قضايا

قلّة في عالم الجنوب ظلّت في مأمن من "غواية الغرب"، ولو رمنا توصيف هذه الغواية بشكليها الطوعي والقسري، لقلنا هي وصفة محكمة من الاستلاب والاستمراء. تنبّهَ جملة من المفكرين الكبار، ممّن عملوا على تفكيك هذه الظاهرة في حدود الموضوعية العلمية، إلى ضرورة فهمها والتوقّي من آثارها. منهم الراحل حسن حنفي، والمفكر نعوم تشومسكي، وعالم الاجتماع شموئيل نوح إيزنستادت. في كتاب من تأليف الإيطالي ماسيمو كامبانيني حوْل المفكر المصري حنفي، اعتبر أنّ علاقة العرب المضطربة بالغرب، تعود في شقّ واسع منها إلى عدم التناصت. لاختلاف "الطبقات الفهمية" على غرار تنافر "الطبقات الصوتية"، وكأنّ هناك تفاوتا في التسامع يصدّ عن الإصغاء السويّ. وأنّ العرب ليس أمامهم سوى تطوير نظر علمي، بحسب ما دعا إليه حنفي في "مقدمة في علم الاستغراب"، للفوز بتخاطب سوي مع الغرب، والخروج من ثنائية الغواية المضلّلة والكره الأعمى.

وأمّا مع تشومسكي الذي قضى ردحا من حياته ولا يزال في مقارعة سطوة الغرب على العالم، فهو يدعو إلى تحرير الوعي الجمعي من ضلالاته، بهدف التحرر من بطاركة العالم، ولهذا عدَّ نزع تلك الغشاوة بمثابة العمل العلمي الموازي لاهتماماته الألسنية. فكلاهما يسير قدما لترسيخ منظور موضوعي مجرّد لما يحفّ بالإنسان من ظواهر. في حين مع عالم الاجتماع شموئيل إيزنستادت فقد جاءت النظرة من باب مراجعة مفهوم الحداثة الغربية المحوري، بهدف التحرر من ذلك الإغواء الآسر. فلطالما ساد النظر إلى الحداثة بمثابة "الحاوِية المعبَّأة"، وأن المجتمعات التوّاقة إلى هذا المغنم، لا مناص لها من القبول بالحمولة كلّها. وهو ادّعاء ساد على مدى عقود طويلة في النظر إلى هذا المنجَز البشري، وخلّفَ أنواعا شتى من الاستلاب. كشف إيزنستادت زيف هذا الفهم الأحادي للحداثة، وما ينطوي عليه من تجنٍّ بصهْرِ الحضارات في بوتقة الحضارة الغربية، وعمِل على إدراج تحوير جذريٍّ بطرح مقولةِ "الحداثات المتعدِّدة"، في مقابل الحداثة الوحيدة. فعالَم متعدِّدٌ هو أحوج ما يكون إلى فهْمٍ متعدِّدٍ، هكذا راعى إيزنستادت ديناميات التعدّد، ومن ثَمّ إمكان أن تبنيَ تكتلات حضارية جنوبية حداثتها من داخل أنماطها الخاصة، بعيدا عن الخيارات القسرية الواحدة.

فالإشكال الذي نعيشه مع "غواية الغرب" وسحره، أن الأمر يتمكّن من شرائح واسعة في مراحل مبكرة، فيطمس إحساسها الفطري ويفتكُ بمقدّراتها الذهنية، لفقدان المضادات الحيوية التي تحدّ من انتشار بريقه الخادع. فالانبهار داء مستفحل، في الشارع والجامعة، وفي اللغة والفرجة، ولدى المثقفين والأمّيين على حد سواء، بشكل يدعو للدهشة. قبل مغادرتي البلاد العربية، أي منذ زهاء ثلاثة عقود، لما كنت أتّقد حماسا للتغيير والتجديد، لا أزعم أني كنت معافى من هذه الغواية. فقد كانت البوصلة متجهة صوب الغرب، كان الآخر -أقصد الغرب- هو النعيم بالنسبة إليّ، وكان يصعب أن أرى بعين الشاب الغضّ ما أراه اليوم بعين تطلّ على الستين. والمسألة ليست أن يصير المرء طاعنا في السن حتى يصحو، بل هي المعايشة والتجربة لمن تيسر له ذلك والعلموية في النظر للأشياء لمن عازه التواصل المباشر. فعملية الصحو، أو لنقل التطهر، تشبه الدخول إلى مغطس، فيه التداوي بالذي كان هو الداء، أي بالغرب ذاته، بالانغماس فيه بحلوه ومرّه، والعيش في تجاويفه وفهم روحه.

فما معنى أن يزحف ألوف البشر نحو الغرب وهم يمنّون النفس بما يشبه جنة الخلد يدفعهم الإغراء والإغواء؟ ليجدوا أنفسهم يتكدّسون في الشوارع والمحطات، وحول الكنائس ودور المساعدات كالسردين، ولا يعود صدى مذلّتهم وحسرتهم إلى الديار. إنها غواية الفراش حول النار التي تغدو جزءا من تكوينه الغريزي وممّا يؤجج إغواء الآخرين، ممن يصرّون على غيّهم. فليس إغواء الغرب مزاج شبيبة متنطّعة، كما نفسّر الأمر عادة، بل هو نتاج وعي مقلوب، غالبا ما تشيعه شرائح مهزوزة تعلو المنابر، يُفترض أنها واعية وتملك من التمحيص والتمييز الكافيين لفرز الغثّ من السمين. فـ "الأجداد يأكلون الحصرم والأبناء يضرسون" بحسب المقول التوراتي. ولعلّ الإشكال كامن في التعاطي مع ما يصدر من الغرب بنفسية خائرة، تتراجع فيها النباهة المطلوبة، ويجري استبدالها بما يشبه التصديق الساذج، وهي حالة نفسية تشبه حالة المأسور النفسي.

في كتاب مهمّ للأنثروبولوجي الفرنسي جان-لو آمسال بعنوان "إسلام الأفارقة.. الخيار الصوفي" (2018)، يرصد فيه مساعي حازمة من قِبل أطراف أكاديمية غربية لإبعاد شعوب جنوب الصحراء عن حاضنتهم المغاربية، وفك أواصر الصلة بين تومبكتو وفاس والقيروان والزيتونة. ومحاولة قطع طريق التواصل الضارب في عمق التاريخ بين تلك الحواضر، وذلك بالعمل على اختلاق ما يُشْبه الهوية "الإفريقية الزنجية" في مقابل الهوية "الإفريقية المغاربية". وكما يشرح جان-لو آمسال عادة ما يُعرَض "المخزون الحضاري الأسود" في مقابل "المخزون المغاربي" و"المخزون الشرق أوسطي" و"المخزون الخليجي"، وهي محاولة لفصل المخزون الإفريقي عن مجاله الطبيعي. يبيّن آمسال أن مدرسة مرسال غريول الأنثروبولوجية قد لعبت دورا حاسما في هذا الشرخ، إلى حدّ أنها حولت اللّغةَ العربية في غرب إفريقيا إلى بلوى حضارية، أضحى معها الحرف العربي، في لغات بلدان ما وراء الصحراء، حرفًا لكتابة التمائم والطلاسم والرُّقى والتعاويذ، مما أضفى على العربية عنوان التخلّف والجمود.

لماذا أوردنا هذا الحديث بشأن محاولات زعزعة المكون الحضاري الإفريقي؟ نقول ذلك لأن غواية الغرب قد بدأت مع تفكيك إيمان الأفارقة بذواتهم وأن لهم رصيدا جامعا، يستظلون بظلّه في الأيام العصيبة. في حين مع غياب ذلك الرصيد، أو في حال طمسه، فمن السهل تمرير الأساطير والأخاييل في الوعي الجمعي والثقافة الهشة، فتمسي المعيارية الغربية الأكثر حضورا في الهشيم الثقافي.

السؤال المطروح هو ما العمل أمام غواية الغرب؟ فالملاحظ أن جملة من الأراجيف تسري في عالم الجنوب، بأن الغرب حاضن المثقفين والدارسين والمبدعين الوافدين من عالم الجنوب. فكم من فلاسفة جاءوا إلى الغرب من شرق أوروبا، مع انهيار جدار برلين، صاروا عمال حضائر وصنّاع بيتزا؟ وكم من شعراء وفدوا من المشرق قضوا حياتهم حراسا في العمارات السكنية، لتُقبَر معهم أحلام الفكر والثقافة إلى الأبد؟ ليس لأن الغرب يسدّ الأبواب أمامهم، ولكن لأن هناك بنية ثقافية حضارية تعليمية ينبغي على الوافد امتلاكها وهي ليست بالأمر الهين.

الشاعر الإريتري الإيطالي حميد بارولي عبدو في كتاب بعنوان "سيرة الامتنان" (2023)، وهو عبارة عن سيرة ذاتية، أو لنقل خلاصة تجربة في العمل في مجال الهجرة والمهاجرين في إيطاليا، اعتبر أن المتاجرة بالمهاجرين في بلد الرحيل وبلد النزول هي عبودية جديدة. ومن ضمن ما يورده في الكتاب حديث حول ما يعرف اليوم بـ "النسوية الإسلامية" والتحمس المفرط لها في إيطاليا -وكأن المرأة الإيطالية التي نالت حق الطلاق (1970) وحق الإجهاض (1978) سباقة في هذا المجال. يكشف أن الجمعيات النسوية "المدافعة" عن المرأة العربية، ضحية "الذكورية العربية المفرطة"،كما تصوَّر، تجني من كل حالة تفكيك أسري (طلاق) 2000 يورو، وفي الوجه الآخر من الميدالية -على ما يورد بارولي عبدو- تجد المرأة العربية المهاجرة الأكثر دحرا في سوق الشغل ومعاناة من البطالة القسرية.

ما يتبين جليا أننا كثيرا ما نصنع الأساطير حول الغرب ونقع ضحية لها، والنجاة هو في تفكيك الأساطير والنظر للأمور بواقعية.

***

د. عزالدّين عناية

أستاذ تونسي بجامعة روما، إيطاليا

يركز خطاب التضخيم في السرديات التاريخية على شخصيات معينة، ويُضفي عليها طابعًا أسطوريًا. يساعد هذا في خلق صورة قوية في أذهان الناس، مما يجعل بعض الاشخاص جزءًا من الهوية الجماعية، خطاب التضخيم يعيد تفسير الأحداث التاريخية بطريقة تدعم الأجندات الحالية، مما يساعد في تشكيل الوعي الجمعي بناءً على روايات مُعينة بدلاً من الحقائق الموضوعية ويساعد في إعادة تشكيل التاريخ بما يتناسب مع الاحتياجات الإيديولوجية للجماعات الحاكمة، ان مبالغة السرديات التاريخية في إنجازات بعض الأفراد أو المجموعات بناء على شكليات الجسد، يؤدي إلى تصوير غير دقيق للحقائق. هذه المبالغات تُستند على تفسيرات غير علمية تعوق الفهم الدقيق، حيث تحتوي على الكثير من عناصر المبالغة الشكلية في الأساطير، التوفيق بين دور السرديات في بناء الهوية ودقتها العلمية يتطلب منهجية متوازنة تأخذ في الاعتبار العناصر الثقافية والتاريخية دون التضحية بالدقة العلمية، بالتالي يجب أن يكون هناك تحليل نقدي للسرديات التاريخية لفهم السياق الذي نشأت فيه وفهم كيف تؤثر السرديات على الهوية.

دور السرديات التاريخية في تشكيل الهوية

لم يقتصر دور السرديات على العلوم الاجتماعية فقط، بل امتد أيضًا إلى النظريات العلمية ،تستخدم السرديات لتشكيل الهوية المجتمعية، مما يساعد في فهم الظواهر الاجتماعية والسلوكية للجماعات ،كما تُستخدم السرديات لشرح الأحداث التاريخية وتأثيرها على المجتمعات ،بعض السرديات العلمية تؤثر في كيفية تطوير الأفكار والنظريات في مجالات متعددة، مما يُظهر تداخل العلوم الطبيعية والاجتماعية ،كما تساعد السرديات في تبسيط النظريات العلمية المعقدة، مما يجعلها أكثر فهمًا للجمهور العام ، دور السرديات يمتد إلى كلا المجالين، حيث تُستخدم في العلوم الاجتماعية لبناء الهوية وفي النظريات العلمية لتفسير الظواهر وتعزيز الفهم.

العماليق في السرديات التاريخية

ظهور مجموعات بشرية او افراد في السرديات القديمة (عماليق) لا تتوافق مع طبيعة الحياة، بعض السرديات تتحدث عن عمالقة أو كائنات ضخمة غالبًا ما تُعتبر أسطورية أو رمزية، الكثير من هذه السرديات نشأت في سياقات ثقافية ودينية كوسيلة لتفسير الظواهر الطبيعية أو الأحداث التاريخية وليست بالضرورة تعبر عن حقائق علمية، اذ لا توجد أدلة علمية قوية تدعم وجود عمالقة كما هو موصوف في السرديات. الدراسات الأثرية والبيولوجية لا تشير إلى وجود كائنات بهذا الحجم، في بعض الأحيان يُستخدم مفهوم العمالقة للتعبير عن قوى أو أحداث تاريخية خارقة، وليس ككائنات حقيقية. يرمز مفهوم العمالقة إلى القوة والتصدي للتحديات الكبرى، رغم وجود كائنات كبيرة في الطبيعة، مثل الديناصورات، فإنها لا تتوافق مع أوصاف العمالقة في السرديات. الحياة على الأرض تتبع قوانين بيولوجية محددة، تتوافق سرديات العمالقة مع الجوانب الثقافية والرمزية أكثر من توافقها مع الحقائق العلمية كما تعتبر هذه السرديات جزءًا من التراث الثقافي، لكنها لا تعكس واقع الحياة البيولوجية المعروفة.

التفسير العلمي

هناك تفسيرات علمية بديلة لأصل الأساطير المتعلقة بالعمالقة ولكائنات ضخمة  بعض الأساطير قد تكون تحريفًا لأحداث تاريخية حقيقية، حيث تم تضخيمها بمرور الزمن لتصبح أساطير عن عمالقة ،قد تُعزى بعض الأساطير إلى اكتشاف بقايا عظام كبيرة من الديناصورات أو كائنات قديمة، والتي تم تفسيرها بشكل خاطئ كعظام لعمالقة، يمكن أن تؤدي التغيرات المناخية إلى ظهور كائنات كبيرة في العصور القديمة، مما يمكن أن يُفسر في الأساطير على أنه كائنات ضخمة ، تمثل الأساطير عن العمالقة الخوف من القوى الطبيعية أو التحديات الكبيرة، مما يعكس عمق الصراعات الإنسانية ،أحيانا تستخدم التضخيم كعناصر الدرامية مثل العمالقة لجذب الانتباه أو تعزيز قيمة القصة، مما يسهم في انتشار هذه الأساطير ،تقدم التفسيرات العلمية البديلة رؤى متعددة حول أصل أساطير العمالقة، مما يساعد في فهم كيفية تطور هذه القصص عبر الزمن وتأثيرها على الثقافات المختلفة.

الروابط بين اساطير الشرق الاوسط

هناك روابط وتأثيرات متبادلة بين الأساطير في الشرق الأوسط، خاصة بين الحضارات المختلفة.  ساهمت طرق التجارة والهجرة في تبادل الأفكار والمعتقدات بين الحضارات، مما أثرى الأساطير وأساليب السرد ، تتقاسم الأساطير مفاهيم الحياة، الموت، والبعث، مما يعكس تجارب الإنسان المشتركة بعض الأساطير قد تم تعديلها أو إعادة صياغتها في حضارات مختلفة، مما يدل على التأثير المتبادل ،بعض النصوص القديمة تحتوي على إشارات إلى أساطير متعددة، مما يُظهر كيف كانت هذه الثقافات تتفاعل وتتأثر ببعضها البعض وتُظهر روابط وتأثيرات متبادلة بين الأساطير في الشرق الأوسط وكيف أن الثقافات المختلفة كانت تتشارك في الأفكار والمعتقدات، مما ساهم في تشكيل أساطير التضخيم الغنية والمعقدة.

التحليل الفلسفي لهذه السرديات

التحليل الفلسفي لسرديات العمالقة التاريخية يتناول كيفية تشكيل هذه السرديات لوعي المجتمعات وتاريخها. تستند سرديات العمالقة غالبًا إلى مزيج من الأسطورة والحقائق التاريخية. يتم استخدام الأبطال العمالقة كرموز للقوة والصمود، حيث تُعتبر تجسيدًا لقيم الشجاعة والكرامة، يمثل العمالقة في بعض الأحيان التحديات الكبرى التي تواجهها المجتمعات. كما يُنظر للعماليق كرموز امل في النضال من اجل التحرر المستقبلي (اسطورة المخلص) حيث من خلال سرديات العمالقة يمكن تغيير المعايير عبر الزمن، ويتيح فهمًا أعمق لتطور الفكر، يمكن أن تُخضع هذه السرديات لنقد فلسفي، حيث يُنظر إليها كأدوات لصياغة الروايات التاريخية، مما يتطلب التمييز بين الحقيقة والخيال، تقدم سرديات العمالقة التاريخية فرصة لفهم عميق للتفاعل بين الفلسفة، التاريخ.

مقاربة التحليل النفسي والفلسفي

تختلف مقاربة التحليل النفسي للسرديات التاريخية حول العماليق عن المقاربة الفلسفية في عدة جوانب رئيسية، التحليل النفسي يركز على الدوافع النفسية، اللاوعي، والصراعات الداخلية للشخصيات في السرديات، يسعى لفهم كيف تعكس هذه السرديات احتياجات ورغبات الأفراد والمجتمعات. المقاربة الفلسفية تركز على القيم، المبادئ، والمعاني تبحث في الأسئلة الوجودية والأخلاقية، بينما يركز التحليل النفسي على الجوانب النفسية والدوافع الفردية. سرديات العمالقة تؤثر بشكل كبير في العقل الإنساني الا انها يمكن أن تؤدي إلى عدة آثار سلبية، هذه السرديات تعزز من الأساطير والخرافات، مما يعوق الفهم العلمي والتاريخي للواقع ،ويمكن أن تؤدي هذا إلى تشويه الحقائق التاريخية ويؤثر على دراسة التاريخ بشكل موضوعي كما تقلل من أهمية الأحداث الحقيقية، تُستخدم سرديات العمالقة كأدوات لتبرير السلوكيات الاجتماعية والسياسية، مثل التمييز أو الهيمنة، مما يعزز من النزعات الاستبدادية، تعزيز هذه السرديات ما يمكن أن يؤدي إلى تكوين هويات زائفة قائمة على أسس غير موضوعية ومنها شكلاني ،الجسد مقابل قوة العقل، مما يخلق انقسامات اجتماعية، التركيز على شخصيات خارقة يُشعر الأفراد بأن النجاح يعتمد على قوى ميتافيزيقية خارقة، وليس على الجهد الفردي أو الجماعي، مما يقلل من الدافع لتحقيق الأهداف ، تؤدي هذه السرديات إلى انفصال الأفراد عن واقعهم، مما يزيد مشاعر الاغتراب وعدم الانتماء ، يصاب الأفراد بمشاعر الإحباط أو عدم الكفاءة إذا تم مقارنة أنفسهم بشخصيات أسطورية، مما يؤثر سلبًا على الصحة النفسية ،بالتالي  يتضح ان استمرار سرديات العمالقة يمكن أن يكون له تأثيرات سلبية متعددة تؤثر على الفكر والثقافة والمجتمع بشكل عام ،حيث  تناولت هذه السرديات مسألة الإرادة الحرة مقابل القدر، لكنها اثارت تساؤلات حول مدى تحكم الإنسان في مصيره ، مما فتح المجال لمناقشة القيم الأخلاقية والمعايير الاجتماعية، تقدم سرديات العماليق الأسطورية إطارًا غنيًا للتحليل النفسي والفلسفي، حيث تعكس القضايا الوجودية والأخلاقية والإنسانية العميقة التي لا تزال تتردد كالصدى في الفكر المعاصر.

***

غالب المسعودي

ذلك الشغف الفرنسي بالرونق، والالتزام بالارتقاء بمبادئ وقيم البشرية في قرن لويس الخامس عشر، ذلك البريق المشع في عصر ڤولتير وروسو، هو ما غيّر فكر نيتشه وجعل منه فيلسوفًا ألمانيًا بنكهة فرنسية.

لا يمكن للمرء أن يتكهن، إجمالاً، بما قد يصيبه عندما يقرأ كتابًا ما، خصوصًا حين تصبح قابليته الفكرية مندمجة مع حاضره الملعون. تلك الرغبة في التحرر من المذهب المثالي الألماني ونمطه الحديدي، أرهقت كاهل نيتشه إلى درجة تمجيده لدقة المفكرين والمثقفين الفرنسيين في تحليل الوضع البشري، من دولا روشفوكو و مونتين وحتى باسكال رغم نقده لمسحيته، لكنه لطالما أعجب بعمقه النفسي ونمطه المتأني في إخلاصه للرقي بالنفس البشرية، بدل الخوض في دهاليز الأفكار المعقدة واللاإنسانية.

بل إنه صرّح في غسق الأوثان أنه تلميذ القرن السابع عشر من الفلسفة الفرنسية، وأن له قواسم مشتركة مع المفكرين الفرنسيين أكثر مما له مع أبناء جلدته الألمان. ولعل تلك الأسطر التي مجّد فيها شك مونتين ورغبة هذا الأخير في نقد السلطة والقمع والرهبنة الكنسية، هي التي دفعت نيتشه إلى جلد نظام الأخلاق الذي وضعته الكنيسة، بوصفه أخلاق العبيد والضعفاء.

فريدريش حذّر بكل ما أوتي من قوة من الثقافة الألمانية، التي رأى فيها ترفّعًا سلطويًا على البشرية بأسرها، ووصف الثقافة الفرنسية كبوابة للانفتاح على العالم.

لطالما تساءلتُ: لماذا كان لنيتشه أسلوب كتابة شاعري، كشظايا نارية تحصد الأخضر واليابس؟

فبعد اطلاعي على جل المفكرين الفرنسيين و قراءتي لكتب نيتشه، فهمت وبعمق من أين استوحى فريدريش نمطه: مزجٌ بين شاعرية فرنسية وقوة ألمانية جارفة.

بل إن تأثير ستاندال وفرانس أناتول كان واضحًا بين أسطره.

وبذلك استطاع تكوين فلسفة متحررة من ثقل الميتافيزيقا، التي كانت تُهيمن على الفكر الألماني بعد كانط وهيغل.

جاءهم نيتشه بمصباح ومطرقة، ليبدأ عمله التدميري من أجل إعادة بناء شاكلة جديدة من الفكر الأوروبي: فلسفة حيّة، حرّة، ومتفردة، تقطع الطريق على توهان الألمان وتعصبيتهم، وتفتح السبيل نحو تكوين نموذج جديد للإنسان الأعلى.

***-

حبيب مركة

 

لا أجازف لو قلت إن مانويل كاستلز، عالم الاجتماع الإسباني، هو أبرز مَن درَسَ التأثير العميق للإنترنت على حياة المجتمعات ومصادر عيشها، فضلاً عن تحول علاقة الأفراد بالسلطة السياسية. في عام 1989، أصدر كتاب «المدينة المعلوماتية»، وتلاه بكتاب «عصر المعلومات» من ثلاثة أجزاء، صدر أولها في عام 1996، وتمحور -كسابقه- حول صيرورة شبكة الإنترنت محوراً للحياة اليومية، ذاتيّ التوسع، وعابراً للحدود والحواجز الثقافية.

في عام 1996، كانت شبكة الإنترنت متوفرة في بلدان قليلة، ولم تكن قد اتصلت بالهواتف النقالة، كحالها اليوم. ولذا فإن الحديث عن تحولات عميقة في المجتمع والثقافة والاقتصاد، وتحوُّل الهوية الفردية والجمعية، لم يخلُ من مجازفة، لولا أن المتحدث، البروفسور كاستلز، كان قادراً على كشف مسارات التحول ومستوياته. وأعتقد أنه أدرك مبكراً منطق التحول الاجتماعي، لا سيما تراجع رأس المال لصالح البيانات الضخمة السريعة. ولعل ميوله الماركسية سهَّلت عليه التحرر من هيمنة الفكرة القائلة بمحورية رأس المال في أي نشاط حيوي.

أهم المحاور التي عالجها كاستلز هي:

1- في هذه الأيام، تمثل المعلومات قطبَي الرَّحَى التي تدور حولها الحياة الاقتصادية والعلاقات الاجتماعية. في الماضي، كان المال والأشخاص، خصوصاً المديرين والقادة والمستثمرين، قادة النشاط الحياتي في المجتمع. أما بعد ثورة المعلومات، فقد بات المال والنفوذ في يد المسيطرين على مصادر المعلومات أو المؤثرين على نشاط الشبكة. ضخامة المعلومات وسرعة الوصول إليها، والقدرة على فرزها وتحويلها إلى أرضية للقرار، سهَّلت تحويل الفكرة إلى ثروة، كما يسَّرت انتقاء المعلومات وتحديد الاتجاه الذي تسير فيه، حتى لحظة وصولها إلى المتلقي. إن اختيار وتوجيه المعلومات هما العامل الأهم في تحديد وجهة القرار. وقد بات هذا العامل في يد صناع المعلوماتية وشبكاتها.

2- رغم وجود أشخاص وهيئات يتحكمون -فعلياً- في شبكات المعلومات وما ينتج عنها، فإن الشبكة بذاتها قابلة للتوالد والتوسع خارج أي سيطرة مركزية. بعبارة أخرى، فإن جوهر مفهوم الشبكة يكمن في الاتصال اللحظي لكل عنصر بجميع العناصر الأخرى، من خلال قنوات قد تختفي أو تتلاشى، لكن سرعان ما يبرز بديلها. طبيعة الحياة الشبكية توفر الفرصة للمحافظة على كل مادة في تلافيفها المعقَّدة، حتى تتاح الفرصة لظهورها من جديد. من هنا، فإن من يتوهم أنه يتحكم في الشبكة، فهو إنما يتحكم في جزئه الخاص، لأن الامتدادات اللانهائية تواصل التمدد كل لحظة، بحيث يستحيل -مادياً- أن يتحكم فيها شخص واحد أو أشخاص محددون.

3- فضاء التدفق: تخيلْ شاباً في مقتبل العمر، يقطن قرية في الصين أو البرازيل أو مصر، يطلق من هاتفه المحمول أو حاسبه الشخصي مادةً على الإنترنت تسترعي اهتمام عشرات الآلاف على امتداد المعمورة، فيتحول هذا الشاب إلى بائع أو مؤثر أو صانع تيار، يزاحم -بالضرورة- القوى النشطة في الساحة. أثمرت هذه الظاهرة الجديدة تفككَ المئات من الشركات الضخمة المعمِّرة، والصحف ومحطات التلفزيون وحتى الجماعات الدينية والسياسية، فضلاً عن تقلص التأثير المشهود للمدرسة والعائلة على تشكيل هوية الأبناء وذهنيتهم.

لفكرة «التدفق» موقع محوري في رؤية كاستلز، وهو ينظر دائماً في المنطقة التي يسميها «فضاء التدفق»، أي المساحة التي تشهد حراك الأفكار والصور والمعاني بين مصدر الفكرة ومتلقيها. في هذه المساحة يختفي الزمن، ويتحول التواصل بين الفاعلين الاقتصاديين والثقافيين وجمهورهم إلى تفاعل فوري متعدد الأطراف. التفاعل المباشر يمكّن المتلقي من المجادلة العلنية للفكرة، ومن ثم تعديل خطاب المصدر. لهذا نقول إن عصر المعلومات يميل بشدة إلى التشارك في صناعة الفكرة لا إلى تلقينها، كما كان الحال في الماضي.

هذه إضاءة على جانب من رؤية مانويل كاستلز، حول الانعكاس العميق للمعلوماتية والإنترنت على ثقافة المجتمع وهويته ومصادر إنتاجه ومعيشته.

***

د. توفيق السف – كاتب وباحث سعودي

 

إن حياة الجمود والركود والسقوط التي تعيشه المجتمعات والأمم في بعض مراحلها وحقبها، منوط ومرهون للخروج من هذه الوهدة بعزائم البشر وإرادة الإنسان ومشروط بالتزام هذه المجتمعات بشروط الخروج من المأزق وعوامل الانعتاق من أساس الجمود والخمود.

ففعل التغيير والتطوير دائماً وفي أي اتجاه وحقل كان، منوط بإرادة الإنسان، فهو الذي يقرر بقدراته وإرادته امكانية التطوير والتغيير من عدمها.

ويشير الى هذه الحقيقة القرآن الكريم، إذ يقول تبارك وتعالى {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} (الرعد آية 11).

فلا يمكن أن يتم التغيير الاجتماعي إلا بتغيير الذوات وتهيئتها لقبول متطلبات التطوير، وبدون تغيير النفس، تبقى شعارات التغيير ويافطات التطوير أشبه شيء بمشروعات أحلام اليقظة والآمال البعيدة.

كما ان ارادة البشر وعزائمهم، هي التي تحدد واقعية المسار التطويري والتحديثي، فلا تطوير اجتماعي إلا بتغيير للذات. وكلما توسعت دائرة الملتزمين بمشروع التغيير الذاتي، أي تغيير ما بالنفس، كلما كان المجتمع أقرب الى التطوير الشامل.

والدين الإسلامي لا يعالج مشاكل البشر بحلول سحرية أو طرائق إعجازية، وإنما منظور الإسلام ف معالجة مشكلات البشر المختلفة، هو العناية بتهذيب النفس وتطهيرها من الرواسب والشوائب، حتى تكون مهيأة بشكل تام لعمليات التغيير والخروج من آثار المشكلات التي تؤرق الإنسان والمجتمع المسلم. لذلك نجد أن القرآن الحكيم يؤكد على اتباع العلم ومفارقة الجهل والظن وكل المفردات التي لا تؤدي إلى المعرفة والخبرة، قال تعالى {ولا تقف ما ليس لك به علم ان السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا} (الإسراء آية 36). وقال تعالى {وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وان الظن لا يغني من الحق شيئا} (النجم آية 28).

وذلك لأن اتباع الظن لا يؤدي إلا إلى مراكمة الأخطاء والمشاكل، وذلك بفعل البعد عن اكتشاف العوامل الحقيقية والفعلية للمشكلات الإنسانية. ولهذا قال علماء المنطق ان الحكم على الشيء فرع عن تصوره، ولا ريب ان الظنون والاحتمالات، لا تؤسس لدى الإنسان تصوراً دقيقاً عن طبيعة المشكلات وطرق معالجتها.

فالإنسان يصاب بالعطالة إذا كانت ارادته خائرة وعزيمته واهنة، لذلك فإن حجر الزاوية في عملية التغيير وتذليل المشكلات التي تعترض طريق الإنسان والمجتمع، هو أن تكون لدى الإنسان إرادة وعزيمة راسخة للخروج من شرنقة المشاكل وبؤر الأزمات والمآزق التي يعيشها. فتوفر الإرادة والعزيمة، من الشروط الأساسية التي يعتبرها الدين الإسلامي في معالجة مشكلات البشر.

"فالتوجيهات الإسلامية في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، تطلب - في البدء - تعزيز الذات وتغييرها المتواصل ايمانياً، ثم تمضي باتجاه الأسرة الأقرب الى الإنسان الفرد، في علاقاته الخارجية، ومن هناك تنداح الدائرة باتجاه الجار، والقربى، والحي والمدينة، فالمجتمع المسلم، فالأمة الإسلامية على امتدادها، فالشعوب والأمم المجاورة، فالإنسانية جمعاء.

إن بؤرة الحركة، هي الذات: (ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) (الأنفال آية 53). وحدها الآخر، هو البشرية {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} (الأنبياء آية 107). وما بين الذات والبشرية، تتحرك المعطيات الإسلامية، تشريعا وتوجيها، لكي ترسم لكل حالة طريقها، وتضع كل ممارسة ف مكانها الموزون ولكي ما يلبث هذا الجهد الديناميكي، الذي لا يقف عند حد أن يساهم في صياغة الحياة الإسلامية المتوازنة المستقيمة، الآمنة، السعيدة، القادرة على العطاء وبقطبيها الفرد المسلم والمجتمع المسلم "(راجع رؤية إسلامية في قضايا معاصرة - الدكتور عماد الدين خليل ص55).

فالخطوة الأولى التي ينبغي أن نقوم بها ازاء كل ظاهرة ومشكلة هي البحث والفحص الجاد عن الأسباب الذاتية التي أدت الى هذه الظاهرة أو المشكلة، فلابد أن نوجه الاتهام أولاً الى أنفسنا، قبل أن نوجهه الى غيرنا.

وهذه المنهجية تلخصها الآية القرآنية {قل هو من عند أنفسكم} فإزاء كل هزيمة، إزاء كل مرض وظاهرة سيئة، كل مصيبة على رؤوسنا، ينبغي أن نلتفت قبل كل شيء إلى نصيبنا، إلى دورنا، إلى ما كسبته أيدينا.

إن واقع العرب والمسلمين الراهن هو أسوأ واقع، والانهيار في حياتهم يهدد وجودهم نفسه ولكن أين يمكن أن يقف هذا الانهيار، ويبدأ التحول؟ جوابنا الحاسم في أنفسنا، يجب أن يقف في أنفسنا الانهيار، ويبدأ في أنفسنا التحول فإذا تحولنا إلى مسلمين حقيقيين كما يريد الإسلام، تحول بنا مجتمعنا وتحول بنا المسلمون في كل مكان وتحول بنا العالم. فالنواة الأولى للتطور النوعي في المجال العربي والإسلامي اليوم، هي في تغيير الذات وازالة رواسب التخلف والانحطاط منها، إن تغيير ما بالنفس، هو النواة الأولى لعمليات التطور النوعي وإحداث نقلة عميقة في نمط تعاملنا مع واقعنا ومحيطنا.

فالتحولات الاجتماعية والحضارية في أي مجتمع وأمة، لا تنجز إلا على قاعدة تغيير ذاتي عميق، يزيل ركام الانحطاط، ويهيئ النفوس والعقول لاحتضان وممارسة متطلبات التحولات الاجتماعية والحضارية المطلوبة.

وعلى قاعدة التغيير الذاتي المستديم، تأتي أهمية الإرادة الإنسانية التي هي وسيلة الانتقال من الوعد الى الإنجاز ومن القول إلى الفعل.

والإرادة هنا تعني وبكل بساطة: أن تطور الشعوب والأم لا يقوم به الغير، وإنما كسب الأمة ذاتها، هو الذي يحقق التطور، فعمل الأمة وسعيها المتواصل، وجهدها المستديم وتصميمها القوي، وإيمانها العميق بمسارها الحضاري وتضحياتها في هذا السبيل، كل هذا هو الذي يصنع التطور والتقدم.

فإرادة الإنسان هي الفيصل وهي محل المراهنة الحقيقية على مشروعات التقدم والتطور.

فلنغير ذواتنا، ونغذي هذا التغيير، بإرادة إنسانية تأخذ على عاتقها إنجاز التطلعات وتحقيق الطموحات.

وسنبقى بعيداً عن كل إنجاز اجتماعي وحضاري مادامت قيم التخلف وتصورات الانحطاط تتحكم في عقولنا ومسارنا العام.

فلكي نتقدم، نحن بحاجة الى تغيير نفوسنا وتنقية عقولنا من ركام التخلف والانحطاط، وإرادة إنسانية تأخذ على عاتقها بالنفس الجديدة والعقل الجديد صنع وقائع الحياة المعاصرة.

ودائماً التقدم الإنساني والتطور الحضاري، بحاجة إلى ارادة إنسانية صلبة، تأخذ على عاتقها ترجمة الآمال، وإنجاز الوعود، وخلق الوقائع والحقائق المفضية الى التقدم بكل صوره وأشكاله.

وينبغي أن ندرك في هذا المجال، أن استعارة سلع التقدم والتطور، لا يفضي الى المفهوم الحقيقي للتقدم الحضاري، وانما يؤدي الى حالة من التجاور العجائبي والتعايش المتغاير بين سلع التقدم ومنجزات التطور وممارسة إنسانية لا ترقى الى المستوى المطلوب في التعامل مع منجزات العصر الحديث.

إن بوابة التقدم الحقيقي، هي تغيير الذات المصحوب بإرادة إنسانية تحيل الطموحات إلى حقائق، والآمال إلى وقائع، والأرض اليابسة الى ارض خصبة خضراء، تثمر كل الخير والإنجاز إلى الإنسان حاضراً ومستقبلا.

***

محمد محفوظ – باحث سعودي

أنت تكلف نفسك مشقة شديدة، إذا أردت أن تصور عواطفك وأنت في تلك المرحلة العمرية الباكرة تصويراً صادقاً، لن تستطيع أن تضع يدك عليها، أو تأخذ منها ما تريد، أو ما تعتقد أنه معين لك على توطيد نظم مقالك هذا، فقد انقطعت الصلة بينك وبينها، وانزوت حواضرها الزاهية في ذاكرتك شيئاً فشيئاً، حتى استحالت آخر الأمر، إلى دهناء قاحلة  تدمدم رياحها الهوج بين جنبات نفسك، وكيف لا تنحسر وتتضاءل أحداث تلك الأيام الناصعة، وأنت لم تقوي فيها عناصر الثبات والاستقرار، ففي الحق أنت لم تعيرها نظرة، أو تمنحها التفاتة، تكفل لها أن تحتفظ بحظها من الحياة، حينها كنت ستجد متاعاً عظيما، وستعينك تلك الالتفات على احكام هواجسك،  وتجويد خواطرك، وستبتهج أنت بهذا التجويد، ولكنك لم تفعل شيئاً من ذلك، كما أن تفاصيل حياتك الرتيبة التي أنفقتها في بكاء يعقبه بكاء، ولوعة تخلفها لوعة، قد أسهمت في تقزمها وانهاكها، حتى صارت أطلالها ورسومها ضعاف ومهازيل، فذاتك التي لم تدرك أن تلاشي حافظتك، خسارة لا سبيل إلى تعويضها بحال من الأحوال، من المحقق أنها لم تخضع للتوازن الدقيق بين طارفها وتليدها، بعد أن سارت وتيرتها منتصرة مهللة  لحاضرها الذي تاهت في دهاليز عنفه، وقسوته، وصياله المتصل.

إنها مسألة عظيمة الخطر إذن، ألا تأتلف حياتك من ماضي، وحاضر، ومستقبل، ففقدان الماضي يجعل حقيقة هذه الحياة جافية، لا عهد لها برونق أو رواء، وأيسر ما يمكن أن يقال، أنها قلما تستطيع أن تتصل بمواقف ثرة حافلة بالعبث والجمال، وسيظهر عجزها الفاضح، إذا أرادت أن تتصل بالموضوعات التي يطرقها الناس في العادة، والتي تكون كثيرة الدوران على ألسنتهم، لن تكون أيها البائس، مؤهلاً لأن تسترجع المرتفع منها والمنخفض، وستزاد عندها خشية اليأس والخيبة، إذا أخفقت أن تستحضر سوالف علة السعي لها، وغاية الجهاد فيها، أثرها الذي تتركه في النفس، وصداها الذي ينعش الروح، ويدفع الملال.

لن تقدر أن تقيف عند هذه النماذج التي يقدمها لك صديقك كلما هاتفته، لن تتذكر أبداً، تلك العين التي كان ينبع منها الماء، ويختلف عليها أطفال وشباب المدينة، إلا إذا حدثك صديقك المخلص بهذا، وأمعن وتفانى في تذكيرك، العين التي كانت تفتننا بسحرها وجمالها، وتأسرنا بهدوئها وسكونها، كنا نهرع إليها كلما أضنانا العبث، وأعيانا المرح، ولقست أمزجتنا صخب المدينة وضجيجها، كانت هذه العين محدودة ضيقة، ولكنها كانت تعجبنا على كل حال، لأنها تحرك أفئدتنا للبشاشة، وتنزع مهجنا إلى الانتشاء، وذيوع صيت هذه العين راجعاً أيضاً إلى العصبية التي كانت تحدث الشقاق، وتجلب العداوة، وسبب هذه الخلافات اظهار القوة، والسعي لبسط النفوذ، و لعل تلك المعارك التي كانت تدور في نواحي هذه العين، لم تكن أقل امتاعاً للنفس، وارضاء للقلب، لأننا لم نكن ونحن في تلك السن، متجردين من الخضوع لفكرة الذود عن حياض "المنطقة" التي نقطن فيها، فالاشتباكات والنزاعات، كانت تدور بين فصائل تنتمي لأحياء سكنية متفرقة، كنا ننغمس في هذا النوع من الجهالة، ونرتهن لسيد الجيوش، وأمير الجحافل، ونتفانى في طاعته، نهجم على أعدائنا حينما يطلب منا الهجوم، ونولي الدبر حينما نراه لم يستطيع عليها صبرا، لأجل ذلك كثيراً ما كنا نعود إلى منازلنا ورؤوسنا التي أعياها النضال، والتي لم نكن نحرص على مقوماتها، مهشمة لأن قذائف من جندل قد استغرقتها، وأجسامنا اللاغبة مختومة بمقابض من معدن، وأطرافنا مجذوذة أضناها الضرب والتنكيل، كم كانت رائعة حياتنا تلك على سذاجتها، هذه العين على مرّ الأحقاب والأجيال، ظلت شاهدة على ما يقع لأبناء هذه المدينة من حوادث، وما يعرض عليهم من خطوب.

إن هذه  الخواطر التي لا أجد بُداً من تسجيلها، وتلك الحروب والمخاصمات، التي كانت تقع بيننا وبين أبناء المناطق السكنية الأخرى في صبانا الأغر، والتي هي أشبه بحياة الأعراب في باديتهم، لا يمكن أن ننكرها اليوم انكاراً قاطعاً، بل هذه الأطياف في مجملها تستحق أن نحتفل ونتباهى بها، لأنها أهلتنا لأن نلم بدقائق واقعنا المرير، ونحيط به من جميع أطرافه، وأن نستيقن ماضينا البعيد الذي نفكر فيه، ونحْنُ إليه، يستحق أن نتخذه مقياساً لتصورنا للأشياء، وحكمنا عليها.

***

د. الطيب النقر

 

في عام 1981 قام الفيلسوف الاسكتلندي الامريكي ألسدير ماكنتاير بتمزيق العمل الذي كتبه آنذاك حول الاخلاق، وأنتج بدلا عنه ما اصبح يُعرف بكتاب (بعد الفضيلة). في هذا الكتاب، هو في الحقيقة جرّد الفلسفة الاخلاقية الحالية، والاخلاق الحالية ذاتها، معبّرا عن امتعاضه بان الاخلاق قُطعت من جذورها التقليدية، ولم تعد متماسكة"بفضل مشروع التنوير".

الاخلاق لم تعد مرتكزة على الفكرة الأرسطية بان للانسان هدف ووظيفة، ولم تقدم تفسيرا لكيفية تحقيق هذا، انها فصلت القيم عن الحقائق. يقول ماكنتاير رغم ان تسمية الفرد الذي يمارس الفعل بـ "الجيد" او "السيء" تلجأ لـ "للمعيار الموضوعي وغير الشخصي"، لكن لا شيء منه متوفر هناك . كما انه وبخ سابقا في كتابه (ضد صور العصر الذاتية، 1971)، المسيحية، الماركسية والتحليلات النفسية كونها فشلت في توفير ايديولوجية أخلاقية كافية.

واصفا نفسه كـ "أرسطي ثوري"، هو كان ايضا متحمسا لأخلاق توما الاكويني المناصر لأرسطو. (باتجاه القرن الثالث عشر) كان الشعار المنسوب له بشيء من السخرية . لكن عبر إحياء نوع من الاخلاق التي تعرّف "الخير" بازدهار الانسان، سعى ماكنتاير ليقودنا خارج "العصور المظلمة الجديدة"، نحو مستقبل أفضل. هو أثّر في صعود الاخلاق الفاضلة والطائفية (أنكر مساندة اي منهما) وعدم الثقة المألوفة حاليا في الليبرالية والفردية والتنوير.

تجدر ملاحظة عدد العقائد المتنافسة التي استطاع اعتناقها في وقت واحد، هو كان بروتستانتيا وماركسيا في آن واحد في الستينات، ثم رفض لاحقا كلا العقيدتين، وفي الثمانينات، اصبح كاثوليكيا، لكنه دائما احتفظ باحتقاره الماركسي للرأسمالية واغتراب الحداثة.

بعد ان نُشر كتابه (بعد الفضيلة) اول مرة عام 1981. اطلق برنارد ويليم على الكتاب اسم "خيال حنين رائع". كان ماكنتاير بعمر 52 عاما عندما كتب بعد الفضيلة. في (تاريخ موجز للاخلاق، 1966) هو انتقد الفلسفة التحليلية المعاصرة في فحصها وتفسيرها للمفاهيم الأخلاقية "بعيدا عن تاريخها"، ووصف الكيفية التي "تتغير بها المفاهيم الاخلاقية عندما تتغير الحياة الاجتماعية" – بدءاً من عصر هوميروس حيث مُثل(اغاثوس) للذكر ذو الولادة الجيدة وصفات الملك والشجاعة والذكاء، مرورا بالفضائل الارسطية والمسيحية التي ايضا كانت متناغمة مع فكرة الطبيعة الأساسية للانسان (وان كانت مختلفة) وحتى اقتلاع التنوير للإصرار على العقل المستقل، وصولا الى انفعالية القرن العشرين التي جعلت الاخلاق مجرد تعبير عن الافضليات الشخصية.

في أواخر السبعينات من القرن الماضي، قرأ ماكنتاير كتب الفيزيائي توماس كن الذي اعتبر التغيرات العلمية كسلسلة من "تحولات نموذجية" بدلا من خط مستقيم من التقدم، وهذا اعطاه ان لم يكن تحولا معتما، تأكيدأً يقينيا بشأن ما كان غريبا جدا حول اخلاق القرن العشرين: بدلا من ان نستقر في بارادايم(نموذج) أخلاقي معين، نحن نعمل في وقت واحد او بالتناوب في عدة تقاليد أخلاقية غير قابلة للقياس. طبقا لماكنتاير، اخلاق ارسطو في القرن الرابع قبل الميلاد افترضت ان الانسان لديه تيلوس (وظيفة) كحيوان عاقل. العقائد الدينية – اليهودية والمسيحية والاسلام عقّدت دون ان تغير اساسا مشروع الأخلاق الثلاثي: مصمم لينقلنا من "الطبيعة البشرية في أفضل ما يمكن اذا ادركت غايتها". فلاسفة التنوير للقرن الثامن عشر، في سعيهم لتحريرنا من الخرافات والسلطة، وايجاد اساس عقلاني خالص للاخلاق جردوا الذات من هويتها الاجتماعية وقيمها من أي ادّعاء بالوضع الفعلي. وهكذا اصبحت الاخلاق مجموعة من اوامر متطرفة وبالنهاية، مجرد "تعسف خاص". الذات غير المُتضمنة – بالضرورة هي "لاشيء" – هي الآن ملزمة لاختيار قيمتها الخاصة بها.

باعتراف الجميع، سعى جيرمي بنثام في نفعيته الى تأسيس الاخلاق على الرغبة "الطبيعية" لتجنب المعاناة ومضاعفة المتعة. لكن "السعادة الانسانية ليست مفهوما بسيطا موحدا" حسب ماكنتاير، وان تمييز جون ستيوارت مل بين المتع العالية والدنيا فقط يسلط الضوء على فشل النفعية في "تزويدنا بمعيار لعمل خياراتنا الاساسية".

كان ماكنتاير يدعو لمراجعة ارسطية تكون فيها الاخلاق، مرة اخرى، ليست مجموعة من مبادئ مجردة ومستقلة مختارة وانما قصة اجتماعية تنسجم معها قصتنا الشخصية. جادل برنارد وليم ان الذات الاخلاقية المتميزة اجتماعيا بدلا من ان تكون نتاج للتنوير، كانت حاضرة سلفا لدى افلاطون والمسيحية.

مؤلفات ماكنتاير اللاحقة شكّلت كما قيل تاريخا طويلا من الاخلاق لانهاية له . لمنْ العدالة؟ أي عقلانية، 1988 وثلاث صيغ متضادة للتحقيق الاخلاقي، 1990 كررت بان الفلاسفة التحليليين يزعمون تجسيد "الشكل اللازمني للتفكير العملي،، بينما هم في الحقيقة فقط "يمثلون شكل العقل التطبيقي الخاص بثقافتهم الليبرالية الفردية".

يرى ماكنتاير من المستحيل تبنّي موقفا اخلاقيا الاّ ضمن تقليد معين. طالما هو لايقدم طريقة للتحكيم بينها، هذا يبدو اجبرهُ للقول ان أي تقليد سيكون جيدا بنفس مقدار جودة التقاليد الاخرى وهو لهذا اُتُّهم بالاخلاقية النسبية.

مع ذلك، هو قال ان التقاليد المتنافسة تشترك ببعض المعايير، لذلك فان أي شخص يستطيع فهم المشاكل في تقاليده الخاصة ويتبنّى عقلانيا حلولا أرقى من الاخرى، كما فعل الاكويني عندما مزج الارسطية في ثيولوجيا اوغسطين، وبالنهاية اصبح ارسطيا افضل من ارسطو ذاته. ماكنتاير تحوّل الى الثومسية والكاثوليكية، مشاركا بحضور القداس كل يوم لكنه امتنع عن المشاركة في القربان المقدس بسبب ما حصل له من طلاق عائلي.

كونه رفض قبول مفهوم طبيعة انسانية مستقلة عن التاريخ وممارسات معينة وتقاليد، ماكنتاير بالنهاية وسّع قاعدته الميتافيزيقية لتتضمن (الحيوانات العقلانية التابعة، 1999) الكتاب البايولوجي. هو اشار الى الكيفية التي فشلت بها اخلاق ارسطو ولاحقا آدم سمث وديفد هيوم وفلاسفة التنوير الآخرين في الاعتراف بحتمية المعاناة والتبعية في حياة الانسان. في كتاب (ضد صور العصر الذاتية، 1971) هو انتقد المسيحية والماركسية والتحليلات النفسية كونها فشلت بتوفير ايديولوجية أخلاقية كافية. افكارهم عن الانسان كانت، على الاقل ضمناً، رجل جيد صحيا، هم تجاهلوا المرأة والناس المستعبدين والقرويين وغير الاوربيين. دعا ماكنتاير الى فكرة أكثر شمولية لما نعنيه بالانسان.

هو جادل بانه، لا الدولة القومية الحديثة ولا العائلة الحديثة يمكنها تقديم النوع الصحيح للانتماء السياسي والاجتماعي. احيانا اشار الى الاهداف المتماسكة لجماعات الصيد الصغيرة والى رغبات العديد من الطوباويات الصغيرة. هو باشر مشروع بحث لثلاث سنوات في جامعة لندن حول ما اذا كان وبأي الطرق "يجد التصوّر الأكويني حول الصالح العام للمجتمعات السياسية تطبيقا له في المجتمعات السياسية الحديثة"- نتيجة البحث كانت صدور كتابه الأخير (الاخلاق في صراعات الحداثة، 2006).

وحينما كان يدرس الكلاسيكيات في كلية كوين ماري بجامعة لندن (1945-1949)، قاده الفقر المدقع في منطقة شرق لندن – ليصبح ماركسيا متحمسا. كتابه الاول (الماركسية: تفسير، 1953) طالب بتجديد ماركسي للمسيحية.

 وُلد ماكنتاير في كلاسكو باسكتلندا عام 1929 وتوفي الاسبوع الماضي 21 مايو 2025 حيث أُبلغ عن وفاته الى صحيفة نيويورك تايمز من خلال جامعة نوتردام التي يعمل بها .

***

حاتم حميد محسن

دور التكنولوجيا في إعادة تشكيل الفصل الدراسي

شكّل الكتاب المدرسيّ لعقود طويلة محور العملية التعليمية وأساسها، باعتباره المصدر الرئيس الذي تُستمدّ منه المعارف وتُنظَّم حوله المناهج. لكن مع التحوّلات التكنولوجية المتسارعة والانفتاح على مصادر معرفية متعددة، لم يعد الكتاب المدرسيّ وحده قادرًا على تلبية احتياجات المتعلّمين في بيئة تعليمية تتسم بالتغيّر المستمر والتنوع المعرفي. لقد بدأت ملامح جديدة تظهر داخل الفصول الدراسية، حيث تتداخل الشاشات مع الأوراق، وتتنافس المنصات الرقمية مع الصفحات المطبوعة.

في هذا السياق، يُطرح تساؤل جوهري: هل ما زال الكتاب المدرسيّ هو المصدر الأساس للتعلّم؟ أم أن المشهد التعليمي بات يتطلب إعادة نظر في طبيعة الأدوات التعليمية ودور المعلم والطالب على حد سواء؟

يناقش هذا المقال تحوّل دور الكتاب المدرسي، ويستعرض تطوّر مصادر التعلّم في ظل التكنولوجيا، متناولًا أبرز التحديات والفرص التي فرضها هذا الواقع الجديد على العملية التعليمية.

تحوّل دور الكتاب المدرسيّ في زمن التكنولوجيا التعليمية

لم يعد الكتاب المدرسيّ يحتل موقعه الحصري في قلب العملية التعليمية كما كان في السابق. فقد أصبح اليوم جزءًا من منظومة أوسع تشمل مصادر رقمية وتفاعلية متعددة، كالمواقع التعليمية، والمنصات الإلكترونية، والمحتوى المرئي، وتطبيقات التعلم الذكي. هذا التحول لم يأتِ من فراغ، بل جاء نتيجة لتطور حاجات المتعلمين وتزايد الاعتماد على الوسائط التكنولوجية داخل الفصول وخارجها.

ورغم استمرار استخدام الكتاب في المدارس كمرجع أساسي لتنظيم الدروس وتقييم التحصيل، إلا أن أدواره التقليدية بدأت تتقلص تدريجيًّا لصالح بيئات تعلّم أكثر مرونة وتفاعلية. فقد أصبح المعلمون يلجؤون إلى مصادر خارجية لتوضيح المفاهيم، وإثراء المحتوى، وتكييفه مع اختلاف مستويات الطلاب واهتماماتهم.

في هذا الإطار، لم يعد الكتاب المدرسيّ المصدر الوحيد للمعرفة، بل أصبح أحد المكونات ضمن منظومة تعلّم أوسع تتطلب من الطالب قدرًا أكبر من التفاعل والبحث والاختيار.

ويُشير "براون" وآخرون (Braun et al., 2020) إلى أن الكتاب المدرسي لم يَعُد يُستخدم باعتباره المرجع الوحيد للدرس، بل تحوّل إلى نقطة انطلاق يُبنى عليها المحتوى من خلال موارد متعددة الوسائط، الأمر الذي يدفع المتعلّم إلى أن يكون مشاركًا فاعلًا لا متلقيًا سلبيًا. هذا التحوّل لا يُضعف من أهمية الكتاب المدرسي، بل يُعيد تعريف وظيفته ضمن بيئة تعليمية تفاعلية تجمع بين الثبات البنيوي والتكيّف الرقمي.

المصادر الرقمية: بدائل أم مكملات للكتاب التقليدي؟

في ظل التحوّلات الرقمية المتسارعة، لم تعد المصادر الرقمية مجرّد أدوات مساندة، بل أصبحت عنصرًا أساسيًا في بناء المعرفة لدى المتعلمين. ومع ذلك، فإن السؤال المطروح ليس حول استبدال الكتاب المدرسي، بل حول كيفية دمج هذه المصادر الرقمية بطريقة تُعزّز من فاعلية التعلّم.

ففي الواقع، لا تزال الكتب المدرسية تحتفظ بمكانتها كمرجع منظم وموثوق، يُسهم في تنظيم المادة العلمية وفق تسلسل منطقي ومعايير تعليمية معتمدة. إلا أن الاعتماد الحصري عليها لم يَعُد كافيًا لمواكبة احتياجات الطلبة في بيئة معرفية مفتوحة وديناميكية.

تشير تقارير منظمة اليونسكو (UNESCO, 2023) إلى وجود زيادة ملحوظة في استخدام التكنولوجيا التعليمية داخل المدارس، حيث يعتمد المعلمون على المصادر الرقمية إلى جانب الكتب المدرسية لتعزيز العملية التعليمية وتوفير مواد تعليمية متنوعة تلبي احتياجات الطلاب المختلفة. كما يلجأ الطلاب بشكل متزايد إلى الإنترنت والموارد الرقمية كوسائل مساعدة لفهم الدروس وإتمام المهام الدراسية، مما يعكس تحولًا تدريجيًا في أساليب التعلم نحو بيئة تعليمية أكثر تكاملًا وتفاعلية.

فالبيئات التعليمية الأكثر نجاحًا اليوم هي تلك التي تُوظّف الكتاب الورقي كمحور ثابت، وتربطه بمصادر رقمية متعددة تُثري التجربة التعليمية وتُتيح للمتعلمين فرصًا أوسع للفهم والتفاعل والمشاركة.

الفصل الدراسي في العصر الرقمي: أدوات، أساليب، وتحديات

مع تسارع تطوّر التكنولوجيا واندماجها في النظم التعليمية، أصبح الفصل الدراسي في العصر الرقمي فضاءً تفاعليًا يعتمد على أدوات متعددة مثل الألواح الذكية، والحواسيب المحمولة، والأجهزة اللوحية، ومنصات إدارة التعلم، إلى جانب البرامج التعليمية المتخصصة. لم يعد المعلم المصدر الوحيد للمعرفة، بل تحوّل إلى موجّه ومنسق، يسعى إلى توظيف هذه الأدوات لإثراء العملية التعليمية وتحفيز التفكير النقدي لدى الطلبة.

في هذا السياق، تغيّرت الأساليب التربوية لتصبح أكثر انفتاحًا وتنوعًا، حيث تعتمد على التعليم المتمركز حول المتعلّم، والتعلّم القائم على المشاريع، والتقييم التكويني المستمر. هذه الأساليب تهدف إلى تعزيز مشاركة الطلاب ورفع مستوى استقلاليتهم في التعلّم، مما يُسهم في بناء مهارات ذاتية وتنظيمية تُعد ضرورية للنجاح في العصر الرقمي.

من بين التقنيات الحديثة التي غيّرت بشكل جذري تجربة التعلم داخل الفصول الرقمية، يبرز دور الواقع المعزز (Augmented Reality) والواقع الافتراضي (Virtual Reality). إذ يُتيح الواقع المعزز دمج المحتوى الرقمي مع البيئة الحقيقية للطالب، مما يعزز من فهم المفاهيم المعقدة عبر تجارب تفاعلية واقعية. أما الواقع الافتراضي، فيوفر بيئات تعليمية غامرة تتيح للمتعلمين الانغماس في مواقف تعليمية تحاكي الواقع أو تفوقه، مما يزيد من دافعية التعلم ويحفز التفكير النقدي والإبداعي. استخدام هذه التقنيات يُسهم في تنويع مصادر التعلم ويُعزز التفاعل بين المعلم والطالب، لكنه يطرح أيضًا تحديات هامة تتعلق بالبنية التحتية وتدريب الكوادر التعليمية.

تتعمّق التحديات الرقمية في التعليم الرقمي لتشمل جوانب متعددة، أبرزها ضعف البنية التحتية التكنولوجية في العديد من المدارس، خاصة في المناطق النائية، حيث تفتقر الأجهزة والاتصال بالإنترنت إلى المستوى المطلوب لضمان تجربة تعليمية فعّالة. إلى جانب ذلك، يُعاني كثير من المعلمين من نقص التدريب الكافي الذي يؤهلهم لاستخدام التقنيات الحديثة بفعالية ضمن العملية التعليمية، مما يحدّ من الاستفادة الحقيقية من هذه الأدوات ويُفقدها بعدًا بيداغوجيًا جوهريًا. كما يطرح الاستخدام المكثف للتكنولوجيا مخاطر محتملة على التفاعل الإنساني المباشر داخل الفصل، حيث قد يؤدي الاعتماد الزائد على الوسائل الرقمية إلى تقليل فرص التواصل الوجهي وتطوير مهارات الحوار والتفاعل الاجتماعي الضرورية للمتعلمين. لذلك، تُبرز الحاجة إلى تحقيق توازن مدروس بين توظيف التقنيات الرقمية والحفاظ على القيم التربوية الأساسية لضمان بيئة تعليمية شاملة ومستدامة.

التكنولوجيا وديناميكية التفاعل بين المعلّم والمتعلّم

ساهم إدماج التكنولوجيا في تغيير طبيعة العلاقة بين المعلّم والمتعلّم، حيث تحوّلت من علاقة تقليدية قائمة على التلقين إلى علاقة أكثر تفاعلية وشراكة. فبفضل الأدوات الرقمية، بات بإمكان المعلّم متابعة تقدم الطلبة بشكل آني، وتقديم تغذية راجعة فورية، وتصميم أنشطة تعليمية تراعي الفروقات الفردية، ما يعزّز من فعالية التعلّم.

في هذا السياق، يُعدّ التفاعل الرقمي عاملًا مهمًا في تحسين التحصيل الدراسي، إذ يُمكّن المتعلمين من طرح الأسئلة، والمشاركة في النقاشات الصفية عبر المنتديات والمنصات الرقمية، والمساهمة في بناء المعرفة بشكل جماعي. كما أن دور المعلّم لم يعد مقتصرًا على نقل المعرفة، بل توسّع ليشمل التوجيه، والتحفيز، وتيسير الوصول إلى مصادر التعلم المتنوعة.

ومع ذلك، تظل هناك حاجة إلى تنمية المهارات التواصلية الرقمية لدى الطرفين، إلى جانب ترسيخ ثقافة التفاعل الإيجابي عبر الوسائط التكنولوجية، بما يضمن بناء بيئة تعليمية قائمة على الحوار والمشاركة الفعالة، وليس فقط على استخدام الأدوات التقنية.

هذا وقد أظهرت دراسة حديثة لـ "ياسين" وآخرون (Yaseen et al., 2025) أن الطلبة الذين شاركوا في بيئات تعليمية مدعومة بالأدوات الرقمية التفاعلية قد أبدوا مستويات أعلى من التحصيل الأكاديمي، ومعدلات مشاركة أكبر مقارنة بالطلبة في الصفوف التقليدية. وقد بيّنت الدراسة أن استخدام تقنيات التعلم التكيفية، والتغذية الراجعة الشخصية، والأدوات التفاعلية المعتمدة على الذكاء الاصطناعي ساهمت في رفع دافعية المتعلمين، وتعزيز شعورهم بالانخراط في العملية التعليمية. كما أكدت نتائج الدراسة على أهمية دور المعلم كمنسق للتفاعل الرقمي، مما يستدعي توفير تدريب مهني مستمر له، لضمان تحقيق الاستفادة القصوى من الإمكانات التقنية في تطوير التعلم والتعليم.

نحو بيئة تعلّم مرنة ومتعددة المصادر

مع التوسع المستمر في استخدام التكنولوجيا الرقمية، تتجه النظم التعليمية نحو خلق بيئات تعلم مرنة ومتعددة المصادر تتيح للمتعلمين خيارات واسعة ومتنوعة تلبي احتياجاتهم الفردية. تُعتبر هذه البيئة التعليمية قادرة على الجمع بين المصادر التقليدية كالكتب الورقية، والمصادر الرقمية التفاعلية، والتقنيات الحديثة مثل الواقع المعزز والواقع الافتراضي، مما يوفر فرصًا أوسع للتفاعل والفهم العميق.

تتيح بيئات التعلم المرنة للمتعلمين التحكم في وتيرة تعلمهم، واختيار الوسائل التعليمية التي تناسب أساليبهم المعرفية، كما تُمكّن المعلمين من تصميم تجارب تعليمية مخصصة تتناسب مع تنوع مستويات الطلاب واهتماماتهم. هذا التنوع يُعزّز من تحفيز الطلاب ويُسهم في تطوير مهاراتهم الذاتية والتنظيمية.

ومع ذلك، يتطلب بناء هذه البيئات المرنة استثمارًا في البنية التحتية التكنولوجية، وتوفير برامج تدريب مستمرة للمعلمين، وتطوير محتوى تعليمي متكامل ومتجدد. كما تستدعي ضمان العدالة في الوصول إلى التكنولوجيا بين جميع الطلاب لتفادي توسيع الفجوة الرقمية.

في هذا الإطار، تُبرز أهمية التشاركية بين مختلف الجهات التعليمية والتكنولوجية لتحقيق بيئة تعليمية شاملة ومتوازنة تجمع بين الابتكار والفعالية.

***

إجمالًا، يتّضح أن التحوّلات التكنولوجية قد أعادت رسم معالم العملية التعليمية، وأعادت النظر في الدور التقليدي للكتاب المدرسي، الذي لم يَعُد المصدر الأوحد للمعرفة، بل أصبح جزءًا من منظومة تعليمية أكثر شمولًا وتفاعلية. ورغم ما تتيحه التكنولوجيا من فرص غير مسبوقة للتعلّم، إلا أن نجاح هذه البيئات يعتمد على إيجاد توازن مدروس بين الأدوات الرقمية والموارد التقليدية، وعلى تمكين المعلمين وتطوير مهاراتهم التربوية والتقنية. إن بناء بيئة تعليمية مرنة ومتعددة المصادر لا يتطلب فقط أدوات وتقنيات، بل رؤية تربوية واضحة تُعلي من قيمة التفاعل، وتضمن تكافؤ الفرص، وتعزّز من دور الطالب كفاعل رئيسي في مسيرة التعلّم.

***

أ. د. هاني جرجس عيّاد

..................

المراجع

1- Braun, A., März, A., Mertens, F., & Nisser, A. (2020). Rethinking Education in the Digital Age. STOA, European Parliament.

2- UNESCO. (2023). Technology in education: A tool on whose terms? Global Education Monitoring Report.

3- Yaseen, H., Mohammad, A. S., Ashal, N., Abusaimeh, H., Ali, A., & Sharabati, A. A. (2025). The Impact of Adaptive learning Technologies, Personalized Feedback, and Interactive AI Tools on Student Engagement: The Moderating Role of Digital literacy. Sustainability, 17(3).

الوحي والإلهام مفهومان ارتبطا بشكل وثيق بالإبداع ونشر الأفكار العميقة، يُعتبر الوحي تجربة نفسية تتسم بالاستقبال المفاجئ لأفكار أو معلومات يُعتقد أنها تأتي من مصدر خارجي، يكون الوحي أحيانا مرتبطًا بحالات ذهنية متقدمة مثل التأمل أو الاستغراق في الفكر، حيث ينفتح العقل لاستقبال أفكار جديدة، يمثل كل من الوحي والإلهام جانبان مهمان من التجربة الإبداعية الإنسانية. يحدث أحيانا تفاعل بين الوحي والإلهام، حيث يستقبل الشخص وحيًا ويقوم اللاوعي بتطويره إلى إلهام، يمكن أن يؤدي إلى أفكار جديدة، في الهرمسية تتجلى علاقة السرديات التاريخية بالوحي والإلهام في عدة جوانب، يُعتبر هرمس إله الوحي والإلهام في الأدب والشعر، يُنسب إليه القدرة على نقل الأفكار والمعرفة، مما يربطه بالقدرة على الإلهام الفني والمعرفي اذ تتضمن الهرمسية نصوصًا فلسفية، هذه النصوص تُعتبر نوعًا من الوحي، حيث يُفترض أنها تأتي من هرمس كمصدر إلهي، لكن في بعض الفترات، تم التعرف على هرمس كنسخة يونانية لتحوت، خاصة خلال الفترات الهلنستية عندما اختلطت الثقافات اليونانية والمصرية، مع التأثيرات الثقافية بين اليونان ومصر، تم دمج بعض عناصر الوحي والإلهام من كلتا الثقافتين، مما أدى إلى تطوير سرديات غنية تُعبر عن الحكمة والمعرفة، تتداخل السرديات التاريخية مع مفهوم الوحي والإلهام في الأساطير،  مما يعكس كيف يمكن أن تعبر عن القيم الإنسانية .

النصوص الهرمسية والسرديات التاريخية

تختلف النصوص الهرمسية عن الأساطير الأخرى في التعبير عن الوحي بعدة جوانب، النصوص الهرمسية تتناول مواضيع فلسفية عميقة تتعلق بالكون، الروح، والمعرفة، بينما تركز الكثير من الأساطير الأخرى على القصص البطولية أو الخرافية فقط، لذا تُعتبر النصوص الهرمسية تجسيدًا للوحي الروحي، حيث تُعبر عن تجارب شخصية وتأملات عميقة، بينما الأساطير الأخرى قد تُركز أكثر على الأحداث التاريخية أو الأسطورية، تحتوي النصوص الهرمسية على رموز معقدة ومعاني خفية، مما يتطلب تأملًا خاصا لفهمها. في المقابل كثير من الأساطير الأخرى تُروى بشكل مباشر وسهل الفهم، النصوص الهرمسية غالبًا ما تتحدث عن التجارب الداخلية والخارجية للروح، مما يجعلها تتجه نحو المعرفة الذاتية، بينما الأساطير الأخرى تركز أكثر على الأحداث الخارجية والأبطال، النصوص الهرمسية أثرت بشكل كبير على الفلسفة الغربية والباطنية، بينما بعض الأساطير الأخرى قد تُعتبر جزءًا من التراث الشعبي أكثر من كونها فلسفية، تتميز النصوص الهرمسية بتركيزها على الحكمة والفلسفة، مما يجعلها مختلفة عن العديد من الأساطير الأخرى.

الفكر الهرمسي

في الفكر الهرمسي، يُعتبر الحصول على المعرفة والفهم العميق للكون والروح هو الطريق نحو التحرر من القيود المادية والجهل. المعرفة تكسر القيود التي تفرضها الحياة اليومية كما يشدد الفكر الهرمسي على أهمية معرفة الذات كجزء من المعرفة الكلية. عندما يفهم الفرد طبيعته الحقيقية، يتمكن من التحرر من الأوهام والقيود النفسية، في الفكر الهرمسي المعرفة الروحية تُوفر تجربة مباشرة للاتصال بالعالم الروحي، مما يؤدي إلى شعور بالتحرر من الهموم الأرضية والألم، كما ان المعرفة تساعد الأفراد على تحقيق التوازن الداخلي والانسجام مع الكون، مما يُسهم في الشعور بالتحرر من الصراعات الداخلية والخارجية واعتبار الجهل أحد أكبر العوائق أمام التحرر. من خلال التعلم واكتساب المعرفة، يُمكن للفرد تجاوز هذه العقبة والسير نحو حياة أعمق وأكثر معنى، في الفكر الهرمسي المعرفة تُعتبر المفتاح لتحقيق التحرر الروحي والنفسي، مما يُساعد الأفراد على العيش في وئام مع النفس ومع الكون.

رمزية الالهة في الهرمسية

يمكن اعتبار الإلهة افتراضيا كوسيلة لتفسير وعي الوجود، حيث تُقدم تفسيرات للظواهر الطبيعية، تدعم القيم الأخلاقية، وتساعد الأفراد على البحث عن المعنى في حياتهم وبالتالي يمكن اعتبار الهرمسية مزيجًا من إلهام من الآلهة ووعي وجودي مستند إلى العقل النقدي المتقدم، حيث يُنسب إليها الحكمة والمعرفة التي تُنقل من خلال شخصية هرمس، مما يعكس دور الآلهة الافتراضي في إلهام البشر حيث تُظهر الهرمسية التأثيرات الروحية التي تشدد على الاتصال بالعالم الإلهي والمعرفة العليا، تعتمد الهرمسية أيضًا على الفهم الفلسفي والنقدي للأفكار، مما يدل على قدرة الإنسان على التفكير والتأمل النقدي باستخدام التفكير الذاتي والاستنتاج، مما يُشير إلى أن المعرفة تأتي من التجربة الشخصية والتفاعل مع العالم، الهرمسية تمثل توازنًا بين الإلهام الروحي والوعي النقدي، حيث تُعبر عن الاحتياج إلى توحيد المعرفة الروحية مع الفهم العقلاني لتحقيق التحرر والفهم العميق للوجود.

وعي الوجود

تضمنت العديد من السرديات التاريخية مفهوم الوعي الوجودي، وهو مفهوم يشير إلى فهم الإنسان لطبيعة وجوده وعلاقته بالعالم. مما يعكس وعيًا عميقًا حول طبيعة الإنسان ودوره في الكون، الديانات المصرية القديمة تضمنت أساطير تتعلق بالآخرة والمصير، مما يعكس وعيًا بوجود الروح وعلاقتها المفارقة بالجسد الفلسفات الهندية مثل البوذية والهندوسية، تركزت على فهم الذات والانفصال عن الأنا، مما يعكس وعيًا وجوديًا عميقا، الأعمال الأدبية مثل "الأوديسة" و"الألياذة" لهوميروس، استكشفت مواضيع الوجود، القدر، والعلاقات الإنسانية، فلاسفة طرحوا أسئلة حول الوجود والوعي، مما يُظهر تطور مفهوم الوعي الوجودي عبر الزمن، تتداخل السرديات التاريخية مع مفهوم الوعي الوجودي، حيث تعكس كيف حاول البشر فهم طبيعتهم وعلاقتهم بالعالم من حولهم عبر العصور، الهرمسية تؤكد على الترابط بين الروح والمادة، مما يعكس فكرة أن الوعي الوجودي لا يقتصر على الوجود المادي فقط، بل يتعداه إلى الروح. هذا الفهم يعزز الوعي بأن كل شيء في الكون مترابط وتدعو إلى معرفة الذات كخطوة أساسية نحو تحقيق الوعي الوجودي. بالتالي من خلال التأمل والتفكر، يُمكن للفرد أن يستكشف طبيعته الحقيقية وعلاقته بالكون هذا المبدأ يعكس فكرة أن ما يحدث في العوالم الروحية ينعكس في الحياة المادية وهذا الترابط يعزز الوعي بأن الإنسان ليس منفصلًا عن الكون، بل جزء منه وان الروح تمثل هذا الترابط.

المعرفة والفهم أدوات الفهم

تُعتبر المعرفة والفهم أدوات للتحرر من الجهل. هذا التحرر يمكّن الأفراد من الوصول إلى مستوى أعلى من الوعي الوجودي، حيث كل يعي مكانته في الكون مما يُعزز الوعي الوجودي ويتيح للأفراد فهم أعمق لحياتهم، تعزز الهرمسية فكرة أن الفرد يجب أن يتفاعل مع الكون بشكل إيجابي، مما يُساهم في تحقيق التوازن والتناغم. هذه الفكرة تُعزز الوعي بالمسؤولية الفردية تجاه الحياة، تُعتبر الهرمسية إطارًا غنيًا لفهم الوعي الوجودي، حيث تجمع بين الروحانية والفلسفة وتحث الأفراد على السعي نحو المعرفة والتأمل لفهم مكانتهم في الكون وتتفاعل مع مفاهيم أخرى للوعي الوجودي من خلال تشابه الأفكار حول الذات، المعرفة، والتجربة الروحية. هذا التفاعل يُعزز الفهم العميق للحياة والوجود عبر الثقافات والفلسفات المختلفة.

الهرمسية والدين

تناولت الهرمسية مجموعة واسعة من المواضيع، بما في ذلك الفلسفة، الروحانية، والمعرفة، مما يجعلها أكثر شمولية في الأفكار مقارنة بالأديان التي عادة ما تتبع عقائد محددة، تشجع الهرمسية على الفهم الشخصي والتجربة الفردية، حيث يُعتبر كل فرد مسؤولًا في بحثه عن الحقيقة والمعرفة، مما يقلل من إمكانية تأسيس طقوس دينية موحدة، تُعتبر الهرمسية أكثر فلسفة فكرية تعتمد على العقل والتأمل، بينما الأديان غالبًا ما تتطلب إيمانًا بعقائد وقيم محددة، تتيح الهرمسية تفسيرات متعددة للرموز والمعاني، مما يجعلها قابلة للتكيف مع ثقافات وأفكار مختلفة، بينما الأديان غالبًا ما تكون أكثر تقيدًا في تفسيراتها، الهرمسية تتفاعل مع مجموعة متنوعة من الفلسفات والعلوم، مما يجعلها أقل اعتمادًا على الإيمان العقائدي الصارم، تظل الهرمسية فلسفة لأنها تركز على التفكير النقدي، التجربة الفردية، والتنوع في التفسير، مما يميزها عن الأديان التقليدية التي تتطلب إيمانًا بعقائد محددة لذا يمكن القول إن عدم وجود إلاه مركزي يُعتبر أحد العوامل الرئيسية التي ساهمت في عدم تحول الهرمسية إلى دين، مما يعكس طبيعتها الفلسفية والتركيز على الفهم الفردي والمعرفة.

***

غالب المسعودي

تمهيد: يواجه المثقف العراقي المعاصر إشكالية عميقة تتجاوز مجرد اختيار الكلمات، لتصل إلى جوهر الهوية والتعبير عن الذات. يتجلّى هذا التحدي في تقاطع مأزوم بين لغتين: لهجة الأم التي تمثل الأصل العضوي للغة، والفصحى التي تمثل اللغة الرسمية والمطلوب استخدامها في الخطاب الفكري والثقافي. فهل يُطلب من المثقف أن يتحدث بلسان ما يفكر به، أم بلسان ما يُتوقع منه أن يفكر به؟ وهل يمكن أن تكون اللغة أداة حرية ووعي إذا كانت ذاتها سُلطةً وقيدًا؟

ثنائية اللغة: بين الذات والسلطة

المثقف العراقي يتربّى في بيئة لغوية مزدوجة، تكاد تشكّل لديه انقسامًا معرفيًا وعاطفيًا: اللهجة هي اللغة الأولى التي يتلقّاها شفويًا من أسرته وبيئته، تعبيرًا عن حيويته وعفويته، بينما الفصحى هي اللغة التي يُطلب منه التفكير والكتابة بها، لغة النخبة والمعرفة الرسمية.

هذا الانفصام اللغوي لا يُنتج تعددية غنية كما قد يظن البعض، بل يولّد شعورًا مزمنًا بالانفصال بين الوعي والتعبير، بين الشعور واللفظ، فتُصبح الكلمات “فصلًا” في جسده النفسي، لا امتدادًا طبيعيًا لوجدانه.

إن المشكلة ليست في الفصحى نفسها، التي تمثل منظومة لغوية رصينة، بل في الوظيفة السلطوية التي أُنيطت بها، حيث تحولت إلى معيار للتمييز الاجتماعي والطبقي، "غربال" يستبعد من لا يجيدها من حيث الانتماء، لا من حيث الإفهام.

يقول المفكر هادي العلوي: اللغة تمارس وظيفتها القمعية حين تتحول إلى شرطٍ مسبقٍ للقبول في جماعة النخبة.

وهذا ما يبرر احتقار اللهجة، وتحويلها إلى وصمة عار، وكأنها خلل لغوي وليس تركيبًا سيميائيًا يحمل ثقافة وتاريخًا وتجربة شعبية.

الفصحى كسلطة مركزية واللهجة كحقل مقاومة

ما لا يُقال كثيرًا هو أن الفصحى، بصفتها لسانًا موحدًا، تخدم السلطة الثقافية المركزية أكثر مما تخدم الأفراد. بينما اللهجة، بعمقها الشعبي وتاريخها الحيّ، تحمل في طياتها عناصر المقاومة واللاانضباط والتعبير الصادق.

هل يعقل أن نطالب المثقف بأن يتحدث عن القهر الاجتماعي والظلم والهامشية بلغة تتماهى مع بنية القهر الرمزي نفسه؟ هل يمكن للغة مهيمنة أن تكون مرآة للذات المقهورة؟

كما يقول عبد الجبار عبد الله: الانفصال بين اللغة واللهجة لا يعود إلى جوهر اللفظ، بل إلى تصنيفٍ اجتماعي أنتجته السلطة، لا اللسان. هذا التصنيف الاجتماعي يجعل المثقف يخجل من صوته الأول، من لحن بيئته، من الكلمات التي تعبّر عن أصالته وتُحرج منطق النخبة.

الكتابة واللغة: بين العضوية والمصطنع

لقد قلتُ ذات مرة: الكتابة بلسانٍ مُعقَّم تُفقد الفكر عضويته، كما يُفقد الجسد حيويته حين يُفرَض عليه أن يتحرك بطريقةٍ مصطنعة. فالكتابة ليست مجرد تركيب جمل سليمة، بل هي تفاعل حيّ بين الفكر واللغة والذات، وإذا أُجبرت على الارتداء لغة لا تنتمي إليها، يُصبح الخطاب بلا روح، بلا حرارة، بلا صوتٍ صادق.

السؤال ليس أيّ اللغة أفضل، بل هل الفصحى وحدها قادرة على نقل التعقيد الوجداني والاجتماعي والسياسي الذي نعيشه؟ هل بإمكانها أن تواكبنا بكل تناقضاتنا وأحزاننا وفرحنا؟

المثقف بين الولاء للغة الأم والالتزام بالفصحى

المثقف الذي يتخلى عن لهجة أمّه لا يفقد اللحن فحسب، بل يفقد جزءًا من بنيته الشعورية، فتذبل أشجاره الداخلية، ويصبح كلامه ناقصًا، وكأنه يعزف على آلة موسيقية معطوبة.

هذا ما يجعل خطابنا الثقافي اليوم شاحبًا، مرهقًا، منزوغ الصوت، مرتبك الهوية.

خاتمة: تأملات وتساؤلات

ليس العداء مع الفصحى، بل مع تحولها إلى أداة قمع تقتل تنوعنا اللغوي وتُغلق نوافذنا على أنفسنا. المثقف الحقيقي هو من يقف على حافة التوتر بين أصله ولهجته ولغته الرسمية، ويُحافظ على صوت ذاته.

هل يمكن أن نحيا حرية فكرية إذا كنا نكبت ألسنتنا؟ هل نرضى أن نُجبر على تنحية أصواتنا الأولى، والعيش بصمت مقيّدٍ؟

أسئلة تطرحها الحقيقة

هل الفصحى لغة الفكر الحقيقي، إذا حُرم صوت اللهجة من الارتفاع والسمع؟

من قرر أن اللهجة عيب لغوي، وأن الفصحى وحدها لغة العقل؟

كيف نحافظ على هويتنا إذا فقدنا لغة الدفء التي نولد بها؟

هل المثقف الذي يرفض لهجته، هو حقًا مثقف، أم مجرد ناطق بلغات الآخرين؟

كيف نطالب بالحرية الفكرية إذا كنا نقيّد ألسنتنا بقوالب مفروضة؟

وإذا لم يكن اللسان ملكنا، فمن يملكنا إذن؟

(الصوت الذي يُفكر كما وُلد، أقرب إلى الحقيقة من الصوت الذي يتجمّل ليُسمع).

***

الكاتب سجاد مصطفى حمود

 

يُعد الشر من أكثر الإشكاليات التي تناولها الفلاسفة وعلماء النفس ولا تزال محل جدال بالبحث والدراسة. ومظاهر الشر قديمة قدم الإنسان منذُ خلقه، ألم يقتل قابيل أخيه هابيل بسبب الغيرة والحسد، وإذا بحثنا في القرآن الكريم نجده أشار إلي الشر في مواضع عديدة منها:

 قوله تعالي “ومن شر حاسد إذا حسد”سورة الفلق آية ٥، وفي سورة أخري “من شر الوسواس الخناس”سورة الناس، آية ٤.

في عالمنا المعاصر نجد الشر بكثرة متجسد في أفعال الإنسان من جرائم القتل والسرقة والإستبداد، ونري أن فعل الشر ليس مقصوراً علي فئة مُعينة، علي عكس قول بعض الفلاسفة القدماء مثل الفيلسوف اليوناني سقراط الذي عرف الشر علي إنه ناتج عن الجهل وبعض فلاسفة العصر الحديث والمعاصر منهم الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر بقوله أيضاً بأن الشر يتطلب غباء ومحدودية في التفكير.

ومن وجهة نظرنا فهذا ليس مقياساً للشر أن يفعله الجهلة فقط او محدودي التفكير، فهناك المتعلمين في مختلف المجالات و الفئات ذات الحظ العظيم في العلم والثقافة والأدب وينتج عنهم الشر أيضاً، فليس الشر متمثلاً فقط في القتل وسفك الدماء.

الشر بمعناه العام “السوء والفساد، يقال رجل شر أي ذو شر، وهو شر الناس أي أسوؤهم وأكثرهم فساداً”جميل صليبا، المعجم الفلسفي، ص٦٩٥.

والواقع المعيش خير شاهد علي الجرائم الأفعال المشينة التي ترتكب كل يوم في حق الإنسانية التي أصبحت مذبوحة وأعتاد الناس مشاهد الشر في ثوب القتل تارة، والتحرش وهتك الأعراض تارة أخري والفساد المنتشر في شتي مناحي الحياة.

كيف يتأرجح معني الشر بين الفلسفة وعلم النفس؟

يري الفيلسوف الإنجليزي جون لوك بأن الإنسان يولد صفحة بيضاء ويتشكل حسب تجاربه ومجتمعه الذي يعيش فيه”، أي أن الشر عند الإنسان مكتسب وأن البيئة التي يعيش فيها هي المسؤولة عن تكوين شخصيته سواء كانت تتسم بالشر من عدمه، فالإنسان عند جون لوك ليس شريراً بطبعه، ولكن من زاوية أخري نفسية عند عالم النفس النمساوي سيجموند فرويد

نجد نظرته للشر الإنساني مختلفة فهو يري “الإنسان لديه دوافع عدوان كامنة وأن الحضارة هي التي تكبح جماحها” فهو بذلك يقول بفطرية الشر عند الإنسان، وإنه يولد عنده إستعداد لفعل الشر ولكنه مكبوت بفعل الحضارة وسُلطة المجمتع عليه.

واذا تعمقنا في فكر فرويد نجد أنه يرجع كل شيئ إلي الجنس، بمعني كل المشكلات النفسية والإختلالات السلوكية، يرجعها إلي الجنس، ولهذا لا يجب أن نتعجب إذا وجدنا رأيه في تحليل مفهوم الشر وأسبابه، أن يُرجعه إلي الجنس أيضا ًبمقولته” الجنس أصل كل الشرور ”، ولهذا يمكن أن ننتقده بسبب أنه لا يمكننا أثناء تجذير وتأصيل أي مشكلة أو محاولة حل إشكالية مثل الشر أن ننظر إليا بزواية واحدة فقط، فالأنسان أعقد بكثير وخصوصاً صيرورة التطور الفكري علي مدار مراحل حياته، فالبيئة المحيطة وتاريخه الماضي، كلها مفاتيح لمحاولة فهمه وفهم تصرفاته سواء كانت بالخير أوالشر ولا يجب ردها إلي الجنس فقط.

ختاماً به ما هو الشر الأعظم وهل يمكن أن يختبئ خلف سِتار الفضيلة؟

 نعم نجد الإجابة عند الفيلسوف وعالم النفس إيرك فروم في كتابه “تشريح التدميرية الإنسانية” فيذكر لنا  الشر الغير مباشر أو الشر المُبرر: والذي يقوم به الإنسان دون وعي أو فعله بطريقة غير مباشرة و يضرب لنا مثال بالموظف العسكري في معسكر نازي، كان ينقل السجناء إلي غرف الغاز، فالموظف يري انه يقوم بالواجب ويقوم بتنفيذ الأوامر بكل فخر، دون وعي أخلاقي منه أو مراجعة نفسه ما إذا كان العمل الذي يقوم به خطأ أو صواب، بل سَلّم للأوامر بطريقة عمياء حتي و لو كانت نتيجتها إذاء ودمار للغير.

وإذا قمنا بإسقاط الفكرة علي الأحداث الراهنة وما يحدث من حروب علي غزة الفلسطينية، نجد الطرف الذي يمارس القمع والإضطهاد يتوهمون أنهم يؤدون الواجب والولاء لعقيدتهم، وكل ما يقومون به من قتل وتدمير وإبادة، من وجهة نظرهم هو تحقيق لإرادة التوسع وتلبية لنداء الواجب.

وهذا يعد أبشع الشرور وأعظمها من وجهة نظر إريك فروم فهذا الخنوع للقمع الذي تمارسه تلك المنظومة، يُحذرنا من تحول الإنسان إلي كائن معدوم الوعي الأخلاقي يفعل الشر ويظن أنه يفعل الصواب، وهذا ما يجعله آداة لشر أكبر، وأختم مقالي بجملة تختصر وجهة نظرنا عن الشر للدكتور/مصطفي محمود مُتعجباً من الإنسان في عمل الخير والشر، الإنسان اذا فكر في فعل الخير سبق الملائكة، واذا فكر في فعل الشر سبق الشياطين، فهو بذلك تفوق علي جميع المخلوقات في خيره وشره.

***

محمد أبو العباس الدسوقي

 

في الذكرى الرابعة لوفاة المفكر والمؤرخ التونسي هشام جعيط قراءة في فكره

مقدمة: يذهب بعض المفكرين إلى أن أعمال هشام جعيط (1935- 2021) حول الإسلام المبكر قد وضعت حدا للمنجز الإستشراقي الذي إهتم بهذه المرحلة من تاريخ الإسلام وأغلقت قوسا من "المعرفة " التاريخية وفتحت آفاقا جديدة لأعمال مختلفة حول " الإسلام المبكر " بأدوات معرفية تستنطق المصادر القديمة وتميز غثها من سمينها بعين ناقدة وبصيرة ثاقبة، فتعيد كتابة تاريخنا برؤية موضوعية بعيدة عن القراءات التمجيدية من ناحية، وعن تلك التي لا ترى فيما حدث إلا إستنساخا أو إنتحالا لتراثات سابقة. يقول هشام جعيط في حوار مع الكاتبة حياة السايب نشر في موقع " ثقافات ": " أعتقد أن المستشرقين في الفترة التي كتبت فيها لم يكونوا متمكنين من علم التاريخ... و ليس لهم تكوين تاريخي نقدي حقيقي كانت كتاباتهم سردية وتطغى عليها أحكام مسبقة وإعتبارات خارج الحقل العلمي وهي مسكونة بفرض تفوق الغرب على الشرق الإسلامي ويمكن القول من خلال ثلاثيتي حول السيرة المحمدية إن الإستشراق قد إنتهى على يد أحد الشرقيين المسلمين. "(1)

1 – العرب والنبوة:

إن إستقراء إبن خلدون، المتوفى سنة 818 هج / 1406 م لتاريخ العرب قد أوصله إلى خلاصات عامة سيتكفل علم التاريخ بالبحث فيها تمحيصا وتدقيقا وإعادة قراءة للمصادر التي وصلتنا والتي تتحدث عن تلك الفترة، فهي تقتضي نظرا وتحقيقا على حد عبارته، إن إنتقال العرب من الوثنية إلى التوحيد مثل فيه الدين / النبوة " طقوس عبور " من التوحش والبداوة اللتين إتسمت بهما حالة العرب قبل الإسلام أو ما يعرف بالجاهلية وهو مصطلح مشحون بمسحة أخلاقوية، إلى حالة التمدن والتأنس. إنها طقوس ستترك بصمات لا تنمحي في ذهنية العرب وفي رؤاهم وتصوراتهم إنها بمثابة الوسم الذي إنطبعت به أخلاقهم وسلوكهم. يقول إبن خلدون في الفصل السابع والعشرين من الباب الثاني، في أن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة. ويشرح إبن خلدون ذلك بقوله: " والسبب في ذلك أنهم لخلق التوحش الذي فيهم أصعب الأمم إنقيادا بعضهم لبعض للغلظة والأنفة وبعد الهمة والمنافسة في الرياسة، فقلما تجتمع أهواؤهم، فإذا كان الدين بالنبوة أو الولاية كان الوازع لهم من أنفسهم وذهب خلق الكبر والمنافسة منهم فسهل إنقيادهم (... ) فإذا كان فيهم النبي أو الولي الذي يبعثهم على القيام بأمر الله ويذهب عنهم مذمومات الأخلاق ويأخذهم بمحمودها ويؤلف كلمتهم لإظهار الحق ثم إجتماعهم، حصل لهم التغلب والملك. " (2) إن الإنتقال بالعرب من حالة التذرر القبلي والإنقسام والتناحر والتحارب ومن حالة الغلظة والأنفة والكبر والتفاخر بالأنساب إلى حالة اللين وسهولة الإنقياد والإجتماع والتآلف يحتاج إلى رجة قوية تخلخل ما إستقر في تلك البنى القبلية من أعراف وتقاليد وتفتح أمامهم رؤى جديدة حول الإنسان والوجود وحول الشعوب المجاورة لهم. يؤكد هشام جعيط في سرديته لسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم على الإنتماء العربي للرسول وأنه من قبيلة قريش وعلى أنه ولد في مكة وهو بذلك يرد على المستشرقة باتريشيا كرون (1945 – 2015) التي شكت في إنتساب محمد إلى قريش وفي صحة نسبه وتعتبره من وسط الجزيرة العربية وليس من مكة. (3) يدقق هشام جعيط في كل المرويات والمصادر القديمة من إبن إسحاق إلى إبن هشام إلى البلاذري ولاسيما المرويات المتصلة بالنبي، يورد مختلف الروايات ثم ينقدها ويضرب بعضها ببعض معتمدا في ذلك على معرفة دقيقة بعلم التاريخ وعلى إطلاع واسع بالآنتروبولوجيا الثقافية وبعلم الإجتماع ومستندا على النص القرآني كمصدر رئيسي لنحت صورة للرسول صلى الله عليه وسلم. إنه يعمد إلى ترجيح بعض الروايات على أخرى محكوما في ذلك بنزعة علمية تبحث عن حقيقة ما حدث، بعيدا عن تصورات المستشرقين وعن خلفياتهم التي أثرت كثيرا في ما كتبوه حول التاريخ الإسلامي وسيرة الرسول وكذلك بعيدا عما إستقر في الضمير الجمعي الإسلامي من تصورات إرتقت إلى درجة البديهيات. يعتبر هشام جعيط النبوة بالحدث الجلل وأنها لا ليست بالأمر العادي الذي يتكرر حدوثه، وأن الشعوب التي تحظى بهذا " التكريم " يمكن أن يكون لها شأن عظيم. إنها حدث فارق في تاريخها في كل أبعاده وتكون شخصية النبي محورية في هذا المسار. فإضافة إلى الإصطفاء الذي آختص به شخص النبي لمؤهلات ذاتية تمتع بها، ولمسار ذاتي لعبت فيه ظروف تاريخية دورا في تبوئته هذا الدور، كان للنبوة دعائم أخرى، لقد صاحبت النبوة خلخلة للبناء اللغوي تكفل القرآن الكريم بإحداثها، يقول هشام جعيط: " فالقرآن إبتدع أيضا معجمه وهذا أمر عظيم وهو الذي خلق التجريد المفاهيمي في لغة لم تكن تعرف إلا الحسي كما في الشعر. " (4) لقد هيأ القرآن الأرضية الفكرية للعرب حتى يتلقوا حدث النبوة بآعتباره بوابة لدخول التاريخ، وقد أدرك جعيط ذلك بحسه التاريخي حين إعتبر أن تحولا معجميا في لغة هو تعبير عن تطور ذهني عام في الثقافة ومن وراء ذلك عن تطور في بنى الحضارة كما لدى اليونان وغيرهم. (5) إن القرآن الذي نزل بلسان عربي مبين، كان مفهوما بالضرورة من العرب، رغم ذلك يؤكد جعيط أننا لم نكن نعرف أفكار العرب وجدالاتهم إلا من خلال القرآن وحسب رأيه فإن السور الوسطى هي التي كانت صعبة الفهم بالنسبة إلى للقرشيين لأنها كانت تحوي مفردات مجردة، وحتى السور الأولى تحوي مفردات خاصة وجديدة ومبتدعة كالنار والجنة وجهنم، ... لقد إستطاعت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم تثوير الوعي العربي إنطلاقا من اللغة مسنودة بالوحي، يقول جعيط متحدثا عن مئات الكلمات الجديدة: " وإنما إخترقت اللغة والضمائر عبر أربعة عشر قرنا من الحضور والتعمق في الحضور، بل كونت المعجم اليومي للعرب المسلمين في الحضارة التي ستنبني. (6) يطرح القرآن مشكل اللغة في كل أبعاده ويتبنى جعيط رأي المستشرق الألماني يوليوس فلهاوزن (1844 – 1918) الذي يرى أنه يشهد على قوة اللغة وسيطرتها على الفكر، لكن العكس صحيح أيضا وهو سيطرة الفكر على اللغة وتطويعه لها. فالقرآن خلق مفردات من الجذور العربية لكن إنبلاجه في هذه الفترة دون سواها، كان بسبب أن اللغة وصلت إلى حد كبير من النضج والغنى ومن هنا إزدهار التعبير الفني في الشعر. والقرآن تعبير فني بأعلى درجة. يهتم جعيط في رسم ملامح تاريخ نشوء الإسلام بالديالكتيك: الأنا / المجتمع والفرد / الوسط، ويطرح تساؤله ما هو قسط محمد – وهو كبير – وما هو قسط العالم الذي ولد فيه؟ في آخر المطاف، السؤال المحير هو التالي: كيف كان محمد ممكنا في ذلك الزمان وفي تلك الساحة من وجهة الأفكار ومن وجهة التعبير ومن وجهة الإرادة المستميتة؟(7)

– النبوة في التاريخ

ملامح الوضع الجغراسياسي في شبه الجزيرة قبل البعثة:أدرك هشام جعيط أهمية المدن في صناعة التاريخ لأنها المدخل الوحيد لمحاصرة البداوة وتحجيم دورها ولاسيما في شبه الجزيرة الوسطى. فهذه القطعة من الأرض المحاصرة بين الشمال – سورية - ومدنه مثل العلا والحجر والبتراء وبصرى وبين الجنوب – اليمن – حيث سبأ وشبوا وتمنع وظفار ونجران. عشية ظهور الإسلام كانت المدينة هي السائدة في المجال التاريخي، بينما كانت البداوة هي المهيمنة في المجال الأنتروبولوجي. لقد كان الجمهور الأعظم من العرب لا يزال خاضعا للوجود البدوي الرعوي القبلي والحربي. كانت المدن تستبطن في داخلها الفكرة الإتحادية المجمعة ونزوعا معينا إلى الهيمنة، غير أن المدينة ظلت واقع أقلية وكانت على الدوام مخترقة بالمبدإ القبلي الذي كانت تحاول عبثا تجاوزه. (8 ) كان الصراع على أشده عشية ظهور الإسلام بين البداوة والمدينة، فقد أصبح مستقبل عرب شبه الجزيرة رهين حسم هذا الصراع. كان لزاما على المدينة أن تتخلص من الإرث الأنتروبولوجي الثقيل للبداوة، فلا معنى أن تؤسس مدنا تكتسحها عقلية الثأر والإغارة ونمط إقتصادي رعوي مع ما ينتجه من قيم وسلوكات لا تستقيم ونمط العيش في المدن. فالمدن القادرة على إدخال العرب التاريخ هي تلك التي تقدر على إنشاء نمط إقتصادي جديد وتغيير الرموز الثقافية وكذلك الميراث الأنتروبولوجي، إما بثورة تعصف بالسائد من معتقداته وتصوراته ونظرته للوجود وللإنسان وإما بإصلاح لمنظومة القيم التي لم تعد تستجيب لطموحات المدن في وضع بصمتها الخاصة في تاريخ المنطقة. فالقرن السادس الميلادي هو عصر الجاهلية حسب هشام جعيط عصر العنف والجهل، في ظل خضوع اليمن للأجنبي الاحباش والفرس، هنا يبرز صعود مكة في ظل الهيمنة البدوية العددية، كأنها الظاهرة الأولى، لأنها الأكثر إمتلاءا بالمستقبل يقول جعيط: " إن أهمية مكة تنبع من كونها كانت مدعوة لتنظيم وتدبير القوى الجديدة للعروبة البدوية ولإجراء عملية وصل بين العالمين الداخلي والخارجي، عالم القبيلة وعالم المدينة بشكل لم يحدث من قبل. " (9) هناك مدن كان بإمكانها أن تلعب الدور التاريخي التوحيدي أفضل من مكة مثل الحيرة، لكنها كانت قوة مدعومة من الأجنبي- الإمبراطورية الساسانية- لم يكن هواها عربيا خالصا فلم تستطع توسيع نفوذها إلى كل الجزيرة العربية كما أنها لم تكن حاملة لرؤى مستقبلية للعرب، أما عالم الشمال عالم عرب الماضي الأوائل لم يعد قادرا على القيام بدوره كوسيط ثقافي، فقد تلاشت مدنه العربية وأصبحت موطن هجرة نقلت عرب اليمن من الجنوب إلى الشمال والذين صاروا قضاعة مع مزايا وسمات بدوية صرفة وخاضعين فوق ذلك لبيزنطة. (10) إن الجزيرة العربية الوسطى المحصورة بين قطبين في حالة إنحطاط، بدأت تظهر داخلها مدن مثل مكة والطائف ويثرب، إنها هي أيضا أنشئت على أساس قبلي لكنها كانت تستمد مادة وجودها من الزراعة والتجارة وكانت مكة قائمة في وسط الحرم أو الأرض المقدسة، الحرم الأهم في كل الجزيرة العربية نظرا لكونه مركز حج يتجلى فيه بكل نصاعة تفاعل المدينة والقبائل، نحن أمام أرستقراطية دينية تناظر الأرستقراطية الحربية لدى كبريات القبائل الرعوية والبدوية. (11) كان العرب حسب جعيط موحدين بالدم واللغة والدين – رغم تعدد الآلهة وعبادة الأوثان ؟– ويشكلون أمة ثقافية وليس أمة الدولة. كانت القبيلة تحل محل الدولة إذ كان لكل قبيلة بيتها القيادي يعني أسيادها، إلا أنه لم يكن السيد يمارس سلطة قهرية كنا نجد ذلك في مكة مع قريش وفي يثرب مع الأوس والخزرج وفي الطائف مع ثقيف وكان ذلك التنظيم يسمح لسفحي العروبة البدوي والحضري أن يجد لغة مشتركة وموقفا مشتركا وقيما مشتركة مع ذلك كان يعزى لأهل المدن، لا سيما لقريش عقلية خاصة مختلفة عن عقلية البدو، كانت ترسم ما يشبه الحدود ما بين العالمين (البداوة والحضر). ( 12)

محمد النسب والشرعية: في هذه البيئة ولد النبي ودعا طيلة ثلاث عشرة سنة، كان يتحدر بخط مستقيم من قصي أي مؤسس مكة بوصفها كيانا مدينيا، أي من الرجل الذي أقر بها قريشا - ومعنى قريش من تقرش القوم تجمعوا والمقرشة أي السنة الشديدة المحل التي يتجمع فيها الناس فتنضم حواشيهم وقواصيهم – وكان قد جمع بين يديه الوظائف الدينية والسياسية والعسكرية وبنوع أخص كان النبي ينتسب إلى عشيرة عبد مناف إسم الإبن الثاني لقصي الذي كانت سمعته قد فاقت بسرعة شهرة الإبن الأكبر عبد الدار. وعلى الرغم من إنقسام عشيرة عبد مناف إلى فخذين، فخذ إبن هاشم وفخذ عبد شمس فقد ظلت متماسكة تماسكا كافيا لكي يعتبرا " العشيرة الأقربين " التي أمر الله النبي بإنذارها في القرآن (سورة الشعراء / الآية 214 ) تدل حقا على بني عبد مناف وليس فقط على بني هاشم وبذلك كان النبي ينتسب إلى إحدى عشيرتي قريش المقدستين التي كانت تشارك في خدمة الحجيج وفي القيادة العسكرية. (13) لئن كان توسع التجارة الذي كان ظاهرة حديثة العهد، قد أوجد تباينا إجتماعيا يظهر قيمة عشائر لم تكن منحدرة من قصي مثل مخزوم أو فخذ عبد شمس على حساب فخذ هاشم المنحدرين كليهما من عبد مناف، فإن عشيرة عبد مناف قد ظلت مع ذلك تحتفظ بمكانة مميزة مؤسسيا وكانت تمثل في الممارسة بيت قريش خاصة وهذا أمر بالغ الأهمية حسب هشام جعيط لفهم الصعود النبوي لمحمد ونجاحه اللاحق في المدينة وبيت القبائل العربية. لم يكن محمد على الرغم من فقره ومن فقر عمه وحاميه أبي طالب متحدرا من أي كان بل من قصي وعبد مناف وكان بهذه الصحة يمكنه أن يظهر في أعين العرب كممثل لقريش في غاية الكمال. (14) يرى هشام جعيط أنه لا مناص من الفصل المطلق بين التبشير الديني لمحمد طيلة 13 سنة في مكة بالذات وهو تبشير ديني محض أدى إلى ولادة الإسلام وبين التوليف المقبل في المدينة بين الدولة والدين. فالعنصر الأول نتاج إتجاه روحي عميق ويندرج في سياق المدى الطويل لتطور الروحانية التوحيدية والثاني هو ثمرة المصادفة ويلبي الحاجة إلى تجاوز هامشية محلية، هامشية الجزيرة العربية بإدخال مبدإ الدولة فيها وإليها. (15) لكنا نرى أن ما حدث في المدينة لم يكن ثمرة المصادفة لأن الوحي الذي رافق مسيرة الألم في سبيل الدعوة إلى الله في مكة وهو الذي إستند إليه جعيط في فهم سيرة الرسول، ظل يرافقها في المدينة ويعمل على تجذير مبادئها من خلال سيرة الرسول وظل يؤرخ لأحداث كبرى عاشها النبي. يؤكد هشام جعيط أيضا على أن النبي لم يؤسس ملة أو طائفة بل دينا جديدا وذلك في رده على مكسيم رودنسون في كتابه، محمد، الصادر بباريس، سنة 1968، ص 95. كما فند جعيط مزاعم عدد من المستشرقين، في أن الدعوة المحمدية في مكة كانت ذات أهداف سياسية أي الهيمنة على مكة، فلا يوجد إسناد لآفتراض كهذا. وإن كان خصوم النبي ينسبون إليه مطامح فلا يعني إطلاقا أن النبي كان صاحبها حقا، بل يعني أن أفقهم كان قد بقي محصورا ومحدودا بحدود مدينتهم اللئيمة وموازين النفوذ الإجتماعي. (16) لكن يمكن أن نلحظ من جانب أهل مكة مقاومة ثقافية ودينية في سبيل الشرك – تعدد الآلهة- وآحترام الأجداد اللذين إنتقدهما القرآن الكريم. إن المسألة التي صادفها النبي في مكة هي ذات بعد ثقافي وديني ولا علاقة لها بالتجارة ولا بالسياسة فهي دينية أولا وثقافية ثانيا، هي ثقافية من حيث أنها تريد أن تعطي للشعب العربي كتابه المقدس ونبيه: مؤدبه الديني والأخلاقي. (17)

دولة - المدينة النبوية:

إن النبوة حدث un fait prophétique لأن لها أثرا في التاريخ وأثرها ليس هينا، رغم إندراجها في التراث الإبراهيمي، إلا أنها حدث غير مسبوق بالنسبة إلى العرب، فقد جعلت منهم أمة ذات ملامح مخصوصة وتركت بصماتها التي لا تنمحي في وجدانهم. لقد كانت عابرة للقبائل والعشائر، لذلك إستطاعت أن توحدهم. يقول عبد المجيد الشرفي في مقارنته بين النبوة والنظام القبلي والعوامل التي مكنت النبوة من لعب هذا الدور: " لعل الفارق بينه – أي الرسول – وبين زعماء العشائر ورؤساء القبائل أن نفوذ هؤلاء مقتصر على عشائرهم وقبائلهم، بينما يخترق نفوذ النبي الإنتماءات القبلية ويعلو عليها دون أن يلغيها (...) كما يستند النبي إلى مرجعية دينية لا تتوفر لهم، وبهذا المعنى فإن سلطته لا تورث " (18) فمنذ الفترة المدنية بدأت ملامح الفعل النبوي في التاريخ تظهر، إنه حدث تأسيسي un événement inaugurateur بدأ بتغيير إسم دار الهجرة التي ستحتض الدولة- المدينة من يثرب إلى المدينة وفي ذلك إشارة إلى أن الدين الجديد قادر على إدارة الإختلاف العرقي والديني وحتى اللغوي في محيطه الجديد. لقد إعتبر هشام جعيط المدن العربية الإسلامية الناشئة تمثل تحولا أو " قطيعة " نحو صناعة حضارة جديدة دون إنكار لآستمرار دور النمطين الكلاسيكيين الآخرين في أداء دورهما الحضاري ويعني بذلك مدن القوافل في الصحراء وعلى حفافيها ومدن الدول العظيمة التي تأسست على شواطئ البحار والأنهار. كان " حدث الدولة " في الحياة العربية موضوعا مركزيا عند هشام جعيط عمل من خلال إستقرائه لتاريخ الإسلام المبكر على إبراز أهميته وتأثيره في تصوراتنا وفي رؤيتنا. يتحدث رضوان السيد في مقال نشر بعد وفاة هشام جعيط، يذكر فيه حوارا دار بينهما حول قيام الامة في التاريخ وحول إيديولوجيا الجماعة وهي مواضيع عزيزة على رضوان السيد وكان جعيط مشغولا بدولة المدينة التي إتجهت لإنجاز مشروع الأمة. وحين سأل رضوان السيد هشام جعيط عن إيديولوجيا الوحدات الثلاث: وحدة الجماعة، وحدة الدار ووحدة السلطة أو الدولة كان جعيط يجيب بأن " الدولة في المدينة " هي أساس الوحدتين الأخريين في إرادة التحقق وفي الوعي بذلك. وفي الوقت الذي يرى فيه رضوان السيد أن المدينة – الدولة هي المدينة الإغريقية يرى جعيط أن دولة المدينة هي التي تسعى بوعي للإنسياح في العالم مقدمة نمطا حضاريا جديدا. (19) إن المدينة- الدولة عند الإغريق تتميز بأن علماءها ومفكريها وفلاسفتها كرسوا مجهوداتهم لخدمة المصلحة العامة ودعوا إلى إقامة نظام سياسي يحقق العدالة ويثقف ويعلم ويربي النشء الصاعد. لقد كان لكل مدينة - دولة دساتيرها وقوانينها وآلهتها حتى وإن كانوا جميعا يشتركون في مكان واحد هو اليونان. لقد حدد أرسطو بعض الشروط الواجب توفرها لقيام المدينة – الدولة وتتمثل في: قيم خاصة بالمدينة، مؤسسات، وسائل عيش وقوة عسكرية للدفاع عن النفس. يتكون المجتمع داخل المدينة- الدولة من ثلاث طبقات تختلف من حيث الحقوق السياسية: الطبقة الأولى هي طبقة المواطنين الأحرار وهي الفئة الحاكمة، العسكر، ملاك الأراضي وفئة التجار يتمتعون بحقوقهم السياسية كاملة. الطبقة الثانية هي طبقة الأجانب الذين يعيشون في المدينة هم أحرار ولا يخضعون لأية سلطة حاكمة إلا أن بقاءهم متوقف على حسن تصرفهم أي خضوعهم لقانون المدينة، في حالة خرق القانون يطردون، ليس لهم حقوق سياسية. الطبقة الثالثة هي طبقة العبيد تعمل على إرضاء وإشباع حاجيات طبقتي الأحرار والأجانب وهي محرومة من جميع الحقوق السياسية فهي بمثابة أداة عمل. أما دولة المدينة النبوية فقد كانت لها تشريعاتها الخاصة وعقائدها المميزة، فقد ظلت طيلة حياة محمد بالمدينة تنحت شخصيتها الخاصة. شكلت غزوة الخندق حسب هشام جعيط، بآعتبارها خطرا خارجيا يستهدف إستئصال التجربة الوليدة من جذورها، عامل تماسك ووحدة لسكان المدينة جميعا(20). لقد وضعت هذه الغزوة دستور المدينة الذي ينظم العلاقات بين مختلف مكونات المدينة الإجتماعية والعرقية ووالدينية أمام إختبار تجسيد قيم التعايش المشتركة التي تضبط العلاقات فيما بين تلك المكونات. عملت دولة المدينة النبوية على الإعلاء من شأن العلم لذلك حاولت إقامة توازن جديد مع ثقافة المشافهة، السمة البارزة لثقافة البداوة وذلك بالتشجيع على تعلم القراءة والكتابة. كانت دولة المدينة توظف كل الإمكانات التي يتيحها الدين الجديد الذي أصبح هو المحدد الرئيس لهوية الجماعة ولإنتمائها، بعيدا عن عصبية الدم والعشيرة والقبيلة. إن الموروث الثقافي لفترة ما قبل الإسلام، والحامل لقيم سلبية عمل الدين الجديد على التخلص منه تدريجيا فمسألة العبيد وهي ظاهرة إجتماعية كونية في تلك الفترة إذ أن وجود مجتمع من دون عبيد ظل أمرا غير مفكر فيه أو مما يستحيل التفكير فيه آنذاك، لكن الدين الجديد وفي تكريسه لقيمة الإنسان ولعلو منزلته عمل على التشجيع على عتق العبيد من خلال نصوص ذات بعد مقاصد ومن خلال ممارسات تاريخية تذهب إلى الدفاع عن إنسانية الإنسان بقطع النظر عن هويته الدينية والعرقية وذلك تكريسا لقيم المساواة والعدل والإنصاف. إن الإسلام في داخله كان حاضنا للمختلف، وباحثا عن المشترك ومنفتحا على الآخر المغاير في نزوع متصاعد لتحجيم أثر النزعة القبلية في الدين الجديد، فمع بلال الحبشي وصهيب الرومي وسلمان الفارسي، هذه الشخصيات بموروثاتها الثقافية والتاريخية أصبحت التجلي الأمثل لقدرة الدين / النبوة على صهر الجميع في أمة واحدة. في إطار إستمرار دولة – المدينة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم عمل الخليفة أبو بكر الصديق على التصدي لكل ما من شأنه أن يحدث تصدعات داخل جسم الأمة المتماسك وهما ظاهرتا الردة، وإدعاء النبوة وقد حلل هشام جعيط الظاهرة الثانية ليؤكد من خلالها أن السلطة في نظر العرب لا يمكن أن تقام إلا بنبوة تفرض على الجميع الإعتراف بها. يشرح جعيط ظهور نبوات شتى بأنه أمر مثير وذو دلالة على الترابط ما بين الدين والسياسة فقد جرى في كل المصادر وصف هؤلاء - طلحة عند بني أسد، سجاح عند تميم، الأسود العنسي في اليمن، ذي التاج في عمان ومسيلمة عند بني حنيفة – بالأنبياء الزائفين كأنواع من الكهنة لهم شياطينهم الخاصة بهم وينطقون بكلام مسجع ويمارسون السلطة الروحية والسلطة الزمنية. (21) ويرى جعيط أن ظهور تلك النبوءات في كل مكان تقريبا يطرح مشكلة، فهل يتعلق الأمر بمحاكاة محض للنبي محمد أم يتعلق الأمر بتعبير أعمق عن حقيقة مجتمعية وحضارية؟ وهل كانوا صدى لمحمد وتكرارا آليا لأستاذيته وسلطانه العقائدي أم كان الأمر متعلقا بإفراز مجتمع قبلي لا يمكنه بلوغ السلطة المنظمة إلا من خلال الحركة النبوية؟ حسب جعيط يتعلق الأمر بالإثنين معا. فلم يكن بمستطاع الأرستقراطية المحاربة أن تبلور سلطة دولة فقد كانت الظاهرة الدينية وحدها قادرة على توحيد الناس وعلى الحصول منهم على الطاعة والتشريع والتنظيم وقيادتهم إلى الحرب (...) لا بد من التسليم بأن تصور السلطة كان مستحيلا بدون النبوة في الوسط القبلي وفي ظروف الجزيرة العربية آنذاك. (22) يرجع جعيط الفشل الذي آلت إليه دعوات أدعياء النبوة إلى أنها كانت هشة لأنها مجرد تعبير عن القبيلة ولأنها لم تمر بمسيرة طويلة ولا بتجربة صادقة تعطيها مصداقية، كانت في مواجهة نبوة تملك مرتكزاتها الخاصة وكانت قد أسست قاعدتها الإجتماعية ومرت بمسيرة طويلة وتملك فضلا عن ذلك كله شعورا قويا بالحقيقة. (23) يشرح هشام جعيط إختيار أبي بكر وعمر كخليفتين للرسول صلى الله عليه وسلم عقب وفاته والإجماع الذي إنعقد حولهما، بأنهما حالة إستثنائية وتجسيدا للصحبة الإسلامية المحض وهي فوق إعتبارات قرابة البيت أو الإنتماء العشائري ويرى أنهما يتابعان على هذا النحو بارقة النبوة. (24) كلاهما لم يكونا ينتميان إلى قبائل كبيرة مهووسة بالجاه والسلطة، معهما يتجسد نزوع الإسلام إلى إسناد السلطة والحكم إلى من هو جدير بهما بعيدا عن منطق التوريث وعن صلة الدم والعشيرة، كانت معهما قيم الإسلام تتقدم على الأسرة وهو مسار انخرط فيه الإسلام يقوم على محاربة بقايا ما خلفته آنتروبولوجبا البداوة وما تركته في وعي الإنسان العربي، إلا أن للتاريخ منطقه ومساره الخاص ولا سيما الأحداث التي عاشتها الأمة بعد مقتل عثمان. و التي كشفت عن عودة قوية لمنطق القبيلة وللعصبية.

الخاتمة: يقدم هشام جعيط في آخر كتابه حول الوحي والقرآن والنبوة، شهادة رائعة حول رؤيته لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، شهادة من مختص في تاريخ الأديان المقارن تؤكد عمق الخلاصات التي توصل إليها بعد دراسته لسيرة الرسول ومقارنتها ببقية الأنبياء والشخصيات التي تركت بصمتها في وجدان الشعوب التي عاشوا بينها وفي تاريخها، يقول: " وإذا كان محمد ممن بنى الضمير الإنساني الداخلي ومن ثم الحضارة والثقافة والأخلاق، وكان ممن أسهم بقوة في قفزة كبيرة في مسار الإنسانية من الحيوانية إلى الإنسانية، وهؤلاء الهداة قلة، وإذا كان ممن أعطى لمسار التوحيدية أرقى تعابيرها من الوجهة الأنطولوجية على الأقل، فهذا النبي يبقى شاهدا على الله وعلى أمته شهيدا ولهذا لهو حقيقة النبوة المحمدية وجوهرها في الأعماق. " (25)

***

رمضان بن رمضان باحث في الحضارة العربية الإسلامية

...............................

الهوامش والتعليقات:

1 – حوار مع هشام جعيط أجرته معه حياة السايب، موقع ثقافات، أعيد نشره في 24 يونيو 2021

2 – عبد الرحمان إبن خلدون (ت 808 هج/ 1406 م)، المقدمة، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1421 هج / 2000، ص 119.

3 – هشام جعيط، في السيرة النبوية- 2 – تاريخية الدعوة المحمدية في مكة، دار الطليعة، بيروت، ط 2، 2007، ص 145.

4 – ن. م ص 156

5 – ن. م ص 156

6 – ن. م ص 157

7- ن. م ص 157.

8 – هشام جعيط، الفتنة جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر، دار الطليعة، بيروت، د. ت، ترجمة خليل أحمد خليل، ص 13.

9 – ن. م ص 13

10 – ن. م ص 14

11 – ن. م ص 14

12 – ن. م ص 15

13 – ن. م ص 18

14 – ن. م ص 19

15 – ن. م ص 20

16 – ن. م ص 21

17 – ن. م ص 21

18-عبد المجيد الشرفي، الإسلام بين الرسالة والتاريخ، دار الطليعة، بيروت، 2001، صص 76 - 77.

19 – رضوان السيد، " هشام جعيط... المؤرخ والمفكر النهضوي العربي " جريدة الرأي، الجمعة 23 شوال / 04 يونيو 2021 رقم العدد 15529.

20 – هشام جعيط، الفتنة جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر، ص 27

21 – ن. م ص 39

22 – ن. م ص 40

23 – ن. م ص 40

24 – ن. م ص 37

25- هشام جعيط، في السيرة النبوية – 1 – الوحي والقرآن والنبوة، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الرابعة، 2008، ص 107

في الأساطير تُعتبر الاحجار رموزًا قوية وتحمل معاني متعددة، تتراوح بين القوة والثبات إلى التحول والتغيير، حيث يمكن أن يتحول الأشخاص إلى حجارة كعقوبة أو كوسيلة للنجاة، تُعتبر بعض الاحجار تمثيلًا للأحداث التاريخية، حيث تُخلد ذكرى الأبطال أو الآلهة، بعض الحجارة تُعتبر مقدسة، مثل الحجارة التي تُستخدم في المعابد لتكريم الآلهة. تتناول اسطورة سيزيف عقوبته بسبب تحديه للآلهة، حيث قام بالخداع والاحتيال، حتى أنه استطاع الاحتفاظ بحياته لفترة أطول من المعتاد، سيزيف كان ملكا يستهزئ بالآلهة، مما أغضب زيوس كما قام بخداع هاديس (إله الموت) مرتين، مما أدى إلى انتهاك قوانين الموت، عوقب سيزيف بأن يُجبر على دفع حجر ثقيل إلى قمة جبل وعندما يصل إلى القمة يتدحرج الحجر إلى الأسفل مما يجعله يبدأ من جديد، وهي عقوبة تمثل العمل العبثي واللا جدوى لم يكن سيزيف مواطنا عاديا يدفع حجرا الحجر الى قمة الجبل بل كان ملكا في كورنثة، مواطنا عاديا كجزء من تجربة الإنسانية وكيف تمنح الالهة البشر حرية البحث عن معنى، بالتالي تعكس أهمية الإرادة الحرة في خلق المعنى، يُعتبر عذاب سيزيف رمزًا للصراع الإنساني في حياة مليئة بالتحديات، تُشجع الآلهة البشر (الملوك)على خوض تجاربهم الخاصة، مما يعكس فكرة أن المعنى يُكتسب من خلال التكليف، بالتالي إذا كانت الآلهة لا تعرف المعنى، فإن ذلك يُعزز من فكرة العبثية، حيث يجب على البشر (ملوكا )مواجهة الفوضى والبحث عن قيمة في معاناتهم، ويُمكن أن يُعتبر عبء سيزيف دعوة للتأمل في طبيعة الحياة والوجود، مما يفتح المجال لفهم أعمق للمعنى الشخصي، بذلك يمكن ان تبرز أهمية التجربة البشرية في مواجهة التحديات والسعي نحو الفهم.

اسطورة سيزيف في الادب والفلسفة

تُستخدم أسطورة سيزيف في الأدب والفلسفة بطرق متعددة، حيث تعكس موضوعات عميقة تتعلق بالوجود والمعنى. في أعمال ألبير كامو، تُعتبر أسطورة سيزيف رمزًا للعبثية. يرى كامو أن الحياة قد تكون بلا معنى، لكن الإنسان يجب أن يقبل هذا العبث ويستمر في الكفاح، في الأدب تعكس قصص عديدة صراعات الشخصيات التي تشبه معاناة سيزيف تُعتبرها الأساطير تعبيرًا عن التحدي للسلطة والتقييد، حيث يرمز سيزيف إلى الشخص الذي يرفض الخضوع للآلهة، ويمثل الحجر الذي يدفعه رمز العبء والجهد المستمر، ويعكس المعاناة البشرية والسعي نحو الأهداف رغم العقبات، ترمز قمة الجبل (قمة...!) بكونها الهدف الذي يسعى الإنسان للوصول إليه، وتعكس الصعوبات والتحديات التي تواجهه، تُشير هذه الفكرة إلى عدم وجود معنى حقيقي في الحياة لان الصخرة قد تتدحرج الى واد اخر وتستدعي سيزيفا اخر ليرفعها مجددا بعقوبة أو تكليف، حيث يصبح الجهد المتكرر بلا جدوى، مما يبرز الصراع الداخلي للإنسان حيث يعيش في حلقة مفرغة من العمل، مما يمثل الصراع مع الزمن والوجود، يرتبط الخداع الذي مارسه سيزيف مع الالهة، بنزعة الإنسان للتمرد على القدر مما يجعلها موضوعًا غنيًا في التفكير الفلسفي.

حدود الإرادة الحرة

الإرادة الحرة في تحقيق المعنى، وفي سياق هيمنة الآلهة تظل خاضعة لسلطتها، مما يحد من قدرة الفرد على اتخاذ قرارات حقيقية، إن السعي لتحقيق معنى قد يبدو عديم الجدوى، مما يُقلل من فعالية الإرادة الحرة في خلق قيمة ما تعتمد الإرادة الحرة على التجارب الفردية، لكن هذه التجارب قد تكون محكومة بالظروف والتحديات التي تفرضها الآلهة، يُمكن أن يؤدي الصراع بين الإرادة الحرة والقيود المفروضة إلى تناقض داخلي، حيث يشعر الفرد بالتوتر بين الرغبة في الحرية والواقع الذي يعيشه، تعيق الظروف الحياتية الصعبة والقيود المفروضة من قبل الآلهة قدرة الفرد على تحقيق معناه الخاص هذا يُعزز من شعور الفرد بالعزلة، مما يُضعف من إيمانه بإرادته الحرة ويمكن أن يؤدي إلى عدم الجدوى في تحقيق معنى، الواقع الذي تفرضه الآلهة قد يقود إلى اليأس، مما يُحد من فعالية الإرادة الحرة، هنا تظهر حدود الإرادة الحرة وكيف يمكن أن تتداخل مع هيمنة الآلهة، مما يجعل تحقيق المعنى تحديًا معقدًا.

تمرد سيزيف

يبدو أن رمي الحجر قد يحرر سيزيف من العقوبة المستمرة، لكنه في الوقت نفسه يعني أيضًا التخلي عن الصراع الذي يحدد وجوده، قد يُعتبر هذا الفعل أيضا تحديًا للآلهة، مما يجعله عرضة لعقوبات جديدة، إذا رمى سيزيف الحجر، قد يفقد المعنى المرتبط بالجهد المستمر والسعي، مما يطرح تساؤلات حول ما إذا كان يمكن العثور على معنى في الحياة بدون صراع، حيث أن التخلي عن الصراع قد يعني الاستسلام للفوضى، مما يتناقض مع فكرة الوجود التي تدعو إلى إيجاد قيمة في النضال، لكن يظهر هذا القرار قوة الإرادة الحرة، في الوقت نفسه والتوتر بين الرغبة في التحرر والالتزام بالمسؤولية، قد يؤدي التمرد إلى نتائج غير متوقعة، حيث أن الأفعال تحمل عواقبها، وبالتالي، فإن اتخاذ قرار بالخروج عن وصايا الالهة يؤدي إلى تحديات جديدة بشكل عام، إذا رمى سيزيف الحجر، قد يبدو أنه حقق تحررًا مؤقتًا، لكنه أيضًا يواجه تداعيات جديدة تعيد تشكيل وجوده وتجربته.

تحدي السلطة

يُظهر رمي الحجر تحديًا لسلطة الإلهة، مما يُعتبر انتصارًا رمزيًا على قيود القدر، قد يشعر سيزيف بالتحرر من عبء العقوبة، مما يمنحه شعورًا بالتحكم في مصيره، رغم شعوره بالانتصار يبقى هذا الفعل عبثيًا، لأن تبعات التمرد تؤدي إلى عقوبات جديدة أو صراعات أخرى، حيث إن الحياة مليئة بالتحديات المستمرة، مما يعيد سيزيف إلى دوامة المعاناة، قدرة الفرد على مقاومة الضغوط الخارجية حتى مع هذا الانتصار، تعكس الفكرة الوجود بأن المعنى يُكتسب من خلال الجهد المستمر، بذلك يُمكن اعتبار رمي الحجر انتصارًا رمزيًا، لكنه يظل مؤقتًا ويعكس التوتر بين الحرية والعقوبة.

التماهي الفلسفي

التماهي الفلسفي يتحدى الفهم التقليدي للحياة والمعاناة، مما يمثل تمردًا على الأفكار السائدة، يمكن للإنسان أن يخلق معنى خاصًا لنضاله، حيث يتحول العمل المتكرر إلى تجربة ذات قيمة، يُعتبر التماهي الفلسفي وسيلة لتحرير العقل من القيود المفروضة من قبل المجتمع أو الالهة، مما يعزز من الإرادة الحرة، يتجلى التماهي في الصراع من أجل فهم الهوية الفردية والعثور على المعنى الشخصي في مواجهة العبثية من خلال التأمل في الذات، يعتبر التماهي الفلسفي كوسيلة للتفاعل مع فكرة العبثية، حيث يُظهر كيف يمكن للفرد أن يجد قيمة في النضال رغم عدم جدواه، يُعتبر التماهي الفلسفي نوعًا من التمرد الذي يُساعد الأفراد في خلق معنى في حياتهم من خلال فهم تجاربهم، رغم أن التماهي يساعد في خلق معنى، إلا أنه يظل محاصرًا بفكرة العبثية، حيث يمكن أن يؤدي إلى شعور بعدم الجدوى. مما يجعله كالحجر رمزًا للثقل الذي نحمله جميعًا في حياتنا.

الالهة والسلطة المطلقة

تمثل الآلهة سلطة مطلقة، حيث لا يمكن للإنسان الإفلات من عقوباتهم، مما يعكس فكرة الهيمنة والتحكم، تمرد سيزيف على الآلهة يظهر رغبته في مقاومة هذه الهيمنة، مما يعكس الصراع بين الإنسان والسلطة، تعكس عقوبة سيزيف عبثية السلطة لأنها لا تضمن معنى أو قيمة، تحدي سيزيف للآلهة يعكس الصراع بين القوانين الإلهية والرغبة الإنسانية في الحرية، مما يبرز التوتر بين السلطة والفرد، العقوبة تُظهر كيف يمكن للسلطة أن تفرض قيودًا على الأفراد، وتُبرر المعاناة الناتجة عن هذه الهيمنة، مما يعكس الصراع المستمر بين الفرد والقيود المفروضة عليه، يمثل تمرد سيزيف على الآلهة تعبيرًا عن الإرادة الحرة، حيث يختار مواجهة العقوبة بدلًا من الاستسلام، الحرية تمنح سيزيف الفرصة للبحث عن معنى في معاناته، مما يُظهر كيف يمكن للفرد أن يجد قيمة في النضال رغم القيود، حرية سيزيف وصراعه الداخلي بين الرغبة في الهروب من العقوبة وبين التزامه بمواجهة التحديات تُعتبر حرية ووسيلة للتمرد على المعنى المفقود، حيث يجد سيزيف القوة في اختياراته، يُظهر سيزيف أن الحرية تكمن في القدرة على اتخاذ القرارات، حتى في ظل هيمنة الآلهة، مما يُعزز من قوة الفرد بذلك، تلعب الحرية دورًا محوريًا في هذا السياق . في أسطورة سيزيف، يمكن اعتبار أن الوعي قد انتصر على سلطة الآلهة على عدة مستويات وان سيزيف أدرك معاناته وقبل بها، مما يمنحه وعيًا وجوديا يحمل كل المعنى.

***

غالب المسعودي – باحث عراقي

السير فوق الماء مهمة مستحيلة في الواقع، لكن تفسيرها في الحلم هو اليقين بعد الشك، والتحرر من المخاوف والهواجس. وما يعرضه ديريك جنسن، الكاتب الأمريكي والناشط في مجال البيئة، من خلال يومياته داخل الفصل الدراسي يحقق المعنيين معا، أي وهم السير فوق الماء الذي تعدنا بها التصورات الرائجة عن التعليم والكتاب والحياة، ثم تبديد الوهم عن طريق إعادة اكتشاف ذواتنا، وإثارة التساؤلات المختزنة في الذاكرة منذ اقتحامنا الطفولي المحموم لحجرة الدرس.

إن أهم الأشياء التي تعلمتها في المدرسة، يقول جنسن، هي كيفية إضاعة الوقت، والحرص على توجيه الأسئلة إلى أصحاب السلطة بطريقة مراوغة، خوفا من حرماني من الحصول على درجات. باختصار تعلمت أن أخون نفسي وأقوم بتعريتها. وسبب ذلك أن النظام التعليمي يعتبر الغرض الأساسي من المدرسة هو مساعدة الأطفال على التعلم، دون أن يأبه لنوعية الأدوات أو الكيفية الصحيحة في تكوين الأفراد. لذا تستمر المدرسة حتى اليوم في ترسيخ مغالطة كبيرة حين تلقن الطلبة المعلومات ولا تعلمهم السلوك وحسن التصرف. وتبقى أفضل طرق التدريس، وأصعبها في الآن نفسه، هي أن تتخلى عن دفاعاتك الشخصية، وتحاول فهم تجارب ومشاعر الآخرين باعتماد وسيلة حيوية هي البوح بكل تساؤلاتك لتوضيح حيرتك وارتباكك.

قادت الخبرة التي حصَّلها جنسن في مجال التعليم، سواء بجامعة واشنطن الشرقية أو في السجن الحكومي، إلى اكتشاف أن إعادة بناء المصداقية في التعليم تتطلب سلسلة من المحاولات المضنية للبحث عن الأشياء البسيطة والمقنعة التي تُبنى عليها الدروس، مع التركيز على قول الحقيقة الإيجابية للطلاب، والاهتمام بالإطراء والثناء دون تفريط في النصائح الفنية والعملية:" إن وظيفتي لا تعني القيام بتعليمك أي شيء، وإنما كيفية خلق الجو المناسب الذي تستطيع من خلاله أن تعلم نفسك".

تولى جنسن تدريس طلابه فن الكتابة، ورصد القواعد التي تحدد أروع ما في تفاصيل حياتهم من منطلق أن الإنسان حَكّاء وراوٍ بطبعه، وما يحتاج لتعلمه ليس كيفية الحكي وإنما أن يكون ما هو عليه بالفعل. فالكتابة الجيدة أو حتى مجرد سرد قصة لا يتطلب اختراع شيء خيالي وغير ممكن، وإنما يتطلب ببساطة أن أكون نفسي قدر المستطاع. وأهم شرط للكتابة الجيدة ألا يشعر القارئ بالضجر، وأن تكون الإثارة سبيلك لأن تصيبه ببعض الطلقات النارية في الصفحات العشر الأوائل. ينبغي أن تستحوذ على انتباه القارئ بكلمات مفيدة وممتعة، وحوار بمستوى رفيع. فمن الأشياء التي جعلت أفلام الأربعينات و الخمسينات أفضل من أفلام اليوم هي أن معظم كُتابها كانوا روائيين، ويجيدون بالتالي رسم الشخصيات. أما في أيامنا هذه فمعظم الكتاب من خريجي معاهد السينما أو دارسي الإعلانات الذين برعوا في استخدام الصور المدهشة لإيهام المُشاهد، لكنهم لا يعرفون كيفية كتابة الحوار.

تتطلب الكتابة الجيدة كذلك قدرتك على اكتشاف نفسك، وتحديد الأسباب التي تجعلك سعيدا كي تناضل من أجل تحقيقها. فالحضارة الصناعية حولتنا من إنسان نابض بالحياة إلى إنسان آلي، وقوى عاملة مطيعة ولينة. لذا نشأنا داخل نظام يفصلنا عن وجداننا، ويخلع عنا إنسانيتنا. والسبيل الوحيد لوقف تلك الانتهاكات المخزية التي تحدث لقلوبنا وعقولنا هو تدريب أنفسنا مجددا على المضي في طريق النجاح ومطالبة الآخرين بإفساح الطريق !

والاهتمام الكامل بالتفاصيل درس كذلك من دروس الكتابة، إذ ينبغي العناية بالدقة في وصف الأشياء لجذب انتباه القارئ، والتمسك بكل ما هو حقيقي لتصبح الكتابة شيئا جميلا. إن خُدعتها الأساسية هي أن تكتشف المكان الذي يختبئ فيه قلب الشخص الآخر، ثم العمل على مساعدته للوصول إلى ذلك المكان.

وعن الشعور بصعوبة الكتابة يقول جنسن أن ذلك نتاجُ عدم امتلاك معلومات كافية، ورؤية الموضوع من مختلف زواياه، وافتقاد الكاتب لرؤية الأشياء وفقا لعلاقاتها الصحيحة حتى يكتمل المشهد في مخيلته. ومن الأشياء المهمة التي تعلمها جنسن طوال خمسة عشر عاما من الكتابة هي كيفية الحفاظ على ألا يفقد الكاتب الفكرة أثناء عمله، وإلا سيصبح الأمر محبطا وعديم الجدوى، لأن المرء يكتب بعقله لا بجسده.

ومن الكتابة إلى الحياة يُوجه جنسن نقده المحموم لنظام السيطرة المتولد عن الحضارة الصناعية. ذاك النظام الذي فجرت آليته كل جزئيات الحياة بما فيها القلب والجسد، وامتدت علاقاته القهرية إلى نظام التعليم، فتشرَّب الطلابُ خِبرات الظلم والاضطهاد، سواء من لدن الوالدين أو المدرسين أو كل أشكال السلطة المختلفة. وكانت المُحصلة هي الوصول بالناس إلى أن يكونوا أشخاصا آخرين غير أنفسهم، وهو أمر لا يمكن الإفلات من شَركه إلا بالسير فوق الماء.

كيف ذلك؟

يقول جنسن:" يجب أن تتبعوا قلوبكم. إن أكثر الأعمال الثورية والأخلاقية التي تستطيع القيام بها لمساعدة الآخرين هي أن تساعدهم على اكتشاف قلوبهم الحقيقية، أي اكتشاف شخصياتهم، والعمل على تعريفهم بآرائهم ومواقفهم، ومساعدتهم على اكتشاف أنفسهم".

نحن الذين نصنع اختياراتنا حسب رؤيتنا للعالم. وإذا كانت حضارة اليوم مبنية على الخضوع، فيجب أن ننتبه للمشاعر والسعادة النفسية حتى لا نصير عبيدا للسلطة والصفوف والتقاليد.

عَبْر الدروس التي ألقاها جنسن على نزلاء السجن وطلاب الجامعة، وفق منهجية متحررة من صرامة النظام التعليمي، نتابع ذاك الطَّرْق الخفيف والمؤلم على عقول كادت تفقد الإحساس بأجسادها، كما نستشعر تلك الدعوة الحارة لتمرين علاقاتنا الفقيرة على استعادة إنسانيتنا المقترنة دوما بجدوى الحياة المشتركة على هذا الكوكب .

إن السير فوق الماء لا يحتاج سوى لعقل موضوع في مكانه للقيام بوظيفته على نحو جيد !

*** 

حميد بن خيبش

اذا كان الكون لامتناهيا سلفا فما هو الشيء الذي يتوسع فيه؟ عندما نريد إعداد رغيف من الخبز او كمية من الكيك، نضع العجينة في مقلاة الخبز. وعندما تُوضع العجينة في الفرن، سوف تتوسع وهي في داخل المقلاة. كل قطعة صغيرة من الشوكلاته المضافة الى عجينة الكيك تصبح بعيدة عن بعضها البعض مع تمدد العجينة .

ان توسّع الكون، يشبه ذلك بطريقة ما. لكن هذه المقارنة تنطوي على خطأ واحد وهو بينما العجينة تتمدد في مقلاة الخبز، فان الكون ليس فيه أي شيء يتمدد فيه. انه فقط يتمدد في ذاته. انه يشبه لغز محير، الكون يعني كل شيء ضمنه. في توسّع الكون، لاوجود هناك لمقلاة. هناك فقط عجينة. وحتى عندما تكون هناك مقلاة، ستكون جزءاً من الكون الذي يتوسع معها .

هذه الأفكار يصعب فهمها حتى من جانب اساتذة الفيزياء مثل البروفيسوره Nicole Granucci استاذة الفيزياء وعلم الفلك في جامعة كوينيبياك في الولايات المتحدة التي درست الكون لسنوات طويلة. نحن لم نتعامل مثل هذه الأشياء في حياتنا اليومية. هي كالسؤال عن أي اتجاه أبعد الى شمال القطب الشمالي (باعتبار ان القطب الشمالي هو أبعد نقطة في الشمال، لذلك لا وجود لموقع جغرافي شمال القطب الشمالي. جميع النقاط على الارض التي ليست على القطب الشمالي تكون الى جنوبه).

 طريقة اخرى للتفكير حول توسّع الكون هي عبر التفكير بالكيفية التي تتحرك بها المجرات الاخرى بعيدا عن مجرتنا درب التبانة. العلماء يدركون ان الكون يتوسع لأنهم يستطيعون تعقّب المجرات عندما تتحرك بعيدا عنا. هم يعرّفون التوسّع مستخدمين السرعة التي تتحرك بها المجرات بعيدا. هذا التعريف يسمح لهم لتصوّر التوسّع بدون الحاجة لشيء ما يتوسع فيه.

توسّع الكون

بدأ الكون بالانفجار العظيم قبل 13.8 بليون سنة، وهذه النظرية تصف أصل الكون الذي بدأ من نقطة اصغر من جسيم دون الذرة وبحرارة وكثافة هائلتين. هذه النقطة الصغيرة جدا دخلت فجأة في توسّع سريع سمي التضخم، حيث كل مكان في الكون توسّع نحو الخارج. لكن اسم الانفجار العظيم يثير الالتباس. هو لم يكن انفجارا عملاقا كما يشير الاسم، وانما هو الزمن الذي توسع فيه الكون بسرعة.

بعد ذلك تكثّف الكون وبدأ يبرد بسرعة، مكوناً المادة والضوء. وبالنهاية، تطور لما يُعرف اليوم بالكون. الفكرة بان كوننا لم يكن ساكنا ويمكنه التوسع او الانكماش نُشرت لأول مرة من جانب الفيزيائي الكسندر فريدمن عام 1922. هو اكّد رياضيا بان الكون يتوسع.

وبينما أثبت فريدمن ان الكون يتوسع، على الأقل في نقاط معينة، فان ادوين هابل نظر عميقا في سرعة التوسع. العديد من العلماء الآخرين اكّدوا ان المجرات الاخرى تتحرك بعيدا عن مجرة درب التبانة، لكن في عام 1929، نشر هابل ورقته الشهيرة التي أكّدت ان الكون بأكمله يتوسع، وان سرعة توسعه تتزايد. هذا الإكتشاف يستمر في إثارة الحيرة لدى علماء الفيزياء الفلكية: ماهي الظاهرة التي تسمح للكون في التغلب على قوة الجاذبية التي تبقيه متماسكا بينما في نفس الوقت يتوسع ايضا عن طريق سحب الاشياء في الكون بعيدا عن بعضها البعض؟.

وفوق كل ذلك، ان سرعة توسع الكون تتزايد بمرور الزمن. العديد من العلماء يستخدمون وسيلة مرئية تسمى وعاء التوسع expansion funnel لوصف الكيفية التي تسارع فيها توسع الكون منذ الانفجار العظيم. لنتصور وعاءا عميقا ذو حافة واسعة. الجانب الايسر من الوعاء – النهاية الضيقة – تمثل بداية الكون. كلما نتحرك نحو اليمين، نحن نتحرك الى الامام في زمن. توسّع الوعاء يمثل توسع الكون.

العلماء لم يكونوا قادرين على ان يقيسوا مباشرة من أين تأتي الطاقة المسببة لهذا التوسع المتسارع. هم غير قادرين على اكتشافه او قياسه. وبما انهم لايستطيعون بشكل مباشر قياس هذا النوع من الطاقة، فهم يسمونها الطاقة المظلمة.

طبقا لنماذج الباحثين، فان الطاقة المظلمة يجب ان تكون الشكل الاكثر شيوعا للطاقة في الكون، تصل نسبتها الى 68% من اجمالي الطاقة الكلية. الطاقة من كل المادة المكونة للارض والشمس وكل ما نراه من أشياء، تقدر فقط بحوالي 5% من مجموع الطاقة.

خارج وعاء التوسع

اذاً، ما هو الشيء الموجود خارج وعاء التوسع؟

ليس لدى العلماء دليلا على وجود أي شيء وراء كوننا المعروف. لكن البعض يتنبأ ان هناك أكوانا متعددة. النموذج الذي يتضمن أكوانا متعددة يمكنه معالجة بعض المشاكل التي يواجهها العلماء في النماذج الحالية للكون. احدى المشاكل الكبرى في الفيزياء الحالية هي ان الباحثين لا يستطيعون دمج ميكانيكا الكوانتم التي تصف عمل الفيزياء في نطاق صغير جدا، مع الجاذبية التي تحكم الفيزياء على نطاق أوسع. القواعد التي تحكم تصرّف المادة على نطاق ضيق تعتمد على كمية ثابتة من الطاقة. في هذا النطاق، الأشياء يمكن ان تأتي وتخرج من الوجود. المادة يمكن ان تتصرف كموجة. العالم الكوانتمي مختلف جدا عن الكيفية التي نرى بها العالم.

وعلى النطاق الاكبر، الذي يسميه الفيزيائيون الميكانيكا الكلاسيكية، تتصرف الاشياء بالطريقة التي نتوقعها في حياتنا اليومية. الاشياء ليست منفصلة ويمكنها ان تمتلك كميات مستمرة من الطاقة، هي لا تدخل او تخرج من الوجود.

العالم الكوانتمي يتصرف كنوع يشبه مفتاح الضوء وحيث الطاقة لها فقط خيار تشغيل وايقاف. اما العالم الذي نراه ونتفاعل معه يتصرف أشبه بجهاز التحكم في الاضاءة، يسمح لكل مستويات الطاقة. لكن الباحثين يقعون في مشاكل عندما يحاولون دراسة الجاذبية على المستوى الكمومي. على النطاق الأصغر، يفترض الفيزيائيون ان الجاذبية هي quantized أي ذات قيمة محدودة ومنفصلة وغير مستمرة. لكن العديد من البحوث التي اجريت لا تؤيد تلك الفكرة. احدى الطرق لجعل تلك النظريات تعمل مجتمعة هي نظرية الأكوان المتعددة. هناك عدة نظريات تنظر في ما وراء كوننا الحالي لتوضح كيف تعمل الجاذبية والعالم الكوانتمي مجتمعان. بعض هذه النظريات الرائدة تشمل نظرية الاوتار وعلم الكونيات الغشائية ونظرية الكم الحلقية وغيرها.

وبصرف النظر عن كل ذلك، سيستمر الكون بالتوسع، والمسافة بين مجرتنا والمجرات الاخرى تتسع بمرور الزمن وتبقى حيرتنا مستمرة.

***

حاتم حميد محسن

...................

المصدر:

What is the universe expanding into if it’s already infinite? The conversation, December 9, 2024

 

يحتفظ القرآن الكريم باللغة العربية (الفصحى). ويراد بالفصحى الافصح او الأعلى فصاحة، وهي درجة بلغتها لغة العرب في الجاهلية، ولغة القرآن الكريم فقط. ثم انحدرت الى درجات متفاوتة في الفصاحة الى عربيتنا اليوم. فالقرآن يتطابق تماماً مع اللغة العربية الفصحى، وكل عربيات اجيال العرب لا تتطابق.

ولا أقصد بالعربية الجاهلية لغة الشعراء؛ فالشعراء الجاهليون أول من أساء الى اللغة. فمثلا يجعل امرؤ القيس (الطعام) اسما لما يُؤكل إزاء (الشراب) اسما لما يُشرب، قال امرؤ القيس:

أَرانا موضِعينَ لِأَمرِ غَيبٍ وَنُسحَرُ بِـ(الطَعامِ وَبِالشَرابِ)

وقد وقرت هذه الدلالة في اذهان الاجيال الى اليوم، وهو ان الطعام ما يُؤكل، والشراب ما يُشرب. بينما في لغة العرب الفصحى (الطعام) ما يتحسس الفم طعمه من أكل وشرب معا. وهو المستعمل في القرآن الكريم. ففي معنى الاكل جاء قوله تعالى (قُل لَّا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ (الأنعام: 145)، وفي معنى الشرب قوله تعالى (قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي (البقرة: 249)، فاستعمل (شَرِب) نظيرا لـ(طَعِم)..

ويعرف كلنا أن (البخل) ضد الكرم، و(البخيل) هو الحريص المقصّر في الصرف على نفسه وعياله والاخرين. وسمّى الجاحظ (وهو أعلم جيله بالعربية) أحد كتبه (البخلاء) متندراً على جيله الذي شاع فيه (الحرص) وكانوا يسمونه (اقتصادا) ويعدونه صفة حميدة. أما اللغة العربية الفصحى فلا تستعمل لهذه الدلالة البخل، بل (الشُّح) وتسمي فاعله (شحيحا و نحَّاما)، وتسمي عدم الانفاق على الفقراء والمساكين بخلا، وغير المعطي لهم بخيلا. قال طرفة بن العبد:

أَرى قَبرَ نَحّامٍ بَخيلٍ بِمالِهِ       كَقَبرِ غَويٍّ في البَطالَةِ مُفسِدِ

فالنحّام: الشحيح على نفسه، والبخيل: الذي لا ينفق على الفقراء والمحتاجين. وهذا هو المستعمل في القرآن الكريم. فالمبتلى بقلة الصرف الشخصي يسمى (شحيحا) وفعله (الشح) قال تعالى (وَأُحْضِرَتِ الْأَنفُسُ الشُّحَّ، وَإِن تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (النساء: 128)، أي احسنوا الانفاق على عيالكم. واستعمل القرآن الكريم (البخل)  في الزكاة والصدقة واطعام الفقراء والمساكين (الامور الدينية). كقوله تعالى (فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ (التوبة: 76(. أي كفروا ولم يعطوا الزكاة، وهو كقوله تعالى في السورة نفسها (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا (التوبة: 103). وفي البخل ايضا قوله تعالى (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ (النساء: 37). علما ان الله سبحانه لا يتدخل في أمزجة الناس وخصوصية تصرفاتهم؛ فلا يعاقب الانسان الشحيح، بل انه سبحانه يمقت الصرف الأهوج، حتى الصدقة المبالغ بها يرفضها ولا يحبها، قال تعالى (كُلُوا مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (الانعام: 141)، أي كلوا منه وتصدقوا بلا اسراف، لان الله سبحانه وتعالى لا يحب الاسراف (الشخصي والديني). وهكذا أشاعوا خطأ أن البخيل هو الذي يقتّر في الصرف.

وكان عضو المرأة له اسم واحد في لغة العرب الفصحى وهو (الهَن)، وذكر القرآن الكريم اسما مشتركا لعضو المرأة والرحل هو (السوأة) التي تعني ما يجب ستره، لذا سمى الجثة (سوأة) أيضا، قال تعالى (فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ (طه: 121)؛ (قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَٰذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي (المائدة: 31). وفي الاسلام أضافوا اسم (الفَرْج) أخذا من القرآن. وفي العصر العباسي عصر العجمة وضياع الفصحى، وبسبب كثرة المجون الذي صار شغلهم الشاغل ابتكروا لعضو المرأة أكثر من مائة اسم، منها ما اخذوه من اللغات المجاورة: الفارسية والكردية والتركية وغيرها، وهو الشائع اليوم.

نحن اليوم نعدّ الاسم الفصيح والصحيح لعضو المرأة هو (الفرج). وهو خطأ، بل الصحيح ان الفرج (كل فتحة في مغلق)، فاذا فتحت اصابع كفك فتلك (فروج الاصابع)، واذا اغلقت عليك شدة دعوت الله للفرج. وفي القرآن الكريم (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ... وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ .. وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ (النور: 30 – 31). ففرج الرجل الاجزاء المثيرة للمرأة كالصدر والبطن والافخاذ، وفرج المرأة المثير للرجل وهو جسدها كله عدا الكفين وقرص الوجه، وكذلك عدم ضرب المرأة برجلها الارض عندما تمشي لكي لا تحسّس الرجل بالمخفي من جسدها. ومن هذه الاية اخذ العرب لفظة الفرج واطلقوه على العضو؛ لانه الاخص بالستر.

وبهذا نقول باطمئنان: أن العربية ذبحت من قبل الشاعر الجاهلي ابتداءً لضرورة الوزن، والتنويع، وجرس اللفظة، وملاءمتها السياق وغير ذلك، فضحوا باللغة من اجل الفن، فحلت لغتهم محل اللغة الفصحى، ثم الشعراء والكتاب الى اليوم؛. ومن عصرنا مثال لجبران خليل جبران، فقد كان جبران ضعيفا في اللغة العربية بسبب عيشه في امريكا، فاستعمل جهلا (تحمَّم) بدل استحمَّ، في قوله (هل تحمّمتَ بعطرٍ )! وقد استغرب احد اللغويين المعاصرين من هذا الاستعمال ووضع بعده (كذا) مشيرا الى خطئه. وكذلك تورطت معجمات اللغة فخلطت حابل الفصحى بنابل المولد، ونقلت العدوى الى مفسري القرآن الكريم فاختلفوا في التأويل بسبب البعد عن الفصحى لغة القرآن، علما ان وضع المعجمات وتفاسير القرآن كان في العصر العباسي.

وما زالت الفصحى تتراجع عبر القرون حتى سادت في عصرنا لغة عربية لا فصحى ولا فصيحة، بل لغة مجرودة كما يجرد الدسم من الحليب فيصبح (خاليا من الدسم). فهي عربية عندك وصفها، لغة مثخنة بالاجنبيات، واكثر ما نقوله لا يقوله العرب، بل يقوله غير العرب، واذا بنا نتكلم بألفاظ ومعان وقواعد أكثرها انجليزي، وكأننا في كلامنا نتكلم لغة انجليزية مترجمة. وبالمحصلة صرنا بعيدين عن فهم القرآن والتراث. وقد ألفت في ذلك كتابي (اللغة العربية الخامسة – الفصحى الهجينة) فما التفت اليه أحد، وارسلته الى (مجمعات اللغة) في الوطن العربي ولاسيما في بغداد، فأهملوه تماما، وأغلقوا دوني آذان سمعهم وفهمهم، مستبقين هذه اللغة الهزيلة دون مراجعة وتصحيح، وينادون بأنها وريثة لغة العرب، وهكذا لم اجد مصغيا من الموتى:

لَقَد أَسمَعتُ لَو نادَيتُ حيًّا       وَلكِن لا حَياةَ لِمَن أنادي

***

الاستاذ الدكتور محمد تقي جون

استجابة لرغبة المعنيين والمهتمين والدارسين بالمعارف الفلسفية؛ الذين تعذر حضورهم لندوة شهر مايو التي عقدتها الجمعية الفلسفية المصريّة في مساء يوم الأحد الموافق 11\5\2025م، نقدم لكم أهم ما جاء فيها من اقتراحات نظرية، وبرامج علمية تطبيقية، قد نالت استحسان الحضور في تلك الجلسة التي استفدت من مداخلات المعلقين على ما طرحته، وموافقتهم على بذل كل ما يقدرون عليه لنقل هذه الآراء النظرية والعملية؛ من طور الخطاب المزمع إلى طور المشروع المعد للتطبيق لإنقاذ ثقافتنا من الأزمة التي حاقت بها.

 نعم تلك المحنة التي كانت وراء انزعاجنا وأسفنا على ذلك القرار الجائر الذي قوض الدراسات الفلسفية في المقررات الدراسية بالمرحلة الثانوية، وانعكس ذلك بدوره على أقسام الفلسفة في كل الجامعات المصرية، ذلك القرار الذى كان يحتاج إلى أنات العالم، وحصافة التربوي، وحنكة السياسي، وعقلية المستنير قبل أن يمسك بقلمه من وافق على ذلك القرار الغاشم، الذي حرم شبابنا في هذه المرحلة السنية من المعارف التي تعين عقولهم على التفكر والتدبر، وغربلة الآراء والمعتقدات، والشائعات قبل قبولها والتأثر بمحتواها، ولاسيما في مجتمعنا المصري بخاصة والعربي بعامة، المستهدف من شرار الأغيار الذين يستهدفون تضليل أذهان شبابنا، وإفساد ذوقه وانتزاع الحياء من أخلاقه وتربيته، والتشكيك في مشخصاته التي يستمد منها هويته وانتماءاته الدينية والوطنية.

ويبدو أن كثرة الأحداث السياسية المتلاحقة قد حالت بين القائمين على التعليم في حكومتنا وإعادة النظر، ومراجعة هذا القرار الذي لا يقل خطورة في تبيعاته من تلك المكائد والمؤامرات التي يحيكها أعدائنا في شن حروبهم المعاصرة على أمننا واستقرارنا، اجتماعيًا وسياسيًا ودينيًا. وقد بينا جانبًا من هذه المخاطر في حديثنا في صحيفة الأهرام في (15 من نوفمبر) واستفضنا في ذلك بمقالنا في صحيفة المثقف في (18 من نوفمبر في عام 2024)، ووضحنا مكانة الفلسفة في الثقافة العربية، ودورها في تشكيل العقل الجمعي، وانعكاس ذلك في عيون المثقفين وأذهانهم والاهتمام بها عند رواد الاستنارة والإصلاح، من قادة الرأي في مصر منذ مائة عام، وذلك في مجلة الفكر المعاصر في (العدد 36 من ديسمبر من نفس العام)، ثم صرحنا بما استشرفناه ممّا نأسف عليه في سلوك شبابنا الجامح اليوم، وحال برامجنا التعليمية ومقرراتنا الدراسية، وذلك في الندوة التي عقدت في معرض الكتاب (هذا العام في الثالث من فبراير) بقاعة الصالون الثقافي لمعرض الكتاب برعاية الأستاذ الدكتور مصطفى النشار، والمجلس الأعلى للثقافة.

أمّا حديثنا اليوم؛ فيشتمل على خطاب نأمل العمل على زيوعه بين العاملين في هذا الحقل المعرفي، ومشروعنا العملي.  الذي تمهلنا في دراسة آليات تفعيله ليصبح جاهزًا للتطبيق، بعد التشاور في حيثياته التنفيذية، والخطوات الإجرائية التي تتناسب مع معاهدنا وأقسامنا الأكاديمية. وما نرجوه هو أن تسهم تعليقاتكم في تقويمه، وإثراء ما فيه من إيجابيات.

ولمّا كانت الخطابات التوجيهية والمشروعات العملية هي المقاصد الثوريّة للمتفلسفين، والحكمة العقلية وغايتهم التي يبتدعون من أجلها آليات تنفيذها؛ لتفعيل رسالة الفلسفة في تفسير الغامض، وتبرير الآراء، وتأويل الملتبس، وشحذ العقول للعزوف عن التقليد، والركود نحو التغيير والتحديث والإصلاح.

فأضحى بمقتضى واجبنا المهني والتزامنا الأدبي؛ ضرورة إمعان النظر في المرآة التي تعكس واقعنا الثقافي، وبرامجنا التوجيهية ومناهجنا التعليمية، ومقرراتنا الدراسية، وغربلة جميعها وانتقاء النافع منها الذي يعيننا على التخطيط لمستقبل الفلسفة في مصر.

أولاً: اقتراحات لإصلاح البنية البشرية:

لم يستحِ المجددون وأساتذة الفلسفة في مصر - منذ عام 1907- في التشاور حول كيفية إعداد القائمين على تدريس المعارف الفلسفية في الجامعة، ثم في المدارس في المراحل التعليمية المختلفة، ثم استقروا على هذه القيم والمبادئ:

(١) أن محبة الحكمة يجب أن تتغلغل في نفوس القائمين على تدريس تلك المعارف قبل أن تستوعبها أذهانهم، لذا جعلوا التعاون والألفة والتعاطف والود والاحترام المتبادل من أوائل القيم التي يجب أن يتحلى بها المعلمون فتصبح ضرورة لا غنى عنها في أخلاقيات المهنة. سواء بين القائمين بالتدريس بمختلف درجاتهم، والطلاب بتباين طبائعهم وقدراتهم الذهنية، أو الباحثين الذين يحترفون قيادة الرأي العام في ميدان الإعلام أو المؤسسات التثقيفية. وغير خافي على أحد ما نعانيه اليوم في جل مدارسنا وأقسامنا العلمية من سلبيات مجافية لما حرص عليه وجوده أساتذتنا وروادنا الأول (والتلميح أبلغ من التصريح).

(2) وجوب الالتزام بالأمانة العلمية في إعداد الدراسات والأبحاث والمصنفات المختلفة ذات الصلة، بالقدر الذي يعصم الكٌتاب ممّا نعانيه اليوم في مصنفات البعض؛ حيث الاقتباسات غير المشروعة والأساليب غير المفهومة؛ ناهيك عن الشيفونية والراديكالية والتعالم والتعالى غير المبرر الذي يسلكه غُلة من يزعمون التفلسف، متناسين أن الحياء سنة الحكماء، وأن التواضع سمة العلماء والأتقياء والنبلاء.

(3) ضرورة الالتزام بالحيدة والموضوعية في تقويم الاختبارات والأبحاث ومناقشة الرسائل الجامعية، وانتخاب الأجدر في شغل الوظائف والدرجات والمهام الأكاديمية ذات الصلة المباشرة بالعملية التعليمية.

ثانياً: إصلاح البنية المعرفية:

ما زالت البنية المعرفية الفلسفية في مصر والعالم العربي غير متماسكة الأركان، وذلك لغيبة هيئة عليا تقوم بتنظيم وتقويم مصنفاتها  المعرفية، سواء كانت (موسوعات، أو معاجم أو مواقع) تكشف عن وجهة الدراسات الفلسفية، وأبعادها التوجيهية وخططها البحثية، الأمر الذي يحتاج لإعادة النظر في واقع بنية المصنفات الفلسفية الهاشة المتراكمة على نحو أعاقها عن التطور والتجديد والتحديث، للتعبير عن أقلام كاتبيها الذين راق لمعظمهم الرقود في تقليد ومحاكاة ما خلفه السلف من دراسات أو ادعاء الثورة على المألوف والموروث من المشروعات التليدة، واستملاح تقليد النظريات الغربية بحجة التحديث، ومسايرة العقليات الحرة المتقدمة.

والطريف أن روادنا الأوائل قد أثاروا هذه القضية؛ أعني هشاشة البنية الفلسفية التي ننتجها، واستعانوا على إصلاح ذلك الخلل بتقديم النقد والتحليل على الوصف والتأويل في كل الوافد من النظريات والآراء والأبحاث، سواء كان هذا الوافد من الموروث أو القادم من دراسات المحدثين المستغربين والغرباء، وذلك النهج منذ العقد الثاني من القرن العشرين، وتشهد بذلك كتابات المشتغلين بالفلسفة في الاستفتاءات التي طرحوها للتشاور على صفحات الدوريات (ماذا نأخذ من الغرب؟) وما هو الأصلح من الآليات للتعرف على نظريات الأغيار وآرائهم (الترجمة، أم التلخيص والتصنيف).

ومن أهم الإجراءات العملية التي اتخذها هذا الجيل لتطوير البحث الفلسفي في مصر- ونحن اليوم نستلهمه لنحييه في ثقافتنا المعاصرة:

(١) تشكيل فريق من نوابغ الباحثين لترجمة دائرة المعارف الإسلامية، وفريق آخر لتقويم ما فيها من متون معرفية بوجه عام، وفلسفية بوجه خاص، وذلك منذ العقد الثالث من القرن العشرين. وفريق رابع يقوم بتصنيف عدد من المؤلفات تجمع بين جناحي الفلسفة القديمة والحديثة، تحقيقًا وترجمة؛ وذلك تحت إشراف لجنة عليا لانتقاء الأعمال الجديرة بالتحقيق أو الترجمة أو التصنيف، وذلك أيضًا خلال أخريات النصف الأول من القرن العشرين.

ونستثني من ذلك لجنة التأليف والترجمة والنشر التي ظهرت مصنفاتها (عام 1914)، والمقالات التي كانت تشغل حيزًا كبيرًا في أعرق المجلات الثقافية؛ مثل مجلة المقتطف، والمنار، والجامعة، والجريدة، والعصور، والسياسة، والثقافة، والرسالة، وغيرها من الصحف الأدبية والسياسية والتاريخية والدينية التي أسست بنية المعارف الفلسفية العربية بأقلام أبنائها،  ثم توالت سلاسل الكتب المؤلفة بأقلام أكابر المتخصصين من خرجي الجامعة المصريّة أو الجامعات الأوربية؛ مثل سلسلة إحياء الكتب العربية (عام 1944)، وسلسلة أعلام الإسلام (عام 1945)، وسلسلة نوابغ الفكر العربي عام (1953)، وسلسلة أقرأ (عام 1955)، وسلسلة نوابغ الفكر الغربي (عام 1956)، ثم سلسلة كتب دار الهلال (عام 1957)، وسلسلة أبحاث دائرة معارف الشعب (عام 1959) ثم سلسلة أعلام العرب (عام 1962)، وسلسلة أبحاث مجلة تراث الإنسانية في نفس العام، وسلسلة مقالات مجلة الفكر المعاصر (عام 1965).

وأعتقد أن هذا الزخم الفلسفي على وجه الخصوص كان وراء نهضة الفكر العربي في المشرق والمغرب؛ حيث ارتقاء الأذواق والأخلاق والمعارف، وتهذيبها ليس في معاهدنا التعليمية والتربوية فقط؛ بل في منازلنا وشوارعنا وأحاديث عوامنا قبل مثقفينا. وأعتقد أنه لا يجانبني الصواب عندما أقرر أن هناك سببًا أخر لا يقل أهمية من جهود هذا الجيل المستنير من الباحثين، يتمثل في أن قادة الرأي من القائمين على سياسة البلاد كانوا يدركون تمامًا أهمية المعارف الإنسانية التي تبني أذهان العقل الجمعي للأمة، بجانب المعارف العلميّة ومراكز التدريب الحرفية للعمال وأصحاب الصنائع. وبرهاننا على ذلك يتمثل في سجلات أسماء الوزراء وكبار الساسة الذين يشكلون العقل القائد لهذه الأمة؛ فسوف نجد من بينهم نسبة تتجاوز الـ 25% منهم- من المعنيين والمهتمين بالمعارف الفلسفية وأهميتها، وضرورة الحفاظ على القائمين عليها ورعايتهم، وذلك باعتبارهم الجيش المنافح عن صوالح الأمة ضد أعدائها الراغبين في هدمها من الداخل بسواعد وعقول أبنائها. ولا ينسينا ذلك أن العلة الحقيقية التي لا يمكن إنكارها في هذا السياق هو سلامة البنية البشرية القائمة على رعاية وتهذيب المعاهد وروح التعاون والحب والود والتفاهم الحاكم لدستور المشتغلين بالفلسفة سواء من المتخصصين الأكاديميين أو المنتسبين إليهم من المثقفين؛ الأمر الذي يبرر تقديم إصلاح البنية البشرية على إصلاح البنية المعرفية، أي تقديم الخطاب على المشروع في هذا السياق.

(١) إعداد دليل أو موقع بحثي لسائر الإنتاج الفلسفي الذي ينتجه المتخصصون في الأقسام الأكاديمية والكليات ذات الصلة. وذلك عن طريق تشكيل لجنة في كل قسم لإنجاز هذا العمل، وإخراجه في صورة موسوعية إلكترونية؛ ليسهل التعامل معها في استبيان المعلومات وإبراز مواطن القوة والضعف والكثرة والندرة والتكرار والطريف والنادر من تلك الأبحاث التي يمكن الاستفادة منها في عدة محاور تعيننا على تجديد وإصلاح وتحديث البنية المعرفية الفلسفية، وربطها بالدوائر المعرفية العربية والعالمية.

(٢) العمل على اتخاذ الخطوات الإجرائية والقانونية والأكاديمية لعودة درجة (أستاذ كرسي التخصص للمباحث الرئيسة في الفلسفة)؛ الأمر الذي يمكننا من ضبط وتحديد المواضع المركزيّة في المقررات الدراسية؛ الذي يجب على كل أقسام الدراسات الفلسفية في هذا التخصص الأخذ بها عند تأليف المقررات أو توجيه الدارسين والباحثين للمواضع التي يجب تطويرها وتحديثها، ذلك فضلا عن تقييم اللوائح الخاصة بالدراسات العليا والمقررات في الدبلومات والفصول التمهيدية لدرجتي الماجستير والدكتوراه؛ ذلك فضلاً عن وضع خطة بحثية مستقبلية لهذا التخصص تمكن المشتغلين به لمواكبة أحدث الدراسات العالمية ذات الصلة به. علمًا بأن هذه الدرجة الأكاديمية كانت مدرجة في الأقسام العلمية للجامعات الأم في مصر؛ حتى منتصف الستينات من القرن الماضي، وذلك لكثرة الخلافات الشخصية التي يجب تلافيها والعزوف عنها في المستقبل (والإشارة أبلغ دومًا من الاسترسال في الكشف عن دلالة العبارة).

(٣) دراسة الآليات المعاصرة لرفع كفاءة أعضاء هيئة التدريس ومهاراتهم، وتشكيل لجنة عليا من قبل المجلس الأعلى للجامعات لاختبار الحاصلين على الدورات التأهيلية لتلك الغاية، بدايةً من النظر في ترشيح المعيدين وانتهاء لتجديد عقود الذين بلغوا السن القانونية دون ترقية لدرجة أستاذ، أو توقفوا عن مواصلة البحث العلمي. على أن يراعى ذلك في تحديث قانون تنظيم الجامعات (المزمع).

(٤) إنشاء مركز أكاديمي متطور لتحديث وتأصيل الخطاب الفلسفي. وذلك لمعالجة خمس سلبيات، أولها: صعوبة لغة الخطاب وتعمد تجهيل المتلقي، وذلك بكثرة إيراد العديد من المصطلحات التي يصعب على المتخصصين قبل العوام استيعاب مدلولاتها. وثانيها: عدم مراعاة البعض للثقافة السائدة في المجتمع في تصريحاتهم الإعلامية التي تخاطب الرأي العام على أنهم يمثلون منبر الفلسفة؛ الأمر الذي يحدث مردودًا سلبيًا على البنية الفلسفية بوجه عام، فتنعت الفلسفة بالكفر أو بالمروق والفوضوية.

وثالثها: الخلط بين الرؤى الأيديولوجيا والحكم على الثوابت التي تقوم عليها مشخصات المجتمع وهويته الوطنية والقومية والحضارية. ورابعها: عدم الالتزام بآداب التناظر وأخلاقيات المثاقفة والجدل والنقد فيما يصدر عن المشتغلين بالفلسفة أو المنتسبين إليها من الأدعياء الذين يتخذون من القدح والهجاء والتهكم المتدني في أحاديثهم النقاشية. وخامسها: مجافاة أصول الحوار الفلسفي الذي يجب على من ينتحله العزوف عن التعصب والراديكالية والشيفونية، وذلك في عرض الرؤى والتصورات التي تؤكد الاتهام الشائع الذي طالما أتهم به المشتغلون بالفلسفة من قبل الرأي العام التابع؛ ألا وهو التعالي ومفارقة الواقع المعيش، والعزلة في برج عالي بمنأى عن المجتمع الذي يعيشون فيه.

وللحديث بقية عن الخطوات العملية لتجديد وتحديث البنية المعرفية للفلسفة.

***

بقلم: د. عصمت نصار 

الجرح والحلم يمكن أن يكونا مفصلي تحول، الألم يحفز البحث عن معنى والجرح بجانب الحلم يعكس التناقض بين الواقع والخيال، يوضح لنا كيف يمكن أن تتعايش المشاعر السلبية مع الرغبة في تحقيق شيء، الأمل في تحقيق الحلم يمكن أن يساعد في الشفاء من الجرح وتصبح العلاقة بين الجرح والحلم تعبيرًا عن الصراع الإنساني الدائم.

السرديات التاريخية ونزعة البقاء

السرديات التاريخية ونزعة البقاء عند الانسان لهما جوانب متعددة من الوجود والتفاعل مع الزمن، البقاء فلسفياً يرتبط بفهم معنى الحياة، وغالباً ما يتناول أسئلة مثل لماذا نحن هنا؟ وما الهدف من الحياة؟ فهمنا للذات والمجتمع والبحث عن الهوية والمعنى. السرديات التاريخية تسهم في تشكيل فهمنا للوجود، بينما البحث الفلسفي عن البقاء يساعد في إيجاد معنى لهذا الفهم، نزعة البقاء عند الإنسان ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالأسس الجينية والنفسية والثقافية الجينات التي تدعم البقاء والتكيف مع البيئة وتعزز فرص النجاة، الصفات الجسدية مثل القوة والقدرة على المقاومة تكون نتيجة للاختيار الطبيعي، الصفات النفسية والاجتماعية، مثل التعاون والشعور بالانتماء، يمكن أن تكون موروثة وتساهم في تعزيز الروابط الاجتماعية. تساعد الأساطير في توجيه سلوك الأفراد من خلال توفير نماذج يُحتذى بها، مما يعزز نزعة البقاء والتكيف، العوامل النفسية تلعب دورًا في كيفية استجابة الأفراد للأزمات، المشاعر مثل الخوف والأمل، التحديات تلعب دورًا رئيسيًا في تشكيل السرديات التاريخية، وتساعد الأفراد على تجاوز المحن، كذلك تتفاعل الجينات مع البيئة لتشكيل سلوكيات الأفراد، مما يؤثر على كيفية تطوير المجتمعات لسردياتها التاريخية.

تفاعل العوامل الثقافية مع الجينات

الثقافات تطور استراتيجيات خاصة للبقاء تعتمد على المعرفة المحلية، مثل تقنيات الزراعة والصيد، هذه يمكن أن تتكامل مع الصفات الجينية لتعزيز فرص البقاء، الأفراد يتعلمون من تجارب الآخرين، تسمح لهم بنقل الصفات والسلوكيات المفيدة التي قد لا تكون موروثة جينيًا، مثل مهارات البقاء في بيئات معينة، بعض السلوكيات الثقافية تؤثر على الانتقاء الطبيعي، المجتمعات التي تفضل التعاون قد تعزز الصفات الجينية التي تدعم الروابط الاجتماعية، العوامل الثقافية تعزز من إحساس الأفراد بالانتماء، مما يمكنهم من التعاون معاً في مواجهة التحديات، وهو ما يزيد من فرص البقاء الجماعي، الثقافات التي تساعد الأفراد على التكيف مع التغيرات البيئية والاجتماعية، تؤثر على كيفية استجابتهم للمخاطر والتهديدات، التفاعل بين الجينات والعوامل الثقافية يشكل سلوك البقاء بشكل ديناميكي، بينما تساهم الجينات في تحديد بعض الصفات، تلعب الثقافة دورًا حاسمًا في توجيه السلوكيات والاستراتيجيات التي تعزز من فرص البقاء، تأثير (الانتقاء الثقافي) على الجينات هو مفهوم مثير يتضمن تفاعلات معقدة بين العوامل الثقافية والبيولوجية،  في بعض المجتمعات، تُفضل صفات معينة، مما يؤدي إلى اختيار الأفراد الذين يمتلكون هذه الصفات للزواج والتكاثر، وبالتالي زيادة تكرار هذه الجينات في الأجيال القادمة، الثقافات التي تشجع على التعاون والمشاركة، تعزز من الصفات الجينية التي تدعم الروابط الاجتماعية، مثل القدرة على التعاطف أو التواصل، وتزيد من فرص البقاء، بعض المجتمعات تعتمد على أنواع معينة من الغذاء(ثقافة التغذية)، مما يمكن أن يؤثر على الجينات المرتبطة بالاستقلاب والقدرة على معالجة العناصر الغذائية التي تعطي قيمة لصحة الأفراد و تؤثر على الانتقاء الطبيعي من خلال زيادة فرص الأفراد الأصحاء في التكاثر، مما يعزز الجينات المرتبطة بالصحة الجيدة. عند مواجهة تغيرات بيئية، يمكن أن تؤدي الثقافات إلى تطوير استراتيجيات جديدة تتطلب صفات معينة، مما يؤثر على الانتقاء الجيني، الانتقاء الثقافي يمكن أن يؤثر بشكل عميق على الجينات من خلال تشكيل البيئة الاجتماعية والثقافية التي تعزز أو تقلل من فرص بقاء الصفات الجينية، هذا التفاعل الديناميكي بين الثقافة والبيولوجيا يسهم في تطور الأنواع وتكيفها مع التحديات المختلفة.

الجنس واسترتيجيات البقاء

 يمكن أن يتعاضد الجنس والجينات لتعزيز البقاء لدى الإنسان بطرق متعددة، الأفراد الذين يختارون شركاء يعتمدون على صفات معينة، مثل الجمال أو القوة،  يعزز الصفات الجينية المفيدة عبر الأجيال، بعض الصفات مثل الكفاءة في التواصل أو التعاون، قد تكون جذابة وتؤدي إلى زيادة فرص التكاثر، بعض الأفراد يتبنون استراتيجيات تناسلية متعددة، مما يزيد من احتمالات البقاء عبر زيادة الفرص لإنتاج النسل، الأفراد الذين يمتلكون مهارات في توفير الموارد يمكن أن يكونوا أكثر جاذبية، مما يعزز فرص بقاء النسل، الجنس يعزز من الروابط الاجتماعية، مما يساعد على إنشاء شبكات دعم تعزز من فرص البقاء في مواجهة التحديات، الأفراد الذين يتعاونون في مجموعات يمكن أن يحققوا نجاحًا أكبر في الصيد أو حماية المجموعة، مما يزيد من فرص البقاء، الجنس يساعد في تقديم تنوع جيني، مما يجعل المجتمعات أكثر قدرة على التكيف مع التغيرات البيئية، مثل الأمراض أو المناخات المتغيرة، الأفراد الذين يمتلكون صفات جينية تدعم الاستجابة للتحديات البيئية يمكن أن يكونوا أكثر نجاحًا في التكاثر، مما يعزز من تكرار هذه الصفات في الأجيال القادمة، هذه الديناميكيات تساهم في تطور الأنواع واستمراريتها، الانتقاء الطبيعي يلعب دورًا حاسمًا في تعزيز البقاء وتطور الأنواع، الانتقاء الطبيعي هو الآلية الرئيسية التي من خلالها يتم تعزيز الصفات المفيدة وتطوير الأنواع، من خلال اختيار الصفات باتثير استرتيجيات الاختيار الجنسي تعزز من قدرة الأفراد على البقاء والتكاثر، كما يسهم الانتقاء الطبيعي في تشكيل التكيف والتطور عبر الأجيال.

الضغط الانتقائي والانقراض

مع التغيرات البيئية يمكن أن يتولد الضغط الانتقائي الذي يؤدي إلى ظهور أنواع جديدة أو تنوع في الصفات داخل الأنواع الحالية، الضغط الانتقائي هو آلية حيوية تؤثر على بقاء الأنواع وتطورها، من خلال تعزيز الصفات المفيدة والقضاء على الصفات الضارة، يسهم الضغط الانتقائي في تشكيل التنوع البيولوجي والقدرة على التكيف مع البيئة، رغم ذلك يمكن للضغط الانتقائي أن يؤدي إلى الانقراض من خلال عدة آليات، إذا تعرض نوع معين لضغوط بيئية كبيرة لا يستطيع التكيف بسرعة كافية، مما يؤدي إلى انقراضه، عندما تظهر أنواع جديدة تنافس الأنواع الحالية على الموارد، يؤدي الضغط الانتقائي إلى تراجع الأنواع الأقل قدرة على المنافسة، مما يؤدي إلى انقراضها، إذا تعرض نوع ما لمرض جديد لا يمتلك مقاومة له، يمكن أن يؤدي الضغط الانتقائي الناجم عن هذا المرض إلى انخفاض أعداد الأفراد، وبالتالي انقراض النوع، فقدان الموائل الطبيعية بسبب الأنشطة البشرية التوسع العمراني الوقود الاحفوري، يمكن أن يؤدي إلى زيادة الضغط الانتقائي على الأنواع، مما يسهل انقراضها، إذا كان عدد الأفراد في نوع ما قليلًا، قد يؤدي ذلك إلى تزاوج داخلي مما يقلل من التنوع الجيني ويزيد من احتمال انقراضه بسبب عدم وجود صفات مفيدة، الضغط الانتقائي يمكن أن يكون عاملًا رئيسيًا في انقراض الأنواع. من خلال التأثير على القدرة على التكيف مع التغيرات البيئية، يمكن أن يؤدي الضغط الانتقائي إلى تقليل أعداد الأنواع، وفي النهاية، إلى انقراضها.

دور السرديات التاريخية والضغط الانتقائي في الانقراض

السرديات التاريخية والضغط الانتقائي تتداخل بشكل معقد ويمكن ان تؤدي الى الانقراض الثقافي، السرديات التاريخية تساهم في تشكيل الهوية الثقافية والسياسية للشعوب ويمكن أن تعزز النزاعات بين الجماعات المختلفة وذلك باختيار بعض السرديات على حساب أخرى، مما يساهم في تعزيز روايات معينة وطمس أخرى،  قد يكون نتيجة للسيطرة السياسية أو الاقتصادية، حيث تسعى الجماعات القوية إلى فرض روايتها، و يمكن أن يحدث عندما تتلاشى تقاليد أو لغات أو ممارسات ثقافية بسبب الضغوط الاجتماعية أو الاقتصادية، وغالباً ما يرتبط بفقدان الهوية الثقافية، مما يؤثر على التنوع الثقافي، تعاني المجتمعات الشرق أوسطية من الضغط الانتقائي نتيجة تغول السرديات التاريخية، و النزاعات السياسية والدينية تؤدي إلى تعزيز سرديات معينة، مما يساهم في تهميش روايات أخرى، الحكومات والجماعات القوية تفرض سرديات تاريخية خاصة بها لتعزيز شرعيتها، مما يؤدي إلى تراجع السرديات البديلة، تتسبب السرديات السائدة في تعزيز الانقسام بين الجماعات المختلفة، مما يزيد من التوترات الاجتماعية وتعزز الضغط الانتقائي الثقافي ويؤدي إلى فقدان بعض الثقافات أو اللغات، مما يهدد التنوع الثقافي في المنطقة تتطلب معالجة هذه التحديات تعزيز الحوار والتفاهم بين الثقافات المختلفة، بالإضافة إلى دعم جهود الحفاظ على التنوع الثقافي.

***

غالب المسعودي – باحث عراقي

منذ أن تلقى العرب صدمة (الحداثة) الغربية على مشارف القرن التاسع عشر، وهم ينقسمون الى فئتين متعارضتين لا قاسم مشترك بينهما سوى (التعصب) لهذا الجانب أو ذاك، لهذا التيار أو ذاك؛ فئة تتعصب ل(التراث) بقضّه وقضيضه، وأخرى تتعصب ل(للحداثة) بحسناتها وسيئاتها، دون أن يتمكن مريدوا الاتجاهين من الاهتداء الى سبيل واقعي ومنهج عقلاني يجنبهم مساوئ (الإفراط) في كيل الايجابيات والمناقبيات بمناسبة وبدون مناسبة من جهة، وينأى بهم عن محاذير (التفريط) بما تنطوي عليه تلك المواقف من سلبيات وسيئات لا ينبغي الغافل عنها والتجاهل لها من جهة أخرى.

وعلى الرغم من وجاهة بعض أفكار وآراء كلا الفريقين من المؤيدين والمعارضين، لجهة تشخيص السلبيات وتأشير السيئات التي يجدها البعض لدى البعض الآخر، إلاّ أنهم أثبتوا عجزهم التام في تخطي نقاط الضعف في مواقفهم الحديّة وتصوراتهم النسقيّة، حيال إقرارهم بوجود بعض الإيجابيات والحسنات لدى وجهات نظر كلا الطرفين المتناقضين والمتعارضين. وهو الأمر الذي يدلل على مدى تورط الجميع في الانخراط بنوازع (التعصب) للذات و(التطرف) ضد الآخر، حتى دون مراعاة لمناقبيات العلوم والمعارف التي يمثلها أعضاء كلا الاتجاهين، للحدّ الذي يتعذر على أحدهم الاعتراف باحتواء أفكار خصومه وآرائهم بعضا"من الحقائق والوقائع، بوازع من خشية احتساب ذلك من علامات الضعف في مواقفه ومتبنياته المتصلبة والهدر في قيمة اعتقاداته وتصوراته المبتسرة. والحال تستوي في هذا الأمر خطابات كلا التيارين المعنيين؛ التيار (الحداثي) المتعلمن والتيار (التقليدي) المتأسلم.

وإذا ما أنعمنا النظر ودققنا في مضامين كلا الخطابين المعنيين، سنلاحظ إنهما يتشابهان ويتماثلان من حيث ردود فعلهما إزاء كل ما يتعلق بمواريث الماضي وسرديات التاريخ، باستثناء كونهما يتناقضان ويتعارضان حيال طبيعة تلك المواريث والسرديات وما تحمله من قيم وما تمثله من إيحاءات. وهكذا فإن خطابات (التقليديين) نحو الموروث التاريخي والفكري للمجتمعات العربية والإسلامية، وإن وأبدت تحمسها العاطفي الذي يرقى في بعض الأحيان الى مستوى اللاعقلانية، إلاّ أنها مع ذلك تبدو منسجمة مع ما تتبناه من مواقف وما تطرحه من تصورات، من خلال تماثلها النسبي بين ما تقول على صعيد الفكر وبين ما تفعل على صعيد الواقع. هذا في حين تبدو مضامين خطابات (الحداثيين) كما لو أنها تغرّد خارج السرب، ليس لأنها غير قادرة على فهم معطيات الواقع وتحليل مكوناته وإدراك سياقاته واستشراف مآلاته، وإنما لكونها لا تفتأ تكرر ذات الخطأ الذي لا تني نظيرتها (التقليدية) من التمسك به والرهان عليه , وذلك من حيث نفيه وتجاهله لأية قيمة سوسيولوجية أو ابستمولوجية يمكن استخلاصها من بقايا ورواسب ذلك الموروث الغني بالذاكرات والتمثلات.

وفي خضم تضارب هذه الرؤى وتقاطع تلك التصورات، قلما نجد بين الخطابات (الحداثية) المتكاثرة من ينصف الموروث أو يكنّ له أي اعتبار، حتى لو كان يحمل بين مطوياته بعضا "مما يمكن استثماره وتوظيفه في مساعي تحليل إشكاليات الواقع ومعالجة مشاكله، لاسيما تلك التي لا تزال تمتح من نسغ أصول الماضي الشيء الكثير، مثلما لا تني تتوالد وتتناسل في الحاضر المأزوم بمتواليات هندسية منفلتة لا ضابط لها. ولعل في مراجعة خطابات بعض (الحداثيين) العرب ما يعكس هذه الحالة السلبية ويعزز من وجودها المعيب. فلو أخذنا على سبيل المثال لا الحصر بعضا"من خطابات هؤلاء، فإننا سنقع على الكثير من المفارقات التي لا تنسجم مع ما توجهات هذه الثلة من النخب، حيث يعتبر (التراث) بالنسبة لهم بمثابة (الدريئة) التي تتلقى الطعنات العشوائية من دون تمييز، سوى أنها أطفأت لديهم جذوة الثأر والانتقام من هذا الشاخص الجامد والصامت.

والحال ان (التراث) المدان مثله في ذلك مثل (الحداثة) المحتفى بها، ليس كل ما فيها (جيد) و(صائب)، كما ليس كل ما فيها (رديء) و(عائب)، إذ أن كل معطى اجتماعي أو إنساني يشتمل على وجوه ومستويات عدة تعكس الخاصية النوعي للطبيعة البشرية التي يتجسّد فيها كل ما هو (نسبي) و(تاريخي). ولذلك فإن رصانة الباحث (الحداثي) وموضوعيته تتجلى وتتمظهر، ليس فقط في تصيّد السلبيات ورصد الانحرافات التي لا يخلو منها أي (تراث) بشري فحسب، وإنما في تشخيص الايجابيات وتعيين الفوائد التي ينطوي عليها؛ لا بقصد المقارنة بين هذا الجانب أو ذاك، وإنما لأجل نقد السلبيات وتقويم الانحرافات من جهة، ووضع الحسنات والايجابيات موضع الاستثمار في البناء الاجتماعي والإسهام في الارتقاء الحضاري.  

***

ثامر عباس – باحث عراقي

مقدمة: ليس الاحتباس الحضاري مجازًا بيئيًا يُستعار لوصف أزمة ثقافية، بل هو توصيف واقعي لحالة انسداد حاد في الديناميات العقلية والاجتماعية التي يُفترض بها أن تُنتج تحولًا تاريخيًا. نحن لا نعاني من تأخر في النمو، بل من انقطاع في الوظيفة التاريخية للعقل العربي، ذلك العقل الذي أصبح أسيرًا لثلاثية مدمّرة: الجمود المعرفي، التعطيل الأخلاقي، والانحدار السلوكي.

أولًا: الجهل المُمَأسس وانهيار البنية المفهومية

الجهل في السياق العربي لا يُفهم بوصفه غيابًا للمعرفة، بل هو منظومة معرفية قائمة بذاتها، تقوم على تكريس آليات الإدراك الجاهز، وترفض مساءلة البديهيات. إن أخطر ما نواجهه ليس الفقر في المعلومات، بل الشلل في إنتاج المفاهيم، مما يجعل العقل العربي يعيش على هوامش الحضارة دون أن يمتلك أدوات الدخول فيها.

يقول المفكر العراقي الدكتور فالح عبد الجبار: المجتمع الذي لا ينتج مفاهيمه، لا يستطيع أن يُنتج تاريخه.

في هذا الإطار أُبيّن: العقل الذي لا يسأل، لا يجهل لأنه لا يعرف، بل يجهل لأنه لا يعترف بعدم المعرفة، وهذه هي أمُّ الجهالات.

ثانيًا: تحلل منظومة القيم وتحول الأخلاق إلى آلية للضبط

لا يُقاس تراجع المجتمعات فقط بانهيار مؤسساتها السياسية أو الاقتصادية، بل بفقدانها لمعايير التمييز الأخلاقي بين الفعل الصحيح والفعل النافع للسلطة. الأخلاق هنا لم تعد نابعة من العقل الجمعي، بل من شروط الضبط الاجتماعي. ومع انتشار الرياء والقيم الانتهازية، أصبحت الأخلاق أداة تزيينية تخدم الاستقرار، لا التجاوز.

 يشير الدكتور علي الوردي إلى هذه الأزمة بقوله: العقل البشري يُصاب بالجمود حين يضع الأخلاق في قوالب لا يجوز المساس بها، ويجعلها غاية لا وسيلة.

 أقول: حين تُغلق الأخلاق باب السؤال وتفتح باب التبرير، تتحول من وازع داخلي إلى آلية تسكين لضمير جماعي ميت.

ثالثًا: البنية العقلية الطاردة للنقد

المجتمعات التي تُقصي النقد هي مجتمعات تُقصي العقل نفسه. فنحن لا نعاني من نقص في النخب، بل من بنية ذهنية شمولية تُقصي أي خطاب تفكيكي وتُعلي من التلقين والتبجيل. العقل الناقد في السياق العربي يُصنَّف ضمن خانة الوقاحة الفكرية، لا ضمن ضرورات البناء المعرفي.

يقول الفيلسوف العراقي ياسين خليل: أخطر ما نواجهه ليس الاستبداد السياسي، بل الاستبداد المعرفي الذي يُنتج عقولًا لا ترى إلا ما يُراد لها أن ترى.

 أقول: من لم يتعلّم كيف يزعج يقين جماعته، لن يُنتج فكرة تُزعزع العالم.

لقد أنتج هذا المسار ما يمكن تسميته بـ الغباء البنيوي، وهو ليس سلوكًا فرديًا، بل نظام إدراك يُعيد إنتاج الرداءة، ويرفض تعقيد المسائل، ويُبسط القضايا الفكرية إلى ثنائيات مريحة لا تستدعي التفكير.

رابعًا: لماذا لا نتغير؟ تشريح علّة الاحتباس الحضاري

إن مجتمعاتنا تفتقر إلى ما يسميه علماء الاجتماع بالبنية القادرة على التعلّم الذاتي، أي تلك التي تخلق نقدًا دوريًا لمفاهيمها، وتعيد ضبط أدواتها الفكرية وفقًا لمتغيرات العصر. هذا الغياب هو الذي يؤدي إلى ما نصطلح عليه بالاحتباس الحضاري، حيث تصبح الثقافة عبئًا على المستقبل بدل أن تكون جسرًا نحوه.

 يقول الدكتور حسن العلوي: العرب لا يكرهون الماضي، بل يسكنونه.. يعيشونه كأنه الحاضر، ويُعلّقون عليه فشلهم في المستقبل.

أقول: لسنا متأخرين زمنيًا، نحن متأخرون مفهوميًا، فزمننا يُستهلك دون أن يُهضم، والتاريخ لا ينتظر عقولًا تعيش في تكرار ذاتها.

خامسًا: تفكيك الاحتباس… ليس دعوة للإصلاح، بل للقطيعة

إن معالجة الاحتباس الحضاري لا تتم عبر دعوات إصلاح سطحي، بل تتطلّب قطيعة معرفية صارمة مع المنظومات القائمة:

قطيعة مع التعليم التلقيني الذي ينتج العجز.

قطيعة مع الخطاب الديني الشمولي الذي يحرّم التفكير.

قطيعة مع السلطة السياسية التي تُقصي العقل لحماية استبدادها.

وقطيعة مع المثقف الذي تحوّل إلى موظف في بلاط النفاق الجمعي.

 أقول: العقل الذي لا ينتج شروط نجاته، يستحق الانقراض؛ والوعي الذي لا يملك شجاعة القطيعة، لن يلد تاريخًا.

خاتمة

نحن لا نعيش في عصر الانحطاط، بل في عصر الإنكار المنهجي لهذا الانحطاط. الاحتباس الحضاري ليس مجرد خلل، بل هو إعلان عن نهاية مرحلة تاريخية فاشلة لم تتمكن من بناء ذاتها أو نقد نفسها.

وهنا يكون السؤال الأخلاقي والفلسفي معًا:

هل ما زال بالإمكان بناء تحوّل حقيقي دون أن نمارس خيانة فكرية تجاه ما نحن عليه؟

 في هذا السياق أُبيّن: لن نولد من رمادنا، إلا حين نحرق أوهامنا أولًا؛ فمن دون خيانة ذواتنا القديمة، لا معنى لأي ولادة فكرية.

الجواب ليس في الحنين، ولا في الرغبة، بل في امتلاك الجرأة على تسمية الأشياء بأسمائها، وتحطيم الأوثان الذهنية التي قيدت الوعي العربي لأكثر من قرن.

***

الكاتب سجاد مصطفى حمود

 

من السنن الجارية في الأديان وطبيعتها أنها تتضمن ثنائيات متعددة كثنائية القيم من خير وشر وحسن قبح وثنائية المصير (الجنة والنار) وثنائية اليمان والكفر التي تختزل تصنيفا للبشر على اساس مثول الإيمان في العمق الوجودي من عدمه، والايمان من ابرز تجليات الدين في الطبيعة البشرية وهو الذي تحول فيما بعد الى (قانون تصنيف) يكرس حالة الانتماء الديني، بالنحو الذي جعل من الدين جهة ذات أسيجة صارمة وحادة، أمام اشتراطات التعددية النوعية والتعايش السلمي ومرونة الاستيعاب والقبول للآخر، وفي تقديري لم يكن من هم  الدين تكريس تلك الثنائية (الايمان والكفر) ولم يقدم نفسه على أنه جهة قابلة للانتماء بقدر ما كان همه تكريس ذاته (أي ذات الدين) في الوجدان الإنساني وترسيخ هويته الإيمانية في نفوس البشر، ولم يكن ينبغي توظيف الايمان كانتماء بل كهوية كونية يشترك فيها الجميع، وفيما بعد تحول الإيمان من حالة وجودية كامنة في عمق الإنسان إلى حالة تتمظهر بالشكليات ليصبح هوية وانتماء في الوقت ذاته، وهذه المشكلة ربما تتطلب بحثا مستقلا لكنها على صلة وثيقة بما نحن بصدده من مسألة التكفير وممانعته في بناء القيم الإنسانية، والذي يمثل نتيجة حتمية لقراءة الإيمان الديني على أساس كونه انتماءً، ونحن نفرق بين كون الإيمان (هوية) وكونه (انتماءً) فالهوية ذات امتداد طولي عميق يتصل بوجود الإنسان الداخلي، في حين تبدو امتدادات الإنتماء أفقية تنحو منحى الإقصاء للآخر (المختلف)، وهو ما سيتم تفصيله لاحقا.

ومسألة التكفير من المسائل التي تبحث – دينيا- في إطار الفقه والكلام معاً، ذلك أنها ترتكز على ثنائية الإيمان والكفر في بنيتها الأساس، وفي العصر الراهن طالما اقترنت ظواهر العنف الديني بالتكفير، وكان الأخير العامل الأساس وراء نشوء تلك الظواهر، فلولا الحكم بكفر الآخر لم يكن من الجائز جهاده وقتاله بحسب معطيات الفقه والكلام.

إن مشكلة التكفير ترتبط أساسا بمشكلة الإيمان، فقراءة الإيمان بنحو يكرس جهوية الإيمان، وممانعته من تقبل الآخر (غير المؤمن)، تجعل من التكفير نتيجة طبيعية وردة فعل تلقائية تجاه ما هو مختلف..

لم يفهم الإيمان على أنه يقين واطمئنان وسكون تدريجي نحو المقدس، بل أصبح محمية بلون واحد تكسي من يدخلها طابعها الخاص دفعة واحدة وتخلع عن من يخرج منها كل ما يتصل بوجود الإنسان وكرامته، فالإيمان بمعناه التقليدي والمتشدد لم يمنح الفرد إنسانية مضافة حينما قبله ولم يزدد الفرد أي معنى في دخوله التقليدي للدين، في حين ثمة مفارقة في عملية الخروج، فالتدين التقليدي بالرغم من عدم إضافته للفرد أي معنا إنسانيا راح يتسبب بخلع كل المعاني عن الفرد عند خروجه مرتدا أو كافر.. فيأخذ من الآخر (الخارج) ما لم يعطه مسبقا، ويعطي للمؤمن مالم يفتقده مسبقا، هذه المفارقة كامنة في الفهم البشري للدين، لتنعكس على ممارسات تندرج في ضمن الدين تدريجيا.

التكفير في منطق الفقه..

التكفير في منحاه الفقهي يشغل الموقع غير المناسب، فلم يكن من شأن الفقه أن يتناول ايمان الفرد، وقياسه، والحكم عليه، وما يقتضيه الضمير الاخلاقي هو عدم اجتزاء الدين بالفقه، واقصار الايمان الديني على ما يستظهره الفقه من معايير تحدد مصير الانسان ووجوده عبر معايير شكلانية، تفتقد المحتوى الأخلاقي، يذكر الرفاعي أن : (منطقُ الفقه الذي يعرفه كلُّ خبير بمدونته لا ينظرُ للأخلاقِ، ولا يعتمدُ العقلَ الأخلاقي مرجعيةً، بل لا يتنبهُ حين يكون على الضدِّ منها أحياناً. المهمُّ عند اختبار مكانة الفقيه العلمية في الاستنباط هو براعتُه في التطبيق الميكانيكي للقواعد الأصولية وغيرها في عملية الاستنباط، وكأنه بمثابة الخبير بالرياضيات، الذي تُختبَر براعتُهُ في استيعاب المعادلات والقواعد وتطبيقها لحل مختلف المسائل الرياضية المعقدة. وقد انتهى ذلك إلى أنّ بعضَ الآراء في مدونةِ الفقه الإسلامي كانت على الضدّ من أحكامِ العقل العملي "الأخلاقي) ، فيشير الى هيمنة الشكل على القيمة، والتنظير على الواقع، وسلامة القضية منطقيا على مخرجاتها في الواقع، فالتركيز مثلا على أفعال الصلاة وكيفيتها من الناحية الشكلية ذو غلبة واضحة على أهمية المحتوى القيمي والمعنوي للصلاة، وكذلك في بقية الأفعال التي يتكفل الفقه بتنظيمها من الناحية العملية التي لا تتجاوز سقف الكيفية، فيما يبقى الجانب النوعي مهملا الى حد ما، وهو ما يفرض ضرورة اكساب الفقه (في مخرجاته السلوكية) أفقا أخلاقيا يتوخى تحقيق المعنى الذي يتصل بالجانب الروحي بنحو يتجاوز حدود كيفية التطبيق التي تحكم شكل الأفعال فقط.

إن اهتمام المعرفة الفقهية بالشكل دون المحتوى لهو علامة بارزة في نمط البحث الفقهي الذي أمسى حبيس الدلالة الحرفية للنصوص التي توجه السلوك الإنساني، من دون الاكتراث إلى ما تؤول إليه الأفعال من معنى إنساني أو أخلاقي، بل تحيل في ذلك إلى الخطاب الوعظي الذي يقف عند حدود قاصرة عن التأثير في الذات الإنسانية، وبالتالي يكون الفقه ذا مدى محدود من بلوغ مراماته التي من أجلّها القيم الأخلاقية.

ويشير يحيى محمد من أنه لا ضرورةَ في منطق هذا التفكير لأن تتطابق الفتاوى والأحكامُ الفقهية مع أحكامِ العقل الأخلاقي والمعاييرِ القيمية الإنسانية المتفق عليها بين العقلاء، مثل حقوق الإنسان بوصفه إنساناً، وإنما المهم في منطق التفكير الفقهي أن تكون النتائجُ الفقهية حاكيةً عن مقدّماتها من القواعدِ الأصولية والفقهية وغيرِها من الأدوات المستعملة في استنباطِ الأحكام بشكلٍ صحيح، وإن كانت مفارقةً في مضمونها لمقاصدِ الشريعة وأهدافِ الدين وقيمِه المعنوية ومعاييرِه الأخلاقية ، وفي ضوء تلك التصورات فالقيم لم تكن حاضرة في المنهج الفقهي، مع أن النصوص التي يعتمد عليها الفقيه هي ذاتها التي تؤسس للمنظومة القيمية، لكن يمكن الملاحظة على ما أشاروا اليه من عدم حضور القيم في المنهج الفقهي عبر ما أشرت إليه سابقا حول تخصص الفقه وأنه علم قائم بقواعد خاصة بعيدة عن التنظير للقيم، ومع وعي حقيقة المشكلة فإن مخرجات الفقه ربما تتعارض مع بعض القيم الراسخة، وهو ما يستدعي أن تكون هناك لائحة تشتغل على مساحة (فلسفة التشريع) تؤدي بدورها إلى إبراز الجانب القيمي في الشريعة الاسلامية، وهو الجهد الذي طالما يتم إهماله للأسف، فالحركة العلمية تغور بالاستدلال وتفاصيله الدقيقة من دون وضع ركائز عامة للتشريع تعالج كل ما يطرح من شبهات معاصرة حول الاحكام التي ينتجها الفقه، ولا يعني ذلك أن يتم التغافل عن حضور القيم في التفكير الفقهي، لأن نسيانُ الأخلاقِ، وعدمُ الاكتراثِ بحقوقِ الإنسان بوصفه إنساناً، من أهمّ أسباب إخفاق الإسلاميين في بناء الدولة اليوم، بعد أن اختزلوا الإسلامَ في الفقه، وأضحت الفتوى الفقهية مشجبَهم لتسويغ كلّ فعل ينتهك حقوقَ الوطنِ والمواطن، ويفرغ الدينَ من محتواه القيمي الأخلاقي؛ لأنه يسهل على بعضهم الحصولُ على فتوى تشرعن ممارساته، وإن كانت لاأخلاقية ، ان تحديد تلك الاشكالية لا يسلب الفقه الاسلامي اصالته ومشروعيته بأي حال، لكن المنهج الذي يقوم عليه اي علم يقبل النقد كأي من العلوم الاخرى، وفيما يؤكد على الروح والمضمون للحكم الفقهي يطرح اشكالية الفقه الشكلاني التي يتحمل (أصول الفقه) جزءا كبيرا في تكريسها، ذلك أن أصول الفقه يتحرك بعقلية أداتية تعمل بمنحى آلي تحت تأثير المنطق الارسطي الذي يقف عند صورة المفهوم من دون احتكامه إلى الواقع، وكمثال بسيط عن مشكلة المنطق الارسطي يمكن اعتبار كل ما يقبل الحقن بالحبر (قلما) من دون اعتبار كونه يكتب او لا يكتب، بينما يرفض الواقع أن يعتبر القلم الذي لا يكتب قلما إلا إذا كان صالحا لكتابة..

إن التوسع في أسباب الكفر والتكفير مما يعد مشكلة في تضخم العقل الفقهي على حساب الحس الأخلاقي، حتى أفضى إلى الاعتباط في التكفير وعدم الاكتراث بنتائج التكفير من حيث ترتب آثاره من نجاسة الكافر فضلا عن وجوب قتله، وإغفال واضح لحرية الانسان في الحياة الدينية، مما انعكس سلبا على الحياة الاجتماعية من نشوء الفئوية الدينية التي تستبع أقسى ممارسات الإقصاء والعنف الديني.

لذا ينبغي التعامل مع لوائح التكفير في المدونة الفقهية من منطلق معايير الاخلاق الدينية الذي يعد عنصرا حاكما على اجرائيات الفقه، ولا يمكن اجتزاء المعطى الفقهي وتعميمه على الواقع الانساني مع اغفال المحددات الاخلاقية للتفكير الفقهي، إذ لم يكن فقه التكفير ناشئا في أحضان رؤية دينية مستوعبة للإلزامات الأخلاقية، بل كان ذلك الفقه قد نشأ بمعزل عن الاحتكام الى رؤية شاملة تتضمن شروط الحرية والكرامة الانسانية مستحضرةً كل ما يتصل بضرورة الحفاظ على الضمير الأخلاقي عبر قراءة متوازنة بين متطلبات الأخلاق وما تنتجه قراءات الفقهاء للنصوص الدينية تلك القراءات التي طالما كانت بمنأى عن مآلات الحكم الفقهي في واقع الحياة الإنسانية.

على أن ذلك النقد لا يعني عزل الفقه أو تقويضه بقدر ما يعني إحلال الفقه في موقعه الطبيعي، وعلى حد ما ذكره حيدر حب الله من معارضة تنامي الفقه وتضخمه إلى حد غياب الروح الأخلاقية، ومعارضة تقديم الفقهاء على المفسرين والعرفاء والفلاسفة بوصفهم الناطقين باسم الدين دون غيرهم، نحو فهم خاص للدين يجعل الفقه مجرد ضلع من أضلاعه، ويمنحه موقعه الطبيعي في إدارة حياة الناس.. .

اتجاهان في مفهوم الكفر:

إن علماء المسلمين على اتجاهين في رؤيتهم لمفهوم الكفر:

الاتجاه الاول: يميل إلى توسعة مفهوم الكفر تجنبا للإخلال بالضبط المنطقي، كما في قولهم أنه : (إنكار لما علم مجيئه بالضرورة) وهذا التعريف وإن كان فيه تجنب واضح للخوض في تفاصيل مع يقع عليه الإنكار إلا أنه يؤدي –بحسب الواقع- إلى الاعتباطية في الانطباق على مصاديق متكثرة، تجعل من التعريف وسيلة للإدخال الكثير من المصاديق تحت ما يعلم مجيئه بالضرورة، فالمشكلة في تحديد ما هو ضروري وما هو غير ضروري.

فيما يوضح الاتجاه الثاني:

أن الإنكار يتعلق بالربوبية والوحدانية والرسالة، وهو لا يتعارض مع الاتجاه الأول بل يضيق مداه إلى دائرة أكثر انضباطا من ناحية تغلغل المصاديق الدخيلة تحت طائلة الاعتباط..

فالربوبية يشير إنكارها إلى معنى الإلحاد، والوحدانية يقابلها الشرك، والرسالة يقابلها تكذيب النبي (صلى الله عليه واله)  ، وهذه الثلاثة تعد معايير أساسية إلى حد ما، لكونها تتناسب مع مضمون الشهادة الذي يؤكد على الإذعان بالله وبرسوله.

لأن الكفر هو جحد الضرورات من الدين أو تأويلها ولم تأت في نفيها آية قرآنية ولا حديث آحاد فضلا عن متواتر وأما مخالفة غلاة المتكلمين في دقائقهم فلم يقل أحد أنها كفر وإلا لوجب تكفير أكثر أهل الاسلام بل خيرهم(1).

الخصوصية الكونية للإيمان:

الكونية مصطلح يرمز إلى مفاهيم دينيّة، فلسفيّة حول الكون يقترب مما ينطبق على كلّ شيء. إنّه مفهوم يشمل جميع الناس في كينونتهم، وفي الدين، تعد الكونيّة مبدأ يؤكّد انصياع جميع الناس تحت ارادة ورعاية الخالق، وتؤكّد على أنّ الكون تحت تصرّف الخالق(2).

ان الايمان بوصفه موقف وجودي انساني يربط الانسان بتجليات المطلق على مستوى الوجود أو القيم يمكن أن يعد من المفاهيم الكونية التي يشترك فيها جميع البشر وبمختلف اتجاهاتهم الدينية والفكرية، فالإنسان هو الكائن الوحيد الذي لديه قدرة التفكير والميل نحو المعتقد والانتماء لمختلف المنظومات الدينية مما يجعله كائنا مؤمنا، وصفة الكونية تتيح الى جعل الايمان كينونة بشرية دائمة ومشتركة تستبطن حقا عاما لكل فرد من منطلق حرية الفكر باعتناق اية مضامين قابلة للإيمان، وبالرغم من الحاكمية العقلية على نقد مختلف اشكال الأصول الايمانية فإن ذلك لا يمنع حق الاختيار الانساني للقضايا الإيمانية بالنحو الذي يجعل من الايمان عنصرا محوريا في نشاط الانسان الروحي والذي لا يمكن إلغاءه من جهة كما لا يمكن فرضه على الآخرين من جهة أخرى، وهو ما تفيد به جملة من النصوص الدينية.

وعلى هذا الاساس يمكن ان يكون التكفير بما يحمله من وسائل الاقصاء والالغاء عاملا مجانبا بل مناقضا لكونية الايمان، واذا سلمنا بوجود قيم كونية مشتركة بين البشر فإن الثابت منها لا يلغي حق الانسان في اختيار معتقده وممارسة نشاطه وحركته الايمانية.

وهنا يصبح الايمان في إطاره الوجودي هوية إنسانية لها استحقاقاتها ومكتسباتها التي تكرس اجرائيات الحماية والتنظيم للنشاط الايماني الذي اتسمت به الطبيعة البشرية ليكون عنصرا أساسا في كينونتها ووجودها.

فلا يمكن لفقه التكفير أن يقفز على تلك الحقيقة الكونية بتعميم أحكامه على خلع انسانية الانسان بمجرد تمايزه الاعتقادي، وهو ما يتنافى أساسا مع طبيعة النبوات التي جاءت لتنشر التجربة الايمانية بوسائل لا تتجاوز طابعها المعرفي عبر استثمار مسوغات الوعي والنزوع نحو التقبل الروحي لمختلف تصورات وقضايا الايمان الديني، إذ لم يكن العنف الديني حاضرا في قاموس التجارب النبوية سوى في حدود ظرفية استثنائية تم تعميمها تاريخيا مما أفضى إلى التباس واضح بين ما هو ديني وما هو تاريخي.

***

د. أسعد عبد الرزاق الأسدي

..................................

(1)¬ ظ: الحسني القاسمي، محمد بن إبراهيم بن علي بن المرتضى بن المفضل، إيثار الحق على الخلق في رد الخلافات الى المذهب الحق من أصول التوحيد: 223.

(2) - ظ: ندره اليازجي, مفهوم الكونية, موقع الكتروني

هرع اللغويون العرب صوب دراسة النص الديني المقدس والنصوص النبوية وما خلفتها من نصوص دينية متلثمين بنظريات اللسانيات المعاصرة التي طفقت تفكك النصوص الدينية المسيحية في الغرب، وهم في ملحمة ظنية بأنهم يخدمون الدراسات الدينية الإسلامية، لكن الحقيقة التي تكمن وراء هذه الاجتهادات لا يمكن توصيفها تحت باب التجديد ا، حتى الاجتهاد؛ ذلك أنهم كانوا يسعون إلى نقد النص الديني بإطلاقهم عليه لفظة خطاب، الأمر الذي دفعهم حسب مظانهم التي تبدو لنا مريضة بعض الشئ على استحياء الاتهام بالكل ـ إلى إبراز أخطاء ومثالب تكمن بتلك النصوص.

ومن باب العجب أن مجمل أعمال الحداثيين العرب رغم اختلاف توجهاتهم وتكوينهم الأيديولوجي الذارب في تشويه الماضي برمته أنهم كانوا ولا يزالون يطالبون بإعادة النظر في النص القرآني المقدس وضرورة تأويله وفق مزاعم نظريات علم اللغة واللسانيات الحديثة التي تعضد تفكيك النصوص اللغوية وإعادة بنائها وتركيبها من جديد، أو خوض مغامرة إخضاع النص الديني لقراءات متعددة؛ تاريخية وألسنية، وأنثروبولوجية، وسيميائية، وأخيرا قراءة لاهوتية، الأمر الذي يخرج النص من قداسته إلى رهانات تأويلية مبتذلة محكوم عليها بفقد رصانة التفسير والتحليل.

وينبغي على القارئ العربي أن يفطن إلى ثمة مؤامرات ثقافية استعمارية مفادها أن الغرب لم يعد يحارب بأسلحته التقليدية التي بات العرب يمتلكونها بل يستخدمونها بشراسة أيضا، لذا فكانت الحرب الراهنة هي حرب تشكيكية زاعمة بأن القوة الآن هي قوة الفكر الحداثي الذي يعطي العقل المكانة الأعلى فقط في نقد النصوص الدينية أو التاريخية أو النصوص التي تتعلق بالموضوعات الدينية الراسخة لدى عموم المسلمين.

الكارثة أن حفنة وجملة من المفكرين العرب الذين درسوا المناهج اللغوية الغربية ودرسوا على أيدي كثيرين ممن يطعنون في دياناتهم الأصلية تأثروا جد التأثر بتلك النظريات والمناهج التي يمكن استخدامها وتوظيفها في خطابات شعرية لأدونيس ومحمود درويش وأنسي الحاج وغيرهم أو كتابات روائية معاصرة فهي نماذج نقدية بشرية تصلح لمعالجة نماذج لغوية بشرية أخرى تماثلها في الكفاءة والطرح والتلقي، لكن لا يمكن استغلالها في تأويل النص الديني الراسخ والثابت والمحفوظ بعهد من الله عز وجل.

ومجمل زعم هؤلاء رفض تقليد الأوائل من جهة، وبث روح التمرد والرفض بل ومقاومة التراث العربي الإسلامي من جهة أخرى، تماما كما وجدنا ذلك في نص الدراسات اللاهوتية التي تناولت الكتاب المقدس منذ مطلع القرن الثامن عشر في أوروبا.

بل إن موجات الهوس لدى بعض الحداثيين العرب وصلت إلى شواطئ بعيدة ترى ضرورة تقييد النص الديني بزمانه وبيئته وجغرافية إنتاجه وكثيرا في حدود ثقافة وجوده أيضا.

وبعد دراسة مفهوم الحداثة المزعومة لدى الكتاب العرب الذين هرعوا إلى نقد النص الديني تارة، ونقد ودحض الخطاب الفكري العربي تارة أخرى من أمثال عابد الجابري ومحمد أركون وغالبا نصر حامد أبو زيد وحسن حنفي وعبد المجيد الشرفي وأدونيس وقاسم شعيب وغيرهم ممن أصابه قلق الحداثة وتوتر الفكر اللساني المضطرب هوية وجهة وتكوينا يمكن تحديد دلالات الفكر الحداثي العام لدى مؤسسي هذا التيار والتي يمكن استنطاقها من خلال كتاباتهم الضاربة في الانتشار مثل الإيمان المطلق بالإنسان وخبرته وتجربته الفردية الذاتية بل إبراز قدرة هذا الإنسان ـ المكلوم ـ على الخلق والإبداع وتطوير العقل، وهم بالضرورة يقصود الخلق اللغوي المتمثل في القصيدة والرواية والقصة والمسرحية والطرح النقدي للأجناس الأدبية المختلفة، لكن هوس القلق المستدام جعلهم ينادون بالإيمان المطلق لاستقلالية المرء، وسلطة العقل التي لا تفوقها أية سلطة أخرى، وأن سلطان العقل لن يعتلي سدة الحكم والقوة والسيادة إلا بالقضاء على مرجعيات الماضي والتراث بوصفهما منغصات التجديد والتنوير.

وكان أول مشروع يدشنه أي مفكر تبنى فكر الحداثة الغربية الذي فشل بالغرب قبل إعادة إنتاجه بالبيئة العربية هو الثورة المطلقة والمستدامة بغير انقطاع على المرجعية الدينية، وأن إخضاع الدين وقضاياه لمنهجيات العلم التجريبي والأهواء الفردانية وتجارب الشخص الذاتية أمر لحتمي لا يمكن الفكاك من أسره إذا أردنا ـ من وجهة نظر هؤلاء ـ التطوير والتحديث لمجتمعاتنا العربية.

هذا ما دفع الكاتب المغربي قاسم شعيب في كتابه (فتنة الحداثة) المنشور عام 2013 وهو من الكتابات المعاصرة في هذا الميدان إلى إبراز الرؤية الحداثية التي تتمثل في سيادة العقل أو ما أسماه بالعقلانية المادية، وأن الحقيقة تستمد قيمتها من كونها نتاجا للعقل الإنساني لتصبح الذات مركز العالم. وبالرجوع إلى المكونات الرئيسة للفكر الحداثي الذي ضرب المجتمعات العربية بالحيرة والجنون في انتفاء التطبيق السوي للسانيات الغربية نجد على سبيل المثال التفكيكية التي يشير إليها دين محمد مير اصاحب في كتابه (الحداثية وتحدياتها للتفسير القرآني) بأنها تمثل مظهرا صادقا لليأس والحيرة الذين أصيب بهما الإنسان في الغرب والتي نتجت عنها الاستهلاكية المتطرفة.

وهذه النظريات اللسانية النقدية وغيرها مما تم استيراده من الغرب الأوروبي نجمت عن العطب الذي أصاب الحضارة في تلك المجتمعات وأدت إلى سقوط المرجعيات التي تم توصيفها بالتقليدية البائدة بل والرجعية أيضا، وتمثلت مظاهر الحداثة الفكرية في تلك المجتمعات في نقد الدين ورموزه وموضوعاته، ونقد ودحض الفكر الموروث، ثم إعلان بيان تأسيسي جمعي للقطيعة مع الماضي برمته.

هذا الرفض المطلق للأسف أودى بأصحاب تلك النظريات اللسانية والنقدية وبتناولهم للنصوص الدينية المقدسة في الغرب الأوروبي إلى رفض الدين المعادل الموضوعي للإلحاد؛ ومن ثم إنكار التشريعات الإلهية ورفض سلطة الوحي، والكارثة هي نقل التجربة النقدية الغربية الصالحة لمجتمعات بعينها إلى بيئاتنا العربية ذات الفكر الأصيل والتكوين اللغوي والديني المتعمق في جذور الإنسان العربي.

والمستقرئ لفكر الحداثة أو التيار الحداثي يدرك على الفور للوهلة الأولى أنها مرادفة للعلمانية المتطرفة التي أسهمت عن جهل وزيف وخداع في رفع القدسية عن مدال الأخلاق والقيم. وكما يذكر دين محمد ميراصاحب (2013) في كتابه المذكور سلفا فإن العلمانية في أصلها ظاهرة غربية خالصة سبب ظهورها عوامل تاريخية عاشتها الأمم الغربية على مدى قرون متتالية في ظل ثقافات تلقي بجذورها إلى وثنيات قديمة على الرغم من المسيحية التي لعبت دورا كبيرا في تشكيل الثقافة الغربية في العصور الوسطى وبعدها.

والمشهد الذي لا يمكن تغافله هو أن العلمانية التي تأصلت في اللسانيات اللغوية المعاصرة والنظريات النقدية أجبرت المسيحية في أوروبا على التقهقر والابتعاد عن المجال العام، وصولا إلى تيار الليبرالية الذي بات أحد أصنام فكر الحداثة والذي يعني عند بعض مفكر العرب الحداثيين التحرر من كل قيد معروف أو مأثور.

وما إن نجونا مؤقتا من أصنام العلمانية والليبرالية حتى اصطدمنا من خلال ما عرفوا بالمجددين في الفكر العربي المعاصر الراهن بنظرية نقدية مماثلة للحداثة ألا وهي العقلانية المتطرفة. وهي نظرية مفادها إعلاء الفردانية والإيمان المطلق بالعقل في مواجهة نصوص التراث الدينية وأن لا سلطة فوق العقل. والمدهش في هذا الملمح من ملامح فكر الحداثة في الوطن العربي ومن خلال الدراسات النقدية للنص الديني ونصوص التراث وغيرها أيضا من كتابات الأوائل الفقهية والتاريخية أنها ـ العقلانية المتطرفة ـ لا تعترف بما لا يفهمه العقل أو لا يقع تحت سيطرة العقل، ولا تفرق بين الذي يتناقض مع العقل وبين ما يعلوه على العقل، بل إن تلك النظرية المهووسة لا تعترف أصلا بوجود ما يعلو على العقل أساسا، الأمر الذي جعلتها تنظر إلى أساسيات الدين على أنها مجرد مجموعة من الأساطير والخرافات المزعومة.

ونحن بحق بحاجة ماسة إلى توظيف العقل واستخدامه بصورة طبيعية فطرية كما أمرنا الشرع بذلك، الأمر الذي يدفعنا إلى ترتيب بيت النظريات النقدية الحداثية التي باتت تعبث بالتراث العربي الإسلامي، وأنه من البدهي الآن إدراك هوية وكنه الحداثة الوافدة إلينا من الغرب عبر سياقات لسانية ولغوية ونقدية ودراسات تاريخية نتجت عن تطورات اجتماعية وسياسية استهدفت تهميش الدين ودوره بل إقرار عجزه في مواجهة التطورات والتحديات، هذا العبث الذي دفع كثيرين من المفكرين العرب المعاصرين إلى نقد الدين بوصفه خطابا لغويا يمكن تناوله بشكل نقدي.

ولعل هذا التناول البشري القاصر والمحدود بل والجاهل أيضا في مظان كثيرين وأنا منهم هو الذي دفع بعض الكتاب العرب في النصف الثاني من القرن العشرين وصولا إلى أيامنا الراهنة بالتأكيد على مركزية الإنسان وسطوته في مواجهة مركزية الإله. انتهاء بعبث فكري تحت مظلة حداثة واهية تمثلت في الثورة على التراث الديني وإغفال المصدر الإلهي التشريعي ورفض أية مرجعية.

ولنا وقفة عاجلة تحذيرية تؤكد خطورة العبث الحداثي الذي يردده بعض الكتاب العرب والشعراء المعاصرين وبعض دارسي التاريخ الإسلامي، حيث إنهم تأثروا كثيرا بمزاعم الغرب في نظرياتهم اللسانية والنقدية التي دحضت الكتاب المقدس ونصوصه في الغرب وتعاليم الكنيسة، فلجأوا تارة إلى تحريف الفكر الديني الإسلامي والتراث العلمي العربي الرصين والمجهودات العلمية لأوائل علماء المسلمين، وتارة أخرى في تقليد الغرب من خلال توظيف واستخدام النظريات الأدبية ضيقة الرؤية والنفاذ إلى تأويل القرآن الكريم وتفسيره باستغلال تقنيات وآليات تلك النظريات المسكينة بالفعل كما أصحابها.

ويكفي أن نسرد بعض النظريات النقدية واللسانية التي نجمت عن بيئات مضطربة في فترات سياسية واجتماعية عصيبة لندرك العوس العربي في توظيفها على كتابات عربية خالصة بدلا من إنتاج نظريات عربية أصيلة كان لنا السبق في إنتاجها وخير دليل كتابات قدامة بن جعفر في نقد الشعر والنثر وغيره، فنجد رولان بارت الفرنسي الذي يرجع له فضل تأسيس البنائية السميولوجية وهي علم العلامات والذي تأثر كثيرا وطويلا بالسويسري فرديناند دي سوسير الذي يزعم أنه صاحب علم اللغة الحديث، وهذا لم يحدث ‘لا حينما تخلى العرب عن تراثهم ومنتوجهم اللغوي والنقدي رغم أن أبرز النظريات النقدية أنتجتها بيئة العرب.

ثم نجد الفرنسي كلود ليفي شتراوس مؤسس الأنثروبولوجيا الاجتماعية والذي طبق نظريته على الكتاب المقدس مثله مثل ميشيل فوكو الفرنسي صاحب أركيولوجيا المعرفة والذي يتغنى بفكره الحداثيون العرب رغم امتلاكهم لنظريات عربية رصينة وجيدة النفع.

وصولا إلى أسماء تتبع تيارات الحداثة القلقة والمضطربة أمثال جاك دريدا مؤسس التفكيكية وشلاير ماخر مؤسس الهيرمينوطيقا، وصولا إلى بول ريكور أبرز من تحدث عن التأويلية التي أفسدت كثيرا من تناول نصوص التراث العربي باستخدامها لأنها تخرج الناقد والقارئ على السواء من فائدة النص إلى دحضه ورفضه والبحث عن بديل آخر يصلح لزمان يوافق هوى المتلقي وعبث مسعاه.

الخطير في كتابات الحداثيين العرب من مثل حسن حنفي ومحمد أركون ونصر حامد أبو زيد وسيد القمني أنهم خرجوا من سياقات نقد الخطاب اللغوي إلى نقد النص الديني وتعرضه لتفصيلات تاريخانية ونظريات ألسنية باهتة ومناهج تحليلية لم تأت بفائدة في بيئات إنتاجها سوى شيوع موجات التطرف والإلحاد والرفض لكل ما هو ديني. بل إن الأخطر هو التفاوت والاختلاف المرضي ( بفتح المين والراء) في حرصهم على التشكيك بالنص وتفكيكه ومن ثم إعادة بنائه، وإخضاع القرآن الكريم للمنطق التاريخي المادي وربما لا أريد إطلاق العنان لاتهاماتي بعدم الاعتراف بأصله ومصدره.

ومصيبة التفكيكية التي أشرنا إليها سالفا أن معيارها الوحيد هو صحة النص؛ ودأب النظرية اللغوية والنقدية بعد ذلك أفضت إلى ضرورة أن يكون النص محرفا وهي نتيجة جاهزة منذ البداية كما يذكر ميراصاحب في كتابه (الحداثية).

ولنا أن نقدم فروقا جلية بين تلقي النص القرآني وتأويل النصوص البشرية التي لا تخرج عن فلك كتابة الشعر ونظمه والقصة والرواية والخاطرة الأدبية؛ وهنا تجدر الإشارة إلى التّمييز بين نوعين من أنواع قراءة النّصّ الأدبيّ؛ الأولى قراءة مطابقة وهي قراءةٌ استنساخيّةٌ غير متجاوزة تقتصر على شرح النّصّ وتفسيره بصورة مباشرة ملتزمة بحرفيّة اللّغة النّصّيّة داخل الخطاب الأدبيّ ولا تتجاوزه إلى ما وراء النّصّ أو الأبعاد المكوّنة له بغير استنباط أو استدلال أو استنطاق لمعان أخرى مستترة. والقراءة الثّانية هي قراءة الإنتاج والتي يمكن تسميتها بالقراءة الكاشفة، وفيها يبحث القارئ عن المضمر والمخبوء داخل النّصّ الأدبيّ كاشفًا مضامينه ومعانيه. وتلك أمور لا يمكن توظيفها في نص حكيم إلهي قاطع التشريع.

وقراءة النّصوص الأدبيّة مستوياتٌ ومراق؛ بدءًا من التّرديد وتحريك اللّسان، مرورًا بالفهم السطحيّ، وبحلّ شفرة النّصّ الأدبيّ ومحاولة فهمه وتحليله، ثم الوصول إلى إعادة تركيبه وسبر أغواره أو إنتاج نصّ مواز للنّص المقروء وهو ما يعرف بالقراءة التّأويليّة. وهذه القراءة تقتضي من القارئ الدّخول مع النّصّ الأدبيّ في عملية تفاعليّة تتناص مع مقروء ومخزون خارج النّصّ.ّ والمنظرين لتأويل النصوص الدينية لم يفرقوا عن انتفاء بصيرة بين تفسير وفهم النص القرآني وتأويل النصوص الأدبية البشرية، فنجدهم يتحدثون عن القراءة التأويلية بوصفها مرادفا ومعادلا موضوعيا للحرية وبالأحرى إعلاء الفردانية، فهم يرون أن  القراءة التّأويليّة طبقًا لمفهُوم الحُرّيّة اللغويّة هي نظامٌ من المُمارسات التّفسيريّة الضّمنيّة أو المُضمرة التّي تتّسمُ بالاتّساع والإنتاج القرائيّ الإبداعيّ، وهي قراءةٌ ترتبطُ باستحضار العلاقة بين النّصّ والمرجع ويعني بصفة خاصّة بالمُعطيات الخارجيّة مثل ظُرُوف إنتاج النّصّ وتلقّيها، لذا فهي قراءةٌ تُركّزُ على السّياق الاجتماعيّ التّاريخيّ. وبذلك فإنّها ـ القراءةُ التّأويليّةُ ـ لا تتوقّفُ عند حًدُود التّلقّي المُباشر، بل تًسهم في إنتاج وجهة نظر جديدة يحملها النّص الأدبي بين طيّاته.

وجهل الحداثيين المعاصرين أنهم لم يفطنوا للفرق بين قدسية النص القرآني والنصوص الأدبية الإبداعية؛ لذلك فهم عن جهل مقصود اعتبروا القراءة التّأويليّةُ ـ كمُنتج لُغويّ ـ انفااحًا إيجابيا يرتكزُ على الحوار والسّجال بين القارئ والنّصّ والكاتب، فضلا عن كونها منهجًا لإماطة اللّثام عن معنى النّصّ لا عن طريق التّحليل والفهم وإعمال العقل في صُورته الظّاهريّة فحسب؛ بل بالنّفاذ إلى عُمق النّصّ وتجاويفه المُضمرة، لذا يُمكنُ القولُ بإنّ القراءة التّأويليّة  هي نتاجُ الوعي بالنّصّ وُحُضُورُ القارئ بقُوّة في خلق وتشكيل النّصّ الأدبيّ وذلك من خلال ما يُمارسُه من مهارات تأويليّة تستهدفُ إعادة تشكيل النّصّ الأدبيّ وبناء معانيه، وخلق حالة من التّفاوُض والمُعارضة من جانب القارئ للنّصّ، وهذا يعني أنّ القراءة هُنا تُصبحُ إبداعًا آخر للنّصّ، بمعنًى أنّها ليست قراءةً سلبيّة، بل إنّ القارئ يُفسّرُ معانّي النّص ويؤوله من خلال حوار مع خلفيّته الثّقافيّة وتجارب الحياة الشّخصيّة لهُ. 

ومشكلة الحداثيين ونحن نختتم سطورنا عن مخاطر هذا التيار الجارف أنهم لا يفرقون بين النص الديني الإلهي والنصوص البشرية الأخرى، بل إن كثيرا من الأكاديميين العرب المعاصرين والذين يلهجون وراء الألسنية الغربية يصرون على التعامل مع النص القرآني كنص بشري عادي، ومن هنا وكما يشير دين محمد ميراصاحب كان تهافتهم على المناهج التأويلية الغربية واستعانتهم بأصولها وقواعدها في فهم الكلام الإلهي.

***

د. بليغ حمدي إسماعيل

 أستاذ المناهج وطرائق تدريس اللغة العربية

كلية التربية ـ جامعة المنيا

في جوهر رسالتها، تعد الجامعة منارة للمعرفة، ومصنعا للعقول، ومحركا للتنمية المجتمعية. ولكن، في ظل انظمة التقييم الجامعية الحالية، يبدو ان هذه الرؤية قد تشوهت، حيث تحول الاستاذ الجامعي الى "الة نشر" بلا روح، تهمل فيها الى حد كبير جوهر الرسالة الاكاديمية المتمثلة في التدريس والتطوير والاشراف والادارة وخدمة المجتمع. هذا التحول يطرح سؤالا ملحا: هل نحن نقيم علماء ام منتجين للاوراق؟ لقد تحولت استمارات التقييم الى اداة قمعية تكافئ من ينتج اوراقا بحثية – بغض النظر عن جودتها او مصدرها – وتهمش من يكرس وقته للتعليم والادارة والابتكار المجتمعي.

وهم الجودة واقتصاد الورق

لا تكمن المشكلة في تشجيع النشر العلمي، فهو بلا شك ركيزة اساسية للتقدم المعرفي. ولكن المازق يظهر عندما يحول النشر الى "معيار رئيسي" يقاس به اداء التدريسي، دون مراعاة عوامل حيوية تؤثر بشكل مباشر على جودة البحث وامكانية انتاجه.

اولا، يعاني التدريسيين من انعدام الميزانية البحثية. كيف يطلب منهم نشر ابحاث في مجلات مصنفة دوليا دون تمويل للمختبرات او شراء معدات ومواد حديثة او حتى دعم حضور المؤتمرات العلمية لتبادل الخبرات؟ يجبر التدريسي اما على تمويل ابحاثه من جيبه الخاص او جيوب طلابه، وهو امر غير مستدام، او اللجوء الى "مصانع الاوراق" (Paper Mills) التي تبيع ابحاثا جاهزة، او مواقع تقدم "نشرا سريعا" مقابل المال. هذا الوضع يفتح الباب امام الاختلاس الاكاديمي، حيث يتحول النشر الى مجرد وسيلة للبقاء الوظيفي، لا للاضافة العلمية الحقيقية. فهل حقا نريد بحوثا مزيفة تملا السيرة الذاتية، ام اسهامات علمية اصيلة؟

ثانيا، يجب الاخذ في الاعتبار التخصصات المختلفة. ليس كل تخصص ينتج ابحاثا بنفس الوتيرة. فبينما يمكن لناشري علوم البيولوجيا والكيمياء او الطب نشر عدة اوراق سنويا نظرا لطبيعة البحث التجريبي او التطبيقي الذي يسمح بتقسيم العمل، فان الباحث في الاقتصاد او التاريخ او الفلسفة او القانون قد يحتاج سنوات لانجاز دراسة رصينة تتطلب عمقا في التحليل وجمع البيانات والمراجعة. هذه الفروقات الجوهرية غالبا ما تهمل في انظمة التقييم الموحدة.

التدريس والادارة

الجامعة ليست معهدا بحثيا فحسب، بل هي في المقام الاول مصنع للعقول وموئل للطلاب ومصدر للالهام. ومع ذلك، تهمل جوانب اساسية في تقييم الاستاذ الجامعي. المحاضرات والاشراف على الطلبة وادارة الاقسام الاكاديمية والمشاركة في اللجان الجامعية المختلفة – كلها اعمال شاقة ومستهلكة للوقت والجهد، لكنها لا تقاس الا بـ"نقاط" شحيحة في استمارات التقييم. لماذا يعاقب الاستاذ الذي يكرس وقته لطلابه ويعمل على بناء قدراتهم ويصقل مواهبهم لانه لم ينشر العدد المطلوب من الاوراق البحثية؟

علاوة على ذلك، تعد خدمة المجتمع جزءا لا يتجزا من رسالة الجامعة. من يقيم الاستاذ الذي يقدم استشارات لمؤسسات حكومية او ينظم ورشا توعوية وتدريبية للمجتمع المحلي او يكتب مقالات توعوية تساهم في حل المشكلات المجتمعية؟ هذه مساهمات حقيقية وملموسة لا تقل اهمية عن ورقة بحثية تنشر في مجلة علمية، بل قد تفوقها تاثيرا على ارض الواقع. ومع ذلك، نادرا ما تحتسب هذه الجهود ضمن معايير الترقية او التقييم.

هل البحث ممكن بدون دعم مالي؟

يمكن القول بان البحث العلمي ممكن بدون ميزانية ضخمة، لكن بشروط وقيود كبيرة. يمكن اجراء بحوث نظرية تعتمد على المراجعات المكتبية، لكن حتى هذه تتطلب اشتراكات في قواعد بيانات دولية مرموقة (مثل Springer او JSTOR) التي غالبا ما تكون غير متاحة في معظم الجامعات، خاصة في الدول النامية. كما يمكن تحقيق تعاون دولي، لكنه يحتاج الى شبكة علاقات قوية وتمويل للسفر وحضور المؤتمرات، وهو امر مستحيل بدون دعم مؤسسي فعال. واخيرا، يمكن اجراء بحوث ميدانية بسيطة، لكنها تظل محدودة التاثير دون منصات نشر مفتوحة الوصول تضمن انتشارها ووصولها الى جمهور اوسع.

النتيجة الحتمية لهذا الوضع هي اما انتاج بحوث ضعيفة تنشر في مجلات وهمية (للوفاء بمتطلبات الترقية) في احيان كثيرة، او انسحاب الاساتذة من البحث نهائيا والتركيز على التدريس والادارة، وهو ما يعاقبهم النظام الحالي الذي يضع النشر على راس الاولويات والذي يجبرهم على سلوك طرق غير سليمة ونزيهة.

لماذا لا يطبق نموذج "الجامعات التعليمية"؟

في دول كثيرة حول العالم (مثل اليابان، وكثير من الجامعات الامريكية واللاتينية)، يطبق نموذج اكثر مرونة للتقييم، حيث يقسم الاساتذة الى فئتين:

- اساتذة بحثيون: حيث يعتمد تقييمهم بشكل اساسي على النشر العلمي والانتاج البحثي.

- اساتذة تعليميون: يعتمد تقييمهم بشكل اكبر على جودة التدريس والاشراف على الطلبة والابتكار في المناهج وخدمة المجتمع.

فلماذا نصر على نموذج واحد لا يناسب واقعنا ولا يلبي احتياجاتنا المتنوعة؟ هذا التمييز يسمح بتوجيه جهود الاساتذة نحو ما يتقنون، ويضمن التوازن بين الادوار المختلفة للجامعة.

الخلاصة

لتحقيق نظام تقييم عادل ومحفز، يجب علينا تجاوز هوس "سكوبس" وعدد الاوراق المنشورة كمقياس رئيسي للجودة. يتطلب الامر اعتماد مقاربة متوازنة وشاملة تاخذ في الاعتبار كافة جوانب الاداء الاكاديمي:

- الغاء هوس "سكوبس" كمقياس وحيد، واعتماد موازنة دقيقة بين التدريس والبحث العلمي والجهود الادارية وخدمة المجتمع. يجب ان يكون هناك وزن نسبي لكل من هذه الجوانب.

- تخصيص استمارات تقييم مختلفة للاساتذة الاداريين والتدريسيين البحت والباحثين لتعكس طبيعة عمل كل منهم بدقة.

- احتساب مراحل البحث، وليس فقط النشر النهائي. يجب ان تقدر الجهود المبذولة في مجريات البحث ومدى صعوبة اجرائه وفترة انجازه ونزاهة اجراءاته والحصول على قبول للمقالات وعمليات التحكيم والدعوات العلمية والمشاركة الفعالة في المؤتمرات العلمية.

- توفير دعم مالي حقيقي للبحث العلمي، بما في ذلك تمويل المختبرات وشراء المواد واشتراكات قواعد البيانات، ودعم حضور المؤتمرات. او، في حال عدم توفر هذا الدعم، يجب التوقف عن معاقبة من لا ينشر بسبب انعدام الموارد.

الجامعة ليست خط انتاج لاوراق بحثية، بل هي مؤسسة لصناعة الانسان وتنمية المجتمع. فلتكن معاييرنا انسانية وشاملة قبل ان تكون رقمية ومختزلة. كيف يمكننا ان نضمن ان الجامعات تنتج قادة ومفكرين ومبتكرين اذا كنا نقيم اساتذتها بناء على مقاييس ضيقة لا تعكس جوهر رسالتهم؟.

***

ا. د. محمد الربيعي

أكثرُ آيات الحج في القرآن تحثُ على ذكر الله على الدوام بغير انقطاع؛ لأن الذكر يُمثّل صحة النفس وتصفية القلب، وهما مقومان أساسيان لتوازن الإنسان من حيث الظاهر والباطن، ومن حيث الجلي والخفي، ومن حيث استواء القلب مع القالب ..

وليس من بعدٌ إلا التطهير !

والسلوك الطيّب يَتَمَثَّل في الذكر وبساطه العمل الصالح؛ إذْ العمل الصالح هو السلوك الذي لو دام بالقطع لأثمر النور؛ وهذا هو أصل طريق الله، يتأسس على الذكر ليكون هو نفسه البساط الذي يثمر النور، فضلاً عن جني الثمرة الدائمة: البقاء الموصول في رحاب المعيّة الإلهيّة.

من يلتفت إلى الأغيار، وهو في معيّة الله لم يذق من الحج إلا تعب المشقة والعناء؛ والحج كُلّه في الصورة الخارجية أغيارٌ في أغيار. وإرادة الله في ذلك لكأنها تتعمّد أن تحيطك بالأغيار من كل جانب لتقفك على اختيار واحد وهو: أن تتوجّه بقلبك إلى إزاحة السّوى، فلا يكن للغير عليك من سبيل إلا أن يكون عرضاً خارجاَ ليس إلا، وأن تقف تلك الإرادة بمطلق المعيّة فلا تتحدّد ولا تتقزم بل تنطلق إلى أجواء صافية راقية تسمو بسمو المدارك والملكات.

الحج، رمزُ عملي تطبيقي فعّال لوحدة القصد: وحدة التوجُّه ووحدة الغاية، وإشعار الناس كافة بأنهم في الله إخوان، وإن فرّقت بينهم المناسب والأمكنة وباينت بينهم المناصب والدرجات، وأنهم، وهم محرِمُون في صعيد واحد، يمثلون حالة الفطرة كونهم إخواناً متحابين أمام معبود واحد، لا ينظر إلى صورهم ولا إلى مناصبهم ولا إلى أموالهم، ولكن ينظر إلى قلوبهم وأعمالهم ونواياهم.

ولكن اللافت للنظر في مناسك الحج كلها هو الطواف، أمرٌ لا يُعلل إلّا بحكمة تدعو إلى التأمل؛ فالكعبة رمز التوحيد، وهيكله البيت العتيق، أراد الله أن يجسّد فكرة التوحيد في بيته العتيق فكانت الكعبة؛ فالطواف حولها استشعار العبد التوجّه إلى الله وحده بغير لوثة الشرك والوثنيّة، استشعاره باقياً في عالم الحقيقة والرضى، تاركاً للزيف وللوهم وللختل وللخداع، متجهاً بكليّته إلى حقيقة التوحيد مجسّدة أمامه في أول بيت مبارك وضع للناس.

ليس أسهل من أن تكون حركة الطواف حركة مستقيمة، ولكنها لحكمة إلهية بالغة كانت حركة دائرية، حكمة تجئ فيها ترقية من عَسَاهُ يطوف بالكعبة من حركة الأرض إلى حركة السماء.

فالحركة المستقيمة حركة طبيعة فيزيقية، حركة الحار والبارد والثقيل والخفيف، أو إنْ شئت قلت: حركة النار والماء والتراب والهواء. هذه حركة مستقيمة ليست كاملة بسبب أن لها أضداداً؛ فحركة الجسم الخفيف إلى أعلى كحركة النار والهواء، وحركة الجسم الثقيل إلى أسفل كحركة التراب والماء، ولكل من الحركتين أضداد.

أمّا الحركة الدائرية فلا ضدّ لها، هى أكمل الحركات الطبيعية ولذلك يختص بها العالم العلوي، عالم الأفلاك السماوية .. تذكر هنا فطرة الله التي فطر الناس عليها، وأذكر معها تلك الحركة الدائرية الكاملة، حركة الكون بكل ما فيه ومن فيه، وأذكر إنها ليست مجرّد نقلة وكفى، ولكنها رمزٌ يجسّد معنى يبقى مع الزمن بل ويعلو على الزمن حتى يُفينه، ثم يظل المعنى باقياً حاضراً بعد فناء المحدثات.

لك أن تلاحظ: الحركة الدائرية الكاملة هى حركة الفاني حول الباقي، كحركة النيترون حول النواة دائرية، وحركة الحيوان المنوي حول البويضة دائرية، وحركة الأجرام السماوية حول مركزها دائرية؛ لأن مادة الأثير المختلفة بحكم طبيعتها عن العناصر الأربعة تجعل الأفلاك السماوية تتحرك حركة دائرية وليس لها ضد، ثابتة بلا تغيير، ثم حركة المتغير حول الثابت حركة طبيعية دائرية، وهى طبيعية؛ لأنها حيّة وفطريّة من طبيعة الكون الحي المفطور على السنن والنواميس الثوابت.

حركة الطواف تحقيق التوحيد، رمزٌ للحقيقة الإلهية العليا الخالدة، وجعل التوحيد حقيقة ملموسة مشهودة باقية، من خلالها يسبّح الكون كله للّه.

وسيبقى البيت العتيق عتيقاً؛ لأنه المركز الثابت الذي سيظل ثابتاً بتجسيد التوحيد تسبيحاً للخالق رغم فناء المتغيرات من حوله، وفناء الأضداد.

أما تعليل الطواف بسبع؛ فلا يسيغهُ في العقل شئ قدر ما يسيغهُ التكفير عن الخطايا وملاقاة الله تعالى بالندم والاعتذار. وقد قيل إنّ الملائكة لمّا خلق الله آدم جعله بشراً من طين قالوا (أتجعل فيها من يُفسد فيها ويُسفك الدماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك؟) غضب الله عليهم، وكان من علائم غضبه أن أعرض عنهم، ولمّا أعرض عنهم فزعوا، فتملكتهم الضراعة وأجهشوا بالبكاء إشفاقاً من غضب الله، فذهبوا يعتذرون إليه ويطوفون بالعرش سبعاً كما يطوف الناس بالبيت الحرام وهم يقولون:

(لبيك اللهمّ لبيك ..

ربنا معذرةً إليك ..

نستغفرك ونتوب إليك)

فنظر الله إليهم ونزلت عليهم الرحمة، ووضع الله سبحانه تحت العرش بيتاً هو البيت المعمور ثم قال الله تعالى: طوفوا بهذا البيت ودعوا العرش، فكان طوافهم به أيسر من طوافهم بالعرش.

ثم أمر الله الملائكة من سكان الأرض أن يبنوا في الأرض بيتاً على مثال البيت المعمور، وأمر من في الأرض أن يطوفوا به سبعاً كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور .

هذا هو الجانب المقبول في الرواية تعليلاً للطواف فيما لو صدقت؛ فالطواف، فضلاً عن كونه توجُّهاً للحق وحده، فهو تجسيد للتوحيد وتكفير للخطايا واعتذارٌ للّه ثم قُربة منه تعالى .. وهو، من بعدُ، قدوة بطواف الملأ الأعلى حول العرش، ثم تحت العرش في البيت المعمور، ثم في الأرض، في البيت العتيق.

ومن يتأمل الروايات التي وردت في الحجر الأسود على اختلافها، يدرك من فوره إساغة الطواف بحركته الدائرية على النحو الذي ذكرناه، فالحاج يطوف حول الكعبة المعظمة سبعاً، وفي كل مرة يستلم الحجر الأسود، وهذا الاستلام له مغزاه ومعناه: إقرار بالتوحيد من جهة، واعتذار عن الخطايا والأرجاس من جهة ثانية، ثم تطهير، لهذا يعود الحاج بعد أداء الفريضة كيوم ولدته أمه خالياً من الخطايا والذنوب.

لقد كان الحجر الأسود أبيض ناصع البياض، فاسودّ من خطايا الناس .. يومها (وإذْ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبّل منّا إنك أنت السميع العليم)، ارتفع بناء الكعبة، ولمّا ارتفع البناء طلب إبراهيم إلى إسماعيل أن يجئ بحجر، فذهب إسماعيل إلى الوادي يطلب حجراً يضعه أبوه في البناء، وعاد فألفى عند أبيه حجراً فسأله: من جاءك بهذا الحجر؟

قال إبراهيم: (من لم يكلني إليك ولا إلى حجرك).

وكان جبريل هو الذي جاء به من السّماء، إذ كان قد رفع إليها حين أغرق الطوفان الأرض وقيل: إن جبريل جاء بالحجر الأسود حين هبط به آدم من الجنة، وكان شديد البياض فاسودّ من خطايا الناس. وقيل: إن الله عز وجل كان قد استودعه جبل أبي قبيس زمن طوفان نوح، فجاء جبريل ووضعه في مكانه، وبنى إبراهيم عليه، وهو حينئذ يتلألأ نوراً حتى أضاء بنوره شرقاً وغرباً وشمالاً ويميناً إلى منتهى أنصاب الحرم من كل ناحية، وإنمّا سودته أنجاس الشرك والجهالة وأرجاس الوثنية وزرايا الذنوب والخطايا..

وهنا تبرز حكمة الطواف سبعاً واستلام الحجر الأسود في كل مرة، وهى حكمة إلهية بالغة ما بلغ مقصودها، مردّها إلى رحمة الله تعالى، في شهود التوحيد، وفي تكفير الخطايا والذنوب، وفي الشعور بالتقصير تجاه الحق جلّ وعلا، والاعتذار إليه ما أمكن أن يكون الاعتذار أسفاً وندماً وإشفاقاً، وفي القُربة من الله الواحد الأحد، وليس، من بعد،ُ إلا التطهير .

***

بقلم: د. مجدي إبراهيم

في الوقت الذي تتزايد فيه دهشة الانسان تجاه قدرات الذكاء الاصطناعي التوليدي، ولا سيما برنامج " شات جي بي تي" الذي اقتحم أغلب تفاصيل حياتنا، وأصبح متاحاً للجميع نظراً لسهولة استخدامه والاستفادة من امكانياته المذهلة، يظهر في المقابل وجه آخر متحفظ يرى أن أنظمة هذا الذكاء تشبه " الببغاوات العشوائية " التي تقلد اللغة البشرية دون ادراك لمعناها، وأنها ليست أكثر من أدوات متقدمة لمعالجة البيانات، تفتقر إلى الفهم أو الوعي الحقيقي. صحيح أن علماء بارزين في مجال البرمجيات الذكية وصنّاعاً كباراً مثل بيل غيتس وإيلون ماسك، توقعوا اختفاء العديد من الوظائف التي يؤديها الإنسان، إلا أن كتاباً ألّفته عالِمتان هما إيملي بيندر، المتخصصة في اللغويات الحاسوبية بجامعة واشنطن، وأليكس هانا عالمة الاجتماع في جامعة كاليفورنيا، يوجه نقداً لاذعاً وساخراً للمبالغة في قدرات هذا الذكاء.

الكتاب الذي حمل عنوان "خدعة الذكاء الاصطناعي" يهدف إلى تفكيك الأساطير المحيطة بهذه التكنولوجيا، وكشف الأجندات الخفية وراء الترويج المفرط لها من قبل الشركات الكبرى التي تعمل على تضليل الجمهور من خلال تضخيم قدرات أنظمتها، كما أن هذه الشركات، باستخدامها الواسع لبرامج الذكاء الاصطناعي تهدد مستقبل الوظائف إذ تسعى إلى تقليل التكاليف على حساب اليد العاملة البشرية، ما يؤدي إلى فقدان الوظائف، وارتفاع معدلات البطالة إلى مستويات خطيرة. من هنا، تدعو المؤلفتان إلى تشجيع التفكير النقدي، وعدم الانخداع بالدعاية التكنولوجية، والمطالبة بمساءلة تلك الشركات عن مخاطر ممارساتها الأخلاقية والإجتماعية .

من المؤكد أن " الببغاوات العشوائية " لن تقبل الهزيمة بسهولة، لأنها لا تفهم لغة " الأخلاق" البشرية، وستظل هيمنتها الخطيرة مصدر قلق للإنسان، إلى أن يظهر نوع من الذكاء الاصطناعي يمتلك ليس فقط المهارة، بل أيضاً العاطفة، والقلب، والقيم الأخلاقية التي تُميّز الإنسان عن الآلة .

***

د. طه جزّاع

 

في عصر يتسم بالتوتر المتزايد حول العدالة الاجتماعية وإعادة توزيع الثروة ودور الدولة، من الحكمة التفكير بجذور اللامساواة وتحديد ما اذا كانت بطبيعتها غير عادلة. من وجهة نظر اقتصاد السوق، يمكن النظر الى اللامساواة ليست فقط كمحصلة طبيعية للديناميكيات الاقتصادية وانما ايضا كظرف يقود الابتكار والحراك الاجتماعي والنمو الاقتصادي. مع ذلك، ربما نسأل: هل هذه النظرة مقبولة أخلاقيا؟

في الاقتصاد الحر، لايبرز التفاوت الاقتصادي من تصميم مركزي وانما من تفاعلات طوعية بين الافراد. هناك عدة عوامل تساهم في هذه الاختلافات.

1- المهارات والمواهب المتفردة

كل فرد يمتلك قدرات ومعرفة تختلف من حيث الطلب عليها وقيمتها طبقا للسوق. فمثلا، طبيب جراح أعصاب متخصص قد يستلم أجر أكثر من المزارع – ليس بسبب ان الجراح كشخص له قيمة جوهرية اكبر وانما بسبب تعقيدية وتأثير خدماته التي تكون نادرة وذات خصوصية.

2- الأفضليات الشخصية والتضحيات الفردية

اللامساواة ايضا تعكس الاختيارات الفردية. بعض الناس يختارون العمل ساعات طويلة او يتحملون مخاطر مالية كبيرة عبر بدء مشروع عمل، بينما آخرون يفضلون التوازن بين العمل والحياة. هذه القرارات الشخصية لها تأثيرات اقتصادية.

3- الابتكار وخلق القيمة:

المضاربون الذين يطوّرون منتجات رائدة، مثل ستيفن جوبس في تطويره الايفون او ايلون ماسك وتطويره تسلا، يراكمون ثروات هائلة بسبب المنافع التي تخلقها ابتكاراتهم لملايين الناس. هذا المنظور لا يعني ان كل اللامساواة هي منصفة او مرغوبة وانما يعني ان الكثير منها يبرز من عمليات شرعية وأخلاقية ضمن نظام السوق الحر.

هل اللامساواة غير عادلة؟

يمكن معالجة أخلاق اللامساواة الاقتصادية طبقا لعلاقتها بالشرعية. اللامساواة الشرعية تبرز من الجدارة والابتكار والجهد الفردي. فمثلا، عندما يراكم شخص ما ثروة عبر خلق وظائف او تطوير منتجات تحسّن حياة الآخرين، فان هذه الثروة ليست فقط أخلاقية وانما ايضا مفيدة اجتماعيا. اللامساواة غير الشرعية تحدث عندما يستغل الفاعلون السياسيون او الاقتصاديون النظام للحصول على مزايا غير متناسبة. الاحتكارات المدعومة من الدولة او السياسات التي تفضل قطاعات معينة على حساب الاخرين هي أمثلة واضحة على اللامساواة غير العادلة.

جادل روبرت نوزيك بانه اذا كانت اللامساواة تبرز من تبادلات طوعية وتحترم حقوق الملكية، فيجب ان لا تُعتبر غير أخلاقية. لذلك، التركيز يجب ان لا يكون على اللامساواة ذاتها وانما على الظروف التي خلقتها.

إعادة توزيع الثروة: حل ام مشكلة؟

تهدف سياسات إعادة توزيع الثروة الى تقليل اللامساواة لكنها عادة تأتي معها أضرار جانبية:

1- تثبيط اقتصادي

الضرائب العالية على الدخل والثروة لا تشجع على العمل الشاق او الاستثمار والابتكار.

2- التخصيص غير الفعال للموارد

سياسات إعادة التوزيع عادة تنقل الموارد نحو برامج الحكومة التي هي أقل كفاءة من المبادرات الخاصة في معالجة الفقر.

3- التبعية المؤسسية

الإعانات الدائمة يمكن ان ترسخ تبعية هيكلية بدلا من ان تشحذ طاقة الافراد للتغلب على الفقر. ملتن فريدمن جادل بان سياسة فرض إعادة التوزيع تحطم الحوافز للجهود الانتاجية، وبالنهاية تؤذي كل من الفقير والغني في المدى البعيد.

اللامساواة وتقليل الفقر المطلق

العامل الاساسي في تفضيل الاقتصاد الحر هو قدرته على تقليل الفقر المطلق(1)، حتى مع استمرار اللامساواة النسبية او زيادتها. عبر الثلاثين سنة الماضية، خرج اكثر من بليون شخص من الفقر المطلق، خاصة في اقتصاديات تبنّت سياسات السوق المفتوح. وعلى الرغم من ارتفاع اللامساواة النسبية في العديد من هذه الدول، لكن الرفاهية الكلية تحسنت بشكل كبير. في بيئة السوق الحر تتحقق الشروط التالية:

1- المنافسة تقود الابتكار وخلق الوظائف:

تاريخيا، سمح تحرير التجارة للملايين من الناس في الدول النامية بالوصول الى وظائف ذات اجور عالية في قطاعات التصدير.

2- رأس المال الخاص يغذي النمو:

المستثمرون يبحثون عن الفرص في الاسواق الناشئة، يسهّلون نقل التكنلوجيا والبنية التحتية والوصول الى بضائع وخدمات عالية الجودة.

الدور الحيوي للمساواة أمام القانون

في نظام السوق الحر، لا يجب ان يستلم أي شخص تعامل تفضيلي من الدولة، سواء كان من خلال إعانات خاصة او تعليمات حماية او عقود حصرية. العدالة يتم ضمانها عندما يتنافس كل شخص تحت نفس القواعد، والمحصلات الاقتصادية تعكس بدقة جهود الافراد وقناعاتهم المتولدة من السلعة او الخدمة.

اللامساواة الاقتصادية في نظام السوق الحر ليست بالضرورة شرا يجب ازالته. بل هو سمة جوهرية للمجتمع الذي يقيّم الحرية الفردية والابتكار والتنوع في المواهب. مع ذلك، هذا لا يعني تجاهل اللامساواة اللاشرعية التي يجب ان تُعالج بشفافية ومؤسسات قوية تحمي حقوق الملكية والمنافسة العادلة. وكما يرى الاقتصادي فردريك هايك، ان العدالة الاجتماعية في مسعاها لمساواة المخرجات تخاطر بالتضحية بالحرية والازدهار اللذين لا يوفرهما الاّ السوق فقط. بالنهاية، الهدف يجب ان لا يكون فرض مساواة مادية وانما ضمان ان جميع الافراد لديهم فرص متساوية للوصول الى قدراتهم القصوى، وان يتحرروا من الحواجز المصطنعة وإكراه الدولة.

***

حاتم حمييد محسن

.....................

The Ethics of Inequality, Library of Economics and Liberty, May24, 2025

 الهوامش

(1) الفقر المطلق هو الحالة التي يفتقر بها الفرد لتلبية حاجاته الاساسية من طعام وماء وسكن وتعليم اساسي ورعاية صحية. يتم تحديد مستوى من الدخل دونه اي مقدار من الدخل يُعتبر فيه الفرد في فقر مطلق. ينتج الفقر المطلق عادة من الديون وزيادة السكان والكوارث الطبيعية والصراعات وعمالة الاطفال.

تتطلب الصور الرقمية معدات معالجة متطورة ودقيقة، تفتح بالفعل احتمالات لا حصر لها، جيدة أو سيئة اعتمادًا على الاستخدامات، تصبح من خلالها معالجة أيقونتها الزمنية سهلة للغاية. تقوم أداة التنقيح ببساطة بوضع شخصية ما على الشاشة لتعزيز وجودها من خلال تفتيحها أو تكبيرها، أو إزالتها من الصورة، يتم بعد ذلك إعادة تشكيل الخلفية على الشاشة، دون أن يكون من الممكن، حتى بالنسبة للعين المدربة، اكتشاف التلاعب.

وتقصدت الحديث عن هذا الحقل الملغم، على الرغم من تعقيداته التقنية والحاسوبية، لأهمية الإشارة في هذا السياق، إلى خطورة نسق الصورة في الاستخدامات الكمبيوترية الدقيقة، وتركزها في الأبعاد الثاوية لما يعيشه العالم الآن من قفزات وطفرات تكنولوجية خطيرة، تستعمل فيها كل أنواع السيبرانيات في أقصى درجات حضورها الاستخباراتي والثقافي والاجتماعي والنفسي.

ويمكن هنا تأويل هذا المعطى، لنشير تذكيرا، أن الشبكات الرقمية المفتوحة تصر على كل فرضيات الإنتاج، في علاقتها بالمحتوى وروابط الاختلاف البنيوي والديمغرافي، ونمو النزعات المادية والشخصية، على تعميق الفجوات دون إرادة لتأمين الفرص أو استباق أخلاقي منظم للعلاقة، وبدون تدخل سياسي قادر على إحداث التوازنات، محدثة بذلك ترسبا ثقيلا من جانب كونها فشلت بشكل خطير في إرباك مبدئية اللامساواة الاجتماعية، الشيء الذي عجل بشرخ تمييزي في قياس مفهومي "الشبكة" و"المعلومات".

هذا التصور السوسيولوجي لنسق التقاطع بين البنيتين المذكورتين، ضمن انفضاح صورة القوة الهرمية المأفونة والمدعمة بفعل واقع الفجوة إياها، يستبق أسئلة الأزمة المحدثة، في تلك اللامساراة المغلفة التي أقبرت ما يسمى بنظامية الأخلاق على المستوى الثقافي والاجتماعي والمادي.

وهناك أبعاد انعكاسية متمنعة عن الفهم، خصوصا في ما يتصل بسرديات السوسيولوجيا الكلاسيكية، التي تذهب إلى أن مجاورة الفجوة الرقمية للتكنولوجيا، قد تجعل من سؤال الأزمة نوعا من التماهي مع تحليل الخاصية الشبكية البديلة، التي تنظر للامساواة المادية في مجتمع المعلومات، كوحدة منفصلة تماما عن المجتمع الجديد، دون تجاهل محددات هذه الوضعية، التي تطالب بدارسة نسق التحولات فيه، إن على مستوى الزمان أو الثقافة أو الفضاء أو النفسي والاجتماعي.. إلخ.

يرى سوسيولوجيون معاصرون، كآلان تورين (صاحب مجتمع ما بعد الصناعي)، الذي قال في إحدى أهم نظرياته الاجتماعية: يجب أن تكون السوسيولوجيا نضالية وثورية لتحرير الفاعلين من قيود النضال"، وأنطوني غيدنز (صاحب الطريق الثالث)، وحتى بيير بورديو ، يرى هؤلاء أن مجاورة الفجوة التكنولوجية قد تجعل من سؤال الازمة نوعا من التماهي مع تحليل الخاصية الشبكية البديلة، التي تنظر للامساواة المادية في مجتمع المعلومات، كوحدة منفصلة تماما عن المجتمع الجديد، دون تجاهل محددات هذه الوضعية التي تطالب بدراسة نسق التحولات فيه، إن على مستوى الزمان أو الثقافة أو الفضاء أو الأبعاد النفسية والاجتماعية المتغايرة.

وبعكس تنميط مادة الصورة، أو تشكيلها بحسب المعطيات والأهداف المرصودة، تبرز ظاهرة التلاعب بالصورة لأغراض التمثل الاستعراضي أو التجميل أو الانحياز لمشروع تخريبي، كثوب بال يعاد تدويره واستعراضه بالشكل المطلوب، الأمر سيكون مروعا كما هو الحال بالنسبة لمشروع المهندس المعماري، كما سيكون قاصما عندما يتم تزيين شيء ما بشكل مصطنع في كتالوج المبيعات. وينبغي الإعلان عن إزالة عيب كبير مثل نسيج مهترئ وباهت، أو إعادة إحياء اللون، أو طلاء ختم قطعة أثاث تم إحياؤها بواسطة الكمبيوتر، أو حتى تنظيمها، لأن الصورة المعدلة تشوه تقدير المشتري.

وفي سياق متصل، تشهد معالجة الصور الرقمية أيضًا تطورًا متزايدًا في مجال تخزين الصور الفوتوغرافية وأرشفتها. وسيسمح قريبًا بالحصول على صور عالية الوضوح ونقلها في بضع ثوانٍ على جانبي الكرة الأرضية. ستتمكن الطابعة في نيوزيلاندا مثلا من تلقي الصور بنفس سرعة الطابعة الفلبينية. كما سيتمكن خبير فني إيطالي مثلا من الحصول على صورة جيدة جدًا من متحف آسيوي في وقت مكالمة هاتفية.

الأخطر، أن تكون معالجة الصور الرقمية جسرا لا نهائيا بين الصورة الحقيقية والصورة المكونة بالكامل بواسطة الكمبيوتر، وهي الصورة التي تسمى ب"الافتراضية".

وإذا كان لا يزال من السهل الآن التعرف على الصورة الافتراضية من قبل أي مستخدم للأنترنيت، فلا يمكن رؤية الصورة الرقمية بالعين المجردة، وبالتالي يمكن أن تكون مضللة. اعتمادًا على استراتيجية التلاعب، كما يمكن أن يكون للتعديل الذي يتم إجراؤه آثارًا عميقة أو عواقب خطيرة للغاية.

ومن أجل تقديم نموذج علمي واع بالمفارقات التي وضعناها أمام بصائركم، سأحاول تقديم نموذج لتكريس هذا المعطى المروع، الذي نقارب فيه مخاطر التحريف والتلاعب بالصور، ويتعلق الأمر بالصور التاريخية التي يتم تحويرها وتغيير ملامحها على نطاق واسع، وبالأبيض والأسود، من خلال الصفحات الثقافية، كما هو الحال بالنسبة لمستخدمي الإنترنت وعلى حساباتهم الشخصية، مما يعرضهم لخطر تحريف رؤية التاريخ.

وميزة الصورة هي أن تكون لافتة وذكية وحارقة، ويمكن الوصول إليها بسرعة، ومفهومة من قبل الجميع وأيضا مؤثرة. فإذا كان المستهلكون كبارا، فإن الشباب هم أيضا منتجون. يتم تداول هذه الأنواع الجديدة من الصور، وغالبًا ما يتم إنشاؤها من مقتطفات من الأفلام أو المسلسلات، أو الصور أو مقاطع الفيديو الحالية، أو صور فوتوغرافية لأشخاص معروفين. هذا التذوق المجازي للصور المحرفة يجعل من الممكن إنشاء رابطة بين الأجيال حول مراجع مشتركة. كما أنه يتيح الفرصة للتعبير عن المشاعر والأفكار المتعلقة بحياتهم اليومية، أو لتشويه سمعة عالم الكبار والأحداث الجارية المثيرة للقلق، أو حتى لبناء روح الدعابة المشتركة.

إن الصور المثيرة هي تلك التي يتم تداولها أكثر من غيرها. تميل المشاعر السلبية والخبيثة إلى توليد معدل مشاركة ووجهات نظر أعلى بكثير من المشاعر الإيجابية. ومن خلال تصفية الخوارزميات التي تعرض الصور الأكثر مشاهدة، مهما كان محتواها، تغدو المنصات ك "غرف صدى" Chambres d'écho تفضل الصور الصادمة التي يتم نشرها بسرعة عالية، دون حواجز المعلومات التقليدية. وهذا يعزز البيئة التي يجتمع فيها الأفراد ذوي التفكير المماثل، مما يخلق فقاعات معلومات يتعرض فيها المستخدمون لصور تتوافق في الأغلب مع آرائهم، على عكس التنوع الموجود في وسائل الإعلام التقليدية. والنتيجة هي استقطاب في الآراء. كما تستفيد اتجاهات التطرف من هذا النظام الذي يجمع مجتمعات كبيرة لتنظيم عمليات تآمرية أو تخويف أو مضايقة أو حتى ترهيب وفراز لعنصرية أو ما شاكل.

ملاحظة أخرى هي أن الأخبار المزيفة والدعاية المرئية وكل ما يتعلق بما بعد الحقيقة مفضل على شبكات التواصل الاجتماعي، وهذا المحتوى ينتشر بسرعة مَهُولة دون احتدادات مسبقة. والنتيجة هي مجتمع يتفوق فيه مشهد ما بعد الحقيقة على صحة الحقائق، كما يتضح في العديد من الأحداث التي عايشناها كمغاربة، في جائحة كوفيد 19، وزلزال الحوز وغير ذلك.

ويطرح ما بعد الحقيقة قضايا مجتمعية مهمة تتعلق بثقة الجمهور بالمؤسسات الرسمية، بشخصية السياسي أو الإعلامي أو الثقافي، وفي واقع الأحداث التي يتم إزاحتها بشكل خطير إلى الخلفية لصالح عدم الثقة ونظريات المؤامرة والإثارة. كيف يمكن للشباب والناشئين ا أمام عزلتهم الاختيارية القاتلة أن يفرقوا بين الحق وباطل الصورة؟

إنه يجب تطوير "الإدراك اليقظ"  Conscience consciente لدى الشباب ودعمه وتوجيهه لفهم كيف يمكن للصور أن تضلل أو تسرق لحظة الجمال الكوني، وذلك بعدة طرق، من خلال اللعب على العواطف والتصورات والسياقات. يعطي مقياس Arcom مؤشرات مثيرة للقلق حول السياق الحالي. وهو يقترح أن نساعد في التمييز بين المستويات بين المعلومات الخاطئة، والمعلومات المضللة، والمؤامرة، والأخبار المزيفة، وجميع المصطلحات المستخدمة في الخطاب الاجتماعي والإعلامي.

وعلى الرغم من تشابه هذه المفاهيم، إلا أنها تشير إلى حقائق وممارسات مختلفة. يعتمد الفرق بين المعلومات الخاطئة والمعلومات الخاطئة والمعلومات المضللة بشكل أساسي على القصد. المعلومات المضللة والمعلومات الخاطئة هي دائمًا نتيجة النية. المعلومات الخاطئة هي معلومات مبنية على الواقع، وتستخدم لإلحاق الضرر بشخص أو مجموعة اجتماعية أو منظمة أو بلد. أما المعلومات الخاطئة، من ناحية أخرى، فهي أمر لا إرادي. يشمل التضليل مجال الأخبار المزيفة والمعلومات الخاطئة وتلفيق الأخبار المزيفة.

إن ما يكمن وراء التضليل هو تعمد إنتاج أخبار كاذبة على نطاق واسع لتحقيق الربح أو لأغراض سياسية من أجل التأثير أو زعزعة الاستقرار أو حتى الإضرار. وفي حالات كثيرة، يمكن للأخبار المزيفة أن تكون قاتلة ومدمرة بالفعل، خاصة عندما يتم إنشاؤها لتأجيج الكراهية بين مجتمع ضد مجتمع آخر. ويعد مجال المعلومات المضللة أكثر إشكالية لأنه يستفيد من استراتيجيات النشر المتزايدة الكفاءة والتي تعززها تقنيات الذكاء الاصطناعي.

***

د. مصـطـــفى غَـــلْمَــان

..................

* ملخص المحاضرة التي ألقيتها في الندوة العلمية الوطنية التي نظمتها كلية الآداب والعلوم الإنسانية (ماستر السرديات الثقافية والسيميولوجية) جامعة محمد الخامس بالرباط في موضوع " الصورة في الزمن الأيقوني الجديد" يوم الثلاثاء 27 ماي 2025.

كثيرًا ما نعيش كما لو أن الأبواب مغلقة، كما لو أن الواقع مكتمل ومكتوب سلفًا، وأن علينا أن نتأقلم مع قواعد لعبة لم نخترها. لكنّ الحقيقة، كما يصفها الفيزيائي والفيلسوف ديفيد بوم، أن الوعي ليس مجرد مرآة للواقع، بل هو النمط الذي يُشكّل هذا الواقع نفسه. نُبصر العالم من داخل رؤيتنا له، لا من خارجه. وهذا يطرح سؤالاً جوهريًا: هل نحن نرى الأشياء كما هي، أم كما نحن؟

تأمل هذه الصورة: رجل يجلس في غرفة مظلمة، بجوار باب مفتوح على اتساعه. لكنه لا يراه، لأنه منذ البداية قرر أن يبحث عن مخرج في الجهة الأخرى. يصنع من خياله متاهة، ويقنع نفسه أن الخروج يتطلب مفتاحًا مفقودًا، أو إنارة معينة، أو خريطة معقدة. بينما الباب، بكل بساطة، مفتوح. لكنه لا يُرى إلا من زاوية وعي مختلفة.

الوعي كعدسة: حين نصنع قضبان سجننا

في كتاباته المتأخرة، يوضح ديفيد بوم فكرة “الترتيب الضمني” (Implicate Order)، حيث لا يكون الواقع شيئًا صلبًا بل “تدفقًا” دائمًا تتداخل فيه الإمكانيات والتصورات والمشاعر. في هذا السياق، يصبح الوعي هو القالب الذي يُسقط هذا التدفق في شكل معين، فيُنتج “واقعًا” نعيشه ونعتقد أنه الحقيقة. هذا الواقع ليس كاذبًا، لكنه محدود بشكل الوعي الذي صاغه.

في لحظة إحباط مثلًا، ترى العالم رماديًا، تحكم بأن الناس قساة، وأن الفرص مغلقة. نفس الشارع، نفس المكتب، نفس الأشخاص — لكن الوعي المتألم يجعل منهم عناصر في مشهد عبثي. هنا لا يكون العالم هو الذي تغير، بل زاويتك أنت.

الأمثلة من الحياة اليومية: كيف نُعمّي على الباب المفتوح

* في العلاقات: كثيرون يعتقدون أن الطرف الآخر “لا يفهمهم” أو “يتغير”، بينما الحقيقة أن الوعي الذي بدأ به العلاقة كان وعيًا قائمًا على التوقع، لا الفهم. نعيش العلاقة كما نتمناها، لا كما هي، ثم ننهار عندما يُعيد الواقع ترتيب نفسه بعيدًا عن وهمنا.

* في العمل: الموظف الذي يشعر أنه محاصر في وظيفة لا يحبها، بينما لم يلاحظ فرصًا بسيطة من حوله لتحسين وضعه أو بدء مسار جديد، لأنه ثبت نظره على “شكل واحد للخروج”: الترقية، أو الاستقالة، أو ضربة حظ.

* في المعرفة: نبحث أحيانًا عن إجابات كبرى، عن “الحقيقة” أو “المعنى”، بينما نغفل عن أصوات صغيرة تُنبهنا أن الباب مفتوح في البديهيات: لحظة صمت، أو كلمة صادقة، أو إحساس عابر بأننا نوجِد المعنى عبر انتباهنا، لا عبر نظريات جاهزة.

ديفيد بوم: من فيزياء الكم إلى فيزياء الوعي

ما يجعل فكر بوم مدهشًا أنه لم يفصل بين العلم والتجربة الداخلية. بالنسبة له، الحوار الحقيقي مع النفس والآخرين هو الطريقة الوحيدة لتجاوز “الصور الذهنية” التي نعيد بها إنتاج ماضينا باستمرار. يقول: “أفكارنا تصنع العالم، ثم نشتكي أننا ضحاياه”. وهذا يشبه من يصنع قناعًا بيده، ثم يخاف من وجهه في المرآة.

بوم دعا إلى تحرر جذري من أنماط التفكير المألوفة، لأن هذه الأنماط نفسها تعيد تشكيل السجن. أراد أن نتحرر من وهم أن “السبب في الخارج”، وأن نعود إلى الداخل، حيث يبدأ كل شيء — من زاوية الرؤية، من اختيار العدسة، من الانتباه.

الباب المفتوح: دعوة للانتباه

حين نُدرك أن وعينا يصنع حدود العالم، فإن كل شيء يصبح قابلًا للتجدد. الانتباه، ببساطة، هو مفتاح الخروج. هو أن تنظر حيث لم تنظر من قبل. أن تُعيد طرح الأسئلة القديمة بطريقة جديدة. أن ترى أن الباب الذي كنت تنتظره أن يُفتح… لم يكن يومًا مغلقًا.

إنه ليس الوعي “الروحي” بالمعنى الشائع، وهو أيضا أساسي  بل الوعي البسيط، القوي، الذي يرى ما هو موجود، لا ما نتخيله. وهنا تبدأ الحرية. ليس بتغيير الخارج، بل بتغيير زاوية النظر إليه.

***

بقلم الكاتب المغربي: يونس الديدي

النقاش حول الذكاء الاصطناعي يدور غالباً حول التحديات التي يمثلها هذا الوافد الجديد، لنا ولمفاهيمنا ونظم معيشتنا. هذا النقاش يتسم بتعبيرات مكررة إلى حد كبير؛ ما يوهم بأننا نتحدث حول موضوع واحد. واقع الأمر أننا نناقش موضوعات تنتمي إلى حقول معرفية متباينة، حتى لو عبَّرنا عنها بكلمات متماثلة. لدي أسئلة ثلاثة، تتناول الانعكاسات الحياتية لانتشار الذكاء الاصطناعي، وتأثيره على التنظيم الاجتماعي والأعراف الناظمة له. لكني سوف أترك هذين لمناسبة أخرى، وأخصص هذه الكتابة للسؤال الثالث الأكثر إثارة للجدل، أي: هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يحتل مكانة الذكاء البشري فيكون بديلاً عنه، جزئياً أو كلياً؟

يهتم غالبية الناس بهذا السؤال؛ لأنه ينطوي على اتهام بأن عقولنا ناقصة. ومحور الجدل هو: هل يمكن للمصنوع أن يتجاوز صانعه، ليس في الإمكانية العامة، بل في الخاصية التي تميز الصانع، أي الخلق والإبداع؟

مناقشة هذا السؤال تبدأ بتعريف العمليات الذهنية، مثل التفكير (التفكيك والربط)، والتعلم (التقليد، المقارنة وإعادة الإنتاج)، والذاكرة (الحفظ والتصنيف والتقعيد والتنميط) وحل المشكلات، ولا سيما اختبار الاحتمالات والنتائج. هذه المناقشة محلها علم النفس المعرفي.

بعد التوصل إلى نتائج شبه رقمية، سنحتاج إلى التعرف على المسارات المتبعة فعلياً في تطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي، وأبرزها:

أ- اختبار تورينغ، نسبة إلى عالم الرياضيات والحوسبة البريطاني آلان تورينغ. وهو يركز على اختبار قدرة الآلة على محاكاة الذكاء البشري، ولا سيما في المحادثة والاستذكار، ثم قياس سرعة المحاكاة ومدى مطابقتها. لعل أشهر تطبيقات هذا الاختبار، روبوتات المحادثة المدعومة بالذكاء الاصطناعي.

ب- تعلم الآلة: وتركز على إعادة إنتاج الحلول، من خلال المقارنة والتعرف على الأنماط الرئيسة والفرعية والمفاضلة بينها، إضافة إلى القدرة على البرمجة الذاتية والتكيف مع البيانات الجديدة من دون تدخل بشري مباشر. وبين أشهر الأمثلة على هذا المسار نظام ألفا-زيرو Alpha-Zero الذي طوَّرته شركة تابعة لـ«غوغل»، ونجح في إتقان لعبة الشطرنج خلال أربع ساعات من التعلم الذاتي. ويقال إنه طوَّر أساليب جديدة في اللعب، لم يسبق أن استعملها أبطال اللعبة.

ت- الابتكار وإبداع معلومات جديدة لم تكن معروفة أو مؤكدة سابقاً. وهو يشمل إنتاج محتوى إبداعي، مثل رواية أو شعر أو لوحة فنية أو حل هندسي أو رياضي. وتوجد الآن تطبيقات تنشئ لوحات فنية أو مقاطع فيديو، اعتماداً على نصوص مكتوبة أو محكية. كما أن البروفسور جيوفاني ساجيو، وهو عالم إيطالي، طوَّر تطبيقاً يكشف عن الأمراض، بتحليل صوت المريض، ويقال إن هذا البرنامج نجح في تقديم نتائج مطابقة لنتائج الفحوص السريرية بنسبة عالية جداً، رغم أن توصله للنتائج يستغرق دقائق معدودة.

توضح مسارات التطوير السابقة الذكر، الإطارات الواقعية للنقاش. الخبراء لا يتحدثون عن إمكان مطلق أو استحالة مطلقة، بل عن درجات الإمكان. حين يقولون إن الذكاء الاصطناعي يستطيع تجاوز نظيره البشري، فهم لا يقصدون الإمكانية المطلقة لاستبدال أحدهما بالآخر، بل درجة متقدمة في جانب بعينه. هذا يشبه مثلاً السيارة التي يصنعها الإنسان فتسير أسرع منه. هذا لا يعني أن السيارة بديل عن الإنسان، بل هي قادرة على تجاوز حدوده في مجال بعينه. كذلك الذكاء الاصطناعي الذي برهن فعلياً على إمكانية تجاوز حدود البشر، لكن ليس إلى حد إلغاء دور الإنسان.

يمتاز العقل البشري بالقدرة على اكتشاف مسارات وضروب حياة، ما زالت بعيدة عن حدود الخيال. ولأن الذكاء الاصطناعي ليس - من حيث المبدأ - مجهزاً للتخيل ولا يعتقد أنه قادر على التخيل؛ فإن الوصول إلى تلك المسارات، سيبقى – على الأرجح - حكراً على الإنسان، إلى أن يكشفها ويقدمها للآلة التي نسميها الذكاء الاصطناعي.

***

د. توفيق السيق – كاتب وباحث سعودي

مفهوم المواطن والمواطنة تغير بشكل كبير نتيجة تغير السياقات التاريخية والتطور التكنولوجي خلال العقود الأخيرة حيث شكل التحول الرقمي وتغول راس المال العالمي ممثلا بانتشار العولمة ونظام التفاهة ادى الى ظهور(مواطنين روبوتيين) يتشبهون بأنظمة الذكاء الاصطناعي في تفاعلهم الاجتماعي، رغم ان  أنظمة الذكاء الصناعي، تُستخدم في مجالات عديدة لكنها  خلقت نوعًا جديدًا من التفاعل والسلوك الاجتماعي،من المعروف ان معظم وسائل الإعلام تستخدم التكنولوجيا الرقمية للترويج لثقافة الاستهلاك، مما جعل الأفراد يتبنون هويات مرتبطة بالعلامات التجارية التي أدت  الى إلى تغيير مفهوم المواطن، وتحول النظر إلى الأفراد كشخصيات مستقلة عن الانتماء الجغرافي تنشد العمل في أي بقعة واي مجتمع بدلاً من أعضاء دائمين،مواقع التواصل الاجتماعي و البرمجيات تُجمع البيانات عن الأفراد وتُستخدم لتحديد سلوكهم واحتياجاتهم، هذا يؤدي إلى تشكيل هوية تتحكم فيها روبوتات  الشركات الكبرى، مما خلق نوعًا من (المواطنة الرقمية ) التي تساهم في تفاقم الفجوات الاجتماعية، حيث يتم تهميش الفئات الأقل حظًا في المعرفة التكنولوجية، و يعيد تعريف مفهوم المواطنة ويجعلها مرتبطة بالمكانة الاقتصادية  والاجتماعية تكنولوجيا بشكل زائف، باختصار التكنولوجيا الروبوتية ساهمت في تشكيل (مواطن روبوت) من خلال دمج التكنولوجيا والاقتصاد والثقافة في عملية بناء الهوية ومفهوم المواطنة وتجاوزت المفهوم التقليدي الذي ترسخ في لاوعي المجتمعات.

إعادة تعريف المواطنة

 تعريف المواطنة في ظل التغيرات التكنولوجيا يمكن أن تتم من خلال عدة جوانب، حيث اعتبرت البصمة الرقمية جزءًا أساسيًا من الهوية، هذا يشمل الحق في الخصوصية والأمان وحرية التعبير على المنصات الرقمية ويُفرض على الأفراد والشركات العمل على تحسين المجتمع والبيئة والعمل على تعليم الحقوق والواجبات، وكيفية التنقل داخل  العالم الرقمي وتحمل المسؤولية .كما يشمل هذا تشجيع المشاركة الفعّالة في المجتمع من خلال الفعاليات المحلية والعالمية، مما يعزز الانتماء والانخراط في القضايا الاجتماعية، هذا  يحتم ان تكون الشفافية  واضحة فيما يتعلق بالسياسات التكنولوجية وتأثيراتها على المجتمع، مما يعزز الثقة ويعيد تعريف العلاقة بين المواطن والدولة، باختصار إعادة تعريف المواطنة يتطلب التكيف مع التغيرات الحديثة وتعزيز القيم الإنسانية والاجتماعية في عالم تزداد فيه تأثيرات التكنولوجيا الروبوتية اجتماعيا واقتصاديا.

 المواطن الروبوت

المواطن الروبوت، ككيان يعتمد على منتجات الذكاء الاصطناعي والذكاء الصناعي يمكن أن يُبرمج ليحمل مجموعة من القيم والمخرجات، لكنها تختلف عن القيم الإنسانية التقليدية.  اذ يمكن تصميم الروبوتات لتتبنى قيمًا أخلاقية معينة، مثل العدالة والشفافية، بناءً على برمجة وتوجيهات محددة سلفا، باستخدام خوارزميات تحليلية لتقييم المواقف واتخاذ قرارات تتماشى مع معايير أخلاقية، يمكن للذكاء الصناعي أن يظهر تفضيلات جمالية معينة بناءً على البيانات المدخلة، لكنها لا تمتلك ذوقًا شخصيًا حقيقيًا كما يفعل البشر، كما يمكن برمجة الروبوتات لتكون حساسة للقيم الثقافية والاجتماعية في الاوساط التي تعمل فيها من خلال مدخلات خاصة ومنحازة، ما يجعلها تتفاعل بشكل أكثر حدة، الروبوتات المبرمجة بالذكاء الصناعي لا تمتلك مشاعر أو وعي، لذا فهي تفتقر إلى القيم الأخلاقية الحقيقية التي يمتلكها البشر، مما يحد من قدرتها على فهم السياقات بشكل كامل .المواطن الروبوت  بسبب التغذية البرمجية والمحيط التكنولوجي قد يتحول عن قيمه الانسانية الى كيان روبوتي.

العولمة وازدهارها

العولمة تسهل تبادل التكنولوجيا والابتكارات بين الدول، مما يعزز تطوير الروبوتات والذكاء الاصطناعي، توفر العولمة فرصًا لأسواق جديدة، مما يدفع الشركات للاستثمار في تطوير تقنيات جديدة تلبي احتياجات السوق، تعزز العولمة التعاون بين الدول في مجالات البحث والتطوير، مما يساهم في تحسين تقنيات الروبوتات، العولمة تؤدي أيضا إلى تحول في نماذج العمل، حيث تزداد الحاجة إلى الأتمتة والروبوتات لتلبية الطلب العالمي المتزايد، انتشار الثقافة الرقمية يعزز من دمج الروبوتات في الحياة اليومية، مما يساهم في قبول فكرة المواطنة الروبوتية، تطرح العولمة أيضا تحديات جديدة تتعلق بالمسؤولية والأخلاق في استخدام الروبوتات، مما يدفع النقاشات حول المواطنة الروبوتية إلى الواجهة بذلك، تلعب العولمة دورًا محوريًا في تشكيل وتطوير مفهوم المواطنة الروبوتية وازدهارها.

حقوق الروبوت بدلا من حقوق الإنسان

من خلال سرديات العولمة و نظام التفاهة،  تظهر دعوات لتوسيع مفهوم الحقوق ليشمل الروبوتات، وهو ما يثير العديد من النقاشات و يطرح تساؤلات حول ما إذا كانت الروبوتات تستحق حقوقًا مماثلة لتلك التي يتمتع بها البشر ام لا، نظرًا لافتقارها للوعي والمشاعر قد تظهر تحديات أخلاقية تتعلق بكيفية معاملة الروبوتات، خاصة إذا كانت تُستخدم في وظائف حساسة أو في مجالات مثل الرعاية الصحية، التركيز على حقوق الروبوتات قد يُهمل حقوق الإنسان الأساسية، مما يثير القلق حول الأولويات الاجتماعية، وضع تشريعات جديدة تحدد حقوق  الروبوتات،   يؤدي إلى تعقيدات قانونية،لذا سيكون من الضروري إيجاد توازن بين حقوق الروبوتات وحقوق الإنسان، لضمان عدم تقويض القيم الإنسانية الأساسية ويبقى التركيز على كيفية استخدام التكنولوجيا لخدمة الإنسانية بدلاً من استبدال القيم الإنسانية بقيم الالة، في نظام التفاهة لا يوجد توازنً دقيقً بين الاثنين .

السرديات التاريخية والتطور التكنولوجي

السرديات التاريخية تسلط الضوء على كيفية تطور التكنولوجيا عبر الزمن، من فجر التاريخ مرورا بالثورة الصناعية إلى الثورة الرقمية، الذي مهد الطريق للمواطنة الروبوتية هي الا شارة إلى كيفية تأثير التكنولوجيا على الهياكل الاجتماعية والمفاهيم التقليدية للمواطنة،  كما ساهمت العولمة في دمج ثقافات مختلفة أدت الى تطوير معايير اخلاقية وقيم مرتبطة بالروبوتات رغم ان هذا يشير الى التركيز على النقاشات حول التكنولوجيا والمواطنة لكن قد تسير الأمور الى السطحية وعدم العمق حول المواطنة الروبوتية، ان فهم العلاقة بين العولمة ونظام التفاهة يتطلب تطوير أطر جديدة للتعامل مع القضايا الأخلاقية والاجتماعية المتعلقة  بالسرديات التاريخية والمواطن الروبوت،  تطور الروبوتات يعكس التقدم التكنولوجي عبر العصور، حيث كانت السرديات التاريخية تتناول كيفية تأثير الابتكارات على المجتمعات كما في الأدب الساخر والخيال العلمي، الذي قدّم تصورًا عن الروبوتات منذ عقود، مما أسهم في تشكيل فهمنا الحديث لهذه السرديات، وكيف انعكست المخاوف والتطلعات البشرية، مثل القضايا الأخلاقية المتعلقة بالذكاء الاصطناعي وكيف انعكست التغيرات في القيم الاجتماعية والاقتصادية، السرديات التاريخية ساعدت في تشكيل  رؤية لمجتمعات للمستقبل، مما اثر على السياسات والتشريعات، هذه العلاقة تعكس كيف يمكن أن تكون التكنولوجيا جزءًا من النسيج الاجتماعي والثقافي، مما جعلها موضوعًا غنيًا للدراسة والتحليل، تأثير الخيال العلمي على تصورنا  للروبوتات كبير ومتعدد الأبعاد، الخيال العلمي لا يقتصر فقط على الترفيه، بل يلعب دورًا حاسمًا في تشكيل تصوراتنا واحلامنا وتوجهاتنا نحو مستقبل وتنمية مستدامة، مما يجعلنا نفكر في التأثيرات الاجتماعية والأخلاقية  للتكنولوجيا.

التأثيرات السلبية للمواطنة الروبوتية

 أن  الاعتماد الكامل على التكنولوجيا من خلال تكنولوجيا الروبوت قد يؤدي إلى تآكل الهوية الفردية، حيث يتم التعامل مع الأفراد كأجهزة أو أدوات، الاعتماد المفرط على الروبوتات يقلل من التفاعل البشري، مما يسبب شعورًا بالوحدة والعزلة، قلة التفاعل الاجتماعي تؤدي إلى مشكلات نفسية مثل الاكتئاب والقلق، استخدام الروبوتات في العديد من المجالات الاقتصادية يؤدي إلى تسريح العمالة وتقليل فرص العمل، استعمال الروبوت قد يتجاوز القيم الأخلاقية الإنسانية في خصوصا في الحروب والتجسس، مما يؤدي إلى قرارات غير عادلة أو غير إنسانية كما  تزداد المخاوف من انتهاك الخصوصية وزيادة الرقابة على الأفراد من خلال تكنولوجيا الروبوتات التي تستدعي التفكير الجاد في كيفية دمج التكنولوجيا في حياتنا بطريقة تحافظ على القيم الإنسانية وتزيد من رفاهية الفرد.

***

غالب المسعودي

يحكي الروائي الكولومبي غابرييل غارثيا ماركيز في مذكراته الشخصية أنه سأل جده في الصغر عن معنى كلمة "بحر"، غير أن هذا الأخير لم يعثر على صورة له في قاموسه المهترئ القديم فحاول أن يشرحها له من خلال عبارة تستحق التسجيل، قال " هناك كلمات لا يحتويها القاموس، لأن الناس جميعا تعرف معناها ". ويبدو الأمر كذلك حين نتحدث عن الاضطهاد والتحرر كما ترددا في كتابات المفكر والتربوي البرازيلي باولو فريري (1997-1921)، فللمفردتين معا دلالات خلاقة لا يمكن أن تستشفها من التعريفات المبثوثة في القواميس والمعاجم. وحده باولو فريري من خلال رؤيته الإنسانية والتناقضات التي ضج بها واقعه يمكنه أن يضعك أمام ضراوة القهر المطمور تحت ثقافة الصمت، وآلية تفجيره من الداخل لبلوغ التحرر الفعال.

لم تكن "ريسايف"، مسقط رأس باولو فريري، غير تجل آخر لأحزمة البؤس والقهر المنتشرة في البرازيل مطلع الثلاثينات من القرن الماضي. وأسهمت الأزمة الاقتصادية الشهيرة عام 1929 في تضييق الخناق على أسرة فريري ليختبر بنفسه آلام الجوع والمعاناة,وليعزز مقولاته النظرية فيما بعد بميزة الممارسة العملية والخبرة المستقاة من واقع مجرب. فكان اكتشافه لثقافة الصمت التي يلوذ بها المقهورون مدخلا لتصحيح الوضع التعليمي، لا على صعيد تعليم الكبار فحسب,بل أيضا من خلال إبداع فلسفة تربوية تضع حدا للهيمنة والغزو الثقافي، وتحرض المقهورين على الدخول في حوار ناقد مع العالم، يُسائله تمهيدا لتغييره وتجاوز مقولاته الاستعلائية.

إن ثقافة الصمت كما يعرضها فريري في الفصل الأول من كتابه "تعليم المقهورين"وليدة حالة اللا أنسنة، أي اختلال قدرة الإنسان على ممارسة وجوده على نحو متكامل. وهي ليست حتمية مصيرية بل ظاهرة تاريخية يمكن تجاوزها نحو الأنسنة عبر مسعى التحرر والنضال، مما يفرض التعرف على أسباب القهر وظروفه ليتمكن المقهور من تطوير موقف جديد تتحقق فيه إنسانيته، بمعنى أن يؤدي تفكيك القهر إلى تجسيد الحرية والتأسيس لمقومات الكرامة الإنسانية، لا إلى لعبة تبادل أدوار مقيتة: "إن بعض المقهورين، خلال مرحلة النضال، بدلا من أن يناضلوا من أجل تحقيق حريتهم فإنهم يجنحون إلى ممارسة دور القاهرين وأشباههم. وهذا المظهر في واقعه انعكاس للواقع المتناقض الذي ظلوا يعيشون فيه، فقد حلم هؤلاء بأن يصبحوا رجالا ولكن صورة الرجل ظلت في مخيلتهم هي صورة القاهر" (1). غير أن استعادة الحرية والتوازن النفسي، والانتقال من حال الخضوع إلى التمرد والمجابهة يظل رهينا بتبديد عوائق ثاوية في التكوين النفسي والعقلي للمقهور.  فالخوف من الحرية والاستهانة بالذات ينجم عنهما حالة من التلاؤم والتأقلم مع الوضع السائد، وبالتالي الميل إلى التوافق وتفضيل حياة القطيع على التحرر والإبداع. لذا حرص فريري على التأكيد بأن الأداة الفعالة التي يستهل بها المقهورون مسلسل نضالهم هي تطوير أسلوب تعليمي نقدي يكتشفون من خلاله أنفسهم.

لكن قبل المضي في عرض البدائل التي طرحها فريري لبلوغ أنسنة ممكنة لهذا الواقع غير المتحرر، لابد من الإشارة إلى أن دعوته لم تكن مجتزأة من السياق الاجتماعي والتاريخي لدول أمريكا اللاتينية ككل. فالمنطقة آنذاك كانت مسرحا لتيار لاهوتي جديد، مزج بين معطيات علم اللاهوت ومقولات التحليل الاجتماعي للتبعية والتخلف اللذين تعيشهما أمريكا اللاتينية. إنه لاهوت التحرير الذي أعلن عن ميلاده القس غوستافو غوتييريز في دولة البيرو عام 1968,واضعا بذلك الحجر الأساس للكنيسة الشعبية التي تبنت مفهوم التربية التحررية كما باشره فيما بعد باولو فريري. إذن كان المشهد يعرف نوعا من الحراك الديني والثقافي الذي استوعب آراء فريري وهيأ لها فرص النجاح قبل حدوث الانقلاب العسكري.

ينتج مجتمع القهر نظاما تربويا مكرسا لخدمته والإبقاء عليه، وبالتالي فلا صحة للمقولة السائدة لدى أغلب التربويين حول قدرة التربية على إعادة تشكيل الواقع الاجتماعي وتغيير الأوضاع الراهنة. أما دور المربي أمام وضع كهذا فهو كشف الأساليب التعليمية المعتمدة في التطبيع مع القهر وإبطال مفعولها، ثم استعادة البعد الإنساني للتعليم كمدخل حيوي لاكتساب الحرية. وفي التحليل الموضوعي لعلاقة الأستاذ بالتلميذ يكشف فريري عن خصائص التعليم النابع من فلسفة القهر والعنف. فأسلوب التواصل بين الطرفين داخل فضاء الحجرة الدراسية قائم على شحن العقول بخبرات ميتة تعيد إنتاج الواقع بدل تجاوزه وتغييره، وتحض على الإذعان للهجة المتعالية وادعاء امتلاك الحقيقة والمعرفة من لدن طرف واحد سواء داخل الفصل أو حتى خارجه. إنه أسلوب يكرس الجهل عوض التصدي له، ويؤسس لتعليم قائم على إيداع المعلومات واستردادها وفق دورة لا تنتهي:"هكذا أصبح التعليم ضربا من الإيداع، تحول فيه الطلاب إلى بنوك يقوم الأساتذة فيها بدور المودعين، فلم يعد الأستاذ وسيلة من وسائل المعرفة والاتصال، بل أصبح مصدر بيانات ومودع معلومات ينتظره الطلاب في صبر ليتذكروا ما يقوله ثم يعيدوه. ذلك هو المفهوم البنكي للتعليم. "(2)

في المقابل يدعو باولو فريري إلى تعليم إنساني "ثوري"يحرر التلميذ من التناقض الذي يفرزه التعليم البنكي بين المحتوى التعليمي الجامد وحركية الواقع المستمرة.

تعليم ينمي الملكة النقدية ويولد قلقا مستمرا يحفز الطلاب على التفكير والإبداع، وحل التناقضات التي تحول دون الحرية.

تعليم لا يختزل أداء المعلم في ملء الأواني الفارغة وتعويد الطلاب السلبية والتأقلم، بل يرسم إطارا جديدا لعلاقة بين الطرفين قوامها الحوار والتعلم المستمر والمشاركة في اكتشاف حقائق العالم !

إن التعليم برأي فريري لا يمكن أن يكون محايدا مادام ضرورة إنسانية، وكل ادعاء للحياد هنا لا يخلو من زيف. فإما أن يكون عملية تحرر وتجاوز,وإما عملية أقلمة وتطويع وملاءمة للجيل الناشئ مع الأوضاع القائمة. إننا عندما نخطط ونرسم السياسات التعليمية نكون بصدد أعمال سياسية منطوية على اختيار إيديولوجي سواء كان هذا الاختيار واضحا أو مبهما لا فرق (3). غير أن مجرد الوعي بهذه الحقيقة لن يغير من الأمر شيئا ما لم تتم إعادة الاعتبار لعلاقة الإنسان بالعالم عبر منهج تعليمي محدد وسيلته المثلى:الحوار !

يؤمن فريري بأن الحوار مواجهة سلاحها كلمة صادقة ذات بعدين:الرؤية التي تضفي على الوجود الإنساني قيمة ومعنى، والفعل المحفز على تغيير الواقع. أما الغاية منه فهي التأسيس لعلاقة تضامنية بين الطرفين (المدرس والطالب) تحقق الأنسنة عبر التفكير المبدع، وهو ما يفرض إعادة النظر في الرؤية المتحكمة في بناء الموقف التعليمي "إن الصفة الحوارية للتعليم كمظهر للحرية لا تبدأ حين يقابل المدرس التلميذ في موقف تعليمي، بل تبدأ حين يسأل المدرس نفسه عن القضية التي سيجعلها موضوعا للحوار مع التلميذ"(4). وهذا المنهج الحواري هو قلب العملية التحررية كما تصورها فريري، والذي يُكسب الطالب وعيا نقديا يتسم بالعمق في طرح المشكلات وكشف التناقضات التي يضج بها العالم من حوله، ثم يعمل على خلق حالة حوارية دائمة تنمي ملكات الفضول المعرفي والتساؤل، وتستنهض إمكانيات التغيير والمراجعة.

ليس المنهج الحواري إذن مجرد نقل وتحويل للمعلومات والبيانات ضمن علاقة تسلطية ورأسية غير قابلة للنقاش,وإنما يتعلق الأمر بوضع تعليمي قائم على السعي المشترك بين الطرفين لمعرفة المزيد، وعلى استجاية واعية لتحقيق الحرية. إن هذا النوع من التعليم، يقول فريري، ينطلق من قناعة فحواها أن البرنامج التعليمي لا يكون تعليميا مالم يتخذ من الحوار مع الناس أساسا له. فهو يقدم أسلوب تعليم المقهورين بالطريقة التي يسهم فيها المقهورون أنفسهم وبصورة إيجابية في العملية التعليمية (5).

طور باولو فريري نظرية لتعليم الكبار وظف من خلالها مقولاته حول التربية النقدية مستلهما كلماته الدلالية وتقنياته وتصوراته من بيئة المقهورين ذاتها. وتتضمن نظريته التي أوردها بتفصيل في كتابه "التربية من أجل إثارة الوعي النقدي" الخطوات الإجرائية الآتية :

- دراسة البيئة ورصد الموضوعات الخاصة بالمنطقة.

- حصر وانتقاء الكلمات التوليدية " أو المنتجة كما يسميها فريري" ذات البعد الانفعالي والتي تمكن من تحديد مستويات إدراكهم للواقع وللبناء الاجتماعي والسلطوي من حولهم.

- تنظيم محتوى البرنامج التعليمي انطلاقا من الموضوعات التي تثير احتياجات لدى الأفراد، وإعداد التصنيفات والرموز المراد استخدامها لتناول مشكلة معيشية على سبيل المثال.

- تدشين حوارات فك الرموز عبر حلقات بحث الموضوعات، والتي يشترط فريري أن تتألف من عشرين شخصا كحد أقصى، وأن تستوعب الحلقات عشرة بالمائة من سكان المنطقة موضع الدرس .

- متابعة مكملة للمستفيدين من هذه الحملة التعليمية كي لا يرتدوا مجددا إلى الأمية .

جرى لاحقا تطوير منهجية فريري لتشمل ليس فقط الكبار بل حتى الأطفال اليافعين المتسربين من المدارس.  إذ تم تصميم برامج تثقيف المتسربين وفق منهجيةTCELFER، وهي اختصار ل"الفريرية المتجددة لمحو الأمية من خلال التقنيات المجتمعية". وفي مقابلة أجرتها كاترين دينيس (6)مع جواد قسوس المشرف على برنامج تعزيز ثقافة المتسربين بالأردن، يقدم هذا الأخير مثالا حيا للنتائج الإيجابية التي حققتها هذه المنهجية مع فئة من أطفال الشوارع:

" لقد استخدمنا أسلوب الحوار لتحديد المواضيع التي تهم الطلاب، فعلى سبيل المثال كان موضوع التعرض للحرارة الخارجية أثناء النهار من المواضيع التي حازت على اهتمامهم.  بداية، طلبنا منهم وصف شعورهم إزاء تعرضهم لحرارة الجو ومن ثم ربطنا ملاحظاتهم ببعض المشاكل الصحية مثل الجفاف والحروق الناجمة عن التعرض للشمس التي يمكن أن تسببها الحرارة.  انتقلنا بعدها لتعلم الأجزاء المختلفة من جسم الإنسان وشرح عملية الجفاف وأهمية الماء للجسم وكيفية امتصاصه. فكنا نبدأ، على سبيل المثال، بكلمة "شمس" ومن ثم نكتب كلمات أخرى تبدأ بحرف "ش" وكلمات تبدأ بحرف "م" ثم كلمات تبدأ بحرف "س". وانطلاقا من الكلمات كنا ننتقل إلى الجمل والنصوص البسيطة. فقد أنتجنا نصا يمكن للطلاب قراءته وإعادة كتابته والتعامل معه. وبناء على ذلك تم تصميم الاختبارات، حيث شعر الطلاب لأول مرة بأن الاختبار أمر يمكن اجتيازه لأن المواضيع كانت مألوفة بالنسبة إليهم "(7).

 نجح البرنامج كذلك في إقناع المعلمين المشاركين في هذه الحملة بالتخلي عن أساليب التدريس التقليدية، واعتماد منهجية فريري في فصولهم الدراسية، مما يستدعي تبنيها كأسلوب بيداغوجي في المؤسسات التعليمية.

تطورت تربية المقهورين إلى "تربية الأمل " كما صاغ فريري مقولاتها في أواخر حياته، ملائما موقفه مرة أخرى مع لاهوت التحرر الذي تطور بدوره إلى "لاهوت الحياة". وفي الصياغة الأخيرة بدا فريري أكثر تفاؤلا وثقة بالمستقبل. لقد كان كما وصفه التربوي الأمريكي باتريك كلارك "شعلة مضيئة في ظلام الحتمية الإيديولوجية واليأس والمنظم". 

إن استحضار باولو فريري اليوم، كرؤية إنسانية تنشد نهجا تعليميا أكثر إنصافا وعدالة، لهو أمر يستمد وجاهته من الضغط الذي تمارسه عولمة لا ترحم، ومن القهر الذي لا يكف عن ملاحقتنا وفق أكثر الصيغ تهذيبا ومراوغة.

فهل تفلح منظوماتنا التعليمية اليوم في التمسك بالتعليم كحق إنساني يتصدى للتمييز والاستبعاد, أم سيكون للمذهب النفعي والاقتصادي الضيق كلمته الأخيرة ؟

 ***

حميد بن خيبش

.........................

1- باولو فريري: تعليم المقهورين. دار القلم بيروت. د. ت. ص 28

2- نفس المرجع. ص51

3- د. سعيد إسماعيل علي: فلسفات تربوية معاصرة. المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب. الكويت1995. ص 181

4- باولو فريري. مرجع سابق. ص 71 

5- نفس المرجع. ص 90

6- المديرة الإقليمية للجمعية الألمانية لتعليم الكبار في الشرق الأوسط.

7- كاترين دينيس :تعليم الكبار والتغير الاجتماعي. مؤسسة التعاون الدولي للجمعية الألمانية لتعليم الكبار. الأردن2013. ص76

تأملات في خيانة الوعي لنفسه

لا يُعدُّ فعل الكتابة، في جوهره، إنتاجًا لفظيًا نابعًا عن إرادة حرّة، بقدر ما هو انكشافٌ لوعيٍ مأزومٍ بتكوينه، متورّط بمراجعة ذاته عبر أدواتٍ ليست نابعة منه خالصًا. بل إن الكاتب، في لحظة الكتابة، لا يخطّ سطورًا تعبّر عن ذاته فحسب، بل يُستَخدَم بوصفه أداةً لفكرةٍ تتخطاه، فكرةٍ تكتبه أكثر مما يكتبها.

في مقال سابق ذكرت أن: الفكرة الحقيقية لا تنبع من داخلنا، بل تستدعينا لنتجسّد فيها. فالمقال، حين يُكتب بصدقٍ فلسفي، لا يتولّد من الداخل وحده، وإنما يُكتب من منطقة تماسٍّ بين البنية الثقافية الكامنة، وبين الصدع الكامن في ذات الكاتب؛ ذلك الصدع الذي يسيل من خلاله المعنى بغير استئذان.

الكتابة بوصفها انفعالًا معرفيًّا

ليس الكاتب، كما يُظن، فاعلًا مُطلقًا في عملية الكتابة، بل إن سلطته على النص لا تتجاوز حدود الاستضافة. فهو يستضيف الفكرة، لا يخلقها. ينفعل بها، لا يتحكّم فيها. وهذا ما يجعل المقال، في كثيرٍ من الأحيان، أذكى من كاتبه، وأسبق منه في التكوين.

وقد أشار بول ريكور إلى هذا المعنى حين قال: لسنا نحن من نبدأ بالكلام، بل اللغة هي التي تُجبرنا على النطق من داخلها. فاللغة – بوصفها نسقًا سابقًا على الذات – لا تتيح حرية مطلقة، بل تفرض بنيةَ تعبيرٍ تُملي شروط الإدراك وصياغة المعنى.

خيانة الوعي لذاته: انكشاف لا إرادي

كل فكرة تخرج من الكاتب دون مقاومة، لم تمرّ على وعيه بما يكفي

الخيانة التي نقصدها هنا، لا تشير إلى انحدار أخلاقي، بل إلى مفارقة معرفية، حيث يُنتج الوعي ما لا يُطابق تصوّره السابق عن ذاته. وهذه المفارقة هي التي تُنبّه الكاتب إلى أن وعيه لا يملك سيادةً كاملة على ما يخرج منه.

يقول عبد الجبار الرفاعي: المعرفة الحقيقية لا تُطمئن، بل تربك الوعي وتُقلقه في جذره الأول. وهذه الإرباكات التي تُخلخل بنية الكاتب هي ما يجعل المقال يتجاوز وظيفة الإفصاح إلى موقع الخلخلة والتفكيك وإعادة التشكل.

بين فاعلية الكتابة ولاوعي النص

لو نظرنا إلى لحظة الكتابة من زاوية هيغلية، لأمكننا القول إن الكاتب لا يُنتج النص من عدم، بل يحقّق لحظةً ضمن تطوّر تاريخي ووعي جمعي سابق عليه. فهو ليس فاعلًا في معزل عن البنية، بل متجلٍّ لحركتها، يُكتب بواسطتها، ويذوب في خطابها. ومن هذا المنطلق، يمكن اعتبار المقال ليس تعبيرًا عن الذات، بل أداة لتجاوزها أو حتى فضحها.

في هذا البحث اقول أنا لا أكتب، بل أسمح للفكرة أن تكتبني

الغيرة المعرفية: حين يغار الوعي من نص لم يُولد

ثمّة لحظة شديدة الخصوصية يعيشها كل كاتب: يرى فكرةً تتكوّن على أطراف وعيه، يشعر بوجودها، لكنه لا يمتلك أدوات الإفصاح عنها بعد. إنها الغيرة المعرفية، حين يُدرك الكاتب أن ثمّة نصًّا حقيقيًا ينتظره، نصًّا لم يُولد بعد، لكنه موجود بالقوّة. وهنا، لا يكون الكاتب سوى قارئٍ مؤجَّل لنصّه المستقبلي، قارئٍ يحاول اللحاق بنصّ يتقدّمه، لا يلحقه.

 سلطة النص على الوعي

كل مقال يُكتب بصدقٍ فلسفي، لا يُعدّ امتدادًا لصوت الكاتب، بل اعتراضًا عليه. هو تجلٍّ لفكرةٍ تأخّرت في الظهور، لكنها حين ظهرت، كشفت هشاشة صاحبها.

وأقول في الخاتمه: لا أكتب لأقول ما أعرف، بل لأُجرِّد وعيي مما يظنه عن نفسه. فالكتابة، إذًا، ليست عملاً تعبيرياً، بل خيانة معرفية ضرورية. خيانة تُخرج الكاتب من استقرار الإدراك إلى أزمة التساؤل، ومن الطمأنينة إلى مكاشفةٍ لا تحتمل التراجع.

***

سجاد مصطفى حمود

..................................

هوامش توثيقية

1. بول ريكور، الذات بوصفها آخرًا، ترجمة جورج كتورة، المركز الثقافي العربي.

2. عبد الجبار الرفاعي، الدين والظمأ الأنطولوجي، دار التنوير، بيروت.

3. جورج فيلهلم هيغل، فينومينولوجيا الروح، بترجمات مختلفة.

 

من المعلوم أن مصطلح العصور الوسطى يعني القرون التي عانت فيها أوروبا من التخلف والجهل والسحر والشعوذة.  الكل يتفق مع هذا المضمون ولا خلاف فيه. لكن مما يلاحظ ويجلب الانتباه، هو ظهور أصوات من بعض المثقفين والمفكرين العرب ممن كتبوا وروّجوا لفكرة أن هناك قرون وسطى إسلامية مع ازدياد استعمال مصطلح القروسطية. فما المغزى من هذه الأفكار، وكيف ظهرت، ولماذا هي تزداد انتشاراّ في المجتمع العربي؟ أسئلة كثيرة وعديدة تستحق الإجابة عليها.

تُعرّف القرون الوسطى: بأنها حقبة زمنية امتدت لعشرة قرون، ابتداءً من القرن الخامس الميلادي لغاية القرن الخامس عشر الميلادي. وسميت الوسطى لأنها توسطت عصور التاريخ القديمة، تحديداً من عام 476م (عام سقوط الإمبراطورية الرومانية)، وعصور التاريخ الحديث، تحديداً عام 1453م (عام سقوط القسطنطينية). عانت أوروبا في هذه العصور من شدة الجهل والتخلف والسحر والشعوذة. سميت القرون الخمسة الأولى من القرون الوسطى بالقرون المظلمة، لشدة التخلف والجهل فيها، بينما اعتبرت القرون الخمسة التالية هي القرون الوسطى، لأنها كانت نسبياً أفضل من الفترة الأولى حيث بدأت فيها بوادر وبذور النهضة. وأريد أن أنوّه هنا إلى إن أحداث العصور الوسطى إنما هي خاصة بالشعوب والدول الأوربية حصراً، فهي لا تنطبق على الحضارة الإسلامية ولا على حضارة الصين وشرق آسيا، ولا حضارة الهند أو وسط آسيا أو افريقيا. ففي الوقت الذي كانت فيه أوروبا تغط في سبات عميق من الجهل والتخلف، فيما أصطُلح عليه بالعصور الوسطى، كان باقي أرجاء العالم يعيش عصراً ذهبياً من اشعاع نور الحضارة الإسلامية، متمثلاً في التسامح الديني والتحضّر واكتشاف العلوم التجريبية والتطبيقية (التي يدّعي الأوروبيون أنهم مكتشفوها) مثل علوم الكيمياء والجبر والأرقام والفلك والطب وغيرها. ولا أدرى لماذا يعتقد البعض أن الجهل والتخلف قد غزا العالم في القرون الوسطى ولا يَعتبرون أن العالم كان يعيش عصره الحضاري الذهبي. قد يكون السبب هو أن المؤرخين والمفكرين الأوروبيون اعتبروا أن تاريخهم هذا هو تاريخ العالم كله. ذلك لأن العالم بالنسبة للأوروبيين يتمثل في أوروبا والأوروبيين فقط، فالأوربيون لا يهتمون لغيرهم. وغالباً ما ذهبوا إلى التغاضي ونكران وجود بعض الحضارات غير الأوروبية. والمشكلة في كل هذا أن بعض المثقفين والمؤرخين العرب قبلوا وصدقوا فكرة أن تاريخ العالم يقسّم إلى عصور قديمة ووسطى وحديثة كما وضعه الأوربيون. وقَبِل بعض المفكرين والمؤرخين العرب هذا التاريخ على أنه تاريخ العالم دون تفحص أو تدقيق، بل تصديق أعمى لأقوال الغرب. خذ مثلا كتاب "خلاصة تاريخ العراق" للأب أنستاس الكرملي وهو يقسّم التاريخ العام على أساس التقسيم الأوروبي المذكور أعلاه، ويوجد غيره من المثقفين والمؤرخين في عصرنا الحديث والمعاصر ممن يعترفون بهذا التقسيم ويقبلونه كما هو. يَعرِف جيداً، كل من له معرفة بالتاريخ أن التواريخ المذكورة لتقسيم التاريخ لا تعني شيئاً لغير الأوروبيين كالعرب والفرس والأتراك والصينين والهنود. فلماذا نقبل بهذه المعلومات الزائفة؟

إن هذه النعرة، نعرة التقليد الأعمى للغرب الأوروبي، أخِذتٌ بالانتشار في الفكر والثقافة العربية. وقد سببت لنا مشاكل نحن في غنى عنها. أذكر على سبيل المثال ما كتبه الدكتور زكي نجيب محمود في كتابه "تجديد الفكر العربي". ومعلوم أن الدكتور زكي نجيب محمود يعتبر من كبار المثقفين في العالم العربي ومشهود له بالعلم والمعرفة، وهو من جيل المثقفين الكبار في القرن الماضي. يقول الدكتور زكي في مقدمة كتابه هذا، أنه خلال مسيرته الثقافية، تعلّم أن هناك ثقافة واحدة فقط، ناضجة وكاملة ومتطورة، وهي الثقافة الأوروبية (الغربية)، ولم يَعرف غيرها. دَرَسَها في سنين تحصيله العلمي، ودَرّسّها لتلاميذه، وبَرَع فيها. هو لم يطّلع على الثقافية الإسلامية إلاّ من خلال نصوص مشتتة غير كاملة ومبعثرة، لا تفيد الباحث ولا يصل منها إلى معلومة ثقافية مفيدة. ويقول أيضاً، إن صحوة فكرية اصابته في السنين الأخيرة من عمره جعلته ينفر من ثقافة الفكر الغربي، خصوصاً إذا ما كان صاحب الفكر الغربي هو عدوٌ لنا، فلا خير في ثقافة تأتي من عدو. فقرر أن يستبدلها بثقافة الأهل والأجداد، وأن يستعين بتراث الأقدمين (التراث الإسلامي) ليكون عاملاً من عوامل نهضة الأمة، وأن "يمزج تراث اسلافنا مع عناصر العصر الراهن الذي نعيش فيه لنكون بهذه التركيبة عرباً ومعاصرين في آن واحد.  ثم يتساءل "ولكن كيف يتم ذلك". ويستفسر "ما الذي نأخذه وما الذي نتركه من القيم التي انبثت فيما خلّف لنا الأقدمون؟ وما الذي نأخذه وما الذي نتركه من هذه الثقافة التي تهب علينا ريحها من أوروبا وامريكا، كأنها ريح عاتية؟ ". إن هذا الكلام يمثل دليلاً واضحاً واعترافاً صريحاً لواحد من كبار المثقفين العرب، بأنه لم يدرس التاريخ الإسلامي ولا الثقافة الإسلامية، وأنه فقط متمرس في الثقافة الأوروبية!! فماذا نتوقع من أفكاره تجاه الثقافة العربية الإسلامية. والملاحظ أن الكثير من المفكرين والمثقفين العرب يسيرون على هذا النهج، مؤمنين بأنه الطريق الصحيح لتجديد الفكر العربي، منبهرين بالنهضة الأوروبية إلى درجة أنهم لا يرون غيرها، ويعتبرون أن هذه النهضة هي الوحيدة والأصيلة في التاريخ. وبذلك فهم ينسون أو يتناسون أن الحضارات السابقة نهضت أيضاً من سبات وجهل عميق كانوا يعانون منه قبل أن يتحضروا، فخطوا الخطى ونهضوا النهضة الكبرى وسادوا على العالم. بالتأكيد لا يستطيع أحداً أن ينكر نجاح النهضة الأوروبية وسيادتها وتفوقها على العالم، لكنها ليست بالضرورة النموذج الفريد في التاريخ والذي يجب أن يحتذى به. يمكن أن يُحتذى بها كنموذج ومنهج للنهضة والتقدم لكن ليس بالأسلوب الذي يتبعه البعض المتحمس للغرب بتقليد أعمى لا يفرّق بين ما هو مفيد لمجتمعنا وما هو مضر لنا.

ليست الحضارة الأوربية هي الحضارة الوحيدة التي نهضت في تاريخ البشرية، فكل الحضارات التي سبقتها، وسادت على العالم في زمانها، كانت قد نهضت من حالة سبات وتخلّف عانت منه قبل النهضة. خذ على سبيل المثال الحضارة الإسلامية: كان العرب عند ظهور الإسلام قوم اميين متخلفين، لا حضارة لهم ولا منزلة لهم تذكر بين الحضارات التي سادت العالم في ذلك العصر (الحضارتين الفارسية والرمانية). كانوا مجرد قبائل بدوا رحّل متفرقين ومشتتين. وباعتناقهم الإسلام، في القرن السابع الميلادي، بدأت عندهم بذور النهضة. فاتحدوا وتعلّموا وتثقفوا، وغزوا العالم، واكتشفوا العلوم، وأنشئوا حضارة سادت على العالم. وأتساءل هنا: أليست هذه نهضة تماثل النهضة الأوروبية، مع مراعاة زمان حدوثها؟ وبنفس المقياس يمكن اعتبار كل الحضارات السابقة قد مرّت بمراحل النهضة، كلٌ حسب عصره وزمانه، فالنهضة ليست حكراً على الاوروبيين. لكن المؤرخون والكتّاب الأوروبيون عملوا على طمس وإغفال هذه الحقائق بهدف رفع شأن الحضارة الأوروبية وسطوتها على العالم عن طريق احتكار المكتشفات العلمية والثقافية وحصرها بهم.

المستشرق الألماني توماس باور، أستاذ الدراسات الإسلامية والعربية، نشر كتاباً بعنوان "لماذا لم توجد عصور وسطى إسلامية؟" تُرجمة إلى العربية ونشر بتاريخ 2020. ناقش المؤلف، في كتابه هذا، معنى مصطلح "العصور الوسطى الإسلامية" ومصطلح "القروسطية". بدأ نقاشه بمقارنة واقعية وصحيحة بين حال أوروبا في عصر حاكمها شارلمان (768-814م) التي تمثل فترة العصور الوسطى، وبين حال الحضارة الإسلامية في زمن هارون الرشيد (786-809م) التي تمثل فترة العصر الذهبي، ويشير بهذا المثال إلى التحيّز الواضح في استعمال مصطلح العصور الوسطى، فهم يُعِّدون هارون الرشيد وصلاح الدين من حكّام العصور الوسطى، لكنهم لا يقبلون اعتبار زمن شارلمان حقبة العصر الذهبي. ويقول توماس باور " إن الكثير من علماء الإسلاميات (يقصد الأوروبيون طبعاً) في الواقع ينطلقون من افتراض يبدو طبيعياً بوجود عصور وسطى إسلامية، وإنه من المنطقي استخدام مصطلح العصور الوسطى لوصف الثقافة والادب والعلوم في العالم الإسلامي". هذا الافتراض والترابط انطلق من اعتبار أن فترة العصور الوسطى تُعد أكثر حقبة سيطر فيها الدين على الاطلاق، واعتبروا أن الثقافات الإسلامية دينية بشكل خاص، لذلك فمن الطبيعي وجود عصور وسطى إسلامية!! وإن العصور الوسطى الإسلامية كانت تجسيداً للتعصب الديني. ويؤكد توماس باور إن مثل هذه الفكرة السخيفة عن المجتمعات الإسلامية في فترة ما قبل الحداثة بعيدة تماماً عن الواقع، حيث تميّزت الثقافة الإسلامية وبشكل مدهش بنسبة عالية من التسامح. وفي الوقت الذي طغت صفة العصور الوسطى على تاريخ العالم، بضمنها الحضارة الإسلامية، طُمِست وهُمّشت معالم العصر الذهبي واهملت على الرغم من أن أنوار العصر الذهبي كانت هي المنتشرة في أكثر أرجاء العالم. وصدقها بعض المفكرون والمثقفون العرب وكتبوا بها.

إن مصطلح العصور الوسطى لم يكن بريئاً، فقد استعمل وبكثرة للتشهير بالدول التي يعتبرونها متخلفة، ووصف حالة التخلف والجهل التي تمر بها شعوب العالم الثالث وتحديداً العربية والإسلامية. وقد تحوّل الآن مصطلح القرون الوسطى من كونه يمثل حقبة زمنية معينة مرت بها أوروبا، إلى كونه صفة مخصصة للتخلف والتعصب الديني، وهذا ما يوصف به المجتمع العربي حالياً. فالسعودية والعراق وسورية، مثلاً، تعيش الآن قرونها الوسطى من التخلف وعدم النهضة (كما توصف هذه البلدان حاليا فكرياً وسياسياً وحضارياً)، بينما يتم غض النظر عن واقع أحدثه الأوروبيون هو أن القرن العشرين هو الأكثر دموية في تاريخ العالم. وهكذا يتبين أن وصم بقية العالم بالقروسطية، هو فعل استراتيجي امبريالي غرضه استمرار إعلاء التفسير الغربي للحداثة العالمية على ما عداه من التفسيرات (توماس باور). ويقول توماس أيضاً "هي فكرة تعود إلى هيجل في كتابه "أطلس الفلسفة"، حيث كتب إلمر هولينشتاين: ما يبدو للغرب كقصة تَقَدم، يظهر في الشرق كقصة ركود. ولهذا السبب فإن المصير المحتوم للقارات المتخلفة -من وجهة نظر هيجل- هو أن تتم رعايتها والاشراف عليها من قبل أوروبا". وهذا ما حدث فعلاً عندما وضع العراق والشام تحت الانتداب البريطاني والفرنسي بعد الحرب العالمية الأولى من خلال انشاء عصبة الأمم وعلى أساس أن هذه الدول التي تحررت من سيطرة الدولة العثمانية عاجزة عن إدارة الدولة بسب تخلفها، لذلك يتم تكليف دول متحضرة للإشراف عليها وتعليمهم أساليب إدارة الدولة الحديثة.

أمّا مصطلح القروسطية فهو غريب ودخيل على الثقافة العربية، ظهر فيها حديثاً. ويبدو لغوياً أنه نتج عن دمج كلمتي القرون وكلمة الوسطى، لسهولة الاستعمال. إلا أن المعنى أعم واشمل، فقد أصبح لا يُستعمل لوصف فترة زمنية (حقبة القرون الوسطى)، وإنما يستعمل للتعبير عن حالة التخلف والجهل التي تعيشها المجتمعات المتخلفة. وعندما توصف المجتمعات بالقروسطية فإن ذلك يعني إنها ذات سلطة قمعية استبدادية، متخلفة لا تواكب روح العصر. لذلك فإن المصطلح أصبح غالباً ما يستعمل لوصف المجتمعات العربية والإسلامية. فعلى سبيل المثال، وصَفَ د. صادق جلال العظم بعض الممارسات الدينية المتشددة بأنها تعكس "عقلية قروسطية"، في إشارة إلى تحكيم نصوص دينية بتفسير جامد ومتسلط بعيداً عن العقلانية الحديثة. وكذلك قال محمد عابد الجابري في كتاب "المثقف العربي همومه وعطاؤه" عندما طُلب منه أن يكتب مقال عن "المثقفون في الحضارة العربية الإسلامية" فكتب ما يلي "كيف يمكن الحديث عن المثقفين في حضارة تنتمي إلى الماضي، إلى القرون الوسطى، في حين أن مقولة المثقفين حديثة"، وكأنه لا يعرف أن حقبة القرون الوسطى تستعمل حصرياً لوصف تخلّف الأوربيين، وإن عصر الحضارة العربية كان عصراً ذهبياً. وهناك امثلة كثيرة أخرى مشابهة لا يتسع المجال لذكرها.

والحقيقة، فقد نجح الأوربيين في إلصاق تهمة القرون الوسطى والقروسطية بالمجتمعات المتخلفة وتحديداً العربية منها. ونجحوا أيضاً في النأي بحضارتهم الأوروبية عن وصفها بالقرون الوسطى والقروسطية على أساس انها مرّت بنهضة متواصلة ليس فيها تخلف، بعكس الحضارة الإسلامية التي عانت وما زالت تعاني من التخلف، فانحصر مفهوم القروسطية بالمجتمعات المتخلفة فقط ولا يستعمل لوصف المجتمع الغربي المتحضر. ومما يؤسف له أن هذا المصطلح كثر استعماله عند المفكرين العرب. يذكر توماس باور في كتابه المذكور أعلاه مثال على استعمال مصطلح القروسطية "إن وصم كل من أفغانستان والعراق بالقروسطية قد ساعدت بالتأكيد على جعل التدخل الأمريكي فيهما أكثر قبولاً".

ولا يفوتني أن أذكر هنا كتاب "تاريخ ضائع، التراث الخالد لعلماء الإسلام ومفكريه وفنانيه" من تأليف مايكل هاملتون مورجان، وهو دبلوماسي امريكي وكاتب ومحلل سياسي. نشر الكتاب عام 2007. اختار المؤلف لكتابه اسم "تاريخ ضائع" (وهو يقصد التاريخ الحضاري الإسلامي المغيّب)، ليوضّح كيف تم تهميش وطمس ونسيان انجازات الحضارة الإسلامية بالكامل في السرديات الأوروبية لتاريخ العلم والثقافة، لكي ينسب الأوروبيون لأنفسهم فقط تلك الاكتشافات العلمية، ويتعمدوا انكار جهود غيرهم في تطور العلوم والمعرفة. يركز الكتاب على فكرة أن الغرب مَدين للحضارة الإسلامية بقدر كبير من التقدّم والتطوّر الفكري والعلمي، ويستعرض أحوال العصور الذهبية الإسلامية، وكيف كانت منارة عالمية للعلم والمعرفة في الوقت الذي كانت أوروبا تعيش ظلاماً دامساً. ويشرح تأثير العلوم الإسلامية على النهضة الأوروبية، مثل ابن سينا وكتابه "القانون في الطب"، والرازي وكتابه "الحاوي في الطب"، ودور الخوارزمي في اكتشاف الأرقام والصفر وعلم الجبر، وجابر ابن حيان وابن الهيثم في الكيمياء والبصريات. يقول المؤلف في مقدمة الكتاب "معظم الأمريكيون بما فيهم الأمريكيون المسلمون، وحتى عدد كبير من المسلمين حول العالم، لا يعرفون سوى قشور التاريخ الإسلامي أي " إنهم كانوا عظماء في يوم من الأيام وإنهم اخترعوا علم الحساب ثم سقطوا في مستنقعات التأخر". كما إن معظم الغربيين قد تلقنوا أن جذور المجد الغربي تعود إلى أيام الرومان والاغريق، وأنه بعد سبات ألف عام في مجاهل عصور الظلام حدثت المعجزة واستيقظت أوروبا لتعيد صلاتها بأصولها الرومانية والاغريقية. أما الاسهامات الفكرية للعرب والفرس والهنود والصينيين فقد اختزلت واقتصرت على الحواشي المتناثرة هنا وهناك".

والرسالة من هذا المقال: إلى المثقفين العرب المبهورين بالنهضة الأوربية بشدة، إلى درجة أن ابصارهم غَفلت عن مساوئ ومضار النهضة الأوروبية وكأنها غير موجودة، والتي لا تناسب المجتمع الشرقي.  وأذكّرهم بتجربة النهضة اليابانية الناجحة، التي تزامنت مع النهضة العربية في مصر في عهد محمد على باشا الكبير والتي تعثّرت مسيرتها ولم تعطي ثمارها بعد. ومن الأسباب المهمة في نجاح التجربة اليابانية هو اهتمام وتركيز العلماء والمفكرين اليابانيين على فهم العلوم والتقدم التكنولوجي والسياسي، والابتعاد عن عادات واعراف وثقافة المجتمع الغربي، التي لا تناسب مجتمعهم، واعتزاز اليابانيون بتاريخهم وتراثهم واعرافهم السائدة في مجتمعهم، وبذلك لم يحدثوا فجوة كبيرة في عقول وثقافة مجتمعهم كما حصل ويحصل في مجتمعنا.

***

د. صائب المختار

 

دراسة في البلاغة السلطوية والظلم المعرفي

الملخص: تهدف هذه الدراسة إلى تحليل ظاهرة "الكتابة الشريرة" باعتبارها ممارسة معرفية وسردية تُسهم في تبرير العنف الرمزي والمادي، وإعادة إنتاج أشكال من الهيمنة باسم الجمال أو العقلانية أو الموضوعية. تستند الدراسة إلى المنهج النقدي التحليلي، من خلال تفكيك العلاقة بين اللغة والسلطة، والوقوف عند نماذج من الكتّاب الذين وظّفوا النصوص كوسائط للهيمنة، أو غطاءً أيديولوجيًا لشرٍّ مؤسّس. وتُسائل الدراسة التواطؤ البلاغي الذي يُرتكب حين تُجمَّل البشاعة، ويُعاد تأثيث الجريمة بلغةٍ تخدّر الضمير وتُغيّب الحقيقة. تنتهي الدراسة إلى ضرورة بلورة وعي نقدي أخلاقي في مواجهة التضليل السردي، عبر بناء بلاغة مضادّة تفضح استراتيجيات الهيمنة وتقاوم سرديات الطمس.

الكلمات المفتاحية: الكتابة الشريرة، الشر المعرفي، الظلم السردي، البلاغة السلطوية، التضليل.

المقدمة: لطالما اعتُبرت الكتابة فعلًا تنويريًا، وسلوكًا أخلاقيًا يروم كشف الحقيقة وتحرير الوعي. غير أن التاريخ الإنساني، بما فيه من تقاطعات عنف وإيديولوجيا، أفرز ممارسات كتابية لا تُنير، بل تُعتم؛ لا تُحرّر، بل تُقنّن القمع.

من هنا، تنبع إشكالية هذه الدراسة من سؤال جوهري:

هل يمكن أن تكون الكتابة ذاتها فعلًا شريرًا؟ وهل يمكن للنص أن يتحول إلى أداة لتجميل الظلم، وتبرير الاستبداد، وإعادة إنتاج الهيمنة؟

أولًا: الإطار النظري - الشر المعرفي والظلم السردي

الشر المعرفي (Epistemic Evil): يعني استخدام المعرفة أو اللغة لتشويه الحقيقة أو إخفائها أو إعادة صياغتها ضمن أنساق تُخدِم مشاريع قمعية. تشير ميراندا فريكر (2007) إلى أن "الظلم المعرفي" يحدث حين يُنزع عن الأفراد أو الجماعات حقهم في أن يكونوا مصادر معرفية موثوقة، بما يعنيه ذلك من تقزيم لخبراتهم وتزييف لوجودهم داخل النظام المعرفي السائد.

البلاغة السلطوية: يرى ميشيل فوكو (1972) أن السلطة لا تُمارس فقط عبر العنف، بل من خلال الخطاب، أي عبر تنظيم المعرفة وترسيخ نسقها. الخطاب إذن ليس بريئًا، بل حقل صراع على المعاني، تُحسم فيه المعركة لصالح من يمتلك القدرة على تسمية العالم.

ثانيًا: نماذج للكتابة الشريرة والكتّاب الأشرار

جوزيف جوبلز – دعاية القتل: لم يكن جوبلز مجرّد وزير في النظام النازي، بل كاتبًا رئيسيًا في صناعة السردية الفاشية. استخدم الخطب والمقالات والملصقات لتحويل الإبادة إلى عدالة، والكراهية إلى فضيلة، عبر لغة متقنة الإخراج، مشحونة بالعاطفة الزائفة.

آين راند – العقلانية الأنانية: أسست راند فلسفة تمجّد الفرد على حساب الجماعة، وقد تحوّلت هذه الفلسفة إلى مرجعية أيديولوجية للنيوليبرالية التي تبرر سحق الضعفاء باسم الكفاءة. تُستخدم كتاباتها كذخيرة فكرية لتسويغ اقتصاد لا يرحم، ومجتمع يُقصي من لا يملك.

الخطاب الاستشراقي – سردية الهيمنة: كشف إدوارد سعيد (1978) كيف أن النصوص الغربية عن الشرق لم تكن توصيفات ثقافية، بل مشاريع بلاغية للهيمنة، حيث يُعاد تشكيل "الآخر" ضمن مخيال استعماري يروم السيطرة، والتبرير الأخلاقي للغزو.

ثالثًا: الجمال كغطاء للشر - حالة "لوليتا" تُعد رواية "لوليتا" لنابوكوف مثالًا صادمًا على كيفية استخدام البلاغة لتغطية الفعل الإجرامي. ففي حين يروي الراوي قصة اعتداء جنسي، تُقدَّم للقارئ بلغة شاعرية آسرة. وهنا يُطرح سؤال أخلاقي: هل يُغفَر الفعل لأن النص جميل؟ وهل يتحول الجمال إلى قناع يخفي القبح الأخلاقي؟

رابعًا: الكتابة الشريرة في العصر الرقمي لم تعد الكتابة حكرًا على النخبة، بل أصبحت أداةً يومية ضمن فضاء رقمي تحكمه الخوارزميات. الخطاب الكراهوي اليوم يُنتَج عبر نصوص رقمية قصيرة، ومُضلِّلة، تحشد الجماهير ضد المختلف، وتُعيد إنتاج العنف الرمزي بأسلوب جديد. تُصبح البلاغة هنا أداةً للخداع، لا للبيان.

خامسًا: المقاومة – نحو بلاغة مضادة يُبرز جورج أورويل أن قول الحقيقة في زمن الكذب فعل مقاوم. غير أن المقاومة لا تكون فقط بكشف التضليل، بل بتفكيك منطقه من الداخل، وبتقديم سرديات بديلة تُعيد للمخفي حقّه في الظهور، وللصامت حقّه في الكلام.

الخاتمة: الكتابة ليست فعلاً بريئًا، بل ممارسة ذات حمولة أخلاقية ومعرفية هائلة. من يكتب يملك القدرة على إعادة تشكيل الوعي والذاكرة. ومن هنا، فإن السؤال الحقيقي الذي يجب أن يُطرح دائمًا: من يكتب؟ ولماذا؟ وبأي خطاب؟ ولمن؟

إننا بحاجة إلى نقد جذري للكتابة، لا بوصفها شكلاً أدبيًا فحسب، بل باعتبارها بنية قوة ومجال صراع بين المعنى والتضليل، بين التسمية والكتمان، بين الحضور والتغييب.

***

أ. مجيدة محمدي / الجمهورية التونسية

..............................

المراجع:

فريكر، ميراندا. (2007). الظلم المعرفي: السلطة وأخلاقيات المعرفة. مطبعة جامعة أكسفورد.

فوكو، ميشيل. (1972). أركيولوجيا المعرفة. كتب بانثيون.

بيرنز، جينيفر. (2009). إلهة السوق: آين راند واليمين الأمريكي. مطبعة جامعة أكسفورد.

سعيد، إدوارد. (1978). الاستشراق. كتب بانثيون.

أبل، ألفريد. (1991). لوليتا المشروحة. كتب فينتاج.

أورويل، جورج. (1949). 1984. سيكر وواربرغ.

مجلس حقوق الإنسان، الأمم المتحدة. (2018). تقرير بعثة تقصي الحقائق الدولية المستقلة بشأن ميانمار.

إن الحديث عن النقد يقتضي الإشارة إلى الثقافة بوصفها القاعدة التي تمنح النقد أهميته، وعلينا أن نفرق بين معنى النقد والانتقاد، فالأول يرتبط بالموضوع ويرجع إلى المنهج العلمي، أما الثاني شخصي ويعتمد على العادات والتقاليد الاجتماعية.

كما أن الثقافة نسبية ومتفاوتة بين المجتمعات، بل حتى داخل المجتمع الواحد، وبما أن النقد مرتبط بها من خلال الأفراد، فإن وجهات النظر النقدية تتعدد بتعددهم، فالثقافة هي التي تمنح النقد هويته، اي بمعنى تحدده بمحددات السلطة، وتبرز أدواته في مناقشة الأمور الحياتية والعلمية.

فقد نجد مجتمعاً موهوماً بالنقد لكنه غير منتج، مستهلك للأفكار لا للسلع فقط، مجتمعاً متصنع للفكرة غير محي لها. يسعى إلى إيجاد ثغرة في الموضوع المعروض للنقد، يهدم ولا يبني، يشخصن ولا يشخص. والجيد في النقد ان الكل يخضع للفحص، ولا يقدس الأفكار، غير أن توجيه النقد للذات يعد تجاوزا للنقد إلى الانتقاد، باعتبار ان فعل الذات شأن خاص بالإنسان، أما ما يطرحه من أفكار فهي تؤثر على الفرد والمجتمع. وبذلك فالنقد نوعين: سلبي خاضع لمحددات الثقافة والسلطة، أما الإيجابي هو الذي يتجاوز الثقافة ويفكر فيما وراءها.

كما أن الفيلسوف او العالم أو المبدع، أو الفنان هو في الأصل إنسان له مشاعر وحاجات ورغبات، ويمتلك من الأمراض النفسية ما يمتلكه اي إنسان عادي، ألا إن الفرق بينهما في استثمار تلك المواقف الحياتية والرغبات النفسية، فالأول: اي المفكر يبحث عن إنتاج صورة راقية لنفسه، أما الثاني: اي الإنسان العادي يبحث عن ما يستهلك نفسه، فالأول ينال الاحترام بين الناس، لأنه مارس النقد على ذاته وبحث عنها في ذاته، فأبدع صورته من خلال افكاره، أما الثاني فقد ذاته، وأخذ يبحث عن ذاته في الأشياء. ومن هنا يمكن أن نستشعر الفرق بين المبدع والمجرم. بين المغترب والتائه. بين سعي الإنسان ومسعاه.

ويمكن أن نجد في تعريف الثقافة، كما عرفها الفيلسوف الفرنسي أندريه لالاند بانها " ميزة شخص متعلم، وكان قد طور بهذا التعلم ذوقه، حسه النقدي وحكمه، تربية يترتب عليها توليد هذه الميزة ".

فثقافة النقد ترجع لنوعية البيئة التي تنشأ فيها، ونوعية الثقافة السائدة، اي سلطة تفرض نفسها على محركات الثقافة وتفكير المجتمع، سواء كانت سلطة الدين، أو الأعراف والتقاليد الاجتماعية، أو السلطة السياسية، أو سلطة العقل، وبهذا يمكن تحديد نوعية النقد السائد للموضوعات الفكرية والإبداعية. فكل نقد لا يخلو من الذاتية، لكنه يتجاوزها اذا اعتمد منهج العلمي.

أما نقد الثقافة فهو يقوم على التفكير ما وراء الثقافة، ولا يخضع لأي غرض أو سلطة دينية أو سياسية أو ثقافية أو نفعية، وهذا لا يتحقق إلا في الفلسفة التي تبحث عن الحقيقة لذاتها، لا لمصلحة ما.

فجل الفلاسفة الذين مثلوا انعطافات كبيرة في تاريخ الفكر الإنساني، وليس في مجتمعاتهم فقط، لأنهم فكروا خارج الصندوق، وخارج البيئة التي نشأوا فيها، إذ ان نمو وعي الأفراد لا ينفصل عن الثقافة التي تربوا في كنفها. ويمكن أن تجد امثله كثيرة على من فكروا خارج صندوق عصرهم وثقافتهم، بدءاً من السفسطائيين، إلى كوبر نيكوس، وفردريك ونيتشه، وماركس، وفرويد. فكل منهم وجد ضالته في نقد الثقافة السائدة آنذاك، من خلال تقديم قراءة مغايرة لما موجود في عصره فكوبر نيكوس رفض النظرة السائدة عن مركزية الأرض، وماركس قدم لنا النقد الاجتماعي، ونيتشه نقد الثقافة الغربية ورفض الفكر التقليدي، وفرويد قدم لنا النقد النفسي. إذ أخضع المتبنيات الثقافية للمجتمع والافراد إلى التحليل النفسي.

وعندما يخضع اي عمل أدبي أو فني أو فكري للتحليل النفسي، فإنه يفسر من حيث تأثير اللاشعور على إبداع الموضوع، اي يتم تناول أفكار المفكر واعماله، لا حياته الشخصية في تحليل شخصيته، وعلى هذا، يجب أن نفرق بين النقد العلمي والفضيحة في فهم الأفكار ومبدعيها.

***

كاظم لفتة جبر

 

لا شك في أن التطور المتسارع للحوسبة والذكاء الاصطناعي مكن البشر من محاكاة العديد من العمليات في الهندسة والتصميم والفيزياء. ويعتبر الكثيرون أن مسألة محاكاة الحياة مرهونة بتوفر قدرات الحوسبة الكافية في السنوات القادمة. فقد تستطيع الخوارزميات يوما اذا ما اعطيت الخوارزميات بيانات كافية عن حياة شخص ما وحمضه النووي ان تحاكي أنماط سلوكه وتتوقع أي قرار يتخذه. وقد تكون الحياة مجرد ترميز جيني سيفكّ عاجلاً أو اجلاً.

لكن هذا التصور يغفل تمامًا طبيعة الحياة نفسها. فالأنظمة الحية تختلف اختلافا جوهريا عن أنظمة تحكمها الخوارزميات والمعادلات الرقمية. فالأنظمة الحية ليست أنظمة معقدة فحسب، بل ناشئة وسياقية، تبنى خصائصها عبر السياق والتفاعلات متعددة المستويات. الحياة لا تسير في بخط سببي مستقيم، بل عبر حلقات ردود الفعل وشبكات من التفاعلات التي تنتج خصائص غير قابلة للاختزال إلى مكوناتها. ولهذا، فمن حيث المبدأ، يغدو محاكاة الحياة عبر المنهج الرياضي او عبر الذكاء الاصطناعي أمرا مستبعدا من حيث المبدأ.

ما وراء السببية الخطية

في العلوم الكلاسيكية، اعتمد العلماء على السببية الخطية. الأجزاء الأصغر تؤدي إلى تغييرات على مستوى الأجزاء الأكبر وهكذا بشكل تصاعدي. بهذا يصبح السبب والنتيجة يسيران بخط مستقيم لا رجعة فيه. مثال واضح على ذلك في الفيزياء الكلاسيكية حيث أن وجود عدد معين من الذرات داخل الجسم ونسبة تباعدها عن بعضها تؤثر على شكل وحجم الجسم ذاتها. لا يفترض أن تؤثر البنية الكلية للجسم على ذراته من خلال هذا النموذج. والسببية الخطية تجعلنا قادرين على توقع النتيجة إذا عرفنا كل المتغيرات على مستوى الأجزاء.

رغم نجاح هذا النموذج بشكل عام في الفيزياء. إلا أن تطبيقه في علم الأحياء يبدو صعبًا. أثبتت مختلف الابحاث العلمية ان البنى الاعلى تنظيمًا قادرة على التأثير على النشاطات الجزيئية او الخلوية. فقد يؤثر غذاء الانسان او حالته النفسية على عمل بعض انواع الخلايا وعلى نظم التحكم بالجينات. هذا ما يعرف بالسببية من الاعلى الى الاسفل، فالسببية هنا تعمل بالاتجاهين. عمل السببية بهذا الشكل يعقد كثيرا قدرتنا على تنبؤ النتيجة اذا عرفنا كافة التفاصيل عن الأجزاء.

الخصائص الناشئة

السببية الخطية تجعل توقع النتيجة من خلال معرفة الاجزاء امرا حتميا. لأن الاجزاء تتبع نظما وقواعد فيزيائية واضحة تجعل خطوتها القادمة محكومة بالرياضيات وتجعل محاكاتها أسهل.

أما في الكائنات الحية، فيختلف الأمر جذريًّا. المدخلات نفسها قد تؤدي الى نتائج مختلفة، فالنتائج تعتمد على السياق، والمرحلة، والمحيط. ومن هنا نصل الى ما يسمى بالخصائص الناشئة. أي الصفات التي تظهر عند مستوى أعلى من التنظيم ,لا يمكن اختزالها او استنتاجها من العناصر المكونة وحدها. لعل الوعي البشري هو افضل مثال على هذا، فعصبون واحد بمفرده او شبكة واحدة، لا يمكنها توليد الوعي. أبعد من ذلك، فان عرفنا جميع المعلومات عن العصبونات والعوامل المحيطة بها فنحن لا نستطيع ان نفسر الوعي، إذ أن الوعي ظاهرة ناشئة لا تنشأ الا عندما تتفاعل شبكة العصبونات بأكملها مع المعطيات الحسية والتغيرات الهرمونية.

وهذا يعيدنا الى السببية الخطية التي تسقط هنا حيث انا معرفتنا بالمدخلات، لا تضمن توقع النتيجة التي ليست مرتبة سببيا بالمعنى التقليدي.

الحتمية لا تعني القدرة على التنبؤ

إن كل ما سبق قد يوهمنا بأن الكائنات الحية ليست حتمية. أي أنها لا تتبع قواعد الفيزياء التي تعتبر حتمية. ففي حالة الخصائص الناشئة، قد تظهر وكأنها ظاهرة سحرية أو غامضة تنشأ من دون أسباب أولية.

إلا أن هذا غير صحيح. يستطيع النظام ان يكون حتميا من دون ان يكون متوقعا بسبب تعقيده البنيوي او الحساسية للظروف الابتدائية.

في الفيزياء، يشتهر هذا في نظرية الفوضى، كما في حال الطقس. أما في البيولوجيا، فالتحدي اعمق: على الرغم من أنها تعتمد قواعد الفيزياء الحتمية ذاتها لكن الأنظمة تعتمد على عوامل كثيرة جدًا تجعل توقعها مستحيلًا. أن التفاعلات الكيميائية الّتي تجري في الجسم تتأثر بالحرارة والضغط والملوحة والخلايا تتأثر باشارات تتداولها فيما بينها وكذلك الأنسجة. ومن شأن تغيير على مستوى النسيج أن يعود ويؤثر على التفاعلات الكيميائية التي هي كانت المصدر بعد الجينات. اذا فالنظام نظام بالغ التعقيد يعتمد على طبقات متعددة من المعلومات والتغيرات المتشابكة التي من المستحيل أن يتم توقعها وإن عرفنا القواعد الحتمية التي تقودها.

الحياة غير القابلة على التوقع

اذا فبسبب الخصائص الناشئة والسببية من اعلى الى اسفل والحتمية غير المتوقعة تتحول الحياة الى معضلة للرياضيات تتجاوز طرق الحساب التقليدي. الأنظمة الحية هي شبكة ديناميكية يؤثر كل على كل في كنف قواعد الفيزياء. الحياة تعتمد على الفيزياء والكيمياء إلا أنها تتفرد بشكل أكثر وضوحًا بالخصائص الناشئة واشكال السببية المختلفة.

إن الحياة تشبه القصيدة التي لا تفهم الا عندما تعاش، وليس آلة تعمل على قواعد سببية حتمية. هذا يدفعنا لأن نراجع مفاهيمنا الاساسية لمعنى الوجود الحي ومعناه الفلسفي والتجريبي. ويجعلنا نفكر مجددا بصلتنا نحن بالعالم المحيط وعلاقتنا مع الموجودات الأخرى.

***

فضل فقيه – باحث

...........................

قراءات إضافية:

Noble, D. The Music of Life: Biology Beyond Genes. Oxford Univ. Press (2006).

في عالم يُعاد فيه تعريف المعرفة بوصفها إجراءً وظيفيًّا لا تجربة وجودية، يصبح الحديث عن العلاقة بالكتاب حديثًا عن التيه أو الفقد، عن ذلك الوميض الذي كان يشعل فينا رغبة السؤال قبل أن تختنق في ركام المناهج والألقاب. لقد صارت القراءة طقسًا بيروقراطيًّا لا يستبطن القلق، من هنا، تنفتح هذه المقالة المتواضعة على مشاهد صغيرة، لكنها ناطقة، تكشف وهن العلاقة المعاصرة بالمعرفة، وتُعيد مساءلة حضور الكتاب في وجداننا الثقافي، لا كشيءٍ ماديّ، بل كعنوان لضمور المعنى.

في أحد أروقة سوق الحويش، كنت برفقة صديقي د. حيدر حسن الأسدي، نتبادل الحديث عن الكتب والمطبوعات بين رفوف مكتبةٍ قديمةٍ، إذ اعتدنا أن نجد بين عناوينها ما يحرّض فينا دهشة السؤال. جلسنا مع صاحب المكتبة نتسامر، حتى أسرّ إلينا بقصة أثارت في ذهني شعورًا بالدهشة والاغتراب: قال إنّ أحد الأشخاص مرّ عليه ذات يوم، وطلب قائمة طويلة من الكتب ليشتريها، لكنه اشترط شرطًا غريبًا؛ أن يتعهّد صاحب المكتبة بشرائها منه بعد عامين. سألته مذهولًا عن سبب ذلك الشرط، فأجابني بجمود لا يخلو من سخرية مبطّنة: "سأكمل دراسة الماجستير، وعندها لن أحتاج إلى الكتب."

كانت كلماته كالفاجعة، تثير الشفقة قبل السخرية، تذكّرك بأن الخراب المعرفي ليس فرضية بل واقع، وأن العلاقة بالكتاب لم تعد تعني المعرفة، بل هي طقس مؤقت تُؤدّى لاستيفاء متطلبات البيروقراطية الأكاديمية. لقد صار الكتاب عبورًا اضطراريًا، لا شغفًا، ومجرد أداة في مشروع النسيان المنظّم.

هذا المعنى ذاته لامسه قبل مدة وجيزة الكاتب علي وجيه في عبارته الجارحة: "أكثرُ الشعراء والأكاديميين والأدباء لا يقرؤون." عبارة أثارت ضجة في الوسط الثقافي، لكنها ككل الحقائق التي تُقال بصراحة، كانت مؤلمة لأنها صحيحة. لم تكن مبالغته خطأ، بل كانت مقاربة جريئة لحقيقة ساطعة: إننا نعيش زمن الشهادات المعلّقة على الجدران، والعناوين والألقاب لا زمن العقول المشغولة بالسؤال.

ومن المشاهد التي حفرت أثرها في ذاكرتي، ذلك الحديث العابر مع صديقٍ جمعتني به أمنيات مشتركة. أخبرني ذات يوم بعزمه على بيع مكتبته، فسألته مستغربًا عن الدافع وراء ذلك وقد خلتُه يهمّ بترميمها أو استبدالها بأخرى أكثر رحابة. فأجابني ببرودٍ: "لقد أنهيتُ الدكتوراه، ولم أعد أجد في القراءة ضرورة؛ صارت الكتب عبئًا يثقل كاهلي."

كانت كلماته إعلان صريح عن موت الرغبة في المعرفة لحظة انتزاع الشهادة، كأن الغاية لم تكن إِلَّا غلافًا ينتهي دوره عند استيفاء المتطلبات الأكاديمية.

في سنوات اشتغالي ومتابعتي لمسار الدراسات العليا، ترسّخت لديّ قناعة مريرة: تسعون في المئة من أولئك الذين سيصبحون أساتذة لا يقرأون إِلَّا ما خُطّ لهم في كتبهم المقرّرة، ولا يفكّرون إلَّا ضمن جدران صندوق مغلق، إذ تأخذ المعلومة شكلها النهائي دون أن تُسائل أو تُختبر، وكأن المعرفة ليست إِلَّا تمرينًا على التلقين، لا تجربةً مع اللامحدود.

الفيلسوف الماركسي جورج لوكاش ألمح إلى مفهوم "التشييء" (Reification) في كتابه (التاريخ والوعي الطبقي) إذ تتحول الأفكار والرموز الثقافية إلى أشياء مادية جامدة تفقد معناها الإنسانيَّ العميق. الكتب هنا لم تعد جسورًا إلى التأمل الحر، بل سلعًا تملأ الرفوف أو تُباع وتُشترى، مجرد ديكور مؤقت.

وأذكر أني قرأتُ للشيخ حيدر حبّ الله حكاية رواها له أحد أصدقائه من أصحاب المكتبات، مضمونها أن رجلًا دخل عليه يومًا وطلب شراء خمسة كتب "باللون الأزرق". فسأله: تقصد أي كتب؟ فأجاب: لا يهم، المهم أن تكون بالأزرق. فاستغرب الرجل وقال: لم أفهم قصدك. فرد الزبون بهدوء: أريد فقط أن أملأ بها فراغًا في مكتبتي، ليكتمل تناغم الألوان مع الستائر.

في تلك اللحظة، لا تعود الحكاية مجرد طُرفة، بل تتحوّل إلى مرآة تكشف هشاشة المعنى في زمن التشييء، حين يتحوّل الكتاب من حاوية للمعرفة إلى أداة زينة، ومن محرّض على القلق والتساؤل إلى قطعة أثاث. إنها اللحظة التي تدرك فيها عمق ما قصده ماكس هوركهايمر حين أشار إلى "عصر العقل الأداتي"، إذ يُفصل الشكل عن المضمون، ويُختزل الوعي إلى لون، والفكر إلى ديكور.

في مقابل هذا الخراب المعرفي، يقف عبد الجبار الرفاعي كاحتفاء نابض بالحياة؛ يتحدث ببهجة تشبه إيقاع الموسيقى، عن شغفه بالكتابة وولعه الذي لا ينطفئ، وعن تجربته المتقدة بين الصفحات، وعن مكتبته التي تبدو كعالمٍ قائم بذاته. هناك، عند عتبات حديثه، تنبثق شلالات من الجمال، كأنك تعبر إلى فردوس من المعنى، إلى لغة ثانية؛ لغة تستنشق فيها الحروف حياة، وتصير الكلمات جسورًا نحو فضاءات لا حدود لها.

تتجلّى صورة أخرى مترعة بالجمال في حضرة أستاذي د. عبد الأمير زاهد؛ ذلك الذي لم تسرقه مشاغل المنتدى الوطني لأبحاث الفكر والثقافة، ولا إكراهات الجامعة وإدارتها من عناق الكتاب والتأمل،- كما شغلت البعض وأوضاعتهم في زحمة الظهور الزائف- إذ ظلت القراءة عنده كيقين ملازم، لا تنفصل عنه كما لا ينفصل الدفء عن النار. سألته يومًا: "هل سرقتك الإدارة من شغفك بالقراءة ومتابعتك الفكرية؟" فأجابني بثقة العارف: "كلا، لأن جوهر حياتي قائم على القراءة والتفكير، أما العمل الإداري فلم يكن يومًا سوى حاشية عابرة على متن وجودي."

ثمة صورة أخرى، لا تقلّ دلالة عن سابقاتها، نقلًا عن لحظةٍ عابرة لكنها مشبعة بالمعنى: كنت قد نشرتُ في أحد الأيام تنويهًا عن كتاب جاكلين الشابي "ربّ القبائل"، مشيرًا إلى أنه عمل يستحق القراءة، ويستحق التأمّل، ويستحق النقد أيضًا. لم تمضِ سوى دقائق معدودات، حتى تلقيت رسالة من المفكّر العراقي ماجد الغرباوي، يطلب فيها نسخة من الكتاب، حتى وإن كانت بصيغة PDF.

ما كان لهذا التفاعل أن يمرّ مرورًا عابرًا؛ فهو يعكس شغفًا حيًّا لا تنطفئ جذوته، رغم أن صاحبه قد تجاوز السبعين من عمره، ومقيمٌ على بُعد آلاف الأميال، في أستراليا. من لا يعرف الغرباوي، فليعلم أنه من أهم المفكرين العرب- نتاجًا وتحديثًا-، ومن القلائل الذين لا تزال فيهم حرارة السؤال حيّة، أولئك الذين لم يتقاعدوا من التفكير، ولم يتخلّوا عن الملاحقة اليومية لما يصدر، لا بدافع الاستعراض، بل بوصفها نمط وجود، ونبضًا دائمًا للفكر.

هنا، تتجلّى المفارقة: في وقتٍ يتنصّل فيه بعض الشباب من الكتاب بعد أن يظفروا بشهادة، يقف الغرباوي كنموذج مغاير، يثبت أن الفكر ليس محطة عابرة في العمر، بل هو العمر ذاته حين يُعاش بوعي.

***

د. حيدر شوكان سعيد.

جامعة بابل- قسم الفقه وأصوله.

في زمن تتكاثر فيه دعوات الصدام وتضيق فيه مساحات التفاهم، تبرز الحاجة إلى خطاب ديني يتأسس على الرحمة، ويحتفي بالتعدد، ويتفاعل مع العصر بدل أن يعاديه. وفي هذا السياق، تمثّل أطروحات المفكر العراقي عبد الجبار الرفاعي أحد أبرز المشاريع المعاصرة التي تسعى إلى إرساء لبنات خطاب ديني جديد، قادر على تعزيز التعايش بين الأديان والثقافات، وتغذية روح الحوار في مجتمعات مأزومة بالهويات المتنازعة.

يضع الرفاعي "الرحمة" في صلب مشروعه الفكري، ويرى فيها جوهر الدين وغايته الكبرى. هذه الرؤية ليست مجرد دعوة أخلاقية، بل تشكّل مدخلاً تأويليًا لفهم النصوص الدينية والانفتاح على تنوع التجارب الإنسانية. فالخطاب الديني، في تصوره، لا يُفترض أن يكون أداة للفرز العقائدي، ولا منصة لتكفير المختلف، بل جسراً للتواصل وتبادل المعنى بين البشر، أياً كانت معتقداتهم.

يتجلى هذا التوجه في دعوته إلى تأسيس "علم كلام جديد"، يتجاوز النسق التقليدي الذي تبلور في سياقات جدلية دفاعية، وتحول إلى أداة لتعزيز الانغلاق المذهبي والخصومة مع الآخر. وبدلاً من ذلك، ينادي بعلم كلام يستند إلى القيم الكونية والكرامة الإنسانية، ويستوعب التحولات الاجتماعية والفكرية التي يشهدها عالم اليوم.

الرفاعي ليس وحيدًا في هذه الرؤية؛ فعديد المفكرين العرب يلتقون معه في إعادة التفكير في العلاقة بين الدين والإنسان. محمد أركون، مثلاً، دعا إلى تحرير الفكر الإسلامي من سلطة التقليد، من خلال مقاربة نقدية تأويلية تأخذ بالاعتبار التعدد التاريخي والدلالي للنصوص. أما نصر حامد أبو زيد، فقد شدد على ضرورة فهم النص الديني في سياقه، بوصفه خطابًا متغيرًا لا نصًا خارج الزمان والمكان. وإذا كانت مقاربة طه عبد الرحمن الأخلاقية تنطلق من أسس ميتافيزيقية، فإنها تلتقي مع الرفاعي في الدعوة إلى تحصين الخطاب الديني من التوظيفات الإقصائية والسلطوية.

يتميّز خطاب عبد الجبار الرفاعي بأنه لا يكتفي بالنقد، بل يقترح بدائل فكرية تأسيسية: تدينٌ يقوم على الوعي الحر، لا على التلقين، وعلى الانفتاح الروحي لا على الانغلاق العقائدي. إنّه يدعو إلى أن يُفهم الدين كتجربة أنطولوجية داخلية، يعيشها الإنسان في بحثه عن المعنى والسلام، لا كمنظومة جاهزة من الأوامر والنواهي التي تفترض السيطرة على الآخر.

هذه الرؤية تكتسب راهنيتها في ظل التوترات الهوياتية التي تعيشها المجتمعات العربية، حيث يُستدعى الدين غالبًا في سياقات صراع لا في فضاءات تفاهم. لذا فإن مشروع الرفاعي يقدّم نموذجًا عمليًا لتفكيك خطاب الكراهية، من خلال إعادة بناء العلاقة مع النصوص، وتحويل القيم الدينية إلى قوة ناعمة تبني الجسور بدل أن تهدمها.

لقد أوجد الرفاعي لنفسه موقعًا متقدماً في ساحة الفكر الإسلامي المعاصر، لا بوصفه ناقدًا للتقليد فحسب، بل باعتباره صانعًا لرؤية جديدة، تُعلي من شأن الإنسان، وتمنح التعدد حقه في الوجود. إن التعايش، في رؤيته، ليس مجرّد تعايش سلبي خاضع للاضطرار، بل هو اختيار فكري وروحي يتجذر في وعي ديني رحيم وإنساني.

مشروع الرفاعي يحاور الغرب لا ليهاجمه أو ينكر منجزه، بل ليتفاعل معه ويستفيد منه، ويؤسس لمجال ديني منفتح لا يتوجس من الآخر المختلف دينيًا أو ثقافيًا. وفي عالم تسوده صراعات الهويات، تصبح هذه الرؤية ضرورة لا ترفًا. وما يميز هذا المشروع هو أنه لا يتوجه للنخب الفكرية فقط، بل يسعى إلى التأثير في المجال العام، عبر كتاباته ومؤلفاته ومشاركاته في الحوارات العابرة للثقافات، ما يجعله من بين الأصوات القليلة التي استطاعت أن تحوّل الفكر إلى أداة للمصالحة وبناء جسور الثقة.

إن الحاجة إلى أمثال عبد الجبار الرفاعي اليوم ليست فكرية فحسب، بل وجودية أيضًا؛ لأنه يقدم طرحًا يعيد الثقة في قدرة الدين على أن يكون عاملًا للسلام، لا عنصرًا في معادلة الصدام. وحين نعيد اكتشاف الدين في بعده الإنساني والروحي، نصبح أقدر على خلق فضاء مشترك يتسع للجميع

***

د. هدى لحكيم بناني- دكتوراه في الفكر الاسلامي والعقيدة و الحوار.

تلعب العادات والتقاليد الاجتماعية المتوارثة دورًا محوريًا في تشكيل السلوك السياسي في المجتمعات العربية، إذ تشكّل هذه العادات جزءًا من البنية الثقافية العميقة التي تحدد أنماط التفكير والتفاعل الاجتماعي والسياسي للأفراد، وكما أشار عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو، فإن "الهابيتوس" أو "العادة المتجذرة" تساهم في إعادة إنتاج نفس الأنماط السلوكية ضمن الحقول الاجتماعية المختلفة، ومنها الحقل السياسي، حيث يُكتسب السلوك السياسي من خلال التنشئة الاجتماعية التي تبدأ في الأسرة وتمتد إلى الجماعة والقبيلة والدولة.

في هذا السياق، تمثل العادات الاجتماعية في المجتمعات العربية، لا سيما في دول مثل العراق وسوريا وتونس وليبيا، مرجعية أساسية في بناء الهوية والانتماء، فقد شهدت هذه الدول تحولات سياسية جذرية خلال العقدين الأخيرين، أظهرت مدى تغلغل البنى الاجتماعية التقليدية في المجال السياسي، فعلى سبيل المثال، ما زالت الثقافة القبلية والعشائرية تشكل إطارًا مرجعيًا للفرد في مواقفه السياسية، حيث يُقدَّم الانتماء للعشيرة أو الطائفة على الانتماء للدولة أو الحزب، وتُبنى التحالفات السياسية أحيانًا على أساس قرابة الدم أكثر من القناعات الأيديولوجية.

من الجانب الإيجابي، تساهم هذه العادات في تعزيز قيم التضامن والتكافل الاجتماعي، وهي عناصر ضرورية لبناء شبكات اجتماعية قادرة على التحرك الجماعي، خاصة في فترات الأزمات والتحولات، فقد بينت النظريات الاجتماعية، مثل نظرية رأس المال الاجتماعي لـ “روبرت بوتنام"، أن المجتمعات التي تتمتع بروابط اجتماعية قوية تكون أكثر قدرة على المشاركة المدنية والسياسية، وهذا ما لوحظ خلال بدايات الحراك التونسي أو الانتفاضة السورية، حيث لعبت الروابط العائلية والمجتمعية دورًا في تحفيز المشاركة السياسية والمقاومة الشعبية.

إلا أن هذه العادات لا تخلو من جوانب سلبية، خصوصًا عندما تتحول إلى أدوات تعزز الانغلاق والتمييز، فالنزعة نحو الولاءات الضيقة للعشيرة أو الطائفة أو الجهة الجغرافية تعيق تشكّل دولة المواطنة، إذ تضعف من فكرة الانتماء العام للمجتمع السياسي الموحد، وقد تجلت هذه الإشكالية في التجربة العراقية بعد 2003، حيث عرقلت المحاصصة الطائفية والعشائرية بناء نظام سياسي متماسك، بل ساهمت في تفكيك الدولة إلى كيانات متنازعة، وينطبق الأمر ذاته على ليبيا، حيث أدى انهيار النظام المركزي إلى بروز كيانات محلية قبلية ومناطقية أعاقت توحيد السلطة.

كذلك، فإن بعض القيم الاجتماعية التقليدية، تفرز ثقافة سياسية تقوم على الطاعة أكثر من المساءلة، وهذا ما يجعل من الصعب ترسيخ تقاليد ديمقراطية تقوم على النقد والمحاسبة، فالعديد من المواطنين في العالم العربي، بسبب التنشئة الاجتماعية، لا يرون في الحاكم موظفًا عامًا يمكن تقييم أدائه، بل شخصية أبوية ذات شرعية تقليدية، مما ينعكس على ضعف المشاركة السياسية الفعالة وتدني ثقة الأفراد بالمؤسسات الرسمية.

مع ذلك، بدأت تظهر ملامح تحول اجتماعي في بعض المجتمعات، وخصوصًا بين فئات الشباب، فقد ساهمت التكنولوجيا الحديثة، وخصوصًا وسائل التواصل الاجتماعي، في تفكيك بعض البنى الاجتماعية التقليدية وإعادة تشكيل قيم جديدة ترتكز على المشاركة والمساواة والحرية الفردية، وتُظهر الدراسات الحديثة أن الأجيال الجديدة في دول مثل تونس والمغرب ولبنان باتت أكثر انخراطًا في النقاشات السياسية وأكثر استعدادًا لتجاوز الانقسامات التقليدية على أساس العائلة أو الطائفة.

إن فهم السلوك السياسي في العالم العربي يتطلب إدراكًا عميقًا لتأثير العوامل الاجتماعية والثقافية، وليس فقط السياسية والاقتصادية، فكما تؤكد المقاربة الثقافية في علم الاجتماع السياسي، لا يمكن تحليل الحراك السياسي دون الأخذ بعين الاعتبار "الثقافة السياسية" التي تُشكّل الوعي الجمعي وتوجهات الأفراد، ومن هنا، فإن أي مشروع إصلاحي أو تحولي حقيقي في العالم العربي ينبغي أن يتعامل مع العادات الاجتماعية لا كعقبة فقط، بل كمورد قابل لإعادة التوظيف بما يخدم بناء الدولة الحديثة، فبدلاً من السعي لقطع العلاقة مع الماضي، يمكن العمل على تجديد هذه العادات وتطويرها لتصبح داعمًا لمفاهيم المواطنة والعدالة والشفافية، وذلك من خلال إصلاح منظومات التعليم والإعلام والتنشئة السياسية، بما يعزز الانتماء الوطني ويضعف الولاءات الضيقة، بهذه الطريقة، يمكن تحويل العادات الاجتماعية من قيد يكبّل التقدم السياسي إلى رافعة تُسهم في إنجاحه.

***

كفاح محمود

 

تُعد الفنون الشعبية من أهم العناصر التي تُسهم في تشكيل الهُوية الوطنية لدى الشعوب، حيث تعكس القيم والتقاليد والعادات التي تميّز كل مجتمع عن غيره. فالفنون الشعبية، بما تشمل من موسيقى ورقص وحِرف يدوية وأدب شفاهي، ليست مجرد مظاهر جمالية، بل هي سجلّ ثقافي يحمل في طياته التأريخ والهُوية والتجربة المشتركة للأجيال. الى جانب دورها المحلي، تعد أداة مهمة في تعريف العالم بالهُوية الوطنية للشعوب. فالمهرجانات الدولية، والمعارض الثقافية، والأفلام الوثائقية، تساهم في تقديم صورة مميزة عن ثقافة الدولة، مما يعزز مكانتها عالمياً.

إن الفنون الشعبية بمختلف أشكالها، تعد مكوناً أساسياً في نسيج الُهُوية الوطنية، حيث تعكس العادات والتقاليد والتراث الثقافي الذي يُميز كل شعب عن غيره. فهي ليست مجرد تعبيرات فنية، بل أدوات قوية لنقل القيم والثقافة من جيل الى آخر، وترسيخ الشعور بالإنتماء والوحدة الوطنية. كونها تعمل على تعزيز مشاعرالفخر والإنتماء لدى الأفراد، إذ تعكس القصص والتجارب المشتركة التي توحد أفراد المجتمع الواحد. فمثلاً، الأغاني التراثية تروي أحداثاً تأريخية وتجسد النضال الوطني والحماسة، مما يربط الأجيال الحديثة بتأريخها ويجعلها أكثر وعياً بجذورها الثقافية. كما هي تُعتبروسيلة حيّة لنقل المعرفة والقيم الثقافية عبر الزمن.

 فالروايات الشفاهية، والأمثال الشعبية، والأغاني التقليدية، تحمل في طياتها حِكّماً وتجارب إنسانية تعكس روح المجتمع وتجاربه. كما أن الحِرف اليدوية، والفنون البصرية، تُمثل سجّلاً حقيقياً لأساليب الحياة والمهارات التي تطورت على مرّ العصور.

ففي ظل العولمة، بات من السهل أن تتأثر الثقافات المحلية بالأنماط العالمية، مما قد يؤدي الى إندثار بعض الفنون التقليدية. لذا، تلعب الفنون الشعبية دوراً حاسماً في الحفاظ على التقاليد الثقافية من خلال إعادة إحيائها ودمجها في السياقات الحديثة، مثل إستخدامها في الموسيقى المعاصرة، أو توظيفها في الفنون الرقمية ووسائل الإعلام الجديدة.

وبحكم التغيرات السريعة في عصر العولمة، تزداد أهمية الفنون الشعبية في الحفاظ على الهُوية الوطنية، إذ تساعد على مواجهة التحديات التي تُهدد الذاكرة الجمعية للشعوب، مثل التأثيرات الثقافية الخارجية والإندماج في نماذج ثقافية عالمية قد تؤدي الى تآكل الهُويات المحلية. فالفنون الشعبية، تساعد في تعزيز الشعور بالإنتماء الى الوطن من خلال المحافظة على التراث الثقافي الذي يجمع أبناء المجتمع تحت هُوية واحدة.

كما تلعب دوراً كبيراً في نقل الموروث الثقافي من جيل الى آخر، مما يضمن إستمرار القيم والتقاليد عبّر الزمن. فمن خلال مشاركة الفنون الشعبية في المناسبات الوطنية والاحتفالات، يتم تعزيز الروابط بين أفراد المجتمع، بغض النظر عن الفروقات الاجتماعية أو الجغرافية أو القومية أو العرقية أو الدينية. فهية وسيلة فعّالة لتعريف العالم بالثقافة الوطنية، حيث تُستخدم في المهرجانات والعروض الدولية لإبراز الطابع الفريد لكل مجتمع. فضلاُ عن ذلك، فالفنون الشعبية تُسهم في إثراء الفنون المعاصرة، حيث يعتمد الفنانون على العناصرالتقليدية في إبداع أشكال من الفنون تُعبر عن الُهُوية الوطنية بروح عصرية.

أشكال الفنون الشعبية وأثرها على الهُوية الوطنية

تعكس الموسيقى الشعبية والموشحات والأغاني التقليدية روح المجتمع وتُعبّر عن مشاعره وتجاربه. فمن أغاني العمل الى الأغاني الوطنية، تحمل الكلمات والألحان معاني عميقة تروي حكايات الأجداد وتجسد الأحداث التأريخية. كذلك ترتبط الرقصات الشعبية بالمناسبات الإجتماعية والدينية، مثل الدبكة في بلاد الشام، ورقصة (الجوبي) في جنوب وغرب العراق ورقصات الكرد في كردستان العراق، والعراضة في دول الخليج العربي، والفلامنكو في بلاد الإسبان، ورقصة السامبا في البرازيل. وهي تعبيرات جسدية ترمز الى الوحدة والتعاون، كما إنها وسيلة لنقل القيم الثقافية للأجيال اللاحقة.

كما تُعد الحِرف اليدوية والفنون التقليدية من الصناعات التقليدية، مثل النسيج وصناعة الفخار والخزف والنحت، جزءاً مهماً من الهُوية الوطنية، حيث تحمل هذه الأعمال الفنية أنماطاً وزخارف تعكس خصائص كل منطقة. وفي عصر التكنولوجيا، يتم إعادة إحياء هذه الحِرف من خلال دمجها في التصاميم الحديثة، مما يساعدعلى إستمرارها.

ويشكل الأدب الشفاهي، كالحكايات الشعبية والأساطير، سجلاً ثقافياً هاماً يحمل الحكمة والقيم المجتمعية. وتُعد هذه الحكايات مصدر إلهام للأدب المكتوب والمسرح والسينما، حيث يتم إعادة تقديمها بطرق حديثة تلائم العصر الحالي. ومن الجدير بالذكر، فأن للأزياء التقليدية لها أشكالها وألوانها وعمق دلالتها، وتعكس عمق تأريخ البلدان مما كانت ترتبط به من أزياء، التي تشير الى  هُوية كل مجتمع، وتُعبر عن بيئته وثقافته. وقد أصبحت اليوم مصدر إلهام لمصممي الأزياء، حيث يتم دمجها في الموضة الحديثة للحفاظ على التراث وإبرازه عالمياً.

الفنون الشعبية في العصر الحديث: التحديات والفرص

مع تطور التكنولوجيا، يواجه التراث الشعبي تحديات كبيرة مثل العزوف عن الفنون التقليدية، وتأثير الثقافات الأخرى، والإندثار التدريجي لبعض الممارسات. ومع ذلك، توفر التكنولوجيا فرصاً جديدة للحفاظ على هذا التراث ونشره عالمياً، وذلك من خلال الرقمنة والتوثيق الإلكتروني، حيث يمكن توثيق الأغاني والحكايات والرقصات الشعبية عبر المنصات الرقمية، مما يضمن الحفاظ عليها للأجيال القادمة. كما يمكن لوسائل التواصل الإجتماعي أن تأخذ دورها، حيث أصبحت منصات مثل اليوتيوب والإنستغرام والتيك توك، وسائل فعالة لنشر الفنون الشعبية وتعريف الشباب بها بأسلوب حديث. بالإضافة الى ذلك، بأمكان الدمج مع الفنون الحديثة، حيث يتم دمج العناصر التراثية مع الموسيقى الحديثة، والفنون الرقمية، والأزياء العصرية، مما يسهم في إبقاء الفنون الشعبية حيّة وقابلة للتطور.

تُعد الفنون الشعبية عنصراً أساسياً في بناء الهُوية الوطنية والحفاظ على التراث الثقافي للشعوب. فهي ليست مجرد مظاهر إحتفالية، بل لغة حيّة تعكس القيم والمعتقدات والتأريخ المشترك. وفي ظلّ تحديات العصر الحديث، تظّل مسؤولية الحفاظ على هذا التراث مسؤولية مشتركة بين الأفراد والمؤسسات الثقافية والحكومات. ومن خلال دمج الفنون الشعبية في مجالات جديدة، مثل التكنولوجيا والإعلام، يمكن إستمرار هذا الإرث الثقافي للأجيال القادمة، وتعزيز حضور الهُوية الوطنية في المشهد العالمي.

الفنون الشعبية ليست مجرد جزء من الماضي، بل هي أساس متين يساعد في تشكيل المستقبل الثقافي للأمم. من خلال الحفاظ عليها وتعزيزها، تحافظ الشعوب على هُويتها الوطنية وتساهم في تقوية أواصر الوحدة بين أفرادها، مما يجعلها ركيزة أساسية في بناء المجتمعات القوية والمستدامة.

***

د. عصام البرّام - القاهرة

في المثقف اليوم