق التاريخ لهذا الحياة المعيشيّة المشتركة تاريخيّاً علاقات مشتركة.. لغة وآمال وآلام ومصالح ماديّة ومعنويّة متمايزة عن غيرها من سمات وخصائص الحضارات الأخرى التي تأثرت بها أو أثرت فيها هي. هذا ويحدد حالة تمايز ونوعيّة سماتها وخصائص هذه الحضارة أوتلك، طبيعة العلاقات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة والخلقيّة الفاعلة في بنية هذه الحضارة. والحضارة تبدأ إرهاصاتها الأوليّة حيث ينتهي الاضطراب والقلق في حياة شعب من الشعوب، ويبدأ استقرار هذا الشعب في بيئته الجغرافيّة، فإذا ما أمِّنَ الإنسان على وجوده ومارس نشاطه الحياتي لإنتاج خيراته الماديّة والروحيّة، ستتحرر في نفسه دائماً دوافع التطلع نحو تنمية وتطوير ذاته وبلورة هويتها، وبعدئذ لا تنفك الحوافز الطبيعيّة والاجتماعيّة والروحيّة والابداعيّة لدى أبناء هذه الحضارة من استنهاضهم بشكل مستمر للمضيّ قدماً في طريق فهم الحياة وإغناء حضارتهم فيها.

إذاً إن الحضارة عبر سيرورتها وصيرورتها التاريخيتين، لا يمكن حصرها في الجانب الماديّ فقط كالمباني والقلاع والقصور، أو اختزالها في أنماطٍ سياسيّة كالإمبراطوريات والأسر الحاكمة والدول والطوائف والمذاهب فحسب، بل وبما أنتجه أبناء هذه الحضارة أيضاً من قيم روحيّة وفكريّة وأدبيّة وفنيّة وفلسفيّة، والأهم هنا برأيي إنتاج تلك المعطيات القانونيّة التي تسمح بتحقيق العيش المشترك بين المكونات الاجتماعيّة لهذه الحضارة أو تلك، على المستويات الاقتصاديّة والسياسيّة والاجتماعية والثقافيّة، تبين بالضرورة درجة رقيّ هذه الحضارة أو تخلفها. فالحضارة مثلاً التي وصلت إلى تحقيق دولة القانون والمؤسسات وتداول السلطة والمواطنة واحترم الرأي والرأي الآخر، والاعتراف بدور ومكانة المرأة. هي غير الحضارة التي لم تزل تعيش حالة العشيرة والقبيلة والطائفة والمذهب، والتي لم يزل مفهوم الدولة الحديثة (دولة القانون) وكل مفرداتها غائباً حتى ولو تشكلت لديها دول وأصبح لها أعلام ومؤسسات ودساتير وبرلمانات.

أما مفهوم الدين: فهو شكل من أشكال الوعي البشري، تحدده منظومة متسقة إلى حد كبير من التصورات والأمزجة والأفعال، في الوقت الذي تشكل فيه هذه التصورات والأمزجة والرموز والأمزجة أبعاداً ميثيولوجيّة في البنية الفكريّة والعقيديّة الدينيّة، والتي غالباً ما تتحول إلى أيديولوجيا تربط الإنسان وعالمه بالمطلق المتعالي (يهوه – الرب – الله)، على مستوى الديانات السماويّة، أو بشخصيّة محددة أنتجت هذا الدين على المستوى الوضعي كـ(بوذا وكنفيشيوس) على سبيل المثال لا الحصر. وللدين في طبيعته عموماً، جذور معرفيّة واجتماعيّة. ففي جذوره المعرفيّة تكمن رؤى وأفكار معرفة الواقع وتفسير تشكله وحركته وفق رؤى متعالية على الواقع ومفارقة له. أما على مستوى الجذور الاجتماعيّة، التي تشكل جملة المعطيات الموضعيّة للحياة الاجتماعيّة، التي غالباً ما تُسْتُوعًبُ أيضاً من قبل المتدينين استيعاباً غيبيّاَ أو أيديولوجيّاً مغلقاً غير قابل في بنيته الفكريّة على الالغاء أو التعديل أو المراجعة. بل وكثيرا ما دخلت الخرافة والأسطورة في تفسير علاقات الناس الاجتماعيّة في مراحل تاريخيّة سابقة ولم تزل بقاياها حاضرة لدى الشعوب المنتمية لهذا الدين أو ذاك.(1).

نعود لسؤالنا المشروع لأي ننتمي نحن العرب للحضارة العربيّة.. أم للدين.. أم للحضارتين معا؟. وعلى هذه، علينا أن نتعرف على سمات وخصائص هاتين الحضارتين ومعطياتها.

أولاً: الحضارة العربيّة: بالرغم من وجود من يقرر هناك، بأن الحضارة العربيّة هي حضارة القبائل العربيّة التي انتشرت في صحراء الجزيرة العربيّة، وهذا الاقرار يفتقد برأيي إلى البحث العلميّ والتقصي التاريخي الدقيق والعقلاني لدوافع هذه الآراء، في مسألة تحديد من هم العرب وأين انتشروا.؟. وبناءً على هذا الإقرار من قبل بعض الباحثين بأن العرب هم تلك القبائل العربيّة المنتشرة في الجزيرة العربيّة قبل الإسلام، فإن هذا التحديد غالباً ما يسيئ للعرب وحضارتهم، بحيث تتجلى منتجات هذه الحضارة البدويّة فيما قدمه هؤلاء البدو من لغة وشعر وفروسيّة وغزو وتعصب للقبيلة وغير ذلك من معطيات وقيم الحياة البدويّة. لذلك هذا ما يساهم في تشوه العرب حضاريّا، علماً أن الحركات الشعوبيّة في تاريخ الدولة العربيّة الإسلاميّة، قد لعبت على هذه الآراء منذ بدء انتشار العرب وتداخلهم مع الحضارات الأخرى بفعل ما سمي الفتوحات الإسلاميّة، حيث راح العديد من الكتاب والمفكرين والأدباء ممن ينتمون للحضارات الأخرى وخاصة الفارسيّة منها، يعملون على تشويه العرب وإظهار ضعف انتمائهم الحضاري وتردي قيمهم. وهذه هي النظرة الشعوبيّة التي مورست ضد العرب في تاريخ الدولة الإسلاميّة في مراحل ضعفها.

أما حقيقة العرب وحضارتهم، فتكمن أيضا وهذا المهم برأيي في الشعوب العربيّة التي انتشرت تاريخيّاً أيضاً في بلاد المغرب وسورية والعراق بفعل الهجرات التي عرفت بـ(الساميّة) والتي شكلت في بيئتها الجغرافية التي هاجرت إليها مكونات حضارة متقدمة في معطياتها الماديّة والفكريّة، جاء الإسلام فيما بعد ليؤكد هويتها العربيّة، فالقبائل العربيّة التي قطنت شبه الجزيرة العربيّة وهاجرت مع الفتوحات وامتزجت بالشعوب العربيّة الأصل المهاجرة سابقاً إلى بلاد الشام والعراق ومصر وبلاد المغرب. استطاعت أن تؤسس قبل قدوم الإسلام، ومنذ ما قبل الميلاد تشكيلات حضاريّة عريقة كما بينت أعلاه، ربما اتسمت هذه التشكيلات الحضاريّة بسمات خاصة دلّت على كل مكوّن من مكوناتها، كالأشوريّن والفينيقيّن والآراميّن والكنعانيّن والبابليين وغيرهم من المهاجرين ماقبل الميلاد الذين انتشروا في بلاد الرافين وشمال أفريقيا، إلا أن مجموع هذه التشكيلات الحضاريّة استطاعت فيما بعد أن تفرض نفسها تاريخيّاً كحضارة واحدة هي الحضارة العربيّة. التي قدمت للعالم شيات كثيرة، إن كان على المستوى المادي ممثلاً بالبناء المعماري والتقدم الصناعي الحرفي والزراعي في ذلك الوقت، أو على المستوى الثقافيّ والحقوقيّ، حيث قدمت هذه الحضارات أول أبجدية في التاريخ وأول قانون تشريعي. وعلى المستوى السياسي، حيث تشكلت دول لها حكوماتها ونظامها الإداري وبنيتها القانونيّة.. إلخ.

أما بالنسبة لـ"لحضارة الإسلاميّة" وهي الأكثر حضوراً وتأثيراً في مجريات حياة أبناء هذه الحضارة العربيّة عموماً وبكل ما احتوته من مكونات اجتماعيّة ودينية وثقافية، فهي الحضارة التي تشكلت مع ظهور الدعوة الإسلاميّة، وما حملته هذه الدعوة من رؤى توحيديّة، وقيم إنسانيّة نبيلة كالدعوة إلى العلم والمساواة وحريّة الرأي وغير ذلك. إلا أن هذه الدعوة جاءت (أولاً) لقبائل الجزيرة العربيّة، حيث شكلت قيمها البدويّة الأساس القيمي والأخلاقي والثقافي. إن كان بالنسبة لتأثرها بقيم الأحناف أو الصابئة أواليهوديّة أوالمسيحيّة، أو تأثرها بقيم الحضارات الأخرى التي انتشر فيها الإسلام تحت مظلة الفتوحات، كالحضارة الفارسية والهندية والرومانية واليونانية.

على العموم نستطيع القول: إن الحضارة الإسلاميّة قدمت على المستوى الماديّ الكثير من الجوامع، وفنون الأرابيسك والخط العربي، أما بالنسبة للجانب الفلسفيّ فقد قدم الفلاسفة العرب والمسلمين الكثير من المعارف العلميّة والعقلانيّة، ولكن المحزن أن كل ما قدموه في هذا الاتجاه (الفلسفة أو الأدب أو الفن) وخاصة ما يحمل البعد العقلانيّ منه، قد حُورب وهُمش أو أُقصي من الساحة الفكريّة والعمليّة فيما بعد من قبل القوى السلفيّة الأصوليّة الامتثاليّة، التي حاربت الشعر لغوايته، وحاربت الرسم والنحت لكونهما يجسدان اشخاصاً تذكرهم بآلهة الأصنام السابقة للإسلام، وحاربت فن الموسيقي والغناء لأنه يلهي الناس عن عبادة الله.. وبالتالي كل من عمل في الفلسفة واشتغل على العقل في علم الكلام وغيره كفر وزندق وبعضهم قتل. وهكذا تبين لنا تاريخيّاّ كيف ضاع من الحضارة الإسلاميّة، أو الحضارة العربيّة الإسلاميّة كل المعطيات الإبداعيّة العقلانيّة كالفلسفة والشعر والفن والأدب والرياضيات والكيمياء والفيزياء. لتبقى علوم الفقه والكلام السلفي الامتثالي واللغة، وتسييد النقل على العقل، واعتبار كل جديد بدعة.

إن ما نريد الوصول إليه في هذا الاتجاه، هو القول: نحن العرب بكل مكوناتنا الدينية اليوم ننتمي أولاً للحضارة العربيّة بكل تفريعاتها التي تعود إلى ما قبل الميلاد، ونحن ننتمي ثانياً للقيم الحضاريّة الإسلاميّة الأكثر حضوراً بين الديانات الأخرى. بيد أن الدعوة الإسلامية التي جاءت بداية على أرض العرب وحملها العرب للعالم الاخر، راحت بعد الفتوحات يتسرب إلى نصها المقدس الكثير من التفسيرات والتأويلات التي عملت على تقسيم الدعوة ذاتها إلى فرق ومذاهب وطوائف لم تعد تخدم لا العرب ولا الحضارة العربيًّة، هذا إضافة إلى محاربة كل القوى العقلانيّة والعمل على اقصائها أو تصفيتها، بدءً من جعد بن درهم وغيلان الدمشقي مرورا بابن المقفع وابن رشد وصولاً إلى فرج فودة وحامد أبو زيد.

من هذا المنطلق نقول: لنعد إلى حضارتنا التي اثبتنا فيها وجودنا التاريخي ... لنعد إلى عقلانيتها والمواقف الحضاريّة التنويريّة فيها التي افتقدناها بسبب سيادة النقل على العقل من قبل القوى الحاكمة ومشايخ السلطان وباسم المقدس، فتركنا الدنيا من أجل الفوز بالآخرة، فأصبحنا في ذيل قائمة الأمم. دعونا نعرف أن الدين لله، أما الوطن فهو للجميع.

***

د. عدنان عويّد - كاتب وباحث من سوريّة

......................

الهوامش:

1- راجع - د. عدنان عويّد – التبشير بين الأصوليّة المسيحيّة وسلطة التغريب – دار المدى – دمشق – 2000. ص17.

لا حاجة إلى إعادة التذكير بمطمح سوسيولوجيا الإعلام (العلم الجديد المنبثق عن مجال يحبل بالكثير من الاستيهامات والتأويلات السيميائية والبلاغية بكل شعابها وفواعلها)، في الاقتراب من مجتمع المعرفة، بما هي حقيقة واستشراف، يحتاج الفرد فيها إلى أن يكون فاعلا بمعرفته وأن يكون قادرا على استخدام المعرفة. أو بما يعني، أن المعرفة ليست بالضبط ما يعادل المعلومات، بل تذهب إلى أبعد من ذلك. وهذا يتطلب التكامل والاستخدام من قبل الفرد، ونجاعة في فهم خصوصياتها ومشاغلها العصرية المتحولة.

تتأسس فكرة المعرفة بهذا العقد الثقافي الجديد، على تحويل الإعلام في صراعه الأبدي مع الرسالة التي يحملها، والوظائف المتقاطعة التي يوظفها من أجل استمراره ومسؤوليته، على الاقتراب من تجسيد اقترابات "مجتمع المعرفة" ذاك، وبشكل أساسي في طريقة نقل المعلومات وتداولها واشتراكها مع باقي الاختصاصات الموازية لعالم التكنولوجيا. ويكون من اللازم أن تتأثر فوارق المعلومات، عندما يتم تجميعها، لتصبح المعرفة، بالإبدالات والأنشطة الأخرى، التي تستتبع مجال التوثيق والتدوين والاستقصاء، نسقا في الاستدلال وتعميق الرؤية واسترداد النصوص وما وراءها.

وبما أن وسائل الإعلام تساهم في زيادة كثافة المعلومات (تقنيات المعلومات والاتصالات الجديدة) والإنترنت، فإن معظم أنشطتنا البشرية والاقتصادية تعتمد على نقل المعلومات واكتساب المعرفة. وهو ما يعزز مكانة ضح أنفاس جديدة ومتحركة في علوم الإعلام، بالقراءات التي تمكننا من فهم نوازل العلوم الجديدة التي تسبح في كوكب يتحول في أزمنة مقتربة ودقيقة جدا.

ولهذا يتغلغل سؤال "السوسيولوجيا" في شكله، الذي ينهج إلى أن تكون المعرفة به علما واجدا ومنفردا ومتفردا، وأداة للقوة الصامدة والممتدة، وخاصة، لاختراع أسلحة جديدة سريعة التطور، والتي تنتصب على الحدود القصوى لكل التكنولوجيات الممكنة، التي تفسح المجال للتطور والمعرفة والإبداع.

وهو ما حاولنا، الاقتراب من إوالياته وأنساقه الواسعة والمضطربة، في مقالاتنا السابقة، والتي لا نبتغي من خلالها، تفكيك "سوسيولوجيا الإعلام والرقمنة"، على أساس إعادة قراءة تاريخ وذهنيات وسائل الإعلام، بروابطها المعقدة وغموض بياناتها الضخمة وأوثاق رقمنتها للمعلومات. ليس فقط بسبب إمكانات النمو التي تثيرها هذه الطفرات. ولكن أيضًا بسبب التحولات التي تولدها من حيث الممارسات الصحفية والتكنولوجية للنموذج الاقتصادي في عالم الرقمنة، كسياسة العرض وأنظمة إدارة الحقوق والوصول المستمر والفوري إلى المعلومات، وسياسة الاشتراك وعائدات الإعلانات، وتكاليف إنتاج المعلومات وطريقة الاستخدام والاستهلاك ..إلخ.

إن تسارع انفراط القيمة الأخلاقية والاجتماعية للمعلومات والبيانات، في عالم يضج بمتاهات التجذيف والاختزالية والتواطؤ والانحراف المهني، يشكل لدى الدارسين المهتمين، هاجسا يخفي من ورائه ندوبا عميقة، لم تكن لتوقفها تشابكات سياقات التطور المخيف لوسائل الإعلام، التي انزلقت في غفلة من الزمن، من سياق هش من البيانات إلى سياق مهول بملايين الوثائق والصور والتسجيلات ذات الإمكانات العالية، من خلال وضع جزء كبير من أنشطتها في المجال الرقمي. وكجزء من هذه الحركة، أضحى منطقيا وعلميا ومنهجيا تكييف الهياكل والأنشطة المتسارعة، مع هذه البيئة الجديدة.

صحيح أن هذا التكيف والاندماج ربما، سيأتي على حساب نقلة نوعية عميقة تحدث على مستويات متعددة. من بينها، رقمنة المعلومات التي أحدثت تحولًا جذريًا في القطاع السمعي البصري، والتزاماته في إيجاد أدوار ووظائف ملائمة مع ما أصبح يسمى ب "وسائط إعلام عابرة"، لتكون قادرة على المنافسة والصمود في وجه التيارات المتبدلة.

لكن إشكالية "الوصول إلى مصادر جديدة للبيانات"، أثارت دوما مصدر قلق متواتر، يؤرق فهوما جائلة تتغلف ب" خلق القيمة في اقتصاد المعرفة"، وتوفير الأدوات المخصصة لاستغلالها، كتقنيات البيانات الضخمة، وظهور مهارات وخبرات غير مسبوقة، سواء في مجال الكتابة، كمساهمات الروبوتات، ومستقبلات البيانات الحسابية الهائلة، واستكشاف أنساق فكرية وعلمية.. إلخ، من حيث إنشاء المحتوى مثلا، فيما يخص "السيناريوهات، الصور، المؤثرات الخاصة، مقاطع الفيديو". وهو ما دفعني، في خضم هذه الاعتبارات إلى محاولة الإجابة، عن أسباب بروز أحمال زائدة للمعلومات، واحتمالات مسخها وتدجينها وتطويرها إلى أخبار مزيفة، وما إلى ذلك.

***

د. مصطفى غَلْمَان

ليس معتاداً أن يتنازل الناس عن هوياتهم الفرعية، مهما كانت قليلة الأهمية عند الآخرين. بعد الحرب العالمية الثانية، تبنى الاتحاد السوفياتي ودول المعسكر الشرقي استراتيجية موسعة لتفكيك الهويات الدينية والقومية والإقليمية، واستبدال ما أسموه «هوية سوفياتية واحدة» بها. بعد أربعة عقود فحسب، رأينا كيف تحولت تلك الهويات المقهورة إلى عوامل هدم للهوية الكبرى. هذه التجربة المريرة تكررت في دول أخرى، وثبت عياناً أن القهر الآيديولوجي أو القومي والديني لا يفلح أبداً في تفكيك الهويات الصغرى أو قتل ثقافتها.

معرفتنا بهذه النتيجة لا تكفي لحل المشكل الواقعي، أي الارتياب القائم بين المجموعات الإثنية المختلفة، وهو ارتياب يتحول إلى قلق مزمن، وخوف عند كل طرف من نوايا الآخر.

لهذا السبب، نحتاج لفهم ظاهرة التنوع والتعدد في الهوية، سواء كان تنوعاً عمودياً كالاختلاف الديني والعرقي والجندري، أو كان أفقياً كالاختلاف الطبقي والثقافي والسياسي، إلخ. كما نحتاج لوضع الظاهرة في إطارها الصحيح، كي نشخص المشكلات بدقة، بدل أن نغرق في انفعالات اللحظة.

تلافياً للتعقيد الذي يلازم هذه المسائل، سأخصص هذه الكتابة لإيضاح أن التنوع قد يتحول إلى تضاد وتنافر بين الهويات، لكنه في غالب الحالات مجرد تزاحم، سببه مادي أو ثقافي، وقد يكون مؤقتاً. هذه نقطة مهمة لأن كثيراً من الناس يغفلون الفارق الكبير بين الاثنين. سوف أعرض في مقالات مقبلة جوانب أخرى...

هنا ثلاثة أمثلة واقعية على التضاد والتنافر بين الهويات. المثال الأول سياسي من آيرلندا الشمالية، كان يتحدث للتلفزيون قائلاً: «أنا آيرلندي ولست بريطانياً». فقال له المذيع: «أنت عضو في البرلمان البريطاني وتحمل جواز السفر البريطاني»، فيرد ذاك مرة أخرى «أنا آيرلندي». وقد سمعت تكراراً لهذه القصة بنفس التفاصيل تقريباً من أديب كردي – تركي، أكد خلال حديثه مرة بعد أخرى أنه كردي وليس تركياً. وسمعت شبيهاً لهذا من شخص مصري يقول أنا أتحدث اللغة العربية لكنني لست عربياً، ولا أريد الانتساب إلى العروبة. فالواضح أن هؤلاء الأشخاص ينظرون للهوية الأوسع كضد لهويتهم الخاصة، وأن إلزامهم بالأولى يؤدي بالضرورة إلى إلغاء الهوية الأخرى. الآيرلندي لا يرى بريطانيا وطناً له، ولو حمل جوازها، وكذلك الكردي في تركيا.

وفقاً لأبحاث أجريتها في سنوات ماضية، فإن الشعور بالتنافر والتضاد محدود جداً، ومحصور بين فئات صغيرة متطرفة. وهذا يشمل حتى المجتمعات التي تتعرض لقهر شديد، ولعل أقرب مثال على هذا هو العلاقة الحالية بين الروس والمسلمين من سكان الجمهوريات التابعة للاتحاد الروسي أو الجمهوريات التي كانت متحدة معه ثم استقلت. فرغم التاريخ الطويل للصراع، فإن الميل السائد حالياً ينحو للتسالم والتعايش وتناسي ذلك التاريخ. بل نجد هذا حتى في الدول التي شهدت صراعات أهلية كحال الشيشان ورواند ونيجيريا وآيرلندا وسريلانكا، على سبيل المثال.

تبدأ المشكلات حين يسعى أحد الأطراف للاستئثار بما هو مشترك بين المواطنين. وأوضحها الفرص المتاحة في المجال العام، كفرص الإثراء والوظائف والتعبير الحر عن الذات. ونعلم أن هذا حصل للأكراد في تركيا، حين حظرت طيلة 40 عاماً استعمال اللغة الكردية في المدارس والمؤسسات الرسمية والصحافة والاجتماعات العامة. وحصل شيء قريب من هذا في العراق وسوريا وإيران، الأمر الذي أدى إلى تفاقم التنافر بين الهويتين الوطنية والقومية، وتبرير الحديث عن كردستان كوطن قومي.

بعبارة أخرى، فإن الوضع الطبيعي لعلاقة الناس مع بعضهم هو التعايش والتسالم. وهو وضع سيبقى قائماً لأمد طويل، طالما لم يتعرض أي طرف لعدوان يتصل خصوصاً بمكونات الهوية. ولهذا فإن أبرز عوامل ترسيخ الوحدة الوطنية هو تبني الحكومات لسياسة عليا تحول دون امتهان الهويات الصغرى أو محاولة تفكيكها، أياً كان المبرر.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

كنت فيما سبق أرمز إلى الثقافة التي يمكن تطعيم المجتمع بها بالتصويبات القِيَمِيَّةِ بالثقافة النظيفة، لكني اليوم أؤكد أن هذا الطرح بات متجاوزا، ويمكن اعتباره من تنظير المثالية الفضفاض، لأن قضية الثقافة متناسقة البنيات. ففي ظل منشأ التحولات المتسرعة، بات المنتوج الثقافي والفني مغتصبا من قبل رُواد التفاهة والفن المزدوج. اليوم تحققت رؤية وبشارة من سلطة غزو الثقافة الرخوة، وبدت آلة التفكير في (الآخر) تستبد بالأفعال وحتى أنماط العيش، واحتلت ثقافة اللُّمجة السريعة عقول الناشئة، وسلوك البدانة المتفحمة باب النموذج الأمثل لمصفوفات الثقافة والفن.

هذه القضية الصحيحة نستوثق من صدقها نوعية المشكلات التي أسفرت عن موت المثقف العضوي، واندحار الثقافة الأصيلة الاجتماعية نحو فوهة المحروقات المدخنة، وخروج المثقف الوصولي الانتهازي من قمقم الريع (حلال). هي إذا خلطة لزجة عالقة، والتي أنتجت فعلا ثقافيا مشوها يستهدف رعاية التمييع، وقتل القيم الوسيطة. خلطة تكالبت عليها استلابا المنافع الذاتية والأنانية بالمفهوم الفرعوني (أنا رب ثقافتكم الأعلى... فلا تستفتوني في أمري) !!!

قد لا نقدر على توصيف جدوى الثقافة الاستراتيجي (النسق التاريخي) في المستقبل الذي يجيء، وبمحاذاة الماضي الذي ما ينفك يمضي بحاضره. ولكنا، قد نساهم قدر التمكين في نقد ثقافة المهادنة والمسالمة في نيل المكارم، والتي تتربع على عرش منح العطايا والدعم (حلال)، والتي باتت خبرتها الأولى تتفنن في كيفية إقصاء المنافسين المنتفعين، ومعرفة خلايا ملفات الدعم والموالاة  !!!

نعم، لن نختلف البتة في أن الثقافة المسنونة بفرائض الطاعة والخنوع، لن تُنتج بدا غير الثقافة الرخوة (أي أدلوجية)، والاستهلاك الفضفاض للفن والكتاب، وتشويه مفهوم القيم. هذه القضية بالضبط ينبغي بها البدء، أي أية ثقافة نريد ترسيخها ثقافة التمايز الطبقي أم ثقافة المطابقة والإنصاف؟ وأي متلق نستهدف من التذويب الفج للثقافة الرخوة؟ هل الثقافة والفن المدعومين من المال العام يمكن اعتبارهما ثقافة تحررية أم ثقافة إيديولوجية مفخخة؟ كيف يمكن أن نرتقي نحو الثقافة النسقية البنائية؟ أين يكمن الخلل هل في نوعية الثقافة والفن (المستورد) أو في أنماط الاستهلاك (الشعبوي) والتمويه بتمرير موجة  الثقافة النمطية غير الناضجة؟

فحين نتحدث عن السلوك ومنظومة القيم الاجتماعية، نجد بأن الثقافة عموما لم تنتج غير أوراق خريف مبعثرة برياح موسمية جراء منغصات العولمة القاسية (الحداثة البعدية)، وكذا رهانات (الآخر) الحاضر والغائب  بين الذوات المستلبة (حتى في نمط عيشها، وهيئة لباسها، واختمار تفكيرها المبنج بحفر الليل...) !!! نجد أننا بتنا قاب قوسين من ثقافة ذوي الأعراف (عمق التأخر) لا هي صحية ولا هي رخوة، ولكنها تحمل متاع الحياة، ونيل مكارم الدعم (حلال). إنها بحق ثقافة مدارك الارتباط وغباء المثاقفة المستفيدة من دعم القبة الحديدية الحمائية !!!

مشكلة الثقافة تتآخى بالرضاعة والنشأة مع مشاكل أخرى، ومن نفس فصيلة الطين المحموم، وقد تتوازى بالإضافة مع أزمة التعليم حدة، والخروج من سياسة محاربة الأمية والفرصة الثانية. مشكلة الثقافة، حين تفتتن بمسالك (شعبوية) التفاهة (التجريب الساذج)، والتي باتت سببا في دخول بوابة الإعلام و المؤتمرات الحصينة. تصطدم بحق المشكلة الثقافية في غياب الأثر النوعي للحمولة (الصدئة) الردمية، والغذاء الحار المقدم للمتلقي بطبع التطابق مع الذوق الرخو، وطمس (حكامة الدولة/ الحرية/ التاريخ/ العقل) مما ينتج لنا لازمة ( مَا بَغِيتُونَا نَقْراوْ.... مَا بَغِيتُونَا نَوْعَاوْ....بَاشْ تَبْقَاوْ فِينَا تَحَكْمُوا... !!!).

من الجهل الغبي، ألا نلتفت إلى العبارات المحرجة للمثقفين الجدد وأشباه المثقفين (المثقف الوظيفي) ورؤية الأنانية. من سوء التقدير الكمي ألا نفتش في تراكمات ثقافتنا ومنتجاتها الدانية والجافة بقلة استمطار الثقافة المدروسة، وإنشاء صيغة جديدة للتفكير في الثقافة الشعبية، ومتطلباتها الأساس. من التخوفات ذات المسؤوليات الدستورية، والقيم الاعتبارية تحصين الشباب بثقافة الثقة في الوطن والدولة والمؤسسات، لأن المساءلة اليوم بدت أشد تشاؤما، حين بات الشباب في ثقة عمياء في المواقع الإليكترونية (الهروب الجماعي عن الوطن)، هنا المحاسبة تفتح على السواء وبالتساوي مابين السياسي والمثقف، وما بين المؤسسات الكبرى التي تديرها الدولة (التعليم/ التشغيل/التأطير/الوعي والسلوكيات المدنية...).

قضية الثقافة عموما، هي قضية مجتمع يجب أن يكون متناسق البنيات. مجتمع ينتج التدافع السلمي لا الهروب من الوطن (الهروب الجماعي عن الوطن). مجتمع يصنع التفرد في البناء و الطموح ولا يوزع المآسي. مجتمع قادر على إنتاج التفكير والبدائل الممكنة. مجتمع يمتلك ثقافة السجال والجدال، ويرتقي نحو الانضباط للدولة والحق وعدالة القانون.

***

محسن الأكرمين

محاصرون في عالم الشاشات والمرايا، نتساءل عن هويتنا وعن معنى وجودنا، نعيش في زمن تسيطر فيه صورنا المعكوسة على حياتنا اليومية، حيث باتت المرايا، سواء كانت حقيقية أو مجازية، رمزًا لعصرنا. هذه الشاشات التي نقضي أمامها ساعات طويلة، تعكس لنا صوراً زائلة تتلاشى سريعاً في نهر النسيان، لم يعد يكفي أن نعيش ببساطة، بل علينا أن نعرض حياتنا ونوثق كل لحظة منها، وكأن وجودنا مرهون بالظهور في هذه المرايا الإلكترونية.

في عصرنا، لم يعد الترفيه أو العلم مجرد تجربة شخصية أو إنجاز فردي، بل تحول إلى استعراض دائم، الذهاب إلى حفل موسيقي لا يكتمل إلا بالتقاط صورة أو تسجيل مقطع فيديو، الباحثون، بدورهم، يسعون وراء الإعجابات، في محاولة ليُنظر إليهم ويُعترف بهم. لقد أصبحنا محاصرين في متاهة من الانعكاسات، وإذا لم تظهر صورتنا في المرآة، نشعر بأننا غير موجودين.

هذه الحالة ليست وليدة اللحظة، فمنذ أواخر القرن العشرين، تناول العديد من المفكرين هذه التحولات في الذاتية بأوصاف مثل "الثقافة النرجسية" و"عصر الفراغ"، لتتوالى الأبحاث والدراسات التي تبيّن كيف أثر النمط الحياتي المتسارع في تفتيت الذوات والسيطرة على أجسادنا وأفكارنا، ومع تزايد اعتمادنا على المرايا والشاشات، بات هذا التفتيت أكثر وضوحاً، حيث نجد أنفسنا نتعلق بصور متكاملة نراها في هذه المرايا المظلمة.

منذ القرن الماضي، اهتم العلماء بعلاقة الإنسان مع صورته في المرآة، كان "هنري والون" أول من تحدث عن "اختبار المرآة"، حيث يبدأ الطفل في التعرف على نفسه بين عمر 6 و18 شهراً، وهو في حضن والدته أو "الآخر الأول" كما يسميه بعض العلماء. عالم النفس الفرنسي "جاك لاكان" طور هذا المفهوم إلى ما يعرف بـ "مرحلة المرآة"، حيث يبدأ تكون (الأنا) لدى الطفل من خلال التماهي مع صورته في المرآة، في هذه المرحلة، يلعب (الآخر) دوراً حاسماً كداعم لتكوين هوية الطفل وتوفير "مساحة الدعم" التي تساهم في استقراره النفسي.

لكن اليوم، نعيش في ثقافة تهمش هذا الدعم البشري، فبدلاً من الاعتماد على الآخر، أصبحت المرايا هي التي تقدم لنا هذا الدعم الزائف والمؤقت. نحن نسقط في فخ "نرسيس"، ذلك الشخص كما تقول الأسطورة الذي ضاع في حب صورته حتى انتهى به الأمر في الظلام. وفي زمننا هذا، أصبح التعلق بهذه المرايا سبباً في انتشار أمراض الصحة النفسية مثل الاكتئاب والقلق، حيث يشعر الإنسان بالعزلة في مواجهة صورته فقط، دون وجود الآخر الذي يمكنه تقديم الدعم الحقيقي.

المشكلة ليست في الصورة ذاتها، بل في أن الصورة أصبحت فرضاً وجوديا في النسق الاجتماعي المعاصر، فنحن مطالبون بأن نظهر، وأن نبدو في أفضل حالاتنا، وأن نقدم لأنفسنا وللآخرين صورة مثالية عن حياتنا، لكن مع مرور الوقت، يصبح هذا الظهور عبئاً يزيد من شعورنا بالوحدة والعجز. الصور التي نراها في المرايا ليست كافية لدعمنا، بل هي وهم يتلاشى سريعاً، وكلما تعلقنا بها أكثر، زادت حاجتنا إلى الظهور أكثر.

الحل واضح، كما هو الحال في قصة "الرسالة المسروقة" لإدغار آلان بو، فالدعم الحقيقي يكمن في الآخر، في العلاقات الإنسانية التي تشكل الأساس الذي نقف عليه، المرآة لا تقدم لنا هذا الدعم، بل تعيد لنا صورة منعكسة لا حياة فيها. علينا أن نتذكر أن هناك دائماً آخرون حولنا، هم من يشكلون هويتنا ويساعدوننا على مواجهة هذا العالم، فقط من خلالهم، نستطيع أن نعيش حقاً.

***

الأستاذ محمد إبراهيم الزموري

علم الأنساب أو جينيالوجيا هو علم مهتم بأنساب القبائل والعشائر والأسر المحلية. ويُسمى عالم الأنساب نسَّابَة أو الأنسابيّ. (ويكيبيديا).

فالنسّابة خبير بالأنساب وجذور القبائل، يعرف رموزهم وتاريخهم وانتسابهم داخل كل قبيلة.

ومنظمات الأنساب متعددة، تعمل على تدريب علماء الانساب واعتمادهم، ومن أبرز تلك المنظمات في اسبانيا وامريكا اللاتينية هي:

1.  مؤسسة ايدالغوس الثقافية الإسبانية، وتضم مدرسة الأنساب وشعارات النبل والنبلاء، وهي الأقدم في العالم، منذ تأسيسها عام 1959. وتقدم دورة تمنح فيها شهادة دبلوم في الأنساب وشعارات النبل والنبلاء.

2. مدرسة "ماركيز دي أفيليس" التابعة لرابطة خريجي علم الأنساب وشعارات النبل والنبلاء،

الجامعة الوطنية للتعليم عن بعد، وتقدم  عن بعد الدورات الأتية:(UNED)3.

- ماجستير في قانون النبل والجوائز وشعارات النبل وعلم الأنساب،  شهادة جامعية متخصصة في الأنساب. أو خبير جامعي في شعارات النبل والأنساب والنبلاء

- في كوستاريكا: الأكاديمية الكوستاريكية لعلوم الأنساب

في بيرو: المعهد البيروفي لأبحاث الأنساب

- في المكسيك: جمعية علم الأنساب وتاريخ العائلة في المكسيك "علم الأنساب في المكسيك"، والتي تقدم دبلومً في علم الأنساب.

- المعهد المكسيكي لاعتماد علماء الأنساب: والذي يقدم شهادات دبلوم في علم الانساب ذات صلاحية رسمية.

في نيكاراغوا: أكاديمية نيكاراغوا لعلوم الأنساب

- في الولايات المتحدة الأمريكية:

- رابطة علماء الأنساب المحترفين،

- الجمعية الوطنية لعلم الأنساب.

- مجلس اعتماد علماء الأنساب.

يمكن لعلماء الأنساب الانضمام الى جمعيات أنساب مستقلة على أي مستوى: محلي أو إقليمي أو على مستوى الولاية أو البلد. وأشهر أعمالهم ومساهمتهم في علم الأنساب هي: جمعية الأنساب في ولاية يوتا وعلم الأنساب في المكسيك وجمعية علم الأنساب الإسبانية.

مثال على علماء الانساب هو ألفونسو دي فيغيروا إي ميلغار، الذي ولد في مدريد 1936 بعد الحرب الاهلية الاسبانية، وهو عالم أنساب ومؤرخ وكاتب إسباني ويحمل اللقب النبيل للدوق الرابع لتوفار مع عظمة اسبانيا. ابن ألفونسو دي فيغيروا وبيرميجيلو، ثالث دوق دي توفار، كبير لإسبانيا، ماركيز دي غاونا.

بدأ حياته المدرسية في المدرسة الألمانية الى حد التسع سنوات. أكمل دراسته الثانوية مع أساقفة سان انتون ودرس القانون في مدريد وسالامنكا، وتخرج عام 1959. درس دورات العلوم السياسية في باريس، وكذلك درس اللغة والادب في فرنسا. في 1961 درس اللغة والادب الإنكليزي في دوبلين ووسع الدراسة في كامبرج. بين سنتي 1962 و1969 شارك في بوفيه خوليان بيرياتوا الزغاراي، وخورخ كابيثاس وخوس انتونيو بيكو كابايروا في مدريد.

يعد من علماء اسبانيا العظام، كرس وقته الى بحوث الأنساب التي ومنها الدراسة التاريخية عن بعض العوائل الاسبانية 1965-1974 (المجلد السادس) والنبل، الشرف، الاسبانية 1970. وايضا كتب مقالات مختصة للمجلات الاتية: الدائرة، والمملكة، والنبلاء، ومجلة دراسات إكستريمادورا، ومجلة الكانتارا، وكراسات البحث التاريخي، ...الخ. كان عضوا في عدة هيئات اكاديمية. من سنة 1967 الى 1970 ورئيس قسم البرامج الثقافية في التلفاز الاسباني، وهيء النصوص لبعض البرامج الوثائقية والثقافية. وأيضا أجرى عدة مقابلات لعدة رؤساء امريكيون ذات أصل اسباني. وعمل محاضرا نشيطا في اسبانيا وامريكا اللاتينية. كان وترشح لمجلس الشيوخ عن مدريد وللكونغرس عن غويبوثكوا في الانتخابات لعامي 1977 و1979 للقوة الجديدة الذي كان عضوا فيها.

في الأول من نيسان سنة 1978 في مشهد أقامته الكتائب الاسبانية والقوة الجديدة واتحاد المقاتلين السابقين في  وادي لاخارا دعي الى إنشاء "الدولة الزرقاء" بالقوة. في الخطبة اللاذعة واهان الملك آنذاك وعلى أثرها تمت محاكمته وإدانته.

كتب رواية قصة حياة مذهب المتعة دون ألفارو دي أولوا، مرآة المتكبر (1966)، جروميك(1971)، كتب القصص، و قلة الأرجل الظريفة (1972). من بين الاعمال الأدبية المتعددة ممكن ذكر حول الشرف (1968)، المؤتمر المنعقد في أتينيو،  مدريد، الأحكام المسبقة حول العمل اليدوي والتجارة في إسبانيا الباروكية (1975) ، الأنساب التي شكلت الاسبانية أو رودريغيز مونينو وعلم الأنساب (1970) . من اعماله المهمة جدا سفرته الرومانسية في اسبانيا (1971). نشر أيضا اول مجلد لمذكراته تحت عنوان إذا لا اروي، انفجر (2007) وفي 2009 نشر الجزء الثاني لمذكراته" إذا لا اروي، انفجر". في 1965 اخرج مجموعة دراسة تاريخية حول بعض العوائل الاسبانية. حاليا تعيد تحريرها دار النشر المعروفة فابيولا للنشر الاسباني، التي قام المؤلف بتعديل وتطوير المجموعة، المؤلفة من 6 أجزاء مقسمة في 8 كتب.

استطاع إعادة تأهيل عدة عناوين لكبار الشخصيات السياسية، وفي الشؤون المالية، الخ. لشخصيات معروفه جدا في المجتمع، في العقود 1960 و1970. من تلك الشخصيات التي تم العثور عليها باحتيال، مخترعا القاب لم تكن موجودة من قبل، أو تزوير المستندات (مثل شهادات الميلاد، الخ)، او بناء أشجار عائلية غريبة، مع التواطؤ للأحد العاملين في وزارة العدل، "تسلل" في الوزارة واستطاع إعادة تأهيل تلك الالقاب (خطأ شنيع). ولهذا السبب أدين وترك اسبانيا لتجنب الحكم.

تزوج سنة 1965 باوليفيا غونثالث-كونت بوربون ورويدا سنة 1941 وماركيسة فيامانتيا دي بيرالس والتي رزق منها بابنة سنة 1969 واسموها كرستينا وهي الان باكر وبدون نسل.

ومثال اخر على علماء الانساب هو خايمه دي سالاثار دي اشا ، وهو مؤرخ وعالم أنساب إسباني وفضلا عن دكتور في الحقوق، ولد في سان سبستيان -اسبانيا عام 1947، رجل شرف وتفاني في تنظيم مالتا شغله منصب محامي. درس وتخرج من الجامعة كومبلوتنسه في مدريد، عضوا في الأكاديمية الملكية للتاريخ، وأكاديمي كامل في الأكاديمية الملكية ماتريتانس لشعارات النبل وعلم الأنساب

ووسام القديس يوحنا القدس من رودس ومالطا السيادي العسكري والإسبتاري وفيلق النبلاء الملكي.

والده برناردو دي سالاثار وغارثيا فياميل (1906-1992)، خريج حقوق، ومستشار خاص لكونت برشلونة وعضو بيته، ووالدته ماريا كارمن اشا وسانشث ارخونا (1916-2013) اخت ماركيز اشا الثاني والثالث حفيدة ماركيز ارخونا ومرتين الحفيدة الثلاثية لثاني ماركيز ريوكابادو.

من اعماله المتعددة:

1. نشأة اللقب في إسبانيا وتطوره (1991). مدريد: أكاديمية ماتريتانسي الملكية لشعارات النبل وعلم الأنساب. ردمك 978-84-604-0109-4.

2. منزل ملك قشتالة وليون في العصور الوسطى (2000). مدريد: مركز الدراسات السياسية والدستورية. ردمك 978-84-259-1128-6.3

3. دراسة تاريخية عن عائلة إكستريمادوران: عائلة سانشيز أرجونا (2001). مدريد: أكاديمية ماتريتانسي الملكية لشعارات النبل وعلم الأنساب. ردمك 978-84-88833-01-3

4. أحد مشاهير شركة ميروبريجنسي من القرن الخامس عشر، السيد أنطون نونيز من مدينة سيوداد رودريغو، كبير المحاسبين لدى إنريكي الرابع (2004). سيوداد رودريغو: مركز دراسات الميروبريجنس. ردمك 978-84-933679-0-9.

5. دليل الأنساب الإسباني (2006). مدريد: معهد سالازار وكاسترو. ردمك 978-84-89851-52-8

6. علم الأنساب: العلوم الآلية وتقنية البحث (2010). مدريد: الاتحاد الإسباني لمراكز الدراسات المحلية. ردمك 978-84-614-2601-0.

7. عظماء إسبانيا، القرنين الخامس عشر والحادي والعشرين (2012). مدريد: طبعات هيدالجويا. ردمك 978-84-939313-9-1.

8. السلالات الملكية في إسبانيا في العصور الوسطى (2021). مدريد. الأكاديمية الملكية للتاريخ والوكالة الحكومية الجريدة الرسمية. ردمك 978-84-340-2781-7.

***

اعداد وترجمة: أ. لقاء محمد بشير حسن

جامعة بغداد/كلية اللغات/قسم اللغة الاسبانية

 

1- تمهيد: مع تزايد موجات انتهاك حقوق الإنسان وما شهده العالم أجمع من حروب وصراعات عبر التاريخ البشري عامة، والتاريخ العربي خاصة، برزت العديد من الحركات والثورات التي طالبت بإعادة صياغة قواعد وقوانين تحفظ كرامة الإنسان. ويعد المفكر العراقي عبد الجبار الرفاعي من مؤسسي علم الكلام الجديد وفلسفة الدين في العالم الإسلامي، وأحد رواد فلسفة الأخلاق، الذين سلطوا الضوء على موضوع الإنسان بدراسته من كل الجوانب أولا، والتأصيل لمبدأ الكرامة الإنسانية ومحاولة تطبيقها على الحياة الواقعية ثانيا.  وهو من أهم المفكرين ليس في العراق فقط بل في العالم العربي، لما يحمله مشروعه الفكري لتجديد الفكر الديني عامة وعلم الكلام خاصة، ولما يتبناه من رؤية ترى أن فهم الدين يتطور تبعا لتطور فهم الإنسان لنفسه. نحاول أن نرصد أبعاد الكرامة الإنسانية في مشروعه، إذ يعد مشروع تجديد الفكر الديني لعبد الجبار الرفاعي نقلة نوعية في الدراسات الإسلامية، ورؤية جديدة مهد من خلالها لتأصيل مسألة الكرامة الإنسانية بطريقة جديدة في الفكر الديني. ومن أجل الوقوف على رؤية عبد الجبار الرفاعي لمسألة الكرامة الإنسانية التي وأولاها النصيب الأكبر في مشروعه التجديدي، أتت هاته الورقة. وللإجابة عن هاته الإشكالية استعنا بالمنهج الوصفي وأرفقناه بألية التحليل. من خلال الوقوف على أرائه وأقواله ومحاولة فهمها وتحليلها. بغية الوقوف على جوهر الكرامة وبيان معالم التجديد فيها في كتاباته.

2- تعريف الرفاعي للإنسان:

في ظل التقدم المعرفي الذي يرتبط ارتباط وثيقا بمحور الإنسان، أصبحت تطرح مواضيع وتثار إشكاليات حول :حقوق الإنسان، وحريته، ومركزيته في الكون والتطور الحضاري. ولعل أبرزها في الوقت الراهن إشكالية الكرامة الإنسانية، فتمت دراسة هذا الموضوع من زوايا وخلفيات فكرية متعددة،كل حسب مجاله وتخصصه. ففي ضوء فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد كان سؤال الإنسان في فكر عبد الجبار الرفاعي هو السؤال المركزي، الذي يدور في مداره سؤال الكرامة وكل الأسئلة بشأن الإنسان، وتطوف حوله كل المباحث والمشاغل في أعماله. الرفاعي يستنكر تعريف الإنسان المتداول في التراث الأرسطي، فتعريف الإنسان بـ "الحيوان الناطق" يراه يختزل الإنسان في بعد واحد. الإنسان في نظره: كائن مركب غامض، وما يجري على قوانين الطبيعة لا تنطبق على عقله وعاطفته وروحه، وذلك ما دعاه للقول: "له لو أنفقنا العمر كله باكتشاف الإنسان لا يضيع عمرنا هدرا".

لا يمكننا أن نعرج إلى موقف الرفاعي من مسألة الكرامة الإنسانية قبل الوقوف على تعريف الإنسان عنده، حيث عرّف الرفاعي الإنسان قائلا: "يمكن أن نعرف الإنسان بأنه كائن عاقل ٌ، عاطفيٌ، أخلاقيٌ، دينيٌ، جمالي ٌ، اجتماعيٌ، تاريخيٌ. الإنسان كائن متفرد ٌ،يتميز عن غيره من الكائنات في الأرض بـ : العقل، واللغة، والعواطف، والمخيلة، وتذوق الفن والاستمتاع بالجمال، ووعي الموت، والشعور بالزمان، والحاجة للأخلاق، والدين، وإنتاج الميثولوجيا، والرموز".[2] مؤكدا أن هذا ليس تعريفا بمعنى الحد التام المنطقي. وفي ضوء تعريفه شدد الرفاعي على أنه: "لا يمكن أن نفهم الدين قبل أن نفهم الإنسان أولا، وحاجته لمعنى حياته، وحاجته للكرامة والمساواة والحرية، فإعادة تعريف الإنسان في نظره هي المدخل الصحيح لإعادة تعريف الدين وكيفية فهمه وتفسير نصوصه.كل محاولة لإعادة البناء التربوي والتعليمي والثقافي للفرد، وإعادة بناء المجتمع لا تبدأ بإعادة تعريف الإنسان، وإعادة تعريف الدين، وبناء فهم جديد لنصوصه، تموت لحظة ولادتها"[3].

مبينا الرفاعي أن "الانسان أثمن رأسمال، وأثرى أنماط الاستثمار، الاستثمار في بناء الإنسان ورأس المال البشري لا يضاهيه أي رأسمال، لا رأسمال يتفوق عليه أبدا، مالم يصبح هذا النمط من الاستثمار مقدمة ومادة لكل استثمار، لن تنجز أي تنمية ما تنشده من وعود في بناء الأوطان. مأزق أوطاننا هو فشل الاستثمار في الإنسان"[4]. الإنسان "كائن استثنائي في وجوده، فهو الكائن الوحيد في الأرض الذي لا يتماثل معه أي كائن اخر، فلا نجد دينا عالميا يرى وجود الإنسان شيئا كالأشياء المادية أو كائنا كبقية الكائنات الحية. الإنسان وجوديا كائن ٌاستثنائي، يستحق التكريم الإلهي في حياته وبعد موته. لا يمكن أن ينال المكانة الوجودية للإنسان أو يسمو إليها أي شيء أخر خلقه الله في العالم. وجود الانسان ينفرد بكونه مرآة لوجود الله. أودع الله في كل إنسان روحا منه، إلا أن هذه الوديعة تحتجب متى احتجب الإنسان عن الله"[5].

وفي حديثه عن الرحمة بوصفها أساسا لأنسنة الإنسان يقول "ينشد هذا الفهم للدين الوصول إلى الله عبر الانسان، لذلك تتغلب فيه المقاصد الإنسانية في كل فعل على الفهم الحرفي الذي يتورط في الاستغراق في الشكل ويهدر المضمون"[6] ويضيف: "تجديد الصلة بالله تبدأ بتجديد الصلة بالإنسان. السبيل إلى الله يمر عبر رعاية عيال الله" مستدلا على ذلك بحديث (الخلق كلهم عيال الله، وأحب الخلق إليه أنفعهم لعياله).[7]

يحذِّر الرفاعي من تحويل الدين إلى أيديولوجيا، ويركز على ضرورة الاهتمام بالبعد الأنطولوجي في الدين، والمعاني الروحية والأخلاقية والجمالية التي ينشدها الدين. يحدد لنا الرفاعي الفرق بين دين الأيديولوجيا ودين الأنطولوجيا، بوصفه كامنا في الرؤية المتباينة لماهية الإنسان وماهية الدين بين الأيديولوجيا والأنطولوجيا، ومتجليا في تصورين لله وللعالم والإنسان في الدين متنافرين كل التنافر. ويشرح هذه الرؤية في كتابه الدين والظمأ الأنطولوجي بقوله أن دين الأيديولوجيا (هو الدين الذي يستخدمك، فيسخر حياتك وطاقاتك ومواهبك لتخدمه، ويفرض عليك حدوده وإطاره وأسيجته التي إن تخطيتها يصادر عليك دنياك وأخرتك). ودين الأنطولوجيا (هو الدين الذي يخدمك، إذ يمنح عقلك حرية التفكير، ولا يفرض عليك اقتباس صورة لا تمثلك أو أن تعيش حياتك نيابة عن غيرك، أو تكرر نماذج بشرية تطمس ذاتك). ويرى الرفاعي أن: (دين الأيديولوجيا يفشل في بناء حياة روحية أخلاقية أصيلة، ويطمس الأبعاد الإنسانية في الدين، ويميت الروح والقلب والعقل والضمير. إذ لا إنسانية بلا ضمير أخلاقي، ولا ضمير أخلاقي بلا مصدر إلزام ذاتي)[8].

من هنا تتضح العلاقة التي يلح عليها الرفاعي بين إعادة تعريف الإنسان وإعادة تعريف الدين، فإهمال الأبعاد الجوهرية في وجود الإنسان يؤدي إلى تضاءل حضور الدين إلى مجرد تقنين حركات المسلم الجسدية، وتنظيم فضاءاته المادية مكانيا وزمانيا، وإقامة الحدود الردعية عليه في حال اختراقه المنظومة التشريعية[9].

3- الكرامة الإنسانية في مشروع الرفاعي:

طرق عبد الجبار الرفاعي باب الكرامة الإنسانية في الدين، وعالج هذه القضية الشائكة بمهارة، وجعلها محورا من محاور أفكاره، حيث بيّن الرفاعي أن (الكرامة قيمة أصيلة وأنها أحد مقومات تحقق إنسانية الإنسان، حضورها يعني حضور إنسانية الإنسان، وغيابها يعني غياب إنسانية الإنسان)[10]. الكرامة في نظره قيمة للفرد، (تبدأ الكرامة بالفرد لتنتهي بكرامة الأمة، فلا كرامة لأمة بلا كرامة أفرادها[11].كرامة الدولة والوطن والمجتمع والهوية تبدأ بتكريم الفرد، عندما تنتهك كرامةُ الفرد تحت آية ذريعة، فلا كرامة لأحد، كل مجتمع تكون كرامة الافراد الشخصية فيه مستلبة هو مجتمع مستلب الكرامة)[12].

ويجعل الرفاعي (الإنسان غاية الدين. وكل دين لا تكون غايته الإنسان ليس إنسانيا. جوهر إنسانية الدين حماية الكرامة)، ويرفض الرفاعي كل أشكال التمييز بين الناس: (فكل دين لا يحمي كرامة الإنسان ويصونها ليس إنسانيا. الإنسان وكرامته وسكينته وطمأنينته وإسعاده غاية ما ينشده الدين، ولا كرامة بلا مساواة، الله خلق الناس متساوين في انسانيتهم، فليس هناك إنسان كامل واخر انسانيته ناقصة)[13]. الكرامة عنده هي الأصل، لذلك يقول: (يحتاج الإنسان إلى الحب، والأمان، والحرية، والمساواة، والاهتمام، والعناية، والاعتراف، والمكانة، والشهرة، والنفوذ، والسلطة، لكن احتياج كل إنسان للكرامة يختصر كل هذه الاحتياجات ويتقدم عليها. فالكرامة قيمة أنطولوجية يطلبها وجود الإنسان من حيث هو إنسان. كل رسالة تحريرية في التاريخ البشري تستمد مشروعيتها من قدرتها على استرداد الكرامة الإنسانية المهدورة، الكرامة هي وعي الإنسان بالحرية)[14].

الكرامة عند الرفاعي ذاتية وجودية (الإنسان يوجد مكرما، لا يكتسب الإنسان الكرامة بعد ولادته، الكرامة توجد بوجود الإنسان وتلبث معه أبدا حيثما كان. الكرامة رديفة الإستخلاف، خليفة الله في الأرض جعله قيّمًا وحافظًا ووكيلاً ونائباً عنه في الأرض)[15].كما شرح الرفاعي أن الكرامة لجميع البشر لذلك صار: (الإنسان بوصفه إنساناً لا غير يستحق الكرامة والحريات والحقوق، الإنسانية قيمة كونية عابرة للأعراق والثقافات والأديان، والكرامة هي الإطار الأخلاقي الذي تتوحد فيه قيمة الإنسان ومكانته، وتقديره لذاته وتقدير الغير له. الكرامة تضمن إنسانية الإنسان، وتكريم الإنسان بوصفه إنسانا واجب أخلاقي وليس منة أو تفضلا من أي أحد. الكرامة قيمة انسانية عليا، معناها واحدٌ صريحٌ يتساوى فيه كل الناس، بغض النظر عن دينهم وثقافتهم وجنسهم وموطنهم ولونهم ومهنتهم)[16]. الكرامة عند الرفاعي قيمة كونية، لكل إنسان نصابه فيها، لذلك يفرض الضمير الأخلاقي على الكل حمايتها، (احترام الكرامة الإنسانية مقصد مقاصد الدين وأسمى أهدافه)[17].

الإنسان يستمد قيمته ومكانته ومسؤوليته من كونه إنسانا لا غير. ومعيار المصداقية الأخلاقية والموقف الإنساني لأي دين أو معتقد أو نظام اجتماعي يعتمد في قدرته على النظر للكائن البشري بوصفه إنسانا من دون اعتبار لما هو خارج إنسانيته، والتعاطي معه بعيداً عن أي تصنيفات تفرضها الهوية وحدودها الرمزية التي تضعها الإثنية واللون والجنس والجغرافيا والثقافة والمعتقد[18].

يرى الرفاعي أن الإنسان ينفرد في القران بتكريمه، وذلك من الأثار الوجودية لتكريم الإنسان، وهو ما نصت عليه الآية: "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا"، الإسراء 70، وينفرد كذلك في تعليم آدم الأسماء، وذلك من الأثار الوجودية لتكريم الإنسان، وهو ما نصت عليه الآية: "وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ"، البقرة 31. [19]

وأوضح الرفاعي في موضع أخر (أن الكرامة هي وعي الإنسان بالحرية،كل رسالة في التاريخ البشري تستمد قيمتها ومشروعيتها من قدرتها على استرداد الكرامة البشرية المهدورة، وحماية الحرية. فالمعيار الكلي لاختبار إنسانية أي دين هو كيفية تعاطيه وإعلائه للكرامة الإنسانية، والموقع الذي تحتله الكرامة في منظومة القيم لديه. إنسانية الدين تختصرها نظرته للكرامة بوصفها القيمة التي تستحضر كل قيمة إنسانية،[20] الكرامة هي القيمة المركزية في حياة الكائن البشري، الإنسان الأصيل يضحي بحياته من أجل أن تُخلِد ذاكرة الوجود كرامته. الكرامة مكونٌ لكينونة الإنسان الوجودية، عنوانُ تكريم خلق الإنسان هو كرامته لا شيء أخر سواها، لأن انتهاك الكرامة يفضي إلى انتهاك كل حريات الإنسان وحقوقه)[21]. عبد الجبار الرفاعي ترتبط عنده الكرامة بحرية الفرد فقد ذهب الرفاعي إلى ضرورة الدفاع عن الحرية بما هي قيمة من القيم الضامنة للكرامة الإنسانية، وأن تمهد السبل لها أبستمولوجيا وأنطولوجيا[22]، وذلك في رأيه سبيل التجديد الوحيد لكل مشروع كلامي تحرري. وهو الضامن الأكيد لاستئناف التفكير في ممكنات الإجابة عن سؤال اللاهوت الجديد في ظل صياغة أنطولوجية متعمقة في علاقة بذاتها وبالأخر[23]. الكرامة والحرية من أوضح تجليات رحمة الله بالإنسان، الكرامة وعي الإنسان بالحرية.

خاتمة

نال مبحث الإنسان الذي بني على مبدأ الكرامة الإنسانية اهتماما كبيرا في كتابات عبد الجبار الرفاعي، حيث أصّل لرؤيته وربطها بالدين، محاولا إيجاد مفهوم للإنسان المكرم وفق هذا المبدأ، وفي الختام نخلص إلى مجموعة من النتائج أهمها:

يحضر في مؤلفات عبد الجبار الرفاعي التوكيد على أن الإنسان مكرم وجوديا، كما هي هبة الله له عندما خلقه، لذلك يربط الرفاعي دوما بين هذه العناصر الأساسية: الإنسانية والدين والكرامة والحرية.

2. الإقرار بأن الإنسان خلقه الله مكرما، ولهذا يواصل مشروع الرفاعي بناء الرؤية التكريمية للإنسان في إطار الدين، والحرص على بناء مفهوم الإنسان وفق هذه الرؤية.

3. أكد الرفاعي على أن الكرامة شاملة يتساوى فيها كقيمة جميع الناس، بغض النظر عن جنس الإنسان ولونه وعرقه ومعتقده ودينه.

4. مشروع عبد الجبار الرفاعي تجديدي، لذلك تميزت جهوده بالتجديد على مستوى المنهج، الموضوعات، اللغة، والغاية، كما تتطلب للضرورات التي تفرضها مستجدات العصر.

***

هاجر فرزولي

باحثة جزائرية، ماجستير فلسفة

.............................

قائمة المصادر والمراجع

* ورقة مقدمة للملتقى الوطني حول الكرامة الإنسانية: تحديات وآفاق، كلية الحقوق والعلوم السياسية، جامعة بجاية، الجزائر، 26 سبتمبر 2024.

1- عبد الجبار الرفاعي، الدين والظمأ الأنطولوجي، ط04،صدر عن مركز دراسات فلسفة الدين، بغداد، 2023.

2- عبد الجبار الرفاعي، مقدمة في علم الكلام الجديد،  ط02، دار المصورات،  السودان،2021.

3- مقال، عبد الجبار الرفاعي، إعادة تعريف الإنسان، الحوار المتمدن، 2022.

4- عبد الجبار الرفاعي، الدين والكرامة الإنسانية، ط02، مركز دراسات فلسفة الدين، بغداد،2022م.

5- عبد الجبار الرفاعي، الدين والاغتراب الميتافيزيقي، ط03، نشر من طرف مركز دراسات فلسفة الدين، بغداد.

6- ايمان المخينيني، في تأويلية علم الكلام قراءة زمانية مركبة، ط01، دار زينب، 2023م،  تونس.

7- طه عبد الرحمان، سؤال العمل،ط02،  المركز الثقافي العربي، 2012م،  المغرب..

- بالإضافة إلى اعتماد الحوارات المباشرة عبر الواتساب.

الهوامش

[2] - عبد الجبار الرفاعي، إعادة تعريف الإنسان، الحوار المتمدن، 2022.

[3] - عبد الجبار الرفاعي، الدين والكرامة الإنسانية، ط02، مركز دراسات فلسفة الدين، بغداد،2022م، ص15.

[4] -  مرجع سابق،عبد الجبار الرفاعي، الدين والظمأ الأنطولوجي، ص78.

[5] - عبد الجبار الرفاعي، الدين والكرامة الإنسانية، ص50-51.

[6] -عبد الجبار الرفاعي، الدين والاغتراب الميتافيزيقي، ط03، نشر من طرف مركز دراسات فلسفة الدين، بغداد، ص67.

[7] -عبد الجبار الرفاعي، الدين والاغتراب الميتافيزيقي،ص67.

[8] -، أنظر، ايمان المخينيني، في تأويلية علم الكلام قراءة زمانية مركبة، ط01، دار زينب، 2023م،  تونس، ص239.

[9] -مرجع نفسه ،ص238.

[10] - عبد الجبار الرفاعي، الدين والكرامة الإنسانية ،ص16.

[11] - المصدر نفسه، ص228.

[12] - المصدر نفسه، ص229.

[13] - المصدر نفسه، ص16.

[14] -عبد الجبار الرفاعي،  الدين والكرامة الإنسانية، ص229.

[15] - انظر: المصدر نفسه،  ص11.

[16] - عبد الجبار الرفاعي،  الدين والكرامة الإنسانية، ص17.

[17] - المصدر  نفسه،  نفس الصفحة.

[18] -المصدر  نفسه،   ص190.

[19] - عبد الجبار الرفاعي،    الدين والكرامة الإنسانية،  ص222.

[20] -  المصدر نفسه،   ص227.

[21] - المصدر نفسه،  ص296.

[22] - مصطلح مرادف لعلم ما بعد الطبيعة،  يبحث في طبيعة الوجود الأولية،   علم الوجود أو علم الكائن.

[23] - المرجع السابق،  ايمان خمينيني،   في تأويلية علم الكلام قراءة زمانية مركبة، ص252.

بحث الجزء الأول من هذا المقال عن منصب ودور ومفهوم رجل الدين في التاريخ. وأوضح المقال أن منصب رجل الدين كان معروفاً في الحضارات القديمة، وهو أيضاً معروف في الديانة المسيحية من خلال دور الكنيسة في أداء الشعائر والطقوس الدينية. وأوضح المقال، أن لا وجود لمنصب رجل الدين في الديانة الإسلامية ولا الحضارة الإسلامية، ولا يوجد مفهوم خاص ومعين لمصطلح رجل الدين (نشر المقال في صحيفة المثقف بتاريخ 2/10/2024).

ويبحث هذا المقال عن مفهوم رجل الدين في ثقافتنا المعاصرة، وكيف ومتى أصبح متداولاً في مجتمعاتنا.

كيف دخل مصطلح رجل الدين في الثقافة العربية؟

بعد كل هذا نتساءل إذن، من أين جاء مصطلح رجل الدين؟ متى ظهر ومتى أستُعمل؟ هي أسئلة لا يُعرف لها جواباً واضحاً ولا أكيداً، ولا يوجد دليلاً عليه في تاريخنا القديم ولا الحديث، ويبدو أنه دخيل على ثقافتنا وليس اصيل فيها.

الأرجح، إن مصطلح رجل الدين، دخل على ثقافتنا مع بداية عصر النهضة العربية، تحديداً بداية القرن العشرين. يبدو أن هذا المصطلح انتقل إلينا مع مبادئ النهضة الأوروبية، التي كانت تدعو إلى محاربة رجال الكنيسة (رجال الدين). ذلك لأن الكنيسة في العصور الوسطي الأوروبية، كانت تحتكر التعليم والمعرفة لرجالها فقط، وتُحرِّمه لمن ليس من رجالها، ولهذا السبب بنيت مبادئ النهضة الأوروبية على إن الكنيسة ورجالها (رجال الدين) هم السبب في تخلف المجتمع والعائق الرئيسي للنهضة. وعندما انفتح العرب على أوروبا في القرن التاسع عشر، وبدأت البعثات الدراسية الى أوروبا، ودرس المثقفين العرب عوامل وأسباب النهضة الأوروبية، حيث كان التركيز فيها على دور رجل الدين في تخلّف المجتمع، وتصوير رجل الدين بالمتخلّف والمشعوذ وغيرها من المسميات، فانتقلت هذه الصورة إلى مجتمعاتنا من خلال أفكارهم وكتاباتهم ونقاشاتهم. وتغلغلت هذه الصورة والفكرة في افكارنا وانتشرت في ثقافتنا، وأصبح متداولاً في مجتمعاتنا.

ماهي صورة رجل الدين في مخيلتنا الحالية؟

في الوقت الحاضر، تتمثل صورة رجل الدين في افكارنا عند ذكر كلمة رجل الدين، بأنه هو ذلك الشخص الذي يرتدي العمامة والعباية ويتكلم شططاً. وأنه هو الجاهل المتخلّف والمشعوّذ، الذي يُلام على كل مآسينا وتخلّفنا. وهذا تصور مغلوط، وناقص وغير صحيح لمفهوم رجل الدين. في الواقع، إن هذه الصورة تَهمل وتتجاهل وجود رجال الدين الصالحين، الذين هم بمثابة علماء الدين وفقهائه، وهم الذين يحضون باحترام المجتمع، ويركّز على فئة المدّعَين والجَهَلة ممن يطلق عليهم رجال الدين (وهم لا يستحقون هذا اللقب). إن مثل هؤلاء الأشخاص، المُدّعين، هم القلّة القلية من رجال الدين (إذا صح التعبير)، وفي الغالب فإنهم لا يحضون باحترام الناس. ونتساءل هنا: هل إن رجال مثل محمد عبده والدكتور احمد الطيب (شيخ الازهر) والعلامة محمد باقر الصدر والعلامة الشيخ الوائلي والكثير من امثالهم، يمثلون هذه الفئة المذمومة من رجال الدين؟ بالتأكيد كلا. إنهم رجال علم ودين وثقافة وقادة للمجتمع، يَسمع لهم الناس ويقتدون بهم. فلماذا ننساهم أو نتناساهم ونركّز على فئة جاهلة متخلفة، وهم قلة قليلة جداً، وليس لديهم ما يؤهلهم للقب رجل دين. ولماذا نعطيهم دور أكبر من حجمهم ونعتقد إن ما يقولونه سيؤثر في المجتمع؟ إن من يسمع لهم أو من يتبعهم هم رجال مثلهم، جهلة متخلّفون، ليس عندهم فكر ولا رأي، ولا يؤثرون في المجتمع. إن من يؤثر في المجتمع هم المثقفون والكتّاب والمؤلفون، الذين تُطرح آرائهم وافكارهم للنقاش والتداول، وهذا هو مجتمعنا الحالي، وليس مجتمع الجهالة والتخلف.

إن ما يقال عن رجال الدين (سواء الصالحين منهم أو المدّعين) أنهم ينشرون الاساطير والخرافات، فيه شيء من سوء الفهم والتجنّي. إن رجل الدين ينشر آرائه واجتهاداته النابعة من معرفته وايمانه بعقيدته الدينية. وهذا ما يؤيده فيه الناس الذين يسمعون له ويتّبِعونَه، انطلاقاً من اعتقادهم بأن هذه من مبادئ الدين وليست خرافات ولا اساطير. فلكل شخص حرية الرأي والمعتقد. وعلى العكس من هذا المنطق، فهناك من يعتبر كلام رجل الدين تخلّف واساطير وخرافات، لكن هذا يمثل رأيه الشخصي، وليس بالضرورة أن يكون مقبولاً من كل الناس. وهنا تبرز إشكالية حرية الرأي والمعتقد؛ إذ يجب على الجميع احترام الرأي الآخر مهما كان لا يتناسب مع أفكارهم وآرائهم. فما رأيك بمن يعبد البقرة ويتبارك ببولها، أليس هذا جهل وتخريف من وجه نظر البعض، لكنه بالنسبة لمن يمارسه عقيدة دينية مقدسة، ولا يجوز لنا أن ننتقص من عقيدته لكونها لا تتماشى مع آرائنا. وما رأيك بمن يقدّس الصليب ويعبده على الرغم من أنه مصنوع من الخشب أو المعدن، ليس فيه حياة ولا يضر ولا ينفع. هذه امثلة موجودة ومنتشرة في العالم، لكنها لا تعتبر وسائل تخلّف او جهل من قبل مجتمعاتهم، بل عقيدة وإيمان. فأين المقياس الصحيح. إن الانتقاص وازدراء الرأي الآخر لا يُصْلِح الأفكار أو العقائد بل ينشر الفرقة والتعصب والكراهية.

ثقافة التسامح

إن صورة رجل الدين المشوّهة هذه، إن كانت صحيحة، وهي بالتأكيد غير صحيحة، لا يجب أن تٌجابَه بالسخرية والازدراء، لأن هذا الأسلوب ينتج العداوة والكراهية، وبالتالي الفُرقة بين افراد المجتمع. إنهم إن كانوا يقولون بالخرافات والاساطير ويوصَفون بالمتخلّفين، كما يدّعي البعض، فالأولى بالذين يجابهونهم، خصوصاً إذا اعتبروا أنفسهم النخبة المثقفة في المجتمع، أن يَعمَلوا على تثقيفهم وتوعيتهم بالحجج والأدلة العقلية المُقنِعة، وأن يكونوا متسامحين معهم لا معادين لهم. فمن المعلوم إنَّ هؤلاء هم فئة لم يكن لها نصيب كاف في التعليم، ولا يملكون سعة الأفق أو رحابة في التفكير والمعرفة. إن معاداتهم والاستهزاء بهم يولّد ردود فعل معاكسة قد لا يُحمد عقباها. فإن لم يقنعهم الخطاب والحجج والادلة، فأعلم إن العيب ليس فيهم، بل في الخطاب والحجج والأدلة التي لم تكن مقنعة لهم ولم يتقبلوها. لذلك يتوجب على من يزدريهم، أن يجد سُبلاً أخرى لأقناعهم بدلاً من اتهامهم بالجهل والتخلّف. هذه سياسة التسامح التي انتهجها الغرب في نهضتهم بعد أن عاشوا سنين عصيبة من القتل والدمار بسبب المنهج الفكري المتعصب والمتطرف الذي كان منتشراً في أوروبا خلال العصور الوسطى. وبعد انتشار ثقافة التسامح في المجتمع الأوربي استقر المجتمع وبدأ ينهض ويتطور. وهنا يأتي دور المثقف العادل والعاقل، في مجتمعنا، في انتهاج سياسة التسامح والدعوة لها بدلا من الفوقية والتعصب والتطرف (وجَادِلهُم بالّتي هي أحْسَن). فالعبء الأكبر والدور الأهم يقع على المثقفين وأصحاب الفكر، في توعية وتثقيف المجتمع، وليس على غيرهم من افراد المجتمع، كونهم النخبة من المجتمع.

فليكن نهجنا سياسة التسامح واحترام الرأي الآخر، فمن حَسُن خُلُقه حَسُن لسانه ومن فَسَد خُلُقه فسد لسانه.

***

د. صائب المختار

لا شكَّ في أنَّ تراثنا العربي والإسلامي، قد نال حظَّه من الآثار السلبية المترتبة على الانفتاح الثقافي والتقدم التكنولوجي، بخلاف المجتمعات الأخرى التي تستغل ذلك الانفتاح والتقدم أحسن استغلال، وقد كنَّا نحن أولى بحسن التعامل مع هذه التقنيات الحديثة، لكن الغزو الثقافي والفكري أوجَدَ في بلادنا العربية والإسلامية مثالِبَ وسلبيَّاتٍ نسأل الله السلامة منها.

والعمل على حفظ التراث وصيانته والإفادة منه أمرٌ مطلوب وضروري؛ فالحاضر قائم على الماضي، وأمَّتنا العربية والإسلامية لها تراثها العريق على امتداد تاريخها الطويل؛ وهذا العمل ينبغي أن يقوم عليه ذَوُو العلم والفطنة والخبرة والدِّراية بعلوم التراث؛ فهو عمل حيوي لا مجال فيه للعبث أو التجريب الذي قد يقود إلى التخريب؛ وقد بذل كثير من العلماء المعاصرين والمحققين والباحثين جهودًا طيبةً في هذا الأمر، وقد وُفِّق كثيرٌ منهم إلى حدٍّ كبيرٍ في إنجاز أعمالٍ تدل على سعة علمهم وصحَّة فكرهم وسلامة منهجهم، وفي المقابل تعثَّر بعضهم بطريقة أو بأخرى، مع تفاوُتِ النتائج المترتبة على ذلك.

وفي السنوات الأخيرة ظهرت بعض المؤسسات التي تزعم الحفاظ على التراث، وتدَّعي لنفسها العلم والفكر والمنهجية، وهذه المؤسسات قد تتوافر لديها إمكانات العمل في هذا المجال، لكن بعضها يعمل من خلال باحثين ومحقِّقين لا تتوافر لدى بعضهم القدرات العلمية أو آليات البحث العلمي الصحيح، ونلاحظ أن الباحثين في علوم التراث عملوا من خلال مناهج مختلفة؛ فبعضهم يكتفي بنقل التراث من مخطوطات إلى كتب، دون بذل أي جهد علمي من تعليق أو استدراك، أو تنقيح لِما قد يكون لحِقَها من فكرٍ مدسوسٍ، أو تهذيبٍ علميٍّ ونقدٍ تحليليٍّ لِما قد يكون بها من أفكار متعارضة أو نحو ذلك؛ وهذا النوع من العمل الخالي من هذه الأمور ليس بشيء، والمؤسسات القائمة عليه لا جهد لها حتى تدَّعي لنفسها ما تدَّعيه.

في حين نرى مؤسساتٍ أخرى تقوم بدراسة التراث ونقده وتحليله، لكن دون علمٍ، فتنقد الصحيح زاعمةً أنه خطأ، وفي المقابل تنقل الخطأ كما هو، بإطراءٍ وإسهابٍ في الثناء عليه وجعْلِه حجَّة؛ وما ذلك إلا لِضَعف العاملين بهذه المؤسسات، وجهلهم بعلوم التراث قلبًا وقالبًا، وهذا النوع من العمل يسيء إلى التراث، ويزيد العبء على الباحثين الجادِّين والمحقِّقين المدقِّقين ذوي الخبرة والمهارة؛ الذين يجدون أنفسهم أمام أخطاء علمية مستحدثة وأفكار دخيلة ينبغي عليهم التخلص منها أولًا، ثم البدء من جديد في التعامل مع النَّصِّ التراثي بطريقة علمية ومنهجية صحيحة.

وبعض المؤسسات البحثية تلجأ إلى محققين ربما كانوا متخصِّصين تعليميًّا لكن بعضهم غير متخصص علميًّا، والفارق واضح بين المستوى التعليمي وبين المستوى العلمي؛ وتطلب منهم هذه المؤسسات تحقيق سلسلةٍ من كتب التراث في مجالٍ ما؛ كدواوين الشعر أو كتب الأدب واللغة أو الطَّبقات أو غيرها، وبعض هذه المؤلفات يحتاج تحقيقها إلى قدرات علمية خاصة؛ كدواوين الشعر مثلًا؛ فإنَّ تحقيقها يتطلَّب الإحاطة بعلم العروض، بجانب النحو والبلاغة وغير ذلك من آليات العمل في هذا الميدان، وبعض هؤلاء المحققين لا يتوافر فيهم ذلك، فيَنتج عنهم في النهاية عمل رديء قد يسيء إلى الشاعر الذي حقَّقوا ديوانه، أو الأديب الذي حقَّقوا كتابه!!.

وكما يبدو من قراءة الواقع؛ فإن السِّباق بين هذه المؤسسات ليس سِباقًا علميًّا تحاول من خلاله كل مؤسسة بذل ما لديها من قدرات علمية في هذا الجانب الحيوي من جوانب البحث العلمي والتحقيق والحفاظ على الهويَّة والفكر؛ لكنه سِباقٌ الهدفُ منه الكمُّ وليس الكيف، وكأنها مؤسسات أَخبارية تتسابق من أجل تغطية خبرٍ أو حدثٍ ما، دون الوقوف على أبعاده وملابساته؛ وهذا لا يصلح في العمل العلمي؛ الذي ينبغي أن يقوم على أساسٍ واعٍ متينٍ من البحث والتحقيق والتدقيق والاستنباط؛ من أجل إثبات الصواب، وإنصاف مَن قد يكون تعرَّض لظلمٍ من العلماء أصحاب تلك المؤلفات، لسببٍ أو لآخر.

والعمل الصحيح فيما يتعلق بالتراث يكون بالتَّبحُّر في علومه، وسَبْرِ مسائله، والوقوف على المستوى العلمي لمؤلِّفِيه، وموقف معاصريهم من مؤلَّفاتهم، والموازنة بينها وبين ما يتناقض معها من مؤلفاتٍ أخرى، وعرْضِ ذلك كله على ثوابت العلوم التي تندرج تحتها هذه المؤلفات، فما زال أناسٌ حتى اليوم يحتجُّون بآراء غير علمية لا لِسَببٍ سوى أنها وردت في مؤلفاتٍ قديمة، دون أن يكلِّفوا أنفسهم عناء البحث لكي يعلموا أن القدامى أيضًا قد فنَّدوا تلك الآراء وأثبتوا خطأها، أو أنها قد خالفت الصحيح لِما هو أقدم، أو أنَّ قائليها أنفسهم قد رجعوا عنها لمَّا عرفوا الصواب، بل إنَّ مِن هؤلاء مَن يتشبَّث بلفظةٍ مصحَّفةٍ أو معنى محرَّفٍ ناتجٍ عن أخطاء الطباعة أو نحو ذلك، ثم يسلِّم بصحَّتها دون بحثٍ أو تدقيق.

وقد كان العلماء قديمًا يتناولون مؤلفات أسلافهم بالشرح والتحليل في حلقات العلم، بما يشبه التحقيق العلمي للكتب والمخطوطات في هذا العصر، وكان من بينهم أيضًا من ينقل نقلًا دون تدقيق أو تعليق، ومنهم من كان يتناول كل مسألة بالتحليل والدراسة، تحسُّبًا لأخطاء الرُّواة في النقل ونحو ذلك؛ قال الصاحب بن عبَّاد [ت: 385هـ]: «وانتهيتُ إلى أبي سعيدٍ السيرافيِّ [ت: 368هـ]، وهو شيخ البلد، وفرد الأدب، وحَسَنُ التصرف، ووافر الحظ من علوم الأوائل؛ فسلَّمتُ عليه، وقعدتُ إليه، وبعضهم يقرأ "الجمهرة"، فقرأ (أَلْمَقْتُ)، فقلت: (لَمَقْتُ)، فدافعني الشيخ ساعة، ثم رجع إلى الأصل، فوجد حكايتي صحيحة، واستمر القارئ حتى أنشد قول [ت: 82هـ]:

رسمُ دارٍ وقفتُ في طَلَلِهْ*** كِدتُ أَقْضِي الغَداةَ مِنْ جَلَلِهْ

فأخطأ في ضبط كلمة (أَقْضِي) [بتسكين القاف وكسر الضاد]، فقرأها (أُقَضِّي) [بفتح القاف وتشديد الضاد المكسورة]، فقلتُ: أيها الشَّيخ؛ هذا لا يجوز، والمصراعان على هذا النشيد يخرجان من بحرين؛ الأول من الخفيف، والثاني من المنسرح؛ فقال: لِمَ لا تقول: الجميع من المنسرح، والمصراع الأول مخروم؟! فقلتُ: لا يدخل الخرم هذا البحر؛ لأن أوَّله (مستفعلن)، و(مفاعلن) هذه مزاحَفةٌ عنه، وإذا حذفنا متحركًا بقَّيْنا ساكنًا، وليس في كلام العرب ابتداءٌ به، وإنما هو (أَقْضِي) [بتسكين القاف وكسر الضاد]؛ فأمر بتغييره، ورفعني إلى جنبه».

وهذه القصة توضح طريقة التعامل الصحيح مع المادة العلمية؛ فابن عبَّادٍ في هذا الموقف استطاع بالحجة والمنطق إنصاف مؤلف "الجمهرة" من أن يُنسَب إليه خطأ زيادة ألِف التَّعدِية المقحمة على قوله (لَمَقْتُ)، وكذلك إنصاف الشاعر صاحب البيت المذكور مِن أن يُنسَب إليه خطأ في إقامة الوزن؛ ومن خلال ذلك وجَّه حلقة السيرافي إلى الصواب فيما يتدارسونه، ونلاحظ أيضًا أن استدراكاته على حلقة السيرافي لم تمنعه من الإقرار للسِّيرافي بِسَعة العلم والفضل.

وقد أتيحت في عصرنا الذي نعيشه الآن وسائل بحثية ومعرفية لم تكن متاحة في العصور السابقة، ولو تم استغلالها بصورة جيدة؛ لعرفنا أين تكمن القيمة العلمية في تراثنا العريق، ولاستطعنا صُنع جسور امتدادٍ معرفيٍّ، يساعدنا في إتمام ما شيَّده أسلافنا من حضارة علمية وفكرية، تُعِيد إلى أمَّتنا ريادتها وأمجادها؛ فالنظريات العلمية الحديثة لا تخلو من أساسٍ راسخٍ لها في التراث، الذي يجب العودة إليه ليكون نقطة انطلاقٍ مِن شأنها أن توفِّر الجهد والوقت، ولكن ذلك لا يمكن أبدًا أن يحدث إلا بإِعمال الفهم والاستقراء والاستنباط الصحيح، الذي نستطيع معه فهْم تراثنا الفهم الصحيح، وكم من نظرية في هذا العصر زعم بعض المعاصرين أنهم ابتكروها ابتكارًا، بينما هي في الواقع ضاربة بجذورها في أعماق تراثنا العربي والإسلامي!! والفارق الوحيد أن الذين يزعمون ابتكارها الآن لا يحسنون تطبيقها، أو أنهم انحرفوا بها تنظيرًا وتطبيقًا ثم زعموا الابتكار.

وقد يساهم فهم التراث ومعرفته، في إقامة الأدلة العلمية على صحَّة نظرياتٍ تراثيَّة لم يتطرق القائلون بها من أسلافنا إلى طرق إثباتها؛ ويفتح ذلك أيضًا المجال للإضافة والتعقيب، والتعميم أو التخصيص بحسب الموضوع وآليات بحثه المتاحة، وكذلك بناء نظريات مضادة قد تكون أدَّت إليها عوامل جديدة لم تكن معروفة عند أسلافنا؛ فالرجوع إلى التراث له فوائده الجمَّة في كل حال، لذلك يجب أن تُقدَّم المادة التراثية بشكل صحيح كما أرادها كاتبها، وليس كما نُقِلت عنه أو نُسِخت مصحَّفة أو محرَّفة أو مَشُوبةً بمغالطاتٍ لا يقصدها أو نحو ذلك.

فجَمعُ التراث وحِفظُه؛ لا بدَّ أن يتم من خلال منهج علمي صحيح يضمن صيانته وتهذيبه؛ حتى تتحقق الفائدة منه، على النحو الذي بيَّنَّاه في السطور السابقة.

***

حسن الحضري - عضو اتحاد كتاب مصر

(قراءة في بِنية العقليَّة الاتِّباعيَّة)

قلتُ لـ(ذي القُروح)، في المساق الماضي:

ـ لنعُد إلى حسم تلك الفِرية الزاعمة أنَّ الآيات المتعلِّقة بالحُرِّيَّة الدِّينيَّة إنَّما كانت مَكِّيَّة لا مَدَنيَّة، كما يدندن بعض أصحاب هذا الرأي. 

ـ لنفعل ذلك، متنزِّلين بهذا عند قياسهم الأخطل، الذاهب إلى أنَّ القتال كان ينبغي أن يُصدَع به من أوَّل يوم، وإلَّا فإنَّ (محمَّدًا) كان يَلْبَس لكلِّ أوانٍ لَبُوسه، منتهين إلى أنَّ مبدأ الحُرِّيَّة الدِّينيَّة ليس بمبدإٍ إسلاميٍّ، بل الإسلام دِين الغزو والسَّيف والدَّم والهَدْم، لا يحفل باختيارات الناس، ولا باستقلال إراداتهم، ولا بحُرِّيَّاتهم، بل يمضي في إجبارهم على اعتناقه اعتسافًا، حسب دعاوَى هؤلاء وأسلافهم.  إلَّا أنَّه قبل بيان ما يناقض تلك الدَّعاوَى المتهافتة، لا بُدَّ من الإشارة إلى مبدأ الحُريَّة في الإسلام.  فالحقُّ الذي لا يجهله مطَّلع على الإسلام- إنْ كان نقيًّا من التعصُّب أو الغرض- أنَّ فِرية الجَبْريَّة الدِّينيَّة يصادمها المبدأ الإسلاميُّ حول ارتباط الدِّين أساسًا بالحُرِّيَّة؛ ذلك أنَّ من مناطات التكليف للمسلم الحُرِّيَّة، فكيف لا يكون ذلك أساسًا للدخول في هذا الدِّين ابتداءً؟!

ـ لا معنى أصلًا للإيمان، ولا للعمل، ما لم يكن عن اختيارٍ حُرٍّ. 

ـ وهذا هو الإسلام الحق، الذي يريد بعض أتباعه، وبعض خصومه، تصويره على غير وجهه. 

ـ ما خالف في هذا إلَّا بعض المتصوِّفة، الزاعمين أنَّ الناس وأعمالهم من عَمَلِ الله، بما في ذلك الشرور والقبائح، مستدلِّين استدلالًا تدليسيًّا بالآية: «وَاللَّـهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ»، (سُورة الصافات، الآية96). 

ـ أضحكتني أضحك الله سنَّك! وكجميع المدلِّسين تراهم يقتطعون النصَّ من سياقه، كيلا ينفضح زيفهم، موهمين أنَّ «القرآن» يقول إنَّ أعمال الناس من خلق الله.  على حين أنَّ سياق الآيات إنَّما جاء في كلام (إبراهيم) عن الأصنام وعُبَّادها، قائلًا: إنَّ قومه وما يعبدون من أصنام نحتوها بأيديهم مخلوقون جميعًا لله: «قَالَ: أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ؟ وَاللَّـهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ.» (سُورة الصافات، الآيتان 95- 96).  وما من عاقل إلَّا يفهم المقصود هنا، ولن يخطر في باله أنَّ الآيتين تذهبان إلى أنَّ الله خلق لهم الأصنام لعبادتها، فضلًا عن أنَّه خلق عبادتها، وإلَّا فيم العتاب والعقاب؟!  لكنَّه خلق الناس وموادَّ ما يصنعون.

ـ ماذا عن الاستناد الواهي إلى أنَّ الآيات المَكِّيَّة كانت وحدها السِّلميَّة في حين جاءت الآيات المَدَنيَّة حربيَّة؟

ـ ذاك استنادٌ أوهَى من مزاعم الصهاينة في (فلسطين)!

ـ لأنَّ الأخيرة (المَدَنيَّة)- كما يقول هؤلاء- لا تعترف بحُريَّة الدِّين ولا بحُريَّة الحياة، بل تسعى إلى أن تُكرِه الناس حتى يكونوا مسلمين!

ـ أعلمُ ذلك الهراء. وكأنَّ لسان حال هؤلاء الزاعمين أنَّ آيات (مَكَّة) قد نُسِخت، وانتهت أحكامها، ومن ثَمَّ فهُم يعتقدون أنَّ آية، كقوله تعالى، من (سُورة الإسراء)، وهي مَكِّيَّة: «وَبِالحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالحَقِّ نَزَلَ، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا. وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ، لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ، وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا. قُلْ: آمِنُوا بِهِ، أَوْ لَا تُؤْمِنُوا؛ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ، يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا.»، أو قوله من السُّورة الأخرى، التي يصنِّفها المفسرون على أنَّها مَكِّيَّة أيضًا: «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ، لَآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا؛ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ؟!»، لم تَعُد هذه ولا تلك قائمة الحُكم، بزعمهم، وإنْ تلوناها وصلَّينا بها!

ـ علامَ تقوم هذه المزاعم؟

ـ هذه المزاعم كلُّها لا أراها تقوم على شيء، لا من العقل ولا من النقل، فضلًا عن النصِّ، وإنَّما هي انتقاءات محض، ممَّا يريدون انتقاءه من النصوص لما يريدون الإدلاء به من الأقاويل.  وإلَّا فما أعمى القومَ عن آية (سُورة البقرة)- وهي سُورة مَدَنيَّة، لا مَكِّيَّة- وهي واضحة الدلالة قاطعة الحُجيَّة في ما يخوضون فيه: «لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ، قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ؛ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّـهِ، فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقَى، لَا انفِصَامَ لَهَا، وَاللَّـهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.» 

ـ أين دعواهم من منطوق هذه الآية الذي ينفي عن الإسلام الإكراه في الدِّين؟! 

ـ بل لقد جاء في سبب نزول هذه الآية ما يدلُّ على ما هو أكثر من ذلك، في ضمان الحُريَّة الدِّينيَّة عمومًا، وذلك بمنع الأب من إجبار بنيه كي يتبعوا دِينه، فيكونوا مسلمين أو غير مسلمين، على نهج الجاهليِّين في اتباع ما وجدوا عليه آباءهم.  ولقد نزلت بذلك الحُكم في ذروة العهد المَدَني، إذ تمَّ للإسلام تمكينه وانتصاره على خصومه، من المشركين واليهود معًا. 

ـ ما سبب نزولها؟

ـ جاء في سبب نزول الآية، عن (ابن عبَّاس)، قال: «كَانَتِ المَرْأَةُ مِنْ نِسَاءِ الأَنْصَارِ تَكُونُ مِقْلَاتًا، [أي قليلة الولد]، فَتَجْعَلُ عَلَى نَفْسِهَا إِنْ عَاشَ لَهَا وَلَدٌ أَنْ تُهَوِّدَهُ [أي قبل ظهور الإسلام]، فَلَمَّا أُجْلِيَتِ النَّضِيرُ، كَانَ فِيهِمْ مِن أَبْنَاءِ الأَنْصَارِ، فَقَالُوا: لَا نَدَعُ أَبْنَاءَنَا، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: «لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ، قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ».»  وفي رواية أخرى أنَّها نزلتْ في رجلٍ من الأنصار، يكنى (أبا الحصين)، وكان له ابنان، فقَدِم تُجَّار (الشَّام) إلى (المَدِينة) يحملون الزيت، فلمَّا أرادوا الرجوع من المَدِينة أتاهم ابنا أبي الحصين، فدعوهما إلى النَّصرانيَّة، فتنصَّرا وخرجا إلى الشَّام، فأخبر أبو الحصين رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: «أأطلبهما؟» فأنزل الله عزَّ وجلَّ: «لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ».» (انظر في هذا: تفسير الطبري، وتفسير الجلالَين، وغيرهما، في شأن الآية 256 من سُورة البقرة، وسبب نزولها). 

ـ وإذا كان ذلك كذلك في حقِّ الولد، فمن باب أَولى أن يكون في حقِّ غيره.

ـ ومن باب أَولى أيضًا القول، إذن: لا غَزْوَ في الدِّين. أي لا يُغزَى غير المسلم لمجرَّد إرغامه على الإسلام. 

ـ الجهاد جهاد دَفْع؟

ـ إنَّما الجهاد جهاد الدَّفْع، كما هو الوجه الراجح الموافق لهَدْي الإسلام، ومعروف رأفته وعدالته وسياسته العقلانيَّة، لا تلك السياسة الهوجاء التي تُسوِّغ الإرهاب، وتُبَرِّر العدوان على خلق الله من الشعوب الآمنة، باسم الغزو، وفتح البلدان، ونشر الإسلام. 

ـ ماذا عمَّا عدا جهاد الدَّفع قديمًا؟

ـ ما عدا جهاد الدَّفع لا يبدو إلَّا (جهاد سياسة)، وتوسُّع، وبسط نفوذ، وتأمين ممالك من العدوان الخارجي، بحُكم المدافعة البَشريَّة، وحُكم السَّعي إلى التغلُّب الإمبراطوري، كما هو الحال لدَى كلِّ الأُمم عبر التاريخ كلِّه، لا بحُكم الواجب الدِّيني أو تنفيذ أمر الله ورسوله.  وفرقٌ بين هذا وذاك. 

ـ سيرة الرسول شاهدة على أنَّه لم يُكرِه الناس حتى يكونوا مسلمين، ولم يَغْزُ للغَزْو، بل مضطرًّا، دفاعًا، وحماية، من عدوٍّ صائل متربِّص، محيق بمدينة الإسلام لاستئصال أهلها. 

ـ بل لم يطلب مرتدًّا عن الإسلام، ما لم يكن محاربًا، كما لم يرخِّص بطلبه، ولو كان الطالب والدًا والمطلوب ولدًا، كما جاء في قِصَّة (أبي الحصين) وابنَيه المتنصِّرين، الواردة في سبب نزول آية: «لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ». 

ـ على أنَّ من الناس من يودُّ لو استطاع نسخ كلِّ ما لا يوافق هواه، أو سياسته، أو نزوعه العدواني، من «القرآن الكريم». 

ـ وهنا يتبدَّى الفارق بين حقيقة النصِّ وقراءة القارئ الرَّغْبَوي!  وهذا ما حدث مع هذه الآية بالفعل، كما يحدث غالبًا مع معظم الآيات الأخرى التي يمكن أن يحتجَّ بها المسلم على سماحة الإسلام وبِرِّه وعدله وحكمته؛ إذ ما يلبث أن يجد أنَّ هناك من السَّلَف من تطوَّع للقول بنسخ ما يُمثِّل تلك المعاني المشرقة. في الوقت الذي يُعمِّم، ويمطُّ، وينفخ، ويُطْلِق العنان للمعاني التأويليَّة في آياتٍ أُخَر، تتعلَّق بالقتال، ليُظهِر الإسلام حربًا ضروسًا على العالَمين لا تُبقي ولا تذر.  وما عُرِفت الحرب التي لا تُبقي ولا تذر- حقيقةً لا مجازًا- قبل العصر الحديث، على كلِّ حال؛ هذا العصر المسلَّح بأسلحة الغرب الجبانة، المُهلِكة للطَّرَف المقابل بلا مواجهة، التي صنعها حثالةٌ من شياطين المجرمين لشياطين من مجرمي الحروب أمثالهم في العالم أجمع. 

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

 

القراءة والكتابة متلازمتان فى النشوء، فالإنسان منذ القدم فى أى لغة، كان يمارسها صوتيًا دون تدوين. ولمَّا ظهرت الحاجة إلى التدوين وأراد الإنسان أن يدون على النقوش والجدران متجاوزًا طور الرسم، ظهرت هنا فكرة اصطلاح وابتكار شكل لكل حرف صوتى ينطق به الفرد داخل جماعته اللغوية. فكل لغة ابتكرت لنفسها أشكالا لحروفها وتعارفوها بينهم، بحيث يدل شكل معين على حرف صوتى مخصوص. ولكل لغة عدد حروفها طبقـًا للأصوات التى تستعملها فى نطقها، هذا منذ عهد اللغة السريانية التى هى أقدم اللغات مرورًا بكل اللغات التى عرفها اللسان البشرى حتى يومنا هذا.

ولم تكن عملية ابتكار أشكال الحروف عملا فرديًا فى كل جماعة لغوية، بل هو نشاط مجموع أفراد وجماعات اصطلحوا فيما بينهم على هذه الأشكال. فلم يأت واحد وابتكر هذه الحروف ثم فرضها أو نقلها إلى بقية أفراد جماعته اللغوية، بل هى عملية جماعية كما أشرنا.

وفى البداية لم تحظ عملية القراءة والكتابة بالانتشار الواسع والإقبال فى أى جماعة أو لغة، فلم يكن يعنى بها إلا أفراد قليلون ممن كانت لديهم الرغبة فى التدوين والتسجيل أو التعبير بالكتابة عن شىء ما. ثم أخذ الأمر يتسع شيئـًا فشيئـًا حتى زادت نسبيًا أعداد القرَّاء والكتـَّاب فى لغات عدة، ومنها العربية.

وتدوين العربية متأخر بطبيعة الحال عن نشأة العربية، وكذا فى كل لغات العالم، فإن تدوين أى لغة هو متأخر عن نشأتها، فاللغة تنشأ أولا، وبعدها عندما تظهر ضرورة التدوين الملحة تأتى حينئذ فكرة التدوين والكتابة. وقد اختلف الباحثون فى بداية تدوين العربية وظهور الخط العربى، إلا أن معظم الباحثين كما أشار الدكتور كريم حسام الدين فى كتابه " العربية تطور وتاريخ"، أنه ظهر فى أوائل القرن الخامس الميلادى بناء على تاريخ الآثار التى تم اكتشافها فى بلاد الحجاز ومكتوب عليها بالخط العربى. وهنا يعنى أن بداية القراءة والكتابة العربية كانت منذ حوالى ألف وست مئة سنة ميلادية.

وآراء أخرى لم تبعد بعيدًا عن تلك الفترة ومنهم الدكتور ناصر الدين الأسد فى كتابه " مصادر الشعر الجاهلى ". إلا أنه اتخذ وجهة أخرى، فالسابقون اتخذوا التقويم الميلادى، أما النفر الآخر اتخذوا التقويم الهجرى، وقد أفضى بهما الأمر إلى الاجتماع فى نفس المحيط الزمنى. فذهب الدكتور ناصر الدين الأسد إلى أن (كان العرب يكتبون فى جاهليتهم ثلاثة قرون على أقل تقدير بهذا الخط الذى عرفه بعد المسلمون). ومعنى ذلك أن تضيف ثلاث مئة سنة لقرننا الهجرى فتكون النشأة منذ ألف وسبع مئة سنة. إذن اجتمعا فى نفس المحيط الزمنى. وعلى ذلك يكون العرب قد عرفوا التدوين منذ حوالى ألف وست مئة سنة أو ألف وسبع مئة سنة. ومعنى معرفتهم التدوين أى الكتابة والقراءة على حد سواء فهما متلازمتان فى النشأة.

هل كانت الكتابة بنفس شكل الحروف التى نعرفها اليوم ؟

من المؤكد حدوث تطورات وتنميقات على الشكل الأوَّلِى الذى كانت عليه الحروف العربية، إلا أنها تكاد تكون هى نفسها، والدليل على ذلك هو أنه كيف عرف الدارسون الحروف المدونة بالعربية على بعض الآثار التى اكتشفوها فى الحجاز، فلو لم تكن حروفها هى نفس حروفنا اليوم لمَا عرفوا أنها عربية، إلا أنها بطبيعة الحال خضعت لشىء من التطورات والتنميقات. والسمة الأبرز أيضـًا فى هذه الحروف أنها فى صورتها الأولى كانت بلا نقط، فالقاف مثل الفاء، والباء مثل التاء والثاء، لا توجد نقط وإنما رسمة الحرف وشكله هى التى تحدد الفرق، فالقاف والفاء مثلا بلا نقط، إلا أن القاف فى شكلها عميقة لأسفل تشبه الحوض، أما الفاء فهى سطحية.

العرب الذين يجيدون القراءة والكتابة قبل الإسلام

يرى الدكتور كريم حسام الدين أن أمر القراءة والكتابة فى العصر الجاهلى وفجر الإسلام أيضًا، كان على قدر ضئيل من الانتشار فى مكة، وعلى درجة أقل فى غيرها من المدن، كما أن الكتابة كانت وقفـًا على أشخاص قليلين [العربية تطور وتاريخ – ص 70]. وهذا ما يتفق عليه الجميع وما يتفق معه الدرس اللغوى. ويشير أيضًا إلى أن عددًا من المصادر القديمة ذكرت أن قـُصَى بن كلاَّب جد عبد المطلب كان يعرف القراءة والكتابة، وكذا عبد المطلب جد الرسول ﷺ كان يجيد القراءة والكتابة، وكذا بعض أولاده كانوا يحسنون القراءة والكتابة أيضًا.

ويذكر البلاذرى فى كتابه " فتوح البلدان " (أنه ظهر الإسلام وفى قريش سبعة عشر رجلا كلهم يكتب، وهم: عمر بن الخطاب، على بن أبى طالب، عثمان بن عفان، أبو عبيدة بن الجراح، طلحة، يزيد بن أبى سفيان، معاوية بن أبى سفيان، سفيان بن حرب، أبو حذيفة بن عُتبة بن ربيعة، حاطب بن عمرو العامرى، أبو سلمة بن عبد الأسد المخزومى، أبان بن سعيد بن العاص، خالد بن سعيد وأخوه، عبد الله بن أبى السرح العامرى، حويطب بن عبد العزى العامرى، جهيم بن الصلت.

ومن النساء : شفاء بنت العدوية، حفصة بنت عمر بن الخطاب وقد تعلمت من شفاء العدوية، أم كلثوم بنت عتبة، فروة بنت عائشة بنت سعد، كريمة بنت المقداد. أما السيدة عائشة رضى الله عنها فكانت تقرأ ولا تكتب وكذلك السيدة أم سلمة رضى الله عنها) [فتوح البلدان – ص 477، 478].

وهذا فى قريش فقط وليس فى كل العرب، إلا أن فى البقية كان أقل مما فى قريش. ونتعرف مما ذكره البلاذرى أيضًا أن أمر القراءة والكتابة لم يكن مقتصرًا على الرجال فقط، بل تعلمت عدد من النساء القراءة والكتابة. ولكن الأمر الذى نود أن نناقشه هو كيف بالسيدة عائشة رضى الله عنها والسيدة أم سلمة رضى الله عنها، تقرأ كل منهما وتجيد القراءة ولكنهما لا تكتبان؟ ذلك لا يعنى أنهما لا تجيد كل منهما الكتابة، فما دامت كل منهما تقرأ فهى على شىء من القدرة على الكتابة. إلا أنهما تبدوان أن كلا منهما لم تكن لديها ضرورة للكتابة.

وختامًا فإنا نرجو أن نكون قد حققنا قدرًا من الإفادة والمتعة فى تلك المسألة الأصولية، وختامًا نقول أيضًا إن دراسة الأصول متعة خاصة وذائقة تختلف عن أى ذائقة أخرى، وليست دراسة الأصول جمود ومتاهات كما يتصور كثيرون أو كما يصدرون تلك الفكرة الخاطئة للمتلقى.

***

د. أيمن عيسى - مصر

التجربة الكوبية

كوبا، جوهرة الكاريبي المتالق، سحرت العالم ليس فقط بجمال شواطئها وثقافتها الغنية، بل ايضا بتاريخها الثوري العريق ونهضتها التعليمية المميزة.

مرت كوبا بمحطات تاريخية متعددة كان التعليم فيها حجر الاساس لبناء مجتمع متعلم ومتطور فبعد الثورة الكوبية والاطاحة بنظام باتيستا اولت الحكومة اهتماما كبيرا بالتعليم معتبرة اياه سلاحا للتغيير والتقدم فتم توفير التعليم المجاني لجميع المواطنين وارتفعت معدلات التعليم بشكل ملحوظ. ان ارتباط التعليم بالنهضة في كوبا ليس وليد الصدفة بل هو نتيجة ايمان راسخ باهمية المعرفة في بناء الامم فالتعليم في كوبا ليس مجرد تحصيل اكاديمي بل هو وسيلة لتطوير الافراد والمجتمع وتحقيق العدالة الاجتماعية وتعزيز الهوية الوطنية تحت وطاة الحصار الاقتصادي والعقوبات الامريكية. في هذه الرحلة سنسافر عبر تاريخ التعليم في كوبا ونتعرف على ابرز التحديات والانجازات التي حققها هذا النظام وكيف ساهم في بناء كوبا الحديثة.

ميزات نظام التعليم في كوبا

يتميز نظام التعليم في كوبا بعدة مزايا جعلته نموذجا يدرس في العديد من الدول، ومن ابرز هذه الميزات:

الشمولية والعدالة الاجتماعية

تعتبر كوبا نموذجا يحتذى به في مجال الشمولية والعدالة في التعليم، حيث يوفر التعليم مجانا لجميع المواطنين في جميع المراحل الدراسية، بدءا من الروضة وحتى الجامعة، مما يتيح للجميع فرصة الحصول على تعليم عالي الجودة دون اي تكاليف مالية. على سبيل المثال، يمكن لطفل من اسرة فقيرة في منطقة ريفية ان يحصل على نفس مستوى التعليم الذي يحصل عليه طفل من اسرة ميسورة في العاصمة هافانا، وذلك بفضل السياسات الحكومية التي تضمن المساواة في الفرص التعليمية لجميع الاطفال بغض النظر عن خلفيتهم الاجتماعية او الاقتصادية. نسبة الأمية في كوبا تكاد تكون معدومة. نسبة الالتحاق بالمرحلة الابتدائية في كوبا تصل إلى 99% مقارنة بمتوسط 87% في باقي دول أمريكا اللاتينية. اما في المرحلة الثانوية، فتصل النسبة إلى 78% للأولاد و82% للبنات مقارنة بـ47% و51% على التوالي في باقي المنطقة. في كوبا، هناك معلم لكل 12 طالبا مما يعزز جودة التعليم ويتيح متابعة فردية أفضل للطلاب. بالاضافة الى ذلك، يتم توفير الموارد التعليمية بشكل متساو في جميع انحاء البلاد، بما في ذلك المناطق النائية، حيث يتم ارسال المعلمين المؤهلين وتوفير الكتب والمعدات الدراسية اللازمة لضمان حصول كل طالب على نفس الفرص التعليمية. هذا النهج الشامل ساهم في تقليل الفجوات الاجتماعية والاقتصادية وعزز من تكافؤ الفرص بين جميع المواطنين، مما يجعل كوبا واحدة من الدول الرائدة في مجال التعليم الشامل والعادل.

التركيز على العلوم والتكنولوجيا

يشجع النظام التعليمي الكوبي على دراسة العلوم والتكنولوجيا بشكل كبير، حيث يتم تضمين هذه المواد في المناهج الدراسية منذ المراحل الابتدائية وحتى التعليم العالي، مما يهدف الى تخريج اجيال قادرة على مواكبة التطورات العلمية والتكنولوجية. مثلا، يتم توفير مختبرات علمية مجهزة باحدث التقنيات في المدارس الثانوية والجامعات، بالاضافة الى تنظيم مسابقات علمية وتكنولوجية تشجع الطلاب على الابتكار والتفكير النقدي. كما يتم تقديم برامج تدريبية متقدمة للمعلمين لضمان قدرتهم على تدريس هذه المواد بفعالية. علاوة على ذلك، تتعاون المؤسسات التعليمية مع مراكز الابحاث والمؤسسات التكنولوجية لتوفير فرص تدريب عملي للطلاب، مما يعزز من مهاراتهم العملية ويجعلهم اكثر جاهزية لسوق العمل. هذا التركيز على العلوم والتكنولوجيا يساهم في بناء مجتمع متعلم ومبتكر قادر على مواجهة تحديات المستقبل.

تعزيز المسؤولية الاجتماعية

يربط التعليم في كوبا بين النظرية والتطبيق بشكل فعال، حيث يشجع الطلاب على المشاركة في الانشطة المجتمعية والعمل التطوعي، مما يساهم في تنمية روح المواطنة لديهم. يتم تنظيم حملات تنظيف الشواطئ والمناطق العامة بانتظام، حيث يشارك الطلاب في تنظيف البيئة المحلية، مما يعزز من وعيهم البيئي ويشجعهم على الحفاظ على نظافة مجتمعاتهم. بالاضافة الى ذلك، يتم تشجيع الطلاب على المشاركة في برامج محو الامية، حيث يقومون بتعليم الكبار القراءة والكتابة، مما يعزز من شعورهم بالمسؤولية الاجتماعية ويساهم في تحسين مستوى التعليم في المجتمع. كما يتم تنظيم ورش عمل ومشاريع مجتمعية بالتعاون مع المنظمات المحلية، حيث يتعلم الطلاب كيفية تطبيق ما درسوه في الفصول الدراسية على ارض الواقع، مما يعزز من مهاراتهم العملية ويجعلهم اكثر استعدادا لمواجهة تحديات الحياة اليومية. هذا النهج الشامل يساهم في بناء جيل من المواطنين المسؤولين والمشاركين بفعالية في تنمية مجتمعاتهم.

الجودة العالية

يتميز التعليم في كوبا بجودته العالية، حيث يخضع المعلمون لتدريب مكثف ومستمر لضمان تحديث مهاراتهم التعليمية وتقديم افضل مستوى من التعليم للطلاب، ويتم تطوير المناهج الدراسية بشكل دوري لتواكب احدث التطورات العلمية والتربوية، فيتم تنظيم دورات تدريبية وورش عمل للمعلمين بانتظام لتزويدهم باحدث الاساليب التعليمية والتكنولوجية، كما يتم تحديث المناهج الدراسية لتشمل موضوعات جديدة ومتنوعة تعكس التغيرات في العالم الحديث، بالاضافة الى ذلك، يتم تقييم اداء المعلمين والطلاب بشكل دوري لضمان تحقيق اعلى مستويات الجودة في العملية التعليمية، ويتم توفير الموارد التعليمية الحديثة مثل الكتب والمعدات التكنولوجية في جميع المدارس لضمان حصول الطلاب على تعليم شامل ومتكامل، هذا الالتزام بالجودة العالية ادى الى احتلال كوبا مراكز متقدمة في برنامج التقييم الدولي للطلاب (PISA) ، وساهم في تخريج اجيال متعلمة ومؤهلة قادرة على مواجهة تحديات المستقبل والمساهمة بفعالية في تنمية المجتمع.

تعليم اللغات الاجنبية

يشجع النظام التعليمي الكوبي على تعلم اللغات الاجنبية، خاصة اللغة الانكليزية، مما يوسع افاق الطلاب ويجعلهم قادرين على التواصل مع العالم الخارجي. يتم تدريس اللغة الانجليزية كلغة ثانية بدءا من المراحل الابتدائية، حيث يتم تخصيص حصص دراسية يومية لتعليم اللغة، بالاضافة الى تنظيم انشطة تفاعلية مثل المسابقات اللغوية والمسرحيات باللغة الانكليزية لتعزيز مهارات الطلاب في التحدث والاستماع. كما يتم ارسال الطلاب المتفوقين في اللغة الى برامج تبادل ثقافي في دول ناطقة بالانكليزية، مما يتيح لهم فرصة ممارسة اللغة في بيئة طبيعية وتوسيع مداركهم الثقافية. علاوة على ذلك، يتم توفير دورات تدريبية للمعلمين لتطوير مهاراتهم في تدريس اللغات الاجنبية باستخدام احدث الاساليب التعليمية، ويتم تحديث المناهج الدراسية بانتظام لتشمل موضوعات حديثة ومتنوعة تعكس التغيرات في العالم. هذا النهج الشامل في تعليم اللغات الاجنبية يساهم في اعداد الطلاب ليكونوا مواطنين عالميين قادرين على التواصل بفعالية مع مختلف الثقافات والمجتمعات.

التركيز على الرعاية الصحية

يهتم النظام التعليمي الكوبي بجانب الصحة بشكل كبير، حيث يتم توفير الرعاية الصحية الشاملة للطلاب في جميع المراحل الدراسية، ويتم توعيتهم باهمية العادات الصحية السليمة من خلال برامج تعليمية متكاملة. على سبيل المثال، يتم تنظيم فحوصات طبية دورية في المدارس للكشف المبكر عن اي مشاكل صحية وتقديم العلاج اللازم، كما يتم تقديم دروس في التغذية السليمة والنشاط البدني لتعزيز الوعي الصحي بين الطلاب. بالاضافة الى ذلك، يتم تنظيم حملات توعية حول اهمية النظافة الشخصية والوقاية من الامراض المعدية، حيث يشارك الطلاب في انشطة تفاعلية مثل ورش العمل والمحاضرات التي يقدمها متخصصون في المجال الصحي. كما يتم توفير وجبات غذائية متوازنة في المدارس لضمان حصول الطلاب على التغذية اللازمة لنموهم وتطورهم. هذا التركيز على الصحة يساهم في بناء جيل من الطلاب الاصحاء والواعين باهمية الحفاظ على صحتهم، مما يعزز من قدرتهم على التعلم والتفوق الاكاديمي.

اسباب نجاح النظام التعليمي الكوبي:

الاولوية التي توليها الحكومة للتعليم: تعتبر الحكومة الكوبية التعليم احد اهم اركان التنمية، حيث تخصص له جزءًا كبيرا من ميزانيتها، حيث تستثمر حوالي 13% من ناتجها المحلي الاجمالي في التعليم بينما تستثمر الولايات المتحدة حوالي 5% وكندا حوالي 6%. وهذا ما يتيح بناء مدارس جديدة وتحديث المناهج وتدريب المعلمين بانتظام، على سبيل المثال، تم انشاء العديد من المدارس في المناطق الريفية وتوفير الموارد التعليمية الحديثة لضمان حصول جميع الطلاب على تعليم عالي الجودة.

الاهتمام بتدريب المعلمين: يتمتع المعلمون الكوبيون بقدرات عالية بفضل التدريب المستمر الذي يتلقونه، حيث يتم تنظيم دورات تدريبية وورش عمل بانتظام لتحديث مهاراتهم التعليمية وتزويدهم باحدث الاساليب التربوية، مما يساهم في تحسين جودة التعليم وضمان تقديم تجربة تعليمية متميزة للطلاب في جميع المراحل الدراسية.

المشاركة المجتمعية: يساهم المجتمع الكوبي بشكل فعال في دعم التعليم، حيث يقوم الاهل بتشجيع ابنائهم على الدراسة والمشاركة في الانشطة المدرسية، وتساهم المؤسسات المختلفة في توفير الموارد اللازمة مثل الكتب والمعدات التعليمية، مما يعزز من جودة التعليم ويخلق بيئة تعليمية داعمة ومحفزة للطلاب في جميع المراحل الدراسية.

التحديات التي تواجه النظام التعليمي الكوبي:

يواجه النظام التعليمي الكوبي عدة تحديات تؤثر على جودته واستدامته، حيث يعاني الاقتصاد الكوبي نتيجة الحصار من بعض الصعوبات التي تؤثر على توفير الموارد اللازمة للتعليم، مما يحد من القدرة على تحديث البنية التحتية وتوفير التكنولوجيا الحديثة في المدارس والجامعات، بالاضافة الى ذلك، يعاني النظام التعليمي من هجرة بعض الكفاءات الى الخارج بحثا عن فرص افضل، مما يؤدي الى نقص في المعلمين المؤهلين والمتخصصين، ورغم هذه التحديات، تبذل الحكومة جهودا كبيرة للتغلب عليها من خلال تخصيص ميزانيات اضافية للتعليم وتطوير برامج تدريبية للمعلمين، وكذلك تعزيز التعاون مع الدول الاخرى للحصول على الدعم التكنولوجي والمالي.

ختاما

رغم التحديات التي تواجهه، يظل النظام التعليمي في كوبا نموذجا يحتذى به في العديد من الدول، وذلك بفضل تركيزه على الشمولية والعدالة والجودة، حيث يوفر التعليم المجاني لجميع المواطنين من الروضة حتى الجامعة، ويضمن المساواة في الفرص التعليمية بغض النظر عن الخلفية الاجتماعية او الاقتصادية، كما يتميز بجودة عالية من خلال تدريب المعلمين المستمر وتطوير المناهج الدراسية بانتظام، بالاضافة الى التركيز على العلوم والتكنولوجيا والصحة، وتعزيز المشاركة المجتمعية، مما يساهم في بناء جيل متعلم ومؤهل قادر على مواجهة تحديات المستقبل والمساهمة بفعالية في تنمية المجتمع.

***

ا. د. محمد الربيعي

............................

مقالات سابقة في هذه السلسلة:

1) التجربة البريطانية:

https://almadapaper.net/364910

2) التجربة الصينية:

  https://almadapaper.net/373065

3) التجربة الكورية:

https://almadapaper.net/374432

4) التجربة السنغافورية:

https://almadapaper.net/375856

5) التجربة الفنلندية:

https://almadapaper.net/376837

6) التجربة اليابانية:

https://almadapaper.net/377633

 

ضمن جدليات السيرورة التاريخية يتموضع الزمن (الحاضر) بين مرحلتين أساسيتين؛ الأولى مدبرة – مغادرة وهي (الماضي) حيث تستوطن الذاكرة الجمعية، والثانية مقبلة – آتية وهي (المستقبل) حيث تمتحن المقدرة الحضارية. ومن هذا المنطلق، يتوجب علينا - لكي نفهم معطيات الحاضر التي من طبيعتها أن تكون في حالة من السيولة والانزلاق - أن نقرأ بإمعان خلفيات الماضي ومرجعياته، مثلما نحسن تقدير توقعات المستقبل ومآلاته. وإلاّ فان كل ما نفعله أو نسعى إليه، لا يعدو أن يكون ضربا"من التأملات الخيالية، والاستنتاجات الطوبائية، والممارسات العبثية، التي لا رجاء فيها ولا طائل منها ولا اعتماد عليها.

ولما كان متعذرا"على الفاعل الثقافي تحديد ماهية الظاهرة الاجتماعية التي ينوي دراستها، فضلا"عن إمكانية تحليل مضامينها وفك شيفراتها، دون الرجوع الى الأصول التاريخية والخلفيات الحضارية والمرجعيات القيمية التي ساهمت في تكوين بنيتها وتحديد طبيعتها، في إطار سياقات سوسيولوجية وانثروبولوجية نوعية حتمت ظهورها بهذا الشكل دون ذاك، وبلورة خصائصها بهذه الصيغة دون تلك. نقول لما كان الأمر على هذه الشاكلة، أضحى من الضرورة بمكان إعادة النظر بكل ما ورثناه من سبل وأساليب تقليدية في الرؤى والتصورات والمنهجيات، والتي كانت معتمدة في تحليل الظواهر والمعطيات والإشكاليات التي يطرحها الواقع الاجتماعي باستمرار، ومن ثم تأويل ما قد يستعصي على التفكير المبتسر من أنماط مختلفة ومستويات متعددة من السيرورات والديناميات والتناقضات، التي أحيانا"ما تفضي الى احتجاب القوى الفاعلة والتيارات العميقة المسؤولة عن تلك الصيرورات والانبثاقات.

والجدير بالملاحظة، انه ليس كل ما تموضع في (الماضي) يتوجب علينا احتسابه ضمن فرشة الخلفيات التاريخية المؤثرة في معطيات (الحاضر)، والمعنية في تحديد خيارات (المستقبل)، كما لو أنها متشابهة في الواقعية ومتماثلة في الدور ومتساوية في التأثير. ولعل هذا الأمر قلل من مستوى القيمة المعرفية والمنهجية لبعض البحوث والدراسات التي كان أصحابها يتوخون الموضوعية في تناولهم للمواضيع الاجتماعية والثقافية والنفسية الملحة، مثلما أضعف الكثير من تحليلاتهم ودلل على فشل الكثير من استنتاجاتهم. ذلك لأن الكثير من تلك الخلفيات (المعيارية) المعتمدة كانت إما (مختلقة) من هذا المكون / الكيان أو ذاك، إما (ملفقة) من هذه الجماعة / العصبة أو تلك، في إطار إضفاء شيء من الأهمية التاريخية والمشروعية الحضارية على وجودها الاجتماعي وحضورها السياسي. هذا بالإضافة الى دور الحكومات / السلطات في المساهمة بهذه استغلال هذه العملية، لأغراض تتعلق بالمصالح الاقتصادية والأهداف السياسية والهيمنة الإيديولوجية.

وفي هذا الإطار، ينبغي التركيز على واقعة أن الجدليات الاجتماعية الناشطة، لا ينحصر دورها فقط على تأطير ما هو قائم في الواقع الاجتماعي المعاش من علاقات وتفاعلات وصدامات، فضلا"عما يمكن أن يتمخض عنها من توقعات وتنبؤات واحتمالات لاستشراف آفاق المستقبل، بحيث نعتقد واهمين ان المسارات التي تسلكها تلك الجدليات تقتصر على سلوك الاتجاهات التي لا تقبل الارتداد الى ما وقع في الماضي أو ما حصل في التاريخ. إذ ان من خصائص الديناميات الجدلية أنها قابلة للارتكاس والنكوص نحو الأزمنة الآفلة، مثلما هي قابلة للتطلع والاتجاه صوب الأزمنة المقبلة عبر اللحظة الراهنة.

وعلى هذا الأساس، ينبغي، حين نعتزم دراسة ظاهرة من الظواهر، أو تفسير حالة من الحالات، أو تحليل واقعة من الوقائع، تجنب حشرها في أطر تصورية جزئية وتحاشي التعاطي معها كما لو أنها أرخبيلات معزولة ؛ تارة ننسبها الى الجغرافيا (طبيعة قاسية وبيئة عدوانية)، وتارة ثانية نحيلها الى التاريخ (سرديات ملفقة وروايات مختلفة)، وتارة ثالثة نعزوها الى السياسة (استقطابات إقليمية وصراعات دولية)، وتارة رابعة نسندها الى الاقتصاد (مقاطعات تجارية وحصارات غذائية)، وتارة خامسة نوكلها الى الدين (انقسامات مذهبية وصراعات طائفية). هذا في حين ان كل هذه الميادين والمجالات تسهم – كل بحسب دوره وأهميته ضمن المنظومة والمرحلة المعنيتان - في صيرورة هذه الظاهرة أو تلك، وتشكيل هذه الحالة أو تلك، وتكوين هذه الواقعة أو تلك. فلو أخذنا – على سبيل المثال لا الحصر – ما حل بالمجتمع العراقي من كوارث بعيد أحداث الغزو والاحتلال الأمريكي في التاسع من نيسان عام 2003، سنلاحظ ان معظم الباحثين والكتاب الذين بحثوا في الأسباب والدوافع التي أقحمت هذا البلد في أتون هذا السيل الجارف من الدوامات والمتاهات، تفرقوا شيعا"إزاء تشخيصهم للعوامل التي اعتقدوا أنها كانت السبب وراء حدوث هذا الكم الهائل من التصدعات البنيوية، والانقسامات الاجتماعية، والانهيارات القيمية، والصراعات السياسية، على هذا النحو الدراماتيكي الفاجع.

والحال، فإن كل هذه المقاربات - وإن تضمنت جزءا"من الحقيقة - إلاّ أنها فشلت في الإحاطة بكل أوجه الحقيقة التي تؤكد على أن كل ظاهرة أو حدث أو واقعة، هي مدينة الى مجموع تلك العوامل الداخلية والخارجية، الطبيعية والإنسانية، الأسطورية والتاريخية، الاجتماعية والاقتصادية، النفسية والرمزية. إذ إن تضافرها البنيوي وتفاعلها الجدلي معا"هو ما يمنحها الكينونة النوعية التي تجعلها كما تبدو عليه في الواقع، من حيث الموقع والدور والوظيفة والتأثير.

***

ثامر عباس - باحث عراقي

 

 

ـ النطقية العظمى والانقلاب الالي اللاارضوي: 

يظل العراق محكوما من حيث الاشتراطات التاريخيه للطور اليدوي الى ما بعد انتهاء الفترة العثمانية، وحين يتلقى اثار ومفاعيل الالية فانه يتلقاها بما متوفرلدية من حصيلة الفترة المذكورة، خصوصا وانها انقطاعية انحطاطية، بينما يحل الغرب بالاخص منذ الاحتلال الانكليزي المباشر، بموقع الافنائية النمطية البنيويه، لتغدو هذه الواجهه وطليعة الحضور الغربي، بينما يكون العراق ساعتها واقعا مايزال تحت طائلة "اللانطقية" والعجز التاريخي عن التعرف على الذاتيه، فلا يتيسر في حينه وبديناميات متسارعة سوى الانقلاب الايديلوجي الماخوذ بقوة وزخم فعالية الاليات التكوينيه البنيوية، تلك العائدة الى التشكلية الحديثة المستمرة منذ القرن السادس عشر، مايعزز بقوة فعالية تبني وسائل الغرب استبدالا لمجابهة الحضور الغربي، بحيث امكن لقوة علمانيه ان تخترق المجال الاسفل اللاارضوي، بغض النظر عن مستويات "تخلفه" الاستثنائي المفترض، وعلمانيتها القصوى، بما استثار ردود افعال مضادة غير عادية من القيادة الاسبق الانتظارية النجفية، تجلى اخيرا في الفتاوى العلنيه المباشرة كما فعل المجتهمد "الحكيم"اوائل الستينات، بلا نتيجه تذكر.

ولاتعود الظاهرة المشار اليها مع قيام الحزب الشيوعي اللاارضوي القرمطي الكوراجيني (1934/1958) الى "اصطراع الطبقات" التي لاوجود لها ولا ماض، وهو ماشمل ايضا حزبا اخر قومي النزعه ( حزب البعث) لم يتاسس، بعد محاولات فاشله عرفها الحزب الشيوعي هو الاخر في بغداد، الا في الناصرية/ سومر، عاصمة المنتفك، ومنطلق التشكلية العراقية الثالثة الحالية، ليشكلامحور دينامية "دولة" مقابلة من أسفل، انتهت باسقاط وسحق الدولة البرانيه المركبه من خارج النصاب المجتمعي التي اقامها الانكليز عام 1921 في بغداد عاصمة البرانيه والانهيارمنذ هولاكو 1258 .

خلال اكثر من قرن عرف العراق محطتين افنائيتين، الاولى نموذجية كيانوية مفهومية، والثانيه احترابية ساحقة، الاولى تكفلت بها اوربا، والثانيه وريثتها زعيمة الطور الالي الثاني التكنولوجي الانتاجوي الامبراطورية المفقسه خارج رحم التاريخ، حضر فيها عنصر من خارج البنية التاريخيه هو "الريع النفطي"، وحل عالم من العيش الثاني على حافة الفناء مادي احترابي استمر من عام 1980 مع الحرب العراقية الايرانيه، حروبا واحترابات داخلية مع فقدان للاليات التي تبرر الكيانوية، كلها تعني مجتمعة مسارا موصولا ب "فك الازدواج المجتمعي التاريخي" متوافق مع انتهاء صلاحية وفعالية المجتمعية الارضوية على مستوى المعمورة، بينما تبدا علائم الانتقال الالي الثالث من " التكنولوجيا الانتاجية" الى التكنولوجيا العليا العقلية، ومايواكبها ويبدا في الافصاح عنها على مستوى المعمورة بصيغة افتقاد الكيانوية المحلوية والامبراطورية الامريكيه ممكنات الاستمرار.

كل هذا من شانه ان يتحول في مكان واحد بالذات على مستوى المعمورة، الى انقلاابيه عظمى مقابله لتلك التي عرفتها المجتمعات الارضوية مع بداية الانقلاب الالي، وبالذات في اوربا الطبقية وما قد طرا عليها في حينه من انتقال من المنظور اليدوي الى صيغة المنظور والنموذجية الالية الابتدائية، معرفة بالعلموية والعقلانيه الحداثوية، لتاتي ساعه الانتقال اللاارضوي الرافديني، من الحدسية النبوية، الى العليّة السببية، حين يصير المنظور اللاارضوي الاول السماوي تعبيرية وظاهرة "مجتمعية" مادية مصدرها الارض ونوع واشتراطات البيئة التي وجدت في غمرتها المجتمعية السومرية ابتداء.

ليس الانتقال الى الالية واحد على مستوى المعمورة كما كانت الحداثوية وعموم المنظور الغربي الحديث قد قرر، مكرسا صيغتة التي عرفها كطبعه وحيدة ثابته ، معتبر ا الالة مجرد انتقال في وسائل الانتاجية، وليس انقلابية فاصلة مجتمعية يدخل عندها عنصر ثالث على التكوين والبنيه المجتمعية التاريخيه المؤسسة على وحدة ( الكائن البشري / البيئة)، والتي لن تعود بعد حضور الالة هي نفسها وقد دخلت من حينه سيرورة اصطراعية نتائجها موكولة للمستقبل، تتعدد خلالها اشكال تفاعلية كل مجتمع بتدرجات، بحسب نمطيته الاولى اليدوية ومامتبق منها، ماينعكس على الالة نفسها مثلما على المجتمعات، فيؤدي الى تحولها وصولا لصيغتها الاعلى المتوافقه مع النمطية الاقرب لمافوق جسدية ومايتعداها، ذهابا الى الغاية العليا من الظاهرة المجتمعية، والى مايحكم وجودها ومسار تفاعليتها اللاارضوي الكوني.

هكذا ينقلب كليا المفهوم المواكب والناتج عن الانقلاب الالي، باعتباره بدئية ثانيه وليس عملية استمرار للاولى بوسائل جديده، مامن شانه تحدي القدرة العقلية البشرية التي تقع هي الاخرى بجانب الاصطراعية الالية المجتمعية الطارئه على محك الارتقاء لمستوى الانقلابية الكبرى الشامله، مع مايمكن توقعه من تعدد اشكال ومستويات التفاعلية ونتائجها بحسب الننمطية المجتمعية المتاحة والباقية من الطور اليدوي، وفي مقدمها النمط اللاارضوي الذي تحل اليوم لحظة اماطة اللثام عنه كمعطى اساسي غير مزاح عنه النقاب حتى حينه، بينما تكو ن عناصر الاصطراعية قد انتقلت نوعا، من اشكالها السابقة الجسدية الى المستوى الادراكي حيث العقل والتصور الكتابي الذي كان في الماضي وتاريخيا شكل تحقق اللاارضوية، ان صياغة مبتنى اللاارضوية الحدسي النبوي وتحققاته الكونية اللاكيانيه واللارضوية ابراهيميا، وفي التدرجات كمشروع اختراقي للمجتمعات الارضوية الاخرى، وصولا للختامية المحمدية الذاهبة الى الصين والهند، والى غرب اوربا، وقبلها المسيحية الاوربيه باعتبار مايشار اليه تعبير مجتمعي من نمطية بذاتها، مخالف ومناقض لتلك الارضوية على الطريقة المصرية ابتداء، والاوربية الطبقية ابتداء ثانيا.

لكم هي ضخمه وهائلة مترتبات العبور اللاارضوي من متبقيات الانقطاعية الانحطاطية الاخيرة، مع تحدي الالة وانقلابيتها، بالاخص ابان طورها التاسيسي، ومايواكبه من تاسيسية اوربية ارضوية توهمية طاغية، ان لم تكن كاسحه، بمقابل الاستئنافية البدئية الموجلة التحقق، والباقية بانتظار التفاعل المجتمعي التاريخي على مدى الدورات، قبل ان تتوفر الاسباب المادية للانقلابية العقلية العظمى، ومغادرة الجسدية، ومقابلها الاهم، الانطلاق التصوري التفكري العراقي المدخر والمنتظر الذي لااكتمال للانقلابية العقلية العظمى من دونه، وهو مايقف العقل العراقي اليوم ازاءه متهيئا لاجتياز متبقيات الغلبه التوهمية الغربية، باتجاه اللاارضوية العظمى التحققية العليةّ السببية التي تسقط سببية الغرب الاوربي الابتدائية، لتضع العالم على الطريق نحو الانقلاب الكوني اللاارضوي: هنا تتمثل مسيرة ومآلات الثقافة العراقية ومسيرتها الراهنه الحديثة، ذهابا الى الكونية الكبرى التحققية المؤجلة.

***

عبد الاميرالركابي

من بين الكتب التي كنت أقتنيها في سنواتي الأولى، كان هنالك عدد من كتب سلسلة  بعنوان " كتاب الهلال "، وقد احتوت تلك السلسلة على كتب من كل أنواع المعارف، فقرأت من خلالها كتبا للعقاد وطه حسين وأحمد امين وزكي نجيب محمود وجبران خليل جبران وسلامة موسى في بعض كتبه، وكانت هناك اسماء لم اقترب منها لجهلي بنتاجها الادبي والمعرفي، ومن هذه الأسماء كان اسم ابراهيم عبد القادر المازني، فقد كنت اعتقد انه كاتب من الصف الثالث  إلى أن قرأت ذات يوم مقالا كتبه العقاد يقول فيه ان المازني واحد من خمسة كتاب لا يمكن للقارئ  ان ينشغل عنهم، المازني المولود في الاول من آب عام 1890، عاش 59 عاما قدم خلالها العديد من الكتب التي وصفت بانها ذات أسلوب فني جديد

. قد يقول البعض ما الذي ذكرك بالمازني ونحن نعيش عصر ما بعد الحداثة . كنت قد قرأت المازني قبل اكثر من أربعين عاما، ايام ما كنت فضوليا في القراءة، ومع كثرة المطبوعات وتنوع مصادر المعرفة لم  يخطر ببالي انني ساعود يوما إلى المازني، لكني بالأمس وانا أتجول في اروقة معرض الرياض الدولي للكتاب لمحت المازني من بعيد يستقر على احد الرفوف، اقتربت منه فوجدت العنوان مثير للفضول "رحلة المازني المعرفية من القراءة إلى الكتابة " التقطت الكتاب وانا امني النفس بمتعة خاصة فتحققت الأمنية، كتاب يأخذك في رحلة مع المازني والكتب التي تاثر بها والكتب التي كان يسخر منها، وحياته التي تقلبت بين الفقر  والاهمال، وسخريته اللاذعة من العالم المحيط به، وشكواه من الحال التي وصل اليها المشتغلين بحرفة الأدب،  حيث يكتب :" اما الأديب فلا يزال مركزه الاجتماعي قلقا، وصفته يشارك فيها كل من هب ودب ".وتذهب به السخرية إلى أقصى حدودها حين يقول  :" ترى لو أراد في زماننا إديب لا عمل له غير الأدب أن يتزوج، وتقدم إلى أسرة يطلب مصاهرتها، وسألوه عن عمله أو صناعته، فقال لهم : إنه أديب، فماذا يكون رأيهم فيه وظنهم به؟ أما أنا فأرجح ان يتوهمونه عاطلا، ويحسبوه قد جاء يطلب مصاهرتهم ليسرق مالهم " . وفي واحدة من اجمل المقالات يكتب عن العشوائية في النشر، وهو الأمر الذي نعاني منه الآن، فتجد عشرات الإصدارات الأدبية المحلية الجديدة  يعلن عنها في مواقع التواصل الاجتماعي، لكنها سرعان ما تتبخر، دون ان تترك إي إثر عند القارئ الذي لا يقترب منها، في الوقت نفسه نجد ان بعض المشتغلين في النقد يسودون صفحات كثيرة في شرح مزايا هذه الرواية، وعبقرية صاحب هذا الديوان، لكنك تسأل هل وصل هذا النتاج إلى القارئ، او هل اهتمّ القارئ بهذه الرواية او ذاك الديوان  بالشعر والرواية، فيكون الجواب صادما، فتعرف أن البعض يكتب وينشر من اجل عيون بعض الأصدقاء والنقاد، يوزع كتبه بالمجان ويطبعها على حسابه الخاص،بعدها سنجد  هذه  الكتب ملقاة على ارصفة شارع الرشيد تباع بالكيلو. يكتب المازني في مقالة بعنوان زيتون في قرطاس من الشعر " :" اتفق يوما ان اشتريت من بقال زيتونا اسود، فلقه لي في ورقة حملتها وانصرفت، فلما صرت في البيت أفرغت الزيتون في صحن، وهممت أن أرمي الورقة، وإذا بها منزوعة من ديواني الذي كنت قد بعت ما بقي منه بالوزن . في ذلك اليوم بدأ رأيي يتغير في الأدب وقيمته، وما قيمة أدب مصيره دكاكين البقالين "

***

علي حسين – رئيس صحيفة المدى البغدادية

 

عدد الساعات التي تعيشها مع الله قليلة جداً بالقياس لعدد الساعات التي تعيشها بالغفلة عنه، ثم التردي والنكوص مع تعمّد السّهيان.

لديك مثلاً في يومك كله:  خمسة فروض، ومع كل فرض نوافل من قبل ومن بعد، لو استطعت أن تحافظ على الفروض وكفى، أعددت نفسك بينك وبين نفسك من المجاهدين، ولا تقل أين النوافل والزيادات فضلاً عن رؤية التقصير؟!

لا تقل هذا .. لأنك لا تستطيع أن تفي حق الفرض عليك، وهو أن تؤديه في جماعة، وبحضور، وبحرص على أن يكون نور الصلوات المكتوبة ظاهرٌ عليك.

روى لي أحدهم - والعهدة على الراوي - أن ولياً من أولياء الله دخل مسجداً وقت الصلاة يوماً ما، فوجد المصلين على هيئة خنازير إلا ثلاثة منهم تبيّن له من طريق شهوده أنهم صُلحاء وعارفين.

والإشارة في شهود الولي أن جماعة المُصلين كانوا مجرّد أجساد لا روح فيها ولا حياة، ولا حضور مع الحق وقت الصلاة، بل خالطتهم الغفلة وعمّ أكثرهم الباطل الذي يبطل باطن الصلاة.

إذا كان هذا في المكتوبة، فكيف بغيرها وفي غيرها؟!

ربما يرجع هذا إلى قلة الشغل بالله، وإلى كثرة الغفلة عنه؛ لأننا في الغالب نشتغل بالله أقل ممّا ينبغي ونعطي الكثير لأنفسنا فيما لا ينبغي، فنفوّت عليها حياة جديرة بالحياة الحقيقية في رحاب الله، ومع الله، ومن أجل الله.

كلمة (اشتغل بالله) من أعمق وصايا العارفين عن مشكاة النبوة ميراث النور القديم، لأن الشعل بالله وفي الله هو أسمى ما يضيفه عمل اللطيفة الربانية، وهو بلا شك عملٌ قلبيٌ يقوده التوجّه نحو وحدة القصد واتصال الذات الذاكرة بسر حقيقتها الباقية وسر روحانيتها الدائمة، فالعمل بالله وفي الله يدعم تلك الناحية.

وبما أن العارف لا يزول اضطراره، ولا يكون مع غير الله قراره، بمعنى أنه لا مأوى ولا مثوى له في الدنيا ولا الآخرة إلا بالله، كانت أهم صفاته: أنه مسكون بالله على الدوام بغير انقطاع.

وكل مسكون بالله ساكن تحت مجاري أقداره. الرضى من علامات سكونه بالله، إذ ذاك يفهم العارف باليقين الذي لا مرية له فيه: أن الله قد أجرى لطفه في حكم قضائه، فمن غلب عليه اللطف وذاق حلاوة الإيمان، هانت عليه أحكام القضاء فمر عليها مرور الكرام. ومن نازع الله في أقداره، وعبس، وضجر، وفتر، وتردى، ولم يذق حلاوة التسليم وبرد الرضى، عوقب من فوره بزيادة الشكوى وقلة الحيلة وفتور الإيمان.

‏قال أحد العارفين واصفاً تلك الحكمة: « فمن آمن بالله، امتحنه وابتلاه، فلا يظن أحد أنه يخلص من الألم ألبتة، وهذا أصل عظيم في باب الولاية ينبغي للعاقل أن يعرفه » ولذلك قال تعالى: (أحَسِبَ النّاسُ أَن يُترَكوا أَن يَقولوا آمَنّا وَهُم لا يُفتَنونَ).

وحين يكرمك الله بالبلاء، أعقل ما أنت فيه، فإنك في نعيم أختاره الله لك. البلاء الذي هو في الصحة، وفي الأسرة، وفي الأبناء، وفي الأعمال، إذا أنت عقلته وجدته نعمة. واذا توجهت بالحمد به إلى ربك كنت مرفوعاً لديه بأكبر درجات الرفعة. فقط ثق بالله وسلم له الأمر، وأسأله سِعة اليقين.

جعلنا الله وإيّاكم ممّن سكنوا باليقين تحت مَجَاري أحكامه، فعرفوا ألطافه في مجرى قضائه، فحمدوه حمد الشاكرين الأوّابين، أنه سبحانه نعم المولى، ونعم النصير ..

لو أنّ الله - سبحانه - أفاض علينا بأقل القليل من محبته؛ لسلب منا العقول، ولكنه عزّ وجل يعلم أن عقولنا محدودة مرهونة بالدُّون، ففتح أمامها مناشط الدنيا وأغلق بحجبها منافذ محبته إلا لمن يستحقها، ومن هم الذين يستحقونها؟!

أولئك الذين قضوا الساعات الطويلة في الشغل به بغير ملل ولا فتور، سائلين الله ذوق المحبّة، متوسلين بسيد الخلق، صلوات الله وسلامه عليه، وهو الذي قال تعالى عنه (قلّ إن كنتم تحبّون الله فاتبعوني يحببكم الله) فلا محبّة بغير إتباع، وهو صلوات الله وسلامه عليه القائل: (احبُّوا الله لمَا يغذوكم به من نعم).

اللهم قطرة من حبك: تزيل الهم، وتفرِّج الكرب، وتمكّن الوصال.

***

د. مجدي إبراهيم

سألتني السيدة ميرة، وهي مثقفة من دولة الإمارات الشقيقة، عن علاقة المواطنين ببعضهم وعلاقتهم بوطنهم: هل نكتفي بمضمونها القانوني، أم نحتاج أيضاً إلى الرابطة الشعورية، أي الشعور بالتضامن والتكافل والانتماء الواحد؛ كي تكون مواطَنة صحية وبنَّاءة؟ لقد واجهت مثل هذا السؤال في واقع الحياة. كما سمعته موجهاً لأشخاص أعرفهم، من مواطنين يقولون: كيف تكون مواطناً مثلنا، وأنت تنكر كثيراً مما نؤمن به. وسمعت شخصاً كان مشهوراً في زمن سابق، يقول في حديث تلفزيوني: لو التقيت «فلاناً» لتفلت في وجهه. ثم شرح قائلاً: إننا لا ننتمي إلى ذات المكان والمرجع. وأعلم أن كثيرين قد شاهدوا تلك المقابلة التي أثارت جدلاً واسعاً في وقتها. والحمد لله أن تلك الصفحة قد طُويت، وارتاحت بلادنا من أثقالها.

يشير سؤال السيدة ميرة إلى رغبة في الارتقاء بمفهوم المواطنة إلى مستوى الهوية الكاملة، بمعنى تحقيق التماثل التام بين المواطنين، في القناعات السياسية والدينية والعاطفية والثقافية. ولا أظن أن هذا ممكن في الواقع. ولو قلنا إنه ممكن، فهو عسير المنال جداً. ولذا؛ لا أرى داعياً للسعي إليه أو المطالبة به؛ خشية تكليف الناس ما لا يطيقون.

على أنني سأطالع الموضوع من زاوية أخرى، تركز على معنى الهوية والمواطنة ومضمونها الثقافي. وسبب اهتمامي بهذه المسألة، هو ما أراه من خلط بين الهويات المختلفة، ولا سيما تحميلها على الهوية الوطنية وخلطها بالأعراف الدينية/المذهبية، من دون داعٍ.

في الوضع الطبيعي يحمل الإنسان هويات متعددة، بدءاً من انتمائه العرقي/القومي إلى العائلي والقبلي والإقليمي، وصولاً إلى هويته المهنية والطبقية وميوله السياسية، ودينه ومذهبه ولغته، والتاريخ الثقافي لبيئته الاجتماعية، إلى الوطن الذي يحمل جنسيته. كل من هذه الانتماءات الكثيرة يمثل خيطاً يشده إلى مكان ويؤثر في ثقافته وتصوره للعالم، أي في تشكيل ذهنيته. وبهذا المعنى، فإن هوية الإنسان توليف معقد ومتداخل من هويات متنوعة. وكلما تزايدت، كانت شخصية صاحبها أعمق تفكيراً وأوسع أفقاً.

أزعم أنه لا يوجد شخص واحد، أحادي الهوية، في العالم كله، بمعنى أن ذهنيته تشكلت في إطار هوية واحدة، أو انتماء واحد فقط. إن شخصاً كهذا ينبغي أن يكون منعزلاً عن العالم كله طوال حياته. وهذا – في ظني – مستحيل بحسب ما نعرف عن عالم اليوم.

حسناً. دعنا نتخيل صورة الهويات التي نحملها على شكل دوائر متداخلة. بعضها يقع في الوسط وبعضها في الأطراف، وبعضها فوق بعض، وهكذا. أفضل الحالات هي حالة التفاعل والتلاقي بين تلك الهويات، أي حين يكون الإنسان قادراً على التعبير عن نفسه وثقافته ودينه وانتمائه العائلي والقبلي والسياسي في إطار القانون الوطني. هنا يلتقي الجميع على أرض واحدة، وتمثل الهوية الوطنية دائرة واسعة جامعة، أو مظلة حامية للانتماءات والهويات الأخرى كافة.

في حالة كهذه لا يكون المجتمع الوطني حشداً هائلاً من الأفراد المستقلين، بل مئات من الدوائر التي لكل منها لون وعلامة، لكن جميعها يقع في داخل الدائرة الكبرى، أي الهوية الوطنية. هذا ما نسميه «التنوع في إطار الوحدة». وهو أرقى التعبيرات عن فكرة الوطن في هذا العصر.

ربما توجد حكومة فائقة القوة، تسعى لتذويب الهويات كافة، عدا واحدة. وهو أمر لا يمكن تحقيقه إلا بالقوة الغاشمة. ونعرف من السجلات التاريخية أن بعض الطغاة قد فكر في هذا أو حاول فعله. ونعلم أن تلك المشروعات فشلت في أولى خطواتها؛ لأنها ضد المنطق وضد المسار الطبيعي للحياة. خلاصة القول، أن المواطنة الكاملة متحققة فعلاً لكل من يحمل جنسية البلد، مهما اختلف مع بقية المواطنين. هذا كافٍ تماماً. فإن حاولنا فيما يزيد على ذلك، فقد نتحول من بناء الوطن إلى هدمه. التنوع إثراء للوطن، والوطن لكل أهله، مهما اختلفت مصادرهم أو مشاربهم وغاياتهم.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

تحاول هذه المقالة معالجة الثيوديسيا التي يقول بها عبد الجبار الرفاعي في ثنايا مشروعه الفكري. والثيوديسيا "كلمة مشتقة من اليونانية: θεός (theos) الله، وδίκη (justice) العدالة. تُعد الكلمة إذًا نوعًا من الاخترال الفني؛ دفاعًا عن عدالة الله وخيريته في مواجهة الشر وحقيقته"[2]. ينقسم الشرّ غالبًا إلى شرور أخلاقية، وشرور طبيعية، وشرور ميتافيزيقية. يميز ليبنيز Leibniz بين هذه الأنواع الثلاثة؛ قد يكون شرًّا ميتافيزيقيًّا، وفيزيائيًّا [طبيعيًّا]، وأخلاقيًّا؛ الشر الميتافيزيقي يكمن في نقص، أو عدم كمال محض، والشر الطبيعيّ يكمن في المعاناة، والشر الأخلاقي يكمن في الخطيئة.[3] تُعنَى هذه الورقة بالشر الميتافيزيقي، وبما أسميتُه الشرّ اللاهوتي باعتباره فرعًا عن الأخلاقي. أعني بالشرّ الميتافيزيقيّ النقصَ الوجوديّ الحالّ في الطبيعة عمومًا والإنسان خصوصًا باعتباره داخلًا فيها؛ وبالشرّ اللاهوتي ذلك الصادر عن الإنسان أخلاقيًّا تجاه آخرين باعتبار مقولاتٍ لاهوتية يؤمن بها.

I. الشر الميتافيزيقي:

الإنسان بوصفه مخلوقًا ظامئًا

الإنسان مخلوق ظامئ، يطلب الرِّيَّ في كلِّ شيء، فهو لا يلبث يُولَد إلا ويسلك في تحقيق نفسه، وتكميلها، وهو لا يكمِّل منها شيئًا إلا ويطلب التحقق بغيرها في سعي محموم صوبَ الكمال في كل شيء؛ كمال لا يصل إليه أبدًا لنقصانه الوجودي، ولطبيعة خلقه المبتور عن التمام. لا حول ولا قوة للإنسان، إذ لا تتقاصر نفسُه عن طلب الكمال، إلا وتنطفئ ذاتُه، وينمحي معنى وجودِها.

لا سبيل أمام هذا الإنسان إلا أن يعيش باطن هذا القلق الوجودي طول عمره؛ أو أن يُنهِي ذاته ويُفنيها؛ أو أن يطلب الريَّ في شيء لا ينقضي رِيُّه، ولا ينقطع معينُه، وما ثمة أمر كهذا سوى ما تصورته العقولُ الإنسانية في الموجود المطلق (الله): "لو توفرت كل حاجات الإنسان المادية والبيولوجية، مثل حاجته للهواء والماء والطعام، والنوم والجنس وكل الأشياء الأخرى المماثلة، كما نرى في حياة الأثرياء المُتخمين بتكديس الأشياء والإفراط في استهلاكها، فإن كل هذا الاستهلاك لا يضمن لهم توفير طمأنينة القلب وسكينة الروح، ويظل الإنسان محتاجًا إلى ما يُؤمِّن له سلامًا داخليًّا، ولن يتحقق ذلك إلا ببناء صلة وجودية بالله".[4]

يُعبِّر الرفاعي عن الظمأ الوجودي فيقول: "أعني بالظمأ الأنطولوجي الظمأ للمقدس، أو الحنين للوجود المُطلَق؛ إنه ظمأ الكينونة البشرية بوصف الإنسان وجودًا محتاجًا على الدوام إلى ما يُثريه، كائنًا متعطشًا إلى وجود غنيّ مُكثَّف بذاته يروي به ظمأه، ويثري به وجودَه، ويسقي عطشَه المُزمن"[5]. يفترض الرفاعي في هذا المورد وغيره أنّ الإنسان وُجود مُحتاج، وجود مُفتقِر إلى وجود آخر أغني منه يثبِّت كيانَه، ويثري بنيانه، ويكمِّل روحَه.

منشأ اغتراب الإنسان

وباعتبار الإنسان موجودًا ظامئًا يريد الرِّيَّ في كل شيء ولا يرتوى، فما من شيء يمكنه إشباعه حقًّا في هذه الدنيا بعلائقها المادية. نعم الإنسان موجود تشتمله الروح والجسد، ما يعني أنه ذو مطالب مادية وروحية (معنوية)، لكنَّ الانغماس في مطالب المادة مع إهمال مطالب الروح يُوقِع الإنسان في شَرَكِ الظلمة المادية. يقول الرفاعي: "الاغتراب الوجودي ينشأ من أن الكائن البشري يبحث عن ذاته داخل عتمة الوجود المادي. المادة ظلام تكتئب في فضائه الروح، الظلام أشد من قدرة الروح على تحمل وحشته. طاقة الروح أقوى من المادة، طاقة الروح تبدد عتمة المادة. لا يُشفَى اكتئابُ الإنسان ويُخمَد قلقُه الوجودي إلا بإيقاظ حياته الروحية والأخلاقية".[6]

لا بد من إيقاظ حياة الإنسان الروحية والأخلاقية إذًا، لأنها الحياة الوحيدة ضمن حيوات متكاثرة يمكنها إثراء الوجود الإنسان الواهن، فهي المَعين غير الناضب، والمَنهَل غير النافد الذي يمكن للإنسان من خلاله أن يغترفَ ما يرجوه من معنىً لا يتناقص، وأن يستقي ما يرجوه لنفسه الهشَّة؛ وإنّ رشفةً واحدةً لقادرة على تحويله عن إملاقه الوجودي، وعلى تدعيم نفسه، وتكميل روحه.

الشرّ الميتافيزيقي ينتفي بالعودة.

يُعالج الرفاعي في هذه السياقات ما اصطُلِح عليه بالشر الميتافيزيقي. "يتناول الشرُّ الميتافيزيقيُّ حقيقةَ التناهي، أو الأشكال محدودةَ الوجود، وما يكمن فيها من نقص"[7]، فالعالم بكل ما فيه يعتريه النقصانُ لا محالة (بما في ذلك الإنسان)، ذلك لأنه مهما بلغت درجةُ الكمال فيه إلا وهو ناقص عن اللهِ خالقِه ومُصدِرِه الذي هو الكمال المُطلَق. وبغض النظر عمَّا إذا كان الشرُّ موجودًا باستقلالٍ أم عالقًا بالخير مُنقِصًا من شأنه فإنَّ الرفاعيّ يرى أن هذا النوع من الشرّ يمكن دفعُه أو التقليلُ من حِدَّتِه على الأقل من خلال الإيمان والنزوع إليه، يقول: "الإيمان نور يكشف للإنسان حقيقة وجوده. ثمرة الإيمان تُعرَف بإثرائه لسكينة الروح، وطمأنينة القلب...".[8]

يسكن مفهومُ العود الأبدي لغةَ الرفاعي إذًا، لكنه يغاير المتكلمين فيه من الفلاسفة، لأنه يرى العودَ ضرورةٌ اختياريةٌ على الإنسان النزوع إليها بالإيمان طوعًا من خلال عودته بالوقوف على روحِه الصادرة عن الله في الأصل، فهو إن تلمَّس طريقَ الروح هذا وسلك فيه؛ ينتفي عنه الظمأ الوجودي والغربة الميتافيزيقية، ومن ثم ينتفي شره الميتافيزيقي الساكن كينونته بالاحتجاب عن الله.

II. الشرور اللاهوتية

مَنْشَأ الشر اللاهوتي

ليس الرفاعي حالمًا، فهو ليس من نوعِ المفكرين أو المتحدثين في الدين الذين يرون أنه متى آمن الناس، أو سلكوا مسالك الدين، فإن الحياة تُضحي خيرًا تامًّا، فهو مُدرِك تمامًا أن الإيمانَ مثلما يكون مصدرًا للخير قد يكون مصدرًا للشر. يُعرِّف الرفاعيّ الدينَ بأنه "حياة في أفق المعنى، تفرضه حاجة الإنسان الوجودية لإنتاج معنىً روحيّ وأخلاقيّ وجمالي لحياته الفردية والمجتمعية".[9] لا يُعرف الرفاعي الدين هنا بالحد أو الرسم، لكنه يعرفه بوظائفه، ومن ضمن وظائفه إنتاجه المعنى سواء كان روحيًّا أو أخلاقيًّا أو جماليًّا. هذا المعنى الناجم عن الدين مُنعكس على حياة الإنسان تجاه نفسه أو تجاه غيره، لكن هل يمكن أن يكون هذا المعنى قبيحًا مثلما يكون حسنًا؟ يُجيب الرفاعي صراحةً بأن هذا ممكن؛ ممكن إذا حصل تلاعب بوظيفة الدين في إنتاج المعنى. يحدث هذا في حدوث أمرَيْن: إفقار الدين روحيًّا بالأدلجة، أو حصره في البنية التاريخية للأفكار.

الشر اللاهوتي ينتفي بلاهوت المحبة

يربط الرفاعيّ بين الإيمان والمحبة ربطًا وثيقًا، فلا يظهر أحدُهما إلا بالقدر الذي يظهر فيه الآخر، ولا يغيبُ أحدُهما إلا بالقدر الذي يغيبُ فيه الآخر. يقول: "الإيمان والحب كلاهما كيمياء للروح، كلاهما منبثقان من جوهر واحد، يولَدان معًا، ويرتضعان معًا، ويتكرّسان معًا، ويتوحّدان معًا. حيث يشتد الإيمانُ يشتدّ الحب، وحيث يذبل الإيمان يذبل الحب".[10]

لا أظنّ الرفاعيَّ يطابق الإيمانَ بالمحبةِ، أو المحبةَ بالإيمانِ، لكنه يريد أن يقول أن أصل الإيمان هو المحبة فيما ينبغي ويجب. يعني هذا أن المحبة ينبغي أن تكون أصلَ الإيمان والنزوع إلى الله لا الخوف والرهبة مثلًا؛ وأن الإنسان إذا حقق في نفسه هذا المعنى، تنشَّا فيه الإيمانُ الحرُّ بالله من طريق المحبة التي لا يلبث معها إلا وتمتلئ حياتُه بالنور الإلهيّ الذي يُضيء نفسَه، ويُشعل روحَه، ويجعله سالكًا بين الناس بالمحبة أيضًا.

يتطلب هذا الأمر الخروج عن الأنساق الفكرية التي يفكر بها التراثيون الآن، فـ"لن يتحرر فقه المسلمين من نزعات التكفير والتشدد ما دام هذا الفقه متمسكًا بالولاء والبراء والأحكام التي وُلِدَتْ في سياقات تاريخية لا تعرف منطق الحريات والحقوق. لن يتحرر فقهُ المسلمين ما دام لا يرى الله والإنسان والعالم إلا في آفاق علم الكلام القديم. ولن يبلغ تفكيرنا الديني الآفاق المضيئةَ الرحبة للإيمان إلا من خلال بناء علم كلام جديد"[11].

ملامح التجديد الكلامي

لا تجديد في الدين إذًا إلا من طريق تجديد علم الكلام القديم الذي يتخذ المنطق الأرسطي مرجعيةً له، وينفصم معه النظرُ عن العمل، ويشيع فيه التقليدُ، ويُهمِل الإنسان، ويغيب عنه المضمونُ الاجتماعيُّ، ويُربِّي على الخوف، ويُرسِّخ اللاهوتَ الصراطي، ويُهمل الروحَ، ويفتقر إلى المضمونِ الأخلاقي، ولا يميز بين المقدس واللامقدس، ويتجاهل العوامل المؤدية إلى نشأة الفرق (مثل السياسة)، ويعتمد على الطبيعيات الكلاسيكية.[12]

والكلام الجديد الذي يُعنَى بابتناء مفهوم جديد للوحي يقوم أساسُه على أركان من أهمها: (1) تفسيرُ الوحي تفسيرًا ديناميكيًّا، لا يكون النبيُّ فيه الجانبَ السلبيَّ المنفعل، بل يكون فيه متفاعلًا معه، متأثِّرًا ومؤثِّرًا فيه. (2) نفي الصورة المرعبة لله في الكلام القديم، ومحاولة ابتناء صورة أخرى رحمانيّة مُفَعَّمَة بالرأفة الإلهيّة. (3) ابتناء صلة بين العبد والله تقوم على أساس من المحبة، لا على أساس القهر والخوف. (4) إيقاظ المعنى الروحيّ والأخلاقيّ والجماليّ الكامن في النصوص المؤسِّسَة. (5) إعادة تعريف الدين بصورةٍ يكون فيها منبعًا لما يُثْرِي حياةَ الإنسان بالمعنى الذي يتطلّبه وجودُه. (6) الانفتاح على تعدُّد قراءات القرآن بتعدّد الأحوال، والأزمان، والبيئات، والثقافات، والأشخاص. (7) الاستفادة من معطيات الفلسفة الحديثة، والعلوم الإنسانية المعاصرة، والأدوات الجديدة في الفهم والتأويل.[13]

يضع الرفاعي من بعد ذلك ضابطًا معياريًّا فارقًا بين ما يُعدّ كلامًا جديدًا وما لا يُعدّ كذلك: "ونظرًا، لعدم استناد الباحثين إلى معيار كلي يمكن العودة إليه في معرفة ما يصدق عليه بأنه علم كلام جديد؛ حدث التباس لدى أكثر الباحثين في تمييز المصاديق، ووجدنا عشوائية في انتقاء كتابات وإدراجها في الكلام الجديد مع أنها لا تنتمي إليه... المعيار العلمي الذي يمكن اعتمادُه، بوصفه مقياسًا لتمييز الكلام الجديد عن القديم، وعلى أساسه يمكن تصنيف أحد المتكلمين بأنه متكلم جديد، هو المبني على اجتهاد جديد يقدمه المتكلم لبناء مفهوم للوحي لا يكرر مفهومَه في الكلام التقليدي...".[14]

خاتمة

يمكن تلخيص ما سبق في عدة نقاط: (1) يرى الرفاعيُّ الإنسان مخلوقًا من روح الله، ما يجعله واقعًا في الظمأ الأنطولوجي لشعوره بالحنين الدائم وانقطاعه عن الأصل الذي صدر منه. (2) إذا ما طلب الإنسانُ الرِّيَّ في غير الله وقع الإنسان فريسةً للاغتراب الميتافيزيقي الذي ينهش كيانه. (3) يؤدي اغترابُ الإنسان الميتافيزيقي إلى شر ميتافيزيقي يوازيه، شرّ يعني فاعلية النقص فيه، وشعوره بهشاشةٍ ضمن عالم تفترسه المادةُ. (4) حتى ينفي الإنسانُ اغترابه وشرَّه الميتافيزيقيان؛ عليه العودُ الإيمانيّ إلى روحه التي هي من روح الله، ونفخةٍ منه، ومن ثم العود إلى الله، المعين الذي لا ينضب. (5) الدين موصوف بأنه منتج للمعنى في حياة الإنسان. (6) قد يضيق هذا المعنى ويفتقر إذا تأدلج الإيمانُ أو تأطَّر بالتاريخ. (7) يؤدي هذا إلى حدوث الشر اللاهوتي باعتباره شرًّا صادرًا عن إيمان عنيف. (8) لا ينفي الإنسان عن نفسه هذا الشر إلا بلاهوت الرحمة غير المُنبني على التراث الفقهي والكلامي. (9) يعني هذا ضرورة ابتناء علم للكلام جديد ما دام العلمَ الحاكمَ على ما سواه.

***

عبد العاطي طلبة

 كاتب ومترجم مصري من الجامعة الأزهرية

..............................

[1] هذه مقالة من كتاب يتناول: الرؤية الفلسفية لمشكلة الشر في فكر عبد الجبار الرفاعي.

[2] Hick, John, Evil and the God of Love (London: Palgrave Macmillan, Edition Number 2010), p. 6.

[3] انظر: كوبلستون، فريدريك، تاريخ الفلسفة، ترجمة وتعليق: سعيد توفيق، محمود سيد أحمد، مراجعة وتقديم: إمام عبد الفتاح إمام (القاهرة: المركز القومي للترجمة، الطبعة الأولى 2013)، المجلد الرابع، ص 437.

[4] الرفاعي، عبد الجبار، الدين والكرامة الإنسانية (بغداد: مركز دراسات فلسفة الدين، ودار الرافدين، الطبعة الثانية 2022)، ص 220-221. ص 220-221

[5] الرفاعي، عبد الجبار، الدين والظمأ الأنطولوجي (بغداد: مركز دراسات فلسفة الدين، ودار الرفدين، الطبعة الرابعة 2023)، ص 25.

[6] الدين والكرامة الإنسانية، مصدر سابق، بتصرف يسير، ص 42.

[7] Evil and the God of Love, ibid. p. 38.

[8] الدين والكرامة الإنسانية، مصدر سابق، ص 42.

[9] الرفاعي، عبد الجبار، الدين والنزعة الإنسانية (بغداد: مركز دراسات فلسفة الدين، ودار الرفدين، الطبعة الرابعة 2022)، ص 92.

[10] الدين والنزعة الإنسانية، مرجع سابق، ص 316.

[11] الدين والنزعة الإنسانية، مرجع سابق، ص 321.

[12] انظر: طلبة، عبد العاطي، الخلاصة في الكلام الجديد: موجز كتاب «مقدمة في علم الكلام الجديد»، موقع مؤمنون بلا حدود، أغسطس 2023.

[13] انظر: الخلاصة في الكلام الجديد: موجز كتاب «مقدمة في علم الكلام الجديد»، مرجع سابق.

[14] الرفاعي، عبد الجبار، مقدمة في علم الكلام الجديد (بغداد: مركز دراسات فلسفة الدين، ودار الرفدين، الطبعة الثالثة 2023)، ص 134-135.

لم تلبث مجتمعاتنا العربية الراكدة تعاني فقدان القدرة على التعاطي مع تبعات (الحداثة) وتداعيات (ما بعد الحداثة)، حتى داهمتها وثورات أخرى جديدة من قبيل (الرقمنة) الاجتماعية وربيبها (الذكاء الاصطناعي)، والمؤكد ان هذه الموجات المتتالية لن ينتهي الى هذا الحدّ، وإنما ستعقبها موجات أخرى لا نعلم طبيعتها ولا عواقبها ولكن المؤكد أنها ستكون كارثية على مجتمعاتنا بكل المقاييس. لاسيما وان الغالبية العظمى لهذه الأخيرة لم تبرح تراوح ضمن أطوار بدواتها الحضارية والإنسانية الأولى، حيث لا زال الإنسان العربي – رغم ارتفاع مستويات التعليم وتزايد معدلات المدنية - يحتكم في علاقاته الاجتماعية وتواضعاته العرفية الى أصوله الأقوامية وانحداراته القبائلية وانتماءاته الطوائفية، كما لو أنه ما فتئ يعيش داخل خيمته وسط الصحراء.

ولهذا فلا يغرنك ارتفاع نبرة الخطابات الإيديولوجية التي تروج لها مراكز الإعلام الرسمي في تلك المجتمعات المستتبعة والمستباحة، بخصوص سعيها الحثيث لاستدخال واستدماج كل ما أنجزه العقل الغربي من فتوحات علمية وابتكارات تكنولوجية الى بيئاتها الرثة والمتهرئة، والتي لا تني سرعة ظهروها واتساع مدياتها وعمق تأثيراتها تغيّر ملامح عالمنا الواسع والمتنوع بكل ما سمعناه وشهدناه وألفناه منذ قرون. إذْ حتى لو كانت السلطات المعنية في تلك المجتمعات (صادقة) في هذا المسعى المكلف اقتصاديا"والخطر سياسيا"والمليء بالنذر حضاريا"، فإنها بلا شك ستغامر - لا في حاضرها المأزوم فقط بل وكذلك في مستقبلها - في تحمل تبعات مثل هكذا خيار / قرار متهور، وذلك جراء عدم استعدادها لا علميا"ولا معرفيا"ولا حضاريا"ولا نفسيا"لكي يكون بمقدورها الانخراط في مثل هذا الأتون المشحون بالتحديات.

ولعل من الجدير بالذكر، ان الرهان على خيارات (رقمنة) المجتمعات المتصدعة و(أتمتة) أنظمتها المتشظية – كما هو حال مجتمعاتنا العربية - لا يتحقق لمن يرجوه بهذه البساطة والسهولة التي قد يضنها البعض بمجرد نقل معدات التكنولوجيا أو استيراد مبتكراتها الحديثة، دون أن يكون على الصعيد الذاتي / الداخلي مستعدا"لتحمل أكلاف وأثمان هذا الضرب من المغامرات المصيرية، والتي يترتب عليها الكثير من احتمالات التآكل والاندثار في كل ما يشكل (هوية) هذه المجتمعات المتأخرة علميا"والمتحجرة معرفيا"الضعيفة والعقيمة حضاريا". خصوصا"إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار الطبيعة الجاذبة لاستغلالنا اقتصاديا"والمستقطبة لغزونا فكريا"من قبل أساطين الاستعمار الغربي قديما"وحديثا"، على خلفية تردي أوضاعنا الاجتماعية، وهشاشة ظروفنا الاقتصادية، ورثة أنماطنا الثقافية، والتباس ذاكراتنا التاريخية.

وفي إطار تشخيص المحاذير والكشف عن المخاطر المؤكد حدوثها والمتوقع مواجهتها حاضرا"ومستقبلا"، في حال انفتاح مجتمعاتنا العارية من كل حصانة أمام كل محاولات الامحاء التاريخي، الاخصاء الفكري، والتعطيل الحضاري، والتشويه الإنساني. فإنه من المرجح أن تحتل عمليات التآكل في مدماك (الرأسمال الرمزي) صدارة تلك المحاذير والمخاطر التي ستنجم عن إقحام هذه المجتمعات المعاقة – طوعا"أو كرها"- في أتون دوامات هذا الضرب من (التقنية) الفائقة التي يتعذر وجود معادل علمي ومعرفي وأخلاقي وإنساني يوازيها في القدرة والتأثير، يمكنه أن يحدّ من عواقبها الاجتماعية أو أن يلجم تداعياتها الحضارية على هذه المجتمعات الراكدة.

والحال ان ما تشهده حاليا"المجتمعات المتقدمة علميا"والمتطورة معرفيا"، والتي شرعت منذ مدة بولوج عصر (الرقمنة) والتهيؤ، من ثم، للتعاطي مع غرائب وعجائب منتجات (الذكاء الاصطناعي)، لا يمكن التغاضي عما أفرزه من إشكاليات حضارية، والتقليل من شأن ما تمخض عنه من تعقيدات أخلاقية. لجهة تفكك الروابط الأسرية، وتخلع العلاقات الاجتماعية، وازدراء المعايير القيمية. ناهيك عن الانزياحات والانحرافات التي تتعرض لها أصول الثقافات المحلية والهويات الوطنية والسرديات التاريخية والثوابت الجغرافية، التي طالما كانت تمثل بالنسبة للدول والمجتمعات معاني الانتماء ودلالات الأصالة. بحيث إن ما ترتب على ذلك وتمخض عنه قلب المعايير وزحزح الثوابت لصالح التوجهات الكوزموبولتانية (اللاوطنية) من جهة، وأفسح المجال أمام النزعات (العلموية) المحمومة التي من شانها تجريد الإنسان من خصائصه الاجتماعية والإنسانية والخلقية والرمزية من جهة أخرى.

وهكذا تبدو المجتمعات الموصومة بالتخلف أمام تحديات مصيرية لا قبل لها بها، من حيث تهالك بناها التحتية (اقتصاد وصناعة وتكنولوجيا)، وتهافت بناها الفوقية (علوم ومعارف وثقافات). وهو الأمر الذي سيفضي بأية محاولة / مغامر ل(رقمنة) مؤسساتها الخدمية والتعليمية والثقافية من جهة، وأنشطتها الإدارية والمالية والتجارية من جهة ثانية، وعلاقتها الاجتماعية والأخلاقية والقيمية من جهة ثالثة، في حالة من التخبط والفوضى مثلما غياب الجدوى والمعنى. إذ بدلا "من أن يكون هذا المسعى المحفوف بالمخاطر سببا" لانتشلها من وهاد التخلف المستديم والانحطاط المتوطن، التي لم تفتأ تتمرغ فيها وتتلظى منها، بدافع من إغراءات وإغواءات مزاعم (الحرية الشخصية) و(العدالة الاجتماعية) و(المساواة الجندرية) و(التعددية الثقافية) و(التلاقح الحضاري)، الخ. فإن ذلك سيقودها ليس فقط الى تصدع وحدتها وضياع شخصيتها فحسب، وإنما سيحتم عليها التضحية بتاريخها وثقافاتها وهوياتها وذاكراتها، وبالمجمل سيكون مدخلا"لتآكل رأسمالها الرمزي الذي من المؤكد أنها ستفقد كيانها بدونه !.

***

ثامر عباس

احتفلت البشرية قبل أيام بالذكرى 43 باليوم العالمي للسلام، الذي يصادف 21 أيلول / سبتمبر، حيث كانت الجمعية العامة للأمم المتحدة قد اعتمدته في العام 1981، الذي اعتُبر "عام السلام"، والهدف هو تعزيز المثل العليا للسلام في جميع أرجاء المعمورة، وهو الهدف السامي الذي أُنشأت من أجله الأمم المتحدة أيضًا، كما جاء في ميثاقها الذي نصّت ديباجته على ما يلي "نحن شعوب الأمم المتحدة وقد آلينا على أنفسنا أن ننقذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب التي في خلال جيل واحد جلبت على الإنسانية مرتين أحزاناً يعجز عنها الوصف... وفي سبيل هذه الغايات اعتزمنا أن نأخذ أنفسنا بالتسامح، وأن نعيش معاً في سلام وحسن جوار، وأن نضم قوانا كي نحتفظ بالسلم والأمن الدولي".

كما يُعتبر حفظ السلم والأمن الدوليين المدماك الأساسي في مقاصد الأمم المتحدة التي نصّ عليها ميثاقها في المادة الأولى منه، حيث جاء فيه "...وتحقيقاً لهذه الغاية تتخذ الهيئة التدابير المشتركة الفعّالة لمنع الأسباب التي تهدد السلم ولإزالتها، وتقمع أعمال العدوان وغيرها من وجوه الإخلال بالسلم، وتتذرّع بالوسائل السلمية، وفقاً لمبادئ العدل والقانون الدولي، لحل المنازعات الدولية التي قد تؤدي إلى الإخلال بالسلم أو لتسويتها."

وكانت الأمم المتحدة في العام 1999 قد أقرّت إعلانًا وبرامج عمل لنشر ثقافة السلام وتعميمها، وذلك بتأكيد الحق في السلام باعتباره حقًا لازمًا للتمتّع بالحقوق الأخرى، وبالطبع بعد الحق في الحياة، إذْ أن العيش بسلام وطمأنينة وكرامة هو ملازم للحق في الحياة.

وكان دستور منظمة اليونيسكو (منظمة الأمم المتحدة للعلم والتربية والثقافة) قد نصّ على ما يأتي: لمّا كانت الحروب تُصنع في العقول، فلا بدّ من بناء حصون السلام في العقول أيضًا، الأمر الذي يعني أن مسؤولية تحقيق السلام وبنائه وإدامته والحفاظ عليه هي مسؤولية الجميع دون استثناء، وهي مسؤولية الدول والحكومات بالدرجة الأساسية، ويأتي دور الهيئات المدنية والمنظمات، ولاسيّما منظمات السلام، بما فيها مجلس السلم العالمي، الذي تأسس في العام 1950 ليكون مكمّلًا ومتمّمًا لها، لاسيّما من خلال أنشطة وفعاليات، إضافة إلى تهيئة مستلزمات وعي جديد يؤمن بأهمية السلام للتنمية والتقدّم.

ولا يمكن الوصول إلى ما تصبو إليه الأمم والشعوب دون بناء السلام وتعزيزه، ويتطلّب ذلك نشر ثقافة السلام والتربية عليها، ابتداءً من المدارس الابتدائية ووصولًا إلى الجامعات والمعاهد العالية، وجعلها ضمن برنامج المنظمات والجمعيات بمختلف اختصاصاتها بإقرار الحق في التنوّع وقبول التعدديّة واحترام الحق في الاختلاف والبحث عن حلول للمشاكل بالوسائل السلمية والابتعاد عن كلّ ما له علاقة بالعنف أو استخدام الوسائل الحربية لحلّ الخلافات، وهو ما ورد في النظام الأساسي لمجموعة السلام العربي، التي تأسست من شخصيات وازنة سياسية وفكرية وثقافية قبل نحو 6 سنوات، وعقدت مؤتمرين (2022 و 2024) في مقر جامعة الدول العربية.

إن عنوان الاحتفال هذا العام له أكثر من دلالة ومعنى، فزرع ثقافة السلام، تعني أولًا وقبل كلّ شيء، نشر فضائل السلام، ولاسيّما بإظهار نقيضها، والمقصود بذلك رذائل الحرب، ثمّ دراسة التجارب التاريخية، التي مرّت على العالم، فحروب أوروبا التي دامت 100 عام وبعدها 30 عامًا، لم يوضع لها حدّ إلّا بتوقيع معاهدة وستفاليا العام 1648، حيث أنهت الحروب الدينية والطائفية التي اجتاحت أوروبا لقرون من الزمن، فما أحوجنا إلى أخذ الدروس والعبر لكي تخرج منطقتنا من دائرة الصراعات والاحترابات الطائفية والدينية والإثنية، تلك التي دفعت المنطقة ثمنها باهظًا، لاسيّما إذا تمكّنت الأمم الأربعة: الترك والفرس والكرد والعرب من إقامة علاقات سويّة بين بعضها البعض على أساس الاحترام المتبادل وحق تقرير المصير وأخذ المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة بنظر الاعتبار، لاسيّما بمراعاة الخصوصيات الوطنية والقومية وعدم التدخّل بشؤونها، فضلًا عن حقها في ممارسة شعائرها وطقوسها بحرية، مع احترام حريّة الآخرين في هويّاتهم الفرعية والوطنية وانبعاث تراثهم التاريخي.

وأكدّت التجربة أيضًا أن لا تنمية دون سلام، وهذه تتطلّب تلازمًا بين جميع الحقوق الإنسانية، التي هي القاعدة الأساسية للتنمية المستدامة بمعناها الشامل الإنساني، يضاف إلى ذلك أن نشر ثقافة السلام يعني وقف الحروب الخارجية والنزاعات الأهلية الداخلية، والبحث عن السبل الكفيلة للوصول إلى السلام وإدامته، ويتطلّب ذلك حصر بؤر التوتّر ونزع صاعق التفجير، لاسيّما اعتماد الحوار والتفاوض والحلول السلمية سبيلًا للوصول إلى الحل المنشود، وصَدَقَ من قال: أن 50 عامًا من الحوار ولا ساعة قتال أو حرب، لأن هذه الأخيرة ستترك تأثيراتها النفسية السياسية والاجتماعية والاقتصادية والقانونية والتاريخية، ليس على الفريقين المتحاربين، سواء جيوشًا أو جماعات مسلحة فحسب، بل على عموم السكان، وقد تبقى تأثيراتها لفترة طويلة، فضلًا عن اختزانها في الذاكرة الجمعية للمجتمع، وفي ذاكرة الأفراد أيضًا، لاسيّما للضحايا أو ذويهم، تلك التي تتوارثها الأجيال أيضًا.

إننا حين نتوقّف عند الاحتفال هذا العام بزرع ثقافة السلام، فإننا نراجع حصيلة حروب المنطقة وحروب شمال أفريقيا، فالحرب المفتوحة على غزّة منذ حوالي عام ما تزال مستمرة، وهي باعتراف محكمة العدل الدولية "حرب إبادة جماعية" أدّت إلى تهجير نحو مليوني إنسان من مدنهم ومناطق سكنهم، لاسيّما بقطع الماء والكهرباء والغذاء والدواء عنهم، بعد تدمير البنية التحتية الأساسية، والمستشفيات ودور العبادة والعلم والتربية، بما فيها تعريض المنظمات الدولية الإنسانية والإنمائية والإعلامية إلى الانتهاك والتدمير.

لقد انتشر العنف خلال ربع القرن الماضي في العراق وسوريا واليمن ولبنان وفلسطين بالطبع والسودان والصومال وليبيا، إلى درجة الانفلات، خصوصًا بصعود عدد من المنظمات الإرهابية، لاسيّما القاعدة وداعش وجبهة النصرة (فتح الشام)، حيث ارتفع معه معدّل اللّاجئين والنازحين، وأحدث أزمة دولية في العديد من دول العالم، سواء الدول المجاورة أو الدول الأوروبية، بما فيها ألمانيا وإيطاليا، وما يزال عشرات الملايين من السكان يعانون مرارة الحرمان وفقدان الأمل، إضافة إلى الخسائر التي لا يمكن تعويضها في الأرواح والأموال، وتعطيل التنمية، ووجود أعداد كبيرة وغير مألوفة من الجرحى والمعاقين والمفقودين والأيتام والأرامل.

لقد عالجت اتفاقيات جنيف لعام 1949 قضايا الجرحى والمرضى والأسرى والمدنيين، الذين هم ضحايا الحروب، وجاء بروتوكولي جنيف لعام 1977 ليستكملا هذا الجهد الدولي المتواصل للتخفيف من نتائج الحروب واحترام حقوق الإنسان.

إن إعمال الحق في الحياة وفي سلامة الجسد والنفس والحق في العيش الكريم والحق في الأمن والأمان، هي حقوق أساسية لا يمكن أن تتحقّق إلّا في ظلّ السلام، الذي ينبغي أن يكون دائمًا ووطيدًا وعادلًا، وذلك حمايةً للأجيال المقبلة، فقد شهدت البشرية خلال القرن العشرين حربين عالميتين، ذهب ضحيتهما زهاء 80 مليون إنسان، وهو ما يتطلّب تكريس التعايش السلمي بين الشعوب والأمم، واحترام خياراتها الحرّة وطريق تطوّرها المستقل وفقًا لحقّها في تقرير المصير، ولتعزيز السلام وإدامته والحفاظ عليه فإن ذلك يحتاج إلى العدالة التي بتحقيقها تنعم البشرية بالحقوق والحريّات والرفاه.

***

عبد الحسين شعبان - مفكّر وأكاديمي

 

لم تكن البرانبه اليدوية حتى نهاية الطور العثماني تملك "مشروعا" مميزا ضمن الاصطراعية الناشبة بينها وبين الانبعاث السومري في ارض السواد من القرن السادس عشر، مع انها تمتعت على مدى تاريخها وماسبقها ذهابا الى هولاكو بميزه افتقاد التشكلية الرافدينيه الراهنه الحديثة للنطقية المطابقة وليدة الانبعاثية المستجده، علما بان المجالين او الموضعين البراني الاعلى في "عراق الجزيرة " وفي قلبة بغداد العاصمة الامبراطورية المنهاره، والاسفل، كانا قد تحولا الى مجالين متمايزين الجنوبي مصطرعين، قبلي ابتداء، وانتظاري حديث نجفي ثانيا، استلهاما يدويا، في حين استمرالاعلى حكومات واشباه امبراطوريات يدوية متعاقبة عائدة لمثالية زمنيه ونوعية عائدة للماضي.

وما ان حضر الغرب وطلائعه حتى تغير الوضع الاجمالي والاصطراعي التشكلي الحديث مع انقلاب البرانيه نوعا كنموذجية وتصورات مفهومية مع الغرب الالي وظاهرته المتغلبة على مستوى المعمورة، وهو ماقد انعكس في هذا الموضع من الشرق المتوسطي بايقاعيتين مختلفتين عليا هي مجال البرانيه القديم نفسه، وجدت فيه الحداثوية الطارئة الوافدة مايمكن ان يحقق استمرارية غلبتها المدعمه بالنموذجية والحضور المباشر الغربيان، في حين ذهب الاطار الاسفل التشكلي الحديث الى ممارسة الاستبدالية الضرورية، حيث استعمال النموذجية الغربية ضد الغرب وحضوره، وهو ماقد تجلى بوضوح في قيام الحزب الشيوعي وحزب البعث اللاارضويان في الناصرية عاصمة البدء التشكلي الراهن/ المنتفك، بعد فشل محاولة تاسيسهما في بغداد العاصمة/ حيث كان المفترض التبسيطي يتوقع ويفترض.

لايقارب العراق كعراق وكنوع نمطي الا كازدواج عراقين في عراق واحد، أسفل هو مجتمع لادولة لاارضوي غير كياني، واعلى ارضوي امبراطوري (امبراطورية مدينه)، نموذجاها الاعلى، بابل/ بغداد. الجزء الاعلى يصر على اعتماد المنظور والمفهوم الكياني الاحادي الشائع، تكريسا لموقعه وتوهم احاديته السلطوية، والاسفل لم يصل حد الارتقاء لمستوى النطقية الذاتيه الكاشفة عن نوعه، لتعديها نطاق المتاح والمتوفر للعقل البشري من قدرة على الاحاطة بعد.

يعني هذا اننا سنكون امام شكلين من التفاعل مع الغرب وبرانيته، احداهما متماهية معه نقليا بالاخص بما يتعلق بالنوع النمطي المجتمعي وبالكيانيه المواكبة له، فالعراق والحالة هذه واحد موحد، وبالاصل وحكما مجتمعية واحدة ودولة واحده "وطنية" كما حال مصر كنموذج أعرق، عدا اوربا شبيهتها في الجوهر نوعا، مع انها ازدواجية "طبقيا" لامجتمعيا كما الحال الرافديني، هذا علما بان الغرب الحداثي الاستعماري مطبوع الى القسر والغلبة الاكراهية المجتمعية الكيانيه وعلى مستوى الدولة، اذ تقوم علاقته بالعراق على هذه القاعدة فانها تمارس حكما كافنائية للنوع، مايجعل التماهي والاتباعية الفوقية ذاتها ماخوذة في الجوهر الى حكم واثر الفعالية اللاارضوية السفلى، وخاضعه اجمالا لدينامياتها الخافية غير المؤشر عليها.

ومن المنطقي ان يخطر على البال كون العراق او الموضع الذي يحمل هذه التسمية، ماكان قد عرف يوما، برغم مظاهر احتداميته الاصطراعية الداخلية المستمرة بلا توقف، مايمكن ان يجعله كصنف كياني مختلفا عن الكيانيات المتعارف عليها، وهذه حجة برغم وجاهتها المبدئية الظاهرة لاتصلح للاخذ بها، لان المجتمعات والمعارف البشرية على الصعيد الاجتماعي ظلت الى وقت قريب خارج الادراكية البشرية، ولم يصبح لدينا مايمكن ان ينسب الى مااطلق عليه " علم الاجتماع" الاوربي الحديث الا منذ مايقارب القرنين، علما بان مايشار له ليس اكثر من بداية ومنطلق، انطوى على ماقد رافق اجمالي المنظورات الغربية الحديثة من قصور وبقايا وقوف دون الذهاب الى اماطة اللثام الكامله عن الظاهرة المجتمعية، الامر العائد الى ترقوية العقل البشري، ومديات تشكله المستمرة عبر التجربة، واخرها تلك التي واكبت الالة في بداياتها قبل ان تصل درجة الكمال المطلوب بما خص ظاهرة الانتقال الى الطور المجتمعي الالي.

ويدخل ما منوه عنه اعلاه ضمن ظاهرة "تعذر النطقية" الخاصة الرافيدينيه والعامة على مستوى المعمورة، حيث التبسيطيه المنظورية للمجتمعات ونمطيتها مقرونة بالميل الى توحيدها وفرض نمطية بذاتها عليها، ماكان من شانه وبظل ميل الغرب الجارف للمركزية وللتسيد النوعي والمفهومي، الى ممارسة مالم يكن بيد العثمانيين او من سبقهم وصولا لهولاكوان يمارسوه، بتسليطهم نزعة الافناء النمطي الاحادي النوعي الادنى ديناميات، على كيانيه الازدواج المجتمعي الكوني المتعدي للكيانوية، وهو ماقد تكفل ابتداء شخص مثل الضابط فليب ويرلند الملحق بالحملة البريطانيه، بحفر وصفته وخطابيته التوحيدية المرتهنة للسوق الراسمالية العالمية، وهو ماقد تقبله وتبناه "الحداثيون الانحطاطيون العراقيون"، ليظل ساريا بينهم ومعتمد الى اليوم، يقبلون باسمه احالة وادماج ذواتهم الى نوع غيرهم.

ولا يمكن لابل من المستحيل بالنسبة لهذا النفر "الحداثي الانحطاطي" ان يقارب احتمالية بعيدة بعد السماء عن الارض تخص موضعهم الذي هم منه وسنكنته، عدا عن دوره او مامنطو بين تضاعيف بنيته من حقيقة كونيه راهنه، آلية، متعدية لتلك الغربية الشائعه حتى الان والتي كرسها الغرب الاوربي بقوة الاله وحضورها بين تضاعيفه ابتداء، مع قوة مفعول اللانطقية او التاخر النطقي، الذي لاتستقيم العملية الانقلابية الكونية من اليدوية الى الالية الا بزواله، باعتبارها بالاصل محطة متوافقه مع ديناميات وجوده وموقعه ضمن التفاعلية التاريخيه على مستوى المعمورة، وعلى وجه الخصوص احتمالية كون هذا المكان منطو على مستقبل البشرية ومجتمعاتها، يبدا بصيغة وتكوين مختلف وممتاز، انما غير قابل للتحقق في ساعته، فارض سومر هي ارض المستقبل البشري باعتبارها لاارضوية نشات ضمن ديناميات التشكل المجتمعي ( البيئي / البشري) ضمن بيئة مجافية الى الحد الاقصى الطارد، الذي يصل على مر تاريخ هذا المكان الى الاقتراب من حافة الفناء، مما يضع الاستجابات ووجهة العقل خارج الارضوية نازعا للخلاص من وطاتها، وبالتفارق معها الى السماوية غير الممكن الذهاب اليها الا بتوفر الاسباب المادية "الانتاجية العقلية"، مع كسر القصورية الادراكية الحالة على العقل، الباقية ملازمه له طورا الزاميا ضمن تاريخ تصيره العضوي الضروري، المتجه ترقيا الى الانفصال عن الجسدية، والتحرر من ربقتها كمتبقيات حيوانيه مستمرة حضورا من مراحل تصيرية غابره.

يتبع / ملحق1

***

عبد الامير الركابي

 

قال صاحبي وهو يحاورني: لقد سئمنا من رجال الدين المنافقين والكذّابين، يعظون الناس بالعمل الصالح وينهون عن فعل المنكر وهم يمارسون الرذيلة وسيء الاعمال.

قلت وأنا أحاوره: لا يا صديقي، ليست هذه هي الصورة الحقيقية لرجال الدين، فأكثر رجال الدين هم من الصالحين والقليل منهم هم الطالحين، وأكثرهم من الأخيار والقليل منهم من الأشرار. الكل يعرف رجال الدين أمثال محمد عبده ومحمود شلتوت، ومحمود شكري الألوسي والشيخ وليد الأعظمي، ومحمد باقر الصدر ومحسن الحكيم والعلامة الشيخ الوائلي وكثيرون غيرهم من المعروفين بعلمهم واخلاقهم ونزاهتهم، والكل يسمع لهم ويقتدي بهم. وإن كان هناك رجال دين فاسدين فهم قلة، لا يسمع لهم أكثر الناس ولا يعرفهم أكثر الناس، وليس لهم تأثير على الناس والمجتمع. إنما هي فكرة خاطئة وصورة مشوّهه عن رجال الدين في مجتمعاتنا، مدسوسة من قبل مغرضين وصَدّقها الناس وأصبحت فكرة متداولة.

كيف نُعرّف رجل الدين؟

في الثقافة والفكر العربي، وصف رجل الدين بأوصاف ازدراءيه معيبة، مثل وعاض السلاطين، متخلفين، ينشرون الخرافات والأساطير، وأنهم السبب المباشر والعائق لتطور ونهضة الفكر والثقافة في المجتمع العربي. هذه هي الصورة السائدة حالياً في عقول افراد المجتمع العربي. فهل هذه هي حقاً الصورة التي تعكس صفة وحال رجل الدين في مجتمعنا الحاضر؟ للإجابة على هذا التساؤل ينبغي أولاً أن نَعرِف من هو رجل الدين. ما هو تَعرّيف رجل الدين في الإسلام؟ ما هي مواصفات رجل الدين؟ هل هو كل من له معرفة واطلاع واسع بعلوم الدين والشريعة (خريج الازهر أو الحوزة العلمية)؟ أم هو من يؤم المصلين اثناء الصلاة في الجامع أو أي موقف آخر؟ هل يعتبر مؤذن الجامع أو قارئ القرآن (عبد الباسط) أو مفسّر القرآن (سيد قطب) رجل دين؟ أو هو كل من لبس العمامة والعباية؟ كما يبدو، ليس هناك صورة واضحة في افكارنا لرجل الدين، وليس هناك تعريف واحد متفق عليه من قبل المؤسسات الثقافية أو الدينية أو السلطة المدنية والإدارية، ولا من افراد المجتمع.

كيف دخل مصطلح رجل الدين في ثقافتنا، وكيف ولماذا انتشر؟ وهل هناك أصلاً منصب رجل دين في الإسلام؟

لمحة تاريخية لمنصب رجل الدين

في العصور الغابرة وفي حضارات بلاد الرافدين والفرعونية واليونانية، كان البشر يصنفون إلى طبقات اجتماعية، مثل طبقة المحاربين وطبقة رجال الدين وطبقة الرعاع وغيرهم من الطبقات. كان لرجل الدين في تلك العهود منزلة رفيعة، مقدسة ومحترمة، لأنه يمثل حلقة الوصل بين العابد والمعبود. وبذلك، فإن منصب رجل الدين في الحضارات القديمة موجود ومعروف. له زيّه الخاص، وله دور واضح في أداء الطقوس والشعائر الدينية، وأنه مفوّض من قبل الآلهة لأداء هذه المهام.

وفي الديانة المسيحية: فإن رجل الدين معروف، ويوصف بمواصفات خاصة يكتسبها من انتسابه للكنيسة. فكل من ينتسب إلى الكنيسة هو رجل دين (ويسمى بالإكليروس)، ومن لم ينتسب إلى الكنيسة فهو من عامة الشعب وليس رجل دين. ورجال الدين في الكنيسة لهم لباسهم الخاص، ولهم رتب خاصة بهم كالرهبان والقساوسة والشماسين والمطارنة والاساقف. كل رتبة من هذه الرتب لها امتيازاتها وواجباتها في عبادات وتعاليم الدين وأداء الطقوس الدينية والواجبات الشرعية وغيرها. إن الطقوس والشعائر الدينية في الديانة المسيحية يجب أن تؤدى في الكنيسة، ويقوم بها رجال الدين (القساوسة والرهبان)، ويتوجب على الناس الذهاب إلى الكنيسة لأداء العبادات. ولذلك، فإن منصب رجل الدين في الديانة المسيحية موجود ومعروف. له دور واضح في أداء الطقوس والشعائر الدينية، وأنه مفوّض لأداء هذه المهام.

ونستنتج من هذا: أن منصب رجل الدين، في العهود قبل الإسلامية، معروف وموصوف ومحترم، وله مهام دينية معروفة ومحددة.

لكن ماذا عن الديانة الإسلامية، هل هناك طبقة خاصة من الناس يطلق عليهم لقب رجل الدين؟

دور رجل الدين في الاسلام

في بدء الرسالة السماوية، وفي عصر النبوة، كان النبي (ص) أعلم المسلمين بالشريعة الإسلامية واصولها وعباداتها. كان يُعلّم المسلمين كل ما يحتاجونه من أمور الدين والدنيا. لم تكن هناك حاجة لوجود رجل دين آخر ليعلم الناس أمور دينهم. كان كل مسلم في المجتمع الإسلامي بمثابة رجل دين، يعرف أصول دينه ويؤدي العبادات، ولا حاجة لأن يكون عالِماً ومتبحّراً في علوم الدين، وذلك بسبب وجود النبي (ص) بينهم. والمسلم لا يحتاج إلى وسيط بينه وبين الخالق (وإذَا سَألَك عبادي عَنّي فَإنّي قَريبٌ أجِيبُ دَعوَةَ الدّاعِ إذا دَعَانِ). ولذلك، لم يكن هناك وجود لرجل الدين في عصر النبوة.

بقي الحال كذلك في فترة الخلفاء الراشدين. إذ كان الخلفاء الراشدين أيضاً أعلم الناس بأمور دينهم ولم يحتاجوا لرجل دين آخر يُفَقههم في الدين أو يكون وسيطاً بينهم وبين خالقهم. وبعد، فهذه أول خمسين سنة من عمر الإسلام، وهي فترة الإسلام النقي الخالص والصحيح، كان كل من فيها يعلم ما ينبغي عليه في أمور دينه، ويعمل بها، ولا وجود لشخص يسمى رجل دين، ولا منصب رجل دين، لأن كل مسلم فيها يعرف أصول دينه بما ينبغي عليه أن يعرفه.

ثم جاء عصر الدولة الاموية والعباسية والاندلسية حيث ابتعد الناس فيها عن الدين وانصرفوا لشؤون الدنيا، ودخل الإسلام الأعاجم (غير العرب)، فظهرت الحاجة لمن يُعلّمهم أصول الدين والشريعة، فتفرغ أناس من المسلمين لدراسة علوم الدين، فظهر الفقهاء والمفسرين وعلماء الحديث والكلام. ولم تُسمّى هذه الفئة برجال الدين بل بالفقهاء أو المفسرين أو المحدثين أو العلماء، ذلك أن كل مسلم هو في حقيقته رجل دين يعرف أصول دينه، وقد يحتاج إلى بعض الاستشارات من علماء الدين والفقهاء.

وفي فترة الحكم العثماني أيضاً، لم يكن هناك منصب واضح لرجال الدين. فالمجتمعات العربية كانت عبارة عن مدن وقرى صغيرة متخلفة، فيها جامع يرتاده الناس يوميا للصلاة، ويديره إمام الجامع، وهو مزكّى من قبل الناس كونه مؤهل لهذا المنصب، ويكون بمثابة المرجع الديني لهم. ولا يسمى رجل دين إنما هو الامام أو الشيخ. يُذكر أن السلطان سليمان القانوني استحدث منصب مفتي الإسلام (أو شيخ الإسلام) ليكون مستشاراً دينياً له ولعموم السلطنة.

من كل هذا يمكن أن نستنتج أن: لا وجود لمنصب رجل الدين في التاريخ والتراث الإسلامي، والعربي. وإن مصطلح رجل الدين لم يكن متداولاً ولا معروفاً في الحضارة الإسلامية. إن مثل هؤلاء الرجال يُعرفون بما يؤدونه من خدمات دينية للمجتمع، كأن يسمى، العالِم أو الفقيه أو المحدّث أو الامام أو المفتي وغير ذلك من المسمّيات المعروفة، ولم يستعمل مصطلح رجل الدين ليشمل كل هؤلاء.

فمن أين جاء إذن، مصطلح رجل الدين في ثقافتنا وفكرنا، وما هي صفاته وواجباته؟

هذا ما سنبحثه في الجزء الثاني إن شاء الله.

***

د. صائب المختار

 

الديبلوماسية الثقافية هي نوع من الديبلوماسية العامة التي تمثّل السياسة الخارجية للدولة، والتي بدورها هي انعكاس لسياستها الداخلية، ويفترض أن تكون أهدافها  منسجمة مع أهداف السياسية الخارجية، لكن وسائلها تختلف عنها، فهي تستخدم القوّة الناعمة التي تشمل الأفكار والمعلومات والآداب والفنون واللغة وغيرها من جوانب الثقافة للتأثير على الآخر.

وجهان للديبلوماسية الثقافية

الأول إيجابي والثاني سلبي، فإذا ما استُخدمت الديبلوماسية الثقافية لأجل تعزيز التفاهم المتبادل بين الأمم والشعوب والأديان والقوميات، فإنها ستكون إيجابية، وذلك لتعميم مُثل الدولة وقيمها ومؤسساتها في محاولة لبناء دعم واسع لأهدافها الاقتصادية والسياسية والثقافية بين الشعوب والأمم الأخرى، بمعنى آخر، أن الديبلوماسية الثقافية تعبّر عن روح الأمة أو الشعب، بما فيه من إيجابيات ومزايا لخلق التأثير المنشود، بما يخدم الدولة وأمنها الوطني وأهدافها العامة.

الوجه الثاني الذي يمكن أن تلعبه الديبلوماسية الثقافية، سلبي، لاسيّما عندما تختلط بالأهداف الأمنية غير المشروعة أحيانًا والمتعارضة مع قواعد القانون الدولي، لاسيّما حين يكون هدفها الهيمنة وفرض الاستتباع على الآخر، وذلك بالتغلغل في مؤسساته، والتأثير على توجهاتها بما يخدم أهدافها دون مراعاة للمصالح المشتركة، وهو ما اتبعته الدول الكبرى لدى استعمارها شعوبًا وأممًا، حيث عملت على إيجاد ركائز لها في البلدان التي استعمرتها لخدمة مصالحها، وذلك تحت عناوين مختلفة، فأما العمل لصالحها بتجنيد البعض والسيطرة عليه كجهة اتصال موثوقة، أو التحكم به على نحو غير مباشر بواسطة تعاقدات أو تخادمات، أو استغفال البعض الآخر دون إدراك منه بأنه يخدم مصلحة قوّة أجنبية وجهة خارجية، ودولة قد لا تضمر الود لدولته.

وتحاول الدول الكبرى التأثير على الرأي العام من خلال شبكة علاقات، سواءً عبر كبار الموظفين في دولهم من خلال إعلاميين وفنانين أو بواسطة الوسيط الأكاديمي أو منظمات المجتمع المدني، حيث ازداد تأثيرها في العقود الثلاثة ونيّف المنصرمة، خصوصًا منذ الإطاحة بالكتلة الاشتراكية.

وهؤلاء الذين كانوا يعملون أيام الحرب الباردة مع القوى الخارجية ويخدمون أهدافها على نحو سرّي وبتكتّم شديد، أصبحوا اليوم يعملون على نحو علني أو شبه علني تحت واجهات ليبرالية ودعوات في ظاهرها التعبير عن وجهات النظر، لكنها في حقيقة الأمر ترتبط بمصالح دول متسيّدة من خلال التمويل والتوجيه، بما فيها من جانب بعض المنظمات الدولية.

مصالح الدول العليا "الرأسمالية والاشتراكية"

لم تكن مثل هذه الاساليب حكرًا على الدول الإمبريالية فحسب، بل أن الدول الإشتراكية السابقة هي الأخرى عملت على تجنيد عدد من الدارسين لديها أو العاملين في الأحزاب الشيوعية تحت مبررات أيديولوجية، لكنها في واقع الأمر كانت تخدم مصالح الدول العليا أو "المركز الأممي" كما يُسمّى، في حين أن الدول الإمبريالية كانت تستخدم أساليب أكثر مكرًا ودهاءً للحصول على المعلومات وتقديم التسهيلات لمن يعمل معها بأشكال مختلفة مباشرة أو غير مباشرة.

الديبلوماسية الثقافية والقرن العشرين

بدأ تأثير الديبلوماسية الثقافية يأخذ حيّزًا كبيرًا في العلاقات الدولية، باعتباره عاملًا مضافًا ومؤثرًا في تحقيق أهداف السياسة الخارجية، وقد أولته الدول والحكومات اهتمامًا كبيرًا، واتّسعت مكانته في القرن العشرين في ظلّ الصراع الأيديولوجي والحرب الباردة (1946 - 1989)، بين المعسكرين الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفيتي والرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة، وخصوصًا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.

وساهمت العولمة، وخصوصًا ثورة المعلومات والاتصالات وتكنولوجيا الإعلام، بما فيها الثورة الرقمية "الديجيتال" واقتصاد المعرفة والذكاء الاصطناعي على التبادل غير المسبوق للأفكار والفنون، بما فتح حوارًا موضوعيًا بين ثقافات وأمم وأديان وشعوب عبر البشر المتنوّعين والمختلفين مثل تنوّع الحياة التي تزخر بالجديد كلّ يوم، وهو ما قرّب المسافات أيضًا وخلق فرصًا للتفاهم حتى وإن كانت خارج سياق السياسات الرسمية، الأمر الذي زاد من حجم الحيّز الذي تلعبه الديبلوماسية الثقافية في العلاقات الدولية المعاصرة لتنفيذ أهداف السياسة الخارجية، بل الاستثمار فيها لما فيه من مردود إيجابي، حتى وإن طال أمده.

وعملت البلدان الصناعية المتقدمة على تطوير برامج ثقافية متقدمة تقنيًا وبإمكانات مادية ومعنوية كبيرة، وخبرات عالية باستخدام العنصر البشري، لكي تسود تلك المفاهيم والسلوكيات ومنظومة القيم والخطاب الأيديولوجي ونمط الحياة على البلدان والشعوب الأضعف والأقل تأثيرًا، والعديد من هذه البرامج تتسم بطابع شائق لتعميمها والترويج لها، سواء عبر التبادل الأكاديمي والمهني والثقافي أو برامج الطلاب والمؤتمرات والمحاضرات والأدب والسينما والموسيقى والمسرح والرسم وغيرها.

فائض القوّة

استُخدمت الديبلوماسية الثقافية كجزء من فائض القوّة في العلاقات الدولية وكمادة للصراع في إطار فرض قيم معينة. وقد حاولت الولايات المتحدة الأمريكية منذ عهد الرئيس كينيدي استخدام نظرية "بناء الجسور" لاختراق الكتلة الاشتراكية، التي قال عنها الرئيس جونسون: أنها جسور ستعبرها البضائع والسلع والأفكار والسيّاح. وهكذا سعت واشنطن بوسائل التغلغل الناعم والتوغّل الطويل الأمد من إحداث التغيير في داخل البلدان الاشتراكية بعد أن فشلت عمليات التغيير من الخارج، وكان الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر قد تنبأ بذلك حين وصف البلدان الاشتراكية بقوله: أنها حصون منيعة وعالية، هكذا تبدو من الخارج، بحيث يصعب اقتحامها، لكنّها هشّة وخاوية وضعيفة من الداخل.

وتمكّن الغرب عبر الحرب النفسية ووسائل الضغط الاقتصادي والحرب الإعلامية والأيديولوجية الإطاحة بالدول الاشتراكية من داخلها، مستغلًّا نقاط ضعفها مثل طبيعة نظامها الشمولي التوتاليتاري، القائم على الأحادية الحزبية وعبادة الفرد، وشح الحريّات والاختناقات والأزمات الاقتصادية المستمرة، فتمكّن من التأثير عليها وزعزعتها على نحو تدريجي.

وبحسب هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأسبق، كان اعتماد سياسة الخطوة خطوة لخلخلة بنيانها الفكري والثقافي، فضلًا عن سباق التسلّح المحموم، الذي اندفع فيه الاتحاد السوفييتي،  وكان آخره مشروع برنامج "حرب النجوم" العام 1983، الذي خصصت له الولايات المتحدة تريليوني دولار أمريكي، ولم يكن الاتحاد السوفييتي قادرًا على مجاراتها فيه، فضلًا عن تعثّر خطط التنمية بسبب ميزانيات التسلّح الضخمة، وهكذا تهاوت البلدان الاشتراكية، الواحدة بعد الأخرى، مثل التفاحة الناضجة بالأحضان، وكان الإطاحة بجدار برلين في 9 تشرين الثاني / نوفمبر 1989 الإيذان بدخول العالم مرحلة جديدة، لاسيّما بهيمنة قطب أحادي على العلاقات الدولية، وأعني به الولايات المتحدة، التي أصبح بيدها القدح المُعلّا دون منازع.

الجدير بالذكر أن التمايز الثقافي، بما فيه الاختلاف، لا يؤدي بالضرورة إلى الصدام، ولكن المصالح الاقتصادية والسياسية والأطماع الجيوسياسية هي التي تقود إلى ذلك، حتى وإن تمّ التعبير عنه ثقافيًا أحيانًا، في حين أن الثقافة والفن والأدب، هي مجال إنساني وحيوي لتقريب البشر من بعضهم البعض، وليست سببًا في تباعدهم أو بثّ روح الكراهية والبغضاء والحقد بينهم.

نمط الحياة

إذا كانت البلدان الصناعية المتقدّمة تسعى إلى تصدير ثقافتها وأنماط حياتها وسلوكها الاجتماعي، فإن البلدان النامية، ومنها بلداننا العربية، تسعى لحماية تراثها الثقافي والحفاظ عليه خشية من الاختراقات التي تستهدف كيانيتها وتهدّد وحدتها، دون أن يعني الانغلاق في عصر لا يمكن وضع حواجز أمام الانفتاح على الثقافة العالمية ومنجزاتها الكبرى في الأدب والفن والعمارة والتكنولوجيا، ناهيك عن العلوم والتقنيات الحديثة. والانفتاح لا يعني تذويب الثقافة المحلية والخصوصية الوطنية والهويّة الخاصة لحساب الثقافات الكبرى، التي تسعى مصالح القوى المتسيّدة لفرض الهيمنة من جانبها والاستتباع من جانب الدول والشعوب الأضعف، بقدر ما يعني التفاعل معها كظاهرة كونية لا يمكن الوقوف ضدّها أو مجابهتهما.

القوّة الكامنة

تسعى اليوم العديد من البلدان لتطوير مؤسساتها الديبلوماسية الثقافية باعتبارها عاملًا من عوامل قوّة الدولة الكامنة، التي لا بدّ من الاستفادة منها كتعويض أحيانًا عن القوّة العسكرية أو الاقتصادية، التي كانت تشكّل الحيّز الأكبر من واقع السياسة الخارجية، وعلى أقل تقدير خط دفاع سلمي مقبول ومعترف به ضمن إطار القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، وهو ما ينبغي على البلدان العربية اعتماده فرادى وجماعات، أي في إطار سياسة استراتيجية بعيدة المدى لتوظيف عناصر القوّة الثقافية على نحو موحّد ومتكامل، كجزء من العلاقات الديبلوماسية على الصعيدين الإقليمي والدولي.

وهناك شخصيات ثقافية مهمة عملت في مجال الديبلوماسية، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر الشاعر التشيلي بابلو نيرودا والشاعر السوري نزار قباني والروائي المصري محمد توفيق والشاعر السعودي غازي القصيبي والمؤرخ والديبلوماسي العراقي نجدت فتحي صفوت.

وكان لقيام منظمة اليونيسكو، كإحدى هيئات الأمم المتحدة، بعد تأسيسها في العام 1945 دورًا كبيرًا في الاهتمام بالديبلوماسية الثقافية، لاسيّما في مجال التربية والعلم والثقافة، وهي أدوات للقوّة الناعمة، أي بمقدورها إحداث الإقناع المطلوب والتأثير على الآخر عبر القيم والأفكار والفن والثقافة بشكل عام، فليس القوّة العسكرية وحدها هي الأداة الجديرة لتحقيق أهداف السياسة الخارجية، خصوصًا في ظلّ توازنات دولية دقيقة، بحيث يصبح أحيانًا اللجوء إلى الوسائل العسكرية أمرًا محفوفًا بمخاطر شتّى، وقد تعود سلبًا على الدولة ذاتها بدلًا من تحقيق أهدافها السياسية.

وفي العام الماضي نظّم معرض القاهرة الدولي للكتاب 2023  حلقة نقاشية بعنوان " كتابات ديبلوماسية"، سلّطت الضوء على علاقة الديبلوماسية بالثقافة بشكل عام، والأدب بشكل خاص. ومن نافل القول أن الديبلوماسي كلّما امتلك ثقافة واسعة ومعرفة ومعلومات، كلّما استطاع أن يقدّم خدمة أكبر لبلده، خصوصًا بما يمتلك من قوّة إقناع وحجّة وخبرة، والديبلوماسي المثقف المطّلع والملم بثقافة الآخر ولغته يعرف نقاط قوته مثلما يعرف نقاط ضعفه في الآن. ويعتبر جوزيف ناي أحد الذين كتبوا في ميدان اللّاعنف أن "الديبلوماسية الثقافية" هي أفضل مثال للقوّة الناعمة، أي إمكانية التواصل عبر القيم الثقافية والأفكار دون إكراه أو إرغام، بل عبر الإقناع وجاذبية التأثير والنموذج.

***

د. عبد الحسين شعبان

.......................................

نشرت أيضا في موقع مراصد (العراق) في 29 أيلول / سبتمبر 2024.

(قراءة في بِنية العقليَّة الاتِّباعيَّة)

حدَّثنا (ذو القُروح)، في المساق الماضي قائلًا:

- يوشك الكهنوتيُّون الجدد من الإخوة المسلمين أن يشترطوا على الإنسان أن لا يُسلِم إلَّا إن كان على شاكلتهم، أو إذا أسلم، أن يدبَّ على دربهم فقط، لا يحقُّ له لا أن يفكِّر، ولا أن يكون له رأي، أو صوت، أو موقف، ما لم يباركوه هم بدمغتهم الخاصَّة، في سلسلة ذرعها ألف سنة، خَلَفًا عن سَلَف، وسَلَفًا عن سَلَف! 

- وهذا منتهَى التخلُّف والجهل، وتقديس الماضي.

- هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى هو استغلال الدِّين من أجل تشكيل كيانات سُلطويَّة هائلة، تريد أن تستأثر بالفهم وبالرأي وبالتفسير، وتحجر على من ليس تحت عباءتها البالية أن يتعامل مع النصِّ مباشرة. 

- هم يزعمون أنهم على الجادَّة.

- كلَّا، ليس هذا من الدِّين اليسير، الذي نزل على (محمَّد بن عبدالله) في شيء، بل هو من الدِّين المؤسَّساتي، الذي ابتدعته الحوزات، وانتجته الجوامع، والمدارس، والأزاهر، ولاسيما منذ عصور الانحطاط، وتربيب الأولياء والصالحين والأحبار، بنماذجهم كافَّة.

- إذا كان الإسلام قد جاء بمبدأ «لا إكراه في الدِّين»، فمن باب أولى أنه قائل بأن «لا إكراه في الرأي»! 

- صحيح، لكن هذا لا يعني، في المقابل، أن يهرف امرؤٌ بما لا يعرف، ويتعالَم، وأدوات الفهم والتلقِّي والتعبير أصفارٌ في رأسه، أو أن يهرطق على الناس لمآرب في نفسه، لا علاقة لها حتى بصريح النصِّ وصحيح اللُّغة!  ذلك محض تدجيل، وإنْ جاء صاحبه تحت عمامة، وداخل قفطان، أو كان من نسل الرسول.  فليست العمامة والقفطان ولا النَّسَب الشريف بمؤهِّلات عقليَّة، فضلًا عن أن تكون مؤهِّلات علميَّة. 

- هل من نموذج؟

- صاحبك الذي ألمحتَ إليه في المساق الماضي هو النموذج.  فهل اجتزاء (القبَّانجي)، واختزاله، وتبسيطه للآيات، كي يستشهد بها على نظريَّته التي ينادي بها حول القراءة الوجدانيَّة، هل ذلك كلُّه يتماشى مع أمانة البحث ونزاهة الطرح؟! 

- هو يرى ذلك، ولا إكراه في الرأي!

- كلَّا، هذا ليس برأي!  بل هو يستغفل المتلقِّي ظانًّا، كما يبدو، أنه لا يعرف «القرآن»، ولن يقرأه، ولن يكشف السقطات القبَّانجيَّة، وجهله أو تجاهله، بل عبثه بالنصوص؟ 

- عمَّ تتحدَّث، يا ذا القُروح؟

- راجع حديثنا في المساق السابق. لترى أنه، ولأسبابه المشار إليها مجتمعة، لمَّا تساءل: كيف يُقال في «القرآن»: «فَإِنْ تَوَلَّوْا، فَخُذُوهُمْ، وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ، وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا»؟ فأين ذهبت «لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ»؟ لمَّا فعل ذلك، فإنَّه لا يقرأ ما في الآيات من إشارات إلى أنَّ ما ورد هو في حقِّ المنافقين، الذين يتولَّون الكافرين، وهم أهل قتال، وعداءٍ للإسلام، وتأليبٍ على أهله، ما يمنعهم عن ذلك إلَّا أن تَحْصَر صُدُورُهُمْ عن القتال، أي تضيق عنه لسببٍ أو لآخر؛ فهؤلاء مستثنون، وإلَّا فهم مقاتلة، «وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ». 

- وهذا الحُكم المتعلِّق بالخيانة في الولاء يشمل الناس جميعًا، حتى أقارب الإنسان، ولا تَسامُح فيه ولا محاباة لأحد.

- نعم، حتى آل الرسول نفسه، وليس لاستهداف فئةٍ أو طائفة: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ، إِنِ اسْتَحَبُّوا الكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ. وَمَنْ يَتَوَلَّـهُمْ مِنكُمْ، فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ. قُلْ: إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ، وَأَبْنَاؤُكُمْ، وَإِخْوَانُكُمْ، وَأَزْوَاجُكُمْ، وَعَشِيرَتُكُمْ، وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا، وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا، وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا، أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ، فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ، وَاللهُ لَا يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ.» (سُورة التوبة).  كما أنَّ صاحبك لا يقرأ ختام تلك الآيات التي يستشهد بها: «فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ، فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ ،وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ، فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا.»

- لأن هذا سينقض افتراءه السابق! 

- أجل. وكذا لا يقارن الآية بالآية الأخرى- وبعض «القرآن» يفسِّر بعضًا-: «فَإِنْ حَاجُّوكَ، فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِـلَّهِ، وَمَنِ اتَّبَعَنِ. وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ: أَأَسْلَمْتُمْ؟ فَإِنْ أَسْلَمُوا، فَقَدِ اهْتَدَوا، وإِن تَوَلَّوْا، فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البَلَاغُ، وَاللهُ بَصِيرٌ بِالعِبَادِ.» وهي من (سُورة آل عمران)، وهي سُورة مدنيَّة؛ لكيلا يَكُرَّ علينا أحدٌ نظريَّةَ (القرآن المكِّي) و(القرآن المدني)، كما هو منهاج أولاء الذين جعلوا «القرآن» عِضِيْن! 

- ألا ترى أنَّ الآية تتحدَّث عن ضربٍ من الخيانة الوطنيَّة؟

- بلى، يمكنك أن تقول. إضافةً إلى التآمر، و«تَوَلِّي» أعداء المسلمين، وهذا معنى «تَوَلَّوا»، لا بمعنى فَرُّوا منكم فقط.  والآية بكاملها، وفي سياقها، واضحة المعنى.  وتؤكِّدها الآية الأخرى: «وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ، فَقَدْ خَانُوا اللهَ مِن قَبْلُ، فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ، وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا، وَهَاجَرُوا، وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا، أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا، مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا. وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ، فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ، إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيْثَاقٌ. وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ.»  وبتلك الصورة الساذجة أراد الرجل، لا تشويه «القرآن» فحسب، بل كذلك تشويه الأخلاق الإسلاميَّة والنبويَّة، وتكريه الناس في الإسلام، زاعمًا أن الآية تنصُّ على أنَّ أحد المشركين إذا لم يؤمن- ولم يهاجر أيضًا- وتولَّى في سبيله، فالآية تأمر باستلحاقه وقتله!  ثمَّ تعال، لنقارن هذه القراءة بقراءة أخرى.  ليست لرجل دِين، بل ليست لمَرْضِيٍّ لدَى رجال الدِّين.  وهي قراءةٌ لها قيمتها النفسيَّة والاجتماعيَّة والإنسانيَّة؛ لأنَّ صاحبها ثاقب التبصُّر في هذه الدهاليز من الصراع البَشَريِّ ومقتضياته في الحياة.  وهو لا يكتب ما يكتب لسرد السِّيرة النبويَّة، أو للتبشير بصِدق النبيِّ وعدالة دعوته.  ولقد تعرَّض بما كتبَ للتكفير، بل لمحاولة الاغتيال. 

- من تعني؟

- أعني (نجيب محفوظ).  فعلى الرغم ممَّا تناول به قضيَّة النُّبوَّة من تبسيط، يصل أحيانًا إلى درجة الإسفاف في تصوير الشخوص- ممَّا لا يليق في نظر من ينظرون إلى تلك الشخوص الرموز بإجلال عظيم، وأبرز تلك الشخوص شخصيَّة (قاسم)، التي عبَّر بها عن شخصيَّة الرسول- فلقد كان منصفًا إلى حدٍّ كبير في النظر إلى هذه القضيَّة، في مستويَيها التاريخي والإنساني.  وهو في هذا السياق يقول على لسان (قاسم): «لن نُطَهِّر حارتنا من الفُتُوَّة إلَّا بالقُوَّة، ولن نُحقِّق شروط الوَقف إلَّا بالقُوَّة، ولن يَسود العدل والرحمة والسلام إلَّا بالقُوَّة ، وستكون قُوَّتنا أوَّل قُوَّة عادلة غير باغية.»  كما يقول على لسان (قاسم)، بعد الهِجرة: «سنرفع النبابيت كما رفعها (جَبَل)، ولكن في سبيل الرحمة التي نادى بها (رفاعة)، ثمَّ نستغل الوقف لخير الجميع؛ حتى نُحَقِّق حُلم (أدهم). هذه هي مهمَّتنا، لا الفُتُوَّة.»(1) في إشارة بـ«جَبَل» إلى (موسى)، وبـ«رفاعة» إلى (عيسى)، وبـ«أدهم» إلى (آدم)، عليهم السلام.  هذا، إذن، هو تصوُّر (نجيب محفوظ) لمجريات الأحداث، ولضرورة مواجهة القُوَّة والبَغْي بالقُوَّة والرَّدْع، وأنَّ هذا هو ديدن التجربة الإنسانيَّة في واقع الحياة.  وهي رؤيةٌ تفسيريَّةٌ لما حدث، من غير متَّهمٍ بانحيازٍ أو حماس.  تُرينا الفارق بين خطابٍ يحاول تفسير التاريخ بواقعيَّة إنسانيَّة مجرَّدة وخطابٍ يسعَى سعيه للمغالطة لقلب كلِّ إيجابٍ إلى سلب، لأغراض في نفسه.

- لنعُد، يا صديقي، إلى حسم تلك الفِرية الزاعمة أن الآيات المتعلِّقة بالحُرِّيَّة الدِّينيَّة إنَّما كانت مَكِّيَّة لا مَدَنيَّة، كما يدندن هؤلاء. 

- لنفعل ذلك، متنزِّلين بهذا عند قياسهم الأخطل، الذاهب إلى أنَّ القتال كان ينبغي أن يُصدَع به من أوَّل يوم، وإلَّا فإنَّ (محمَّدًا) كان يَلْبَس لكلِّ أوانٍ لَبُوسه، منتهين إلى أنَّ مبدأ الحُرِّيَّة الدِّينيَّة ليس بمبدإٍ إسلاميٍّ، بل الإسلام دِين الغزو والسيف والدَّم والهَدْم، لا يحفل باختيارات الناس، ولا باستقلال إراداتهم، ولا بحُرِّيَّاتهم، بل يمضي في إجبارهم على اعتناقه اعتسافًا، حسب دعاوَى هؤلاء وأسلافهم.  إلَّا أنَّه قبل بيان ما يناقض تلك الدعاوَى المتهافتة، لا بُدَّ من الإشارة إلى مبدأ الحُريَّة في الإسلام.  فالحقُّ الذي لا يجهله مطَّلع على الإسلام- إنْ كان نقيًّا من التعصُّب أو الغرض- أنَّ فِرية الجَبْريَّة الدِّينيَّة يصادمها المبدأ الإسلاميُّ حول ارتباط الدِّين أساسًا بالحُرِّيَّة؛ ذلك أنَّ من مناطات التكليف للمسلم الحُرِّيَّة، فكيف لا يكون ذلك أساسًا للدخول في هذا الدِّين ابتداءً؟!  لكن دع التفصيل في هذا إلى المساق المقبل، إن شاء الله.

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

.....................

(1)  محفوظ، نجيب، (1986)، أولاد حارتنا، (بيروت: دار الآداب)، 388.

 

تظهر نتائج تصنيف نيتشر اندكس Nature Index صورة قاتمة ومؤسفة عن واقع البحث العلمي في العالم العربي والاسلامي. يصنف المؤشر كل عام المؤسسات الرائدة والبلدان بناء على عدد اللاوراق العلمية المنشورة في المجلات الرائدة كالنيتشر وساينس وسيل ووقائع الاكاديمية الوطنية للعلوم ومجلة الجمعية الكيميائية الامريكية ومجلة ابحاث السرطان. غياب اي دولة عربية او اسلامية ضمن افضل خمس وعشرين دولة هو بمثابة صفعة قوية لوعود القيادات السياسية والعلمية الزائفة بالتقدم العلمي والتكنولوجي. احرزت السعودية ترتيب 29 ومصر 54 والاردن 87، اما العراق فتبوأ ترتيب 130. هذا الفشل الذريع، رغم الموارد الهائلة والسكان الضخمة، يمثل ادانة لنا جميعا، حكاما ومحكومين.

ان اسباب هذا التراجع متجذرة في اعماق منظومتنا التعليمية والبحثية. فغياب الرؤية الاستراتيجية، والبيروقراطية الخانقة والتوجهات السياسية المتقلبة والفساد الاكاديمي، كلها عوامل ساهمت في تدهور مستوى انتاجنا العلمي. لن نتمكن من تغيير هذا الواقع المرير الا بتغيير جذري في ثقافتنا العلمية، بدءا من المدارس وحتى الجامعات. يجب ان نزرع في اذهان ابنائنا حب المعرفة والابداع، وان نشجعهم على التفكير النقدي وطرح الاسئلة والبحث عن الاجابات.

اننا مدعوون جميعا للعمل معًا من اجل بناء مجتمعات قائمة على المعرفة والابتكار. علينا ان نخلص انفسنا من ثقافة التقليد السائد، والتي تغفل عن أهمية العقل والتفكر المستقل، وان نؤمن بقدراتنا وامكانياتنا. فالعلم ليس ترفاً، بل هو ضرورة حتمية لبقاء الامم وتقدمها. اننا نحتاج الى استثمارات ضخمة في البحث العلمي، وتوفير بيئة محفزة للابداع، وكسر قيود البيروقراطية والفساد التي تعوق تقدمنا. علينا ان نستبدل العقليات التربوية والعلمية السائدة بعقليات مبتكرة ومبدعة لتضع الاسس لمستقبل مشرق يعج بالابتكار والاكتشافات العلمية. فهل سنظل نكتفي بدور المتفرجين على مسيرة الحضارة الانسانية، ام سنقرر ان نكون جزءا فعالا من هذا المسار؟

***

محمد الربيعي

يعدّ فرويد أجرأ من تحدث في موضوعين، هما (الجنس و الدين) في زمن كان التحدث عنهما يعد (تابو). وكان هو اول من اثبت ان الجنس هو السبب وراء كل ما يصاب به الإنسان من اضطرابات نفسية! وذلك راجعٌ حسب نظره إلى أنّ النفس في مرحلة الطفولة.. تكون مادة خاما سهلة وسلسة، وان ما يحصل من خبرات واحداث سلبية فأن تاثيرها يمتد الى مرحلة الرشد، لدرجة ان الفرد لن يكون صالحا لنفسه ولا لمجتمعه لأنه سيكون مريضا نفسيا!. واختلفت الآراء والمواقف فيما بعد بخصوص مفهوم فرويد عن الجنس.

وللوقوف على حقيقة موقف فرويد من الجنس، فأننا اجرينا حوارا مطولا معه، وفي ادناه تحليله النفسي للجنس.

+ يمكن أن نوجز نظريتك في التحليل النفسي بأنها تحاول تفسير الشخصية والدافعية والاضطرابات النفسية بالتركيز على تاثير خبرات الطفولة المبكرة في الطريقة التي يتعامل بها الانسان مع ما بداخله من الحاحات جنسية وعدوانية حين يصبح راشدا.. صح؟

فرويد: صح.

+ لكنك في هذا تلغي تماما امكانية تأثير الخبرات اللاحقة في الأحداث السابقة، فحكمت على الانسان أن يبقى أسير طفولته حتى لو بلغ التسعين.

فرويد

- ذلك ما اثبتته كشوفاتي التي أجريتها على الراشدين.

+ وهؤلاء الراشدين ياسيدي هم من المرضى وليسوا من الأسوياء، ومن يدري أن يكون بينهم – ومعظمهم من نساء الطبقة البورجوازية – يقول لك ما تحب ان تسمعه متأثرا بارائك أو لكسب ودّك.

فرويد

وهل أنا من السذاجة بحيث ينطلي عليّ مثل هذا؟!

+ عفوا سيدي. لكن التحليل النفسي عندك يعني: تقنية أو تكنيك علاجي لتحليل الأفكار الموجودة في اللاشعور، صح؟

فرويد: صح.

الجنس.. محور نظرية فرويد

بمتحفه في فيينا، النمسا

+ وهنالك من يرى أن التحليل النفسي يفتقر الى الدليل العلمي الذي يؤيد صحته، بمعنى أن الوسيلة غير علمية وبالتالي فأن النتيجة التي تصل اليها غير علمية.

فرويد: هل هذا رأيك؟

+ أنا محاور وعليّ أن اكون محايدا أولا، وأن أمثّل رأي المغيبين ثانيا الذين يرون أن التحليل النفسي قد مات، ورأيّ في جنابك أن سعة صدرك تتحمل حتى اسئلة من هم ضدك.

فرويد

أنا أعتقد، بل تأكد لي عن طريق علاج مئات المرضى، أن جذور كل المشكلات النفسية هي صراعات لاشعورية بين)الهو idوالأنا ego والأنا الأعلى superego).

وللتوضيح، فان الصراعات بين هذه القوى الثلاث المتنافسة أمر عادي، ولكنها تتحول من الأمر العادي الى مشكلات اذا أصبحت خارج السيطرة. فاذا وجّه الأنا والأنا الأعلى الكثير من طاقتهما لكبح الرغبات الانانية (للهو) وانشغلا بوضعها تحت السيطرة، واذا كانت هذه الكوابح ضعيفة وقام(الهو) بالتهديد بتجاوزها.. نجم عنها الاضطراب النفسي. وللتخلص من هذا الاضطراب فان الحل يكون بأن نأتي بالصراعات اللاشعورية ونضعها على مستوى الشعور، وتلك هي مهمة التحليل النفسي، وعلى من يشك بصحته أن يجرّبه شرط أن يكون قد تدّرب عليه.

+ دكتور فرويد، المشكلة لديك أن الفكرة المركزية في نظريتك تقوم على أهمية العمليات اللاشعورية. فأنت تقول بأن معظم ما نفعله لا نكون على دراية به، وأن سلوكنا محكوم بما يحتويه لاشعورنا فتلغي بذلك دور الوعي. ثم أن كل نظريتك تقوم على مبدأ الحتمية النفسية في قولك الصريح بأن كل الأفكار والانفعالات والافعال ناجمة عن أسباب نفسية. ماذا لو خففتها يادكتور كأن تقول ان للاشعور دورا في تحديد ما نفعله وأن للحتمية النفسية دورا مشاركا في حتميات أخرى تعمل معا في تشكيل شخصياتنا وسلوكنا.

فرويد

أنت تطرح اكثر من سؤال ومع ذلك أجيبك.

ان اكتشافي للاشعور أعدّه من أعظم كشوفاتي، وأن ما أصاب البشرية من كوارث وما يصيب الانسان من كدر هو أنها ظلت آلاف السنين تنظر الى العقل كما لو كان يساوي الوعي فقط، فكان جهلنا باللاشعور سبب مآسينا. ثم أن الدور المركزي للاشعور ما كان قولا من على مكتبي بل أثبتّه عمليا، ومن يريد أن يتأكد عليه بتحليل نفسه ان كان يمتلك المهارة. وأظن أن اكتشافي للاشعور فتح بابا جديدا للتأمل في الحياة العقلية. وبالمناسبة، ان كنت تريد ادلة عملية عليك بمراجعة الفن السوريالي في الرسم والأدب والسينما. أما عن الحتمية النفسية فأنا مازلت مؤمنا بها وأرى في الحتميات الأخرى ما هي الا توابع لها.

+ مع أن شكسبير كان قد سبقك في اكتشاف اللاشعور وضمّن تأثير العقل اللاواعي في العديد من مسرحياته، غير أننا نعترف بأنك أنت الذي اعطيت العمليات اللاشعورية الأهمية الجوهرية في الحياة اليومية لدى الانسان العادي من قبيل النسيان وزلات اللسان والنكتة التي وصفتها بأنها وسائل تستخدم لخفض التوتر النفسي واشباع دوافع خفية " النكته مثلا تنفيس عن عدوان"، لكنك حددت محتوى اللاشعور بدافعين فقط اختزلت بهما سلوك الانسان هما الجنس والعدوان، وتفترض أن كل الحيوانات بضمنها الانسان تولد ولديها غريزة العدوان، وان هذه الغريزة –على ماترى – تخلق دافعا للقيام بالعدوان لأشباعها، بمعنى: انها تخلق ضغوطا تجبر الانسان على أن يقوم بالعدوان بطريقة ما فالغيت بذلك دور العلم والثقافة والتمدن وصورت لنا الانسان بأنه لا يختلف عن الحيوان من حيث تحكّم القوى البيولوجية في سلوكه ان لم يكن أشد ضراوة منها، وأنه – وفقا لطروحاتك - ليس سيد عقله.

فرويد

العدوان سلوك بيولوجي لدى كلّ من الحيوان والانسان. هذه حقيقة واقعة يمكنك التأكد منها بمراقبتك سلوك الديكة في المسابقات! وملاحظتك سلوك الأطفال. فالغضب يظهر على سلوك الطفل قبل ان يكون عمره سنة، ولاحظ العدوان الجسدي لدى الأطفال كيف يضرب بعضهم بعضا وهم بعمر سنتين. وتشير الملاحظة التتبعية أن الطفل العدواني بعمر ست او سبع سنوات يكون عدوانيا حين يصبح راشدا. ولو لم يكن العدوان غريزة بيولوجية لما تقاتل الناس ولما نشبت الحروب بين الدول. وسيأتي يوم يثبت لكم فيه التقدم العلمي أن نظريتي صحيحة، بل يثبت لكم ايضا أن زيادة او نقصان هرمون معين يفضي الى العدوان. اما عن دور الثقافة والتعلم والتحضر فان أفضل ما تستطيع عمله هو ترويض العدوان وليس السيطرة عليه وتفريع شحناته عن طريق نشاطات مشروعة كالرياضة مثلا.

+ هذا يعني ان نظرية ماركس في الصراع الطبقي والصراع على المصالح ودافع السيطرة ليست اسبابا لنشوب الحروب بين الدول على رأيك؟

فرويد

ها انت ذكرت دافع السيطرة الذي اساسه غريزة العدوان، اما الأسباب الأخرى فتمّثل رأي أصحابها.

+ الوظيفة الجنسية عند الاطفال، هل هي متغير فرضي لديك، ام انك اهتديت اليها علميا"؟

فرويد

الوظيفة الجنسية موجودة منذ بدء حياة الفرد. وان كشوفي المستغربة في الجنسية لدى الاطفال وصلت اليها في بادىء الامر عن طريق تحليل الراشدين، ولكن امكن فيما بعد (منذ حوالي سنة 1908 وما بعدها) التحقق منها على اتم واوفى وجه بالملاحظات المباشرة للاطفال. وانه لمن اليسير حقا" ان يقتنع المرء بوجود نشاط جنسي مطرد لدى الاطفال حتى لا يسعه ان يتساءل في دهشة: كيف استطاع الجنس البشري ان ينجح في اغفال الحقائق واعتناق الاسطورة المستحبة، اسطورة لا جنسية الطفولة ذلك الزمن؟.

+ نظريتك في الشخصية، ومازلنا في موضوع الجنس ايضا، هي نظرية نمائية او تكوينية. Developmental فأنت ترى ان شخصياتنا تتشكل عبر مرورنا بمراحل نمو تكويني اسميتها النمو النفسي الجنسي: من مرحلة الرضاعة وصولا الى مرحلة الرشد، في كل واحدة منها تكون الدافعية الجنسية للطفل هي اشباع دافع اللذة من مناطق جسمية متنوعة تتمثل في:الفم بمرحلة الرضاعة، والشرج بالمرحلة الشرجية، والاعضاء التناسلية بالمرحلة القضيبية. وسؤالي: لماذا حددت هذه المراحل بثلاث اساسيات برغم انك لم تدرس الاطفال، وانك الغيت تأثير الاحداث اللاحقة في الخبرات السابقة؟.

فرويد

هذه استنتاجاتي من معاينتي لمرضاي وتحليلي لمشاكلهم واضطراباتهم النفسية.

+ سيدي، أنت تذهب خطوة أبعد بقولك ان خصائص أو سمات شخصية الانسان الراشد تشتق من هذه المراحل الثلاث للنمو النفسي الجنسي وكأن التعلم والخبرة والثقافة لا تستطيع حتى تعديل ما حصل في الطفولة.

فرويد

الجواب نعم في حالة الشخصية غير السوية، لأن تقصّي أسباب اضطراباتها النفسية يكمن في واحدة من تلك المراحل.

+ وماذا بخصوص مفهوم التثبيت fixation الذي تقصد به بقاء جوانب من شخصية الراشد متجمدة على مرحلة من هذه المراحل مرّ بها "الهو" بخبرة معينة؟

فرويد: صحيحة تماما.

+ على رأيك فأن الطفل المنشغل في مرحلة الرضاعة بمص ثدي أمّه بكثرة وحصل له تثبيت، فأنه يظهر عليه في الرشد بسلوك آخر كأن يكون التدخين مثلا عند الرجال وأكل (الموطة أم العودة) عند البنات، ليعوض مص السيجارة ومص الآيس كريم أبو العودة عن مص الثدي، صح؟

فرويد: صح

+ وبما انك مدمن على تدخين " البايب" ّالذي لا تستطيع ان تتخلى عنه برغم ان التدخين سبب لك سرطان الفك، فهذا يعني انك كنت تمص ثدي امك كثيرا ولديك تثبيت، ولا يمكنك استثناء نفسك من " حقيقة " أنت عممتها على كل الناس، وسؤالي: لماذا اخترت " البايب " بالذات؟!

فرويد": يضحك ". سؤالك لا يخلو من خباثة ولكن لا تظن بي سوءا!.

***

أ.د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

لا يستقيم الحديث عن طبيعة ومضمون ما يعرف ب(التاريخ من أسفل)، دون الرجوع الى طبيعة الأصول التاريخية وماهية الخلفيات السوسيولوجية، التي نهل من معينها جلّ المؤرخين المحدثين الذين انتهجوا هذا الضرب المختلف في كتابة التاريخ وسرد أحداثه وتدوين وقائعه. ولعل من المفيد الإشارة الى أن الفلسفة الماركسية – بقسمها التاريخي / السوسيولوجي – تعد من أبرز وأهم الأصول المعرفية والمنهجية لكتابة هذا النمط من السرد التاريخي، الذي بات يحظى باهتمام ومتابعة مختلف التيارات والاتجاهات التاريخية في العالمين الغربي والشرقي على حدّ سواء، نظرا" لقيمة ما يقدمه للمؤرخين، فضلا"عن الباحثين في المجالات الاجتماعية والإنسانية، من مردودات علمية ومعرفية لا يمكن الاستغناء عنها . وفي هذا الإطار، فقد لاحظ أحد المؤرخين الغربيين (جيم شارب) وأستاذ التاريخ في جامعة يورك، أنه (من الواضح ان إسهامات المؤرخين الماركسيين، سواء هنا أو في أي مكان آخر، كانت هائلة . فالواقع ان أحد الفلاسفة الماركسيين رغم ان كل أولئك الذين يكتبون التاريخ من أسفل، إنما يفعلون هذا تحت ظلال المفاهيم التي صكها ماركس عن التاريخ) .

لا بل إن الفيلسوف العظيم (ماركس) لم يكتف بتصورات الانثروبولوجي (مورغان)، مثلما لن تغنيه اطروحات رفيقه (إنجلس) حول تلك القضايا والمسائل المعنية بأشكال وأنماط تطور الشعوب القديمة، وانما اخضعها الى صرامة تحليلية ومنهجية كانت تتساوق مع منظوره الشمولي وتفكيره الجدلي . ولهذا فقد لاحظ أستاذ العلوم الاجتماعية والسياسية (كيفن اندرسون) إنه والى حدّ ما (يشبك ماركس رؤية موغان حول مركزية العشيرة برؤيته المادية . ويوافق ماركس من ناحية المبدأ مورغان حول المساواة النسبية بين النساء والرجال في مجتمعات العشيرة المبكرة، لكنه، وفي حين يركز كل من مورغان وانجلس على تحلل العشيرة حصرا"مصدرا"لكل من هيمنة الرجل ونشوء المجتمع الطبقي والدولة، فإن دفاتر ملاحظات ماركس تظهر لنا أنه يرسم صورة جدلية وذات تفاصيل أكثر) .

والحقيقة ان الاهتمام بقيمة وأهمية معطيات (التاريخ من أسفل)، لم تنبثق هكذا مع الفلسفة (الماركسية) دون تراكمات تاريخية أو مقدمات اقتصادية أو خلفيات اجتماعية، وخصوصا"مؤلفات العالم الانثروبولوجي السويسري (يوهان باخوفن) من خلال كتابه (حق الأم)، ونظيره العالم الانثروبولوجي الأمريكي (لويس مورغان) عبر كتابه (المجتمع القديم). اللذين حظيا بدراسة عميقة ونقد عقلاني من قبل رفيق ماركس (انجلس) عبر كتابه ذائع الصيت (أصل العائلة والدولة والملكية الخاصة)، حيث كانت تلك المؤلفات السوسيولوجية والانثروبولوجية وغيرها بمثابة المنطلقات التي اعتمدها (ماركس) في بناء معماره الابستمولوجي والسوسيولوجي خلال تلك الفترة، لاسيما دفاعه عن مصالح الطبقة العاملة وتبني خطابها السياسي وبلورة إيديولوجيتها الشيوعية، بعد أن كانت عاجزة عن إسماع صوتها واثبات ذاتها أمام سطوة الطبقات البرجوازية والرأسمالية المتنامية . هذا وكان الباحث (لورنس كرادر) قد نشر في عام 1972 نسخة محررة بعنوان (الملاحظات الاثنولوجية لماركس)، أشار من خلالها الى أن (ملاحظات ماركس حول الأعمال الانثروبولوجية للويس هنري مورغان، الخاصة بسكان أمريكا الأصليين، وقدماء الرومان والإغريق، وحول كتابات هنري سومر ماين عن العلاقات الاجتماعية في ايرلندا القديمة، وكتابات جون بود فيار حول القرية في الهند، وأعمال جون لوبوك حول بعض المجتمعات قبل الكتابية).

وللتدليل على أن اهتمامات الماركسية بتاريخ الطبقات الفقيرة والفئات المسحوقة وما ينطوي عليه من قضايا اجتماعية مزرية واقتصادية مجحفة وإنسانية مهملة، لم تشرع في القرن التاسع عشر مثلما قد توحي مطالعات البيان الشيوعي وأرشيفات الأممية الأولى التي كانت شاهدا"على طبيعة وحجم ذلك النشاط الصراعي المحموم الذي كان (ماركس) يخوض غماره دفاعا"عن، ليس فقط مصالح الطبقات العمالية في البلدان الغربية المستعمرة (بالكسر)، بل وكذلك مصالح الشعوب والأمم المستعمرة (بالفتح) التي كانت تعاني وطأة الاستغلال الاقتصادي والطغيان السياسي والامتهان الإنساني . وإنما تعود خلفياتها الى عقود القرن الثامن عشر كما أشار الى ذلك بعض المؤرخين المهتمين بهذا الشأن . حيث لاحظ المؤرخ البريطاني الماركسي (اريك هوبسباوم) ان تاريخ تلك الأصول والخلفيات (يبدأ بتاريخ الحركات الجماهيرية في القرن الثامن عشر (...) وبالنسبة للماركسي، أو الاشتراكي بصفة أعم، تطور الاهتمام بتاريخ الطبقات عند القاعدة مع نمو الحركة العمالية) .

وفي هذا الإطار، يعتبر كتاب (الطبقة العاملة في انكلترا) الذي أنجزه رفيق ماركس الفيلسوف الألماني (فردريك انجلس) عام 1844، باكورة الدراسات الرائدة والاتجاهات المتقدمة التي نحت صوب الاهتمام بمضامين التاريخ (الشفوي) للطبقات المهمشة والفئات المحرومة والشرائح المنبوذة، التي كانت من جملة ضحايا تداعيات الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر من جهة، وهيمنة العلاقات الرأسمالية القائمة على الاستغلال الاقتصادي والاستبعاد الاجتماعي من جهة أخرى . ولذلك فقد كتب (انجلس) مخاطبا"الطبقة العاملة في بريطانيا بالقول (لقد عشت فيما بينكم ردحا"من الزمن كافيا"لأعرف شيئا"ما عن ظروفكم، ولقد كرست بجدية جلّ انتباهي للتعرف عليها . لقد درست الوثائق الرسمية وغير الرسمية المختلفة، بقدر ما كان في مقدوري أن أحصل عليها، ولم أكن راضيا"بهذا، كنت أريد أكثر من مجرد معرفة مجردة عن الموضوع الذي أتناوله . كنت أود أن أراكم في منازلكم، أن أعاينكم وأنتم تمارسون حياتكم اليومية، أن أتحدث معكم عن وضعكم ومظالمكم، لأشاهد نضالاتكم ضد سيطرة مضطهديكم الاجتماعية والسياسية) .

وبخلاف ما روجت له بعض الدراسات المعنية بالفكر الماركسي ومتابعة امتداداته وتأثيراته خارج إطار المجتمعات الغربية، التي تركز اهتمامها على أطروحة (أن ماركس أهمل العديد من القضايا ؛ كقضايا العرق والاثنية والقضايا القومية والكولونيالية)، كما زعم – على سبيل المثال – عالم الاجتماع البريطاني (أنطوني جيدنز) ضمن كتابه المعنون (الدولة القومية والعنف) . فقد أشار (المؤلف) الى أن ماركس (أعادة التفكير في العديد من مفاهيمه المتصلة بالتطور الاجتماعي، واضعا"المجتمعات الطرفية غير الأوروبية الغربية في مركز اهتمامه، ليوحي بأن هذه المجتمعات قد تقود التحول الثوري) . وتدليلا"على ذلك ما جاء بنصوص دفاتر ملاحظات ماركس حول الدراسات الاثنية بين عامي 1880 – 1882 م . (حيث دونها ماركس على دراسات أجراها باحثون عديدون أغلبهم انثروبولوجيون وتغطي مجموعات واسعة من المجتمعات والحقب الزمنية، وتضم الحضارة القروية للهند وتاريخها، والكولونيالية الهولندية، واقتصاد القرية في اندونيسيا، والجندر وعلاقات القربى لدى سكان أمريكا الأصليين، ولدى الإغريق والرومان القدماء، حول ايرلندا والملكية الخاصة والملكية التشاركية في الجزائر وأمريكا اللاتينية) .

وعلى إيقاع التطورات العاصفة التي شهدتها العلوم الاجتماعية والإنسانية وما استتبعها من التداخل في حقولها والتشابك بين ميادينها، فضلا"عما تمخض عنها من اجتراحات منهجية وابتكارات مفاهيمية وانزياحات دلالية، فقد نعى البعض من المفكرين الليبراليين (أفول) وهج الماركسية وانحسار تأثيرها على السيرورات التاريخية والديناميات الاجتماعية التي تتطور بموجبها المجتمعات، لاسيما تلك التي تنضوي تحت مسميات (الاستبداد الشرقي) و(النمط الآسيوي) و(مجتمعات الأطراف) . بحيث أضحت – كما يزعمون - عاجزة عن تقديم إجابات مقنعة وتفسيرات مقبولة لما أنجزته العولمة الرأسمالية من فتوحات واسعة وحفريات عميقة وتنظيرات شاملة، لا في مضامير الواقع – المعيش وما ينطوي عليه من علاقات وصراعات فحسب، بل وكذلك في مجالات الفكر – الوعي وما يشتمل عليه من تصورات وتمثلات .

وإزاء ذلك، فقد تصدى الكثير من الفلاسفة والمفكرين والباحثين والمؤرخين الغربيين، الذين خبروا طبيعة الفلسفة الماركسية جيدا"، وتعمقوا في مضامينها الابستمولوجية والمنهجية، فضلا"عن تمرسهم بالتعاطي مع جهازها المفاهيمي المركب، ومن ثم امتطهم اللثام عما ينطوي عليه من عمق تاريخي وثراء دلالي . وهكذا، ضمن أحدى الأسئلة الموجهة للفيلسوف الفرنسي المعاصر (ادغار موران) عن الأصول الانثروبولوجية في فلسفة ماركس أجاب قائلا"(عليّ أن أقول إن انثروبولوجيا ماركس هي التي أوحت ليّ بكتابة كتابي (البشرية والموت)، والتي يمكن أن نجدها في كتاباته المبكرة إبان شبابه، والتي عرفت في ذلك الوقت بعلوم (الاقتصاد السياسية والفلسفة)) . هذا في حين تحدث الباحثان (توماس هايلاند اريكسون) و(فين سيفرت نيلسون) عن موقف ماركس إزاء التأثيرات التي أحدثتها أفكاره في حقول العلوم الاجتماعية والإنسانية قائلا"(كان تأثيره على النظرية الاجتماعية معقدا"ومتعدد الأوجه، وقد يجري تعقبه في العديد من التحليلات الانثروبولوجية حتى اليوم (رغم تأثيره على علم الاجتماع والتاريخ والاقتصاد كان أعظم) .

***

ثامر عباس – باحث عراقي

 

تشكل التغيرات المناخية في المرحلة الراهنة والمستقبلية تحديا كبيراً على الأرض والطبيعة وكذلك على الثقافات في جميع انحاء العالم. حيث يأخذ مداها بالتأثير بعدة طرق، فالمناخ والطقس اليومي والبيئة التي نعيش فيها، تتغير بحكم التغيرات في أرتفاع أو أنخفاض درجات الحرارة، وكذلك انخفاض مستويات المياه، أضافة الى تعرض الأرض الى زيادة الجفاف الذي سيضرب مناطق عدة من دول العالم، وبحكم عوامل عدة أخرى، منها ثقوب طبقات الاوزون والانبعاثات الغازية من الأرض جراء غازات وأبخرة المصانع والحروب وما ينتج عنها.. وستؤدي هذه التغيرات بدورها حتماً، تأثيراً آخر على الجانب الثقافي والنشاطات الثقافية وعلى طبيعة المثقفين والكتّاب، وما تلعب من تأثيرات على طبيعة البشر بشكل عام والمزاج النفسي لهم.

لقد أصبح موضوع التغير المناخي محورياً في الكتابة الابداعية والفنية، إذ نجد عدداً متزايداً من الاعمال الروائية والاعمال الفنية التي تتناول تأثيرات التغيرات البيئية على المجتمعات، والطبيعة، وحياة الأفراد، فيعمل الكتّاب على أستكشاف أبعاد جديدة للصراع الإنساني، خاصة تلك المتعلقة بالكوارث البيئية أو تدهور الموارد الطبيعية.

فجرّاء التغيرات المناخية من ناحية الأرض؛ ستأخذ تأثيرها على طبيعة الزراعة والصيد البري والبحري، ومن الناحية الثقافية؛ على الحرف الشعبية التقليدية، فقد تنفقد وتختفي عادات عرفتها الشعوب منذ عقود، ومهرجانات ثقافية كانت ترتبط بالأرض والزراعة والمصنوعات الحرفية الشعبية لكثير من الدول التي تعمل على إقامة مهرجانات، كان لها علاقة بهذا الشأن في بلدانها سنوياً.

مما يقودهذه الدول، الى اعتماد تقنيات جديدة ومستدامة الى تغيير طرقها التقليدية، نتيجة تأثرها الواسع بالتغيرات المناخية، فضلاً عن تعرض ربما الكثير من دول العالم الى الهجرة جراء هذه التغيرات، مما سيؤدي الى التقاء شعوب مع شعوب أخرى ببعضها، وبالتالي يقود هذا اللقاء الى أندماج ثقافات مع ثقافات أخرى، وبنفس الوقت الى فقدان بعض الثقافات التقليدية، وبسسب هذه الهجرة ستمتزج ثقافات مع بعضها وتبادل في المعرفة والتقاليد بين هذه المجتمعات، ناهيك عن اختلاط الزيجات فيما بينها، لتشكل ظهور ثقافات وليدة جديدة.

 اضافة الى تاثيرها على الهوية الثقافية، إذ ستعزز من الحوار حول الهوية والمكان، من هنا ندرك، إن هذه القضايا قد تصبح محاور رئيسية في أعمال الكتّاب المعاصرين، وأنطلاق أعمال أبداعية شتى تتناولها برؤى وآبعاد يختلط بها الخيال العلمي والفنتازيا، أو الواقعية السحرية أو حتى الانطباعية الواقعية.

ومما لاشك فيه فأن التراث الثقافي المادي، كالمباني التأريخية والآثار القائمة في خارج نطاق المتاحف، ستتعرض هي الاخرى الى التلف، بحكم الامطار أو الفيضانات والرياح الشديدة من العواصف، ما تعرف بعوامل التعرية، أضافة الى حدوث الحرائق التي ربما تطولها للخراب، مما يؤدي الى فقدان جزء كبير من تأريخ حضارات وثقافات الأمم والشعوب التي قامت منذ قيام البشرية على هذه الأرض.

كماوبالتالي قد تظهر تأثير التغيرات المناخية على الفنون والآداب والموسيقى، حيث يتمحور الابداع حول تجارب البشر مع المناخ والبيئة وتاثيراتهاالمباشرة وغير المباشرة، إذ يمكن أن تعطي التغيرات المناخية الكتّاب والمبدعين، فيستلهم منها المبدع كمصدر للألهام، إذ يمكن أن تظهر هذه الظواهر الجوية المتطرفة أو التغيرات في المناظر الطبيعية، تحولات جديدة في كتابة القصص والروايات والشعر والابداع السينمائي بلا شك.

وقد تشمل مواضيع الاعمال الأدبية لتعكس القضايا البيئية والمناخية المعاصرة، مثل الكوارث الطبيعية وأنعكاساتها على أمزجة البشر وتغير وجه البيئة، ثم تأثيرها على العلاقات الاجتماعية والثقافية، فيوظّف المبدعون التغيرات المناخية، كرمز في أعمالهم للأشارة الى التحولات النفسية، ومدى أنعكاساتها على النفس البشرية، كما ينعكس الاهتمام المتزايد في أستخدام اللغة والتعبير عنها؛ بحيث تظهر مصطلحات جديدة أو تطور مفاهيم للتعبير عن هذه الظواهر.

وربما يتغير وصف المشاهد الطبيعية في الأعمال الأدبية، ليعكس التأثيرات المباشرة للتغيرات المناخية على الطبيعة والبيئة ويخلق جواً تتغير فيه أشكال القصص والشخصيات أو أبطال النصوص الابداعية، لتعكس التحديات الجديدة التي تطرأ؛ نتيجة ما يحدث من تغيرات مفاجئة وغريبة على الأرض، مما يضيف عنصراً من التوتر والصراع في كتابة الأعمال الادبية.

ونستطيع القول، إن للتغيرات المناخية يمكنها إثراء وتنويع المواضيع والأساليب الأدبية، وتعزيز الوعي بالقضايا البيئية والاجتماعية المتعلقة بها. وستنبأ هذه التغيرات موضوعاً غنياً يمكن أن يؤثر بشكل عميق على الأدب بكافة أجناسه وأشكاله، مما يفتح المجال للكتّاب والمبدعين لأستكشاف مختلف الجوانب الخفية والتأثيرات النفسية على أعمالهم.

ومن الجدير بالأشارة اليه، إن التغيرات المناخية ليس لها تأثير على النتاج الأبداعي فحسب، إنما لها تأثير في الحالة النفسية لشخصية الكاتب أو الاديب الابدعية ذاتها، وقد يكون معقداً ومتنوعاً..! وهذا بدوره سينعكس على حياة شخصيات وأبطال النصوص داخل النص الابداعي، التي ستملي على الكاتب ربما جزافاً، جراء ما يحصل من حوله، ومدى تفاعل الكاتب أو المبدع مع أبطال نصه من جهة، وما يحصل من حوله تغيرات مناخية مستمرة من جهة أخرى.

 وهنا يختلف التأثير بآختلاف الأفراد والظروف، حيث تؤثر على مدى وعيهم واهتمامهم ومضامين أعمالهم. ومع ذلك، فأن لهذه التغيرات تأثيراتها من حيث الالهام ومنح المبدعين بأفكار جديدة ومواضيع مثيرة للكتابة، كما ينعكس على الشخصيات أبطال النص الابداعي الروائي، وكذلك الفنون الأخرى، بطرق متعددة، فعلى سبيل المثال لا الحصر، قد تتغير العلاقات الاجتماعية أو تتأثر المشاعر النفسية بسبب ما يحصل من الكوارث في الطبيعة، وماتضغط به التغيرات التي ستطرأ ربما بشكل متوالي وفي فصول ليس بوقتها.

ومما لاشك فيه إن الكتّاب والمثقفين، يلعبون دوراً هاماً في نشر الوعي حول قضايا التغير المناخي، فالكثير من الكتّاب يستخدمون منصاتهم في نشر الوعي بأهمية الحفاظ على االبيئة والتصدي لهذه التغيرات، ويمكن لهذا الوعي أن ينعكس في خلق حركة فكرية وثقافية عند منظمات المجتمع المدني، تهتم بالقضايا البيئية بشكل أكبر، بالاضافة على المجتمعات الحضرية أوالريفية بطرق مختلفة أيضاً، بحكم الطبيعة المجتمعية لكل منهما، فقد تظهر تحديات جديدة أخرى.

لذا فالكتّاب والمثقفون ستدفعهم هذه التغيرات الى التفكير في مفهوم التنمية والاستدامة، وكيفية بناء مستقبل يتسم بالوعي البيئي، تجاه هذه التغيرات، وصياغة كتابية إبداعية جديدة، وهذا يمكن ان يظهر في الأدب أو الكتابة الفكرية التي تطرح حلولاً للحفاظ على الطبيعة، وتدعو الى التغيير الاجتماعي.

***

د.عصام البرام - القاهرة

كيف أشعلت الترجمات العربية للنصوص اليونانية القديمة ثورة علمية جديدة

بقلم: جوزفين كوين

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

تفنّد جوزفين كوين الخرافة القائلة بأن الترجمات العربية لم تفعل أكثر من الحفاظ على الأدب اليوناني

***

في القرن الثامن الميلادي، بدأت العباسيون بجمع حكمة العالم في عاصمتهم الجديدة بغداد. بدأ هذا المشروع مع الخليفة العباسي الثاني، المنصور ("الفتح"، 754–774)، الذي أمر بترجمة النصوص العلمية المهمة من الفارسية، والسنسكريتية، واليونانية، والسريانية (شكل متأخر من الآرامية) إلى العربية، وبلغ المشروع ذروته تحت حكم المأمون ("الثقة"، 813–833).

كانت العملية ممولة ببذخ من قبل الخليفة نفسه، بالإضافة إلى أفراد من عائلته، وأصحاب المناصب، والتجار، والمصرفيين، والقادة العسكريين. تعكس هذه المبادرة ازدهار تلك الفترة، حيث أن العباسيين أنشأوا حكومة مركزية قوية تعتمد على ضريبة الأراضي، والتي، مع تزايد شيوع التحويل إلى الإسلام، قاموا بتمديدها بشكل عملي لتشمل المسلمين وغير المسلمين على حد سواء.

إن أهم ما ينبغي لنا أن نفهمه عن ما يُطلَق عليه الآن "حركة الترجمة" هو أنها لم تكن في المقام الأول تتعلق بالترجمة. بل كانت جزءاً من التزام أوسع نطاقاً من جانب العلماء والقادة السياسيين المسلمين بالبحث العلمي، وهو الالتزام الذي شهد أيضاً تكليف الخلفاء بأعمال جديدة في مجالات العلوم والجغرافيا والشعر والتاريخ والطب.

أهم ما يجب فهمه بشأن ما يُسمى الآن بـ"حركة الترجمة" هو أنها لم تكن تدور في الأساس حول الترجمة. بل كانت جزءًا من التزام أوسع من قبل العلماء والقادة السياسيين المسلمين بالتحقيق العلمي، والذي شهد أيضًا تكليف الخلفاء بإنتاج أعمال جديدة في مجالات العلوم والجغرافيا والشعر والتاريخ والطب.

ومن المعروف أن الأعمال الكلاسيكية في العلوم والفلسفة اليونانية تُرجمت إلى اللغة العربية قبل ترجمتها إلى لغات أوروبية أخرى ـ بما في ذلك اللاتينية. ولكن ما هو أقل شهرة هو أن الهدف من ترجمة الأعمال الأجنبية لم يكن الحفاظ عليها بل البناء عليها. ومع استمرار الروابط حول البحر الأبيض المتوسط في التزايد، بدأت الدراسات العربية تصل إلى أوروبا الغربية، وتغير طريقة تفكير الناس هناك.

في بغداد، وكما حدث كثيرًا، بدأت التغيرات الثقافية من الخارج—وفي هذه الحالة من خلال جمع ومقارنة المعارف الأجنبية. جاء النموذج الأساسي والمواد الأولى لمشروع الترجمة العباسي من إيران، حيث كان الشاهات الساسانيون في القرن السادس قد كلفوا بترجمة أعمال هندية ويونانية مهمة إلى الفارسية.

ما هو أقل شهرة هو أن الهدف من ترجمة الأعمال الأجنبية لم يكن حفظها، بل البناء عليها وتطويرها.

لقد كان الإيرانيون المعاصرون مصدر إلهام أيضًا. فقد صمدت التقاليد الفكرية الساسانية بعد الفتح العربي، وظلت الفارسية لغة رئيسية في إيران، لكن العلماء الفرس كانوا قد بدأوا بالفعل بترجمة الأعمال الكلاسيكية من أدبهم إلى العربية.

وقد ضمن هذا الحفاظ على هذه الأعمال التراثية، ونشر تاريخ وثقافة الأراضي الإيرانية الرفيعة. كما حافظ المثقفون الساسانيون على روابط مفيدة مع التقاليد العلمية في الشرق الأقصى، وخاصة مع علماء الرياضيات الهنود، الأكثر تقدماً في العالم القديم، وكانوا قد ترجموا بالفعل أعمالاً مهمة من اللغة السنسكريتية إلى لغتهم.

ولم تكن الفوائد التي عادت على الخلفاء العباسيين من الانخراط في التقاليد الإيرانية فكرية بحتة. فقد ساعدتهم على ترسيخ جذورهم في الأراضي الساسانية القديمة في بلاد ما بين النهرين التي احتلوها الآن؛ وعلى نحو مماثل بنوا بغداد نفسها في عام 762 على الشكل الدائري المميز للمدن الساسانية.

كان إدماج أعمال المفكرين اليونانيين في المدونة العربية، على العكس، إعلانًا للهيمنة الثقافية على ما تبقى من الإمبراطورية الرومانية في القسطنطينية، حيث تم استبعاد المعرفة القديمة لصالح الأنواع الأدبية المسيحية، مثل الخُطَب وحياة القديسين، وأصبحت العلوم والفلسفة القديمة تذبل في الأرشيفات والأديرة.

استلهم المشروع بشكل مباشر من الثقافة الفكرية المعاصرة لغرب آسيا، التي أعيد إحياؤها بتوحيد الإسلام للمناطق التي كانت تخضع سابقًا لإما بلاد فارس أو روما. لم تعد المراكز الفكرية من الرها المسيحية والموصل إلى مرو الزرادشتية وكارهاي الوثنية الصامدة على اتصال ببعضها البعض فحسب، بل تحررت أيضًا من الأرثوذكسية الدينية التي فرضها أسيادها السابقون، حيث كانت النزاعات اللاهوتية بين الأجانب قليلة الأهمية للخلفاء.

أنتج هذا العالم مفكرين متنقلين يمتلكون خبرة في موضوعات تمتد من الاستراتيجية العسكرية إلى التنجيم، وكانوا يجيدون اليونانية، السريانية، الفارسية الوسطى (البهلوية)، والآن العربية أيضًا.

وجاء المكون الرئيسي الأخير من الشرق الأقصى. فقد اخترع الورق في الصين في القرن الثاني قبل الميلاد، وبحلول القرن الثاني الميلادي وجد في الواحات التجارية لوادي تاريم. استُخدم الورق أولاً كغلاف، لكن سرعان ما أدرك الناس أنه، مثل الجلد والخشب، يشكل سطحًا مفيدًا للنصوص المكتوبة بالحبر.

وصلت حرفة صناعة الورق إلى العالم العباسي في القرن الثامن، وتم بناء أول مصنع للورق في بغداد في تسعينيات القرن الثامن. وبما أن الورق كان أرخص بكثير في الإنتاج من ورق البردي، فقد جعل الكتابة بكميات كبيرة ممكنة عمليًا.

في أوائل القرن التاسع، تركزت المنح الدراسية العلمية في بغداد حول مكتبة تسمى "بيت الحكمة"، وتم تنظيم جهود الترجمة بشكل أكثر منهجية. وكان المترجمون يتقاضون رواتب شهرية، وغالبًا ما كانت الترجمات تمر بمراحل متعددة.

قام العلماء الفرس بترجمة الأعمال إلى العربية التي كانت قد تُرجمت بالفعل من لغات أخرى إلى لغتهم الخاصة، ولأنه كان هناك القليل نسبيًا من الازدواجية اللغوية المباشرة بين اليونانية والعربية، كانت الترجمات العربية للأعمال اليونانية غالبًا تُعد من النسخ السريانية. ولذلك كانت الترجمة من اليونانية تقع إلى حد كبير في أيدي المسيحيين الشوام الذين اعتادوا بالفعل العمل عبر لغات مختلفة، بما في ذلك اليونانية والسريانية والعربية.

لدينا دليل مفيد للأعمال الأجنبية التي اعتُبرت جديرة بالبحث في شكل موسوعة بعنوان "مفاتيح العلوم" كتبها محمد بن موسى الخوارزمي (حوالي 780-850)، وهو رياضي وفلكي ناطق بالفارسية من واحة خوارزم في آسيا الوسطى، جنوب بحر آرال، وقد عمل في بيت الحكمة.

قسّم الخوارزمي عمله إلى كتابين: يصف الأول "العلوم الإسلامية الشرعية والعلوم العربية"، التي تم تعريفها على أنها الشريعة، وعلم الكلام، والنحو، والكتابة، والشعر، والتاريخ؛ أما الثاني فهو مخصص لـ "علوم الأجانب مثل اليونان والأمم الأخرى": الفلسفة، والمنطق، والقانون، والطب، والحساب، والهندسة، وعلم الفلك/التنجيم، والموسيقى، والميكانيكا، والخيمياء.

شملت الفلاسفة اليونانيين الذين تُرجمت أعمالهم إلى العربية من أفلاطون وإقليدس الذين كتبوا في القرن الرابع قبل الميلاد إلى الفيلسوف بلوتينوس، المولود في مصر في القرن الثالث الميلادي. وقد اهتم العلماء العرب بشكل خاص بأعمال أرسطو، وكذلك بالشروح اليونانية عليها.

كما دخلت نصوص يونانية عملية أخرى إلى مجموعة الأعمال المترجمة، حول مواضيع من الهندسة إلى التكتيكات العسكرية إلى رياضة الصقور. وتضمنت الأدبيات الشعبية كتب الحكايات والحكايات الخرافية، و"أقوال الحكمة"، والرسائل التي يُفترض أنها متبادلة بين شخصيات تاريخية شهيرة. أما الشعر الكلاسيكي والدراما والتاريخ فكانا أقل أهمية: حتى أن هوميروس لا يظهر إلا في الاقتباسات الموجودة في المؤلفات العلمية.

كان ذلك جزئيًا لأن العلماء المشاركين كانوا يدركون مدى صعوبة ترجمة الشعر بشكل جيد. حتى ترجمة المفردات العلمية تعتمد على وجود رؤية مشتركة للعالم، وكان من الصعب على المفكرين العاملين بعد قرون التقاط هذه الرؤية.

تمكنوا من ذلك بدرجات متفاوتة من النجاح، خاصة عندما يتعلق الأمر بالنصوص الفلسفية الأكثر تجريدًا. بعض الترجمات تضمنت قدرًا كبيرًا من التفسير؛ فأصبحت "الآلهة" "الإله"، وإحدى ترجمات أعمال بلوتينوس تعادل فكرته عن "المبدأ الأول" مع الله نفسه. ولكن تم الحصول على مخطوطات جديدة كلما أمكن لمقارنتها بالنصوص الموجودة، وتم إصدار ترجمات جديدة حيث يمكن تحقيق تحسينات واضحة.

كما فكر العلماء بجدية في منهجية الترجمة وتحدياتها: فقد جادل حنين بن إسحاق، الطبيب النسطوري من البصرة الذي عمل باليونانية والسريانية والفارسية والعربية، بقوة لصالح مبدأ أن تكون الترجمات سلسة وحرة نسبيًا، بدلاً من أن تكون دقيقة ولكن غير قابلة للقراءة بسبب النقل الحرفي لكلمة بكلمة.

تم الحصول على بعض النصوص اليونانية من خلال طلبات شخصية، حتى من الخليفة نفسه. وتم العثور على مخطوطات أخرى في بعثات استكشافية، أو حتى إنقاذها: إذ يذكر مختصر أدبي من القرن العاشر مكتوب في بغداد أن حمولة جمال من الأعمال القديمة اكتُشفت في معبد يوناني وثني كان مغلقًا منذ وصول المسيحية، وكانت تلك الأعمال تتعرض للتآكل والتلف من قبل الآفات.

بينما كان الرهبان والراهبات في أوروبا الغربية ينسخون المخطوطات اللاتينية في الأديرة المضاءة بالشموع بجهد كبير، فإن التعامل مع الأعمال الأجنبية وانتقادها، وأحيانًا رفضها صراحة من قِبَل المفكرين العاملين في العالم الإسلامي، كان سبباً في إحداث ثورة علمية.

بعض الأعمال ظلت صعبة المنال: يروي حنين بن إسحاق رحلة بحثه عن عمل للطبيب الروماني جالينوس (129-216 م) الذي ربط بين “الأخلاط” الأربعة (الدم، البلغم، الصفراء، والسوداء) بأنواع الشخصيات. بعد البحث عبثًا في شمال ما بين النهرين، وسوريا، وفلسطين، ومصر، عثر في النهاية على "نحو نصفه، في حالة من الفوضى وغير مكتمل، في دمشق."

إن إرث حركة الترجمة لا يكمن في الترجمات نفسها. والفكرة القائلة بأن العرب "حافظوا" على المعرفة اليونانية القديمة التي كانت ستُفقد لولاهم ليست أكثر من خرافة.

في الحقيقة، فقدت معظم العلوم القديمة من الغرب الأوروبي لأكثر من ألف عام: فقد كانت هذه الأعمال تُكتب عادةً باليونانية، حتى من قِبَل الرومان، واندثرت مع ضياع معرفة تلك اللغة. لم تُترجم إلى اللاتينية سوى بعض الأعمال اليونانية: مثل "تيمايوس" لأفلاطون، وأعمال أرسطو المتنوعة، وكذلك أعمال عملية مثل "الجداول اليدوية" لبطليموس الإسكندري، التي تحتوي على المعلومات الأساسية لحساب مواقع الشمس والقمر والكواكب، وأوقات شروقها وغروبها، وتوقع الكسوف.

مع ذلك، فإن النصوص الأصلية نجت أيضاً، حيث تم الحفاظ عليها ونسخها في المكتبات والأرشيفات والأديرة في الإمبراطورية الرومانية الشرقية. فالنسخ الحديثة من النصوص اليونانية القديمة تعتمد بشكل طبيعي على تلك النسخ.

إن الترجمات العربية لا تزال قيمة، لأنها غالباً ما كانت تُجرى من مخطوطات يونانية أقدم وأكثر دقة. وهناك بعض الأعمال اليونانية التي نجت فقط في الترجمة العربية، لكنها تُعتبر استثناءات نادرة أكثر منها نصوصاً أساسية: مثل دليل لإدارة الأملاك كتبه مؤلف روماني يُعرف الآن باسم بريسون في القرن الأول الميلادي، وكتاب عن علم الفراسة من القرن الثاني الميلادي كتبه السفسطائي بوليمون.

إن الإرث الحقيقي الذي خلفته الترجمات العربية هو الدافع الذي أعطته لمزيد من التفكير. وكما لخص البطريرك السرياني برهبراوس الأمر في القرن الثالث عشر الميلادي:

" نشأ بين العرب فلاسفة ورياضيون وأطباء فاقوا جميع القدماء في دقة الفهم، ولم يبنوا على غير أسس اليونان، بل بنوا صروحاً علمية أعظم بأسلوب أكثر أناقة وأبحاث أكثر دراسة، فكانت النتيجة أنهم رغم أنهم تلقوا الحكمة منا عن طريق المترجمين، نجد الآن أنه من الضروري أن نطلب الحكمة منهم."

إن القصة تبدو بسيطة للغاية: النصوص اليونانية لم تكن المصدر الوحيد لإلهام العلم العربي. بينما كان الرهبان والراهبات في أوروبا الغربية ينسخون المخطوطات اللاتينية بجهد في أديرتهم المضيئة بالشموع، فإن التفاعل والنقد، وأحياناً الرفض الكامل للأعمال الأجنبية من قبل المفكرين في العالم الإسلامي، قد أثار ثورة علمية.

(انتهى المقتطف)

***

...............................

* مقتطف من كتاب كيف صنع العالم الغرب بقلم جوزفين كوين، حقوق الطبع والنشر © 2024 لجوزفين كوين.

المؤلفة: جوزفين كوين / Josephine Quinn أستاذة التاريخ القديم في جامعة أكسفورد وزميلة ومدرسة تاريخ قديم في كلية وركستر، أكسفورد. حصلت على درجاتها من أكسفورد وجامعة كاليفورنيا، بيركلي، وقد قامت بالتدريس في أمريكا وإيطاليا والمملكة المتحدة. كما قامت بالمشاركة في إدارة الحفريات الأثرية التونسية-البريطانية في أوتيكا. تُسهم كوين بانتظام في مجلة لندن للمراجعات ومراجعة الكتب في نيويورك، بالإضافة إلى البرامج الإذاعية والتلفزيونية. هي مؤلفة كتاب كيف صنع العالم الغرب: تاريخ يمتد لأربعة آلاف عام، بالإضافة إلى كتابها السابق في بحث عن الفينيقيين الذي فاز بجائزة، وتعيش في أكسفورد.

يطلق تعبير "الثقافة العراقية" اعتباطا على الطور او المرحله الانحطاطية المتاخرة من الظاهرة المذكورة بظل البرانيه الغربيه، وهو المستحصل واقعا عن متبقيات الانقطاعية التاريخيه الانحطاطية التي اعقبت 1258، تاريخ سقوط عاصمة الدورة التاريخيه الثانيه، ووقوعها منذ هولاكو تحت طائلة التعاقبية البرانيه الشرقية اليدوية، وصولا الى العثمانيين، ومن ثم الانكليز كحضور مباشر براني "حداثي" آلي، مع كل ماانطوى عليه من احتمالية انقلابيه نوعية مقارنة بماقبله من مرحلة يدوية.

ولم يكن العراق قد عرف وقتها الانتقال الموضوعي من اليدوية الى الالية، ماكان من شانه تغليب الاليات والتعبيرية ماقبل الالية، مضافة الى اشتراطات الانحطاطية التاريخيه، واول وابرز مظاهرها التماثل الاتباعي مع النموذج الغربي، باعتباره الانقلاب المستجد على المعمورة من دون احتمالية افتراض ان يكون ماهو حاصل حينها، مقدمه ضمن طور ومرحلة تاريخيه عالمية ماتزال تنتظر التفاعلية المجتمعية البشرية، بما يجيز القول بان الانتقال الالي هو حالة ابتداء اوربي، بانتظار الالية العالمية المتوقفه على انخراط بقية العالم بمجتمعاته في العملية الانقلابية الكبرى.

وبما ان العراق متداخل تفاعلا مع محيطه الشرق متوسطي العربي، مع تعدد اشكال تماثل انماطه مع الحدث الاوربي، تماهيا بالدرجة الاولى، بما يتيح بقوة المجال لتوهم احتمالية او حتى حتمية استيلاد الظاهرة الغربية نقلا، مع مايواكب ذلك من رغبة في بلوغ مثل هذا المطمح خارج الاليات التاريخيه الذاتيه، ومن دون التفكير الواجب بها، وبضرورة كشف النقاب عنها كشرط انتقالي ضروري يتم اسقاطه، ما قد غلب وقتها الاعتقاد الراسخ غير المدقق فيه، بان الماضي قد زال جملة وجوهرا من الوجود، خضوعا لمقتضيات الانتقال الحالي ونموذجه الواجب والحتمي، بما قد وضع اي نظر الى الوراء في باب اللاحداثوية معبرا عنها بالرجعية والتخلف.

والاهم الفاصل في هذا المجال جانب اساس ظل يتمثل الى اليوم في تاخر النطقية الذاتية، بالاخص في ارض الرافدين، حيث كانت علامات الانبعاث الحديث اللاارضوي قد وجدت في وقت واحد، وحتى مبكر مقارنة بلحظة انبجاس الاله في اوربا، وهو ماقد حدث ومجددا في ارض سومر جنوبا في القرن السادس عشر، مايفترض تغييرا في السردية الغالبة الشائعه الالية، واحتمالاتها التاريخيه كبداية اولى تعرفها اوربا تحديدا، وصولا الى الخلاصة والنتيجه المنتظرة التي تتولد عن عالمية الظاهرة الالية، وشمولها بقية اجزاء المعمورة، وتفاعليتها معها، وهو مالم يرد اطلاقا في اي من التصورات المتعلقة بالحدث الالي، ومن ثم بتوهميته الغربية التي يجري تغليبها على مستوى المعمورة وكانها بدء ومنتهى، واضح انه غير ممكن، ويفتقر عمليا الى العناصر اللازمه الواجب حضورها، مع تقدم وانتشار الاله بحسب الصيغ التي تاخذها، واشكال الفعل التي تتاح لها، ونوع التفاعل وردات الفعل التي تتلقاها، او التي تنجم عن حضورها بحسب المجتمعات والانماط المجتمعية العائدة الى الطور اليدوي، ووحدة البيئة/ الكائن البشري.

ويدخل في باب الايهام الاوربي المنوه عنه، القول بالختامية العقلية "العلمية"، وكأن المنجز الاوربي على اهميته غير العادية، هو نهاية ومبتغى العقل البشري، وان هذا الموضع من الكرة الارضية هو "الراس العاقل"، علما بانه بالاحرى محكوم لقوة فعالية العنصر المستجد واثره في الديناميات المجتمعية، كما لنوعه هو النمطي، وهو حدث وتطور لايد له فيه، ولم يصنعه، بل عاد وصنع وتوصل الى المستجدات كلها، لان الالة وجدت بقوة دينامياتها الاستثنائية بين ظهرانيه، ماقد منحه الاسباب لتكريس الخصوصية والمركزية استغلالا للفرادة الحدثية.

فاذا كان التميز الحالي الاوربي هو تميزآلي، فانه بدئي وليس قاعدة ثابته ونهائية، فالالة وسيلة شامله، والعالم لم يسبق ان كان أ وظل خاضعا للارجحية التاريخيه الاوربية من قبل، وثمة مواضع من العالم كانت هي البدئية اليدوية، والافتتاح الانجازي الاكبر التاسيسي، في مقدمها ارض مابين النهرين، ليس خلال دورة واحدة هي السومرية البابلية الابراهيمية الاولى وحسب، بل وخلال الدورة الثانيه الكونية العباسية القرمطية الانتظارية، تلك التي اسهمت واقعا وماديا اقتصاديا تجاريا، في تهيئة اسبا ب الانقلاب الالي على المنقلب الاوربي، كل هذا يوجب اولا اسقاط الغلبة الالية المؤقته والراهنه، ووضعها في محلها البدئي الاستهلالي، مع الاخذ بالاعتبار كونها قد تكون قاصرة وابتدائية بناء على نوع المجتمعية التي انبثقت فيها الالة، ونمطيتها التي قد تكون قاصرة عن الارتقاء لمستوى الحدث الحاصل.

اذن مايصر الغرب على تكريسه هو استخلاص آني جزئي لحدث كوني بعيد الامد، ينطوي على غير مايسعى لتكريسه حداثيا على انه "الحقيقة المطلقة"، مع انه يعجز على سبيل المثال عن كشف النقاب عن الحقيقة المجتمعية، ومع مايعرف ب" علم الاجتماع" اخر العلوم،فهو يقف قاصرا دون ازدواجية الظاهرة المجتعمية،  عاجزا بذلك عمايتضمنه ذلك من احتمالية انقلابيه تصورية عقلية تخص الوجود والتاريخ ومساراته ومبتغياته، هذا علما بان الغرب قد لايكون مسؤولا كليا وبوعي عما يقع فيه من توهميه في حينه،مقارنه بشخص او مجموعه اشخاص يوجدون وقتها في البلد الذي يطلق عليه اسم العراق، حيث الدورات الكبرى ومايعقبها وتنتهي اليه من انقطاعات، وحيث الازدواج المجتمعي، والمنجز الذي من نوعه وصنفه، مع كونيته الاولى النبوية الحدسية الابراهيمة، ذهابا الى الثالثة الراهنه المنتظرة بعد الوسطى الانتظارية العباسية القرمطية، كاحتمال بناء على وقع الانقلابيه الراهنه الالية، ومامتوقع من انتقال من النبوية الحدسية الى اللاارضوية الثانيه العليّة السببيه، بما ينقل مسالة الديناميات التاريخيه المجتمعية من مكانها المدعى والمكرس آنيا بفعل الانقلاب الالي، من الموضع الذي وجد فيه، مع اجمال مامتصل به من مفاهيم ومرتكزات رؤية.

كيف يمكن لموضع اتسم تاريخيا بالمنجز الكوني الهائل والشمولي الارضوي السماوي، ان يتحول فجاه الى متبع متماه مع جهة بعينها فقط، لانها عرفت الالة، وهي ماتزال عند الافتتاح بما يخص منطوياتها وحضورها العالمي، وهل بالامكان التفكير باجراء مقارنة من اي نوع، بين عظمة المنجز العراقي السومري البابلي، او العباسي القرمطي "اليدوي" وماترافق معه وواكبة من انجاز شامل لكل المجالات، وبين النقلية الحداثوية الانحطاطية الايديلوجية المستعارة اصلا من مصر وساحل الشام، حيث الاستقبال التماثلي للغرب الحداثي، بلا اساس ولا قاعدة مادية مجتمعية ولاديناميات، اضافة لمتبقيات البرانيه المستمرة في ارض الرافدين من ايام هولاكو الى العثمانيين، حتى اللحظة المنوه عنها، ثم كيف يمكن ان لاتكون اثار الآلية محفزا على البحث عن الذاتيه، وعن موقع الاليات التاريخيه، مع اعتبار المنظور الغربي المسلط على العراق اطارا مقبولا، يبني عليه وتحت طائلته حاضر من المفترض انه انقلابي نوعي، من اليدوية المنتهية والتي عرفت دورتين وانقطاعين رافدينيين، كانا الاعلى ديناميات / يدويا/ بما لايقاس على مستوى المعمورة، بما يضاهي الحاصل الاوربي الراهن، مع انه منجز من نوع اخر يفترض انه مختلف نوعا واعلى هو الالي.

***

عبد الأمير الركابي

 

في قلب هذا العالم الكئيب كما وصفه شوبنهاور، تتأرجح النفس الإنسانية في دوامة لا تنتهي بين آلام عميقة وملل قاتل، تتخللها لحظات خادعة من المتعة والفرح، تذكرنا بأن السعادة ليست إلا سرابًا يختبئ خلف أستار الرغبات المجهضة. إن هذا التشاؤم العميق متجذر في ميتافيزيقا الحياة ذاتها، حيث يبرز الجوهر الإنساني كتداخل لا ينفصم بين الجسد والعقل، يتجلى في شغف الحياة وإرادة الوجود.

إن الإنسان، في نظر شوبنهاور، ليس مجرد كائن يتنفس، بل هو روح واعية تستشعر واقعها من خلال حواسها، حيث تكتشف عمقها عبر تفاعلها مع العالم. تتجلى هنا هوية الإنسان في جلبابه الجسدي، لتصبح إحساساته وسيلة للمعرفة والفهم. بيد أن هذه العلاقة مع العالم لا تتوقف عند حدود المعرفة السطحية، بل تأخذ شكلًا من التفاعل العميق، حيث تنسج كل تجربة من تجارب الحياة خيوط الوجود ذاته.

ومع ذلك، يدعونا شوبنهاور إلى فهم حقيقة مؤلمة، وهي أن الإنسان محكوم بكونه غير سعيد بطبعه. إن هذه الحاجة الماسّة للقلق تبرز جوهر الوعي الإنساني، الذي يتقلب في حالة من عدم الرضا المستمر. فدوافع الإرادة المدفونة في أعماق النفس تواصل دفع الإنسان نحو ما قد يُشبع احتياجاته، لكن تلك الاحتياجات تظل دائمًا خارج متناول اليد، مما يخلق حالة من التوتر الوجودي.

وفي خضم هذه الديناميكية، يكمن شعور دائم بعدم الاكتمال، كأن الحياة تُخفي عنا جوهر السعادة في كومة من الرغبات غير المشبعة. هنا يظهر الأمل الوهمي، الذي يُغذي روح الإنسان بتوقٍ للعثور على السعادة في تلبية احتياجات جديدة، في حين أن الحقيقة المؤلمة تبقى ثابتة: السعادة هي حلم بعيد المنال، تُعاني الإنسانية في سعيها إليه، وهذا ما يخلق تلك الحالة البائسة التي تجثم على صدر الوجود.

بعد استعراض صارم لجوهر القوانين التي تسود الكون، يؤكد شوبنهاور أن الوجود ليس سوى ألم متجذر، يظهر بوضوح في ملامح الشقاء الإنساني. وفي خضم هذه الرؤية القاتمة، يقدم لنا علاجا للنفس: تحويل الإرادة إلى عدم الإرادة. من خلال إدراك هذه العملية العميقة، حيث تتجه الإرادة نحو النفي التدريجي لذاتها، يتمكن الإنسان من انتزاع شغفه بالحياة والاستمتاع من أعماق وعيه، مستعيدًا تلك الحرية الأصيلة التي لا تظهر إلا في غياب الحتمية التي تفرضها الإرادة.

في هذه اللحظة الفريدة، تُمحى جميع الظواهر، بل حتى أبعاد الزمن والمكان، ومعها تُزال الثنائية المتجذرة بين الذات والموضوع. فحينما يتلاشى مفهوم الإرادة، يتلاشى أيضًا كل تمثيل لها، وبهذا لا يتبقى أمام الإنسان سوى العدم، كما لو كان على حافة الهاوية، حيث كل ما كان يُعتبر حقيقيًا يتلاشى.

في موازاة ذلك، يبرز شوبنهاور جانبًا آخر، حيث يسعى إلى وضع المعايير السلوكية التي قد تخفف من عبء الوجود، مُظهرًا الإنسان كقطعة شطرنج محاصرة في وادٍ من الدموع. لذا، يصبح العقل الأداة الفعّالة لتحقيق سعادة نسبية، سعادة يمكن أن تتجلى في غياب الألم. حيث شكل شوبنهاور بعض الأفكار التي عُرفت لاحقًا باسم "علم السعادة"، عندما اعتبر أن السعادة الحقيقية تكمن في "السعادة السلبية" التي تنبع من غياب الشقاء.

إن الحقيقة العميقة التي يسعى شوبنهاور لإيصالها تتمثل في تأمل غوته: "الشخصية المجردة هي أعلى سعادة". إذ أن السعادة لا تعتمد على ما نملكه أو ما نمثله، بل على ما نحن عليه في جوهرنا. إن التعلق بالممتلكات يُعتبر بمثابة حب مفرط، يدفع الإنسان للبحث عن كل وسيلة لتجنب فقدان ما لديه.

إن مستوى السعادة يتغير مع مرور الزمن، فيُعزى سبب المعاناة إلى ظروف معينة، لكن شوبنهاور يُوضح أن قياس رفاهيتنا أو ألمنا يُحدد بشكل ذاتي. إن سبب المعاناة الخارجية هو مجرد فقاعة تتجمع فيها جميع المزاجات السيئة، التي كانت ستتوزع بخلاف ذلك. وبالتالي، تعتمد السعادة علينا ولا تتعلق بما يقدم إلينا، فحتى لو تحسنت الظروف الخارجية، "الأحمق يبقى دائمًا أحمق".

إن النقطة المحورية للحكمة تكمن في القدرة على توزيع اهتمامنا بين الحاضر والمستقبل. فالأشخاص الذين لا يدركون، يعيشون في الحاضر بشكل مفرط، بينما يُعاني القلقون من التفكير المبالغ فيه في المستقبل. ليس كل حدث عظيم يستحق القلق، لأن تغير الأشياء يمكن أن يغير مجراها جذريًا في أي لحظة. لذا، فإن تذوق كل لحظة حالية واستغلالها بكل امتلاء هو الحكمة الحقيقية للعيش.

***

محمد إبراهيم الزموري

من تسنح له فرصة مطالعة موسوعات المؤرخ الفرنسي الكبير (فرنان برودويل)، ويسعفه الوعي بالوقوف على مبلغ ما استهلكته تلك الموسوعات من أوقات وجهود، وهو يبحث وينقب في تضاريس الجغرافيا وشعاب التاريخ ومجاهل الوعي للمجتمع الفرنسي، لابد أن يصيبه الذهول وتعتريه الدهشة إزاء القدرة الجبارة لهذا الإنسان الشغوف بتفاصيل الماضي والمتتبع لمسارات التاريخ. للحدّ الذي أفنى ما يقارب ثلثي عمره الزمني حتى يتمكن من انجاز تلك الموسوعات الباذخة في تفاصيلها ومعلوماتها والتي يمكن عدها مفخرة للأمة الفرنسية بامتياز، ليس فقط بالنسبة لموسوعته العلمية المكثفة حول؛ البحر المتوسط والعالم المتوسطي في عهد الملك فيليب الثاني التي استغرقت كتابتها (26) سنة، وموسوعته الموسومة؛ الحضارة المادية والاقتصاد والرأسمالية التي استغرق انجازها (37) سنة، وموسوعته المعنونة؛ هوية فرنسا التي استغرق إكمالها (24) سنة. هذا بالإضافة الى انجازه كتب أخرى لا تقل أهمية من حيث القيمة المعرفية والمنهجية والتاريخية التي تتضمنها من مثل؛ قواعد لغة الحضارات، على سبيل المثال لا الحصر.

والحال لسنا هنا في وارد الحديث عن انجازات هذا المؤرخ العبقري والإشادة بجهوده العلمية وفتوحاته المعرفية في مجال السرد التاريخي، فهو – على أية حال – أشهر من نار على علم وفي غنى عن كل ما يقال عنه ويشار إليه في خطابات المديح والتقريظ، بقدر ما نروم اتخاذ مواقفه النوعية وتصوراته المبتكرة حيال ماضي بلده (فرنسا) وأحداث تاريخها وسيرورة حضارتها، كدليل على ضرورة التجمّل بالأساليب العلمية والطرائق المعرفية والرؤى الإنسانية، حين يتعلق الأمر باستنطاق مواريث الماضي واستقراء أحداث التاريخ لأي تجربة خاضها المجتمع العراقي بمختلف مكوناته وجماعاته، وتباين ثقافاته وسردياته، واختلاف محطاته وانعطافاته. لا بل أكاد أجزم ان إشكاليات ماضينا وملابسات تاريخنا وعثرات حضارتنا، لا يمكن معرفتها والإحاطة بها، ناهيك عن الزعم بحلها وتجاوز تعقيداتها المستعصية، دون الاستعانة بالتحليلات والمنهجيات التي اعتمدها هذا المؤرخ الفريد، لسبر أغوار ماضينا الغامض وتاريخ الملتبس.

وعلى الرغم من ولع العراقيين المفرط – خاصتهم وعامتهم - في التغني بأمجاد الماضي الزائل والتبجح بانجازات التاريخ الآفل، إلاّ أنه قلما نظر أحدهم الى تلك الأمجاد والانجازات الواقعية والمتخيلة بعين الفحص والتدقيق، لاستجلاء ما نسج حولها من خرافات وأساطير واستنطاق ما لفق عنها من أكاذيب وادعاءات. إذ ما أن يقع نظر الإنسان العراقي سواء أكان دارسا"أو باحثا"أو مهتما"على نص / سرد يتعلق بالماضي أو بالتاريخ، حتى تفيض قريحته بمشاعر الفخر والاعتزاز عما حملته تلك المتون من أحداث ووقائع فائضة بالبطولات ومتخمة بالمناقبيات، دون أن يراع احتمال أن تكون هذه الأخيرة مختلقة أو ملفقة بحكم تدوينها من قبل كيانات أو مؤسسات !. لا بل ان هناك من يسعى متعمدا"الى طمس وتغييب أية حقيقة تاريخية أو واقعة حضارية أو أزمة سياسية، لا يرى فيها ما يتوافق مع قناعاته الذاتية المؤسطرة ومسلماته الشخصية المؤمثلة، التي طالما رسختها في ذاكرته عقود من البيداغوجيات المنمطة والإيديولوجيات المسيسة.

والحال، كيف يتاح لنا الخروج من عنق هذا الخانق التاريخي الذي لم يبرح يحول دوننا وإعادة النظر بأنماط تصوراتنا وأساليب تفكيرنا ومضامين تمثلاتنا ؟!، لاسيما وان معظم مشاكلنا وجلّ إشكالياتنا التي لا تزال ناشطة وفاعلة في معيش علاقاتنا في الوقت الحاضر، ما هي إلاّ نتاج تراكمات جغرافية انتهكت حرمتها وقطعت أوصالها لأكثر من مرة، وتاريخ تم العبث بوقائعه والتلاعب بأحداثه من قبل أكثر من جهة، وذاكرة تم نسخها ومسخها من قبل غزاة طامعين وحكام عابثين لأكثر من جماعة. ولذلك ينبغي علينا الشروع – كمدخل وتمهيد – بدلا"من دوامنا على كيل (الاتهامات) جزافيا "الى مواريثنا الماضية الغامضة، و(مساءلة) وعينا التاريخي الملتبس، من منطلق كونهما يتحملان وزر ما نعاني منه ونكابده حاليا". ينبغي أن نعمد الى فتح كل ما له علاقة بملفات الماضي وسرديات التاريخ وأرشيفات الذاكرة، ليس لمجرد استعراض مضامينها التقليدية المكررة – كما حصل يحصل لحد الآن – تحت يافطة (إعادة كتابة) التاريخ، وإنما لإجراء عمليات تفكيك وتحليل ونقد شاملة وعميقة – قد تستغرق عقود من البحث والتنقيب - لمجمل ما حملته سيرورات التاريخ الوطني؛ سواء على صعيد (التدوين)، أو (الأرخنة)، أو (التمرحل)، أو(المنهج). مع الأخذ بنظر الاعتبار أن عمليات من هذا النوع لن يتم حصاد جهودها بنجاح، دون أن يصار الى تخطي حواجز وموانع ما يسمى ب(المحرمات) الدينية و(الممنوعات) السياسية و(الممانعات) الاجتماعية من جهة، وعلى أن تتوج تلك الأنشطة والفعاليات بامتلاك (وعي) تاريخي ناضج من النمط الذي ينظر الى وقوع الحدث أو حصول الواقعة، كحصيلة بنيوية - جدلية مركبة لمعطيات الجغرافية والتاريخ والدين والحضارة والثقافة والنفسية من جهة أخرى.  

وهنا يقتضينا القول؛ انه لكي يتم حصاد دراساتنا المتكاثرة وبحوثنا المتناسلة – التي نادرا"ما تكون ذات جدوى - عن الأحداث والوقائع المتعلقة بالماضي والمرتبطة بالتاريخ، لا يكفي البحث عن أصولها وخلفياتها في هذا العامل الطبيعي أو ذاك، هذا العنصر الإنساني أو ذاك. كما لا يجدي تقطيع سيروراتها وتفكيك سياقاتها وتعطيل جدلياتها بحجة نشدان الإيجاز في الكتابة والسهولة في العرض، وإنما تقتضي الضرورة العلمية والمنهجية التعاطي الدؤوب والصبور مع كل حدث أو أية واقعة؛ من منطلق كونهما نتاج نسيج متشابك ومترابط ومتخادم من العوامل الطبيعية والعناصر الإنسانية، التي لا ينفك بعضها يؤثر ويتأثر في البعض الأخر على نحو دائم ومستمر.

ولعل من أولى الخطوات الواجب مراعاتها والتقيد بشروطها من لدن جمهرة المؤرخين والباحثين في مواريث الماضي، هي ان إحراز أي تقدم في هذا المجال السوسيولوجي والمعرفي الوعر والشائك، مرهون – قطعا"وفرضا"- بامتلاك الحدّ الأدنى من فضائل (الوعي التاريخي) الذي من دون حيازة ابجدياته المسبقة، لا تعدو البحوث والدراسات سوى ضربا"من العبث الفكري والسفسطة الخطابية. ذلك لأن من خصائص هذا النمط من الوعي الحيلولة دون تأطير رؤى الفاعل الاجتماعي وتحديد تفكيره بمعطيات الراهن الزماني والمعيش المكاني وحسب، بحيث يميل الى موضعة الحدث و / أو الواقعة ضمن نطاق بعد واحد معزول ومفصول، مجردا"إياهما من أية رابطة أو علاقة ببقية الأبعاد الأخرى التي تمنح للظاهرة قيد الدراسة خصوصيتها ومكانتها. أخيرا"، انظروا الى موسوعات المؤرخ العملاق (فرنان برودويل) وتعلموا كيف تسرد مفاعيل التاريخ وتجرد تفاصيل المجتمع.   

***

ثامر عباس – باحث عراقي

إهداء إلى المحللة النفسية الفرنسية

جيزلين كورتي

Ghislaine Dubos-Courteille

لما تقدمه من جهد في رابطة الفضاء الفرويدي الدولي مع خالص التقدير والأمتنان

***

يعرض لنا "سيجموند فرويد" في مقالة بعنوان صياغات حول مبدأي الأحداث النفسية التي ترجمها من اللغة الألمانية الاستاذ محمد أمين، ويبين فيها فرويد بقوله يبتعد العصابي عن الواقع لأنه يجده – كله، أو أجزاء منه – لا يطاق، حيث يظهر النوع الأكثر تطرفًا من هذا الابتعاد عن الواقع في بعض حالات ذهان الهلوسة، ومن خلال ذلك يتم إنكار الحدث الذي تسبب الجنون. ويرى التحليل النفسي بأن كل عصابي يفعل نفس الشيء مع جزء من الواقع، وتكون المهمة الآن أمامنا لفحص تطور علاقة العصابي والناس بشكل عام بالواقع، ومن ثم دمج المعنى النفسي للعالم الخارجي الحقيقي في بنية تعاليمنا، ونقول بمعنى مقارب كيف تم تأسيس ما أكتسبناه من قيم وتعاليم في مراحل طفولتنا وذهب إلى أعماق النفس، إلى اللاشعور – اللاوعي؟ . وهو الذي يشكل كل تعاملاتنا مع أنفسنا أولًا ومع الآخرين مرة أخرى، ونستطيع القول هذا الذي يعود مرة أخرى في سلوكنا وتعاملنا يتراوح بين الشدة " القوة – القسوة- والاعتدال "، وبين الأقل شدة وهو الخفيف، لذا لا يوجد شيء يعود بنفس ما تم كبته وبنفس الوقت القوة، أو الشدة لدى الفرد نفسه في مواقف الحياة اليومية، أو في الجلسات العلاجية، أو حتى مع الآخرين وما يهمنا في الجلسة العلاجية بالتحديد الفروق الفردية لدى الفرد في مواقف متعددة أثناء العمل العيادي ويوجزها " بينيه " في العام 1895 عدة عوامل نستعير منه ما يهمنا في العمل التشخيصي والعلاجي وهي عامل التذكر، وعامل التخيل، وعامل الإنتباه وعامل قوة الإرادة، هذه العوامل هي التي يمكن ملاحظتها في الجلسة العلاجية فضلا عن عوامل أخرى، ويضيف " فرويد" " إن إدخال عملية الكبت في نشأة العصاب قد سمح لنا بالحصول على نظرة ثاقبة لهذا الارتباط"، وعليه يمكننا أضافة ما يتعلق في مجال الفروق الفردية في درجة وجود هذا الكبت وشدته، أو اعتداله، هل هو كبت أولي، أم كبت ثانوي، وما زال حديثنا عن الفروق الفردية في الفرد نفسه حيث يختلف الأداء الأقصى من القبول التام أحيانًا، وأحيانًا أخرى في الرفض الواقعي وهو يظهر في التحويل – الطرح، وكذلك أسلوب التأويل بشكل أوضح بسبب المقاومة التي يبديها المتعالج.

ويمكننا أن نلاحظ ونحن نحاول معرفة بعض مما يدور في دواخلنا لابد أن نعرف بأن الاعراض والسلوك ما هي إلا مظاهر خارجية لعملية اللاشعور – اللاوعي وتخضع بالتأكيد لمبدأ الحتمية النفسية، وهذه الحتمية تأخذ أبعاد مختلفة في المواقف اليومية، ولو تعمقنا أكثر تختلف بالتأكيد عند الفرد نفسه وهي تعني اختلاف قدرات وسمات الفرد من حيث القوة والضعف، وهي ليست على متصل واحد بنفس التناغم، بمعنى أدق ليست بنفس الشدة، وكما علمتنا سيكولوجية الفروق الفردية بأن الفرد في داخله مشاعر تتغير بالشدة والضعف ليس خلال اليوم الواحد فحسب، إنما خلال الساعة الواحدة، أو في الثواني، لا ربما إذا قاربنا الحقيقة ومست جزء يسير مما سبب المعاناة له فذهب يطلب المشورة، أو العلاج من المختص بهذا العمل، وما نجده في الجلسات العلاجية، وبالاخص التحليل النفسي، تتغير مشاعر الشخص طالب التحليل بين ثانية وأخرى خلال الجلسة العلاجية، وربما في كل العلاجات الأخرى ولكنها لا ترصد وتأخذ مأخذ الجد في التغيرات النفسية الداخلية، ولا نريد أن نقول ما يجري في الجلسات العلاجية الأخرى.

 أما في التحليل النفسي تبدو لنا معاناة الشخص واضحة ويعلنها بعدة طرق منها الرفض، الإنكار، أو النقل وآليات دفاعية آخرى "ميكانيزمات" مثل الهروب من مواجهة ما يعرف وَسببَ له هذا الألم وهذه المعاناة، وهو في نهاية الأمر التعمق في الحياة النفسية في أعماقها السحيقة كما يذكر " فرج طه" في كتابه علم النفس وقضايا العصر.

نعرف أن سيكولوجية الفروق الفردية تهتم بما يدور داخل الفرد نفسه أولًا، وفي طريقة التفكير، وفي الذكاء، ودراسة القدرات الأخرى، وفي التعامل مع المواقف الحياتية وحل المشكلات، وكذلك في معالجة ما يمر به من مواقف صعبه، ربما تؤدي إلى تكوين حالة نفسية عصابية، أو ذهانية، والأمر سيان في كيفية التهيؤ لها ومواجهتها، وتبدو أكثر وضوحًا عندما يقرر بأن هذه المواقف بدأت تأخذ فعل التأثير القوي على السلوك، وربما تتحول إلى حالة مرضية عصابية " نفسية" أو ذهانية " عقلية" وهي أشد وأقوى في مفعول تأثيرها، إذا رافقها عامل الاستعداد + عامل الاعداد + تكوين الفرد وقوة دافعيته نحو هذا الحال الذي هو أساسًا هروب من المواجهة، مع الأختلاف بين الأفراد.

 أن الفروق داخل الفرد في المواجهة تختلف في الجلسة النفسية العلاجية الواحدة، في أولها، أو خلال مسارها نحو القبول أو الرفض أو اللامبالاة وهي كثيرًا ما تحدث ويعرفها معظم المشتغلين في العلاجات النفسية، وتظهر بشكل أعمق في التحليل النفسي، فضلا عن حضور أو تبرير عدم الحضور وهو كذب على النفس. وإن حضر للجلسة العلاجية التي هي أساسًا بناءً على رغبته في التخلص مما يعانيه من الآم نفسية داخلية دفعته إلى طلب العلاج، وقول " فرويد" لا نريد من المريض إلا شيئًا واحدًا هو أن يصل بنفسه إلى حلوله وقراراته " محاضرات تمهيدية في التحليل النفسي، ص 480"، فيكون في هذه الحالة فروق في درجة تفاعله، وهي فروق في الأداء الذي يرغب به المحلل النفسي ويهرب منه طالب التحليل والمشورة النفسية، ولا يمكن التعميم لهذه الحالة دائمًا، بل تتناوب بين الموافقة وضعفها، بين التفاعل واللامبالاة، وخير دليل يقدمه لنا سيجموند فرويد بمثال الشخص الذي ظل يعاني من ألم السن ليلة كاملة، وفي الصباح يذهب إلى طبيب الأسنان طالبًا منه العون لمساعدته، وما أن يبدأ الطبيب بفحص السن المريض حتى يبادر الشخص بدفع يد الطبيب المعالج لا إراديًا، فهذا الحال ينطبق على الشخص الذي دعته معاناته إلى طلب المشورة والعلاج من المحلل النفسي، وكلما عرف المختص في العلاج النفسي هذه الفروق في الفرد نفسه كلما أصبحت خطوة رئيسة في عملية مساعدة الشخص طالب العلاج ويمكن تسهيل المهمة له، ومع ذلك توجد فروق فردية بين الأفراد في مثل هذا النوع من العلاج، وفي درجة الاضطراب . ويقول المحلل النفسي المصري "محمد درويش" في مقابلة له على منصة( × ) بتاريخ 20 / 9 / 2024 مع د. أماني الجبرتي، في الجلسة العلاجية نتعامل مع خصوصية الفرد فمثلا من يعاني من الوساوس عند الفرد يختلف عن آخر له نفس الاعراض، ولكن خلفيته تختلف عن ذلك الآخر، في حدة الاعراض، وكذلك موقف الشخص، يختلف من داخل نفسه، وكذلك الأمر بين الأفراد بمعنى وجود أختلاف الأفراد بعضهم عن بعض من حيث قدراتهم وسماتهم، ففي القدرة الواحدة يلاحظ أن الأفراد يختلفون من حيث القوة والضعف والمتوسط في الحالة التي يعانون منها في الاضطراب الوسواسي مثلًا، أو حالة المخاوف المرضية، أو الاضطرابات العصابية الأخرى، وهو تأكيدًا لرأي المحلل النفسي " محمد درويش"، وهذا النوع من الفروق بين الأفراد يقودنا إلى مقارنة الفرد بغيره من الأفراد ممن يعانون من نفس اضطرابه، أو بيئته في ناحية من النواحي النفسية وتكوين بنيته الأولى في نشوء هذا الاضطراب.

ونضيف لذلك من حيث المقاومة التي يبديها المتعالج في الدرجة التي يكون فيها من الشدة أو من الاقل حدة ولكنها تسبب له المعاناة، وقول " سيجموند فرويد" نحن ننتظر أن تختفي المقاومة وأن تنسحب الشحنة المضادة حالما يتسنى للمريض أن يتعرفهما عن طريق عملية التأويل، ويضيف "فرويد" لكن ما هي القوى الغريزية الدافعة التي تمكننا من بلوغ هذه الغاية ؟ نحن نعتمد أولًا على رغبة المريض في الشفاء، وهي الرغبة التي حدت به أن يمتثل للتحليل وأن يتعاون معنا، ثم نعتمد بعد ذلك على ذكائه، نعززه بما نقدمه له من تأويل، ولا شك أن من الأيسر على المريض أن يتعرف على المقاومة بذكائه، وأن يكشف المادة اللاشعورية – اللاواعية التي تناظرها " فرويد، محاضرات تمهيدية في التحليل النفسي، ص 483" وهنا تبين لنا أهمية الفروق الفردية لدى الفرد نفسه، ومن جاء يطلب العلاج، حيث يتدخل عامل الذكاء، وهو قدرة تختلف من فرد لآخر، ومن موقف لآخر أثناء الجلسة العلاجية، ولا يمكن تعميمها على كل الأفراد، وفي مختلف المواقف أثناء الجلسات، فالنفس البشرية تتغير بين ثانية وأخرى، ودقيقة وأخرى، وجلسة وأخرى.

 لذا فالجانب الدينامي مهم في حالة الفروق لدى الفرد، وكذلك في استجابته، لأن الحالة تتغير ويكون تعامل الفرد معها يتغير أيضًا، نحو الأحسن أو نحو الأسوأ . ويمكننا القول بأن امكانات الفرد في التخلص من معاناته يكون سبب مهم في العلاج، فضلا عن درجة الدافعية التي تحدد مدى استفادته من هذه الجلسات ودرجة اقباله وتقبله، ولعلنا نكون أكثر صدقًا حينما تكون الفروق بين الأفراد هي درجة الدافعية نحو التخلص من كم المعاناة وشدتها.

***

د. اسعد شريف الامارة

 

في المثقف اليوم