قضايا

يشكل الفساد المالي والاداري في العراق عقبة كأداء امام التنمية المستدامة، حيث يستنزف موارد الدولة ويحرم المواطنين من حقوقهم. هذا الفساد المنهجي يكلف العراق ملايين الدولارات سنويا، مما يعيق حل المشاكل الاقتصادية ويؤثر سلبا على مستوى المعيشة. ومع ضعف الاليات الحالية لمكافحة الفساد، تبرز الحاجة الى حلول مبتكرة. يعتبر الذكاء الاصطناعي احد هذه الحلول، حيث يمكنه ان يكون سلاحا فعالا في الكشف عن شبكات الفساد ومحاربته في مختلف القطاعات.

دور الذكاء الاصطناعي في مكافحة الفساد

يمكن للذكاء الاصطناعي ان يلعب دوراً حاسماً في مكافحة الفساد في العراق من خلال عدة طرق:

مساعدة هيئة النزاهة في الكشف عن الفساد:

يمكن للذكاء الاصطناعي ان يكون حليفا قويا لهيئة النزاهة العراقية في معركتها ضد الفساد، فهو قادر على تحليل كميات هائلة من البيانات المالية والادارية بكفاءة ودقة عالية، مما يكشف عن انماط مشبوهة يصعب على البشر ملاحظتها. من خلال تعلم الالة وتحليل النصوص والرؤية الحاسوبية، يمكن للذكاء الاصطناعي كشف الاحتيال وتتبع شبكات الفساد وتقييم مخاطر الفساد في المشاريع الحكومية والشركات. يمكن للانظمة الذكية تحليل ملايين من المعاملات المالية وعقود المشاريع واقرارات الذمة المالية للكشف عن اي انماط غير عادية او متناقضة قد تدل على فساد، كما يمكنها تتبع التدفقات المالية بين الافراد والشركات لتحديد شبكات الفساد المعقدة ومقارنة البيانات الضريبية للشركات والافراد مع بيانات الدخل والمصروفات الاخرى للكشف عن اي تلاعب او سرقة مالية من الدولة. بالاضافة الى ذلك، يمكن للذكاء الاصطناعي تحليل النصوص والمستندات للكشف عن التلاعب بالوثائق وتحليل العقود واستخراج المعلومات المهمة من كميات كبيرة من النصوص القانونية والتنظيمية. كما يمكن للانظمة الذكية تقييم مخاطر الفساد في المشاريع الحكومية والشركات والبحث عن المؤشرات المبكرة للفساد مثل زيادة غير مبررة في الثروة او تغير مفاجئ في نمط الانفاق. علاوة على ذلك، يمكن للذكاء الاصطناعي اتمتة العديد من المهام الروتينية مثل تدقيق الفواتير واصدار التراخيص مما يقلل من فرص التدخل البشري والفساد ويزيد من كفاءة عمل المؤسسات الحكومية. كما يمكن للانظمة الذكية تحليل محتوى وسائل التواصل الاجتماعي للكشف عن معلومات حساسة قد تشير الى فساد مثل نشر معلومات سرية او التفاخر بالثروات غير المشروعة. وبأستخدام الذكاء الاصطناعي يمكن لهيئة النزاهة العراقية تحقيق نتائج افضل في مكافحة الفساد وتعزيز الشفافية والمساءلة في المؤسسات الحكومية.

مثال على تطبيقات الذكاء الاصطناعي: يمكن للذكاء الاصطناعي تحليل بيانات المشاريع الحكومية للكشف عن اي تضارب في المصالح او ارتفاع غير مبرر في الاسعار، ورصد التحويلات المالية للمسؤولين الحكوميين والشركات المرتبطة بهم للكشف عن اي انشطة مشبوهة، وتحليل عقود النفط والغاز للكشف عن اي بنود غير عادلة او مخالفة للقانون.

تحليل البيانات الضخمة:

يمثل الذكاء الاصطناعي ثورة في مكافحة الفساد، فهو قادر على تحليل كميات هائلة من البيانات المالية والادارية بكفاءة ودقة عالية، مما يكشف عن انماط مشبوهة يصعب على البشر ملاحظتها. ويمكن للذكاء الاصطناعي تطوير نماذج تتنبا بالاحتيال المالي والاداري، مما يساعد على منع وقوع الجرائم قبل وقوعها.

رصد التلاعب بالبيانات:

يمكن للذكاء الاصطناعي ان يكشف بدقة عالية عن التلاعب بالبيانات والمستندات الرسمية التي غالبا ما تكون حجر الاساس لعمليات الفساد، وذلك من خلال مقارنة البيانات الاصلية بنسخها المعدلة، وتحليل الانماط والتشوهات التي تدل على التلاعب، مما يساهم في كشف المحاولات الخبيثة لاخفاء الادلة وعرقلة سير العدالة.

تحليل وسائل التواصل الاجتماعي:

يمتلك الذكاء الاصطناعي القدرة على فحص وتحليل كميات هائلة من البيانات المتاحة على منصات التواصل الاجتماعي، مما يمكنه من كشف معلومات حساسة قد تشير الى وجود فساد، وبالتالي يساهم في الكشف عن شبكات الفساد وتتبع تحركات الفاسدين.

اتمتة العمليات:

يمكن للذكاء الاصطناعي ان يحول المؤسسات الحكومية العراقية الى بيئة عمل اكثر شفافية وكفاءة، وذلك من خلال اتمتة العديد من العمليات الروتينية مثل معالجة المعاملات واصدار التراخيص وتدقيق الفواتير. هذه الاتمتة تقلل بشكل كبير من التدخل البشري وتحد من فرص الفساد المستشرية في الرشاوى والمحسوبية، مما يساهم في بناء نظام حكومي اكثر عدالة وشفافية، ويعزز الثقة بين المواطنين والمؤسسات.

تحديات وتوصيات:

على الرغم من الامكانات الواعدة التي يوفرها الذكاء الاصطناعي في مكافحة الفساد، الا ان تطبيقه الفعال يتطلب التغلب على مجموعة من التحديات. اولا، تعتمد فعالية انظمة الذكاء الاصطناعي بشكل كبير على جودة البيانات المدخلة، فبيانات غير دقيقة او ناقصة قد تؤدي الى نتائج مضللة. ثانيا، يجب الحفاظ على خصوصية البيانات الشخصية، خاصة وان الذكاء الاصطناعي يتعامل مع كميات كبيرة من المعلومات الحساسة. ثالثا، تتطلب تطبيقات الذكاء الاصطناعي استثمارات مالية كبيرة في البنية التحتية التقنية والتدريب والتطوير. واخيرا، يتطلب استخدام الذكاء الاصطناعي وجود كوادر بشرية مؤهلة قادرة على تصميم وتشغيل هذه الانظمة واتخاذ القرارات المستنيرة بناء على النتائج التي تقدمها. بالتالي، فان نجاح دمج الذكاء الاصطناعي في جهود مكافحة الفساد يتطلب تخطيطا استراتيجيا شاملا وتعاونا بين مختلف الجهات المعنية.

لتحقيق اقصى استفادة من الذكاء الاصطناعي في مكافحة الفساد، يجب اتخاذ الاجراءات التالية:

لتحقيق اقصى استفادة من الذكاء الاصطناعي في مكافحة الفساد في العراق، يتطلب الامر جهوداً متكاملة ومتسلسلة. اولا، يجب بناء قدرات الكوادر العاملة في مجال مكافحة الفساد من خلال برامج تدريبية مكثفة تركز على استخدام ادوات الذكاء الاصطناعي المتقدمة في تحليل البيانات وتطوير النماذج التنبؤية. ثانيا، يتعين سن تشريعات وقوانين واضحة تنظم استخدام الذكاء الاصطناعي في مكافحة الفساد، مع ضمان الحفاظ على الخصوصية وحماية البيانات الشخصية. ثالثا، يجب تعزيز التعاون الدولي من خلال تبادل الخبرات والمعرفة مع الدول التي حققت تقدما ملحوظا في هذا المجال، والاستفادة من الحلول التقنية الناجحة. رابعا، يجب ضمان الشفافية في استخدام الذكاء الاصطناعي من خلال نشر المعلومات حول اليات العمل والنتائج المحققة، مما يعزز الثقة في هذه التقنية. وفي السياق العراقي، يمكن للذكاء الاصطناعي ان يلعب دورا حاسما في تحليل عقود المشاريع الحكومية وتتبع التدفقات المالية والكشف عن التلاعب بالبيانات، مما يساهم في مكافحة الفساد في قطاعات النفط والغاز والمشتريات الحكومية. علاوة على ذلك، يمكن الاستفادة من قدرات الشباب العراقي في مجال التكنولوجيا لابتكار حلول مبتكرة تعتمد على الذكاء الاصطناعي لمواجهة تحديات الفساد. ومع ذلك، يجب توفير البيئة المناسبة لدعم هذه المبادرات من خلال توفير الموارد اللازمة وتشجيع الابتكار.

الاستفادة من التجارب العالمية:

يمكن للعراق الاستفادة من تجربة سنغافورة في استخدام نظام الكتروني شفاف للحكومة. يمكن تطوير نظام مماثل في العراق لجمع وتحليل البيانات المتعلقة بالمشاريع الحكومية والعقود والمالية العامة. من خلال استخدام الذكاء الاصطناعي، يمكن الكشف عن اي انماط مشبوهة او مخالفات للقانون في وقت مبكر، مما يساعد في منع وقوع الفساد.

دور المجتمع المدني في مكافحة الفساد باستخدام الذكاء الاصطناعي:

يلعب المجتمع المدني دوراً محورياً في مكافحة الفساد، خاصة عندما يتعلق الامر باستخدام التقنيات الحديثة مثل الذكاء الاصطناعي. يمكن للمجتمع المدني ان يساهم في هذا المجال من خلال تطوير تطبيقات وادوات رقمية مبنية على الذكاء الاصطناعي تساعد المواطنين على الابلاغ عن حالات الفساد وتتبع سير التحقيقات، وبناء الوعي بأهمية النزاهة ومكافحة الفساد وتدريب المواطنين على استخدام الادوات الرقمية لمكافحة الفساد ومراقبة اداء المؤسسات الحكومية ومقارنتها بالمعايير الدولية للشفافية والنزاهة والشراكة مع الحكومة في تطوير وتنفيذ استراتيجيات مكافحة الفساد القائمة على الذكاء الاصطناعي واجراء البحوث والدراسات حول اثر الفساد على المجتمع وتقييم فعالية الاجراءات المتخذة لمكافحته واقتراح حلول مبتكرة والدفاع عن حقوق المواطنين في الوصول الى المعلومات والعدالة ومحاسبة المسؤولين عن الفساد. من خلال الاستثمار في التكنولوجيا وبناء القدرات، يمكن للمجتمع المدني ان يساهم في بناء مجتمع اكثر عدلا وشفافية.

كيف يمكن للذكاء الاصطناعي من مكافحة الفساد المتجذر في اركان السلطة؟

حقيقة ان الفساد عندما يكون متجذرا في اركان السلطة يشكل تحديا كبيرا لمكافحته. ومع ذلك، فان الذكاء الاصطناعي يقدم ادوات قوية يمكن ان تساعد في مواجهة هذه القوى المتنفذة، حتى في ظل وجود حكومة فاسدة. يمكن للذكاء الاصطناعي ان يساهم في الكشف عن الانماط المشبوهة في البيانات الضخمة، وتعزيز الشفافية من خلال منصات البيانات المفتوحة وتمكين المجتمع المدني بادوات تحليل البيانات المتقدمة وحماية المبلغين عن الفساد وبناء بدائل لانظمة الحوكمة الفاسدة. وبذلك، يمكن للذكاء الاصطناعي ان يكشف الفساد ويعزز الشفافية ويمكّن المجتمع المدني ويحمي المبلغين عن الفساد ويبني بدائل للانظمة الفاسدة. ولكن، يجب التاكيد على ان الذكاء الاصطناعي ليس حلا سحريا، فهو اداة قوية، ولكن يجب استخدامه ضمن اطار اوسع من الاصلاحات السياسية والمؤسساتية. كما يجب ان يكون هناك ارادة سياسية حقيقية لمكافحة الفساد، حتى يتمكن الذكاء الاصطناعي من تحقيق اقصى تاثير.

خاتمة

الذكاء الاصطناعي يمثل اداة قوية يمكن ان تساهم بشكل كبير في مكافحة الفساد في العراق. ومع ذلك، يجب التعامل مع هذه التقنية بحذر وبناء الاطار القانوني والتقني اللازم لضمان استخدامها بشكل فعال وامن. من خلال الاستثمار في الذكاء الاصطناعي، يمكن للعراق تحقيق تقدم كبير في مكافحة الفساد وبناء دولة المؤسسات والقانون.

***

ا. د. محمد الربيعي

.....................

* بروفسور ومستشار علمي مهتم بقضايا التربية والتعليم في العراق، جامعة دبلن

مقال له علاقة: محمد الربيعي. الذكاء الاصطناعي موّلد او مسرّع للابتكارات العلمية ؟ www.azzaman.com

في هذا الملف نسلط الضوء على سوء الإدارة البيئية والتخبط والفشل في عمل وزارة البيئة العراقية ومؤسساتها،خلال العقدين الأحيرين، متضمناً إستعراضاً لقرارات وخطط وبرامج ومشاريع وطنية مقررة لتحسين البيئة، لم تُنفذ، أو فشلت، أو ظلت حبراً على ورق، نتيجة للتخبط والعشوائية وحتى التقصير، والضحك على الذقون بالوعود المعسولة التي لم تتحقق...

تأريخياً، يُسجل لحماة البيئة العراقية أنهم أول من طالب بإستحداث وزارة للبيئة، وإستبشروا خيراً حال تشكيلها في عام 2003، معولين ان تنهض عاجلآ ، بمعالجة التركة الثقيلة من المشكلات البيئية، وفي مقدمتها التلوث البيئي، خاصة التلوث الإشعاعي، والنفايات، خصوصاً المخلفات الحربية، وتحسين جودة الهواء والمياه والتربة، ودرء تداعيات التغيرات المناخية، الى جانب إدارة الموارد الطبيعية، وبالتالي تحسين الواقع البيئي المزري..

بيد أنه سرعان ما خاب التعويل على وزارة البيئة  إثرَ إفتقارها طيلة سنوات لتخطيط بيئي استراتيجي سليم، بل وتخبطها وانتهاجها للعشوائية في اتخاذ القرارات وأنجاز المهمات، وبالتالي لم يحصل أي تحسن في معالجة المشكلات البيئية، بل وتفاقمت أكثر.

ولابد من توضيح ان ذلك  يعود لعوامل عديدة ، ومنها ما فرض على الوزارة فرضاً وأثر كثيراً على عملها..

ومن أبرز العوامل التي أثرت على الوزارة وأعاقت عملها:

أولآ- إعتبار مهمة الوزارة رقابية، وليست تنفيذية.والإصرار على ذلك مع أنه كان بالمستطاع جعلها رقابية وتنفيذية في اَن واحد.

تانياً- وجهت للوزارة ضربة موجعة بتجريدها من إستقلاليتها،عبر دمجها بوزارة الصحة، مما أربك عملها كثيراً .

ثالثاً- أفضى تكرار جعلها مرة مستقلة ومرة مُدمجة ومن جديد مستقلة،الى عدم إستقرارها، وشل عملها، وجعلها تتخبط وترتبك وحتى الفشل في جوهر مهماتها الأساسية المأمولة - تحسين وحماية البيئة.

رابعا- تجاهل الحكومات المتعاقبة بشكل صارخ للمشكلات البيئية القائمة، مجسداً بإهمال دعم عمل الوزارة، وعدم توفير كل ما إحتاجت إليه من كوادر علمية وفنية ومعدات حديثة، وغيرها.

خامساً- بؤس المخصصات السنوية..يكفي ان تعرفوا ان مخصصاتها  التشغيلية والإستثمارية في عام 2023 كانت (0.03 في المائة)  من إجمالي الموازنة العامة (198 تريليون دينار). وقد أعاق ذلك تنفيذ الكثير من المشاريع الحيوية.

علماً بان الفقر المالي للوزارة جعلها ان لا تكون ضمن قوائم  المؤسسات الخاضعة المحاصصة الطائفية والإثنية، وليست مرغوبة من قبل الأحزاب المتنفذة.

سادساً- تناوب على إدارتها 8 وزراء، أغلبهم لا علاقة له بالبيئة ومشكلاتها، ولذا لم ينجحوا في إدارتها.

سابعاً- الظاهرة المُعيبة في إدارة الوزارة، والوزارات الأخرى، ألا وهي إنعدام المراجعة وتقييم الأداء، حيث لم يكلف غالبية الوزراء أنفسهم عناء متابعة وتدقيق ما صدر من خطط وإجراءات في الفترة السابقة لهم، ليستفيدوا، ولا نقول ليتعلموا من إيجابيات ما تم إنجازه، وتطويره، الى جانب الوقوف على الأخطاء والنواقص لتجنب تكرارها. وقد تجسد ذلك بإهمال  كل وزير جديد  لمنجز من سبقه، بما في ذلك من قرارات وتوجهات مهمة، مدروسة ومقرورة.

ثامناً- تجاهل وإهمال الوزارة لكل ما قُدِمَ لها خلال عقدين من دراسات ومشاريع ومقترحات وتوصيات علمية وبناءة، وبضمنها لمؤتمرات علمية دولية كُرِست لمعالجة التلوث باليورانيوم في العراق.وتجاهلت حملة دولية نُظِمت لمساعدة العراق  على تنظيف بيئته من المخلفات المشعة، وغيرها.

تاسعاً تستر (مركز الوقاية من الإشعاع) التابع للوزارة على خطورة التلوث الإشعاعي، وخاصة إشعاعات اليورانيوم المنضب، الناجمة عن إستخدام الأسلحة المصنعة من نفايات نووية خطيرة على العراق في حربين مدمرتين. وبدلآ من توعية المواطنين بمخاطره، إنزلق الى مستوى الكذب نفياً وتعتيماً عليه، وأوقع نفسه في فضيحة مجلجلة، مغطياً على حجم المواقع الملوثة وعلى ما أحدثته الأسلحة المذكورة من كوارث صحية وبيئية وخيمة،على حساب صحة وحياة العراقيين، فقد حصدت الأمراض السرطانية، والولادات الميتة والإجهاضات والتشوهات الخلقية، وغيرها من العلل غير القابلة للعلاج، مئات الألاف من ضحايا الإشعاعات..

عاشراً- المبالغة وتضخيم إعلام الوزارة لما يصرح به كل وزير جديد، لدرجة إعتباره "إنجازاً كبيراً" و "رؤية متقدمة" و"خطة لا مثيل لها"، وما الى ذلك، ولم يتم بعد البدء بتنفيذه.

وهذا جزء من ظاهرة شاخصة وهي كثرة التصريحات والمبالغت.

حادي عشر-التستر والتعتيم، من جهة، والمبالغة والتضخيم، من جهة أخرى، وكثرة الوعود المعسولة التي لم تنفذ، جميعها أثرت كثيراً على مصداقية الوزارة، وجعلت المواطنين يفقدون الثقة  بمشاريعها، وإقتراناً بذلك رفضوا تنفيذ تعليماتها والتعاون معها.

ثاني عشر- لم يغتنم وزراء البيئة فرصة وجودهم على رأس (مجلس حماية وتحسين البيئة الأتحادي) بوصفه أعلى سلطة بيئية، قانونياً، لتحقيق إنجازات بيئية مهمة. وظل عمل المجلس روتينياً حتى يومنا هذا.

ثالث عشر- تجاهل أو عدم إدراك بان نجاح تنفيذ أي خطة أو مشروع وطني مرتبط وثيق الإرتباط بالحالة الأقتصادية- الإجتماعية لغالبية المواطنين، الى جانب مستوى الوعي البيئي في المجتمع.وان النجاح لن يتحقق في ظل مستوى معيشة متدني ويعاني المواطنون من الفقر والحرمان، وأرباب العوائل غاجزين عن تأمين لقمة عيش أطفالهم، وجل إهتمامهم منصب على ذلك، ولا مجال للمواطن للتفكيربالبيئة.,

رابع عشر- عدم إدراك ان تنفيذ الخطط والمشاريع  الوطنية المطروحة لا يتوقف على الوزارة وحدها، وإنما يستلزم مشاركة جماعية فاعلة من قبل كافة الوزارات والمؤسسات المعنية، إضافة لمنظمات المجتمع المدني ذات العلاقة.

لقد لوحط بان جميع وزراء البيئة دعوا الى هذه المشاركة، ولكن نادراً ما تحققت. ولم نعثر على دراسة وزارية بحثت في أسباب ظاهرة عدم حصول المشاركة الجماعية فعلياً.وهذا يعني عدم الإهتمام بها.

خلاصة القول: ان كل ما مر ذكره، بدءاً من الإصرار على ان مهمة الوزارة رقابية وليست تنفيذية، وعدم جعلهاة رقابية وتنفيذية،في اَن واحد، ودمجها مع وزارة الصحة، وبذلك تم تجريدها من إستقلاليتها، وعدم وضع الحكومات المتعاقبة أزمة البيئة ضمن أولوياتها، والمخصصات البائسة، وعدم  إجراء متابعة ولا مراجعة ولا محاسبة، لعملها،طيلة عقدين، الخ، جعل الوزارة  ومؤسساتها موضع إنتقادات موضوعية وجدية  كثيرة، وجهت وتوجه لها لكونها غير فعالة في عملها، ولا دور لها يذكر في معالجة المشكلات البيئية. وبالتالي فشلت في تنفيذ الستراتيجيات والخطط والبرامج العديدة التي أطلقتها رغم مرور أعوام طويلة على إعلانها، وبالتالي لم يتحسن الواقع البيئي المزري، بل وتفاقمت المشكلات البيئية أكثر.

ولا أدل على ذلك من تذيل العراق في "مؤشر الأداء البيئي العالمي" (EPI)، منذ عام 2012. وهذا المؤشر منجز من طرف جامعتي بيل وكولومبيا الأمريكتين بالتعاون مع المنتدى الاقتصادي العالمي، مكرس لقياس الأداؤ البيئي لكل دولة، من أصل 180 دولة في أرجاء العالم، بالإستناد لتقييم 40 مؤشراً حيوياً، شاملة الصحة البيئية، وحيوية النظام البيئي من خلال جودة عناصر البيئة(الهواء والماء والتربة) والتغيرات المناخية، رابطاة نتائج السياسات الجيدة بالثروة (نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي)، وما يتيحه الرخاء الاقتصادي للدول الاستثمار في السياسات والبرامج التي تؤدي إلى نتائج مرغوبة، وينطبق هذا الاتجاه بشكل خاص على قضايا الفئات الواقعة تحت مظلة الصحة البيئية، اَخذاً بنظر الإعتبار ان بناء البنية التحتية اللازمة لتوفير مياه الشرب النظيفة، والصرف الصحي، والحد من تلوث الهواء، والسيطرة على النفايات الخطرة، والاستجابة لأزمات الصحة العامة، يحقق عوائد كبيرة لرفاهية الإنسان..

وتواصل في العراق تردي الأداء البيئي، وبعد 10 سنوات،أي في عام 2022، إحتل العراق المرتبة 14 عربياً، والمرتبة 169 عالمياً، بحصوله على 27.80 نقطة من 100. وبين المؤشر عدم حصول  تحسن، وإنما تراجع 5.30 %..

وتواصل الاتجاه العام لأداء العراق البيئي نحو الانحدار، حيث انخفضت درجة العراق من 43 من 100 في عام 2018 الى 39، وهبطت الى 27.8 في عام 2022، وإرتفعت الى 30 في عام 2024.. أما مرتبته، فقد إرتفعت من 153 في عام 2018 الى 169 في عام 2022، والى 172 في عام 2024 وأصبح ترتيب العراق دولياً أكثر تراجعاً، حيث انخفض بحدود 17 مرتبة (fcdrs.com)..

لم يصدر عن وزارة البيئة ولا عن الحكومة العراقية ما يوضح أسباب هذا الإنحدار في الأداء البيئي، ومن يتحمل مسؤوليته، وإنما صدرت عن مسؤولين تشكيكات بصحة الأرقام التي وردت في المؤشر العالمي ، دون إثباتات تؤكد شكوكهم، ساعين للتشويش على الحقائق، زاعمين بأنها " ليست" نتيجة حتمية لعدم ايلاء المشكلات البيئة العراقية الاهتمام المطلوب، في وقت تضع حكومات الدول،حتى الفقيرة منها، البيئة في سلم أولوياتها !.

وفوق ذلك، حل العراق ضمن الدول الاعلى تعرضا لمخاطر الكوارث الطبيعية في 2024. فمن أصل 193 دولة شملها المؤشر حل العراق بالمرتبة 63 وبعدد نقاط بلغ 9.24 نقطة مخاطر، ما يجعله ضمن نطاق المخاطر العالية، وهي ثاني مرتبة بعد المخاطر العالية جدا.

وعلى الصعيد العربي، جاء العراق بالمرتبة العاشرة بعد كل من اليمن، مصر، ليبيا، سوريا، المغرب، السودان، تونس، الجزائر، السعودية ثم العراق.

ويجمع المؤشر بين عوامل التعرض للكوارث التي تحدث والكثافة السكانية في المناطق المتضررة، بالإضافة إلى قياس مدى الضعف والافتقار إلى القدرة على التكيف، فيما تشمل الكوارث الطبيعية الأعاصير والفيضانات والجفاف والزلازل.

وإقتراناً بذلك لابد من التوقف عند الخطط والمشاريع الوطنية لحماية وتحسين البيئة العراقية، التي أطلقتها وزارة البيئة خلال الأعوام الـ 15 المنصرمة..

***

د. كاظم المقدادي

كانت معظم الامم السابقة تكاد ان تكون مغلقة على نفسها ومقفلة الحدود وكانت حريصة كل الحرص على المحافظة على تقاليدها وموروثها الحضاري والثقافي والفني الذي انحدر اليها عبر الاجيال والذي يحمل اكثر اصالة وهوية وخصوصية الامة. وكانت الصين من البلدان المغلقة طيلة التاريخ حتى وفات زعيمها ماوتسي تونغ عام 1976 الذي اسس الجمهورية الشيوعية الصينية. ولازالت ؟.. ويذكر ان صناعة الورق كانت من اختراع الصين عام 105 بعد الميلاد وقد احتفظوا بسر هذه الصناع اكثر من ستت قرون حتى ايام الخليفة العباسي المنصور حيث كانت الحملات العسكرية الاسلامية وصلت الى جدران الصين. وفي احد المعارك التي خاضها ابو مسلم الخرساني اسر عدد من الصينيين منهم من يعرف صناعة الورق. وعن طريقهم دخلت صناعة الورق الى الدول الاسلامية. واول ما بدأت في سمرقند ثم في بغداد... ثم عرجت الى اوربا عن طريق الاندس في بداية القرن الثامن الميلادي. وعلى اثر ذلك قامت ثورة صناعة الطباعة في اوربا... والحكاية الاخرى ايضا ترجع الى اسرار الصين الغامضة وهي اكتشاف صناعة الحرير فيها حوالي عام 2700 قبل الميلاد ولكنها لم تصل الى اوربا الا في عام 550 ميلادية عن طريق الرهبان البيزنطينيين الذين كانوا يزورون الصين بصفة رحالة وتجار. حيث سرقوا بيض دودة القز ووضعوه في قصب اجوف ثم نقلوه الى اوربا. وهكذا وصلت دودة القز الى اوربا وبدأت صناعة الحرير. وبالتالي ان كل ذلك التأخر في انتشار الورق والحرير يعود الى ان الامم السابقة كانت مغلقة ومتشددة ومحافظة على تراثها الحضاري والثقافي..501 shamhod

ومن الطرائف التي يذكرها الدكتور زكي محمد حسن في كتابه – الرحالة المسلمون في القرون الوسطى – بان الرحالة العربي ابن وهب القرشي -870 م – وصل الى الصين والتقى بالامبراطور بعد انتظار طويل ودار بينهما حدبثا حول العرب والدين والسياسة. ثم امر الامبراطور باحضار صفط واخرج منه مجموعة من الصور لبعض الانبياء وقال له هل تعرف صاحبك من بين هؤلاء؟. فشاهد القرشي صورة الرسول محمد -ص- على جمل واصحابه محدقون به..

وكانت الحروب في القرون الماضية وغزو الدول بعضها لبعض من العوامل التي ادت الى انتشار الاختلاط الثفافي والفكري والتحول الاجتماعي رغم وحشيتها وسفك الدماء وتهديم المدن.. الا ان هناك جانب مهم جدا وهو فك الانغلاق والحصار عن البلدان وتقبل الفكر الاخر وتقاليد المجتمعات الاخرى. وكان المغول والتتر والسلاجقة وغيرهم من الاقوام الوحشية التي هدمت الحضارة العربية والاسلامية. ولكن لازالت تأثيرات الفنون الصينية والمغولية ظاهرة في الفن الاسلامي خاصة مدرسة بغداد ورسوم الواسطي 1237 م.

اما اليوم فان التكنولوجيا الحديثة وثورة المعلومات والاتصالات فقد عبرت الحدود ودخلت الدول والبيوت من اقصاها الى اقصاها دون رخصة (ولا جواز سفر) وبدون حروب. وبقدر ما هي مهمة ومتطورة جدا. الا انها جلبت اشياء سلبية ومدمرة للانسان وهي التجسس على الناس. واحيانا اغتيالهم. وايضا كثر التشويش والتحريف على المعلومات التاريخية والدينية والعلمية وقلب الحقائق. وكثير من المعلومات المتناقضة تظهر عن حضارة وادي الرافدين تنشرها وسائل التواصل الاجتماعي. مثلا منحوتة سومرية على شكل سفينة فضائية. يقول ناشرها ان السومرين غزوا الفضاء؟؟ فاذا كان كذلك، يجب ان تكون هناك سلسة من التطورات العلمية مرت بها الحضارات الانسانية التي اعقبت السومريين؟؟ فاين هي؟؟.503 shamhod

اما الاستاذ خزعل الماجدي (خريج كلية الصيدلة) فيصول ويجول وحده في ميدان التاريخ وعلم الاثار. ويفسير الالواح المسمارية معتمدا على بعض علماء الاثار الاجانب الذين يؤكدون على ان معلوماتهم قاصرة ومحدودة لان علم الاثار في تطور مطرد واكتشافات جديدة قد تغير المعلومات السابقة. يقول الخزعلي ان المصريين سبقوا السومريين في اكتشاف الكتابة بينما علماء الاثار الاجاب يؤكدون على ان السومرين هم اول من اخترع الكتابة حوالي 3500 قبل الميلاد ؟؟ وان المصرين اكتشفوا الكتابة الهيروغليفية بعدهم ب حوالي 500 سنة. مثل العالم صومائيل كريمر وسيتن لويد وغيرهم تاهيك عن علمائنا مثل طه باقر وفؤاد سفر وابو الصوف وجوني جورج وغيرهم. ثم يعود الخزعلي ويصحح قوله السابق بن عالم الاثار كريمر يقول ان السومرين هم الاسبق ؟؟.. ويذكر الخزعلي ان الاديان طيلة عمرها لم تبني حضارة ولا مدنية. وقد تجاهل، ان الحضارات القديمة كانت دينية وثنية والهه وطقوس وكهنة وعلماء فلك ؟؟.. وهكذا نجد الخزعلي وغيره من الصبيان والمعتزلة الجدد في سرد تناقضات الاقوال والتفسيرات. وكل هذه الامور المشوشة التي تجري على مسرح حياتنا هو من فضل التطور التكنولوجي الاغبر..

***

د. كاظم شمهود

(إن نظاماً (فكريّاً) للطبيعة والتاريخ يشمل كل شيء، ويعين نهاية كل شيء مرة واحدة، ليتناقض بالضرورة مع القوانين الأساسيّة للفكر الديالكتيكي (الجدلي)، ولكن هذا لا يمنع أبداً، بل بالعكس يفرض أن تخطو المعرفة المنظمة لمجموع العالم الخارجي من جيل إلى جيل خطوات جبارة)... أنجلز

قليلة هي المنعطفات التاريخيّة الهامة التي تؤدي إلى تحولات نوعيّة في الفكر والممارسة عند الذين يعملون على مجال الفكر والسياسة، ليكتشفوا فيما بعد أن الكثير من الرؤى والأفكار التي كانوا يناضلون من أجلها وقدموا لها التضحيات الجسام عبر عشرات السنين، أنها مجرد شعارات لم تحقق ما يسمح لها بالتفاعل مع  الواقع الذي طرحت فيه، الأمر الذي يدفع حملتها أو المنظرين لها إلى إعادة النظر بما طرحوه، وتبيان مواقع الصح والخطأ فيه.

أكثر من قرن ونصف من الزمن قد مرت على طرح مشروع النهضة العربيّة من قبل الكتاب والمفكرين العرب من جهة، ومن قبل القوى السياسيّة العربيّة ممثلة بأحزابها القوميّة والتقدميّة من جهة ثانية، هذا المشروع الذي مثلته كتابات هؤلاء النهضويين العرب الداعية إلى ضرورة خروج هذه الأمّة من مازق تخلفها وفواتها الحضاري، متبنيه في طروحاتها شعارات حداثويّة كانت أوربا الليبراليّة قد تبنتها، فجاءت دعواتهم تقليداً لهذه الشعارات الليبراليّة ممثلة في الحرية والعدالة والمساوة التي ناضل المجتمع الغربي من أجل تحقيقها مئات السنين ضد أعدائها من قوى الظلام والاستبداد ممثلة آنذاك بسلطات الكنيسة والنبلاء والملك.

نعم... منذ بداية الربع الأول من القرن التاسع عشر، هذه البداية التي عُرفت ببداية عصر النهضة العربيّة، وهي البدايات التي تأثر فيها العديد من الكتاب والمهتمين العرب النهضويين بأفكار الحريّة والعدالة والمساوة التي طرحتها الثورة الفرنسيّة، وما تضمنته هذه الشعارات من قضايا تتعلق بالحريّة الفرديّة وحريّة المرأة والرأي والرأي الآخر والمواطنة ودولة القانون وغير ذلك، أو ما يمكن اختزاله بقضايا النهضة والتقدم، أو الحداثة .

نقول: منذ تلك البدايات وأسئلة النهضة تُطرح من قبل الكتاب والنهضويين العرب مسلمين ومسيحيين، كالطهطاوي، والأفغاني، ومحمد عبده، والكواكبي، وفرح أنطون، وشبلي شميل، وأديب اسحق، وطه حسين، وسلامة موسى، وصولاً إلى مفكري النهضة العرب المعاصرين، أمثال الجابري، والتيزيني، وعبد الله العروي، وياسين الحافظ، وغيرهم الكثير.

ومن هذه الأسئلة: (لماذا تقدم الغرب وتخلف العرب؟. ما لحل؟. من أين نبدأ؟.... وغير ذلك من هذه  الأسئلة.

إن المتابع لمجريات الواقع العربي منذ تلك الفترة حتى اليوم، يجد أن هذه الأسئلة ذاتها بقيت في الحقيقة تجتر نفسها أو يعاد التنظير لها من قبل الكتاب والمفكرين العرب النهضويين حتى تاريخه في العديد من الكتب والمحاضرات والمقالات والندوات التي أقيمت لهذا الشأن، مسلطين ضوء النقد على الواقع لعربي بكل ما يحمله من قضايا التخلف الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي، التي حالت وتحول دون تحقيق النهضة والتقدم والسير في ركاب الأمم المتقدمة. وما سؤالنا اليوم أيضاً، (هل الإسلام هو الحل؟.) إلا أحد هذه الأسئلة التي يأتي طرحها تحت ظل هذه الظروف المأساويّة التي نعيشها بعد أن فشلت كل المشاريع النهضويّة السابقة، وهي مشاريع حركة التحرر العربيّة ممثلة في القوميّة والاشتراكيّة والليبراليّة.  ليأتي مشروع (الحاكميّة هي الحل) الذي راح "الإسلام السياسي" (الإخوان والقاعدة وفصائلها من داعش والنصرة وغيرها) يطرحها كبديل نهضوي انطلاقاً من مقولة (لن تصلح هذه الآمّة بعد أن فسد أمرها إلا بما صلح به أولها- ولا بد من العودة إلى النبع الصاقي).

إن قراءة أوليّة وسريعة للكثير من الإجابات التي قدمت كحلول لأسئلة النهضة منذ بداية القرن التاسع عشر حتى اليوم، نجد بعضها يقول بأن تحقيق القوميّة العربية هو الحل، في الوقت الذي فشلت فيه كل التجارب الوحدويّة، بينما نجد بعضها الآخر يجد الحل في تبني الاشتراكيّة، في الوقت الذي فشلت فيه أيضاً كل التجارب الاشتراكيّة، وهناك من راح يعوّل كثيراً على الأيديولوجيا الإسلاميّة، وخاصة بعد فشل المشروعين القومي والاشتراكي، بل وحتى الليبرالي الذي روج له المستعمر أثناء احتلاله للعديد من البلاد العربيّة أولاً، والقوى السياسيّة التي استلمت السلطة بعد خروجه ثانياً، هذه القوى السياسيّة التي لم تستطع أن تحقق استقلالاً فعليّاً للبلاد، حيث ظلت قوى كومبرادوريّة مرتبطة بالقوى الاستعماريّة وتعمل وفقاً لمصالحهما معاً وليس لمصالح الشعب، كونها عاجزة في الحقيقة عن تحقيق مصالح الشعب بسبب فقدان الظروف الموضوعيّة والذاتية التي تسمح لها بتحقيق ذلك، الأمر الذي أدى إلى محاصرة هذه الليبراليّة واجهاضها عبر انقلابات عسكريّة رفع قادتها شعارات نهضويّة وتقدميّة، تحولت فيما بعد هذه الشعارات إلى نظريات سياسيّة وفكريّة في قضايا النهضة العربيّة، التف حولها الجماهير لتعطيها أو تمنحها  شرعية الحركات الثوريّة أو الثورات الشعبيّة، بعد أن تحولت هذه الحركات العسكريّة إلى أحزاب سياسيّة منحت نفسها صفة (الديمقراطيّة الثوريّة)، واعتبرت نفسها قائدة لحركة التحرر العربيّة ووصيّة على تحقيق نهضة هذه الآمّة وتجاوز عوامل تخلفها.

عموماً نستطيع القول: إن كل المشاريع النهضويّة التي طرحت في الحقيقة على الساحة الفكريّة والسياسيّة العربيّة بعد فشل المشروع الليبرالي، قد انطلقت من المشاريع النهضويّة الثلاثة وهي: القومي والاشتراكي والإسلامي، بغض النظر عن طبيعة الكثير من المفردات الأساسيّة والجزئيّة التي تضمنتها هذه المشاريع الأيديولوجيّة مثل الحامل الاجتماعي لها، ودرجة التداخل الطبقي في هذه الحوامل، ودرجة حدّة تناقضه وصراعه، وكذلك درجة نضوج الظروف الموضوعيّة لتحقق هذه المشاريع، ثم البعد الأخلاقي والقيمي عموماً في بنية المجتمع العربي، وهناك أيضاً تأثير خصوصيات الواقع العربي، والعلاقة الجدليّة بين العام والخاص والداخل والخارج، يضاف إلى ذلك حالات الجهل والأمّية والتخلف البنيوي في مستويات الواقع الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة، وغير ذلك من قضايا تتعلق في تحريض الفعل النهضوي أو عرقلته لكل مشروع من هذه المشاريع النهضوية الثلاثة.

نقول: إن الكثير من الكتاب والمفكرين النهضويين العرب وكذلك الأحزاب "الديمقراطيّة الثوريّة" التي تبنت هذه المشاريع النهضويّة فيما بعد، غالباً ما تناولوها من منطلق أيديولوجي، أي اتخذوا من الأيديولوجيا منطلقاً في تحليل أزمة النهضة أو طرح الحلول لتجاوزها، وذلك يعود برأيي إلى جهل معرفي (ابستمولوجي) في طبيعة هذه الأزمة والظروف الحقيقيّة الداخليّة منها والخارجيّة التي تكمن وراءها، ثم آليّة عملها، كون الأيديولوجيا في المحصلة هي مجموعة الرؤى والأفكار والقوانين والمبادئ التي تعبر عن واقع أمّة ما أو مجتمع ما أو طبقة ما في مرحلة تاريخيّة محددة، وبالتالي فهي عندما تُستخدم كعتلة نهضوية في مجتمع لم يحوز بعد على الظروف الموضوعيّة والذاتيّة التي تستطيع استلهامها أو تكون هي المنتجة لها، ستظل حكماً في حالة مفارقة للواقع، أي تظل بعيدة عن متطلبات الواقع، وهنا ستتحول إلى وسيلة نهضويّة تُستخدم قسراً لتغيير الواقع، وبيد حوامل اجتماعية قد لا تعبر عن مصالح الجماهير كونها غير حواملها الحقيقيّة، أو تجد فيها هذه الحوامل بعضاً من مصالحها الأنانيّة الضيقة، الأمر الذي سيزيد من تعقيد هذا الواقع وتعميق أزمته بدلاً من إفراجها. وهذا ما تجلى بكل وضوح في محاولات التطبيق العملي القسري (وفقاً لسرير بروكست)، أي محاولة ليّ عنق الواقع العربي من قبل هذه الحوامل كي ينسجم مع هذه الأيديولوجيات القوميّة أوالاشتراكية أو اليوم الإسلاميّة .

إذن إن التعويل على أي مشروع فكري (أيديولوجي)، متعالي على الواقع - أي لا يشكل وعياً مطابقاً للواقع -  من أجل تجاوز تخلف هذا الواقع وخلق نهضة فيه، هو غير قادر بالضرورة على تفسير هذا الواقع وتحليل أواليّة عمله (الميكانزيم)، وبالتالي هو محاولة لليّ عنق الواقع وفرض حلول لمشاكله من الأعلى، أي تغييره برؤى فكريّة ذات طابع شمولي مجردة يعتقد حملتها أن هذه الرؤى الشموليّة، الفوق تاريخيّة، هي وحدها القادرة على تقديم الوصفات الجاهزة لكل زمان ومكان دون أي مراعاة لخصوصيات الواقع وطبيعة حركته وتطوره وتبدله، أي فرض الحلول من خارج أواليّة عمله، وهذا ما سيساهم بلا شك في تعميق أزمة هذا الواقع والسرديات الكبرى المتعاملة معه معاً. وهذه المسألة المنهجيّة كان قد اشار إليها إنجلز كما بينما في بداية هذه الدراسة بقوله: (إن نظاماً (فكريّاً) للطبيعة والتاريخ يشمل كل شيء، ويعين نهاية كل شيء مرة واحدة، ليتناقض بالضرورة مع القوانين الأساسيّة للفكر الديالكتيكي (الجدلي)، ولكن هذا لا يمنع أبداً، بل بالعكس يفرض أن تخطو المعرقة المنظمة لمجموع العالم الخارجي من جيل إلى جيل خطوات جبارة). (1).

يظل السؤال المشروع يطرح نفسه علينا ما الحل أمام سقوط هذه السرديات الكبرى التي ساهم في إسقاطها أنظمة عربيّة متهالكة على السلطة بما تحققه لهم من جاه وغنيمة؟.

أقول: دولة مدنية بدستور يقره الشعب يعبر عن مصالحه بما يتضمنه من مفردات تحمي المواطن وتؤمن أمنه واستقراره ولقمة عيشه.. دستور يؤمن بالمواطنة، والتعددية السياسيّة وتداول السلطة، ومؤسسات ينظم سير عملها قوانين خاصة بكل مؤسسة، احترام للرأي والرأي الآخر وحريّة في التعبير الذي لا يتجاوز مصالح الوطن وأمنه...احترام للمرأة ومكانتها في المجتمع والدولة معا...

***

د. عدنان عويّدِ - كاتب وباحث من سوريّة

....................

الهوامش:

1-  (د. أميل توما- الحركات الاجتماعية في الإسلام0 دار الفارابي – بيروت- 1981. ).

 

حين نشرت كتابي "المجتمع المدني - الوجه الآخر للسياسة: نوافذ وألغام" في العام 2008، عاتبني بعض الأصدقاء بأن نقدي لمنظمات المجتمع المدني قد تستفيد منه الحكومات، وقال آخرون أنك أحد أعمدة المجتمع المدني عربيًا، فلماذا تصوّب السهام إليه؟

وكان جوابي أن قيمة أية تجربة بنقدها، وكنت باستمرار، كمثقف، أشعر بحاجة إلى نقد تجربتي السياسية والفكرية والثقافية والحقوقية، وذلك بهدف استشراف آفاق جديدة وتدقيق وتصويب توجهاتها، واستخلاص الدروس والعبر الضرورية منها، انطلاقًا من معيار أساس قوامه "النقد والنقد الذاتي"، لذلك لم أتوان عن إضاءة المظاهر الإيجابية والتوقف عند بعض المظاهر السلبية والنواقص والثغرات التي ترافق إداء إداراتها، والمثالب والعيوب التي تصاحبها على المستويين الموضوعي والذاتي.

لقد لعبت المنظمات المهنية في الأربعينيات والخمسينيات دورًا مهمًا في الدفاع عن الحقوق والحريات، وفي بلورة بعض المطالب الوطنية والمهنية، لاسيّما نقابات المحامين والصحفيين والمعلمين والعمال واتحادات الطلبة والمرأة وغيرها، لكن مثل هذا الدور تراجع كثيرًا بحكم الصراع السياسي، ومحاولات الأحزاب والقوى الهيمنة عليها وحرفها عن مسارها نحو توجهاتها الأيديولوجية الضيقة.

فعلى سبيل المثال لا الحصر، كان الصراع في العراق حادًا وإقصائيًا وإلغائيًا وتهميشيًا، وهو ما سارت عليه جميع القوى والجماعات السياسية دون استثناء، فبعد ثورة 14 تموز / يوليو 1958، احتدمت سوح المعارك، واحتربت القوى مع بعضها، وفاز الشيوعيون بالقدح المعلّا، في حين ظلّ غرماؤهم  قعيدي حسرات، بسبب محاولات احتكار العمل لصالحهم، سواءً أكان الأمر بصورة مباشرة أو غير مباشرة، ولذلك انشطرت العديد من المنظمات أو تأسست منظمات موازية للأصل، مثل اتحاد الطلبة والمرأة لاحقًا واتحاد الأدباء والكتاب، وساد نوع من المنافسة المحمومة وغير العقلانية للاستحواذ على المواقع في العديد من النقابات والاتحادات، سواءً في القسم العربي من العراق، ولاسيّما في العاصمة بغداد أو في القسم الكردي من العراق، خصوصًا المنافسة بين الحزب الديمقراطي الكردستاني والحزب الشيوعي العراقي.

وفي الفترة التي أعقبت انقلاب 8 شباط / فبراير 1963، مورس شكل جديد من أشكال احتكار العمل المهني والنقابي لصالح البعثيين دون سواهم، فضلًا عن اعتقال واستشهاد العديد من قادة المنظمات المهنية السابقة، وفصل المئات من منتسبيها من وظائفهم.

وبعد انقلاب 18 تشرين الثاني / نوفمبر من العام ذاته، ولاسيّما بعد تأسيس الاتحاد الاشتراكي العربي (1964) اقتفاءً بالتجربة المصرية الناصرية، انحصرت إدارة المنظمات المهنية بالقوميين وأعضاء الاتحاد الاشتراكي عمليًا وضمن الظروف السائدة، وهكذا أُقصي العديد من إدارات المنظمات المهنية السابقة واعتُقل العديد منهم، ولم يسمح للصوت الآخر بالانتعاش، حتى بعد في بعض الانتخابات المهنية.

وبعد انقلاب 17 تموز / يوليو 1968 بدأت مرحلة جديدة من احتكار العمل المهني، من جانب منظمات تابعة للسلطة، فتم توزيع المقاعد بين الأحزاب المؤتلفة وإقصاء الآخرين، لاسيّما الشخصيات المستقلة. وشهدت الفترة الأولى تحالفات محدودة في نطاق اتحاد الأدباء ونقابة الصحافيين والجمعية العراقية للعلوم السياسية، ولاسيّما بين البعثيين والشيوعيين، مع شروط يحدّدها الفريق القابض على السلطة، وشملت المرحلة الثانية تحالفات مع الكرد، ثم بسبب الصراعات السياسية تبخّرت هذه القوى جميعها، لينفرد حزب البعث لوحده في إدارة هذه المنظمات، وهو الأمر الذي ساد على نحو ربع قرن تقريبًا.

وحتى بعد الاحتلال الأمريكي للعراق العام 2003، حاولت بعض الجهات السياسية التمترس خلف بعض المنظمات المهنية، وتجييرها لصالحها، أو أسست منظمات تابعة لها. ولعلّ من يلحظ أداء بعض المنظمات المهنية، يستطيع أن يحكم على انحيازاتها لهذه الجهة أو تلك، ومحاباتها لهذا الفريق أو ذاك، واستبعادها لهذه المجموعة أو تلك، بما فيها عدم  قبولها للرأي الآخر ومنحه الفرصة المتكافئة، فضلًا عن الهوّة السحيقة التي تفصله عن المهنية، سواء لاعتبارات دينية أو طائفية أو قومية إثنية أو أيديولوجية حزبية، ناهيك عن الدور الكبير الذي لعبه المال السياسي، بما فيه من الجهات الخارجية المانحة وأجنداتها الخاصة التي تريد توظيفها، وحسب بول بريمر الحاكم المدني الأمريكي للعراق (13 أيار / مايو  2003 – 28 حزيران / يونيو 2004) فأإه أنفق 800 مليون و 800 ألف دولار على ما سمّاه المجتمع المدني. ولم تقل أية جهة مدنية أو إعلامية أنها تسلّمت أموالًا منه، مع أن بعض الجهات عاشت بحبوحة غير معهودة انعكست على ممالئاتها للاحتلال الأمريكي تحت عناوين مختلفة، في حين ظلت بعض المنظمات فقيرة ومعدمة، لاسيّما تلك التي اتخذت موقفًا رافضًا للاحتلال.

من مراقبتي لمجمل عمل المنظمات المهنية العراقية والعربية، خلال العقود المنصرمة، لاحظت غياب النقد الجاد والموضوعي، والنقص الفادح في ثقافة الحوار واحترام الرأي الآخر وعدم قبول حق الاختلاف والإقرار بالتعددية والتنوع والتسامح، وهو ما تناولته بالتفصيل في كتابي "المجتمع المدني - سيرة وسيرورة" (2012)، إذْ أن معظم مجالس الأمناء أو الإدارات شكلية ولا رأي لها باتخاذ القرار الذي يتحكم به الرئيس أو الأمين العام، وأحيانًا مع ثلة من أصحابه وعائلته.

وبالتدرّج فقد كانت الثقافة السائدة لعقود تقوم على الصوت الواحد والرأي الواحد والمسؤول الواحد، بل إن العديد من إدارات هذه المنظمات لم تحرك ساكنًا في الدفاع عن حقوق أعضائها، حين يتعرضون للاعتقال أو التعذيب، في حين كان مجرد اعتقال صاحب رأي سياسي في الخمسينيات يكفي أن يتطوّع نخبة لامعة من المحامين للدفاع عنه تحت عنوان "لجنة معاونة العدالة".

للأسف فقد أصبح السكوت أو التواطؤ أو المشاركة أحيانًا في قمع الرأي الآخر جزء لا يتجزأ من عقيدة الإدارات المتعاقبة، والتي تعتّق بعضها في إدارة هذه المنظمات، فلم يتجرّأ مسؤول في إدارة هذه المنظمات على السؤال علنًا عند اعتقال أو ملاحقة زملائه من أصحاب الرأي الآخر، إن لم يبرّر ذلك أو يشارك فيه وفقًا للمناهج الطائفية والحزبية والتوجهات الأيديولوجية، وهكذا اتّجهت أغلبية هذه المنظمات إلى الأحادية والإطلاقية وأصبحت رديفة للسلطات، ووجهًا آخر من أوجهها.

والأكثر من ذلك أن إدارات هذه المنظمات بدت وكأنها جزءًا من أثاثها، فهذا أمين عام مكث في موقعه نحو ربع قرن، وذاك أمين عام ثم رئيس أوشك على توليه المسؤولية نحو 5 عقود من الزمن، وذاك مسؤول جاء بموظفي مكتبه ليكونوا أمناء عامين بعده ليبقى هو من يسيّر عمل المنظمة التي يقف على رأسها، والأكثر من ذلك أن بعضهم ينتقد الحكومات التي لا تقر بالتعددية والتداولية والتناوبية، وكأن الأمر لا يعنيهم، بل أن بعض إدارات هذه المنظمات والجمعيات من يبرر ذلك بزعم الإدارة التاريخية والحرص على بقاء هذه المنظمات في خطها الصحيح، والمقصود بذلك خطها التقليدي والمتوارث، الذي يقوم على أيديولوجية أو رأي سياسي عفا عليه الزمن، في حين أصبحت بعض هذه المنظمات التي يتشبث هؤلاء بإدارتها خاوية ولا عمل لها سوى إصدار بعض البيانات الروتينية بين حين وآخر، ولعلّ مثل هذه المؤسسات على المستوى العربي والإقليمي كان يمكنها القيام بدور أكبر وحيوية أكثر لو تجددت دماء العاملين فيها ووثقت بالكفاءات الشابة الجديدة ومنحتها الفرصة لتولي المسؤولية، ناهيك عن المبادرة إلى تقديم قوة المثل والنموذج والتخلي عن المسؤولية والتشبث بالمواقع، التي لا تغني ولا تسمن من جوع.

الجدير بالذكر، أن التنمية المستدامة التي تطمح إليها الأمة العربية ودولها، إضافة إلى دول الإقليم بجميع تكويناته وأممه، لا يمكن أن تتحقق، دون مشاركة فاعلة من المجتمع المدني والمنظمات المهنية، التي ينبغي أن تكون "قوة اقتراح" لتقديم مشاريع قوانين وأنظمة واقتراح لوائح، وليس "قوّة احتجاج" وحسب، لذلك لا بدّ من مشاركتها كرديف ومكمل وراصد  للحكومات، لاسيّما بعد تجاوز إشكالياتها ومشكلاتها الذاتية، وتجديد نفسها وابتداع أساليب عمل جديدة والتخلّص من الفوقية والهيمنة ومحاولة احتكار المواقع، ناهيك عن عدم قراءة المستجدات والمتغيرات في عصر الثورة العلمية – التقنية والطفرة الرقمية الديجيتل وتكنولوجيا الإعلام واقتصادات المعرفة والذكاء الاصطناعي، فما كان يصلح للسابق قد لا يصلح للحاضر والمستقبل، فما بالك حين يكون الماضي مشوبًا بالضبابية والقصور والفهم الخاطئ، وهذا موضوع آخر يحتاج إلى معالجة مستقلة.

***

د. عبد الحسين شعبان - مفكّر وأكاديمي عربي

هل يمكن للحكومة أن تهذب شعبها، بمعنى أن تجعله أكثر التزاماً بالفضائل ومكارم الأخلاق؟ أثيرَ هذا السؤال في نقاش حول معاني الأخلاق السياسية وتطبيقاتها في المجال العام. واستعرض أحد المتحدثين رؤية أفلاطون، الفيلسوف اليوناني المعروف، الذي قرر أن الدولة مسؤولة عن تربية الشباب، وتلقينهم المعارف، وتدريبهم على الحِرَف والعادات الحسنة.

ونعلم أن هذه الفكرة ما زالت سائدة حتى يومنا الحاضر. فالناس جميعاً، في شرق العالم وغربه، متفقون على أن أبسط واجبات الحكومة هو إنشاء وتشغيل نظام التعليم العام، من مستواه الأدنى، أي رياض الأطفال، حتى الدرجة الأخيرة من التعليم الجامعي.

لكننا نعلم أيضاً أن مبررات هذه الرؤية تختلف، في نموذجها المعاصر، عن تلك التي تحدث عنها أفلاطون. كان أفلاطون يرى إمكانية جعل الفضيلة سلوكاً عاماً، يمارسه جميع الناس من دون تكلف. كما رأى أن الجهل هو السبب الرئيسي لارتكاب الإثم؛ لأن الفضيلة في جوهرها هي الحقيقة، أو هي قرينة الحقيقة. ونحن نصل إلى الحقائق من خلال الدراسة والتعلم والتجربة. بعبارة أخرى، فإن الدراسة تؤدي إلى إدراك حقائق الحياة، وإدراك الحقائق يكشف عن الفضائل؛ لأن الفضيلة هي الحقيقة أو قرينتها. فإذا أمست الفضيلة سلوكاً عاماً، تحققت ما سماها الفيلسوف «المدينة الفاضلة»، وهي ما تُعرف في الأدبيات الغربية الحديثة باسم «اليوتوبيا».

أما في نموذج الدولة الحديثة، فإن التزام الحكومة بإنشاء نظام لتعليم الناشئة، معلل بالحاجات الاقتصادية في المقام الأول. لقد توصل البشر بعد قرون من التجارب إلى أن حياتهم تدور حول محور الاقتصاد. وهذا، وإن لم يشمل أطراف الحياة كافة، في حقيقة الأمر، المحرك الرئيسي لمعظم أطرافها. من هنا بات عمل الدولة مُركّزاً - في معظمه - على الاقتصاد. وبالنسبة إلى البلدان النامية على وجه الخصوص، فإن سياسات التعليم تستهدف، في المقام الأول، إنشاء قوة عمل ذات كفاءة، لإدارة المشروعات الاقتصادية والإدارة الرسمية (التي تنظم هي الأخرى على ضوء احتياجات السوق والاقتصاد). وهذا يفسر القول السائر إن «التعليم الناجح هو الذي يلبي حاجات سوق العمل»، وكذا الدعوة إلى جعل سياسات التعليم متوافقة مع حاجات السوق.

ويبدو لي أن مفهوم الأخلاق، السائد في علم السياسة المعاصر، أكثر انسجاماً مع أغراض الدولة ومبررات وجودها، من ذلك المفهوم الذي ناقشه قدامى الفلاسفة، أو نظيره الذي عرفته الدول الدينية.

رؤية أفلاطون عن أهمية التعليم مبعثها ارتيابه العميق في طبيعة الإنسان. فرغم إقراره بقابلية العقلاء لاكتشاف الخير والعدل واتخاذ طريق الحكمة، فإنه نظر إلى جمهور الناس على أنهم أسرى شهواتهم وأوهامهم وجهلهم بحقائق الحياة. وقد صور هذا المعنى في مثاله الشهير عن الأشخاص المقيدين في داخل الكهف، الذين لا يرون غير انعكاس ظلال الحركة التي تحدث في الخارج، فيتوهمون أنها هي كل ما يجري في عالمهم.

في التحليل يظهر أن أفلاطون نظر إلى أفعال الإنسان بوصفها انعكاساً لميوله الداخلية؛ سواء أَتَهَذَّبَتْ بفعل التعليم أم لا. ولذا تحدث عن التعليم بصفته وسيلة لتهذيب النفس.

خلافاً لهذا، ينظر علم السياسة المعاصر إلى الميول النفسية على أنها محصلة لتأثير العوامل البيئية والاجتماعية في المحيط الحيوي للإنسان. الإنسان السوي الميال للحلول العقلانية والتعاون هو ذلك الذي ينشأ في مجتمع يوفر الأمان والعيش الكريم لأهله. وبعكسه المجتمع الذي يسوده النزاع والانقسام أو شح مصادر العيش، وكذا المجتمع الذي يعاني الاحتقار والإذلال والقهر لزمن طويل. فمثل هذه الحالات تنعكس بشكل سلبي جداً على روحية أعضاء المجتمع، فتعزز فيهم الميول اللاعقلانية والارتياب والرغبة في الاستئثار.

زبدة القول أن علم السياسة الحديث يرى أن الدولة قادرة على تحسين المستوى الأخلاقي في المجتمع الوطني، لكن ليس بإضافة مادة الأخلاق إلى نظام التعليم، ولا بزيادة عدد الوعاظ، بل بتوفير سبل العيش الكريم وتعزيز الشعور بالأمان والكرامة لدى الأفراد.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

لم تكن منطقة الشرق المتوسطي / العربي في وضع يؤهلها لكي تحضر فاعلة حين انبثقت الاله في الطرف المقابل من المتوسط  وفعلت فعلها في دفع وتسريع الاليات المجتمعية في المكان الاعلى والاكثر ديناميات ضمن صنفه المجتمعي الاحادي بحكم ازدواجيته الطبقية الاصطراعيه، هذا في الوقت الذي كانت منطقة شرق المتوسط ماتزال تعيش تحت طائلة الانقطاعية الانحطاطية الملازمه لتاريخها، والحاكمه لمساره كقانون متراوح دورات صعود وانقطاع. ومنذ 1258 يوم سقوط عاصمة الدورة الثانيه الامبراطورية بغداد، والمنطقة المشار اليها بحال انحدار، مظهره الابرز وقوعها تحت طائلة  وغلبة  البرانيه الشرقية  من متبقيات الدورة الثانيه الاسلاميه الشرق متوسطية، حيث تعاقب اشباه الامبراطوريات والدول المماليكيه  اليدويه، وصولا الى العثمانيه اخر محطاتها، قبل ان يتم الانتقال الى الصيغة البرانيه الاوربية الحالية المستمرة على انقاض العثمانية، باسم التوهمية النهضوية الحداثية الانتقاليه.

ولم يكن التعرف على الذاتيه امرا مرهونا فقط لمتوالية الانقطاع الانحطاطي والنهوض الدوراتي، بقدر ماكان بالاحرى مسالة متلازمة مع اجمالي العملية المجتمعية والبشرية ومراحل تطورها التاريخي، وبالذات بما يخص العقل البشري ومامتوفر له حتى حينه من قدرة وطاقة على الاستيعاب والادراك بازاء الظاهرة المجتمعية ومنطوياتها، الامر الذي جعل نقطة بعينها من الشرق الاوسط، هي الاعلى ديناميات بناء لبنيتها الاصطراعية الازدواجية المجتمعية، تعيش تاريخها الاطول بين التواريخ المجتمعية، وبعد دورتين وانقطاعين، الاول السومري البابلي الابراهيمي، والثاني العباسي القرمطي الانتظاري، من دون مقاربة مناسبة للجانب الجوهر والاساس كمنطوى وغاية غير مكشوف عنها النقاب، الظاهرة المجتمعية مرهونة لها، ومتجهه لبلوغها، الامر الذي لم تكن قد تهيأت اسبابه بعد.

ولم يكن المطلوب لهذه الجهه واردا اصلا لانه لم يكن قابلا للحضور من دون توفر اسباب تحققه على مستوى الظاهرة المجتمعية، لاوعيا وادراكا فحسب، بل ماديا وعلى صعيد وسيلة الانتقال/ الانتاج المطابقة للمطلوب ومايغدو واجبا مع اكتشاف الحقيقة المجتمعية، فلا يمكن التعرف على الازدواج المجتمعي الناظم لتاريخ المجتمعات،  وصولا للتفريق بين  اللاارضوية المجتمعية ومقابلها الارضوية المعاشة الى اليوم، ومنذ تبلور الظاهرة المجتمعية، من دون تبدل مجمل الحياة ووجهتها، ونوعها كليا، مابين اشتراطات الرضوخ للحاجاتيه  وحدود القدرة الجسدية، والذهاب للتحرر منها ومن وطاتها على العقل وحضوره المنتظرعلى انقاض الجسدية الحاجاتيه الارضوية الاحادوية الحالية، الموكولة طبيعة للانتاجية اليدوية وحدودها، وماتتيحه من افاق فعل حياتي، او مايعرف ب "الحضاري" الارضوي.

وحتى حينه والى ان يحصل الانقلاب الالي، تبقى الارضوية الجسدية غالبة ومهيمنه على العقل بصيغته الاولى، او وثبته  الابتداء مع الانتصاب على قائمتين واستعمال اليدين والنطقية، وماقد مر به الكائن البشري من حينه من احتبارات تمهيدية، وصولا الى "اللقاط والصيد" قبل دخول العتبة الختام من مساره الارتقائي المتواصل مابين "الحيوان" و "الانسان"، حيث " "الانسايوان" الحالي ينتظر الانقلاب الاكبر التحولي التاريخي، وهو مايفترض ان تتظافر لاجل بلوغه الانتقالة الفاصلة في وسائل الانتاج،  والانقلابيه العقلية،  او الوثبة العقلية الثانيه بعد تلك الاولى التي اعقبت الطور الحيواني من ترقي  ونشوئية الكائن الحي، وهو ماكان مرهونا بعمل البيئة وديالكتيكها كطبيعة مواكبة للكائن الحي،  راعية  ومقرره بالاشتراطات والاسباب لمساره الارتقائي المنتهي الى مابعد ارضوية، وهو ماتتكفل به الطبيعة من دون تدخلية ذاتية للحيوان، او الكائن البشري "الانسايوان"، حتى نهايات امده واللحظة الفاصلة في سيرورته.

هكذا يترقى العقل، من الغياب ابان الفترة الحيوانيه بظل هيمنه الجسدية شبه المطلقة، الى  الحضور الابتدائي  بعد الانتصاب واستعمال اليدين والنطقية، مع بلوغ الجسد حدود ترقية النهائية، الى   الانتقال الثاني الاعظم مع تجاوز القصورية الارضوية،  وتوفر اسباب التحولية المادية،  تقابلها اماطة اللثام عن  المنطوى المجتمعي، وتحديدا "اللاارضوية المجتمعية"  الجسدية وافقها الانتقالي الاكبر، بعد اطراح بقاياها العالقة،  ووقتها تتهيأ اسباب التحولية الانتقالية الفاصلة العظمى.

ماتقدم يضعنا بوضوح امام مهمة كونية متعدية للمكانيه والكيانيه، تعجز الارضوية عن رؤيتها او مقاربة نمطيتها، وبالذات كونها بدئية واساس تشكلي ابتدائي منطو على الحقيقة المجتمعية الكبرى الاساس، بما هي انتقالية تحولية من الجسدية الى العقلية، ومن الارض والكون المرئي،  الى الكون الاخر اللامرئي،كما وجدت في ارض سومر ابتداء، وكما تجسدت بعد اصطراع طويل تعبيريا كونيا نبويا حدسيا، بالابراهيمه، بصيغتها المحكومة لاشتراطات الحضور ضمن غلبة الارضوية اليدوية طويلة الامد، لانتفاء اسباب التحقق الانقلابي( ماديا وادراكيا) في حينه عند المبتدا،  لتعم مخترقة المجتمعات بغالبيتها بناء على ماتنطوي عليه من اسباب عامه ازدواجية غير مدركة، مرتكزها الازدواج التكويني البشري المجتمعي ( عقل / جسد)، عكس ماتعتقده الاحادية الجسدوية التي تجعل العقل اداة ملحقة بالجسد،  مدمجة به كعضو من اعضائه مثل اليد والعين والحاجب.

ليست المجتمعية هي ما نعيشه وعشناه او اعتقدنا اننا نعيشه، فالمعاش هو بالاحرى انتكاس ونقص  مادون مجتمعي، ارضوي يعاش يدويا تحت طائلة ووطاة الارضوية الجسدية واحكامها وممكناتها، بينما يكون العقل في حينه تحت فعل واثر الجسدوية الحاجاتيه، مايزال في العتبه الاولى من عتبات  وثبته الارتقائية، ينتظر التفاعلية التاريخيه المجتمعية ومساراتها عبر الدورات والانقطاعات الثلاث، وفعل الانتقال  الى الاله واحتداميتها وتحوراتها، وصولا الى التكنولوجيا العليا العقلية،  وقت تحين ساعة بلوغ عتبة الاكتمال التشكلي الضروري المقدر والحتمي بناء على اجمالي السياق الوجودي البشري، والحقبة الاخيرة المجتمعية منه بخصوصيتها، ودرجة ارتقاء العقل ضمنها.

واذن فلا ادراك او وعي بالمجتمعية الا بعد الالية ومرورها بالطور الاول التوهمي الاوربي الغربي الاحادي الاعلى، كذلك لاوجود ل الكائن "الانسان" الامن يومها، وعند تلك الساعة من التاريخ، حين يتحقق الانتقال وقتها من "الانسايوان"، وتنقلب شروط وموضوعات الفعل الحياتي، والمهمات الانتقالية التحولية الوجودية الحياتيه تكريسا للعقلية على حساب الحاجاتية الجسدية،  ذهابا لتقليصها والغائها(الحاجاتيه)، الى  العمرية حيث الانتقال من استبداد الموت الجسدي وسطوته المطلقة على العقل، ذهابا الى تحرر الاخير  بما يفضي لاضطلاعه بكينونته، ومايتفق مع طبيعته  الخلودية وجودا، تحقيقا للحلمية الغلغامشية المبكرة بشرط اطراح الجسدية.

ـ يتبع ـ

***

عبد الاميرالركابي

 

وما علاقتها بتكوين هويات الشعوب؟!

هنالك فكرة سائدة خاطئة بأن (شخصيات البشر، افراد وجماعات) مرتبطة فقط بانتمائهم الديني والاقوامي والعائلي ومستواهم المعرفي. طبعا هذه الامور لها التأثير، لكن يبقى التأثير التاريخي الاكبر والثابت على الجماعات والشعوب، مرتبط اساسا بـ(المكان: الارض والبيئة).

روح وطاقة المكان(1)

منذ سنوات جلب انتباهي، تلك الفروق بالسلوكيات والعلاقات السائدة بين ابناء الجالية العربية في كل من (جنيف) السويسرية، و(باريس) الفرنسية، بسبب اختلاف "روحي المدينتين" في عدة امور، رغم انهما ناطقتان بنفس اللغة الفرنسية ونفس الثقافة السائدة.

ان اي (مكان)، صغير او كبير، بيت او حارة او وطن او اقليم وقارة، هو مثل الكائن الحي، له (روحه وطاقته الخاصة به التي تؤثر على الكائنات الحية والنبات والبشر، التي تعيش فيه). أي له ( روحه وشخصيته) التي هي نتاج عوامل كثيرة خاصة به: البيئة والمناخ وتاريخ الناس الذين عاشوا فيه والاحداث التي مرت عليه، بل حتى تأثير الموقع بالنسبة للفلك والنجوم. ان روح وطاقة (بناية السجن) تختلف عن( بناية المسلخ) و(الحديقة العامة) و(القرية الزراعية الهادئة) و(المدينة الاسمنتية الصاخبة)، بسبب اختلاف طبيعة ووظيفة مكوناتها وتاريخ ومشاعر الناس الذين عاشوا فيها.

ليس صدفة ان اهتمت الجماعات منذ القدم بمسألة (مكان تشييد المدينة والمعبد) فيختارونه حيث يستشعرون فيه (طاقة ايجابية). ويعتقد ان الكثير من الكنائس والمساجد القديمة في العالم، مشيدة في (اماكن طاهرة) متوارثة منذ الانسان الاول. ولنا مثال (الجامع الاموي في دمشق) الذي كان في الاساس معبدا كنعانيا ثم كنيسة مسيحية ثم مسجد.(2)

لا زال الاسلام يهتم كثيرا بمسألة (المكان الطاهر) و(المقدس) للصلاة والتعبد والدفن. يقال ان (الخليفة العباسي ابو جعفر المنصور) قد اختار(مكان تشييد عاصمته بغداد) بعد تعليق العديد من الخراف المذبوحة في العديد من مناطق وسط العراق، لاختيار المكان الذي تبقى فيه الذبيحة لم تفسد اطول فترة ممكنة.

وقد اطلق الرومان تسمية (روح المكان: Genius loci). ويعتبر(ابن خلدون) اول من تحدث عن دور الجغرافية في خلق تاريخ الشعوب.(3)

كذلك كرس الصينيون مجالا من عقيدتهم (التاوية) اسمه (فانغ شوي:  Feng Shui) مختص بدراسة طاقة المكان وتنظيم هندسة واثاث المنزل والمكتب، بحيث تنتشر فيه الطاقة الابجابية والصحة والانتاج.(4). ومنذ سنوات هنالك مجالات عدة متعلقة بتأثير المكان: ( الجغرافية الاقليمية: Regional geography) و(علم النفس البيئي: (Ecopsycholo و(سلطة المكان: The Power of Place).

الانسان مثل النبتة، ابن الارض والبيئة

ان (روح المكان) هي نتاج عوامل كثيرة معروفة ومجهولة، مثل نوعية التربة وكمية الشمس والريح والغيوم، بل حتى نوعية الغبار والجراثيم السائدة، لها تأثير في الانسان كما في الحيوان والنبات. ليس صدفة ان النخيل يثمر فقط في المناطق المشمسة مثل العالم العربي، ولا يثمر في اوربا الكثيرة الغيوم. بل حتى المناطق الصغيرة في داخلها ثمة اختلافات كبيرة. إذ ترى  نفس الجبل تختلف فيه الحياة والزراعة بين جهتيه المتعاكستين، التي تشرق عليها الشمس عن التي تغرب عليها الشمس!  كذلل اختلاف حيوانات المناطق الاستوائية في افريقيا والهند، عن حيوانات المناطق الباردة في جنوب وشمال الارض.

ان هذا يشرح سبب تلك الفروق الكبيرة في الشخصية والسلوكيات والعادات بين سكان الجبال والبوادي والبحار. كذلك سكان المناطق شبه المستوية والجافة والنادرة الغابات مثل العالم العربي، عن سكان اوربا الكثيرة التضاريس والبرد والانهار والامطار والغابات.(5)

ليس صدفة ان جميع الحضارات، لم تنشا في المناطق المعزولة والصعبة، مثل الجبال والبوادي والجزر والمنجمدة والاستوائية. جميع الحضارات المعروفة نشأت، اما في السهول النهرية، مثل مصر والعراق والصين، او على ضفاف البحار مثل الكنعانية والقرطاجية واليونانية والرومانية، ثم الحضارة الغربية الحديثة في اوربا وامريكا.(6) ان عظمة (الحضارة العربية الاسلامية) متأتية من جمعها الجغرافي لهذين الجانبين: النهري والبحري. اما الهضاب العالية المحمية بالجبال، مثل الاناضول وايران والمكسيك، فانها قادرة على خلق الدول القوية والامبراطوريات، لكن ارتفاعاتها وعزلتها الجبلية التي تمنح ناسها الصلابة والذكاء التنظيمي،  تمنع عنهم (الانفتاح النفسي والفضول المعرفي) التي هي شروط الابداع الحضاري.(7)

روح المكان وروح الوطن

لهذا، يصح القول بأن اي وطن او اقليم بمختلف جماعاته الاقوامية والدينية، مهما تميزوا عن بعضهم لغويا وثقافيا ودينيا، فأنهم رغما عنهم بشتركون بالانتماء الى (روح الارض) التي يشتركون بالعيش فيها. وبالتالي فأنهم ينتمون جميعا الى (تاريخ وشخصية هذه الارض). أي مثلا، ان (الكردي والتركماني والسرياني، في العراق وسوريا) رغم تمايزه اللغوي والميراثي، فأنه يشترك مع باقي العراقيين والسوريين بنفس (روح وشخصية) هذين البلدين، وينتميان لنفس تاريخهما. نفس هذا الكلام ينطبق على (القبطي والمسلم) في مصر، و(البربري: الامازيغي والعربي) في البلدان المغاربية.(8)

أنها حقا لخطيئة تلك الفكرة العرقية العنصرية والدينية السائدة: بأن الانسان ينتمي فقط لجماعته الاقوامية والدينية في كل مكان وزمان مهما اختلفت الاوطان وتباعدت الازمان.

ان اشنع مثال عنصري هي (العقيدة الصهيونية) التي الغت جميع (الفروق المكانية والزمانية) بين الجاليات اليهودية المشتته في العالمين الاوربي والعربي، واعتبرتهم (شعبا واحدا موحدا) يحق له الاستيلاء بالقوة على ارض هجرها منذ اكثر من الفي عام، وتبرير طرد شعبها الذي يقطنها منذ الاف الاعوام نحو(ارضه العرقية) المفترضة: الجزيرة العربية!!

***

سليم مطر ـ جنيف

......................

المصادر:

(1) ـ ابحث عن: ـ  روح المكان/ كذلك: / Genius loci كذلك: The Power of Place

(2) ـ ابحث في ويكيبديا: الجامع الاموي

(3) ـ عن (ابن خلدون والجغرافيا) ابحث عن:

ـ مقدمة ابن خلدون: الجزء الاول: القسم الأول من تفصيل الكلام على هذه الجغرافيا

ـ جغرافيا عالم الاسلام في فكر ابن خلدون: الياس بلكا

(4) ـ ابحث عن: فانغ شوي:  Feng Shui

(5) ـ ابحث عن دراستنا المنشورة:

ـ لهذا السبب نشأت لدينا(الاديان السماوية) ونشأت عندهم (الفلسفة)! سليم مطر

ـ عشرة آلاف عام من تاريخ العلاقات بين اوربا والعالم العربي: سليم مطر

(6) ـ ابحث عن دراستنا: ماهي الحضارة، وما فرقها عن الثقافة؟ .... هل نحن مقبلون على (حضارة عالمية جديدة)؟: سليم مطر

(7) ـ ــ دراستنا المنشورة: ثلاثة آلاف عام من الاحتلالاتن الاناضولية ـ الايرانية لبلداننا! سليم مطر

(8) ـ ابحث عن دراستنا المنشورة: ـ من اجل تدوين جديد لتاريخ العالم العربي، غير التاريخ العرقي الفومي السائد.. تاريخ الارض والانسان: سليم مطر

 

قارئي الكريم، انتبهت وانأ ادرس اللغة الاسبانية ومنذ سنين ان حرفا لا وجود له في ألف بائية هذه اللغة ألاتينية البديعة لا كتابة ولا لفظا صوتيا. لغة تكسوها ستار من كلمات فينيقية، امازيغية وعربية ولاتينية واسبانية بطبيعة الحال ورغم تعلمي هذه اللغة أي الاسبانية وانأ على أعتاب السبعين وكلغة عاشرة ليس بالأمر الهين.

سألني صديقي الايرلندي عن حالي مع هذه اللغة ؟

فقلت ما اسمعه بأذاني الأيسر يخرج فورا من الأيمن. خلاصة الحديث (مربط الحچی كما يقول العراقي) ان هذا الحرف المجهول تحول مع الزمن الى حرف اخر كما هي في المعادلات الحسابية أي (X) المجهول. هذا الصوت الجميل هو حرف (الشين) يعتبر أساسا للحروف الشمسية التي أخذت طبيعتها من كرم شعاع الشمس في بلاد الرافدين. تلك التي بدا البشر ومنذ الخليقة معرفة أهميتها ومن ثم عبادتها كمصدر للحياة والحكمة على الثرى . نعم تلك هي" الشمش" والحرف هو الشين (ش).

نصوص الكتابة في اي لغة تعكس البيئة التي تنشأ فيها و(ديناميكية) اي كلماتها تتغير زمنيا ومكانيا وبيئيا وترتبط بتلك البيئة والحالة العلمية والاجتماعية السائدة. اللغة كائن حي ديناميكي تتطور تتغير تنمو وأحيانا تموت. اما حروف الكتابة في اي لغة من لغات العالم فهي ليست من أساسيات تلك اللغة اي اننا نستطيع كتابة اي لغة في العالم ب الحروف الأبجدية او ألاتينية وحتى المسمارية والمصرية القديمة. لكل حرف او شكل معين او حتى صورة صوت لفظي يقابله. اللغة المصرية القديمة فك رموزها عن طريق اكتشاف حجر الرشيد الموجود الان في المتحف البريطاني لوجود نص كتب بلغات ثلاث على النص. وكون النص واحد اي مترجم وعن طريق كلمة واحدة وهو اسم الملك الذي تكرر في النص بثلاث لغات تمكن علماء اللغويات من فك رموز الكلمات ومعانيها. الان يمكن الغناء بكلمات من اللغة المصرية القديمة وحتى بلغات الحضارات الرافيدينة القديمة.

حروف ورسم الأصوات تغيرت عبر العصور ولا زالت تتطور خاصة ما يشمل الرموز وتلك الكتابة الرمزية التي تطورت كثيرا مع اكتشاف عالم الانترنت والتواصل الاجتماعي ونفهمها اينما كنا على كوكبنا الأرضي وهي غير صوتية اي ساكنة (صامتة) تماما كما في إشارة  وإشارات اخرى كثيرة لا نحتاج الى قاموس لفهمها. هذه الإشارات تستخدم وتقرئ ساكنة اي دون إصدار اي صوت وأهمها ربما الإشارات المرورية.

هنا أود ان اروي لكم حادثة عن الپيشمرگة ابان اشتعال الحرب في ربوع كوردستان في ١١ ايلول من عان ١٩٦١ وقادها الخالد مصطفى محمد البارزاني والحزب الديمقراطي الكوردستاني فكان على المخابر ان يتحدث عن طريق ألاسلكي بالشفرة مع المقاتلين على قمم الجبال الاخرى كي لا يفهم  ما يقال وقد فطن احد الپيشمرگة ان اللهجة الهورامية للتخاطب، وهي لهجة جبلية، صعبة لا يجيدها حتى الكورد أنفسهم فطلب من المراسل في الجهة التي يراسلها عبر جهاز ألاسلكي ان يبحث عن من يعرف تلك اللهجة وبذلك تمكن من التواصل دون الحاجة الى تشفير المحادثة و دون ان يكشف احد سر حديثهم. ونرى اثار كل ذلك التعددية في اللهجات لحد الان خاصة في بلاد الرافدين وفي بعض المدن العراقية نرى عدد من اللهجات المختلفة وفي كل حي لهجة خاصة به. اما المحور الأخر لاستخدام الكتابة فجاء من التجارة وتوثيق المبيعات والمشتريات والديون والقروض والاتفاقيات التجارية وتوثيق مقدار المبالغ عدديا او الكيل  (الاوزان).491 quran

الكتابة بحروف معينة يسهل نطق الكلمات من ناحية ومن ناحية اخرى يتجنب المرء التكرار في الكتابة والتشكيل كما في حرف الشين في الانكليزية حيث تكتب بعشرات الأشكال وتلفظ كلها شين. وقد انتبه الى ذلك اللغويون في لغات اخرى فكتبوها (ș) وذلك بإضافة همزة تحت او على حرف السين. من المعلوم بان الأبجدية التي يكتب بها العربية والفارسية ولغات اخرى وكانت التركية العثمانية تكتب بها كذلك . كانت الأبجدية بشكلها فی اللغة الارامية قبل الاسلام قاصرة على اللغة العربية الحجازية واليهودية في كتابة التواه والمسيحية في الإنجيل. مخارج الصوت للبيئة الصحراوية الجافة في إخراج أصوات كما في حرف القاف ، الحاء، العين، الغين ولا تحتوي كذلك على صور لأصوات اكثر لينا من اللغات الأخرى كما هو ( ۆ ئ ێ گ ڤ چ ڵ پ( وتم استخدام الأحرف الأبجدية المعتادة مع تغيرات أجريت عليها كي تعطي لفظ تلك الحروف قاران مع الاتينية (w è e g v ç  ll p)  بالإضافة الى وجود أصوات لا تكتب خاصة في اللغة الكوردية وفي التركية مثلا تم تغير حرف ألاتيني  ( i ) دون التنقيط

(ı ) أي للفظ ذلك الصوت ولم يتوفر مثلا صورة في ألاتينية لحروف ( ع غ ح خ ) الأبجدية في حين كتب الجيم (c) والحاء والخاء   (h ) والغين (ğ) والعين a) ) كما في اسم علي ، Ali  والضاد، الزاي والذال (z  ) كما في كلمة ظالم zalım ,

ترجيح الكتابة بإحدى الصور لا علاقة له باللغة القومية اي صورة الحروف الهجائية غير قومية. يمكن كتابة العربية بالحروف ألاتينية باتفاق اللفظ مع القارئ كما فعل الجمهورية التركية حين اصدر قانونا بتغير الأبجدية الى الحروف ألاتينية. هذا التغير يمكن تفعيلة لمعظم لغات العالم وتوحيد ألف بائية لجميع لغات البشر.

الا اننا نجد اتجاهات بهذا المسار مثلا في كتابة نصوص الإنجيل بجميع اللغات الاستثناء نراه في النص ألقراني المنحصر باللغة العربية والتوراة بالعبرية في حين يمكن كتابة نصوص الإنجيل وكما ذكرت باي لغة كانت وباستخدام اي خط و حرف من اي لغة: العربية، اليونانية، السلاڤية (السيريلية)، ألاتينية ، اليابانية، الصينية وكتابات اخرى ومن جميع أنحاء العالم وذلك لان فهم النص والمرويات عند التعبد كان اهم للناس ولم يتم تقديس كتابة او لغة النص كما هي عليه في العربية والعبرية مثلا.

كانت هناك عدد من المحاولات بكتابة النص القرآني بالفارسية والتركية وحتى بالبوسنية وشاهدت حتى كتبا ترجم فيها معنى النص الى الانكليزية و السويدية لكنها تبقى نصوص خارج النص العربي ولا يمكن التعبد بها فنحن نصلي بالعربية مهما كانت لغتنا إلام القومية وأينما كنا.وهذا يعني بدوره ان من يتكلم لغة ما ويجيدها وينتمي الى ثقافتها ليس من مطلوبا منه ان ينتمي الى ذلك القوم.

لا ريب ان حتى نصوص القران في بداية التدوين لم ترسم بالحروف الأبجدية الحالية ولم تكن هناك تنقيط او تشديد (الشدة والضمة والفتحة والكسرة، التسكين) وأمور أخرى يتحكم بتلاوة النص الحكيم من الوقفة الإلزامية والاسترسال وعدم التوقف. الحروف القديمة لكتابة النص كانت معروفة قبل ١٤٠٠ عاما ويكتب بها لغات اخرى في الجزيرة العربية كالحروف الكتابة بخطوط من الفينيقية والمصرية القديمة و الآرامية (الكنعانية) والمسندية (اليمنية).

اما الكتابات الأبجدية الحالية بجميع إشكالها (الرقعة، الديوان، النسخ، الكوفي، المحقق، الريحاني، المكسر، الثلث، الفارسي، المغربي التركي، ......) فكلها مستحدثة ولا علاقة لها بالشكل الذي ورد عند تدوين القران الكريم أيام نزول الرسالة المحمدية.

تشكيل الصوت اي إعطاء شكل للصوت الصادر من الحنجرة بدا مع الكتابة وفي الحضارات الشرقية والحاجة ام الاختراع كما يقال والحاجة للكتابة بدأت على محورين احدهما ديني استغل حصيرا من قبل رجال الدين والكهنة وأقربائهم وبقت بعيدة عن عامة الناس اذ بقى العامة يتحدثون بلهجاتهم الخاصة بهم وبما ان التواصل والسفر بين الأقوام كان صعبا جدا فكانت بعض العوائل تتحدث بلهجات خاصة بها تستخدمها كسلاح كي لا يفهم الآخرون ما يتحدثون به من إسرار.

تبقى مسالة توحيد لغات العالم قراءة وكتابة لتسهيل الاتصالات والتفاهم بين الشعوب أمل و حلما نبيلا للبشرية جمعاء في المستقبل.

***

د. توفيق رفيق التونچي - الأندلس

2024

 

لطالما كانت الطلاقة في الحديث من أهم الصفات التي تميز العرب، وقد أضحت هذه السمة جزءاً لا يتجزأ من هويتهم الثقافية. يقول الجاحظ في كتابه "البيان والتبيان": "ليس في الأرض كلام هو أمتع، ولا آنق، ولا ألذّ في الأسماع، ولا أشدّ اتّصالاً للعقول السليمة، من طول استماع حديث الأعراب العُقَلاء الفُصَحاء والعُلَماء البُلَغاء."

تتجلى هذه الطلاقة في كل زاوية من زوايا الحياة العربية، حيث يُعتبر الحديث فناً يُمارَس بشغف وإبداع. تبرز قدرة المتحدث على استخدام اللغة كأداة لنقل الأفكار والمشاعر، مما يخلق جواً من التواصل العميق بين الناس. فكل كلمة تُنطق تحمل في طياتها عبق التراث وجمال البلاغة، مما يجعل كل حديث تجربة فريدة تنسج خيوط التواصل بين الأجيال.

بالطلاقة إننا نقصد عذوبة النطق التي تضمن التواصل السليم وترتبط مباشرة بالذكاء اللغوي لدى الفرد والذكاء اللغوي أحد أنواع الذكاءات التسعة التي تشكّل نظرية عالم النفس الأمريكي هوارد جاردنر. يعرّف الباحثون الذكاء اللغوي بأنه القدرة الفعالة علی استخدام اللغة في تحقیق أهداف معینة، مثل التعبیر عن النفس وفهم المعاني والاستماع الفعال وتذكر المعلومات والتعبیر عنها وأیضا التحدث بطلاقة وفاعلیة.

في هذا الشأن حاولنا اختبار الذكاء اللغوي أو قياس الذكاء اللفظي من خلال اختبار طلاقة اللسان وعذوبة النطق (باللغة العامية السليمة) على ١٦٣ فردا من الأهوازيين (٧٥ من الذكور و٨٨ من الإناث ) في الفئة العمرية بين ١٩ إلى ٢٣ عاما، فطلبنا منهم أن يتحدثوا عن موضوعٍ شرحنا تفاصيله دون انقطاع ودون خلط مفردات أو عبارات فارسية لثلاث دقائق. بعد إدارة البحث وجمع وتحليل وتفسير النتائج أظهرت النتائج أن نسبة الطلاقة عند العينة المستخدمة بلغت نحو ٣٠ بالمئة مما تشير إلى ضعف واضح في الذكاء اللغوي لدى الأهوازيين. استطاع ٥٤ فرداً من العينة (٤٣ من الذكور و١١من الإناث) أن يتحدثوا عن الموضوع المناقَش وفق قواعد منهجية واستخدام مفردات جيدة تضمن التواصل السليم مع المخاطب أي كان تدفق الكلمات لديهم طبيعيا إلى حد كبير. أما النسبة المتبقية (أي نحو ٧٠ بالمئة من العينة) فكانت ضحية اضطرابات لغوية كالتلعثم والتأتأة أو عدم تهجّى الكلمات بدقة، خلط الموضوع بمواضيع أخرى غير مرتبطة، اللجوء للمفردات الفارسية، الصعوبة في إيجاد المفردات المناسبة، النطق بجملات غير متماسكة، والتحدث بعبارات فارغة تفتقر إلى أي معنى.

تثبت هذه النتائج أن معظم الأهوازيين يعانون لغوياً بمعنى أنّ لديهم اضطرابات لغوية عند التحدث والتواصل السليم مع الآخرين شفوياً فلا يستطيعون أن يتحدثوا لدقائق (أو حتى لثوانٍ في بعض الأحيان) بلغتهم العربية السليمة) على الرغم من معدل ذكائهم الطبيعي وسلامة بقية المهام والقدرات فيهم.

بالطبع الأسباب التي تؤثر في تضعيف الذكاء اللغوي كثيرة نطرح ثلاثة منها هنا، فإذا وضعنا الفروق الفردية جانبا هناك:

الف) البنية المعرفية السابقة والتي تأتي من القراءة والاستماع للحوارات المفيدة وهذه ما تفتقدة معظم الأسر الأهوازية فعملية المعرفة وتطويرها شبه معدومة في الأسرة العربية وتُعوّل الأسر غالبا ما على المدرسة والنصوص المدرسية باللغة الفارسية التي قلّما يفهمها الأطفال.

ب) ذكاء الفرد اللغوي يرتبط بالظروف المحيطة ودرجة احتكاكه بالناس وتفاعله الاجتماعي. ينبغي أن تبعث البيئة التي يعيش فيها الفرد روح الثقة بالنفس، والمشاركة في الحديث مع الآخرين بعيدا عن الاستهزاء والسخرية

ج) التذبذب بين اللغتين العربية والفارسية وعدم اتقان كل لغةٍ على حِده. التذبذب يحدث حالة من الضياع والتشتت في ذهن الفرد مما يعسّر عملية النطق بطلاقة. لم يتقن أغلب الأهوازيين اللغة العربية السليمة فتراه يمزج بينها وبين الفارسية للتعبير عن نفسه وهذا يضر بلغته العربية لا محال. إنه لا يتقن الفارسية أيضا ليعبر فيها عن رأي أو خطاب يدور في ذهنه لذا تراه ضيّع المغنمين. نحن نعي أن تعلم أي لغة مفيد للعقل لكن هذا ليس معناه أن نتعلم لغة جديدة وننسى لغتنا أو نخلط بين هذه وتلك ولتكن كل لغة في مكانها ومكانتها.

الذكاء اللغوي مهم جدا لاشك أن التفكیر عند الفرد یرتبط بذكائه اللغوي ویمثل هذا الذكاء أكثر من 80% من نسبة نجاحه في التعلّم ومن دونه یصبح التعلیم المدرسي والجامعي محبطا كما یرتفع معدل الفشل لدی الأفراد بشكل كبیر علی الرغم من كفایتهم في الذكاءات الأخری ( الاحصائيات الرسمية تؤيد الفشل الدراسي في الأحياء العربية). أيضا أثبتت الدراسات أن 85% من ذكاءات الفرد في الحياة كالذكاء العاطفي، والذكاء المنطقي الرياضي وغيرها تعود إلى تواصله اللغوي.

إذن من منطلق أنّ معرفة المشكلة وتحديدها أهم نقطة في حلّها ينبغي إعمال المطلوب سريعا على ضعف الذكاء اللغوي بغية تحسينه لدى الأهوازيين وهناك أساليب عدة لهذا الغرض نشير إلى بعضٍ منها:

* الاستماع وتعويد الأذنين على الخطب والحوارات والأخبار والأفلام العربية حيث تتضمن مفردات وأساليب لغوية سليمة

* القراءة أو الاستماع للقصص العربية المتوفرة في الكتب وفي الشبكة العنكبوتية،

* تحفيز الدماغ من خلال حل الألغاز اللغوية العربية

* التحدث عن موضوع محدد أي تنفيذ حلقات نقاشية في الأسرة وبين الأصدقاء

* اهتمام الأسرة بقراءة القصص العربية لأطفالهم عند النوم

* حث الأطفال على حفظ سوَرٍ من القرآن الكريم وأيضا حفظ الأناشيد العربية وقراءتها أمام أفراد الأسرة والأصدقاء

* تفعيل وتنشيط القنوات العربية للصغار والكبار.

* الاستمرار بحملات قل و لا تقل.. (مثلا قل زقاق / "دربونه" لا تقل كوچه)

* تطبيقات الهواتف الذكية: الاستفادة من التطبيقات التعليمية المتخصصة في اللغة العربية، التي توفر تمارين تفاعلية وتحديات لغوية تساعد في تحسين المفردات والقواعد.

* المشاركة في المسابقات الأدبية: تشجيع المشاركة في مسابقات الكتابة أو الشعر، حيث يمكن للأفراد التعبير عن إبداعاتهم وتلقي الملاحظات البناءة.

* كتابة اليوميات: تشجيع الأفراد على كتابة يومياتهم باللغة العربية، مما يساعدهم على التعبير عن أفكارهم ومشاعرهم بشكل منتظم.

* مشاركة المحتوى الثقافي في الفضاء الافتراضي و الحقيقي.

كل هذه الأساليب تعمل على معالجة الاضطرابات اللغوية المتفشية وتحسين  الذكاء اللغوي وتعزيز مهارات التعبير بشكل ملحوظ لدى الأهوازيين. إن تحقيق هذه الأهداف يتطلب عناية خاصة من الجهات المعنية، بما في ذلك المؤسسات التعليمية الحکومیة والحرة، والمثقفين، والإعلاميين الذين يمتلكون القدرة على التأثير.

يجب أن تتضافر الجهود لتطوير برامج تعليمية وورش عمل تهدف إلى تعزيز الطلاقة اللغوية، بالإضافة إلى إنشاء محتوى إعلامي يساهم في نشر الوعي حول أهمية اللغة العربية غير المشوهة. كما ينبغي تشجيع المجتمع على المشاركة الفعالة في هذه المبادرات لضمان تحقيق نتائج إيجابية ومستدامة في تحسين الذكاء اللغوي لدى الأجيال القادمة.

***

د. سعيد بوسامر/ كاتب وباحث من الأهواز

.............................

المصادر التي راجعها الباحث:

-Shabibi asl. Nadereh. (2015). The impact of storytelling on verbal intelligence of preschoolers in Ahwaz. J.Appl. environ. Biol. Sci, 5(11s). 839-843.

- بوسامر، سعيد. أنا لغتي: دراسة حول اللغة الأم وتنميتها في الأهواز. نشر قهوة.

- جواد، حنافي. نظرة في الذكاء و الذكاءات. نشر في: www.alukah.net

- محمد، أسماء. تنمية الذكاء اللغوي للصغار والكبار. ٢٠٢١.

- يوسف، معاذ. دليل الطالب الشامل للتعامل مع أنواع الذكاء المختلفة . ٢٠٢٠. نشر في: www. Arageek. com

يَنبت مثقّف المهجر بمثابة الفسيلة البريّة الباحثة عن حضور في تربة غير تربتها، وفي مناخ لم تألف النّماء فيه. ولذلك غالبا ما يفرض الواقع المغاير على المثقف المهاجر العيش على الأطراف، في هامش الواقع الجديد، بعيدا عن المركز وضوابط المؤسسة. فيقنع بالحفاظ على وجوده المادي مؤجلا أحلامه ومطامحه إلى أجل غير معلوم. وقد تَطول رحلة البحث عن الاندماج أو تقصر، وقد لا تأتي أبدا، فكثير ممّن تحدّثهم النفس بالهجرة لا يدرون عواقب ما تخبّئه الأيام. فليس المهاجر غير القانوني وحده من يُفْرط في الأحلام، بل يشاركه المثقف والدارس على حد سواء. فاللافت أنّ إغواء الهجرة يطمس الوعي ويهوّن من تقدير العواقب. لمستُ هذا لدى العديد من الزملاء الجامعيين وغير الجامعيين، العاملين في حقل الثقافة، ممن يتحفّزون للهجرة وكأنّ العملية نزهة عابرة.

ففي المهجر كثير من المثقفين السائبين، أكرهتهم أوضاع العيش الجديد على تغيير المسار، والتفريط في ما كان يشغل بالهم قبل الرحيل. لأنّ معركة تسوية أذون الإقامة، وترتيب الوضع القانوني، والعثور على شغل كريم، هي معركة ضارية ومتجددة، قد تستنزف المهاجر وتأتي على آخر ما تبقى لديه من طاقة وعزيمة. ومن الهيّن أن يتحول المثقف العائم إلى رصيد إضافي في عالم المهمّشين في الغرب، فيغدو شغله الشاغل اللقمة التي يسدّ بها رمقه والمأوى الذي يأوي إليه في الملاجئ الاجتماعية التي يلجأ إليها المهمَّشون حين تتقطّع بهم السُّبل. إذ يتصور كثيرون أن الهجرة منتهى الإنجاز، والحال أنّ المُهاجر كلّما قطع شوطا في المصاعب داهمته أخرى. وكثيرا ما يرتطم الحالمون بواقع غير متصوَّر يسلب منهم ما تبقى من روابط بعالم الثقافة والمثقفين، وقد زاد "كوفيد" الطين بلّة بما خلّفه من برود في العلاقات وجمود في الاتصالات وركود في عمل الإدارات.

فالملاحظ أنّ جلّ المثقفين الحالمين بالهجرة يأتون إلى الغرب محمّلين برؤى طهرية عن عالم البحث والإبداع والكتّاب والدراسات، تخلو من الواقعية وفيها الكثير من السذاجة أحيانا. على أساس أنّ ذلك الوسط يخلو من مساوئ الاستغلال والانتهازية والميز والتدافع المحموم، ويسود فيه تقدير المواهب والترحيب بالقدرات، بفعل رواج عديد الأساطير عن الغرب الحاضن والشرق الطارد. ويكفي أن يكون المرء جامعيا أو شاعرا أو كاتبا ليلقى الترحاب والتبجيل. لذلك يمنّي المثقف الحالم نفسه باندماج سريع في أوساط المثقفين الغربيين العاملين في مجالات الصحافة والتدريس والدوائر الثقافية والحقول الفنية وما شابهها. والواقع أنّ المتحكِمين بتلك القطاعات ما إن يتفطّن الواحد منهم إلى هشاشة الوافد الجديد وحاجته وعوزه حتى يتحول في عينيه إلى غنيمة. يُقرَّب بالقدر الذي يظيفه من تحسين لمشاريعهم الكتابية والبحثية والأكاديمية، وفي هذه النقطة تبدأ رحلة أخرى للمثقف المهاجر مع الابتزاز، تكون أحيانا قهرية ومفروضة. وقلّة من تنجو من هذا الوضع المزري، لأنّ الاستغلال الثقافي أسوأ على المثقف من الاستغلال المادي، يكابد فيه أبشع أنواع السخرة. ومن الغربيين المقاوِلين في حقل الثقافة، ولا سيما المستثمرين في ثقافة الشرق، من تُنتِج لهم الترجمات والدراسات والأبحاث، وقد يرفعونك إلى مقام رئاسة التحرير أو يدرجونك ضمن الهيئات الاستشارية في مراكز الأبحاث والدوريات. حتى ليَحسب الغافل أن إسهامه الثقافي يقوم على الاحترام والتقدير لشخصه، بوصفه شريكا في المنجَز. يتنبّه مع تراكم التجارب وتعدد الوقائع إلى فضاعة الاستغلال ودناءة الخُلق في حقل كان يحسبه مبرَّءا من المساوئ. وفي حقيقة الأمر ما المثقف الشرقي الهشّ سوى جسر للمرور عليه، وواجهة للعرض لا غير. وإن حدّثك القائمون على تلك المؤسسات طويلا عن قناعاتهم اليسارية الكونية، وأن الأحرار جميعا، في الشرق أم في الغرب، جبهة واحدة ضدّ الرأسمالية المتوحشة وضدّ تسليع المعرفة.

إذ يتربّع كثير من مقاوِلي الثقافة في الغرب على أقسام الاستشراق والاستعراب، وعلى كثير من مجالات البحث الأثري والأنثروبولوجي وما شابهها، وتروج أسماءهم على الألسن ويشيع صيطهم في الداخل والخارج، بَيْد أنّ التعامل معهم عن قرب يكشف للمرء عن رِجال مقاولة وصفقات ربحية، لا أصحاب مشاريع بحث علمي أو حوار حضاري، مثلما يردّدون كلّما سنحت الفرصة لهم باعتلاء المنابر العالية. تراهم يصطادون الجوائز السخية في الشرق، وثمة منهم من يقدّم الطلب تلو الطلب، بلا استحياء، مستجديا الجائزة الفلانية على اعتبار أنه الأجدر بها. وثمة من يختلق المشاريع الثقافية المزيفة (مجلات، مؤسسات بحث، أعمال ترجمة، عقد ندوات) لخلق وجاهة واهية لابتزاز االطيبين في الشرق بدعوى خدمة الثقافة العربية أو الصينية أو الفارسية أو غيرها.

يدفع هذا الوضع المريب المثقفَ المهاجرَ للتريّث والتأمّل، في مسعى للقيام بجرد حساب، أمام ما تتكشف لناظريه من أشغال المقاوَلة في قطاع الثقافة، تغلب فيها المصلحة ويتقلص منها الإبداع. إذ ثمة أسماء غربية في حقل الاستشراق، وفي حقل دراسات الأدب العربي والترجمة من العربية، يتحولون في الشوط الأخير من مشوارهم الأكاديمي إلى عرّابين لا إلى أعلام ومراجع، يرتّبون الصفقات بين الداخل والخارج لا غير. فبناء على رصيد الشهرة المتراكم في ماضي السنوات يغدو تكفّلهم بأي إنجاز ثقافي مبنيّا على تقييم مادي، وغالبا ما يُحوَّل إلى المتعاونين والمساعدين والطلاب. حضرتُ يوما مشادة كلامية بين مستعرِبة عرّابة ومترجم عربي أجير، لأنّ العرابة في غفلة منها، أُسقط اسمها من العمل المنجز، ولم يظهر على الغلاف الرئيسي فقامت الطامة الكبرى.

يراودنا سؤال أيّ دور ملقى على عاتق مثقف المهجر؟ في واقع الأمر ينبغي ألا يُحمّل هذا المثقف ما لا يحتمل، وألا يثقل كاهله بالالتزام، أو يُطلب منه ليتحول إلى جسر تعبر على عاتقه الأفكار والأخبار، ولكن تكفي شهادة صادقة له عن واقع لطالما افْتقدنا إلى الإلمام بخباياه من الداخل.

***

د. عز الدين عناية

أستاذ تونسي بجامعة روما-إيطاليا

 

علينا أن ندرك بدايةً أن للتطرف أسباب وتداعيات، وأن بداية المشوار الحديث بدأ من تنظيم القاعدة كنموذج ظلامي للتطرف الديني.

التطرف هو ثقافة، وموجود منذ القرن الأول الميلادي، ومن ثم في العصر الإسلامي، ومن ثم على هامش الحركة الإصلاحية التي قادها مارتن لوثر كينغ في الولايات المتحدة، حيث استغلها متطرفون وهدموا العديد من الكنائس ومحتوياتها، والأمثلة كثيرة عبر التاريخ. والعقلية الدينية المتطرفة في المجتمع العربي هي سبب تخلّف هذه المنطقة من خلال الإقصاء والتشدد في الأمور. ومن خلال الإكراه في الدين والعنف في المواقف. فلو أخذنا كلمة " الأمن " تراها مفردة واحدة، ولكن مفهومها شامل وتحتاجه كل الدول والشعوب وفي كل مجالات الحياة، فهناك بكل تأكيد أمن عسكري، وآخر غذائي، وأمن إقتصادي، وأمن فكري، وأشياء أخرى يحتاجها الإنسان لحماية نفسه، ولعل أهمها هو الأمن الثقافي الذي يمثّل أحد أهم إحتياجات الإنسان التي تضمن له نوعاً من الاستقرار والسلم الأهلي، وشروط استمرارية الحياة في مجالٍ آمن، ومن خلال الإرتكاز إلى فكرٍ معتدل ينهض بالأمة ويحصّن الوطن، ويصون المجتمع من خلال سياسة الحكمة والتسامح والتعايش. لذلك نرى أن أهم أسباب التطرف هو سوء التعامل السياسي بين السلطة والشعب بكل مكوناته وأطيافه، وغياب العدالة، وغياب العدل، إضافة إلى قمع الحريات وتهميش بعض مكونات المجتمع، ومضاعفة نسبة التخلف والجهل، وتحقيق زيادة في نسبة الفقر بدلاً من التقدم والرفاهية. ورغم كل ما واجهته المنطقة من التطرف والإرهاب خلال السنوات السابقة إلاّ أن الحكومات والمنظمات ولغاية الآن لم يضعوا خطةً أو برنامجاً جاداً لمواجهة التطرف بكل أشكاله، ولو على مستوى مشاريع قوانين أو آليات لمكافحة التطرف. وعلينا أن نعي بأن التطرف الديني والمذهبي صفةٌ طاغية في التاريخ العربي الإسلامي، ويظلّ أساس التطرف الديني أصل في تراثنا الفقهي، وكتب تاريخنا العتيدة، حينما يُنصّبون أنفسهم أوصياء بإسم الله على الناس، فإمّا أن يكونوا معهم أو يُقتلوا، لأنهم الفرقة الناجية من النار، وسواهم كفّار قتلهم واجب " كما يقولون ". لذلك أرى ومن باب الحرص على الثقافة والمجتمع والدولة والأمة، أنه لا بد من نقد وتنقية كتبنا وإعادة مراجعتها وبتر سياسة الإقصاء والكراهية ومبدأ الفرقة الناجية دون سواها. كما لا بد من رفع نظرة التقديس لّلآراء والنصوص والأفكار واستبدالها بسياسة المنطق والعقل، وبالتالي إطلاق حرية الفكر والعقيدة والتعبير عن الرأي. ومن جهة أخرى لا بد من تحرير الناس من تقديس البشر وعبادة الأشخاص، وتأهيلهم كي يُحاكِموا الأقوال والأفعال بدل سياسة الجري خلف الأشخاص كقطيعٍ من الغنم. فما نحتاجه هو أصوات معتدلة تدافع عن الآخر، وحكومةٌ تحمي الآخر، وقصرٌ جمهوري ينطلق منه صوت الشعب، حينها سيُعاد بناء الثقة، ويرتفع خطر التطرف والإرهاب، ويتم ترميم سلمنا الإجتماعي والثقافي والسياسي بشكلٍ تدريجي وسلس. وأنا هنا لا أقول بأن التطرف سينتهي أو يتلاشى، لكنه سيخفّ ويهدأ ويضعف، وقد يعود فيما إذا وجد أن هناك ظروف ملائمة لانتشاره من جديد. ومن هنا نؤكّد على ضرورة حاجتنا إلى تأسيس مركز لتشخيص الفكر المتطرف وعلاجه، ورعاية وتأهيل المتأثرين به، بهدف التأثير في تركيبتهم الفكرية المتطرفة وبترها. من خلال البحث الجاد في موضوع الحوار والوسطية و الاعتدال لبلورة المواجهة بطريقةٍ تتضمن البُعد الفكري والإستراتيجي. ولعل من أهم الأمور التي تساعدنا في محاربة التطرف والإرهاب هي ترشيد ومراجعة وتوجيه الخطاب الديني، ورفع مستوى تأهيل الأئمة والخطباء بهدف مواجهة التطرف الفكري ومنابته. ومن الأهمية بمكان مراقبة مواقع التواصل الإجتماعي التي هي نافذة حيّة لمحاربة ومكافحة التطرف. وعلينا أن نأخذ بعين الإعتبار أن المجتمعات الشرقية من السهل إختراقها عاطفياً، لأنها مجتمعات تربّت على كمٍ كبير من العاطفة على حساب التوجيه النصي والفكري والعقلي، فالبنية الفكرية الشرقية تميل إلى البساطة والتديّن، وهكذا تركيبة تكون مهيّأة لّلإستغلال والإختراق، لذلك لا بد من رفع مستوى الوعي معهم وعندهم، من خلال الأمن الثقافي والفكري كمنظومة متكاملة، التعاون والتنسيق مع الآخر مهم مع بقاء سمة التعددية والتنوّع كبصمةٍ وطنية، مع ثوابت حفظ الحقوق وتحريم وتجريم العنف والإعتداء على الآخر، والمحافظة على التعايش والمواطنة والتآلف وعلى الهوية الوطنية. لأننا لو قاربنا الأمور أو الواقع لثبت لدينا أن من أهم أسباب العنف والتطرف والإرهاب هو أن القمع في دولةٍ ما ألغى السياسة فيها وفي مجتمعها، وتحوّلت السلطة من خلال القمع إلى مجالٍ للتوحّش السياسي ضد الفرد والجماعة، ومن خلال هكذا واقع خرجت فئآت شبابية بشكلٍ خاص على مجال التوحش السياسي الرسمي من خلال لجوئها إلى تنظيماتٍ متطرفةٍ دينية، وراحت تناهض الأنظمة الإستبدادية من خلال العنف والتطرف الفكري والإرهاب الديني والثقافة التكفيرية، بمعنى أنها تكفّر الآخر بغض النظر إن كان مسلماً أو من طائفةٍ أخرى وتنبذه وتقصيه وتقتله. ومن خلال هذا السياق نقول أن ثقافة الفكر التكفيري هي من نتاج التعليم الديني المتشدد أو من القراءات السطحية للنصوص، ومن هنا تكمن العلّة الأكثر عمقاً وراء طغيان الإرهاب التكفيري. كما أن هناك أسباب اقتصادية لانتشار التطرف، مثل الفقر، والتهميش والبطالة، والمرض والجهل، وسوى ذلك من أمور كانت مناخاً مليئاً باليأس والإحباط، والذي دفع ببعض الشباب أو بكتل شبابية إلى الإلتحاق بتشكيلات الإسلام السياسي المتطرف، لمواجهة السلطة والتحرر من اليأس والإحباط والفشل.

المتطرف يستخدم العنف لجعلك أو إجبارك أن تؤمن بفكرته وعنفه وتطرفه ورؤيته. لذلك كي نحارب التطرف والإرهاب علينا أن نُصلح كل الأجهزة الأمنية، ونحسّن نظام التعليم، ونطوّر قطاع الأعمال والصحة والخدمات، وإصلاح القضاء، ودعم قدرات الشباب، بهدف إصلاح الدولة والمجتمع والفرد.

بيئة الفساد الفكري والسلوكي والاقتصادي بمرور الزمن تبيد المجتمع، وتبقى أجهزةٌ بعينها مستفيدةٌ من الفساد ومتورطة فيه، لذلك إن التداول السلمي للسلطة يفتح طريقاً فسيحاً لإستيعاب مختلف الطاقات و عملها بصورةٍ حقيقية، ويقف حائلاً أمام نشوء سلطةٍ منغمسة بالمال الفاسد، ومستفيدة من المتطرفين لترسيخ وحماية وجودها.

إن الفهم الخاطىء للدين ومبادئه، والإحباط الذي يلقاه الشباب نتيجة افتقادهم المُثل التي آمنوا بها في سلوك المجتمع. والخطأ في إدراك حقيقة المثل العليا وطبيعة المجتمعات الإنسانية وأسلوب الإصلاح، وشيوع القهر والقمع سواءً كان على مستوى الأسرة أو المدرسة أو الشارع أو المجتمع والدولة، وغياب الحوار المفتوح، كل هذه الأمور وسواها هي السبب الرئيسي والأساسي لإثارة التطرف والعنف وليس علاجاً له. فلذلك إن مواجهة ومحاربة ظاهرة التطرف تتطلّب وضع إستراتيجية طويلة المدى على المستوى القومي ترتكز بشكلٍ أساسي على ضرورة التطوير الحقيقي للتعليم في كل مراحله، وتشجيع النقاش والنقد، والإبداع والإبتكار، ومحاربة الفساد بكل صوره وأشكاله، والعمل على إقامة مشروعٍ تنموي نهضوي حضاري وشامل يكون عماده كل مكونات المجتمع كوضعٍ وكمشاركةٍ وتنفيذاً، مع إعلاء قيم العمل والعلم والثقافة والهوية والولاء والإنتماء، وإطلاق سياسة الحريات والتعددية والتداول السلمي للسلطة، والتوزيع العادل للثروة الوطنية، والربط الجوهري بين العطاء للمجتمع والعطاء للفردِ أو المواطن.

قولاً واحداً إن التطرف لا يُواجه فقط بالسلاح، بل يواجه من خلال الثقافة والوعي والفكر والعلم ومحاربة الفقر، وإشاعةِ سياسة التعايش بين كل مكونات المجتمع الذي يجب أن يكون متآلفاً ومتساوياً في كامل حقوقه وواجباته من خلال سيادة القانون.

***

بقلم الكاتب: أنور ساطع أصفري

(قراءة في بِنية العقليَّة الاتِّباعيَّة)

ناقشنا مع (ذي القُروح) ما أثاره بعض المحدثين ممَّا يزعمه تناقضًا في آيتين متجاورتَي الورود من (سُورة النساء: الآية 78 و79)، وهما: «أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ المَوْتُ، وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ. وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ، يَقُولُوا: هَذِهِ مِنْ عِندِ اللَّـهِ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ، يَقُولُوا: هَذِهِ مِنْ عِندِكَ! قُلْ: كُلٌّ مِنْ عِندِ اللَّـهِ! فَمَا لِهَؤُلَاءِ القَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا؟!  مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ، فَمِنَ اللَّـهِ، وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ، فَمِنْ نَفْسِكَ. وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا، وَكَفَى بِاللَّـهِ شَهِيدًا.» وتساؤله: ألم يَقُل كلٌّ من عندالله؟! فكيف يعود للقول: « وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ، فَمِنْ نَفْسِكَ»؟  وقول ذي القروح: إنَّك لن تجد أبلغ من الإجابة عن هذا التساؤل بالسؤال القرآني نفسه: «فَمَا لِهَؤُلَاءِ القَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا؟!» ذلك أنَّ الآية الأُولى تشير إلى الإرادة الإلاهية المطلَقة في كلِّ شيء، من حَسَنٍ وسَيِّء، والثانية إلى السبب البَشَريِّ المباشر، حسب السُنَن في عالم الكون والفساد.  ولا تناقض بين الأمرَين. ذلك أنَّ الإنسان، عادةً، يعرِّض نفسه وغيره للبلايا والمصائب، ثمَّ يجأر بالشكوى إلى الله. وهذا معنى الآية: «فَمَا لِهَؤُلَاءِ القَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا؟!  مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ، فَمِنَ اللَّـهِ، وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ، فَمِنْ نَفْسِكَ.» كما جاءت الآية في معالجةٍ للتطيُّر عند العَرَب، وما كانوا ينسبونه ممَّا يصيبهم إلى النَّحس، أو الجنِّ، أو الشياطين، أو حتى إلى الرسول نفسه. وهي عادة لدَى الشعوب البدائيَّة عمومًا، تنهض على ما يُسمَّى (المغالطة البَعديَّة، أو السبب المتوهَّم). قلتُ:

ـ ومن جانبٍ آخر، تُشير إلى ما كانوا ينسبونه من هزيمةٍ إلى سوء تدبير الرسول.

ـ نعم. أمَّا إنْ كان ظَفَرٌ، فكانوا يُنكرون حُسن التدبير على الرسول، وينسبون ذلك إلى الله وحده! فأخبرَ أنَّ النصر والخُسران معقودان في نهاية الأمر بإرادة الله، التي كأنَّما هم لم يراوغوا لإسقاطها إلَّا لغرضٍ، وهو تجريد الرسول من الفضل، ورميه في المقابل بالتسبُّب في ما يقع لهم من سوء.  فأخبرَ أنَّ المتحكِّم في ذلك جميعًا هو الله.  ثم أردف تفصيلًا: بأنَّ ما يصيب المرءَ من سيِّئةٍ فبسبب أعماله هو، من عقابٍ على ذنبٍ أو تقصير في عمل.  ولذلك جاء الخطاب في الآية الأُولى للجمع، ثمَّ جاء، في الآية الأخرى، للحديث عن العمل الفردي، فنبَّه إلى مسؤولية الفرد في ما يقع له. وما كان ليقول: «ما أصاب من سيئة فمن الله» هنا؛ فالله لا يصيب بالسيِّئات، وإنما تقع بذنب، أو لتقصير، كما في الآية من (سُورة الشُّورى): «وَمَا أَصَابَكُمْ مِن مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ، وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ». أمَّا الإحسان، فما كان ليقول: «ما أصاب من حسنة فمن نفسك»، فالإحسان كلُّه من عند الله، إنعامًا أو توفيقًا. 

ـ إنَّه الفارق، إذن، بين الكلام عن الحاكميَّة والكلام عن السببيَّة.

ـ صحيح. فالحاكميَّة المطلقة لله، وكلُّ شيءٍ من الله، ولا يجري إلَّا بإذنه، أمَّا السببيَّة، فلها قانونٌ كونيٌّ وسُنن، لا تخطئ: من اجتهدَ نجح، ومن أهمل فإلى حيث ألقت. 

ـ فأيُّ تناقض؟

ـ إنما القائل بهذا يضاهئ حمقَى الملحدين، الذي يزعمون التناقض في الآيات: «هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ، قَالَ: رَبِّ، هَبْ لِي مِنْ لَدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً، إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ. فَنَادَتْهُ المَلَائِكَةُ، وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المِحْرَابِ: أَنَّ اللَّـهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى، مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّـهِ، وَسَيِّدًا، وَحَصُورًا، وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ. قَالَ: رَبِّ، أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ، وَقَدْ بَلَغَنِيَ الكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ؟! قَالَ: كَذَلِكَ اللَّـهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ.»  فيقول الملحد: كيف يَستغرب (زكريَّا) الإجابة، وهو الذي دعا، وقال: «إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ»؟  وواضح أن هذا القائل لا يقرأ.

ـ كيف؟

ـ بمعنى: لا يفهم ما يقرأ.  لأنَّ أيَّ عامِّيٍّ يفهم أنَّ (زكريَّا) لم يقل في الدُّعاء: رَبِّ، هَبْ لِي مِن لَدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً، مِنِّي، أنا الطاعن في السِّن، ومن امرأتي العجوز العاقر (أليصابات)!  فالذُّرِّيَّة ليست بالضرورة من أبناء الصُّلب، فأبناء الأخ والأخت يُعَدُّون من الذُّرِّيَّة، فضلًا عن الأحفاد والأسباط.  بل أبناء العمِّ، وأبناؤهم من الذُّرِّيَّة.  فالمعنى يشمل غير الأبناء، من الأقرباء، وبخاصَّة الورثة منهم.  فتلكم «ذُرِّيَّةٌ بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ.» إنَّ الذُّرِّيَّة في اللُّغة لها معانٍ كثيرة، لكنَّ أولئك لا يتعاملون مع العَرَبيَّة التي نزل بها «القرآن»، بل مع عامِّيَّاتهم المعاصرة، وبعض شذرات مدرسيَّة مختلطة من العَرَبيَّة في رؤوسهم. ومن معاني الذُّرِّيَّة في اللُّغة: النِّساءُ، والأطفال.  جاء في الحديث: أنَّ الرسول رأى امرأةً مقتولة، فقال: «ما كانت هذه تُقاتل! الحَقْ (خالدًا)، فقل له: لا تَقْتُلْ ذُرِّيَّةً، ولا عَسيفًا!»  بل الذُّرِّيَّةُ: الآباء والأجداد، كما في الآية: «وآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الفُلْكِ المَشْحُون».  وبذا فهؤلاء النَّقَدَة الأدعياء لا يقارِنون المفردات حتى في «القرآن» نفسه.  والذُّرِّيَّةُ: الطائفة من الناس، قال: «فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْن.» 

ـ هذا، كما قلتَ، يدل على أنَّ هؤلاء لا يقرؤون حتى «القرآن»، الذي ينتقدونه، ليقارنوا بين نصوصه، كي يفهموا دلالات الألفاظ. 

ـ ثمَّ يتبجَّحون، وكأنَّهم قد اكتشفوا اكتشافاتٍ خطيرة.  لكن لنسلِّم أنَّ المقصود بالذُّرِّيَّة الأولاد من المرء نفسه.  لقد كان تعجُّب (زكريَّا) لدهشته من سرعة الإجابة، كما تعجَّبت (مريم)، وكما تعجَّب (إبراهيم)، حتى قال: «رَبِّ، أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى؟!»  والمرء، من فرط فرحه، قد يقع في مثل هذا الاختلاط، وعدم التصديق.  ولعلَّ زكريَّا أيضًا إنَّما كان يدعو الله أن يهيِّئ حاله وحال امرأته أوَّلًا للذُّرِّيَّة؛ لأنه قد بلغ من الكِبَر عِتِيًّا، وامرأته كذلك، وفوق ذلك هي عاقر.  ولذا لم يقل «هَبْ لِي ذُرِّيَّةً»، بل «هَبْ لِي [مِنْ لَدُنْكَ] ذُرِّيَّةً.»  فهو مؤمن بقُدرة الله، غير أنَّه بقي محلُّ التساؤل لديه والتعجُّب: كيف تكون الذُّرِّيَّة منه، وقد بلغ من الكِبَر عِتِيًّا، ومن امرأته وهي عاقر.  فلمَّا جاءت البِشارة بيحيى، أو (يوحنَّا المعمدان)، تعجَّب من البِشارة بالولد مع عدم تغيُّر الظروف، فتساءل: «أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ، وَقَدْ بَلَغَنِيَ الكِبَرُ، وَامْرَأَتِي عَاقِر؟!»  بدليل أنه قال: «رَبِّ، اجعلْ لي آية.»  فهو متعجِّب ممَّا يسمع.  هذا كل ما في الأمر.

ـ وهو موقفٌ واقعيٌّ وإنساني، ويمكن أن يشاهده هؤلاء في أي حادثةٍ واقعيَّةٍ أو سرديَّةٍ أو حتى سينمائيَّة، ولا تَنقاض في الموضوع، لولا المماحكات والتمحُّل. 

ـ واحتمالٌ آخَر وارد. وهو أنَّ الدُّعاء لم يكن في الوقت نفسه الذي أُجيب فيه.  وإنَّما نادته الملائكة، وهو قائمٌ في المحراب، في وقت لاحق. 

ـ الأمر هكذا أبسط حتى من افتراض بعض المفسرين، كـ(الطبري)، أن (زكريَّا) تشكَّك هل الصوت هو صوت الملائكة، أم صوت الشيطان؟ 

ـ وما أدراهم بحدوث ذلك التشكُّك؟!  وكيف هذا اللجوء الجاهلي، إزاء كل جهل، إلى تعليقه بالجِنِّ والشياطين لحلِّ الألغاز؟

ـ ما أكثر ما يهرف المفسِّرون- من أكياسهم أو من إسرائيليَّات «العهد القديم» و«التلمود»- بمثل هذه الخزعبلات الخياليَّة، التي ما أنزل الله بها من سُلطان! وكأنَّهم مفسرو رؤى مناميَّة لا مفسرو نصوص!

ـ لا تنس أنَّ هؤلاء، وإن لُقِّبوا بالعلماء، كان مفهوم العالم في عصرهم إنَّما يعني: الحافظ والراوية. الحافظ هو العالم، وإنْ لم يكن يعقل ما يحفظ، ولا ينقد ما يروي. وتراثنا العَرَبيُّ مليء كلُّه بحطب اللَّيل هذا، الذي كانت تُملَأ به الرؤوس ثمَّ يُفْرَغ على الطُّروس.

ـ وكلَّما كان الحطب أثقل حظي حامله بوصف العلَّامة النحرير!

ـ إنَّ موقف (زكريَّا)، إذن، لدَى تبشيره بـ(يوحنا المعمدان/ يحيى) هو موقفٌ إنسانيٌّ طبيعي، و«القرآن» يقصُّ ما وقع بصورة واقعيَّة.  فإنْ كان من تناقُض، ففي موقف زكريَّا نفسه، بوصفه إنسانًا، عوامله النفسيَّة والذهنيَّة قد تجعله يقع في مثل هذا، وليس تناقُضًا في النَّص، إلَّا في عقلٍ يتصنَّع مثل هذا، وعلى نحوٍ طريف، حقًّا. ولقد كان ينتحل أنماطًا من هذا النقد بعض المُجَّان قديمًا، للفرتخة والتفكُّه وإظهار الحذق الظاهري المجَّاني. ولو أُجري هذا النهج على أيِّ خطاب، لأمكن أن يبدي المرء عبر هذه اللُّعبة ما يبدو تناقُضًا، ولا سيما مع إبراز الناقد بعض العبارات من النصوص ودسِّ بعض. 

ـ وكذا هم يشغبون بوجهٍ قرائيٍّ أحيانًا على إمكانيَّات قرائيَّة يحتملها النصُّ. 

ـ مثل ماذا؟

ـ مثل الآية: «حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ، وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ، وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا. قُلْنَا: يَا ذَا القَرْنَيْنِ، إِمَّا أَن تُعَذِّبَ، وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا.» (سُورة الكهف، الآية ٨٦). قائلين: كيف وجد الشمس؟ وكيف تغيب الشمس في عَين؟  وكيف وجد عندها قومًا؟ 

ـ لاحظ هنا أنهم يحصرون دلالات الألفاظ والتراكيب في ما يريدون.  وهذه المحاكمات لما ورد في «سُورة الكهف» يذكِّرنا- للمفارقة أو للموافقة- بما وردَ في «صُورة الكهف»، لدَى (أفلاطون)، في الكتاب السابع من «الجمهوريَّة الفاضلة»، الذي ضربه مثلًا في أنَّ الإنسان يظلُّ في سُبات الغفلة، عُدُوًّا لما يجهل، وما يجهل أكثر ممَّا يعلم، بل لعلَّ ما يراه حقائق ويظنُّه كذلك لا يعدو خيالات وأوهامًا.  بما في ذلك ذهن أفلاطون نفسه، الذي كان ما يزال غارقًا في كهف الأساطير القديمة؛ حتى إنَّه- على جلال قَدره العقلي والفلسفي- لم يكن قد تخطَّى عقليَّة الجاهليَّة، كما عهدناها عند العَرَب أيضًا، المعتقدة في ألوهيَّة الشمس، عبر رمزها (اللَّات)؛ لما لحظوه من دَورها العظيم في الحياة. لكنَّ هذا مهيعٌ يطول، فليكن مساقنا المقبل، بحول الله.

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

 

بقلم: ماريا بوبوفا

ترجمة: د.محمد غنيم

***

"أحب، ولكن احذر مما تحب"، كتب الفيلسوف الروماني الإفريقي القديس أوغسطينوس في السنوات الأخيرة من القرن الرابع. نحن، بعمق ما، نصبح ما نحب — نغدو امتدادًا له بقدر ما يغدو امتدادًا لنا، متشكلًا من شتى رغباتنا الواعية وغير الواعية، يأسنا، وشهواتنا المتكررة. ومع ذلك، ثمة تناقض عميق في الدعوة إلى العقلانية في فكرة أننا يمكن أن نمارس الحذر في مسائل الحب — فمن عرف الحب، عرف قيود اللاعقلانية التي تلتف على العقل الأكثر قوةً عندما يستولي القلب بجاذبيته المتهورة الساحرة.

كيفية الامتثال لتحذير أوغسطينوس، ليس بالخضوع ولكن بفهم أعمق لتجربة الحب، هو ما تتناوله هانا أرندت (14 أكتوبر 1906 - 4 ديسمبر 1975) في عملها الأقل شهرة، ولكن الأجمل في كثير من النواحي، الحب والقديس أوغسطينوس — أول مخطوطة كتابية لأرندت وآخر أعمالها التي نُشرت باللغة الإنجليزية، والتي أُنقذت بعد وفاتها من أوراقها على يد عالمة السياسة جوانا فيكاريلي سكوت والفيلسوفة جوديث كيليوس ستارك.

وبعد نصف قرن من الزمان منذ كتبتها كأطروحة دكتوراه في عام 1929 ــ وهو الوقت الذي كانت فيه رسولة العقل هذه، التي ستصبح واحدة من أكثر العقول التحليلية حدة وبرودة في القرن العشرين، تكتب رسائل حبها النارية إلى مارتن هايدغر ــ عكفت أرندت على مراجعة المخطوطة وشرحها بشكل مهووس. وعلى الرغم من شحذ أوغسطين، فقد عملت على صقل أفكارها الفلسفية الأساسية ــ وخاصة الانفصال المزعج الذي رأته بين الفلسفة والسياسة كما يتضح من صعود أيديولوجيات مثل الشمولية، التي فحصت أصولها بدقة لا تُنسى. ومن أوغسطين استعارت عبارة "حب العالم" ــ والتي أصبحت سمة مميزة لفلسفتها. وفي ظل انشغالها بالأسئلة حول سبب استسلامنا للشر وتطبيعنا له، حددت أرندت جذر الطغيان في فعل جعل البشر الآخرين غير مهمين. ومرة بعد مرة، عادت إلى أوغسطين للحصول على الترياق: الحب.

لكن رغم أن فكرة الحب الجار التي تعود إلى الزمن القديم — والتي ستلهم لاحقًا مارتن لوثر كينغ الابن — كانت محور اهتمام أرندت الفلسفي وسبب اهتمامها بأوغسطينوس، فإن أهميتها السياسية لا تنفصل عن منبع الحب الأعمق: الشخصي. فرغم الحكمة السياسية والفلسفية التي استقتها أرندت من هذا المفهوم، إلا أن اعترافات أوغسطينوس مفعمة بتجربته مع الحب الشخصي — تلك القوة الأبدية التي تحكم الشمس والقمر ونجوم حياتنا الداخلية، والتي تنعكس وتتجسد في هياكلنا الثقافية والاجتماعية.

مع التركيز على مفهوم أوغسطينوس للحب باعتباره "نوعًا من الشغف" — اللاتينية appetitus، التي اشتُق منها مصطلح الشهوة — وبيانه أن "الحب ليس شيئًا آخر سوى الشغف بشيء ما لذاته"، تتأمل أرندت في هذا الرغبة التوجيهية التي تحفز الحب:

كل شغف مرتبط بموضوع محدد، ويحتاج هذا الموضوع لإشعال الشغف نفسه، مما يوفر له هدفًا. يتحدد الشغف بالشيء المحدد الذي يسعى إليه، تمامًا كما تُحدد الحركة بالهدف الذي تتجه نحوه. كما كتب أوغسطينوس، فإن الحب هو "نوع من الحركة، وجميع الحركات تتجه نحو شيء ما". ما يُحدد حركة الرغبة يكون دائمًا موجودًا مسبقًا. شغفنا يتجه نحو عالم نعرفه؛ لا يكتشف أي شيء جديد. الشيء الذي نعرفه ونرغب فيه هو "خير"، وإلا لما بحثنا عنه لذاته. جميع الخيرات التي نرغب بها في حبنا الساعي هي أشياء مستقلة، غير مرتبطة بأشياء أخرى. يمثل كل منها شيئًا واحدًا هو خيره المعزول. السمة المميزة لهذا الخير الذي نرغب فيه هي أننا لا نمتلكه. بمجرد أن نحصل على الشيء، ينتهي شغفنا، ما لم نكن مهددين بفقدانه. في هذه الحالة، يتحول الرغبة في التملك إلى خوف من الفقد. باعتبارها بحثًا عن الخير الخاص بدلاً من الأشياء بشكل عشوائي، فإن الرغبة هي مزيج من "الاستهداف" و"الإشارة إلى الوراء". إنها تشير إلى الفرد الذي يعرف الخير والشر في العالم ويسعى للعيش بسعادة. لأننا نعرف السعادة، فإننا نريد أن نكون سعداء، ومنذ لا شيء أكثر تأكيدًا من رغبتنا في أن نكون سعداء، فإن مفهومنا عن السعادة يوجهنا في تحديد الخيرات المناسبة التي تصبح بعد ذلك موضوعات لرغباتنا. إن الشغف، أو الحب، هو إمكانية الإنسان في اكتساب ما يجعله سعيدًا، أي في امتلاك ما هو الأكثر خصوصية له.

لهذا السبب، فإن الحب السخي وغير المتملك — حب لا يتقلص بسبب الفشل في الحصول على الخير الذي يشتهيه — يمكن أن يبدو كإنجاز لا يقل عن كونه فوق بشري. ("إذا لم يكن بالإمكان تحقيق الحب المتساوي، / فليكن الأكثر حبًا هو أنا"، كتب صديق أرندت الجيد والمعجب الكبير و. هـ. أودن في قصيدته الرائعة التي تحتفي بتلك الانتصارات الخارقة للقلب.) ولكن الحب المبني على الملكية، تحذر أرندت، يتحول حتمًا إلى خوف — خوف من فقدان ما تم اكتسابه. بعد ألفي عام من تقديم إبيكتيتوس علاجه لكسر القلب من خلال قبول أن كل الأشياء زائلة، وبالتالي يجب أن يُحتفظ حتى بالحب بأصابع غير ملتصقة، تكتب أرندت — التي تلاحظ دين أوغسطينوس للستويين:

طالما أننا نشتهي الأشياء الدنيوية، فإننا نعيش تحت هذا التهديد باستمرار، وخوفنا من الفقدان يتناسب دائمًا مع رغبتنا في الاقتناء. تنشأ السلع الزمنية وتفنى بشكل مستقل عن الإنسان، الذي يرتبط بها برغباته. موثوقون بشكل دائم بالرغبة والخوف نحو مستقبل مليء بالشكوك، ننتزع من كل لحظة حاضرة هدوءها وأهميتها الجوهرية، التي نكون غير قادرين على الاستمتاع بها. وهكذا، يدمر المستقبل الحاضر.

بعد نصف قرن من تحذير تولستوي من أن "الحب في المستقبل غير موجود [لأن] الحب هو نشاط حاضر فقط"، تضيف أرندت:

إن الحاضر ليس محددًا بالمستقبل كما هو... بل بالأحداث المحددة التي نأمل فيها أو نخاف منها من المستقبل، والتي نسعى لتحقيقها أو نتجنبها. السعادة تتكون في الحيازة، في امتلاك الخير الذي لدينا، وحتى أكثر في التأكد من أننا لن نخسره. الحزن يتكون في فقدان الخير الذي لدينا وتحمل هذا الفقد. ومع ذلك، بالنسبة لأوغسطين، فإن سعادة الحيازة لا تتناقض مع الحزن، بل مع الخوف من الفقد. المشكلة في السعادة البشرية هي أنها تتعرض دائمًا للخوف. فالمسألة ليست في نقص الحيازة بل في أمان الحيازة.

إن الموت، بطبيعة الحال، هو الخسارة النهائية ـ للحب وكذلك للحياة ـ وبالتالي فهو الهدف النهائي لخوفنا الموجه نحو المستقبل. ومع ذلك فإن هذا الهروب من الوجود عبر بوابة القلق ـ ربما المرض الأكثر شيوعاً بين البشر ـ هو في حد ذاته موت حي. تكتب أرندت:

إن الذين يعيشون في خوفهم من الموت يخافون الحياة ذاتها، الحياة التي محكوم عليها بالموت... والطريقة التي تعرف بها الحياة نفسها وتدركها هي القلق. وبالتالي فإن موضوع الخوف يصبح الخوف ذاته. وحتى لو افترضنا أنه لا يوجد ما نخشاه، وأن الموت ليس شرًا، فإن حقيقة الخوف (أن كل الكائنات الحية تتجنب الموت) تظل قائمة.

في ظل هذا السياق من الفراغ السلبي، ترسم أرندت شكل الموضوع النهائي للحب وفقًا لأوغسطين:

الشجاعة هي ما يسعى إليه الحب. فالحب بوصفه شغفًا يتحدد هدفه، وهذا الهدف هو التحرر من الخوف.

وفي شعور يسلط الضوء على الآلية المركزية التي يغذي بها الإحباط الرضا (المؤقت) في الحب الرومانسي، تضيف:

الحب الذي يبحث عن شيء آمن ومتاح على الأرض، يشعر بالإحباط باستمرار لأن كل شيء محكوم عليه بالموت. في هذا الإحباط، ينقلب الحب ويصبح موضوعه إنكارًا، ولا يترك شيئًا مرغوبًا فيه سوى التحرر من الخوف. مثل هذه الجرأة لا توجد إلا في الهدوء التام الذي لم يعد من الممكن أن تهتزه الأحداث المتوقعة في المستقبل.

إذا كانت الحضور — إزالة التوقع — شرطًا مسبقًا للتجربة الحقيقية للحب، فإن الزمن هو البنية الأساسية للعاطفة. بعد ما يقرب من نصف قرن، وفي كونها أول امرأة تتحدث في محاضرات جيفورد المرموقة خلال 85 عامًا من تاريخ السلسلة، ستجعل أريندت هذه الفكرة عن الزمن كمكان لعقلنا المفكر محورًا رئيسيًا في محاضرتها البارزة "حياة العقل". الآن، مستشهدة بكتابات أغسطينوس، تتأمل في تناقض الحب خارج الزمن بالنسبة للمخلوقات الزمنية مثلنا.

حتى لو استمرت الأشياء، فإن الحياة البشرية لا تستمر. نحن نفقدها يوميًا. بينما نعيش، تمر السنوات من خلالنا وتستهلكنا حتى نفقد وجودنا. يبدو أن الحاضر هو وحده الحقيقي، لأنه "الأشياء الماضية والأشياء القادمة ليست موجودة"؛ لكن كيف يمكن أن يكون الحاضر (الذي لا أستطيع قياسه) حقيقيًا إذا لم يكن له "فضاء"؟ الحياة دائمًا إما لم تعد موجودة أو ليست موجودة بعد. مثل الوقت، الحياة "تأتي من ما هو ليس بعد، وتمر عبر ما لا يوجد له فضاء، وتختفي في ما لم يعد موجودًا." هل يمكن القول إن الحياة موجودة على الإطلاق؟ ومع ذلك، فإن الحقيقة هي أن الإنسان يقيس الوقت. ربما يمتلك الإنسان "فضاءً" حيث يمكن الحفاظ على الوقت لفترة كافية ليتم قياسه، ألا يتجاوز هذا "الفضاء"، الذي يحمله الإنسان معه، كل من الحياة والزمن؟

الزمن موجود فقط بقدر ما يمكن قياسه، والمقياس الذي نقيسه به هو المكان.

بالنسبة لأوغستين، كما تشير، فإن الذاكرة هي الفضاء الذي يُقاس فيه الوقت ويُخزن:

الذاكرة، باعتبارها مخزن الزمن، تمثل وجود "ما لم يعد موجوداً" (iam non)، بينما يمثل التوقع وجود "ما لم يحن بعد" (nondum). وبالتالي، لا نقيس ما لم يعد موجوداً، بل نتعامل مع شيء في ذاكرتنا يبقى ثابتاً فيها. الزمن موجود فقط عندما نستحضر الماضي والمستقبل إلى الحاضر من خلال الذكرى والتوقع. لذلك، الزمن الوحيد الذي يمكن اعتباره صالحاً هو الزمن الحاضر، أي الآن.

إن أحد الموضوعات الرئيسية التي أستكشفها في كتابي "التصور" هو هذا السؤال المتعلق بزمنية حتى أكثر تجاربنا روعة. كتبت مارغريت فولر ـ إحدى الشخصيات الرئيسية في كتابي ـ تقول: "إن اتحاد طبيعتين في وقت واحد أمر عظيم للغاية". فهل ينبغي لنا أن نيأس أو نبتهج إزاء حقيقة مفادها أن أعظم الحب لا يوجد إلا "لوقت معين"؟ إن المقاييس الزمنية مرنة، تتقلص وتتوسع مع عمق وحجم كل حب، ولكنها دائماً محدودة ـ مثل الكتب، مثل الحيوات، مثل الكون نفسه. إن انتصار الحب يكمن في الشجاعة والنزاهة التي نتعايش بها مع الزوال المتسامي الذي يربط شخصين طيلة الوقت الذي يربطهما به، قبل أن يتحررا بنفس الشجاعة والنزاهة. إن تعجب فولر عندما رأت لوحات كوريجيو لأول مرة، والتي تغلب عليها الجمال الذي لم تعرفه من قبل، يشع بحقيقة أكبر عن القلب البشري: "يا روح الحب الحلوة! لقد سئمت منك أيضاً؛ لكن ذلك اليوم كان مجيداً".

وتحدد أرندت هذه الحقيقة الأساسية المتعلقة بالقلب في كتابات القديس أوغسطينوس. فبعد قرن من تأكيد كيركيجارد أن "اللحظة ليست ذرة من الزمن بل ذرة من الخلود"، تلاحظ:

الآن هو ما يقيس الزمن إلى الوراء وإلى الأمام، لأن الآن، من الناحية الدقيقة، ليس زمنًا بل هو خارج الزمن. في الآن، يلتقي الماضي والمستقبل. لحظة عابرة، يصبحان متزامنين بحيث يمكن تخزينهما في الذاكرة، التي تتذكر الأشياء الماضية وتحمل توقعات الأشياء القادمة. في تلك اللحظة العابرة (الآن الزمني)، كأن الزمن يتوقف، وهذا الآن يصبح نموذج أوغسطين للأبدية.

يعبر أوغسطينوس عن هذا الزمن المتجاوز للأبعاد:

من يستطيع أن يمسك [القلب] ويثبّته بحيث يتوقف للحظة، ليختطف لمحة من بهاء الأبدية التي تبقى ثابتة أبدًا، ويقارنها بلحظات الزمن التي لا تثبت أبدًا، فيدرك أنها غير قابلة للمقارنة... إلا أن كل ما هو حاضر في الأبدية لا يمر بل يبقى كله حاضرًا.

تركز أرندت على جوهر المفارقة:

ما يمنع الإنسان من "العيش" في الحاضر الخالد هو الحياة نفسها، التي لا "تتوقف" أبدًا. فالخير الذي يتوق إليه الحب يقع خارج حدود الرغبات المؤقتة. وإذا كانت مجرد مسألة شهوة، لكانت جميع الرغبات تنتهي بالخوف. وبما أن أي شيء يواجه الحياة من الخارج كمحل شغفها يُطلب لأجل الحياة نفسها (الحياة التي سوف نفقدها)، فإن الهدف النهائي لجميع الرغبات هو الحياة نفسها. الحياة هي الخير الذي ينبغي أن نسعى إليه، أي الحياة الحقيقية.

تعود أرندت إلى الرغبة، التي تأخذنا خارج الحياة وتغمرنا فيها في آن واحد:

الرغبة تتوسط بين الذات والموضوع، وتقضي على المسافة بينهما عن طريق تحويل الذات إلى عاشق والموضوع إلى محبوب. فالعاشق لا يكون منعزلًا عما يحب؛ إنه ينتمي إليه... ولأن الإنسان ليس مكتفيًا ذاتيًا، فهو دائمًا يرغب في شيء خارج نفسه، مما يجعل مسألة "من هو" لا تُحسم إلا من خلال موضوع شهوته، وليس كما اعتقد الرواقيون من خلال كبح دافع الرغبة نفسه: "فالإنسان هو كما هو حبه" [كتب أوغسطينوس]. في الحقيقة، من لا يحب ولا يرغب هو كائن فارغ.

[…]

لا يمكن تعريف ماهية الإنسان لأنه يرغب دائمًا في الانتماء إلى شيء خارج ذاته، ويتغير تبعًا لذلك... وإذا كان له طبيعة جوهرية على الإطلاق، فستكون نقص الاكتفاء الذاتي. وبالتالي، هو مدفوع إلى الخروج من عزلته عبر الحب... ولأجل السعادة، التي هي نقيض العزلة، يتطلب الأمر أكثر من مجرد الانتماء. فالسعادة تتحقق فقط عندما يصبح المحبوب جزءًا دائمًا من كيان الفرد.

من المدهش تتبع خط هذه الأفكار عبر مسار حياة أرندت الفكرية. فبعد عقود من دراستها الجامعية، ستقوم بكتابة أطروحتها المؤثرة حول كيفية استخدام الطغاة للعزلة كسلاح للقمع ــ بعبارة أخرى، لا تمثل الشمولية إنكارًا للحب فحسب، بل إنها أيضًا اعتداء على جوهر البشر.

في بقية كتاب الحب والقديس أوغسطينوس، تستمر أرندت في فحص تراتبية الحب عند أوغسطينوس، وبنية الرغبة النفسية، ومخاطر الترقب، ومكونات "حب العالم" الضروري للحياة المتناغمة والمجتمع المتناغم.

***

...........................

الكاتبة: ماريا بوبوفا/  Maria Popova (بالبلغارية: Мария Попова؛ من مواليد 28 يوليو 1984) كاتبة مقالات ومؤلفة كتب وشاعرة، وكاتبة تعليقات أدبية وفنية ونقد ثقافي، وجدت قبولًا واسعًا سواء لكتاباتها أو للأسلوب البصري المصاحب لها. في عام 2006، بدأت مدونة Brain Pickings، وهي منشور على الإنترنت ناضلت للحفاظ عليه خاليًا من الإعلانات. المدونة، التي أعيدت تسميتها إلى The Marginalian في عيد ميلادها الخامس عشر في عام 2021، تعرض كتاباتها عن الكتب والفنون والفلسفة والثقافة وغيرها من الموضوعات.

عن الاغتراب اللغوي في الأهواز

يحكى أن الروائي الجزائري رشيد بوجدرة اتخذ الفرنسية لغة للكتابة وانجز الكثير بهذه اللغة حتى قرر يوما أن يعود للعربية فوعد الوسط الأدبي الجزائري بأن يكتب من الآن فصاعدا بلغته الأم-العربية. إنه وفى كما وعد فكتب رواية بالعربية” التفكك” وروايات أخرى كـ “معركة الزقـاق” أرجعته إلى أحضان العروبة. قال ذات يوم إن العربية اجمل من الفرنسية فاستبدلتها. وقال أيضا الكتَّاب الذين يكتبون بلغة غير لغتهم الأم يعيشون في المغترب وقد نفوا أنفسهم بأنفسهم أمَّا الكتَّاب الذين يكتبون بالعربية فموجودون في وطنهم وبين أحضان شعبهم، وبالنسبة لي هم أفضل بكثير من الذين يكتبون بلغة أجنبية. إنّ من يكتب بلغته هو أقرب إلى القلوب.حسب تعبير الروائية التركية “أليف شافاق” إنها تكتب بقلبها عندما تكتب بلغتها الأم التركية، وبعقلها عندما تكتب بالإنجليزية والكاتب بلغته أكثر إحساسا وأقل سذاجة من الكاتب بلغة أخرى.

الفكرة ممّا سبق أن المعهود والمتدوال في تاريخ الانسانية أنّ اللغة تبقى وتحيا بقدر ما يتعاظم رصيدها من الآثار الأدبية والعلمية التي كتبها الواعون من أبنائها. فما نؤلفه أو نكتبه نحن الأهوازيون باللغة الفارسية لا يعزز ولا يخدم لغتنا العربية ولا يصب في نهر الانتاج العلمي والأدبي والثقافي لهذه اللغة بل إنّه مجرد استهلاك لغة أخرى. ومن المؤكد أن ظهور كتّاب عرب يكتبون باللغة الفارسية لم يكن إنجازا ملفتا للساحة الثقافية العربية في الأهواز. بالعكس إن هذه الظاهرة مجرد استهلاك ولاتنفع التأصيل والتعزيز للغتنا، إذا لم تضرّها، وليس من المغالاة أو الشططِ إذا قلنا إن الكتابة بالفارسية خزيٌ علينا ونحن أصحاب لغة تعتبر لغة العلم في الماضي والحال والمستقبل وواحدة من اللغات الأربع الأكثر استخدامًا في الإنترنت والبحوث العلمية الآن، وكذلك الأكثر انتشارًا ونموًا متفوقةً على الفرنسية والروسية والصينية والفارسية

والكاتب الأهوازي قد يساهم بإزاحة اللغة الأم وهدم كيانها وفصلها عن اهلها عندما يقرر الهروب من أمه إلى زوجة أبيه.!

كتابتنا بالفارسية تحكيم لها وإغناء لمكتباتها. إنها مجرد عملية تقليد وخدمة للنموذج الفارسي ولاتمت لنا بصلة ولاتنفعنا إلا الّلهم الكتب التاريخية التي تريد أن ترسل رسالة إلى طرفي النزاع وياحبذا لو تعرّبت هذه الكتب لتروي التاريخ وتعزز اللغة العربية الأم وتنال مَغْنَمَيْنِ فِي آنٍ واحد. كما لا يخفى عن القارىء الكريم أن الأهواز مفخرةٌ في التأليفات العربية على مر العصور من فلسفة وأدب وتاريخ و… .فالإنجاز هو أن تكتب بلغتك الغنية المهجورة، هذه اللغة التي وسعت القرآن الكريم وكتبَ بها أعمدة الثقافة والعلم في العالم.

في ضوء ما سبق أرى أن التهافت على اللغة الفارسية ليس مجرد حبٍ لها بل هناك أسباب لهذه النزعة الانفصالية من اللغة الأم والرغبة في الكتابة والقراءة بلغة أخرى:

أولا- التماهي والسعي لتقمص هوية فارسية من خلال الكتابة باللغة الفارسية وجذب جمهور أكبر طبعا تحت ضوء الوهم الذي يعيشه هذا الفرد.

ثانيا- الرؤية الخاطئة بأن العالمية تعبر من جسر اللغة الفارسية. وهذه تأتي من فكرة أنه لا يمكن للكاتب أن يصل للمكانة المرموقة ولايذاع صيته إلا من خلال اللغة الرسمية.

ثالثا- إن الغة الفارسية تعد اليوم لغة الوجاهة الاجتماعیة (prestige language) أي اللغة الوحیدة للمدارس والجامعات والدوائر الحكومیة، المعوّل علیها من قبل مستخدمیها وهي العالیة والمتعالية اقتصادیاً وثقافیاً والمفضلة علی بقیة اللغات المتواجدة. سیطرة هذه اللغة تأتي من الإعلام الذي يروج لها ويهمل اللغة أو اللغات الأخرى الموجودة في الجغرافيا المعينة، لذا یمیل الأفراد غالبا لاستخدامها في الكتابة والقراءة اقتداءً بالفئة المسیطرة والمتعالية التي تستخدمها.

رابعا- الإحساس بدونية اللغة الأم والثقافة الأم مقابل اللغة والثقافة المسيطرة.

خامسا- لم تكن اللغة الأم موضع اهتمام حقيقي في الأهواز رغم الدراسات العلمیة الكثیرة التي أثبتت حاجتها لدیمومة حياة الانسان العربي.

سادسا- ليست هناك كفاءة لغوية مطلوبة عند الكاتب الأهوازي ولا يجهد ليتقنها رغم توفر آليات لإتقانها في عصرنا الحاضر.

سابعا- غياب كلٍّ من الأمن والاستقرار والثقة بالنفس وتسيطر الخوف الوهمي على الكاتب الأهوازي عند كتابته باللغة العربية.

ثامنا- غياب استعمال اللغة العربية على المستوى الأكاديمي في الجامعات والمحاضرات والنظرة اللاعلمية عليها باعتبارها تعكس التخلف مما يسبب الهروب البطيء من هوية المجموعة التي ينتمي اليها الفرد واللجوء لللغة التي بيدها المنصات العلمية والأدبية.

تاسعا- محاولة إرضاء القارئ العربي والفارسي معا من خلال نص يكتبه الفرد بلغة يفهمها الإثنان.

عاشرا- الجهل بالتاريخ العربي الأهوازي بوجه خاص وبمعالم الحضارة العربية والاسلامية بوجه عام.

بالطبع لا أحد يعارض الكتابة باللغة الفارسية أو بأي لغة أخرى لكن لا نكون سجناء هذه اللغة وننسى لغتنا في ظل هذا التنافس المسعور والهجمة العنيفة التي تريد إذلالها وزحها للهامش.

يقول الحجازي: “كلما استطعنا أن ندخل الصیغ العلمیة في لغتنا وإلی مجتمعنا، استطعنا أن نؤثر علی الذهن في مجتمعنا ونوجهه نحو إدراك علمي”، فالكاتب بدوره يساهم بتهميش اللغة العربية وهدم كيانها وفصلها عن أهلها عندما يقرر شطبها من حياته الأدبية والعلمية. من هذا ينبغي أن يلتزم الكتّاب الأهوازیین بإتقان واستخدام اللغة العربیة في تألیفاتهم والإصرار علی ذلك والتقلیل من الكتابة والترجمات بلغات أخری حتى نعلو بلغتنا إلى اسمى مراتبها وتكون هويتنا واضحة ومفهومة.

***

سعيد بوسامر- كاتب و باحث من الأهواز

يهتم بمواضيع ثقافية لغوية تاريخية وألف ونشر الكثير في مجالات اللثقافة واللغة والتاريخ.

................................

المصادر التي راجعها الباحث:

-بوسامر، سعيد. أنا لغتي: دراسة حول اللغة الأم وتنميتها في الأهواز. نشر قهوة.٢٠٢٠

- عبدالوهاب بوزيد. الكتابة بلغة الآخر. مجلة اليوم. ٢٠١٥.

- لعموري، زاوي. ازدواجية اللغة في أدب رشيد بوجدرة الكتـــابة وانشطـار

 الذات.https://ouvrages.crasc.dz/index.php

– محمد الحمّار. اللهجة العامية عربية فما الذي يزعج دعاة التعريب. ٢٠١٥.

بقلم: كارينا ريمير

ترجمة: د.محمد عبد الحليم غنيم

***

تكشف الأبحاث عن الفوائد النفسية لاتخاذ القرارات بشكل حدسي، ولكن هناك مواقف تستدعي اتباع نهج تحليلي.

نتخذ العديد من القرارات يوميًا – بعضها من خلال التفكير المتأني، وأخرى بطريقة أكثر حدسية، أو بناءً على "الشعور الداخلي". لم يتجاوز الوقت السابعة صباحًا، لكنني قد اتخذت بالفعل بعض القرارات الحدسية. لدي ابن يبلغ من العمر أربعة أشهر، وكان جائعًا في الساعة الخامسة صباحًا. بعد إرضاعه، أراد المشاركة في لعبة الغناء الصباحية المعتادة. لكن، عندما نظرت إليه، شعرت أنه لا يزال متعبًا جدًا. لا أعلم السبب تحديدًا؛ ربما كان هناك شيء في عينيه أو في طريقة حركته. أيا كان السبب، اتبعت حدسي وقررت أن أقبّله وأتركه لينام قليلاً. شعرت بالرضا عند القيام بذلك. وبعد أن عدت إلى السرير، أدركت أنني، على عكس ابني، لم أشعر برغبة في النوم. كنت مليئة بالطاقة بالفعل. دون التفكير كثيرًا، قررت إعداد بعض القهوة واستغليت هدوء الصباح لكتابة هذا المقال.

الآن خذ لحظة للتفكير في القرارات التي اتخذتها بالفعل اليوم، سواء كانت كبيرة أو صغيرة. ثم فكر في هذا: هل اتخذت قرارك بعد تفكير دقيق، أم اتخذته باستخدام حدسك؟ وكيف شعرت بعد ذلك؟

هذه الأساليب المختلفة في اتخاذ القرارات – المتأنية والحدسية – تتماشى مع نمطين لمعالجة المعلومات تم وصفهما في علم النفس. الأول، وهو الأسلوب الأكثر تأنيًا، يعمل ببطء وبشكل خطي وواعٍ. هذا النمط يعمل، على سبيل المثال، عندما تحاول حل مسألة مثل "18 × 24" أو عندما تفكر في مزايا وعيوب قضاء عطلتك القادمة في تايلاند. عادةً ما يمكن تبرير النتائج بشكل واضح. على سبيل المثال، بعد التفكير بعناية في أي سيارة ستشتري، يمكنك أن تشرح لشخص ما أسباب اختيارك لهذا الطراز بالتحديد وليس طرازًا آخر.

أما النمط الآخر، وهو أسلوب معالجة المعلومات الحدسي، فيعمل بسرعة وبطريقة ترابطية. ويتم الشعور بنتائجه كأحاسيس داخلية أو حدسية. قد تشعر وكأنك تعرف شيئًا دون أن تعرف كيف عرفته. ويرتبط هذا النمط بقوة بالعواطف والمشاعر الميتا-معرفية، مثل شعور الصواب والثقة. عندما تتخذ قرارًا حدسيًا في مطعم، فإنك ببساطة اخترت لأن الأمر شعرت أنه الصواب – مثل القرارات التي اتخذتها هذا الصباح.

تشير نتائج أبحاثي الأخيرة إلى أن الأشخاص غالبًا ما يُنصحون باتخاذ قراراتهم بناءً على الحدس، من حيث تأثيرها على مشاعرهم. هناك أدلة متزايدة تشير إلى أن عملية اتخاذ القرار – وبخاصة القرارات الحدسية – تمنح شعورًا بالرضا العاطفي.

غالبًا ما يبلغ الأشخاص الذين يأتون للعلاج وهم يعانون من الاكتئاب عن صعوبات في اتخاذ القرارات

لقد نشأ اهتمامي بهذه الإمكانية جزئيًا من عملي كمعالج نفسي. لقد لاحظت أن الأشخاص الذين يأتون إلى العلاج وهم يعانون من الاكتئاب غالبًا ما يشكون من صعوبة في اتخاذ القرارات. وغالبًا ما يذكر المرضى أنهم فقدوا الثقة في حدسهم. قد يقول أحدهم: "لقد فقدت بوصلتي الداخلية"، أو: "كنت أعتمد على حدسي، لكن ذلك الشعور اختفى." لقد وجدت أنا وزملائي في البحث أدلة متباينة حول ما إذا كان المرضى المصابون بالاكتئاب يعانون من ضعف في العمليات التي تدعم الحدس. أشارت بعض النتائج إلى أن الأشخاص يكونون أقل اعتمادًا على حدسهم عندما يكونون قلقين. ومنذ ذلك الحين قادني اهتمامي بالحدس والرفاهية إلى استكشاف العلاقة بينهما بشكل أوسع.

تتمثل إحدى الفرضيات الأساسية في أن اتخاذ القرارات في الحياة اليومية – وخاصة القرارات الحدسية – يجعل الناس يشعرون بالسعادة. لماذا قد يكون هذا هو الحال؟ أولاً، ينبغي أن يشعر الشخص بالتحسن بعد اتخاذ قرار لأنه من خلال اتخاذه، يستعيد الموارد الإدراكية التي يمكن استخدامها في مهام أخرى. كما أن اتخاذ القرار عادة ما يقرب الشخص من تحقيق أهدافه الشخصية ويساعده على تلبية احتياجاته. الحدس مهم بشكل خاص في هذا لأنه يدمج الكثير من المعلومات (مثل الإشارات الجسدية والعاطفية والمعلومات البيئية) في آن واحد ضمن سياق متكامل. ومن خلال ذلك، قد يساعد الشخص في اتخاذ قرار يتماشى مع احتياجاته، حتى تلك التي قد لا يكون واعياً بها في لحظة معينة. تلبية الاحتياجات عادة ما تجعل الشخص يشعر بالتحسن. وأخيرًا، تتخذ القرارات الحدسية بشكل أكثر سلاسة من تلك المتأنية، ويميل الناس إلى تفضيل ما يحدث بسلاسة (وكره ما يتطلب مجهودًا ويبدو أقل سهولة).

لاختبار فرضياتنا، طلبنا أنا وزملائي من طلاب الجامعة أن يتأملوا في القرارات التي اتخذوها ذلك اليوم وكيف شعروا قبل وبعد اتخاذها. وبشكل عام، وجدنا أنهم تذكروا شعورهم بتحسن بعد اتخاذ القرار. وكما توقعنا، كان هذا التغيير الواضح في المزاج أكثر وضوحًا في القرارات التي اتخذها الأشخاص حدسيًا مقارنة بالقرارات المتأنية.

أردنا أن نكون قادرين بشكل أفضل على استخلاص استنتاجات حول العلاقة بين السبب والنتيجة، لذلك قمنا مؤخرًا بمتابعة دراسة ميدانية تجريبية، حيث شجعنا البالغين بشكل عشوائي على اتخاذ قرارات إما حدسية أو متأنية أثناء ممارستهم لحياتهم اليومية. على مدار 14 يومًا على الأقل، طُلب من المشاركين في مشروعنا أن يبلغونا عبر الإنترنت عندما يكونون على وشك اتخاذ قرار – مثل ما إذا كانوا سيلتقون بصديق أم لا، أو ماذا سيأكلون، أو كيفية حل نزاع مع شخص آخر. وبعد تلقيهم توجيهًا لاتخاذ القرار المقبل إما حدسيًا (اتباع شعورهم الداخلي) أو متأنيًا (التفكير بعناية وأخذ وقتهم)، شاركوا معنا ما قرروا وكيف كانوا يشعرون بعد ذلك.

قد تؤدي القرارات اليومية إلى تعزيز أقوى للمزاج إذا اتخذتها بشكل حدسي بدلاً من اتخاذها بشكل متعمد.

وجدنا مرة أخرى أن الأشخاص يشعرون عمومًا بتحسن بعد اتخاذ القرارات – وكان هذا التحسن في المزاج أقوى بعد القرارات الحدسية مقارنة بالقرارات المتأنية. استمر هذا التغير الإيجابي في المزاج حتى تنفيذ القرار. علاوة على ذلك، قام الأشخاص بتقييم القرارات الحدسية على أنها أكثر إرضاءً وأكثر توافقًا مع تفضيلاتهم، وكانوا أكثر احتمالًا لتنفيذها (على سبيل المثال، الذهاب فعليًا إلى صالة الألعاب الرياضية بعد العمل إذا كان هذا هو القرار المتخذ). قمنا بدراسة أحد الآليات المتوقعة وراء هذا التغير الإيجابي في المزاج – وهو سهولة اتخاذ القرارات – ووجدنا أن كلما تم اتخاذ القرار بسهولة أكبر، كان الشعور بعده أفضل، وكانت القرارات الحدسية تُتخذ بسهولة أكبر من المتأنية.

في العديد من الحالات، تخبرك مشاعرك الغريزية بدقة عما هو جيد لك في حياتك اليومية، لأن الحدس يتطور بمرور الوقت بناءً على العدد الهائل من التجارب التي مررت بها. كلما زادت خبرتك في مجال معين، وكلما كانت ظروف التعلم التي طورت من خلالها حدسك أفضل، زاد الاعتماد على حدسك. يمكن أن ينطبق هذا على القرارات التي اتخذتها مرارًا من قبل، وحيث تكون مخاطر "اتخاذ القرار الصحيح" منخفضة: قد تؤدي الاختيارات اليومية حول أي وجبة تختارها، أو أي فيلم تشاهده، أو أي قميص تشتريه إلى تحسين مزاجك بشكل أقوى إذا اتخذتها حدسيًا بدلًا من التفكير المتأني. على الأقل، هذا ما تشير إليه نتائج دراستنا الأخيرة.

لأخذ مثال أكثر تعقيدًا، إذا شعرت شعورًا غامضًا بأن شريكك أو صديقك قد لا يكون على ما يرام بعد مكالمة هاتفية قصيرة، فقد يكون من الحكمة اتباع حدسك والذهاب لرؤيته. من المحتمل أن العديد من الإشارات أدت إلى هذا الحدس، من نبرة صوته إلى التوقفات الطفيفة بين الجمل، إشارات تعتبر ذات مغزى بالنسبة لك بسبب تجربتك الواسعة مع هذا الشخص. إذا اتبعت شعورك الغريزي في هذا الموقف، فهناك القليل من المخاطر، ومن المحتمل أن تشعر بتحسن مقارنةً بما إذا كنت قد فكرت بعناية في إيجابيات وسلبيات المتابعة.

من ناحية أخرى، قد لا تكون القرارات الحدسية دائمًا الأكثر تكيفًا. قد يكون هذا هو الحال، على سبيل المثال، عندما تكون غير متأكد تمامًا مما هو القرار الأفضل بسبب قلة الخبرة ذات الصلة. قد يحدث هذا عندما تبدأ وظيفة في مجال جديد، أو إذا كان عليك الاستجابة لسلوك شخص في سياق ثقافي غير مألوف. في حين أن القرار الحدسي في حالة تفتقر فيها إلى الخبرة قد يجعلك تشعر بالارتياح لحظيًا، قد تكون أفضل حالًا إذا فكرت بعناية في الخيارات المختلفة وقارنت رد فعلك الحدسي بما يخبرك به "عقلك".

لقد أظهرت لي عمليتي السريرية مدى اعتماد فائدة الحدس على تجارب الشخص السابقة وجودة بيئته التعليمية. أتذكر مريضة لي، وهي امرأة شابة كانت تواجه صعوبة في تكوين علاقات وثيقة. كانت تشعر بالأمان أكثر عندما تبقي الناس على مسافة، لكنها كانت تشعر بالوحدة أيضًا. خلال عملنا، أصبح من الواضح أنها نشأت مع أم غير مستقرة عاطفيًا – أحيانًا تستجيب بحرارة عندما تبحث عن القرب، وأحيانًا أخرى تبتعد عنها وتنتقدها. بمرور الوقت، استسلمت بشكل شبه واعي لعدم التعبير عن حاجتها إلى القرب. ومع هذا الدرس، جاء شعور متكرر قادها إلى اختيار البقاء بعيدة وباردة في المواقف الاجتماعية. وعلى الرغم من أن اتباع هذا الحدس جعلها تشعر بالأمان والارتياح على المدى القصير، إلا أنه لم يساعدها في بناء علاقات قائمة على الثقة. كان الحدس يضللها.

في هذه الظروف والعديد من الحالات الأخرى، يمكن أن يكون للحدس تأثير كبير على ما يفكر فيه الناس ويفعلونه. لديه إمكانيات كبيرة، ليس أقلها لأن العمليات اللاواعية المرتبطة به مرتبطة بتفضيلاتنا وخبراتنا التعليمية السابقة. في العديد من المواقف اليومية، سيجعلك اتباع حدسك تشعر بالارتياح في اللحظة، وأحيانًا لن ينطوي على أي مخاطر. لذا، في تلك الحالات، اتبع حدسك. لكن في بعض الحالات الأخرى، قد لا تكون تفضيلاتنا الشخصية مثالية لتوجيه القرار، أو قد تكون لدينا تجارب علمت حدسنا درسًا خاطئًا. في بعض الأحيان، من الأفضل أن تفكر جيدًا قبل الاعتماد على الحدس. ولحسن الحظ، عندما نواجه هذه المواقف المختلفة، لدينا كلا الخيارين المتاحين.

***

........................

الكاتبة: كارينا ريمير: أستاذة علم النفس السريري والعلاج النفسي في جامعة الصحة والطب في بوتسدام، ألمانيا، ومعالجة نفسية ديناميكية مرخصة. نشرت العديد من الأوراق البحثية حول الحدس وتنظيم العواطف وعلم الأمراض النفسية.

المقدمة: أيمانوئيل كانط Kant Immanuel 1724 – 180، فيلسوف ألماني بارز من مواليد ميناء (كونسيبيرغ) ميناء على ساحل بحر البلطيق على الحدود الشمالية من ألمانيا تجاورها من الشرق بولندا، وإن مدينة كانط (كونسيبيرغ) هي ضمن مقاطعة بروسيا (ألمانيا الشرقية سابقا).

هو من جيل الفلاسفة الألمان بيد أنهُ ليس (مثاليا) بل يكون محسوبا فكريا وثقافيا ضمن مجموعة فلاسفة العالم الروسي السوفياتي المتحررفكراً وفلسفة، توفي كانط في 12 شباط 1804 وقد نُقشتْ على شاهدة قبرهِ عبارتهِ الشهيرة الأنسانية المقتبسة من كتابه النقد العملي {شيئان كلما تأملنا فيها بأمعان يملأن الذهن أعجاباً ورعبا متزايدين إنهما السماوات المرصعة بالكواكب فوقنا والقانون الأخلاقي في دواخلنا} .

النص:

 الأدب المقارن يحكي ما (بين) الفلسفة العدمية الألمانية وفلسفة السوفيتات الروسية الأنسانية!

- أن أنتشارالمد الفلسفي المعرفي لكلا الطرفين الألماني والروسي يحدد لهما القرنين السابع والثامن عشر، كانت العدمية السوداوية التشاؤمية هي السائدة على المعرفية القيمية الفلسفية الوجودية كمثل أستعرض أفكار الفيلسوف الألماني (شوبنهاور) الذي يقول: إن الوجود هو المادة الملموسة فقط، أما ما يطرح في عالم الغيبيات فلا قيمة لها ويميل بالتعمق في دراسة الديانة البوذية الهندية التي تقوم على أساس أن الحياة قائمة على أنواع من الشرور الطبيعية والخلقية، أما الوجود عبارة عن المادة المطلقة، فليس في الوجود غير المادة، ويتفق الأغلبية من فلاسفة الألمان في التشاؤمية السوداوية أن الموت نهاية للألام وعذابات الحياة.

ولآجل الحفاظ على (النوع) وديمومة أستمرارية الحياة ببؤسها وشقائها يستلزم أمرين مهمين: (العقل والغريزة الجنسية) بل يذهب البعض أكثر في الغلو في السوداوية والأحباط النفسي يدعون إلى نبذ الحياة الشريرة ولو كان بالأنتحار (كتاب أرادة وفكر لشوبنهاور)، فكان أنتشار هذه الأفكار المتطرفة الشعور بالعزلة والكآبة والخوف والقلق ترك أثرا كبيرأً في أضطراب البوصلة الأجتماعية والثقافية في زمن النازية 1939- 1945 والدعوة لتبني (النازية) والميل لثقافة ألفوقية البشرية لآصل النوع بتفضيل الجرمانية بعجرفة وغطرسة غير مبررة على البشرية وخاصة خطابات الفيلسوف اليميني المتطرف (نيتشه) وفي زمن هتلر بالذات صرخ بأعلا صوته {أيها الألمان عيشوا على فوهة بركان}، وهي دعوة لنشر الكراهية بين اليشر والتقوقع الضيق للهوياتية الشعبوية في قدسية وسموالجنس الجرماني.

أما التجربة السوفييتية البلشفية سوف أختصرها بشخصية الأديب الروائي والفيلسوف المشهور (ديستوفيسكي) ولآنهُ أشهرمفكرأنساني غاص في أعماق الذات البشرية للمجتمع الروسي والعالمي من مشاعر وأحاسيس وسوسيولوجية أجتماعية أنعكست تأثيراتها المعرفية القيمية بمدى عالمية أممية في منجزاته الثرة والثرية في الأنسنة وحب الخير والسلام: كالأخوة كارمازوف والأبله والجريمة والعقاب والمقامر والمراهق ورواية الشياطين حيث أثرى المكتبة الروسية والعالمية ب43 منجز، يقول في مقدمة كتابه حياة لها معنى {علينا نحن البشر أن نتساعد ونحب بعضنا ونمسك أيدي بعضنا بعضاً فأما الوصول إلى المدينة الفاضلة (اليوتوبيا) أما أن نهلك معاً في جحيم أتون مدينة الأشرار (الديستوبيا)

ويقول في عقيدته اللاهوتية عن الوجود أن نهب محبتنا للرب أحراراً لا عبيداً، ويقول في روايته (الأبله): خير للأنسان أن يكون تعيسا من أن يكون سعيدا ومخدوعاً، وأضيف نجاح السوفيتات في التجربة الأشتراكية العلمية في توزيع الأصلاح البنيوي الأنساني للمجتمع بشكل عادل، وثمة تجديد في عالم الفلسفة، أن في عالم الفلاسفة الروس السوفيت تتصارع الأضداد الخير والشر والحقيقة والزيف والرحمن مع الشيطان والموت والخلود والعاقل والأهبل فالنصر يكون للأفضل والأحسن الأكثر مقبولية، والآن حانت الفرصة بأن نأخذ *بيلوغرافية حياة وأفكار الفيلسوف الألماني الشرقي المفعمة بالأنسنة والحرية للفيلسوف:

أيمانوئيل كانط:

أيمانويل كانط 1724 – 1804 يُعدُ واحداً من أعظم فلاسفة الغرب الأوربي، لا سيما في* الميتافيزيقيا، ونظرية المعرفة، والأخلاق، وعلم الجمال.

ثمة أضافات للفيلسوف (كانط) للحداثة الفلسفية:

- في حقل فلسفة الأخلاق وضع كانط رافعة (الدافع) فكلما كان الدافع غريزي يكون الفعل ليس أخلاقياً، وأعطى أبرز مثال في المتدين يعمل الخير وينتظر حياة أخرى يترجم فيها شهواته وأشباع ملذاته وتهدئة غرائزهِ فيتحول العمل إلى عمل أنتهازي.

- في حقل الأمانة أعتبرها صائبة عندما تكون (لذاتها) قبل عواقبها السالبة.

- في فلسفة كانط يضع نظرياته حول محور الفكر الأنساني لكون الأنسان غاية بغض النظر عن أفكارهِ ولونهِ فهومصدر الأهتمام في الحدث والحديث.

- فلترة علم الأخلاق من الديماغوجية الوعود الكاذبة والوهمية.

- كانط هو أحد الفلاسفة الذين كتبوا في (نظرية المعرفة) في جعل الدين في حدود مجرد العقل و*أنطلوجية الوجود وتأسيس *ميتافيزيقية الأخلاق.

- لفد حقق كانط في منجزاته الفكرية معجزة أدبية في المعرفة القيمية والدعوة لنبذ العزلة والسوداوية التشاؤمية والأعتماد على قوة وقدرات الأنسان الأيجابية وقد غيرت خارطة الفكر الأنساني لاحقاً في منجزاته الثرة والممنهجة: كتاب نقد العقل الخالص 1781 وكتاب نقد العقل العملي 1788 وكتاب نقد ملكة الحكم 1790وكتابهُ لأجل السلام بين الأمم 1795 (لاحظ تلاحق الأنجازات في فترة قصيرة وتبدأ بالنقد).

الأفكار الرئيسة للفيلسوف كانط:

- النقدية الكانطية: وتعني الفلسفة النقدية التي تسعى إلى تحليل قدرات العقل المعتمدة على الحواس والعقل في كتابه نقد العقل الخالص يشير كانط إلى إن المعرفة ليست شيئا تأتي من العالم الخارجي وحده بل هي مزيج من البيانات الحسية وأسهامات العقل البشري في تنظيم تلك البيانات، مقسماً فلسفة المعرفة إلى قسمين: المعرفة المعتمدة على العقل والمعرفة التي تعتمد على التجربة فهو يؤكد على العقلانية في تفسير الحدث والحديث على طول سيرتهِ الفلسفية.، وتتجلى بشكلٍ رئيسي في كتابه نقد العقل الخالص " حيث سعى إلى حل الصراع بين التيارين الرئيسيين في الفلسفة في زمانه التجريبي (مثل جون لوك وديفد هيوم) والعقلانية (مثل ديكارت ولايبنيتز) نقد كانط هذه التيارات عبر القول: {إن المعرفة ليست مجرد نتاج العقل أو للتجربة وحدها بل هي مزيج من الأثنين أي إن العقل لديه أطر قبلية مثل (الزمان والمكان والقيم المعرفية)التي تنظم التجربة الحسية.

- العلاقة بين العقل والأرادة الحرة: يرى كانط التمييز بين العالم الظاهري الذي تحكمه قوانين الطبيعة والعالم الأخلاقي لذا أعلن إن الحرية شرط أساسي للأخلاق يجب أن يتصرف الأنسان بطريقة شاملة وعمومية كقانون عالمي معترف به ، وان الحرية لا تعني الأنقياد للشهوات والرغبات الطائشة بل التصرف وفقا للعقل.

- في الدين والعقل يرى كانط أن الدين يجب أن يكون في حدود العقل وحدهُ وأن الأيمان يجب أن يخضع على الأدلة العقلية والأخلاق.

- السلام الدائم يقدم كانط رؤيته حول كيفية تحقيق السلام الدائم على هذا الكوكب الجميل ونبذ تجار الحروب، وضح ذلك في كتابه (مشروع للسلام الدائم) طرح كانط رؤيتهُ لفكرة السلام العالمي الدائمي والدولة الجمهورية المثالية التي تعتمد على القوانين.

- أجمالا أسهم كانط في أحداث (تحول) جذري في الفلسفة من خلال {الربط بين المعرفة الحسية والعقلية وترسيخ القيم الأخلاقية على أسس عقلانية.

- كانط أحد فلاسفة عصر التنوير حيث حصل على شهادة التخصص في موضوع (المنطق والميتافيزيقيا) نشر كانط كتابهُ سنة 1755(التأريخ الطبيعي العام ونظرية السماوات) The General Hystory and Theory of the Heavens وضع فيه آراءهُ في تأريخ يداية الكون ونقد الدين لخص وجهة نظره القابلة للجدل وربما مفاجئة ولبعضها القدسية.

- منجزات كانط الفلسفية والتي يبدأها بكلمة نقد: نقد العقل الخالص الذي يبحث في المعرفة القيمية الأنسانية بشرح الحدث المدني والديني بالعقل المادي لا الغيبي فكانط يعتبر من جماعة (المذهب العقلي) لكون المعرفة تنبع من العقل، ونقد كتاب نقد العقل العملي، وكتاب نقد ملكة الحكم، وكتاب تأريخ بداية الكون ونقد الدين.

شرح مصطلحات

* الأنطولوجيا: هي علم الوجود، أو فهم دراسة الوجود والكيان وطبيعة الأشياء وفهم ماهية الواقع.

* الميتافيزيقيا: يهتم بطبيعة الكون وما يحكم العقل بالوجود، تفسير الطبيعة للأشياء من هذه المخرجات (أصل تكوينها ومبدأ نشأتها)

* بيلوغرافيا: دراسة السيرة الشخصية للكبار (سياسيين ومؤرخين وفنانين) وفهرست سنة منجزاتهم وعنوان الكتاب والمقدمة والتقديم والممترجم.

***

عبدالجبارنوري - أبورفاه

كاتب وناقد أدبي عراقي مغترب

في أكتوبر2024

 

مفهوم الحداثة: الحداثة أو العصرنة هي مشروع حياة، يرمي إلى تحديث وتجديد ما هو قديم وبالِ ولم يزل هذا القديم فاعلاً وحيويّاً في حياة هذا المجتمع أو الأمّة، ومعرقلاً لنهضة وتقدم بنية هذا المجتمع أو الأمّة على كافة مستويات حياتها الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة. وعلى هذا الأساس فالحداثة هنا تشكل ثورة حقيقة على كل ما هو متخلف، وخلق عالم جديد في حياة الشعوب والأمم يتفق وقضايا حريّة الإنسان وعدالته وأمنه واستقراره.

نقول: عندما بدأت تظهر الطبقة البرجوازيّة الأوربيّة كطبقة قائدة للمشروع الحداثي مع قيام الثورة الصناعيّة، هذا المشروع الذي رمى آنذاك إلى تجاوز بنية المجتمع الاقطاعي بكل مستوياته المتخلفة، يساعدها في قيادة هذا المشروع الطبقة العماليّة، ضد السلطات المتنفذة آنذاك في هذا نظام، وهي سلطة الملك والنبلاء والكنيسة، استطاعت الطبقة البرجوازيّة الوليدة بما حققته من تحولات ماديّة وفكريّة عميقة في بنية المجتمع، بسبب الثورة الصناعيّة - كما بينا أعلاه - وتطوراتها اللاحقة، منذ القرن السادس عشر حتى وصول الطبقة البرجوازيّة ذاتها إلى السلطة بعد قيام الثورة الفرنسيّة /1789/، هذه الثورة التي حاولت تجسيد أفكار عصر التنوير التي رافقت هذه الثورة الصناعيّة بما مثله هذا العصر من رؤى فكريّة، تضمنت مفاهيم الحريّة والعدالة والمساواة، والأهم المقدمات الأساسيّة لأفكار المسألة القوميّة التي كانت تطالب بتحقيق المشروع القوميّ للدول الأوربيّة، وتجاوز التفتيت الاقطاعي الذي حل بالدول الأوربيّة آنذاك من جهة، ثم تحقيق السوق الموحدة للدولة القومية خدمة لمصالح طبقتها البرجوازية الوليدة، وتطبيق الشعار "الميركانتيليّة" دعه يعمل دعه يمر..

هذا ويمكننا الإشارة إلى أهم ما تضمنه الخطاب السياسي الحداثي في أوربا الذي يهدف برأيي لتحقيق مسألتين أساسيتين على درجة عالية من الأهميّة هما:

الأولى: بناء دولة المؤسسات والمواطنة والقانون وتداول السلطة والعقد الاجتماعي، واعتبار الشعب هو مصدر السلطات، واختيار نظام الحكم، وهو وحده من يحق له تنصيب هذا الحاكم أو عزله عبر ممثليه، في المجالس النيابيّة المنتخبة من الشعب ذاته.

والثانية: بناء الدولة القوميّة، التي تعني توحيد مقاطعات الدولة، بعد القضاء على السلطة الاقطاعيّة، وبذلك مُنِحَتْ الدولة الأوربيّة الواحدة قوّة بعد ما كانت ضعيفةً ومجزأةً.

بيد أن الطبقة البرجوازيّة التي سيطرت على السلطة بالتعاون مع الطبقة "الرابعة" من عمال وفلاحين ومهمشين ومسحوقين، وبعد أن حققت دولها مشروعها القومي بعد القضاء على ما سمي آنذاك بدول المدن، راحت شيئاً فشيئاً تسعى للسيطرة على الدولة والتفرد بسلطتها، ثم تسخير إمكانيات الدولة والأمّة لمصالح مشاريعها الاستعماريّة التي كانت تهدف إلى كسب أسواق خارجيّة للحصول على مواد صناعاتها الأوليّة وتصريف منتجاتها. وتحت مضامين هذا التوجه الاستعماري راحت تبرر استعمارها لشعوب العالم الثالث باسم رسالة الرجل الأبيض، وبدعم من المؤسسات الدوليّة التي صنعتها هي منذ انتهاء الحرب العالمية الأولى، كعصبة الأمم المتحدة التي تأسست عام 1919، والجمعيّة العامة للأمم المتحدة 1945، ثم هي ذاتها راحت تمارس قهرها وظلمها على الطبقة العماليّة التي ساندتها في ثورتها ضد الاقطاع وحوامله الاجتماعيّة من جهة، وعلى البرجوازيّة الصغيرة من خلال المنافسة والاحتكار من جهة ثانية، وعلى عموم الشعب من جهة ثالثة، حيث عملت على تهجين ونمذجة شعوبها عبر إعلامها ودعواتها إلى الحريّة الفرديّة بحدودها شبه القصوى، وإدخالها عالم ما بعد الحداثة، وهو عالم الغربة والاستلاب والتشيء ونهاية التاريخ وموت الفن والأدب والدين والقيم.. الخ.

على العموم لا يمكن لنا أن ننكر ما حققته مرحلة الحداثة التي امتدت منذ استلام الطبقة البرجوازيّة السلطة في أوربا منذ أواخر القرن الثامن عشر حتى قيام الحرب العالمية الثانيّة، حيث ساد الأمان والاستقرار والعيش الرغيد للمجتمعات الأوربيّة رغم النتائج السيئة للحرب العالميّة الآولى، وذلك كله ساهم في الحقيقة بالوقوف ضد أية سلطة استبداديّة شموليّة دينيّة كانت أم سياسيّة وضعيّة، متبنية مضمون مقولة "لويس الرابع عشر": (أنا الدولة والدولة أنا).

الحداثة على المستوى العربيّ:

إن من يتابع سيرورة وصيرورة الكيان العربي على كافة مستوياته الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة، سيجد أن هذا الكيان العربيّ ظل يجتر تخلفه منذ مئات السنين دون تقدم على المستوى البنيوي للدولة والمجتمع معا، فالبنية الاقتصاديّة في سياقها العام، ظلت بنية متخلفة لم تستطع تجاوز الاقتصاد الريعي القائم على تصدير المواد الأوليّة للصناعة إن كان على مستوى الزراعة، أم على مستوى الثروات الباطنيّة. فالأسوق العربيّة هي أسواق للبضائع الأوربيّة راحت تدار بعد الاستقلال من المستعمر من قبل شرائح ولا أقول طبقة من التجار الكومبردور العرب، ثم من قبل طبقة من الطفيليين والسماسرة داخل هذه الدولة أو تلك من الدول العربيّة، وبخاصة في الدول التي ادعت التقدميّة، وإن وجدت طبقة صناعيّة فهي طبقة وليدة لم تزل في بدايتها، وإن أكثر صناعاتها تجميعيّة، أو صناعات اللمسات الأخيرة، وعلى مستوى البنية الاقتصاديّة ذاتها في الدول العربيّة التي تبنت التوجه الاشتراكي، فقد ساد أنموذج ما سمي برأسماليّة الدولة الوطنيّة، وهو أنموذج ساهم في تشكيل شرائح من القياديين الفاسدين للمشروع الاقتصاديّ الاشتراكيّ، الذين نهبوا أموال الدولة وأفسدوا بنيتها وآليّة عملها، وتحولوا كما بينا قبل قليل إلى برجوازيّة بيروقراطيّة وطفيليّة عاثت فسادا في الدولة والمجتمع معا.

أما على المستوى الاجتماعيّ: فهي دول ما قبل الدول. أي دول لم تزل تتحكم في بنيتها الاجتماعية المرجعيات التقليديّة، من عشيرة وقبيلة وطائفة.

وعلى المستوى السياسيّ: هي دول فرضت فيها المرجعيات التقليدية نفسها على السلطة، فكانت سلطة عشيرة وقبيلة وطائفة، وأمير وملك. أما في الدول التي قادتها أحزاب تدعي الثوريّة والعلمانيّة والديمقراطية، فقد غلبت على قادتها شهوة السلطة، فعسكروا الدولة، وفرضوا قادة لهم سمات كاريزميّة، راحوا يقودون الدولة والمجتمع وفق أجندات غالباً ما راحت تتحكم فيها المرجعيات التقليديّة أيضاً، وهنا أفرغت كل الشعارات التقدمية من علمانيّة وديمقراطيّة ودولة قانون ومؤسسات التي نادت بها هذه الأحزاب التقدميّة ودساتير دولها، لتتحول هذه الدول في بنيتها السياسيّة المؤسساتية التي تشكلت إرهاصاتها الأوليّة بعد الاستقلال، إلى بنية سياسيّة تأبدت فيها السلطة الحاكمة وتحول بعضها إلى طابع وراثي لا تختلف عن الدول التي يقودها الملك والأمير. أي سلطة استبداديّة شموليّة من نمط سلطة الأسرة والقبيلة والطائفة.

إن كل الشعارات  التقدميّة الحداثيّة التي رفعت باسم الوطنيّة والقوميّة والاشتراكيّة، في الدول التي تدعي التقدميّة بشكل خاص قد أجهضت، فثورات الربيع العربي بينت أن هذه الأنظمة لم تستطع أن تحقق لا الوحدة الوطنيّة ولا الاشتراكيّة ولا العلمانيّة ولا الديمقراطيّة ولا دولة القانون أو دولة المؤسسات، إضافة لفشل مشروعها القوميّ فشلاً ذريعا، بحيث تحولت إلى دول أو أنظمة منبوذة من قبل شعوبها، التي قامت ضد هذه الأنظمة في أو فرصة سنحت لها للتحرك .

أمام هذا الفشل الذريع في تحقيق النهضة والحداثة لشعوب الدول العربيّة إن كان عن طريق المشروع القومي أو المشروع الاشتراكي، وجد أصحاب التيار السياسي الإسلاموي الفرصة سانحة للتحرك من أجل الوصول إلى السلطة، مستغلين قيام الثورة الإسلاميّة الخمينيّة في ايران ودعهما لأصحاب هذا المشروع، وتطبيق الحاكميّة، وقد لقى أصحاب هذا المشروع السياسيّ الإسلاموي، التجاوب الكبير في بداية انطلاقتها مع ثورات الربيع العربي من قبل الجماهير التي فقدت ثقتها بأنظمتها وقادتها وشعاراتهم التي لم تولد لها إلا الفاسدين والمطبلين والمزمرين وطلاب السلطة، علما أن الوعي الديني ذاته قد عملت كل الأنظمة العربيّة دون استثناء على تغذيته والحض على نشره وتعميمه من خلال مؤسسات الدولة الدينيّة التي تحولت إلى اداة بيد السلطات الحاكمة يتوجه موظفوها بتوجهات هذه السلطات ومصالحها، في الوقت الذي تم فيه محاصرة واقصاء كل المشاريع الفكرية التنويريّة ورجالتها على مستوى المسرح والسينما والبرامج التلفزيونيّة وحتى قيادة مؤسسات الدولة وإداراتها.

إن هذا التماهي بين الدين والسلطة السياسيّة الحاكمة تحت مسمى (العروبة والإسلام) بشكل خاص، أعطا مداً غير عادي لرجال الدين والفكر الدينيّ الامتثاليّ الجبريّ الاستسلاميّ القائم على النقل لا العقل، وعلى ثقافة الفم لا القلم.

أما النتيجة فكانت ضياع للفكر التنويريّ الليبراليّ والتقدميّ عموماً، بل وحتى الإسلامي المعتدل المؤمن بالعقل وفتح باب الاجتهاد. وهنا فقدت الأنظمة العربيّة اليمين واليسار والوسط، ولم يبق في هرمها السلطوي إلا من تحكمت بهم شهوة السلطة والفاسدين وتجار الوطن. وبذلك كرهت الشعوب بهم وبأنظمتهم وشعاراتهم، فكانت ثورات الربيع العربيّ بكل عجرها وبجرها، محاولة للتغير، بيد أن الفساد وغياب المشروع السياسيّ الموحد، والحامل الاجتماعيّ الموحد لها، كان عاملاً هداماً لهذه الثورات، أفقد هذه الثورات كل مضامينها الثوريّة، كون ما قام به قادة هذا الربيع من أعمال لا منطقيّة شكل بنظري مهازل الثورة بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سوريّة

للدولة أخلاقها وللناس أخلاقهم. هذان عالَمان مختلفان في كل الجوانب تقريباً: في التكوين، والمبررات، ومصادر القوة، وأدوات العمل، وقيمة الفعل، ومعايير النقد والمراجعة... إلخ. الدولة ليست مجموعة أشخاص يديرون بلداً، بل هي تكوين صلب لا يقبل التفكيك. وبهذه الهيئة، فهي مختلفة عن مجموع أعضائها. كي لا نغرق في الكلام العام، دعنا نقارن بين المعادن التي بُنيت منها سيارتُك، وسيارتك نفسها. إن قيمة تلك المعادن (لو جُمعت) لن تبلغ 5 آلاف ريال، أما سيارتك نفسها فقد تتجاوز مائة ألف ريال. السبب أنها ليست مجموعة معادن نُظمت ورُبط بعضها إلى بعض، بل هي شيء آخر يعمل بطريقة مختلفة، ويقاس بمعايير مختلفة، ويُحسب على ضوء قيم مختلفة. ماكينة السيارة كون مستقل، وليست مجموع المعادن التي تألفت منها. كذلك الدولة؛ فهي ليست مجموعة الأشخاص الذي يشغلون مكاتبها. الدولة - ببساطة - عالم قائم بذاته وخصوصياته، ولا يشبه شيئاً غيره.

لو سألت علماء السياسة عن الوصف الدقيق لوظيفة الدولة ودورها، فسوف يذكرون - على الأغلب - تعريف ماكس فيبر الذي قال إن الصفة الجوهرية التي تميزها عن كل شيء آخر، هي أنها «الهيئة الوحيدة التي تمارس العنف بشكل مشروع». وماكس فيبر مفكر ألماني يعدّ من آباء علم الاجتماع الحديث. وهو يرى أن حقيقة الدولة ترتبط بملكيتها مصادر القوة العامة، وتفويضها في توجيه تلك المصادر إلى الجهات التي تراها ضرورية ومفيدة.

لكن ما الذي يمنع انقلاب العنف المشروع إلى عنف اعتباطي، أي غير مشروع؟

حقيقة الأمر أن هذا هو مفتاح النقاش حول «أخلاق السياسة»، الذي تعرضنا له في الأسبوع الماضي. والجواب عن السؤال يكمن في كلمتين: «سيادة القانون».

«سيادة القانون» تعني ببساطة أنه لا يحق لموظفي الدولة أن يتصرفوا في أي شيء إلا بموجب قانون قائم. سواء أكان الموظف وزيراً أم وكيلاً أم مديراً عاماً... أم غيرهم، فهو لا يستطيع فرض غرامات أو رسوم أو تكاليف مالية على الناس، إلا بموجب قانون تصدره الجهة المخولة التشريع، مثل البرلمان أو مجلس الوزراء أو رئيس الدولة. كما لا يُسمح له بالتصرف في الأموال التابعة لإدارته خارج الإطار الذي حدده قانون الميزانية العامة للدولة، بغض النظر عن ميله الشخصي أو رغباته.

انظر الآن إلى الفرق بين الشخص العادي ورئيس البلدية مثلاً: أستطيع أنا وأنت أن نتصرف في أموالنا كما نشاء، فنصرفها على أنفسنا، أو نتبرع بها، أو نودعها في البنك، أو نستثمرها، من دون حاجة إلى استئذان أي شخص. أما رئيس البلدية فهو لا يستطيع شراء كرسي إضافي لمكتبه، إلا بموجب مكاتبات ومخاطبات واستئذان الإدارة المالية.

لقد أدت هذي الإجراءات إلى قيام ما سماها فيبر «البيروقراطية (حكم المكاتب)» التي كان من ثمارها تعطيل الأعمال وتعقيدها، وهذا أمر سيئ من ناحية؛ لكنه، من ناحية أخرى، جعل كل شيء مسجلاً ومقيداً بالقانون، فلا يستطيع الموظف الحكومي - مهما كان منصبه - أن يتصرف وفق هواه في مصادر قوة الحكومة كالمال والسلاح... وغيرهما. ولو فعل هذا، فسوف يحاسب الآن أو بعد زمن، ما دام كل شيء مسجلاً، وما دام الناس يعرفون أن التصرفات الشخصية تخالف مبدأ «سيادة القانون».

هذا الشرح أوضحَ - فيما أظن - أن المقصود بـ«أخلاقيات السياسة» هو «الالتزام بالقانون»، وعدم استغلال موارد الدولة وقواها في المصالح الشخصية، أو اتباع الهوى الشخصي في التعامل معها أو مع المواطنين.

حان الوقت إذن للقول إن من الجيد جداً أن يكون رجل الدولة متواضعاً لطيفاً ليّناً في التعامل. والأفضل أن يوجّه موظفيه إلى ملاينة الناس بدل الخشونة معهم. لكن الحد الأدنى من «أخلاقيات السياسة» هو «الالتزام بالقانون»، وعدم تحكيم الأهواء الشخصية. إن «سيادة القانون» هي العنوان العريض لـ«أخلاقيات السياسة»، والالتزام بها هو ما يميز سياسياً ملتزماً بالأخلاق عن سياسي عابث.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

بعد حملة محمد علي والتدخل الأوروبي الذي تبع ذلك، كانت أولى إرهاصات القومية العربية، وكانت المطالب محدودة، تتمثّل بإجراء إصلاحات داخل الدولة العثمانية وإستخدامٍ أوسع للغة العربية.

وفي عام 1913 اجتمع العديد من المفكرين والسياسيين العرب في العاصمة الفرنسية باريس كمؤتمر أول لهم، واتخذوا مطالبهم للحكم الذاتي داخل الدولة العثمانية، وأن لا يخدم المجندين العرب خارج إقليمهم.

كما أن الأحداث الطائفية التي شهدها وسورية 1860-1861 عالجها المفكر بطرس البستاني، واليازجي وأتباعه من خلال الإنتماء المواطني على أساس القومية بعيداً عن أي تعصبٍ ديني أو مذهبي.

إن ظهور الفكر القومي تبوأ مكانه في أواخر القرن التاسع عشر، حيث قامت شخصيات وأحزاب كحركةٍ سرّية في الخفاء، وكوّنت نفسها في العاصمة التركية، ومن ثُمّ كشفت عن نفسها كحركةٍ علنية، وكانت بيروت مقراً لها، ومن ثُمّ أصبحت حركة سياسية بعد عقد مؤتمرها الأول في العاصمة الفرنسية باريس، عام 1912.

طبيعي أن تكون فكرة القومية العربية محصورة في ذلك الوقت بين أشخاصٍ وأقليات من غير المسلمين، وبعد ذلك تأثّر بها وبمعتقداتها وأفكارها بعض من المسلمين، ولم تُصبح تياراً شعبياً إلاّ بعد أن روّج لها عبد الناصر.

ولعل أهم من دعا للأفكار القومية، ساطع الحصري، ومن ثُمّ ميشيل عفلق، الذي قاد هذا التيار و وضع له الكثير من الخطط والأهداف.

كما كانت هناك العديد من الشخصيات والجمعيات ذات التوجّه القومي، من أبرزها:

- بطرس البستاني وناصيف اليازجي، أسسا الجمعية السورية في دمشق عام 1847.

- سليم البستاني ومنيف خوري، أسسا الجمعية السورية في بيروت عام 1868.

- نجيب عازوري أسس جمعية رابطة الوطن العربي عام 1904.

- خيرالله خيرالله أسس جمعية الوطن العربي 1905.

- خليل حمادة أسس الجمعية القحطانية وهي سرية، عام 1909.

- جمعية العربية الفتاة أسسها مجموعة من الطلبة في باريس منهم محمد بعلبكي، عام 1911.

- حزب العهد وهو سري، تم تأسيسه من قبل الضباط العرب في الجيش العثماني عام 1912.

جمعية العلم، وهي جمعية تأسست في مدينة الموصل عام 1914.

- وفي عام 1948 تأسست حركة القوميين العرب، من طلاب الجامعة الأمريكية في بيروت، وضمّت فلسطينيين وسوريين وأردنيين وكويتيين وعراقيين، من أبرزهم، أحمد الخطيب، جورج حبش، حامد الجبوري، هاني الهندي، وديع حداد، صلاح الدين صلاح، صالح شبل، حكم دروزه، عدنان فراج، ثابت المهايني، مصطفى بيضون، محسن إبراهيم.

وهم الذين عقدوا مؤتمرهم الأول السري 1956،

لعل من أوائل روّاد الفكر القومي المعاصر كان المفكر السوري والتربوي ساطع الحصري 1879-1968، تجسّد مشروعه، وتبلورت انطلاقته بأفكاره حينما عمل وزيراً للمعارف في فترة حكم الملك فيصل في سورية، ومن ثُمّ تواصل عمله الفكري والتربوي حيث إنتقل مع الملك فيصل إلى العراق، وعمل هناك وزيراً للمعارف، وبالتالي كان مشرفاً على عملية إختيار المناهج التعليمية، وعُرِفَ أنّه كان يتبنّى المناهج العلمانية.

وكان واضحاً أنه من المؤمنين بالعروبة والداعين لتحقيق الأمل العربي بالوحدة، وكان هذا التوجّه جليّاً من خلال كتاباته التاريخية ومحاضراته.

ومن أهم مؤلفاته في هذا التوجّه، - حول القومية العربية - آراء وأحاديث في القومية العربية - آراء وأحاديث في الوطنية القومية - العروبة أولاً - دفاع عن العروبة.

ولقد اعتمد الحصري على مفهوم الأمة العربية كأدبيات الفكر القومي، من خلال عوامل اللغة والدين والجغرافيا والتاريخ.

واعتبر الحصري أن عامل اللغة ذو أهمية كبرى كمقومات للنهج القومي، واعتبر هذا العامل الأساس للعروبة والتلاحم والوحدة المنشودة، كما أعطى الدور المهم للمؤسسات التربوية والتعليمية والإعلامية لتكوين ثقافة عربية تعزز وحدة الأمة لتكون مقدمة مهمة للوحدة السياسية.

كما تجسّد إسم محمد عزّة دروزة 1887-1984 كأحد المفكرين الفلسطينيين والمؤرخين المؤمنين بالعروبة، وهذا الفكر برز من خلال كتاباته في التاريخ مثل: تاريخ الجنس العربي - العرب والعروبة في حقبة التغلب التركي - وتبلورت الآراء مع كتاب " الوحدة العربية " الذي صدر عام 1946.

كتابات المفكر الفلسطيني دروزه تُركّز على مفاهيم العرق والجنس العربي، وأكّد على الاعتقاد بوجود جوهر مستقل للوطن العربي على أساس العرق، بمعنى أنه أراد تجسيد وتأسيس الجوهر العربي بشكلٍ مضاد للجوهر الصهيوني اليهودي.

كما كان قسطنطين زريق 1909-2000 من المفكرين القوميين العرب، ويُعتبر داعية للتحديث والعقلانية، وكان من أبرز الأسماء في فضاءات الفكر القومي العربي، حيث أسس في أواخر العشرينيات " جماعة القوميين العرب " وخرجت من هذه الجماعة تنظيمات جديدة، مثل: حزب فلسطين القومي - عصبة العمل القومي - حركة القوميين العرب عام 1948.

ولعل من أهم كتب زريق، الكتاب الأحمر 1933- والذي يعتبر كميثاق للقومية العربية، وكتاب " الوعي القومي " 1939.

وبمنطق المفكر زريق هناك جوهر عربي يُميّز أُمّة العرب عن الأمم الأخرى، وذلك من خلال عوامل العرق واللغة والثقافة والتاريخ المشترك.

جاء الانتداب الفرنسي على سورية ولبنان عام 1922 وصاية من عصبة الأمم المتحدة، بعد سقوط العهد العثماني، وبعد نهاية حكم الانتداب الفرنسي نتيجة المقاومة السورية عام 1946، تبوأ المفكر زريق عضوية فريق السلك الدبلوماسي السوري في واشنطن، كما عمل عضواً مناوباً في مجلس الأمن، وبذلك عايش المفكر قسطنطين زريق التحولات العملية لحقبة الاستعمار إلى مرحلة الاستقلال ومن ثم الانقلابات والهزيمة، كل هذه الأمور والتحولات جعلت أفكار المفكر زريق تتبلّور لديه وتشهد تحولات هامة.

لذلك جاء كتابه بعد هزيمة 1967 " في معنى النكبة مُجدداً " حيث ركّز على فكرة التحديث والعقلانية.

بمعنى ومن خلال أفكاره أن أساس النهوض هو التحديث الذي يكفل النهضة القومية، والتطور والنمو في وسائل الإنتاج نحو حياة اجتماعية وفكرية وروحية متطورة. وهنا يأتي إسم المفكر قسطنطين زريق في مقدمة التيار الداعي للعقلانية في الفكر العربي المعاصر.

و برز من لبنان المفكر القومي منح الصلح 1927-2014 من منطقة رأس بيروت، وكان عروبياً بامتياز، وكان يبتعد عن المناصب السياسية علماً أنه ينحدر من عائلةٍ سياسية، ومن كتبه: الثورة والكيان في العمل الفلسطيني - المارونية السياسية - مصر والعروبة -.

وجعل منح الصلح رأس بيروت منطقة المثقفين العرب، ورواد الحركات الوطنية والقومية، وكانت شبه متحفٍ لمشاهير العرب صنّاع النهضة العربية.

يقول الصلح في إحدى كتاباته، " عشت شاهداً في رأس بيروت على مراحل التأسيس لأكثر من حزبٍ سياسي، مثل حزب عصبة العمل القومي الذي تأسس بين دمشق ورأس بيروت، والحزب السوري القومي الذي تأسس كلّياً في رأس بيروت، وحزب البعث العربي الذي تأسس في دمشق، وبعض مؤسسيه تردّدوا من أول تأسيسه إلى رأس بيروت، و اختاروها في بعض مراحل حياتهم للسكن والعمل. وحزب النداء القومي الذي تميّز منتسبوه بأنهم كانوا القادة الفعليين لمعركة الشارع السياسي والتقدمي ضد الانتداب الفرنسي، وحركة القوميين العرب من خلال خلايا للطلبة في الجامعة الأمريكية ببيروت، وبعد النكبة ظهر بعدان جديدان لفكرة القومية العربية:

أن فلسطين هي قلب الحركة العربية، والثاني هو فكرة الكفاح المسلح ".

وكانت بوصلة منح الصلح متوجهة على الدوام إلى فلسطين والوحدة العربية.

كما لا ننسى أن جمعية العروة الثقافية التي استقطبت عدداً كبيراً من الشباب القومي العربي، وكتائب الفداء التي تم تشكيلها في سورية بشكلٍ سري، وكان جورج حبش عضواً في هذه المجموعة، وكان من أعضائها أيضاً حسين توفيق من مصر.

هذه الحركات كانت تشهد بين فترةٍ وأخرى موجة اعتقالات بين صفوف أعضائها. لذلك فكر القوميون بتصدير فكرهم القومي من لبنان وسورية إلى الدول العربية المجاورة، حيث توزع الأعضاء، انتقل جورج حبش إلى الأردن، وكذلك وديع حداد، وأحمد الخطيب إلى الكويت، وحامد الجبوري غادر أيضاً إلى الأردن، وبقي صالح شبل في لبنان.

لقد كان للشارع السياسي العربي في منتصف القرن الماضي حضوراً للصوت الجماهيري الهادر، حيث كان المواطن العربي يتمتع بتواجده وبصوته وبرأيه، وكانت رئاسات وبرلمانات تنهار، و وزارت تتلاشى من خلال الشارع السياسي العربي، وكلنا يذكر الكثير من الأمثلة، وكيف كانت المظاهرات ولأي سبب وطني أو قومي تملأ العواصم العربية، حيث كان الشارع السياسي العربي مشاركاً فاعلا ً في صناعة القرار السياسي والإقتصادي في البلاد.

وهذا الذي سبب الضيق للأنظمة العربية، والتي إختارت التبعية لحماية نفسها ولمواجهة الشعب والشارع العربي، إنتشرت المعتقلات أكثر، وساد القمع، وتم تهميش المواطن ومضايقته في أموره الحياتية والمعيشية، لجعله يتفرغ ويسعى فقط لتأمين لقمة عيشه، وصدرت قوانين جديدة للمظاهرات والاحتجاجات حتّى الأفراح والأعراس بضرورة الحصول على إذن مُسبق لها من الأجهزة الأمنية والمخابراتية.

ومنذ توقيع كامب ديفيد اتجهت معظم الأنظمة العربية إلى تبنى الشعارات القطرية، وتجاهل أي طرحٍ قومي، وهذه الإجراءات دخلت حيّز الإعلام والتربية والثقافة والاقتصاد والسياسة، ومن خلال هذه الرؤية انتشرت البطالة، و حصل فشل ذريع على صعيد التنمية والتربية والاقتصاد وعلى مستوى مؤسسات الصحة والتربية والتعليم والقضاء والعدل، وبدأ يسود صعود الإسلام السياسي على حساب تراجع التيار القومي، وانتشرت التفرقة بين الجميع، وأصبح كل بلدٍ ينوي بناء جدارٍ عازل بينه وبين البلد العربي الآخر.

ومن خلال هذا الواقع المُزري انتشرت شعارات قطرية تُمجّد التفرقة، مثل الأ{دن أولاً، و لبنان أولاً، وما إلى هنالك من شعارات أخرى.

و بدأت الأنظمة أمام هذا الواقع المُر تبحث عن تبعيات أجنبية تحميها وتنصاع لأوامرها وتوجيهاتها.

وهذا الذي حصل، أصبحت التبعية عند أنظمة الحكم العربية من أساسيات الحكم في البلاد، مع التوجهات المفروضة عليهم بالانغلاق المطلق على الفكر القومي العربي.

ولغاية الآن لا ولم ولن تستطيع الأنظمة العربية من حلّ مشاكلها إن كانت داخلية أو خارجية، أو الحفاظ على سيادتها ونموها، والاستقرار والكرامة لها و لشعبها.

لقد شهدت العديد من الدول العربية الكثير من الحروب الدموية مثل الجزائر والعراق ومصر وسورية واليمن ولبنان وليبيا وفلسطين وتونس، ولم تستطع أي دولة عربية التدخل لمساعدة الدول العربية الأخرى، بل على العكس تماماً دعمت و ساهمت في تأجيج الفتن وترويج الحرب والكراهية.

إنها التبعية التي إغتصبت الفكر القومي العربي، وإنها الأنظمة المتخاذلة بحق عروبتها وشعبها وسيادتها.

قلنا من البداية إن المفكرين والسياسيين و المثقفين العرب هم الذين قادوا الفكر القومي في بدايات القرن الماضي وما تلا ذلك، وقاموا بفرضه على المسار العام للدول من خلال الشارع السياسي العربي.

لذلك نؤكّد الآن أن المفكرين والكتاب والمثقفين العرب عليهم تقع مسؤولية كبيرة في العمل بشكلٍ دؤوب لإحياء الفكر القومي على تراب هذه الأمة المترامية الأطراف، وكلنا يُتابع ما يحدث في فلسطين المحتلة ولبنان من دمار وخراب وقتل وإبادة ودماء، وكافة أنظمة الأمر الواقع صامته، وكأن ما يحدث لا يعنيهم، وكأن ما يحدث ليس هو على الأرض العربية، بل في مكانٍ ناءٍ وخلف المحيطات.

أين المشروع العربي؟.

أين الرؤية العربية؟.

أين الموقف العربي؟.

مع الأسف داست عليهم كلهم التبعية العمياء.

سيكتب التاريخ أن كلٌ من فلسطين ولبنان كانت تقاتل لوحدها، وحولها 20 بلداً عربياً مُدجّجاً بالسلاح ولم يُحرّك ساكناً.

سيكتب التاريخ أن أبناء غزّة احتاجوا الغذاء والدواء والماء وعلى مرأى ومسمع كل العالم، وكافة الدول العربية لم تستطع ادخال معونات إغاثتهم وإنقاذهم، بل على العكس تماماً العديد من هذه الدول التي تُسمي نفسها عربية سارعت لمساعدة إسرائيل بكلِ كرمٍ وسخاء. مع الأسف. في الوقت الذي نحن بأمسِ الحاجة فيه إلى وحدة الصف العربي والموقف الواحد في وجه تيار الدمار والإبادة الذي لا محالة سيتوسع ليشمل دول عربية أخرى.

المفكرون العرب والكتّاب والمثقفين الملتزمين بكل تأكيد لن يتخلّوا عن مهمتهم وعن هويتهم، وعن فكرهم الوطني والقومي، مهمتنا جميعاً الغوص في هذا المنحى في كل كتاباتنا إن كانت شعراً أو مقالاً أو نثراً أو رواية أو نص قصصي.

الموضوع لا يحتمل أي تفسير، وليس أمامنا خيارات:

إمّا نحن أو نحن.

إمّا هُويتنا أو هُويتنا.

إمّا فكرنا القومي أو فكرنا القومي.

***

د . أنور ساطع أصفري

 

الديبلوماسية الاقتصادية فرع من فروع الدبلوماسية، وهي علم وفن في الآن، وبمراكمة المعلومات تصبح في نهاية المطاف رصيدًا معرفيًا يحتوي على خبرات يمكن استثمارها بما يخدم أهداف السياسة الخارجية ويتكامل مع عناصر الديبلوماسية الأخرى، الثقافية والأكاديمية والعلمية والدينية والرياضية وغيرها، فأي تأثير يمكن أن يلعبه التغلغل الاقتصادي لدى الآخر؟

القطاع الخاص واستراتيجيات الدولة

لقد أصبحت الديبلوماسية الاقتصادية، تلعب دورًا مهمًا في عالم اليوم في التأثير الناعم والتغلغل الهادئ على بلدان وشعوب وتحقيق أهداف السياسة الخارجية للدولة، ليس عبر القوّة الصلبة العسكرية، بل بوسائل أخرى سلمية، وهي وإن كانت موجودة منذ أقدم العصور، والمقصود بذلك التبادل الاقتصادي والتجاري بين الشعوب، إلّا أن تأثيرها ازداد على نحو فعّال في ظل العولمة والطور الرابع للثورة الصناعية، لاسيّما في ظلّ اقتصادات المعرفة والذكاء الاصطناعي، الأمر الذي يتطلّب معرفة بحيثياتها ووسائلها وموقعها في عالم الديبلوماسية، إضافة إلى الديبلوماسيات الأخرى كجزء من السياسة الخارجية للدولة.

ووفقًا لذلك يُفترض أن تُرسم السياسات وتُصاغ الاستراتيجيات في العلاقات الدولية باستخدام المهارات التفاوضية وبراعة المفاوضين للتوفيق بين مصالح القطاع الخاص، وما يمثّله من نفوذ اقتصادي فاعل، وتوجّهات الدولة واستراتيجياتها، وكلّ ذلك يتمّ بتوظيف مصادر القوّة المادية والمعنوية، الصلبة والناعمة، لتحقيق أهدافها بوسائل مقنعة ومشجّعة.

الاقتصاد والديبلوماسية

نشأت الحاجة تاريخيًا لإبرام اتفاقيات ومعاهدات لتنظيم علاقات الدول، خصوصًا بعد حروب ونزاعات مسلحة، وذلك عبر المفاوضات المباشرة وغير المباشرة. وتُعتبر اتفاقية ويستفاليا لعام 1648، التي أنهت "حرب الثلاثين عامًا" في أوروبا، وقبلها "حرب المائة عام"، التي راح ضحيّتها عشرات الملايين من البشر، محطّة مهمة في الديبلوماسية الاقتصادية، خصوصًا الاعتراف بالسيادة واحترام حق العبادة وأداء الطقوس والشعائر الدينية بحريّة، فضلًا عن تنظيم مرور البضائع والسلع ضمن قواعد تم الاتفاق عليها، وكان ذلك تمهيدًا لنشوء الدولة القومية وصعود البرجوازية وخدمةً لمصالحها، والتي تُعدّ آنذاك تقدمية قياسًا لمرحلة الإقطاع التي سبقتها، لاسيّما بتبنّي القيم الليبرالية وأساسها الحريّة والمساواة والإخاء، وهو ما قامت عليه الثورة الفرنسية العام 1789.

وقد تطوّرت الديبلوماسية في العصر الحديث، وتُوّجت بعقد اتفاقية فيينا للعلاقات الديبلوماسية، التي أُبرمت في 18 نيسان / أبريل 1961، والتي تُعتبر من أهم الاتفاقيات التي نظّمت العلاقات الديبلوماسية بعد تراكم طويل الأمد وأعراف دولية، والتي حدّدت حقوق وواجبات البعثات الديبلوماسية ومفاهيم "الحصانة الديبلوماسية" وإقامة العلاقات وقطعها، والأساس في ذلك هو حماية مصالح الدولة المعتمدة ورعاياها، التي أخذت تتبلور في القانون الدولي المعاصر.

وإذا كانت السياسة امتدادًا للحرب أو وجه آخر من وجوهها، حسب المنظّر العسكري البروسي كلاوزفيتز، فإن الديبلوماسية، بما فيها الاقتصادية، ستكون حربًا بوسائل ناعمة، لأن امتلاك القوّة يوازي استخدامها، حيث تُعتبر عامل ردع، وبديلًا عن الحرب أحيانًا، كما هي بالنسبة للدول النووية مثلًا، لأن الحرب تنمو في رحم السياسة، والسياسة في جزء مكثّف منها حرب بوسائل ناعمة اقتصادية وثقافية وإعلامية ونفسية وغير ذلك، وتبقى الحرب وسيلة والسياسة هي الغاية، أما الهدف فهو إكراه الآخر (العدو أو الخصم) ودفعه للتسليم بإرادة الطرف الآخر وتنفيذ ما يريده بإقناعه أو بإرغامه، بما فيه عبر الوسائل الاقتصادية.

يمكن القول أن الديبلوماسية الاقتصادية هي إحدى الوسائل الحيوية لتحقيق استراتيجيات الدولة في العصر الحديث، لما للاقتصاد من دور كبير ومؤثر، حتى أنه أصبح المكوّن الأساسي في العلاقات الدبلوماسية، ولاسيّما بعد الحرب العالمية الثانية، وخصوصًا مع تطوّر الصراع الأيديولوجي العالمي في ظلّ الحرب الباردة (1946 - 1989)، وانقسام العالم إلى قطبين أساسيين : الأول - المعسكر الاشتراكي بقيادة موسكو؛ والثاني - المعسكر الرأسمالي بقيادة واشنطن.

النفط جوهر الصراع

قيل في الحرب العالمية الأولى: من يملك النفط يسيطر على العالم، لأنّه سيتحكّم بوقود الطائرات والمركبات والمحرّكات، التي يعتمد عليها العالم في الحروب آنذاك، وتعاظمت أهمية النفط في الاقتصاد العالمي خلال الحرب العالمية الثانية. وكان تأسيس منظمة أوبك في بغداد (14 أيلول / سبتمبر 1960) تجسيدًا لواقع يعترف بأهمية النفط. وحصل في حرب تشرين / أكتوبر التحرّرية العام 1973 استخدام النفط سلاحًا فعّالًا في المعركة، وهو ما أحدث "الصدمة النفطية الأولى" ضدّ "إسرائيل" والغرب، الذي ظلّ يقف خلفها ويمدّها بالعون. وإضافة إلى النفط، تُعتبر المياه أحد الاسلحة الخطرة، لاسيّما في منطقة الشرق الاوسط، حيث يتم ابتزاز العديد من الدول العربية أو فرض عقوبات عليها، كما يمكن الإشارة إلى أزمتيْ الطاقة والقمح في الحرب الأوكرانية.

اليوم وبعد انهيار الكتلة الاشتراكية وهيمنة واشنطن على القرار الدولي لنحو عقد ونصف من الزمن، أخذ المشهد الاقتصادي العالمي يتغيّر، وإن ببطء شديد، بصعود التنين الصيني كمنافس قوي للاعب الأمريكي، وترافق ذلك مع بداية استعادة الدب الروسي لجزء من مكانة الاتحاد السوفيتي السابق، منذ نهاية العشرية الأولى من القرن الحادي والعشرين، فضلًا عن تأسيس تجمّع اقتصادي، عُرف باسم دول البريكس، ضمّ الصين وروسيا والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا، وقد توسّع  هذا التحالف مستقطبًا قوى أخرى، الأمر الذي ساهمت فيه الديبلوماسية الاقتصادية إلى حدود كبيرة.

هكذا بدأت إرهاصات قيام نظام دولي جديد بتعدّدية قطبية تتضّح ملامحه ويزداد فرز الألوان فيه أكثر فأكثر، وإن كان هذا النظام لا يخلو من تحدّيات  هدفها عرقلة تكوّنه، أساسها نظام العقوبات الأمريكية ضدّ الصين، فضلًا عن العقوبات على روسيا بسبب حربها في أوكرانيا، إلّا أن ذلك، وإن كان يُعرقل أو يؤخّر قيام تفاهمات سياسية واقتصادية جديدة، لكنه لا يستطيع أن يمنع تشكّل نظام دولي جديد، في ظلّ معطيات مادية ومعنوية وتطورات محتملة ومزايا اقتصادية، تلعب فيها الديبلوماسية دورًا مهمًا، إضافة إلى توازن القوى الجديد.

 ماذا لو؟

يمكننا تصوّر لو كانت دول المنطقة وشعوبها متفاهمة وذات استراتيجية موحّدة ومتنوّعة في الآن، تأخذ بنظر الاعتبار المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة، فهل كان للقوى الخارجية الدولية أن تتمادى في طريقة تعاملها معها وتنتقص من سيادتها، بل تمارس أحيانًا عدوانًا ضدّها، كما حصل من حرب إبادة في غزّة، وعملية تجريف وترحيل شاملين؟ وهل كانت الولايات المتحدة، خصوصًا والغرب عمومًا، تستطيع أن تزكّي العدوان بالطريقة السافرة التي حدث فيها، لاسيّما بتقديم الدعم المادي والمعنوي له، ورفض وقف إطلاق النار؟

أعتقد أن الموقف سيكون مختلفًا، وستحسب القوى الدولية أكثر من حساب لتعاملها مع دول المنطقة، خصوصًا حين يلوَّح بالديبلوماسية الاقتصادية والتجارية والمالية، والأوراق التي تمتلكها دول المنطقة كثيرة ومتعددة، فضلًا عن تاريخها وحضارتها وثقافتها، وبالدبلوماسية الثقافية والدينية والإعلامية يمكن أن تؤثر على عقول إن لم أقل قلوب الآخرين، والأمر يحتاج إلى تفاهمات واتفاقات بين أمم وشعوب المنطقة ودولها على أساس الاحترام المتبادل لحق تقرير المصير وأخذ المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة بنظر الاعتبار وعدم التدخّل ومراعاة الخصوصيات والهويّات الفرعية.

إن شعوب ودول المنطقة تمتلك قوّة كبيرة يمكن استثمارها بالتقارب والتنسيق والتعاون، وصولاً إلى صيَغ تنسيقية وتعاونية، لتشكيل كتلة كبيرة سياسية واقتصادية وثقافية تجمعها مصالح مشتركة، استنادًا إلى تاريخها المشترك الموحّد والمتنوّع في الآن بما يُسهم في تجدّدها الحضاري الذي يربط بين الحداثة والقدامة، ومثل هذا التوجه سيبقى مطروحاً طيلة ربع القرن المقبل، بما يعزّز المكانة الدولية لدول المنطقة وأممها وشعوبها، ويضعها على طريق المستقبل الواعد بتوفّر المستلزمات الضرورية لذلك بما فيه إعادة هندسة تشكيل الدولة ورسم خريطة التضامن الإقليمي الجديدة، تلك التي تهيء لها حجز مكانة أعلى في الجيوبوليتيك الكوني.

***

د. عبد الحسين شعبان

عندما تكون الانظمة الحاكمة، هي صاحبة الرعاية المباشرة او غير المباشرة لدعوات تجديد الخطابات على تعدد عناوينها، الخطاب الديني، الفكري، العقلي، التراثي، او الثقافي، قطعا لن تكون تلك الدعوات بريئة، هي كذر الرماد في العيون، في محاولة منها لإنكار مسؤوليتها عما وصل اليه الحال، وتنفيس الاحتقان الحاصل برمي الجمرات على كل الماضي البعيد والقريب والتعاطي معه بإنتقائية وتلفيقية، واحيانا بتشكيكية الغرض منها إثارة الفتن لإشغال الشارع بعامته وخاصته عن القضايا الراهنة التي تثير الكثير من علامات الإستفهام حول دور تلك الانظمة في شيوع الانحطاط، أسئلة لا تريد الانظمة الاجابة عليها، وهي تستبعدها بتحميل المراجع الخمسة، التراث، الدين، الفكر، العقل، الثقافة، المسؤولية!

أسئلة مشروعة:

أسئلة بسيطة ومباشرة تدور وتجول في معظم الشوارع العربية وفي أذهان كل النخب النزيهة، من يتحمل مسؤولية تردي الواقع العربي؟ لماذا يكون نظام جنوب أفريقيا اكثر احساسا بالعذاب الفلسطيني من الانظمة العربية؟ لماذا خرج طلاب أعرق جامعات العالم وبحس إنساني طافح يطالبون بمعاقبة إسرائيل على جرائمها، وانظمتنا العربية تحجر على طلبتنا مجرد الخروج، وإنهم لو خرجوا سيدخلون ابو زعبل او ربما ابو غريب او القناطر او القلعة، حيث لا ناصر ولا معين، وربما يجري التعامل معهم كما تتعامل إسرائيل مع اسرى غزة في سجن "سيدي تيمان"؟ لماذا يمنع الشباب العربي من التعبير عن نفسه في الدعوة لمقاطعة الشركات التي تدعم إسرائيل ناهيك عن إسرائيل نفسها؟ لماذا تبلع اكبر دولة عربية الإهانات الإسرائيلية المتكررة لها، هل لأن الترابط اصبح بنيويا بين النظامين، أم ان إسرائيل خير شفيع للنظام امام امريكا والبنك الدولي؟ لماذا تقف اكبر دولة نفطية عربية موقفا منافقا، فهي بالعلن تكرر الإسطوانة المشروخة، مشروع السلام العربي، وحل الدولتين، وفي السر هي ماضية بقرار التطبيع مع إسرائيل، وتنتظر فقط انتهاء فترة،عدة غزة، حتى يتم الاعلان عن تلاحم المال النفطي العربي مع الاستثمار الصهيوني؟ لماذا يفضل جيل المستقبل العربي المغامرة في بحر الظلمات على البقاء في دار الخراب، والى اي مكان آخر بحثا عن حياة أفضل؟ لماذا اصبحت بعض الانظمة المتخمة بالفوائض الريعية راعية للخراب؟ أسئلة كثيرة تعكس الهموم الحقيقية للشارع والنخب النزيهة ومن يواجه الانظمة بها ينزل غضب الله عليه!

العيب ليس في تراثنا ولا عقلنا العربي!

ما علاقة الفساد السياسي والاقتصادي والفقرالثقافي المستشري من رأس الهرم الى قاعدته، بالتراث، وبالدين تحديدا، واذا كان الدين احد مفاتيح التغيير المنشود فمن الاحرى التفاعل مع قياسات مقاصده الراهنة من دون عزل، ومصادرة، وتحميله ما لا يحتمل، للدين عندنا مزايا عضوية أصيلة، لا يمنع استنطاقها لبناء دول متقدمة، الا الاستبداد السلطوي الذي يريد شرعنة فساده دينيا وفكريا، ما يغذي نوبات الصرع السياسي المصحوبة بفورات التطرف والتعصب التي تخدمه وتخدم اسياده!

منذ دستور دولة المدينة الذي يعتبر اول عقد اجتماعي سياسي في الاسلام حتى الفتنة الكبرى ومقتل الخليفة عثمان بن عفان على يد ثوار من بين المسلمين، ثم تواصلها في عهد خلافة الإمام علي بن ابي طالب وبروز حزب الخوارج الذي إدعى ان الصراع على السلطة مفسدة واصحاباها مفسدون، ثم الحرب الداخلية بين الشرعية الممثلة بالامام علي والإنقلابية الممثلة بمعاوية بن ابي سفيان، حتى مقتل الخليفة الشرعي على يد الخوارج وأعلان معاوية الحكم الاموي الذي خرج على دائرة الحكم الرشيد، واخذ الدولة الى نظام إمبراطوري وراثي، لم يتبلور شكل محدد للحكم الاسلامي، فتجربة النبوة لا تتكرر اما تجربة الخلفاء الراشدين الاربعة التي تواصلت نحو ثلاثة عقود، فهي مليئة بالدروس والعبر والانجازات لكنها لم تترك شكلا محددا لنظام الحكم ومؤسساته وآلياته، والمجددون والمبدعون الاوائل واتباعهم كتبوا الامهات في هذه الاشكاليات والازمات، وكانت المذاهب الاسلامية الاربعة اضافة للشيعية هي واحدة من مؤشرات التنوع والتغير حسب الزمان والمكان، ان مقاصد العدل والمساواة والتقوى، تقتضي ان لا إكراه بالدين، وإذا حكمتم بين الناس ان تحكموا بالعدل، ولا فضل لعربي على اعجمي الا بالتقوى، ولتكن منكم أمة يدعون الى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، والمنكر هو كل ظلم وكل جور وكل عدوان وطغيان وكل مخالفة لتعاليم السماء، اليوم اكملت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا،، وانتم ادرى بشؤون دنياكم، وإختلاف العلماء رحمة، ان مقاصد نظام البيعة الخاصة والعامة والشورى، تعضد انظمة الحكم الديمقراطية الحقة وآلياتها المستحدثة بحسب زماننا!

نحن في زمان فيه لكل مجتمع دولة تنتظم في معشر معلوم من الدول التي تتشابك كونيا بنسبية من الثبات في اقليمها وهناك شبه اجماع على قواعد ونظم وحقوق وواجبات كلها معنية بالالتزام بها، وهذا لا ينافي خصوصياتها، نتطلع لدولة كالجسد الواحد اذا اشتكى عضو فيها تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، دولة روحها مقاصد الاسلام، وعقلها حر مبدع يحكمها لأجل مسمى من يقع عليه اختيار الراشدين فيها، وجسدها هو البناء التحتي بكل مقوماته التي تنشد العمل المنتج للخيرات كعبادة، دولة للتكافل، لا جوع ولا فقر ولا مرض ولا تبعية فيها، فالجوع ابو الكفار، والناس احرار في دولة حرة، تحاجج دول الاستعباد الجديد، بصرخة كيف تستعبدون الناس وقد ولدتهم امهاتهم احرارا!

اذا كانت هناك نخبة او حركة تؤمن قلبا وقالبا بهذه الروح وهذه العقلية وهذه التطبيقية وتقاوم وتناضل بكل اساليب النضال المتاحة، يسارية كانت او يمينية، اسلامية او علمانية فهي ستسكن القلوب والعقول كما وصف هاغاري المتحدث بأسم جيش الصهاينة حركة المقاومة في غزة، هذه الوصفة هي الشافية من امراض انظمة الحكم القائمة والتي تحارب كل مقاوم ومناضل من اجل الاستقلال والتحرر والديمقراطية العادلة، يساريا كان ام اسلاميا!

الانظمة مسكونة بهم البقاء على رأس السلطة، والتعامل مع النوايا والخوف من الخروج الكبير للناس عليها، هو دافع سعيها الخشن والناعم لشرعنة وجودها في العقل الظاهر والباطن للمحكومين، وقطع الطريق على مجرد التفكير بأشكال اخرى للحكم تناسب التطلعات السوية للمتطلعين، بدول محترمة، وحرة ومستقلة شكلا ومضمونا في مجمل توجهاتها دولة الشعب، لا دولة العائلة، والعشيرة، والطائفة، والعسكر، والعسس، دول لا يكون كرسي الحكم فيها غنيمة، ولا بتوكيل خارجي متى ما سحب، جلس على كرسي الحكم وكيل جديد معتمد!

الاستبداد مصنع الفساد:

للأنظمة الحاكمة، ودفوعها، وإنشغالات وعاظها وأبواقها ومقاصدها، مستويات مختلفة من التناول، والتركيز، والتأويل كل بحسب حاجته، ودرجة ما يتوجس منه عند العامة والخاصة، ونستطيع أن نتبين خيطين واضحين تنسج حولهما لبوس البراءة السلطوية في الدعوات التجديدية على إختلاف أشكالها، الأول محافظ، ونقلي فيما يخص طاعة أولي الأمر، وتحريم الاختلاف، على إعتباره مصدر للفتن لكنه مفرط بخصوص مصالح الأمة وخاضع لأعدائها، والثاني ليبرالي ومتسامح بكل ما ليس له علاقة بنظام الحكم، حتى في بعض البقع الحساسة كالموقف من مساواة المرأة بالرجل في قوانين الاحوال الشخصية، وعلمنة التعليم، وتقزيم القيود العامة الموروثة على المعاملات والسلوكيات، وتأويلها الى حدود شخصية لا دخل للدولة بها!

لف ودوران فحواه تحريم تغيير نظم الحكم بإرادة الاغلبية، ومن دون النظر في الوسائل مع وجوب الطاعة العمياء لأولي الأمر، وإعتبار اي محاولة للخروج على نظام الحكم هو من الكبائر، ومحاربة التنظيمات والنخب التي تعمل على تغيير واقع الحال، وهذا ما يدفع بالناس دفعا للعمل السري وكبت المضمور والعمل بالتقية، حتى اصبح رهن مستقبل البلاد والعباد للأسياد المهيمنين، والتخادم مع شروطهم بالتطبيع مع إسرائيل احد المحصنات لإنظمة الحكم القائمة!

***

جمال محمد تقي

لم يكن التدّين يخلو من التعبير الحقيقي عن قيمة العقل العربي وقدرته على قبول أشكاله وتنوعها .. التدين يكشف عن هذا العقل من أول وهلة، يحدّد قيمته إن كان عقلاً راقياً منفتحاً على الآخر، متسامحاً يعطي ولا يمنع، أو كان عقلاً منغلقاً متحجّراً ضيقاً يقصر الدين نفسه على فهم واتجاه، ويقرأ مقولاته في نطاق هذا الفهم المغلق والاتجاه المذهبي القاصر.

العلاقة بين التدّين والعقل علاقة وطيدة لا سبيل إلى غض النظر عنها بغير انفتاح على جوانب التفكير فيها، هنالك بغير شك تدين لا عقلاني بالمرة يكشف عن غياب الفاعلية العقلية ويقبع نبض الشعور الوجداني والعاطفي فيه، فلا ينجم إلا عن غفلة وخمود ثم عن عنف وكراهية وتطرف وإرهاب.

هذا النوع من التدّين بعيد عن العقل، وبعيد كذلك عن العاطفة والوجدان، بمقدار ما هو بعيدٌ عن الإنسان، هو مُجرّد ثقافة يعيشها صاحبها وقناعة زائفة لا تقوم على تحقيق.

وللتدين أشكالٌ وألوانٌ، وكل شكل منه وكل لون، يتخذ لنفسه طابعاً يميزه، أو إن شئت قلت : طريقة للتعبير عن نمط ثقافي ينظمه في إطار مجموعة قيم ومقولات تحدّد نوعية هذا النمط وانتماءاته المعرفية، فهنالك التدين الحرفي، وهنا التدين الفقهي، وهذا تدين سلفي، وهذا تدين مذهبي أو طائفي، وذاك تدين نظري، وهكذا قل الشئ نفسه في كل شكل من الأشكال، وفي كل لون من الألوان، الأمر الذي يجزم معه المرء أن التديّن إن هو إلا نمط ثقافي ينتمي إلى الثقافة ولا ينتمي إلى العقيدة، وتحكمه خلفية أيديولوجية، يتعدّد ويتنوّع بتعدد أنواع تلك الأنماط وخلفياتها الاعتقادية من حيث كونها ثقافة:

خذ مثلاً ذلك “التدّين الوصولي” الاحترافي، احتراف التسوُّل باسم الله : نوع مجرم من أنواع خلل العلاقة بين العبد والرّب واهتزاز روابطها الشعورية وأواصرها النفسية، هو ذلك النوع الذي يتخذ من الدين ستاراً لبلوغ أغراضه ومطامعه الدنيويّة.

وصاحب هذا النوع من أنواع التدّين المرضي ربما يكون خطيباً في مسجد يتيه على الناس صلفاً وغروراً من فوق منبره بورعه وتقواه، ويقول ويكثر القول، ولا يمسُّ قوله شغاف القلوب، ذلك لأنه دعيّ لا يعوّل عليه في قول ولا عمل. أو يكون داعية في زاوية أو زعيماً لعصابة تفجر وتقتل تحت اسم الدين والتدين؛ لمجرد رفض الآخر المختلف فقط؛ ليكشف شكل التدّين الذي يواليه عن بصيرة مطموسة وسخيمة سوداء.

وكما يقع هذا لدى أئمة المساجد ممّن لا خلاق لهم، يقع كذلك في أدعياء المعرفة وأدعياء التفكير في كل حقل وفي كل مجال ممّن يملؤون الدينا ضجيجاً بما يقولون، وليس لهم حظ لا من معرفة ولا من تفكير، ومبلغ علمهم من ذلك العويل الصارخ هو الفيصل بين الخصومة والعداء من جهة والصداقة والموالاة من جهة أخرى، فلا فيصل أقوى لديهم من المصلحة ولا أمضى؛ فالصداقة هى المصلحة إذا حصّلوها وافقت ما لديهم، وإذا لم يتاح لهم تحصيلها بلغت من المعاداة ما يبلغه أخصم الخصماء.

يكاد أحدهم يقبّل حذائك في سبيل تحقيق هدفه وغايته، ولربما يجعل منك إلهاً يُعبد إذا كانت له مصلحته، وعرف أنك ممّن تقدّره على تحقيقها وتستطيعه لبلوغها، ولا يكتفي بذلك بل يقرأ ويكتب عن الخلق الرفيع والتدين الراقي والحقيقة الباقية بما لست أدري له توظيفاً خارج نطاق النفاق والدروشة والتطبيل وغياب القيم الدينية والإنسانيّة بكل حذافيرها.

واذا غابت تلك المصلحة، فقد القيم التي يدعو إليها وهي بلا شك قيم ساقطة؛ لأنها إذ تصدر منه، تصدر في البدء ساقطة.

هذا التدين الاحترافي المُغرض شكل بشع من أشكال الوصولية والانتهازية، يعبر عن ثقافة ولا يعبر عن عقيدة، ويتخذ من الدين رداء تخلف ورجعية ولا يزيد، وإن زعم كاذباً أنه يصلحه ويهذّبه ويرقيه .. يوجد في المسجد كما يوجد في المدرسة وفي الجامعة وفي حقول العلم ومعاهد التعليم ناهيك عن المصانع والمتاجر ومرافق المجتمع على تنوع مرافقه واختلاف ميادينه الحيويّة.

فالتدين إذن نمط ثقافي خاضع لقناعات باطنة سرعان ما يتحوّل فجأة مع تحوّل تلك القناعات.

وحين يكون التدين (ثقافة) يكشف عما في قلب صاحبه عن توجهاته ومعتقداته ونظراته وعن كل في القلب من دوافع الحركة إلى العمل.

هنا تجب التفرقة بين الثقافة والعقيدة؛ فالعقيدة إيمان يصدر عن القلب، والثقافة شكل من أشكال التسويق لهذا الإيمان لتكون معه أشكال التدين ثقافة مجتمع أو فئة أو طائفة؛ يجوز له تغييرها وتحويلها واستبدالها فيما لو تغيرت الأحوال وتحولت الظروف، لكأنما هي الزي الذي يغيره ويستبدله من حين إلى حين وقتما يشاء، وليس هو بالدُّعامة الروحيّة يقابل بها آفاق المجهول.

والفرق أوضح ما يكون بين العقيدة: الدُّعامة الروحية التي تستند عليها مسائل الإنسان مسيره ومصيره، والثقافة التي هى مجرد تسويق لهذا التدين الشكلي، لكنها لا ترتقي إلى العقيدة، بل تصبح إحدى خطابات هذه العقيدة، فيقال عنها ثقافة لخطاب يُراد له أن يشمل العقيدة، ولكنه في الحقيقة لا يحيط بها بوجه من الوجوه، ولا يسبر أغوارها، ولا يشملها لا من قريب ولا من بعيد.

على أن هناك خلطاً ظاهراً عند كثيرين بين الدين والتدين، يجعلهم لا يفرّقون بينهما لا على مستوى العقيدة ولا على مستوى الخطاب، فحيث يوجّه النقد لإحدى خطابات التدين أو لأحد أشكاله، يفهمه البعض منا على أنه نقد للدّين، الأمر الذي يترتب عليه أن كثيراً من الآراء في هذا الصدد تصدر عن فهم مغلوط.

أذكر أنني يوم أن طرحت هذه الفكرة جاءني التعليق التالي من فاضلة لتقول: ” تحياتي للكاتب العزيز؛ أعتقد – وهذا رأيي الشخصي – أن الأديان التي تملك آلهة متعددة، والتي يسميها الإسلام “شركية”، هى أكثر تسامحاً وتقبلاً للآخر، وكمثال نجد كيف قضت المسيحية على ثقافة متنوعة في الامبراطورية الرومانية، وكذلك الإسلام الذي قضى على تعدّد الأديان والثقافات في الجزيرة العربية”.

وقد فهمت الفاضلة أن النقد هنا موجّه للدين في ذاته، وبالتالي تصوّرت لنفسها رأياً يخرج عن المقصود ممّا أشرت، فكان ردي إذ ذاك على التعليق:

أين هو التسامح في هذا كله؟ : التاريخ الأوروبي الأمريكي الشمالي – على الرغم من اعتناق المسيحية – ليـس إلاّ تـاريـخ الـغـزو والأبـَّهـة والتكبر والجشع.

وأعظم قيمنا – كما قال عظمائهم – هى أن نكون أقوى من الآخرين، وأن نغزوهم ونقهرهم ونستغلهم.

وهذه القيم تتطابق مع المثل الأعلى “للرجولة”. فليس رجلاً إلا من كان قادراً على القتال والغزو والقهر.

وإذا كانت اليهودية والمسيحية والإسلام أدياناً كتابية فليس فيها في الأصل ما يدعو إلى التباغض والعنف من حيث هى دين، ولكن من حيث هى خطاب وسلوك، أي من حيث هى ثقافة؛ فالعنف فيها مادة يخلقها التحريف. ثم يشكلها خطأ الممارسات الناتج عن تحريف الاعتقاد .

وأي شخص غـيـر قـادر على استخدام العنف إنْ هو إلاّ شخص ضعيف، أي “ليس رجلاً”.

هذا خطاب لا اعتقاد! حطاب ثقافي عن الدين وليس هو بالعقيدة الصحيحة يلزم عنها ممارسة سويّة.

فكرة تقوم في رأس صاحبها على غير اعتقاد صحيح؛ فيخيل لمن يشهدها أنها عقيدة من عقائد التنزيل فينسب الغلط والفهم المنكوس إلى الدين في ذاته، لا إلى أشكال التديّن المغلوط.

لسنا بحاجة إلى إثبات أن تاريخ أوروبـا هـو تـاريـخ لـلـغـزو والاسـتـغـلال والقوة والإخضاع والقهر.

لا تكاد توجد فترة أو مرحلة من التاريخ الأوروبي

إلا كانت هذه سماتها، ومعظمها قائم على التحريف أو قائم على العقائد الملوثة. لا يستثنى من ذلك طبقة ولا جنس.

لا توجد جريمة إلا ارتكبت بما في ذلك عمليات الإبادة الجماعية لشعوب بأسرها مثل ما حدث للهنود الحمر.

حتى الحروب الصليبية التي جعلت من الدين سـتـاراً لها لم تكن استثناء. فهل كان الدافع لهذا السلوك اقـتـصـاديـاً أو سـيـاسـيـاً فحسب؟ هل كان تجار العبيد وحكام الهند وقتلة الهنود الحمر والبريطانيون الذين أجبروا الصينين على فتح أبواب بلادهم لتـجـارة الأفـيـون ومـثـيـرو حربين عالميتين، وأولئك الذين يحضِّرون لحرب عالمية ثالـثـة … هـل هـؤلاء مسيحيون مؤمنون حقاً؟!

هل يُقاس القتل في تاريخ الإسلام بمثل هذا التاريخ الدموي قديماً وحديثاً ؟!

المسألة بعيدة تماماً عن العقيدة الإلهية والتدين بمقتضاها والعمل في إطارها، ولكنها أوغل في تحقيق المصالح والمطامع تحت وطأة الظروف القهرية، وأقدر على توظيف العقيدة لتكون ثقافة مرتهنة بزمانها ومكانها ولا تصبح دعامة روحية تتجاوز الأزمنة والأمكنة لتعالج المسائل المصرية للإنسان بما هو إنسان.

***

بقلم : د. مجدي إبراهيم

 

تمهيد: يتعرض العالم هذه السنوات الى هزات كبيرة على الصعيد السياسي والمناخي ويشهد مخاضا كبيرا في اتجاه التخلص من النمط الامبراطوري الأحادي في الهيمنة الغربية الى النمط التعددي في تقاسم النفوذ. وفي المقابل تعيش الفلسفة المعاصرة نوعا من السجال الأكاديمي القوي محالة الخرج عن باراديغم اللغة والتوجه نحو باراديغم الفعل وتفكيك النزعات التحليلية البراغماتية والتوجه الجدي نحو النزعات الايتيقية والمقامات الحقوقية مصغية للنداءات المتكررة من الشعوب المضطهدة واستغاثات المقموعين في الكوكب ولقد ساهم التوجه الثوري الموروث منذ الأزمنة الحديثة وعصر الأنوار في ذلك. بيد ان العزم على انهاء الاستعمار المتفشي بألوان جديدة في الدول الضعيفة واتخاذ قرار فك الارتباط مع سياسة التبعية من طرف الحركات التحررية دفع الفاعلون في المشهد الفلسفي الى تبني خيارات جذرية واستخدام لغة المقاومة والتحرير والانكباب على اعداد الاستراتيجية الثورية الضرورية للانعتاق والتنمية والتدبير والتعمير.

جدلية العبودية والسيادة على الصعيد الدولي

في مقالة نشرت عام 1986 بعنوان "أدب العالم الثالث في عصر الرأسمالية المتعددة الجنسيات"، يختتم فريدريك جيمسون دراسته بمقارنة "الوعي الظرفي" للعالمين الأول والثالث من حيث جدلية السيد/العبد عند هيجل. ووفقاً لنظرية هيجل، فإن العبد "هو ما يمثله الواقع ومقاومة المادة حقاً" بينما السيد "محكوم عليه بالمثالية". وفي شرحه لهذا التحليل، يكتب جيمسون: "لقد لفت انتباهي أننا نحن الأميركيين، نحن سادة العالم، في نفس الموقف تماماً. إن النظرة من الأعلى مشلولة معرفياً، وتختزل موضوعاتها في أوهام مجموعة من الذاتيات المجزأة... إن هذه الفردية التي لا مكان لها، هذه المثالية البنيوية التي تمنحنا ترف الوميض السارتري، تقدم لنا مخرجاً مرحباً به من "كابوس التاريخ"، ولكنها في الوقت نفسه تحكم على ثقافتنا بالنزعة النفسية و"إسقاطات" الذاتية الخاصة. "إن كل هذا محروم منه ثقافة العالم الثالث، التي لابد وأن تكون ظرفية ومادية". إن هذا المقطع يبدو لي بمثابة مدخل مفيد لمناقشة العلاقة بين الفلسفة الغربية الحديثة وفلسفة التحرير الجديدة التي نشأت في المقام الأول من أميركا اللاتينية مع دوسيل. إن إحدى رؤى فلسفة التحرير هي أن الفلسفة الغربية هي فلسفة المركز، وفلسفة المدن الكبرى، وفلسفة الذكور الأوروبيين البيض. إن مفاهيمها ومشاكلها وإشكالياتها مرتبطة بالفلسفة نفسها، بينما تُحكَم وجهات النظر الأخرى والمواقف الأخرى على الهامش. ومن هذا المنظور، فإن الفلسفة الغربية هي فلسفة سادة العالم، والبلدان والثقافات والطبقات المهيمنة. فهل فلسفة التحرير إذن ـ وفقاً لاستعارة السيد والعبد التي ابتكرها هيجل ـ هي فلسفة العبيد، والمهيمن عليهم، والمضطهدين، وإذا كان الأمر كذلك، فما هي الرؤى الخاصة التي يكشف عنها هذا المنظور والتي فقدت في الفلسفة الغربية؟

إن المنظورية ذاتها تظهر كنظرة ثاقبة خاصة مفتوحة للمضطهدين، ولفلسفة التحرير. فالمضطهدون لديهم على الأقل إمكانية الوصول إلى معرفة أن آراء السادة تعمل على تبرير مصالحهم في الهيمنة وتخدمها، وأن المواقف الفلسفية المهيمنة هي مواقف طبقة معينة لها مصالحها، ومنظوراتها المحددة، وحدودها. باختصار، يعرف المضطهدون أن الأفكار المهيمنة، وأفكار الطبقة الحاكمة، والأفكار المهيمنة لثقافة ما، والفلسفة الغربية، هي أيديولوجية. وعلى هذا النحو، يكتسب المضطهدون وفلسفة التحرير وجهات نظر نقدية حول فكر المركز، وخطابات السادة في الغرب، والتي قد لا تكون في متناول أولئك الذين ينتمون إلى المركز ـ أو التي لا يمكن الوصول إليها إلا بصعوبة بالغة (أي أن ماركس جاء لصياغة مفهوم الأيديولوجية وطور نيتشه فلسفة منظورية). ثانياً، تزعم فلسفة التحرير أن الفلسفة الغربية مثالية وذاتية، وهي عبارة عن تجسيد لمنطقة وطبقة تريد أن تجعل من نظامها للهيمنة نظاماً مثالياً، وتريد أن تحط من قدر الاحتياجات المادية والمعاناة والقمع وإخفاءها، وبالتالي فهي ليست مادية بالقدر الكافي أو الصحيح. تقترح فلسفة التحرير أن الفلسفة الغربية هي فلسفة ذاتية مهيمنة، ذاتية تريد أن تهيمن على الطبيعة، والناس الآخرين، وفي نسخها الأكثر تطرفاً على مجموع الوجود نفسه. مرة أخرى، تسمح وجهات النظر الظرفية لفلسفة التحرير لها باكتساب رؤى قوية في المثالية والذاتية لفلسفة التحرير. عندما يختبر المرء القمع والحرمان المادي، فإنه يدرك بسهولة أكبر أهمية الاحتياجات المادية، والبعد المادي، ويمكنه بسهولة أكبر اكتشاف الوظائف المنطقية والمثالية والأيديولوجية للخطاب المثالي. عندما يتم اختزال المرء في موضوع ، فإنه يستطيع بسهولة أكبر فهم جدلية الخضوع وإدراك ديناميكيات الهيمنة الذاتية التي قد تساعد في إنتاج معارضة نقدية للذاتية نفسها باعتبارها محاولة إمبريالية من قبل الذات للسيطرة على العالم.

النظرية النقدية والفلسفة الشعبية

والآن، في هذه المرحلة، أود أن أقترح أن هناك أوجه تشابه واختلاف مثيرة للاهتمام بين تيار محدد من الفلسفة الغربية المعاصرة وفلسفة التحرير. وعلى وجه الخصوص، أريد أن أسلط الضوء على بعض أوجه التشابه والاختلاف بين النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت وفلسفة التحرير التي طورها إنريكي دوسل وآخرون في أميركا اللاتينية. وأنا أزعم أن التقليدين يركزان على جدلية الهيمنة والتحرير. وكلاهما ينتقد الفلسفة السائدة والنظرية الاجتماعية وكلاهما يقدم بدائل تقدمية لأنماط التفكير والخطاب الراسخة. ومع ذلك، تميل النظرية النقدية إلى أن تكون مركزية على العرق إلى حد ما وتعكس وجهات نظر الذكور الأوروبيين البيض. وعلى النقيض من ذلك، تركز فلسفة التحرير بشكل صريح على وجهات نظر المضطهدين وتعطي صوتًا للمجموعات والأفراد المستبعدين عادة من الفلسفة الغربية. ومع ذلك، فهم يضحون بالبعد العالمي الذي تضمنه النظرية النقدية والذي يمكن القول إنه ضروري لمشروع التحرير. أختتم ببعض التأملات فيما يتعلق بالتركيب المحتمل بين النظرية النقدية وفلسفة التحرير.

جدلية الهيمنة والتحرير

تعمل كل من النظرية النقدية وفلسفة التحرير وفقًا لجدل الهيمنة والتحرير. وكلاهما يحدد قوى الهيمنة واستراتيجيات التحرير. وأود أن أزعم أن الاختلافات في وجهات نظرهما الخاصة هي في المقام الأول نتاج للاختلافات في وضعهما التاريخي وقوى الهيمنة المختلفة التي واجهتها، في حين أن أوجه التشابه تنجم عن تهديدات مماثلة لرفاهة الإنسان تواجهها كلتا النزعتين. تناضل النظرية النقدية بغية التحرر من رأسمالية الدولة والاحتكار؛ من الفاشية؛ من رأسمالية المستهلك. اما فلسفة التحرير فهي تسعى الى التحرر من الإمبريالية؛ من هيمنة المركز؛ في كثير من الأحيان من الفاشية والرأسمالية ولكن الرأسمالية الإمبريالية أكثر، رأس المال كقوة استعمارية من الرأسمالية الاستهلاكية - على الرغم من أن هذه أيضًا يمكن القول إنها قوة هيمنة أيضًا تركيز مختلف من حيث نقد الهيمنة: الإمبريالية / الرأسمالية الاستهلاكية. أوجه التشابه: كلاهما يهاجم هيمنة الطبيعة؛ كلاهما يهاجم العقلانية الآلية وأنماط التفكير الآلية كأدوات للهيمنة؛ كلاهما يهاجم للذاتية؛ كلاهما يضع تأكيدًا رئيسيًا على الاحتياجات والمعاناة؛ كلاهما باختصار، كلاهما نظريات مادية ونقدية وتحررية تهاجم الفلسفة الغربية كجزء من جهاز الهيمنة. هذا يقودني إلى تقديم بعض الملاحظات النقدية على نقد الفلسفة الغربية التي طورتها فلسفة التحرير. مقتطف من مراجعتي لكتاب دوسل "فلسفة التحرير" إن إحدى السمات الأكثر استفزازاً وإشكالية في مراجعة كتاب "فلسفة التحرير" هي إعطائها الأولوية لتجارب وتصورات ونضالات الأطراف والمضطهدين داخل المركز. على سبيل المثال، يكتب دوسل: "في الأطراف فقط ـ في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية ـ يمكن أن يبدأ تجديد العلاقة بين الإنسان والطبيعة ـ إذا لم يكن الأوان قد فات بالفعل". أو يزعم طوال الوقت أن الأخلاق والجماليات والثقافة الشعبية للمضطهدين يجب أن تُعتَبر الأساس ونقطة الانطلاق لفلسفة التحرير. وهذا يثير مسألة نطاق وعالمية فلسفة التحرير. إن فلسفة التحرير إذا كانت مجرد تعبير عن منطقة معينة من العالم وفئة معينة من الناس، فإنها بكل تأكيد فلسفة جزئية ومحدودة ومقيدة، وبالتالي تتخلى عن محاولة الفلسفة تقديم وجهات نظر عالمية حول البشر واحتياجاتهم وموقفهم، والتحرير المحتمل. لا شك أن عالمية الفلسفة الغربية هي في معظمها عالمية زائفة تأخذ الخبرة الثقافية والفئات والنظريات الخاصة بجزء واحد من العالم والتي يتم تعميمها وإسقاطها على حقيقة عالمية، وجمال، وخير، وألوهية، وما إلى ذلك. ولكن أليس مشروع التحرير مرتبطًا بشكل أساسي بالعالمية؟ أليست السمات الأساسية لليوتوبيا المتمثلة في العدالة والمساواة والحرية والرفاهة وما إلى ذلك، والتي تنطبق على جميع البشر بغض النظر عن العرق أو الجنس أو الجنسية وما إلى ذلك؟ من المؤكد أن الحقوق الليبرالية كانت في كثير من الأحيان بمثابة أيديولوجيات لمجتمعات قمعية (في الواقع: أين لم تكن هذه هي الحال؟)، أو أقنعة لعدم المساواة والظلم القائم، ولكن ألا تشير على الأقل إلى المثل العليا العالمية للمجتمع الصالح والتحرر الإنساني؟

إن دوسيل يستخدم مصطلحات مثل العدالة والحرية في هذا الخطاب الأكثر عالمية، وقد يزعم أن فلسفة التحرير تتمتع بعالمية محتملة. والواقع أن فلسفة دوسل عالمية وتستمد قوتها من الفلسفة الأوروبية. ويثبت عمله الخاص أن التوليفات الإبداعية بين فكر المركز والمحيط ممكنة. ولكن ليس من الواضح ما إذا كانت فلسفة التحرير تسعى إلى اكتساب مكانة الفلسفة العالمية أم أنها تكتفي بالبقاء تعبيراً عن ثقافة وطبقة محددة من المضطهدين. وربما يزعم دوسيل الآن أن من السابق لأوانه أن ندعو إلى العالمية أو الفلسفة العالمية، وأن الوجود القمعي للمجتمعات والخطابات المهيمنة حالياً والحاجة إلى الإطاحة بها لا يسمحان بعد بمثل هذا المشروع. ولكن يبدو لي أن إحدى مهام فلسفة التحرير تتلخص على وجه التحديد في التوسط بين المطالب المشروعة بأن تكون الخطابات محددة تاريخياً وذات أهمية سياسية فورية والمطالب الأكثر تقليدية بالعالمية. يبدو لي أن دوسيل، على الأقل في الكتاب قيد المراجعة، لم يول هذه المعضلة اهتمامًا كافيًا. وفي هذا الصدد، أود أن أقترح أن الادعاءات بأن الفلسفة يجب أن تكون خطابًا عالميًا للحقيقة في مقابل الادعاءات بأنها لا يمكن أن تكون إلا تعبيرًا عن شعب معين، أو طبقة، داخل ثقافة معينة يمكن ويجب تفكيكها. أي أنه في بعض السياقات ولبعض المهام يجب على الفلسفة أن تسعى إلى العالمية، بينما في سياقات أخرى من المناسب تمامًا أن تكون الفلسفة مستنيرة بخصوصية (جزئية سياسياً وتقدمية مثاليًا). ولعل من الأهمية بمكان في السياق التاريخي العالمي الحالي أن تعمل مناطق مثل أمريكا اللاتينية على تطوير فلسفات تعبر عن تجاربها واحتياجاتها وإدراكاتها ونضالاتها من أجل التحرير ضد الهيمنة الإمبريالية والإمبريالية الجديدة التي كانت مصيرها لقرون. في هذا السياق، يتردد المرء في انتقاد فلسفة التحرير من منظور المركز، لأن الفلسفة في أجزاء أخرى من العالم قد تكون لها مهام ووظائف اجتماعية وأهداف مختلفة تمامًا عن تلك الموجودة في الولايات المتحدة أو الدول الأوروبية. في الواقع، تبدو لي بعض الاعتراضات التي أثارها الفلاسفة في الولايات المتحدة على نظرية دوسل، وعلى مشروع فلسفة التحرير، أيديولوجية بحتة. على سبيل المثال، يشير تقرير عن ندوة الجمعية الفلسفية الأمريكية حول فلسفة دوسل للتحرير نُشر في نشرة صادرة عن جمعية الفلسفة والتحرير إلى أن الفلاسفة في الولايات المتحدة زعموا أن طريقة دوسل في استنباط الفئات كانت دائرية، واشتكوا من أنه جمع بين الميتافيزيقا والأخلاق بطريقة مرفوضة. ولقد أثارت هذه الانتقادات تساؤلات أخرى، مثل ما إذا كان صوت المضطهدين ينبغي أن يتمتع بسلطة خاصة في الميتافيزيقا، واستشهد أحد المشاركين بـ "التحيز ضد "الوجوه الشقراء"" وتساءل لماذا أهمل مناقشة القمع في أماكن مثل أيرلندا الشمالية أو الشرق الأوسط. إن مثل هذه الانتقادات تبدو لي مشكوك فيها على أسس فلسفية وسياسية. فالبنية المفاهيمية لفكر دوسيل منهجية وهجيلية إلى حد ما، وبالتالي فمن الطبيعي أن تترابط مفاهيمه وتتداخل مع بعضها البعض (وهذا الفكر "دائري" فقط بالنسبة لمن لا يعرف شيئاً عن الديالكتيك). ومن الأهمية بمكان في فلسفة التحرير أن يتم تحطيم الحدود بين الميتافيزيقا والأخلاق والسياسة. فهل رغبة الفلاسفة الغربيين في الاحتفاظ بهذه الحدود التقليدية مرتبطة برغبات الشركات المتعددة الجنسيات والسياسيين الإمبرياليين في الحفاظ على حدود أسواقهم ومجالات نفوذهم السياسية سليمة؟ وهل منطق الهيمنة الذي يميز الكثير من الفكر الغربي مرتبط بهياكل واحتياجات أنظمة الهيمنة في الغرب؟ هذه هي نوعية الأسئلة التي تحاول فلسفة التحرير أن تطرحها، والتي من المستحسن أن نفكر فيها بأنفسنا. إن الانتقادات التي توجه إلى دوسيل بأنه متحيز ضد "الوجوه الشقراء" تفشل في إدراك رغبته في إعادة تقييم فئات الأخلاق والجماليات والسياسة التي ينتمي إليها المضطهدون. ولكن في الدفاع عن دوسل هنا ضد منتقديه، لا أقصد تأكيد أطروحات دوسيل أو أفكاره دون نقد. فكل فلسفة هي تعبير عن تجربة وتاريخ شخص معين، وهي محدودة بتجارب وتاريخ ذلك الشخص. إن هذه الآراء تبدو لي وكأنها تعبير عن تجارب في ثقافة معينة وليست حقائق عالمية ـ ولو أن هجمات دوسل على النظام الأبوي، والثقافة الذكورية، والالتزام بتحرير المرأة تشكل بلا شك موقفاً مستنيراً للغاية في الثقافات الذكورية في أميركا اللاتينية. وقد يجد آخرون داخل الوسط أن ادعائه بأولوية السياسة داخل الفلسفة أمر غير مقبول أو قد يعترضون على استخدامه لفئات ماركسية مثل الكلية، والجدلية، والأيديولوجية، والطبقة، وأولوية الاقتصاد. ولكنني شخصياً أجد أن الترابط والوساطة بين النظرية والممارسة هي الجزء الأكثر إحباطاً في فلسفة التحرير. وهنا يحمل كتاب دوسل سمات فلسفة المنفى، المنفصلة عن حركة سياسية فعلية يشارك فيها بنشاط. إن حقيقة أن الفيلسوف يعيش في المنفى، منقطعاً عن الحركات السياسية في بلاده، غالباً ما تجبره على الكتابة على مستوى أكثر تجريداً ونظرية، وتجنب متعة ربط أفكاره بالصراعات السياسية المباشرة التي يشارك فيها. وعلى هذا فإن كتاب دوسل "فلسفة التحرير" يتسم بالشمولية والتدريسية، والمنهجية الشديدة ـ وإن كان أيضاً مستنيراً بالعاطفة ومليئاً بالرؤى الحادة والأفكار الصعبة. ولكنه ليس في الحقيقة كتاباً سياسياً أو كتاباً تمهيدياً عن التحرير. ولعلنا لا ينبغي لنا أن نتوقع من الفيلسوف أن يكتب مثل هذه الكتب. ولعل ممارسة التحرير لابد وأن تكون نتاجاً لنضال المضطهدين من أجل حريتهم وكرامتهم. ولعل كل ما يستطيع فيلسوف التحرير أن يفعله، بل وينبغي له أن يفعله، هو النضال مع أولئك الذين يكافحون، ودعمهم، والدفاع عنهم، فضلاً عن مهاجمة أعدائهم ونظام العبودية والهيمنة الذي لابد من استئصاله إذا كان للإنسانية أن تعيش حياة من الحرية والكرامة. ولكن الفلسفة الثورية كثيراً ما فعلت أكثر من ذلك. إن دوسيل يهاجم إرنست بلوخ وهربرت ماركوزه، على نحو غير صحيح في نظري، باعتبارهما فيلسوفين سلبيين يعتمدان في المقام الأول على جدلية نقدية. والواقع أن هذين الفيلسوفين لم يكتفا بتطوير فئات الأمل والتحرر والثورة، بل إنهما قدما تصورات ومخططات لما أسماه بلوخ "اليوتوبيا الملموسة" ووصفه ماركوزه بأنه "بدائل". ألا ينبغي لفلسفة التحرير أن تهتم أكثر بالبديل، المجتمع الجديد، أي المجتمع الآخر للمجتمع القائم على الهيمنة؟ أم أن هذه هي مهمة الناس في النضال، والممارسة الثورية، وليس الفيلسوف الذي ربما ينبغي له أن يكتفي بالمهمة الأكثر تواضعاً المتمثلة في التعبير عن أهداف الناس في النضال والدفاع عن هذه النضالات ضد النقد والهجوم. فما هو الدور الذي تلعبه الفلسفة في ممارسة التحرير؟ وأعتقد أن أولئك منا الذين يعيشون في المدن الرأسمالية المتقدمة يجب أن يعترفوا بأننا لا نملك إجابات جيدة على هذه الأسئلة، وأن المحاولات التي تبذل في المركز والأطراف لمعالجة هذه الأسئلة تشير إلى أهمية وضرورة نوع فلسفة التحرير التي يحاول دوسيل وآخرون تطويرها.

فلسفة التحرير والنظرية النقدية: هل هي تركيبة جديدة؟

في هذه المرحلة، وفي الختام، أعتقد أن إمكانيات التركيب المثمر بين النظرية النقدية وفلسفة التحرير قد بدأت تظهر. إن النظرية النقدية وفلسفة التحرير تتقاسمان وجهات نظر نقدية حول أنظمة الهيمنة القائمة، كما تتقاسمان شغف التحرير، ورسم البدائل التحررية للمجتمعات القائمة. وكما ذكرت في وقت سابق، فإن انتقاداتهما للهيمنة تكمل بعضها البعض، وتجلب تركيزات تكميلية: تقدم فلسفة التحرير نقدًا أكثر شمولية للإمبريالية، وأنظمة الهيمنة على العالم ــ وهو غائب بشكل لا يمكن تفسيره عن معظم النظرية النقدية باستثناء التعليقات العرضية لماركوز في الستينيات ــ في حين تقدم النظرية النقدية تركيزًا أكثر شمولية على الطرق التي تنتج بها الصناعات الثقافية، والتنشئة الاجتماعية الأبوية، وهيمنة رأس المال، السلع، والتشييد، ونهاية الفرد. ولكنهم يقدمون أيضاً وجهات نظر تكميلية حول التحرير. إن فلسفة التحرير تعبر عن بُعد من أبعاد التحرير أهملته النظرية النقدية إلى حد كبير: التحرير من القمع العنصري، من القمع والهيمنة من نظام الهيمنة الغربي ـ الرأسمالي، الأبوي، العنصري، والإمبريالي. ورغم أن النظرية النقدية تعارض مثل هذه الظواهر أيضاً، فإنها تميل إلى أن تكون إلى حد ما متمركزة حول الذات وتركز على التحرير داخل المجتمعات الرأسمالية الغربية، والتحرر من أشكال الهيمنة المحددة داخل هذه المجتمعات الرأسمالية، ورغم أن المنظرين النقديين الأكثر تطرفاً، مثل أدورنو وماركوز، دعوا إلى إلغاء النظام الرأسمالي وأرادوا إعادة الهيكلة الاجتماعية الشاملة، إلا أنهم نادراً ما ركزوا عليها وأتموا تقويضها.

خاتمة

إن إحدى الطرق الواضحة للتعبير عن الاختلافات في المنظور بين النظرية النقدية وفلسفة التحرير هي الإشارة إلى أن النظرية النقدية، تفترض منظور "العالم الأول" بينما تفترض فلسفة التحرير منظور "العالم الثالث". ولكن هذا التمييز ليس مرغوباً فيه تماماً، لأن مثل هذه التعميمات تحجب حقيقة مفادها أن هناك العديد من الاختلافات المتضاربة في وجهات النظر في كل من الفلسفة الغربية والعالم الثالث، وأن هناك اختلافات داخل الفلسفة الغربية والعالم الثالث قد تكون جوهرية بقدر الاختلافات بين المجالين بشكل عام. وعلاوة على ذلك، بمعنى آخر، نحن نعيش جميعاً في عالم واحد، وبينما نريد بالتأكيد التعبير عن الاختلافات، فإننا نريد أيضاً استكشاف القواسم المشتركة، وهذا يبدو لي بمثابة مساهمة مفيدة محتملة لمشروع الفلسفة الغربية العالمي. وهذا يقودني إلى استنتاجي. أود أن أزعم أن كلاً من فلسفة التحرير والنظرية النقدية لديها وجهات نظر تحررية قوية وخطاب تحرير يمكن تلخيصه بسهولة. أود بالتأكيد أن أناقش المزيد من الاختلافات في وجهات النظر حول التحرير وأن أستمع إلى انتقادات زملائي للنظرية النقدية، ولكنني أميل إلى الاعتقاد بأن وجهات نظر النظرية النقدية وفلسفة التحرير متوافقة وقد تؤدي إلى تركيبة جديدة يمكن أن تعزز قضية التحرير في كل من المركز والمحيط، في العالم الأول والثاني والثالث وقد تساعد في إنتاج عالم واحد حيث يمكننا أن نعيش معًا في سلام واحترام متبادل وتفاهم. فكيف تساعد النظرية النقدية وفلسفة التحرير على الاسناد الفكري العملي لمشروع المقاومة والصمود عند الشعوب التي تتعرض للابادة والتطهير والتهجير القسري والاستعمار الاستيطاني من طرف العدو الصهيوامبريالي؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

 

يمثل المفهوم الأرسطي للمدينة أو "بوليس" تصورًا عميقًا ومؤثرًا للحياة الإنسانية، يتعارض مع النزعة الفردانية السائدة في مجتمعاتنا الحديثة، فبينما يسعى كل فرد في الدولة الحديثة لتحقيق مصلحته الشخصية، يرى أرسطو أن الإنسان كائن اجتماعي بطبعه، مما يجعله مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالمجتمع الذي يعيش فيه.

في عالم أرسطو، لا تجد الفضائل مكانها المناسب في الفرد فقط، بل تتجلى في حياة المدينة ككل، فالخير الإنساني لا يمكن تحقيقه إلا داخل المجتمع. يتجلى هذا المفهوم في فكرة أن الفرد يُفهم من خلال دوره ككائن اجتماعي، حيث يكتسب هويته وقيمه من انتمائه إلى المدينة، العائلة، القبيلة، أو الأمة. إذًا، لا يوجد "أنا" منفصل عن هذه الكيانات، فحياة الفرد ليست مجرد تجربة خاصة، بل هي جزء من مشروع مجتمعي مشترك.

وخلال هذا التفاعل المجتمعي يتشابك مفهوم السرد، فعند كل شخص، هناك قصة تُروى، هي ليست مجرد تجربة فردية، بل حياة درامية تمثل المجتمع بقدر ما تمثل الفرد. كل فرد جزء من هذا التقليد السردي، يرث الماضي ويصححه، ويعيش الحاضر ويصارعه، ويخطط للمستقبل ويجهله.

تتشابك حياتنا مع حياة الآخرين في سرديات مشتركة، فكما أننا نعيش قصتنا الفردية، نكون في الوقت نفسه جزءًا من قصص الآخرين. نتذكر ونحلم، نأمل ونيأس، نؤمن ونشك، نخطط ونعدل، وكل ذلك يحدث من خلال سرديات نعيشها ونشاركها مع الآخرين. في هذا السياق، لا تكون الهوية الفردية سوى امتدادٍ لوحدة السرد، التي تمتد من الولادة حتى الموت، وتُفهم حياتنا من خلالها.

كما أن الهوية تتجسد في السرد، وتجد وحدة الشخص معنًى من خلال وحدة السرد التي تمنح للحياة البشرية تماسكها. بدون هذا السرد، لا يمكن للهوية أن توجد. نحن لا نعيش حياتنا في عزلة؛ بل نعيشها ضمن علاقات متعددة، نحن أبناء وبنات، أعمام وعمات، مواطنون في مدينة، وأعضاء في مهن ومؤسسات. هذه العلاقات تُشكل هويتنا الاجتماعية، وتعطينا إطارًا أخلاقيًا نبدأ منه حياتنا.

من خلال هذه العلاقات والسرديات، يأتي دور الفضائل في تحقيق الخير، فالفضائل ليست مجرد استعدادات داخلية، بل هي أدوات تمكننا من السعي نحو تحقيق الخير الذي يحمينا من الشرور والتحديات التي تواجهنا، كما أنها تساعدنا في تجاوز الصعوبات، وتمنحنا قدرة على التعمق في فهم أنفسنا والآخرين، وتوجيه مسار حياتنا نحو الخير.

نحن لا نبدأ حياتنا من فراغ؛ بل نرث ديونًا أخلاقية، نرث موروثات من عائلاتنا، من مدننا، من إطارنا الاجتماعي والسلوكي والثقافي. هذه الموروثات تُشكّل أساس حياتنا الأخلاقية، وهي ما تعطي لحياتنا خصوصيتها وأهميتها.

في ضوء هذا الفهم الأرسطي، يتضح أن الحياة الإنسانية ليست مجرد بحث عن منفعة فردية، بل هي رحلة مشتركة نسعى من خلالها إلى تحقيق الفضيلة والخير داخل المجتمع، فالمدينة ليست مجرد مجموعة من الأفراد؛ بل هي كيان حيّ ينبض بالحياة والأخلاق، يتشكل من خلال الفضائل التي نمارسها ونعيشها، والسرديات التي نرويها معًا، ونعيشها معًا، على عكس الإبداعات الأدبية، تُعاش القصص قبل أن تُروى، حيث نكون فاعلين ومؤلفين في قصصنا، بينما نؤدي أيضًا أدوارًا ثانوية في قصص الآخرين، فوحدة الحياة الإنسانية هي وحدة بحث سردي، والمعايير الوحيدة للنجاح أو الفشل في الحياة هي تلك المتعلقة بالبحث المُروى أو الذي سيتم روايته. هي روايتك إذن فحاول الابداع في صياغتها.

***

الأستاذ محمد إبراهيم الزموري

ما نقصده بـ(البرودويلية) هي صيغة مصطلحية مشتقة من اسم المؤرخ الفرنسي الكبير (فرنان برودويل) الذي أضحى علما"بارزا"من أعلام التاريخ وفلسفته، لجهة الدور الذي لعبه في تغيير النظرة التقليدية الى طبيعة التاريخ وأنماط تمرحله . كما أنه أحدث ثورة في مجال المنهجيات التي كان المؤرخين يعتمدونها في تفسير عمليات تكوين (الحدث) أو تشكيل (الواقعة) التاريخيين، هذا بالإضافة الى بيان حدود التداخل ومستويات التمفصل ما بين علم التاريخ من جهة، وبين بقية العلوم الاجتماعية والإنسانية الأخرى التي تشاطره الاهتمام بأنشطة الكائن الإنساني وما ينجم عنها من مظاهر مختلفة وظواهر متنوعة من جهة أخرى .

وإذا ما حمل عنوان هذه المقالة اسم (برودويل)، فهذا لا يعني أنها معنية بالحديث عن مضامين فكر هذا المؤرخ عموما" واستعراض الانزياحات التي أحدثها في مجال تفسيره للسيرورة التاريخية وتأويل أنماط تطورها، بقدر ما اقتصرت على محاولة توظيف جانب من جوانب (المنهجية) التي اجترحها هذا المؤرخ كمقاربة للبحث في تاريخ المجتمع العراقي، الذي عجز الكثير من المؤرخين في الوصول الى تفسير مقنع يحلل ويعلل أسباب تقلباته وتناقضاته . نعم هناك ثلة من المهتمين بالشؤون التاريخية والحضارية والتراثية من حاول أن ينتهج هذا المنهج ويسلك هذا الطريق، إلا أنهم لم يوفقوا بالحصول على ذات النتائج التي أحرزها المؤرخ (برودويل) بالنسبة لمقاربة تأريخ بلده (فرنسا) عبر تطبيق منهجيته المبتكرة والمثمرة . ولعله من الإنصاف القول ؛ ان محاولات الباحث العراقي (سليم مطر) الرامية الى تحقيب التاريخ الجغرافي والحضاري والديني والاجتماعي للمجتمع العراقي تصب نسبيا"في هذا الاتجاه .

وللذين يجهلون أو لم يطلعوا على خاصية المنهجية (البرودويلية) في حقل الدراسات التاريخية، يمكننا القول أن ما يميّزها عن المنهجيات التقليدية السابقة عليها، هي أنها لم تقتفي أثر هذه الأخيرة وتحذو حذوها في تحقيب سيرورة التاريخ وتمرحل أحقابه الى (قديمة وحديثة ومعاصرة) مثلما يجري لحدّ الآن في معظم جامعاتنا العراقية البائسة، كما أنها لم تكتفي بانتهاج سبيل المفاضلة بين العوامل المحددة لصنع الحدث وصيرورة الواقعة (الجغرافي أو السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو الديني أو الحضاري) كما تميل بعض الدراسات ذات الصبغة الإيديولوجية . وإنما هي منهجية عمد مبدعها (برودويل) الى تقسيم السيرورة التاريخية الى ثلاث آماد تاريخية مختلفة زمنيا"ومتباينة من حيث طبيعة المضامين التي تشتمل عليها . فالأمد التاريخي (الطويل) الذي قد يمتد لآلاف السنين تتمحور اهتماماته حول المعطيات الطبيعية (الجغرافية والايكولوجية) ذات النمط البطيء جدا"في الحراك والتطور . وأما الأمد التاريخي الثاني (المتوسط) فقد جعله يتمحور بالمعطيات الإنسانية (الاجتماعية والاقتصادية)، تلك التي تتعلق بتطور التشكيلات الاجتماعية وما تنطوي عليه من علاقات وذهنيات وسياقات . هذا في حين يرتبط الأمد التاريخي (القصير) بالأنشطة السياسية والفاعليات السلطوية وما يتمخض عنها من تفاعلات وصراعات وتحولات، غالبا"ما تكون معبرة عن المصالح والمآرب ذات الطابع الآني والسريع نسبيا".

ولعل هناك من يعترض على لجوئنا لمثل هذه المقاربة المنهجية (الغربية)، والتي قد يعتبرها بعيدة عن واقعنا وغريبة عن ثقافاتنا، بحيث ان اعتمادها في تحليل سيرورة التاريخ العراقي مسألة تنطوي على الكثير من المفارقات والمغالطات . والحقيقة أنه لو أنعمنا النظر في الخصائص الفريدة للشخصية العراقية المعاصرة وما تحمله بين جنباتها من تصورات عجيبة وسلوكيات غريبة، سيكون من الصعوبة بمكان البحث عن النوابض التي تحرك انفعالاتها وتوجّه سيكولوجيتها ضمن المتيسر والمعيش من الأسباب والدوافع، والتي يبدو أنها تتأثر بدينامياتها وتنقاد لسيروراتها وتنصاع لمآلاتها . فلو تسنى لنا قراءة التاريخ العراقي قراءة موضوعية مجردة من العواطف – رغم صعوبة هذا الافتراض – سنلاحظ ان الكثير من تلك السمات والصفات التي تتوفر عليها تلك الشخصية، تعود بأصولها الى عوامل فيزيقية وميتافيزيقية عديدة ومتنوعة لا يمكن لأي بحث أو دراسة ادعاء الواقعية والعلمية، دون استحضارها وتحيينها للشروع منها والبناء عليها والاحتكام إليها .

وهكذا، فان الضرورة العلمية والمعرفية تقتضي - للوقوف على حقيقة ما تضمنته سيرورات التاريخ العراقي من تقلبات وانقطاعات وارتدادات وصراعات من جهة، وإماطة اللثام عما تركته هذه الأخيرة في كينونة الشخصية العراقية من عصبيات وكراهيات واحتقانات وتوترات من جهة أخرى - أولا"؛ مراعاة العوامل التي تنتظم ضمن مكونات الأمد التاريخي (الطويل) من مثل (الجغرافيا والايكولوجيا) وما تنطوي عليه من تباينات مناخية واختلافات طوبوغرافية، والتي وان كان تأثيرها على الطبيعة الإنسانية بطيء وغير مباشر، إلاّ أنه عميق الأثر ودائم التأثير في كل ما جبلت عليه هذه الطبيعة من خصائص وسمات . وثانيا"؛ الأخذ بنظر الاعتبار ان الأطر الاجتماعية والأنساق الثقافية والسياقات الحضارية التي يعيش في كنفها الإنسان العراقي في الوقت الحاضر، ليست فقط وليدة المعيش الآني الذي يكتوي بناره ويتلظى بجحيمه، مثلما ليست حصيلة الظروف الصعبة القائمة والأوضاع المزرية السائدة فحسب، وإنما هي أيضا"نتاج تشكيلات اجتماعية اقتصادية ذات أمد (متوسط) تمتد أصولها لمئات السنين، لا تزال علاقاتها (الإقطاعية) وقيمها (البطريركية) تحدد أنماط الوعي وتؤطر أشكال السلوك . وحين ذاك ثالثا"؛ يتوجب توجيه دفة البحث صوب معطيات ومقتضيات الأمد التاريخي (القصير) الذي يشغل بضع سنين أو بضعة عقود، حيث الممارسات السياسية والتوجهات الإيديولوجية تحتل صدارة المشهد الاجتماعي اليومي وما ينطوي عليه من تصورات وتفاعلات وعلاقات، تعكس الحالة العامة لحراك المكونات الاجتماعية وهي تسعى لتأمين مصالحها وضمان حقوقها في المجالات الاقتصادية والثقافية والدينية والسياسية .

وفي ضوء ما تقدم، يمكننا الجزم ان أية محاولة تسعى لدراسة المجتمع العراقي واستكناه الطبيعة المعقدة والملتبسة لشخصيته الاجتماعية، ومن ثم استخلاص الفروض والاستنتاجات بشأن الكيفيات والمقاربات التي تمكّنه من طرح الحلول واقتراح المعالجات، لاسيما في إطار المشاكل التي يفرزها الواقع والإشكاليات التي يعيشها المجتمع، دون أن تضع باعتبارها تلك الآماد التاريخية (الطويلة / الثابتة) و(المتوسطة / البطيئة) و(القصيرة / السريعة)، سيكون مصيرها الفشل لا محالة . ذلك لأن ملابسات الطبيعة المزاجية لسايكولوجية المجتمع العراقي تمتح من نسغ تاريخ مديد تضرب جذوره في عمق الماضي السحيق بكل مواريثه، حيث تمتزج معطيات الجغرافيا والايكولوجيا مع مكونات السوسيولوجيا والانثروبولوجيا، مثلما تتفاعل وتتمفصل مع مرجعيات الاقتصاد والدين والثقافة والسياسة والحضارة، مكونة بذلك ماهية بشرية / انسانية ذات خصائص فريدة ليس فقط في مضمار الأصالة التاريخية والعراقة الحضارية فحسب، وإنما في مضامير الوعي والذاكرة والمخيال والهوية أيضا"! .

***

ثامر عباس – باحث عراقي

"في بارك راجات (ضفة الملك)، حيث يرقد غاندي، ألقيت نظرة ً عليه مأخوذًا بنهر بامونا الأسطوري، الذي يمرّ عبر دلهي قادمًا من جبال الهملايا، ومن الجهة الأخرى لراجات، هناك متحف ضمّ مقتنيات وكتب وصور غاندي، الذي ظلّت روحه ترفرف فوق الهند، حيث كان قد حلّق في سماوات بعيدة وسبح في بحور عميقة، لاسيّما وكان الإنسان في داخله هو المقياس لكلّ شيء، حسب الفيلسوف الإغريقي بروتوغوراس". هذا ما كتبته عند زيارتي قبر الماهاتما غاندي في العام 2009، كما كتبت بضعة مقالات عن انطباعاتي الشخصية، بما فيها علاقة غاندي بفكرة التسامح.

ومعروف أن غاندي اغتيل كردّ فعل لأفكاره وآرائه، وتلك إشكالية نظرية كبيرة ما تزال مطروحة على طاولة البحث من جهة وفي الواقع العملي من جهة أخرى وبصورة أكبر، لاسيّما  نشوء ظواهر اللّاتسامح، التي تثيرها أحيانًا أجواء التسامح، فتستغلّها القوى غير المتسامحة لفرض آرائها بالعنف أو بالتهميش أحيانًا.

وثمة أسئلة كبرى تتفرّع من هذه الإشكالية، وتتداخل معها، ومنها: ما السبيل للتعامل مع ظواهر اللّاتسامح ومع غير المتسامحين؟ هل ينفع نهج التسامح مع اللّامتسامحين؟ أم ثمة مواجهة، لا بدّ منها، بين التسامح واللّاتسامح وبين المتسامحين وغير المتسامحين؟ ومتى يكون الحزم مع غير المتسامحين ضروريًا؟ وهل التسامح أو اللّاتسامح هو اختيار أم اضطرار؟ وهل يؤدي عدم التسامح مع غير المتسامحين إلى الابتعاد عن قيم التسامح؟ أم أنه يقود إلى ترسيخها؟ ثم ما هي مبرّرات البعض في مواجهة اللّاتسامح  وغير المتسامحين بالوسيلة ذاتها  لإيقافهم عند حدّهم؟ أوليس تلك ذريعةً أو حجةً في نقض قيم التسامح ذاتها؟ وبالإمكان القول أن ثمة خيط رفيع بين استخدام القوّة والعنف في ردع غير المتسامحين وبين اللجوء إلى "حكم القانون" لمنع المغالاة في الاستفادة من بيئة التسامح بالضدّ منها، وهو ما يذهب إليه كارل بوبر في دفاعه عن قيم التسامح.

ويشهد تاريخ الهند على العيش المشترك لشعوب وأمم ولغات وأديان، حيث يتواصل الهندوس والمسلمون والسيخ والبوذيون والمسيحيون وغيرهم، ونحو 23 لغة رسمية وأكثر من ألف لهجة محلية، لسكان يبلغ عددهم مليار و440 مليون نسمة، في إطار نظام فيدرالي تعددي ديمقراطي يتكون من 25 إقليماً، دون أن يعني ذلك اختفاء التعصب ووليده التطرف ونتاجهما العنف، وكلّ ما يتعلّق بنقائض التسامح، من إشاعة روح الكراهية والتمييز والاستعلاء والزعم بامتلاك الحقيقة وادّعاء الأفضلية وعدم الإقرار بالتنوّع والتعددية والتنكر للحق بالاختلاف.

لم يكن غاندي الضحية الوحيدة للّاتسامح، فقد تبعته لاحقاً أنديرا غاندي وراجيف غاندي، والسبب دائمًا هو عدم الإيمان بقيم التسامح، حيث تكون مبررات القتلة، بالرغم من اختلاف مسوّغاتها، عدم قبول الآخر بسبب دينه أو قوميته أو لغته أو لوته أو جنسه أو أصله الاجتماعي.

الجدير بالذكر أن غاندي اختار نهج اللّاعنف والمقاومة السلمية المدنية، هو الذي أوصل الهند إلى الاستقلال في مواجهة بريطانيا، أعتى دولة إمبريالية في حينها، وهو ما ظلّ متمسّكًا به حتى يوم اغتياله، في حين كانت مبررات القاتل (ناتهورام غودسي) المعلنة والمضمرة، تدور حول موقف غاندي من تجزئة الهند، التي حاول البريطانيون العبث بوحدتها، وقد أصرّ على مبدأ التضامن والعيش معًا بين الهندوس والمسلمين وبقية المجموعات الثقافية، ورفض التقسيم بشدة لأسباب مبدئية ووطنية،  لم تكن بعيدة عن إيمانه بمبادئ التسامح، فشجع المسلمين وحثّهم على عدم الرحيل إلى القسم الباكستاني عندما أصبح التقسيم أمراً واقعاً، ودعا الهندوس وشجّعهم على التعايش مع المسلمين وعدم اللجوء إلى العنف، وكانت تلك السياسة المتسامحة تلقى رفض بعض القادة المتطرّفين من الفريقين.

بعد ما يزيد عن ثلاثة عقود ونصف من الزمن على اغتيال غاندي، مؤسس الهند الحديثة ورائد الاستقلال الأول، وتحديداً في العام 1984 سيقوم مرتكب آخر، يدعى جاسفير، باغتيال السيدة انديرا غاندي، وهو مرافقها من الطائفة السيخية، والمبررات هي ذاتها. وأنديرا غاندي هي إبنة زعيم الهند جواهر لال نهرو أحد قادة حركة الحياد الايجابي ومؤتمر باندونغ العام 1955 وحركة عدم الانحياز لاحقاً.

ولعلّ اسم أنديرا غاندي له أكثر من دلالة للتسامح فهي ابنة نهرو، ودرست في بريطانيا في أربعينيات القرن المنصرم في جامعة اكسفورد وهناك أحبّت زميلاً لها من أصول فارسية، وهو مسلم واسمه فيروز غفّار، لكن أجواء اللّاتسامح لم تكن تسمح باستمرار علاقتهما وبالزواج منه، وقد ناقشت المسألة مع والدها (نهرو) ومع غاندي، الذي تبنّى هذا الشاب اليتيم اللامع، فبادر إلى إعطائه لقبه بعد اقتناعه به وإيماناً منه بمساواة البشر وقيم التسامح، مؤكدًا بذلك أنه أبًا لجميع الهنود، الأمر الذي مكّن فيروز غفار (غاندي) من الزواج من أنديرا، وأصبح اسمها أنديرا غاندي لاحقاً.

لعلّ سبب مقتل أنديرا غاندي هو اللّاتسامح أيضًا، حيث كان بعض السيخ وقتها قد طالبوا في إقليم البنجاب بالاستقلال بما يسمى بكالستان باعتباره حقاً لهم، وكانوا قد تقدّموا باقتراح لها، ولكنها رفضته، الأمر الذي دفعهم للقيام بأعمال عنفية طالت أعداداً من الهندوس، فاضطرت حينها إلى التصدّي لهم في عملية سميّت ﺑ بلوستان Bluestan، خصوصاً بعد اعتصامهم في المعبد الذهبي في البنجاب، وحدوث معارك أدت إلى سقوط عدد من المدنيين، وعلى الرغم من تردّدها في قصف المعبد أو اقتحامه، الاّ أنها في نهاية المطاف أعطت الأوامر بحسم الأمر والتصدي بحزم إلى من اعتبرته سبباً في المشكلة ويتحمل نتائجها.

إن رفض أنديرا غاندي مطلب التقسيم (استقلال إقليم البنجاب) وتمسكّها بوحدة الهند كان وراء اغتيالها، مثلما لقي راجيف غاندي مصرعه أيضاً، لأنه وقف ضد حركة التاميل، ووافق على إرسال قوات هندية لدعم سريلانكا، يومها قامت سيدة في محاولة لتقديم باقة ورد له، لكنها بدلاً من ذلك فجّرت قنبلة فيه، وكان هذا قد حدث في إقليم كيرالا العام 1991، الذي يُعتبر من الأقاليم الغنيّة في الهند، والذي غالبًا ما كان يفوز فيه الشيوعيون في الانتخابات منذ الاستقلال ولعدّة دورات.

إن مسلسل الاغتيالات للزعامات الهندية، فضلًا استخدام العنف بين المجموعات الثقافية، بين الفينة والأخرى، يدعو إلى التأمل، فبذرة اللّاتسامح ما تزال قوية في المجتمع الهندي، الذي يشهد في الكثير من الأحيان نزاعات وصدامات واحترابات، لاسيّما بين الهندوس والمسلمين، وهو المرض الخبيث الذي بذرته بريطانيا قبيل اضطرارها للرحيل من الهند.

لقد حاول غاندي أن يطبع حزب المؤتمر الوطني الهندي بطابعه، بالدعوة إلى سياسة اللّاعنف والتسامح، وهذا الحزب العريق كان قد تأسس عام 1885 على يد السياسي الهندي المتحدّر من عائلة ثرية، واسمه دادا بهاي نروجي، الذي درس في بريطانيا، ثم ترأس تحرير صحيفة "حرية الهند" Azadi Hind وقد انضم إليه غاندي في العام 1920 وأصبح أحد أبرز قادته مؤسساً لفلسفة جديدة أساسها اللّاعنف،  لاسيّما بعد عودته من جنوب أفريقيا وسجنه هناك لعدة مرات حيث قضى فيها نحو 21 عاماً.

وكان غاندي قد تخرّج من كلية الحقوق في جامعة أكسفورد، وبسبب أوضاع جنوب أفريقيا والتمييز العنصري فيها، تبنّى نهجاً سياسياً فريداً، قال عنه أنه يتسم بالعقلانية والواقعية، لاسيّما بعد عودته إلى بلاده، واستغلّ وجود ضريبة على الملح تفرضها بريطانيا على الهنود، فدعا إلى تحرك جماهيري سلمي مدني واسع للامتناع عن دفع الضريبة، كما شجّع الحركة النسائية للتمسك بالوطنية الهندية من خلال ارتداء الملابس الهندية الشعبية، وكان أساس حركته هي إتباع الأساليب النضالية اللّاعنفية، وعدم الانجرار إلى رد فعل لقتل البريطانيين مؤكدًا أن "الحقيقة ستنتصر يوماً ما".

وإذا كانت بريطانيا قد استجابت "مضطرة" لاستقلال الهند، وتخلّت عن درّة التاج البريطاني لكنها زرعت لغماً كبيراً بين سكانها، لاسيّما بين الهندوس والمسلمين، الأمر الذي شجع بعض السياسيين للمطالبة باستقلال باكستان، ومنهم محمد علي جنت المدعوم من قبل بعض المتطرّفين الإسلاميين بسبب العنف الذي تعرض له المسلمون عشية الاستقلال، ولم يكن الأمر يخلو من يد بريطانيا، التي كانت سياستها تقوم على قاعدة " فرّق تسد" فشجعت على الاحتراب تمهيدًا للانفصال.

كان ردّ فعل بعض السياسيين الهندوس التسليم بالأمر الواقع مثل سردار بلب بهاتي باتيل وإلى حد ما جواهر لال نهرو، انطلاقاً من "فن الممكن"، وسياسة "الأمر الواقع"، حتى وإن كانا ضدّ التقسيم، في حين كانت نظرة غاندي المتسامحة تصرّ على التعايش ورفض التقسيم، وما تزال مشكلة كشمير منذ ما يزيد عن ثلاثة أرباع القرن من الزمن مشتعلة، وتشكّل قنبلةً موقوتة.

كتب ماركس وإنجلز عن حرب استقلال الهند الأولى في خمسينيات القرن الثامن عشر،  لاسيّما انتفاضة فيلور عام 1806 متنبئان باستيقاظ الشرق، فإضافة إلى الهند كانت الصين في صلب تصوراتهما. وكتب ماركس مقالات مكثفة في الفترة بين 1857-1859 في صحيفة نيويورك ديلي تريبونا New York Daily Tribuna تحدث فيها عن نهضة الهند والصين، مستنتجاً أن القضاء على الكولونيالية في الهند يعتبر أحد أهم الأركان التي سيتوقف عليها مصير الأوليغارشية البريطانية، لأنها ستؤدي إلى تدمير العلاقات الاقتصادية الإقطاعية وستنعكس إيجاباً على أوروبا. وقد كانت عملية استقلال الهند، وفيما بعد الشعوب المستعمرة والتابعة، المدماك الأساسي لغياب شمس الإمبراطورية البريطانية بعد الحرب العالمية الثانية.

وبقدر اتساع دائرة التسامح في الهند ففيها تاريخ لامتسامح أيضًا، فبعد وفاة زوجة ملك الملوك شاهجهان "ألجو مان بانو بكم" الملقبة " ممتاز زمان" بنى لها الشاهجهان قصراً سمي بالقصر الأحمر Red Fort في أكرا وآخر في دلهي، وتعهد بعدم الزواج بعدها رمزية للوفاء، وحيث كان يرفل بحكمه قام ولده بسجنه في قصره، حتى وفاته بعد سبع سنوات.

سألت مرافقي الشاب في زيارتي الأولى عن رأيه بغاندي وسياسة التسامح؟ أجابني: غاندي رجل عظيم ورمز كبير، لكن أفكاره مثالية وغير واقعية وليست ممكنة التطبيق، إذْ لا يمكن حل الصراعات بدون العنف، لأن من بيده الثروة والمال والسلطة لا يستغني عنها لصالح المحرومين أو لتحقيق العدالة والمساواة دون وجود قوة ضاغطة عليه.

وسألته: هل تعني بالقوة العنف؟ وكنت أقصد رؤية ماركس عن دور العنف كمحرك للتاريخ، أم القصد منها المنع والردع؟ تململ الشاب ذو الثقافة التعددية الهندية- الشرقية- الغربية، فأردفته بالقول: المعرفة قوة بحد ذاتها على حد تعبير الفيلسوف فرانسيس بيكون، فهل توافقني على استخدامها؟ أم أنك تميل إلى استخدام العنف الفيزيولوجي؟ وكنت قد كرّرت ذلك بطرحي أسئلة على مرافقتي الهندية خلال زيارتي الثانية لحضور مؤتمر نظمه المجلس الهندي للعلاقات الخارجية في نيودلهي بخصوص العلاقات الآسيوية (2010).

أعتقد أن القضاء على الأمية والجهل وتحسين الأوضاع الاقتصادية والمعاشية، وتأمين ظروف عمل مناسبة وضمانات صحية واجتماعية، كفيل بنشر قيم التسامح ومقاربة العدالة وتهيئة الظروف للإقرار بالتنوّع والتعددية وقبول حق الاختلاف وحق التمسّك بالمعتقدات بحرية ودون عسف أو خوف، وهو ما تدعو له قيم التسامح، لاسيّما إذا تمّ ذلك من خلال التربية والتعليم ولجميع المراحل الدراسية، إضافة إلى التشريع والقوانين، ويلعب الإعلام دوراً مهماً على هذا الصعيد، إذ بمقدوره المساهمة بشكل كبير في نشر وتعميم ثقافة التسامح، وهنا يمكن أن تسهم مؤسسات المجتمع المدني بقسطها في التأثير على النخب الفكرية والسياسية والدينية، لتأكيد احترام الحقوق الإنسانية والاعتراف بحق الاختلاف والتنوع والتعددية. ولعل مهمة كتلك تحتاج في ظروف الهند إلى تراكم طويل الأمد لترسيخ قيم التسامح وفي مواجهة اللّامتسامحين الذين تصبح مهمتهم صعبة في المجتمعات المتسامحة.

وإذا كان نهرو باني الهند هو أول من رفع علم بلاده الوطني في 15 آب (أغسطس) 1947 معلناً نهاية الحكم البريطاني للهند، فإن روح غاندي المؤسس وصاحب فلسفة اللّاعنف والتسامح ما تزال ترفرف على الهند، ويشكل مرقده الأخير في راجات مزاراً للهنود وضيوفهم من شتى أنحاء العالم حتى وإن تحفظ البعض على فلسفته اللّاعنفية.

***

عبد الحسين شعبان

مفكّر وكاتب عراقي

لقد ورثت جميع الأديان السماوية موروث الرموز المقدسة سواءً كانت أصناماً أو نصباً أو قبوراً أو شجراً، فكانت اغلب المجتمعات القديمة تقدم لها القرابين والنذور، وتقام لها الاحتفالات والذبائح، ويكون الدم رمزاً هاماً فيهان فضلاً عن الشموع ومسح الخرق بتلك الرموز، وكان لاختيار المكان والزمان احتراماً لأوقات تلك الطقوس، فغيرت تلك الطقوس بعض أسس ذلك الموروث وعدلّت البعض الآخر.

وقد شيدت تلك المجتمعات وفق بعض فلسفاتها المادية والروحية جدرانها المقدسة، ووضعت تعاليمها في الزيارة والحج والصلاة والاحتفالات السنوية التي ترافق شكل تلك الاحتفالات الدينية، فكتبوا النصوص والمواعظ والأحكام لتنظيم العلاقات بين الناس، فكانت معابدهم المقدسة تفوح منها روائح البخور وهو جزء من الثقافة الشرقية، ونظموا مراتبية رجالاتهم وفق البنية للمؤسسة الدينية.

لكن من رفض تلك الطقوس والرموز المقدسة هم أصحاب الدين أو المذهب الأصلي الذي انقسمت عنه بعض الديانات والمذاهب، فشكلّت توجيهات مميزة في تياراتها السياسية والفكرية، ولو تأخذ مثالاً على ذلك (الكعبة المقدسة) و(حائط المبكى)، وقد أشار فيليب حتي في كتابه (تاريخ العرب) ص72، قائلاً: "أن الكعبة بناها آدم وفقاً لنموذج سماوي، ثم جاء الطوفان فتهدمت أركانها وأعاد بنائها بعد الطوفان إبراهيم وإسماعيل). ويؤكد فيليب حتي أن الكعبة صارت مكاناً مقدساً لـ(360) صنماً، واحد لكل يوم من أيام السنة القمرية، بينما يشير الدكتور الزيتوني في كتابه (الوثنية في الأدب الجاهلي) ص30: (إن ابن مسعود كان بمكة، عند فتح الرسول "ص"، لها ثلاثمائة وستون نصباً).

إضافة إلى ما هو شائع من أن في كل بيت بمكة كان هناك صنم، وكانت كل القبائل العربية تصنع الأصنام التي تقدسها، وحسب بعض الرواة قد خلط بين مفهوم النصب والأصنام مثلما هو في حديث ابن مسعود. كما تتضارب حجم القبائل وحجم اعداد الأسماء التي عثرَ عليها والمعروفة في الأدب الجاهلي؛ والتي ذكر أهمها الدكتور زيتوني في مؤلفه (الوثنية في الأدب الجاهلي).

وكان بعض رجالات قبيلة قريش هم المشرفين عليها ومنهم خرج الرسول وأهل بيته، وهم امتداداً للنبي إبراهيم وأبنه إسماعيل، وإلى جانب (كعبة مكة) كانت هناك (كعبة سنداد ونجران). كما كان لمعظم الأصنام بيوت مقدسة كاللات والعزى ومناة وذي الخلصة وفلس.

ويذكر ابن الكلبي عن وثنية العرب بقوله: (منهم من اتخذ بيتاً ومنهم من أتخذ صنماً ومن لم يقدر عليه ولا على بناء بيت نصب حجراً أمام الحرم وأمام غيره مما استحسن. ثم طاف به كطوفانه بالبيت، وسماها الأنصاب)، فيليب حتي، تاريخ العرب، ص72.

وكان العرب القدماء يعتقدون أن (آساف ونائلة مسخا إلى حجرين لأنهما ارتكبا فاحشة في الكعبة). ويشير الجارم عن الزبير فأن بن بدر وهو من سادة العرب كان لهُ (بيت من عمائم وثياب وينضح بالزعفران والطيب، وكانت بنو تميم تحج ذلك البيت)، فيليب حتي، ص91.

وكان من طقوس الحج التعري، وهو طقس ديني مقدس يمارس في أمكنة مقدسة حيث الروح تنفصل عن الجسد في حظوة المكان المقدس بما في ذلك الفعل الجسدي، لذلك كان تجار قريش لهم الدور في تجارة الألبسة والقماش بعد أداء طقوس التعري. لذا كانت في بعض الديانات والمعابد تمارس الدعارة كونها نوعاً من الطقوس الدينية وتقديم القرابين للآلهة. لكن المفهوم العربي انقلب على الجسد والتعري بإعادة النظر في تلك الطقوس.

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

(قراءة في بِنية العقليَّة الاتِّباعيَّة)

قلتُ لـ(ذي القُروح)، في معرض استطلاعي رأيه حول ما يثيره أحد المتفيهقين المعاصرين:

ـ يعود (القبانجي) إلى القول، في بيان ما يزعمه تناقضًا في آيتين متجاورتين في ورودهما من (سُورة النساء: الآية 78 و79)، وهما: «أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ المَوْتُ، وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ. وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ، يَقُولُوا: هَذِهِ مِنْ عِندِ اللَّـهِ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ، يَقُولُوا: هَذِهِ مِنْ عِندِكَ! قُلْ: كُلٌّ مِنْ عِندِ اللَّـهِ! فَمَا لِهَؤُلَاءِ القَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا؟!  مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ، فَمِنَ اللَّـهِ، وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ، فَمِنْ نَفْسِكَ. وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا، وَكَفَى بِاللَّـهِ شَهِيدًا.»  فيقول لك: ألم يَقُل كلٌّ من عندالله، أي الخير والشَّر؟! هكذا- وهو ينسب الشَّر إلى الله؛ لأنَّ مفهومه للشَّر عجيب؛ فالعقاب على الذَّنْب شَرٌّ عنده، ووَصْف الله نفسَه بالعِزَّة والكبرياء شَرٌّ، وهلمَّ جرًّا!- قال: فكيف يعود للقول: « وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ، فَمِنْ نَفْسِكَ»؟ 

ـ الحقُّ أنَّك لن تجد أبلغ من الإجابة عن سؤاله هذا بالسؤال القرآني نفسه، الوارد في الآية- المنطبق عليه وعلى أمثاله-: «فَمَا لِهَؤُلَاءِ القَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا؟!» ذلك أنَّ الآية الأُولى تشير إلى الإرادة الإلاهية المطلَقة في كلِّ شيء، من حَسَنٍ وسَيِّء، والثانية إلى السبب البَشَريِّ المباشر، حسب السُنَن في عالم الكون والفساد.  ولا تناقُض بين الأمرَين، إلَّا في ذهنٍ بَليدٍ مضطرب. 

ـ واستطرادًا، فإنَّ مأساة الإنسان، مؤمنًا وكافرًا، تتمثَّل في أنه غالبًا لا يتحمَّل مسؤوليَّته، ولا يسلِّم بسُنن الكون. 

ـ صحيح. ونضرب على ذلك مثالًا من حادث ذلك الطفل المغربي (ريَّان)، الذي وقع في بئرٍ سحيقةٍ في قرية (شفشاون)، في 1 يناير 2022، وبقي في البئر إلى ليلة السبت 5 يناير، في حادثٍ شهده العالم أجمع، وتفاعل معه، وكأنَّما جاء ليكون شاهدًا على طبيعة الإنسان وعقليَّته المريضة. 

ـ كيف؟

ـ ما حدث لم يكن حَدَثًا عَرَضيًّا، بل هو آية، بل آيات، على أمور.  أوَّلها أنَّ الإنسان لا يتحمَّل مسؤوليَّته في الحياة، بل ستراه يحفر بئرًا، مثلًا، ويتركها هكذا مصيدةً لمخلوقات الله، ولا يشعر بجريمته.  والإنسان، أبًا أو أُمًّا، لا يتحمَّل مسؤوليَّته، حتى في رعاية أطفاله، وحمايتهم، بل لعلَّه هو مَن يُعِدُّ لهم مثل تلك البئر بنفسه، ولا يشعر بجريمته.

ـ والمفارقة الملحوظة هنا أنَّ أواصر القرابة في المجتمعات التي ننعتها بالبدائيَّة، والشعور بالمسؤوليَّة فيها، أمران يبدوان أشدَّ من نظائرهما في ما ننعته بالمجتمعات الحضريَّة!

ـ بكثير. ولذا نادرًا ما تناهَى إلى ذاكرتنا عن العصور القديمة شيءٌ من أشباه الحوادث التي تقع في عصرنا، على الرغم من ضعف الإمكانيَّات قديمًا قياسًا إلى عصرنا. وشِعرنا القديم شاهدٌ على أواصر العلاقات بين الناس وإعلاء شأنها.  خذ مثالًا من قول الشاعر الجاهلي (طَرَفَة بن العَبْد، -562م)(1):

فَفِــداءٌ لِـبَـنِــيْ قَيْــسٍ عَلَـى

ما أَصابَ النَّاسَ مِنْ سُرٍّ وضُرْ

*

خـالَتِي والنَّفْـسُ قِـدْمًـا إنَّهُـمْ

نِعِمَ السـَّاعُونَ في القَوْمِ الشُّطُرْ

أو قول معاصره (عمرو بن قميئة، -540م)(2):

[أ] إِنْ أَكُ قَدْ أَقْصَرْتُ عَنْ طُولِ رِحْلَةٍ

فـيا رُبَّ أَصـْحابٍ بَعَثْــتُ كِــرامِ

*

فَقُلْـتُ لهُمْ: سِـيرُوا فِدًى خالَـتِي لَكُمْ

 أمــا تَجِــدُونَ الرِّيْــحَ ذاتَ سَـهامِ

فما علاقة (الخالة) لتُذكَر في مثل هذا السياق؟ 

ـ وكيف يستقيم هذا مع الصورة النَّمَطيَّة عن موقف العَرَبيِّ القديم من المرأة عمومًا؟

ـ إذا كان من المألوف التَّفدية بالأب والأم ، تعظيمًا لمكانتهما من الإنسان، فإنَّ المرء يستغرب هنا تفدية هذين الشاعرَين الآخَرين بـ«الخالة»!

ـ وإنْ كان التعبير الشَّعبي ما زال يقول: إنَّ: «الخال والد».  لكن ماذا أردتَ أن تقول، يا (ذا القُروح)؟

ـ ليس التعبير الشَّعبي وحده الذي يقول: إنَّ «الخال والد»، بل هذا قول عَرَبي قديم؛ وقد ورد أن (الأسود بن وهب بن عبد مناف بن زهرة)، استأذن على (الرسول، صلى الله عليه وسلم)، فلمَّا دخل عليه،  بسطَ له رداءه، وقال: «اجلس عليه؛ إنَّ الخال والد.«(3)  وإنَّما أردتُ أن أقول: إنَّ هذا نموذجٌ على ما كان يربط الإنسان من أواصر قويَّة بأفراد عائلته، وإعظام لعلاقته بهم، بل بأفراد عشيرته وقبيلته؛ حتى إنَّه ليصل به الحال إلى ذوبان شخصيَّته الفرديَّة في أهله وجماعته وقبيلته.

ـ يا حبيبي، تريد أن تعود بنا إلى القَبَليَّة، وإلغاء الحُريَّة الفرديَّة، وإلى عقليَّة «إنَّا وجدنا آباءنا...»؟! وتلك العقليَّة هي أساس البِنية العقليَّة الاتِّباعيَّة في الثقافة العربيَّة! ألا ترى أنَّك هنا قد أخذت تناقض خطابك التنويري؟

ـ النظر إلى الأمور بمعيار (أبيض وأسود) عمًى مطلق! لكلِّ وجهٍ محاسنة ومقابحه. وإذا كانت للماضي سلبيَّاته، فإنَّ له إيجابيَّاته، ممَّا تقطَّعت عُراها في العصور المتأخِّرة في شرقنا العَرَبي، سَيرًا على أعقاب المجتمعات الغربيَّة.

ـ خرجتَ بنا عن الموضوع، كعادتك!

ـ الخارج مولود والداخل مفقود! حتى في هذا كثيرًا ما نقع في المغالطات، حين نتذرَّع بالموضوع، وداخل الموضوع، وخارج الموضوع.. إلخ.  ولكي أربط لك ما تراه خارج الموضوع بمسألة صاحبك (هبنَّقة)، المعمَّم بالسَّواد، أقول: إنَّ الإنسان، منذ أن ينشأ طفلًا، وهو يعرِّض نفسه وغيره للبلايا والمصائب، ولا يشعر بجرائره.  بل ستجد كلَّ هؤلاء يبكون أخيرًا، وينتحبون، ويجأرون إلى الله، إذا وقع ما أَوْكَتْه أيديهم وما نفخته أفواههم!  وهذا معنى الآية: «فَمَا لِهَؤُلَاءِ القَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا؟!  مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ، فَمِنَ اللَّـهِ، وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ، فَمِنْ نَفْسِكَ.»

ـ أمَّا أحسننا طريقة، في ظاهرنا الثقافي الإيماني، فستسمعه يُلقي بتبعة ما أَوْكَتا يداه وما نَفَخَ فوه على مشجب القضاء والقَدَر.

ـ لماذا؟ لكي يحمِّل الله سبحانه مسؤوليَّة حماقاته الإنسانيَّة، ثمَّ يدعوه ليجعل له منها مخرجًا! أمَّا هو، فحاشاه، فهو حَمَلٌ بريء! لم يرتكب خطأً، ولا إثمًا، في حقِّ نفسه، وحقِّ غيره! 

ـ قلتَ: إنَّ في ما حدث للطفل (ريَّان المغربي) آيات. وقد عرَّفتنا أُولاها، ماذا عن سائرها؟ 

ـ ثاني الآيات، التي تتجلَّى من مثل ذلك الحادث، أن الجميع لا يكادون يؤمنون بالله إلَّا وهم مشركون!

ـ يا لطيف! إيَّاك والتكفير!

ـ هذا الواقع، شئتَ أم أبيتَ! وإنْ تظاهر الناس بعكسه. فهُم، في الواقع، يؤمنون أشدَّ الإيمان بالحياة الدُّنيا، ويعبدونها عبادة مطلقة. «وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ، ...، يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ». فأولئك المتظاهرون بالإيمان كانوا، خلال تلك الحادثة، يضجُّون بالدعاء، والنحيب، ويصيحون بجنون، ابتهالًا من أجل حياة (ريَّان)، موقنين بأنَّ الله لن يخيِّب دعواتهم ودموعهم وصراخهم، وكأنهم بضوضائهم كانوا يدعون أصمَّ، أو غائبًا، أو غافلًا، أو طاغيةً، يستمتع لإظهارهم كل ذلك التذلُّل، والإقبال- لا عليه، بل على الحياة من خلال التوسُّل به- فما انفكُّوا يَرْجُون أن يُستجاب دعاؤهم، وأن تَحُلَّ المعجزة بهم، وتنخرق قوانين الطبيعة، أمام مسرحيتهم الهزليَّة تلك! وما ذاك إلَّا اعتقادًا منهم بأن الحياة الدنيا هي غاية الغايات، وأقصى ما يتمنَّاه الإنسان. والغريب أنهم ما يفتؤون يحدِّثونك عن الآخِرة ونعيمها، وعن الشهادة، وعن جِوار الله، وبأنَّ الدُّنيا ظِلٌّ زائل...، ولو كانوا يؤمنون حقًّا بما يقولون، لما أصابتهم تلك «الهستيريا» التي أصابتهم، طلبًا للحياة، ثم أصابهم مثلُها جَزَعًا من مغادرتها. وعودًا إلى الآية الأُولى «وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ، يَقُولُوا: هَذِهِ مِنْ عِندِ اللَّـهِ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ، يَقُولُوا: هَذِهِ مِنْ عِندِكَ!»- حتى لا يُجَنَّ جنونُك لاستطراداتي الجاحظيَّة- فإنَّها قد جاءت في معالجةٍ خاصَّةٍ لقضية التطيُّر عند العَرَب، وما كانوا ينسبونه ممَّا يصيبهم إلى النَّحس، أو الجنِّ، أو الشياطين، أو حتى إلى الرسول نفسه. وهي عادة لدَى الشعوب البدائيَّة عمومًا، تنهض على ما يُسمَّى (المغالطة البَعديَّة، أو السبب المتوهَّم).  بمعنى: الربط التعليلي بين حدثَين لا رابط سببيًّا بينهما، سِوَى أنَّ ما تُنسَب إليه العِلِّيَّة جاء أوَّلًا.  يُروَى من ذلك، مثلًا، ما حدث في إحدى قرى (جنوب أفريقيا) من أنَّ بعض البِيض أهدى رجلًا من (البوشمن) عصًا مرصَّعة، كرمزٍ للسيادة، لكن- لمساوئ الصُّدَف- سرعان ما تُوفي الرجُل، وورَّث العصا ابنَه، فسرعان ما توفي هو الآخَر! فأعاد البوشمن العصا المشؤومة إلى مهديها، خشية أن يموت البوشمن جميعًا! ومن ذلك كذلك ما يُروَى من أن مرض الجدري انتشر بين شعب (الياكات)، وصادف أنْ كان ذلك بعد أن شاهدوا جَمَلًا لأوَّل مرَّة؛ فوَقَر في نفوسهم أنَّ الجَمَل الملعون هو السبب في حدوث المرض!(4) ولله في خلقه شؤون! وقد كان العَرَب في الجاهليَّة، وربما ما زال كثيرٌ منهم، كأولئك المتطيِّرين الأفارقة، أو أشدَّ منهم استطارةً في التطيُّر.

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

.......................

(1)  (1900)، ديوان طَرَفَة بن العَبْد البكري، شرح: يوسف الأعلم الشَّنْتَمَري، عناية: مكس سلغسون، (شالَوْن- فرنسا: مطبعة برطرند)، 66/ 68- 69.

(2)  (1965)، ديوان عمرو بن قميئة، تحقيق وشرح: حسن كامل الصَّيرفي، (القاهرة: معهد المخطوطات العَرَبيَّة- جامعة الدول العَرَبيَّة)، 39، 41/ 1-2.  وقد وقع في البيت الأوَّل (خَرْم)، لم يُشِر إليه المحقِّق: «إنْ أكُ قد...». وكثيرًا ما يُنسَب هذا إلى الشاعر، وربما وقع عن خطأ الرواي، أو الناسخ. وصوابه: «أإنْ أكُ»، أو «وإنْ أكُ».

(3) يُنظَر: الحلبي، علي بن برهان الدِّين، (2013)، السيرة الحلبية (إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون)، عناية: عبدالله محمَّد الخليلي، (بيروت: دار الكتب العلميَّة)، 2: 313.

(4) يُنظَر: مصطفى، عادل، (2019)، المغالطات المنطقيَّة: فصول في المنطق غير الصُّوري، (القاهرة: رؤية)، 177.

شهد عصر اليقظة العربية ظهور تيارات فكرية مختلفة، منها العلماني والإسلامي السلفي ومنها الوسط، اتفقت أغلبها إن لم نقل كلها على ضرورة الالتقاء مع الغرب والاستفادة من تجاربه وعلومه، على ألا يؤثر ذلك على مقومات الشخصية العربية والإسلامية كما أكد العلامة محمد عبده في أغلب كتاباته (1).

ونود هنا أن نلقي الضوء على العلاقة بين الأدبين العربي والغربي في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية حتى الثمانينات.

لقد قامت العلاقة بين الشرق والغرب منذ قدم التاريخ على أساس المنافسة والرغبة في تبوّء مركز الصدارة في مختلف ميادين الحياة، بدءاً من الفكر مروراً بالسياسة وانتهاءاً بالحروب التي كانت تتويجاً لفشل سياسة أحد الطرفين في إخضاع الآخر تحت سيطرته.

وعلى الرغم من حالات الحروب والاستعمار والعداء، التي اتسمت بها علاقات العرب مع الغرب في العصر الحديث، إلا أننا نجد الاهتمام الكبير من قبل الأدباء العرب بالنتاجات الأوروبية الشرقية والغربية والأمريكية يتعاظم باستمرار.

يُعد هذا الاهتمام امتداداً لنشاطات التنويري بطرس البستاني في مجال الترجمة الأدبية حيث ترجم الإلياذة لفرجيل، بينما نقل الشيخ رفاعة الطهطاوي صاحب "المرشد الأمين في تعليم البنات والبنين"،"مغامرات فلنون" الرواية الفرنسية التعليمية (2).

إلا أن الاهتمام بالآداب الغربية من قبل العرب، أخذ في العصر الحديث طابعاً آخر يختلف كثيراً عن البدايات، من حيث التركيز على أنواع معينة في الأدب دون غيرها مثل قصيدة الشعر الحر، والقصة القصيرة، والرواية، وغيرها.

ولو نظرنا إلى تطور الشعر العربي الحديث مثلاً فسنجد أن التأثيرات الأوروبية والأمريكية لعبت دوراً هاماً، وإن كان غير ملموس في بداياته الأولى، مما يمكن ملاحظته في مدرسة أبوللو التي يدل اسمها اليوناني الأصل (أبوللو- رب كل شعر) على دلالتها وعلاقتها بالغرب.

تأسست هذه الجماعة في بداية العقد الرابع من القرن، بدعوة من الشخصية الألمعية الطبيب ورائد الشعر العربي والناقد الأدبي أحمد زكي أبو شادي (1892- 1955) أما خليل مطران (1872-1949)، الذي لُقّبَ بشاعر القطرين ومن ثم شاعر الأقطار العربية (1872-1949) فكان يعد أباً روحياً لها.427 ahmad zaki

أما جماعة (الديوان) التي أسسها الشعراء الثلاثة عبد الرحمن شكري، إبراهيم المازني، وعباس العقاد، والتي حملت اسمها نسبة إلى كتاب (الديوان) فهي في حقيقة الأمر ثورة ضد التقليدية.

لسنا بصدد التوقف بالتفصيل عند هاتين الجماعتين الرومانسيتين، لكننا نؤكد علاقتهما مع العصبة الأندلسية والرابطة القلمية في جنوب أمريكا وشمالها، وبالتالي مع الثقافة الغربية بهذا الشكل أو ذاك.

لقد كانت لمحمود عباس العقاد الذي ثار على شوقي وإبراهيم علاقة بميخائيل نعيمة، وهناك أوجه شبه مشتركة بينهما تظهر في (عابر سبيل) للعقاد. وكان هؤلاء جميعاً على صلة بالأدب الرومانسي الإنجليزي، وتتحرك في دواخلهم نزعات التجديد الأدبي فدعوا إلى ضرورة التعبير عن الذات وتجاربها وليس محاكاة للطبيعة وانعكاسها لها واعتبروا الشعرعمليةً لتوصيل المشاعر بين الشاعر والمتلقي، وأن المتعة الفنية يمكن تحقيقها في الشعر نتيجة لهذه المشاركة الوجدانية بين هذين الكائنين الحيين المتفاعلين مع كائن حي آخر هي الطبيعة.

أهم ما دعوا إليه من الناحية اللغوية هو كسر وحدة القافية الواحدة والتوجه نحو الشعر المرسل والابتعاد عن اللغوية العربية الكلاسيكية واستخدام اللغة الميسرة.

ظهرت هذه التوجهات التجديدية في الشعر قبل أكثر من خمس وعشرين سنة من نشر قصيدة (الكوليرا) وغيرها من بدايات الشعر الحر لنازك الملائكة والسياب.

وانتقدا شوقي وإبراهيم في مرحلة كان الأول يتصدر فيها الشعر في البلاط الملكي، والثاني قريباً للشعب من خلال تصويره مختلف المناسبات.

انتقدهما الناقد والمترجم والكاتب المتعدد المواهب إبراهيم المازني أكثر من مرة في الصحافة قبل صدور (الديوان) الذي تضمن كلَّ آرائهما هو والعقاد عن الشعر العربي التقليدي وإذا تمعنّا في مطالب الأخير نحو التجديد وجدناها لا تختلف كثيراً عن واقع الشعر الإنجليزي والأوروبي عموماً. إذن فإن التأثيرات الغربية واضحة المعالم هنا، وعلى الأقل من ناحية التنظيرات الأدبية وتوجهاتها.

لا أحد يستطيع أن ينكر دور الموهوبين والمبدعين في تطوير الأدب وتغيير مساراته، وخاصة أولئك المطلعين على ثقافات الأمم. هذا هو حال هؤلاء الشعراء المصريين مثل شكري وأبو شادي وإبراهيم ناجي وطه والمازني والعقاد ومطران، وكل المهجريين.

ولنتذكر أن روايات نجيب محفوظ الشهيرة في الوطن العربي كله تتسم بمقومات مثل الحوار والحوار الداخلي (المناجاة-المونولوج) والوصف الخارجي للمكان والأبطال الرئيسيين والثانويين والخ من مقومات سردية لم تكن موجودة عناصرها الأولى لا عند قصص ابن منبه ولا في ألف ليلة وليلة ولا في قصص العرب قبل الإسلام ولا بعده.

كان يمكن أن يحصل تطور لكل هذه الأشكال النثرية العربية القديمة فتنتقل من (التاريخية) واللغوية والاجتماعية والدينية إلى الحياة اليومية، لو استمر الأدب العربي بالصعود والتطور بعد الفترة العباسية التي شهدت بزوغ التجديد.

لم يحدث مثل هذا التطور حيث انشغل الكتّاب العرب بالتدوين التاريخي والاجتماعي والديني منذ سقوط بغداد على يد المغول عام 656 هج مما أدّى إلى بقاء العرب أسيري الماضي، وبقيت المقامة تراوح مكانها حتى في العصر الحديث عندما كتب اليازجي مقاماته (ليالي سطيح)، هذا إذا ما استثنينا إلى حد ما مقامة (حديث عيسى بن هشام) للمويلحي التي تميزت ببعض عناصر السرد الحديث ليس بدون التأثير الأوروبي. (5)

إذن من أين أتى محفوظ بهذه القدرة على الكتابة مستخدماً كل أساليب الرواية الواقعية الانتقادية كما عرفناها عند الكلاسيكيين الأوروبيين ومقومات الواقعية الاجتماعية؟428 khalil matran

إنها موهبة كتابة السرد أولاً وقبل كل شيء، والاطلاع الدقيق على الرواية الأوروبية الكلاسيكية والآداب الغربية بشكل عام، وهذا أمر لا يحتاج إلى الكثير من الأدلة والبراهين، فعلاقة جيل محفوظ بها معروفة، لكن الأهم هو كيفية إيجاد هذه التاثيرات في النصوص الأدبية من خلال التحليل النقدي المقارِن وليس بإطلاق الأحكام جزافاً.

فليس من الصعب مقارنة مقومات روايات محفوظ وأسلوبها بنظيراتها الأوروبية، لكن الأهم هنا برأيي هي الموضوعات والمضامين، التي اتسمت لديه بالمحلية بحيث أصبحت واسعة الانتشار في أوساط قراء العربية.

هذا هو سر نجيب محفوظ الذي جمع بين سحر الشرق وأزقته وتكنيك الغرب.

وعلى الرغم من أن نجيب محفوظ تربّى على العلماني سلامه موسى، كما قال هو بنفسه وأتقن صنعة الكتابة السردية ليس بدون الدور الإيجابي لاطّلاعه على الغربيين أمثال توماس مان ودوستوييفسكي وبلزاك وديكنز وغيرهم، وتوجهه نحو حارات مصر وأزقتها فأنتج "أولاد حارتنا" و"زقاق المدق" و"بدايه ونهايه"، وربط إلى حد ما بين مضامينه المحلية وأسلوب الكتابة الواقعية الأوروبية.

ولهذا نشرت الصفحات الثقافية العربية في السبعينات مقالاتٍ عديدةً تشير إلى تأثر نجيب محفوظ وأدباء عرب آخرين بالكتّاب الغربيين، لكن بعض "النقّاد" الصحفيين بالغوا ولايزالون يبالغون أحياناً في ترداد ما يقوله الآخرون عن تأثر هذا الأديب أو ذاك لمجرد سفره إلى أوروبا أو اطّلاعه على الآداب والنتاجات الغربية! فالاطّلاع على النتاج الأوروبي وحده لا يعني ضرورة التأثر به.

بلا شك، إننا لو توجهنا بهذا السؤال إلى هؤلاء الروائيين لأنكروا التأثر ولقدموا لنا تفاسير وآراء أخرى مختلفة، ويمكن أن يحصل التأثر من خلال لاوعي الكاتب وبدون إدراكه. وأحياناً أخرى يقر الروائي تأثره بهذا الكاتب الأجنبي أو ذاك كما هو الحال بالنسبة للراحل غسان كنفاني وتأثره بفوكنر، وغائب ط. فرمان مع إينازي سيلوني.

كما يتضح ذلك في تحليل خاص قمتُ به لرواية (النخلة والجيران) لغائب ط. فرمان وجدتها تشبه (فونتَمارا) للإيطالي إيناسيو سيلوني، ولا تخفى علينا قصة العلاقة بين الأولى ورواية نجيب محفوظ (زقاق المدق)، فمن تأثر بمن يا ترى؟ أم أنها العلاقات الأدبية "التايبولوجية" أوجه الشبه بينها لتشابه الظروف والبيئات الاجتماعية هي التي مارست فعلها؟

بالتأكيد أن تشابه الظاهرات الاجتماعية يؤدي إلى ظهور نتاجات أدبية متشابهة وليس بالضرورة نتيجة التأثر.

شهدت الخمسينات والستينات انتشار العديد من نتاجات الأدب الغربي، واطلع أدباء هذين العقدين على أعمال فوكنر وجويس وزولا ودوستويفسكي وشتانيبيك وأرثر ميلر وهمنغواي وسارتر وغيرهم الكثيرين أما عن طريق الترجمة أو القراءة المباشرة مما أثر على المستوى الفني لبعضهم من الفنانين الشباب آنذاك، الذين كانوا يسعون إلى إعادة خلق العالم من زوايا مختلفة عن تلك السائدة في أيامهم.429 almazni

وظهر كتاب عرب مثل إحسان عبد القدوس والسباعي والشرقاوي ومحفوظ وحنا مينا وغائب فرمان والطيب صالح والتكرلي وعبد الرحمن منيف ممن كتبوا رواياتٍ فنيةً، ولهذا يقال عنها إنها "متأثرة بالنتاجات الغربية".

وبما أن التأثير يفهم عند العرب تقليدياً، على أنه تقليد وسرقات أدبية، فنرى أن الأدباء العرب أكثر من غيرهم ينئون بأنفسهم عن هذه (التهمة) التي "تهدد" وسمعتهم وأصالتهم الأدبية. ونكرر هنا أيضاً بأن التأثر غالباً ما يُنظر إليه كأمرٍ غير مقبول أو سلبياً في فترته عندما ترفضه جملة العوامل الاجتماعية والبيئية التي يعيش فيها الكاتب بسبب اختلاف الظروف.

ولكن على أية حال، هناك تأثر بالمضمون، كالذي حدث بالنسبة للرومانتيكيين، الذين "استعاروا" موضوعات الحب وإرهاصاته، مثل الحب بين الفقير والغنية أو العكس، أو بين شباب ينتمون إلى فئات مختلفة كما هو الحال في قصص محمد عبد الحليم عبد الله مثل (لقيطة) و(تحت ظلال الزيزفون) و(شجرة اللبلاب) وغيرها من القصص الرومانتيكية، التي تذكرنا بـ (آلام فرتر) لغوته و(رفائيل) للشاعر الفرنسي لا مارتين وغيرهما.

أما موضوعة الفقراء وكفاحهم ضد الأغنياء، فهي بلا شك انتشرت انتشاراً واسعاً لدى الواقعيين بسبب الظروف الموضوعية المتشابهة مع البلدان الأخرى، متأثرين بـ (الأم) لغوركي أو (العقب الحديدية) لجاك لندن، وكانت حالات التأثر مختلفة حسب مستوى الكتّاب العرب فظهرت ما يسمى بالقصص الساذجة بسبب التصوير المباشر والتقريرية، التي لا يزال يعاني منها بعض الأدباء العرب.

الشرقاوي قدم لنا (الأرض) على نحو يختلف كثيراً عن الكتّاب الواقعيين المبتدئين فجمع بين المضمون الواقعي والمهارة الفنية ومقومات الرواية الأوربية، هناك مؤلّفون واقعيون لم يستمروا في الكتابة على نمط الواقعية فانتقلوا إلى تجارب أكثر تنوعاً مع المحافظة على مضامينهم الواقعية فقدموا نتاجات روائية أصيلة مثل أعمال صنع الله إبراهيم والقعيد والغيطاني وعبد الحكيم قاسم من الجيل الجديد الذي ظهر في السبعينات والثمانينات.

استمر كتاب الخمسينات الواقعيون مثل حنا مينا وغائب طعمه فرمان وغالب هلسا وآخرين ضمن هذا الخط، ولكن بأساليب أخرى، ومضامين مختلفة تنطبق عيها تسمية الواقعية الجديدة، أو الواقعية الفنية أو الواقعية المشوبة بالرومانتيكية، فهي فعلاً خليط بين مضامين واقعية ورومانتيكية بسبب ظروف الشرق وتكنيك الرواية الغربية، إذ إنهم (الواقعيون) استخدموا أدواتها إلا أن هذا لا يعني استنساخاً كاربونياً، بأننا لوغيّرنا أسماء شخصيات رواياتهم لحصلنا على نتاجات غربية، فالمحلية لدى أغلبهم قوية وعالم كبير يمارسون رحلاتهم فيه.

وهناك كتاب تأثروا بموضوعات تقع على الضد من المضامين الواقعية مثل الوجودية والفردية والعبثية في بعض الحالات القريبة من أساليب ألبير كامو وكافكا مثل الكاتب اللبناني جورج سالم صاحب رواية (في المنفى) 1962، وكتابات مطاع صفدي وثلاثية سهيل إدريس، التي طرحت الأفكار الوجودية.

اهتم نهاد التكرلي بالأدب الوجودي في العراق، كذلك سار على منواله الروائي فؤاد التكرلي بالأعمال الأوروبية وأعجب ببعض الأدباء، وكتب على طريقة الروائيين الفنيين المهتمين بالتكنيك، لكنه رفض فكرة تأثير فوكنر عليه لأنه أصلاً لم يُعجب به بسبب غموضه، ولكنه أديب يهتم منذ بداياته الإبداعية بالأدب الرمزي والتعمّق في وصف الشخصية من الداخل، قد يكون قبل اطّلاعِه على الوجودية.

لكن جبرا إبراهيم جبرا هو أكثر من أهتم بهذا النوع من الأدب، وبخاصة روايات وليم فوكنر فترجم (الصخب والعنف) ونشرها في بغداد عام 1961 وقرأها أغلب كتاب تلك الفترة وأعجب بها قسم منهم مثل غسان كنفاني بينما أنكرآخرون هذا الإعجاب أو التأثر بها، لكن يبدو واضحاً أن الجو العام الذي يحيط أعمال التكرلي وجبرا إبراهيم جبرا يختلف عن أجواء روايات عراقية أخرى لكتّاب واقعيين تتميز لغتهم بالوضوح والبساطة أحياناً.

سبق وأن أشرنا إلى (ظلال على النافذة) لغائب طعمه فرمان و(الصخب والعنف) لفوكنر التي قد تكون "أثرت" تكنيكياً فيها و(شرق المتوسط) لعبد الرحمن منيف و(الرجل الذي فقد ظله) لفتحي غانم. وكانت هذه الفكرة تتردد كثيراً في الصحافة العربية في السبعينات.

وهناك من يرى أن الراحل فؤاد التكرلي متأثر بنتاجات الوجوديين والغربيين، لكنه أكّدَ لي شخصياً في لقاءاتنا اليومية أثناء إقامته المؤقتة في دمشق، رفضَه لتأثره مثلاً بفوكنر لأنه أصلا لم يعجب برواياته!

هناك فرق كبير بين التأثر بنتاج غربي معيّن والكتابة على منواله وأسلوبه المتجسّد في الجو العام أو الموضوعة والشكل والتكنيك. يبدو هذا النوع من الروايات الفنية العالية لبعض التقّاد أنها كُتبت بفضل "التأثر" بالأدب الغربي، لكن هذا الأمر يحتاج إلى إثباتات أكثر دقة، وأوجه الشبه وحدها غير كافية.

ولكن هذا لا يعني بأن هؤلاء لمجرد أن قرأوا هذه الروايات الغربية تأثروا بها وكتبوا على منوالها، فهناك ذات الكاتب الإبداعية ووعيه وشخصيته وذات أخرى مستقلة "صورة الكاتب" تظهر أثناء عمله في مشغله هي التي تلعب الدور الحاسم في عملية الإبداع الأدبي وهي التي تظهر في حقيقة الأمر درجة مهارته وقدرته على الخيال والتصوير.

على الرغم من أن بعض النقاد العرب حاول ويحاول إعادة أصل النوع الروائي إلى التراث العربي، إلا أن هناك روايات عربية عديدة تثبت عكس ذلك، وتؤكد متابعة الكتاب العرب للتكنيك الغربي والمواظبة على ممارسته. ولم يصل الروائيون العرب إلى المونولوج إلا بعد مجهود كبير وفترة طويلة اطلعوا خلالها على أعمال كبار الأدباء الغربيين.

ولهذا فإن أغلب ما ظهر قبل نجيب محفوظ هو محاولات على طريق الرواية الفنية، وخطوات تمهيدية لم يكن للروائي العربي بدونها أن يصل إلى رواية اليوم المعاصرة المتميزة بالأصالة والفنية والقدرة على الاستيعاب والخلق والممارسة اللغوية ذات النغمات المتعددة.

هذه هي أهم خطوط العلاقة بين الرواية العربية والغربية، ولا بدّ للباحث في الأدب المقارن من توخي الحذر والدقّة عند مقارنتة للنتاجات العربية بالغربية لكي يجد التأثيرات الملموسة، وليس إطلاق الآراء "التعسفيّة" كما وصفها أكثر من روائي. في الثمانينات والتسعينات انتشرت الأعمال الروائية المترجمة من الإسبانية مثل روايات ماركيز وأمادو وغيرهما، وبلا شك أن هذه النتاجات جنباً إلى جنب مع الأعمال الأخرى المترجمة مارست حضورها في العملية الأدبية قد تكون مادةً مهمّةً لبحث موضوعات التاثير والتأثّر بين النتاجات الإبداعية.

***

الدكتور زهير ياسين شليبه

.........................

الهوامش:

نكتفي هنا بالإشارة إلى أهم الكتب، التي تُعد مصادر رئيسة في هذا المجال.

1- أبا عوض أحمد والمغاربي عبد اللطيف. الحركات الفكرية الأدبية في العالم العربي الحديث. المغرب 1979

- وانظر: د. أحمد هيكل، تطور الأدب الحديث في مصر من أوائل القرن التاسع عشر إلى قيام الحرب العالمية الثانية، ط2، 1971، القاهرة، محمد عبده الأعمال الكاملة، تحقيق د. محمد عمارة.

- د. عمر الدسوقي، في الأدب الحديث، ج1 -2، ط ح، 1980

2-  انظر د. لويس عوض، المؤثرات الأجنبية في الأدب العربي الحديث، ج1 قضية المرأة، ج2 في الفكر السياسي والاجتماعي ط4 دار المعرفة 1966.

- وانظر: د. محمد الكتاني، الصراع بين القديم والجديد، الرباط، 1982.

- أندريه ميكال، الأدب العربي، تونس، 1979، الفصل 1 عن الطهطاوي، فصل 2 بطرس البستاني

3- انظر حول هذا الموضوع: د. محمد الكتاني، الصراع بين القديم والجديد، الفصل التاسع

- د. شوقي ضيف، الأدب العربي المعاصر في مصر، القاهرة، ط4، 1971

4-  نشر عبد القادر المازني عام 1912 مقالاً في صحيفة (الجريدة) انتقدَ فيها حافظ إبراهيم وشوقي "شعرهم كلام منسجم وأسلوب رائع ولفظ شائق ... لكن شعرهما يفتقد إلى روح وشخصية الشاعر وروح العصر".. وفي عام 1914 كتب المازني مقالات في صحيفة (عكاظ) جمعها في كتابه (شعر حافظ) وفضل فيها شكري عليه. وفي عام 1921 صدر الديوان بالاشتراك مع العقاد حيث كرسا فصولا طويلة لنقد العقاد لشوقي، والمازني لحافظ إبراهيم.

هذه المراجع متوفرة في طبعات مختلفة.

5- لا أرى ضرورة لكتابة عناوين النتاجات الروائية العربية والغربية فهي معروفة للقارئ المتخصص وغير ضرورية للقارئ العادي، لا سيما وأنها كثيرة في هذا المقال الصحفي الموجز.

 

بقلم: ليديا مولاند

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

على الرغم من سمعة نيتشه في كراهية النساء، إلا أن أعماله ألهمت ناشطة بارزة في مجال حقوق المرأة في أوائل القرن العشرين.

***

يعد كوستين ألاماريو، وهو على الأرجح صاحب الاسم المستعار "منحرف العصر البرونزي"، إضافة جديدة إلى القائمة الطويلة من الشخصيات السياسية اليمينية ذات وجهات النظر العالمية الكارهة للنساء.كتب: "لقد استغرق الأمر 100 عام من وجود النساء في الحياة العامة حتى يتمكن من تدمير الحضارة بالكامل تقريبًا". ولاستبدال هذا الجنس الأنثوي، يدعو إلى "طبقة من الرجال الذين سيكونون قادرين على قيادة المجتمع نحو نحو أخلاقيات تحسين النسل" كما ادعى ألاماريو وجود أساس فلسفي لهذه النظرة العالمية. فى أعماله، المنشورة في وسائل التواصل الاجتماعي والكتاب المنشور ذاتيًا بعنوان "عقلية العصر البرونزي" (2018)، مستوحى من الفيلسوف الذي اشتهر بكراهية النساء: فريدريك نيتشه. كان نيتشه يشتاق إلى الإنسان المتفوق الذي يقلب الأخلاق التقليدية رأساً على عقب ويحرر الأقوياء من قيودها الخانقة. كان هذا الشوق يقترن أحيانًا بكراهية واضحة للنساء اللاتي اللاتي يقفن في طريق الرجال، مما يتطلب منهن أن يكونن عطوفات ومروضات بدلاً من التهور والقوة. يبدو أن هذا الاقتران يتناسب مع آراء ألاماريو، مما أكسبه امتياز تمثيل "الهامش النيتشوي" من المتطرفين المحافظين.

وما النساء في المجتمع الذي عاش فيه نيتشه وشتوكر، إن لم يكن الضعيفات؟

إن سمعة نيتشه الكارهة للنساء ليست جديدة: فقد كانت راسخة ونوقشت طوال حياته. لكن هذا لم يمنع امرأة ذكية للغاية من تبني قضية نيتشه ، ومن عجيب المفارقات، القيام بذلك باسم تمكين المرأة. إن احتضانها لنيتشه جعلها واحدة من أقوى النسويات الألمانيات في جيلها. كما سمح لها بتمكين نيتشه وهذه المثيرة للشفقة لانتصار الأقوياء.

ولدت هيلين شتوكر عام 1869 في ظل القيود الخانقة للاحترام البرجوازي الألماني. بعد أن كانت غاضبة من القيود الدينية والثقافية عندما كانت مراهقة، اكتشفت نيتشه في سن الحادية والعشرين. وكتبت بعد عقود: "من هذه اللحظة فصاعدًا... اهتمامي، وفرحتي، وإثراءي من خلال نيتشه... لم يتوقف أبدًا" (جميع ترجمات شتوكير كتبها ليديا مولاند). "لا أشعر بنفسي مرتبطًا بشدة بأي روح فانية أخرى." وجدت في نيتشه ازدراءًا لاذعًا للمعايير التي عفا عليها الزمن، ورؤية لإنسانية متحررة من التقاليد، وحضًا على أن تكون على طبيعتك، مهما كان الثمن. وكتبت: "أنا مدينة له بامتناني الخاص لتحريرنا من الدوغمائية والقانونية، ولسماحه لأولئك الذين يعيشون على ثروته الكبيرة بالحرية الداخلية لتطوير كيانهم". في عام 1901، دافعت شتوكر عن أطروحتها حول الجماليات الفلسفية، مما جعلها واحدة من أوائل النساء الألمانيات اللاتي حصلن على درجة الدكتوراه. في المحاضرات والمقالات، بدأت في الترويج لفكر نيتشه، وساعدت في إخراجه من الهوامش الأكاديمية المخزية إلى المكان المركزي في الشريعة الفلسفية التي يتمتع بها الآن.

مثّلت كراهية نيتشه للنساء مشكلة. في كتابه "في أصل الأخلاق" (1887) وأعمال أخرى، تصور مجتمعًا من النخب غير مقيد بالتعاطف مع الضعفاء، وغير مقيد بالروابط التقليدية. وما  النساء في المجتمع الذي عاش فيه نيتشه وشتوكر، إن لم يكن الضعيفات؟ ألم تكن مطالبتهن بإخلاص الرجال ولياقتهم عائقاً خانقاً أمام قوتهن الطبيعية؟ ألم تعق حاجتهن إلى الحماية «إرادة القوة» التي كانت الشيء الوحيد، بحسب نيتشه، الذي يمكن أن ينقذ الناس من انحطاطهم؟

يبدو أن شتوكر لم تشك قط في قدرتها على المطالبة برؤية نيتشه للحرية لنفسها ولجميع النساء. وفي وقت مبكر من عام 1892، بدأت باستخدام نيتشه للقول إن إزالة قيود المجتمع من شأنها أن تسمح للمرأة بأن تصبح حرة وقوية. لقد نسبت إليه الفضل في تدمير أخلاق الزهد التي ادعت أنها تجد "شيئًا فاسدًا وغير طاهر" في النساء. وأثنت على كراهيته للوداعة والرضا عن النفس، وحثت قراءها على أن "الوقت قد حان لنضال جديد ومبهج وبدلاً من القيود التقليدية، تصور ستوكر «أخلاقًا جديدة» قوامها القوة والمتعة. وكتب أن هذه الأخلاق الجديدة لم تعد بأقل من "إنسانية جديدة - رجال ونساء - بشر نيتشه المتفوقين، الذين يُسمح لهم بقول نعم للحياة ولأنفسهم". "أعتقد اعتقادا راسخا أن الوقت قد حان لكي تكون النساء أكثر وعيا بهذه السعادة القصوى التي لا يستحقها إلا البشر." كانت تعلم أن هذا كان جريئًا. وتحدت قراءها: "هل تقول إننا نطلب الكثير؟". وأكدت لهم: "أوه، نحن لا نطالب بذلك". "نحن نأخذها لأنفسنا: الطريقة المعقولة الوحيدة لإضفاء الشرعية في العالم."

ومع ذلك، كان ازدراء نيتشه للنساء محرجًا. تناولت شتوكر المشكلة بشكل مباشر. في مقال نشرته عام 1901 بعنوان «كراهية نيتشه للنساء»، اعترفت بأنه غالبًا ما كان يهاجم النساء، وخاصة الذكيات منهن، ويهدد بإحضار السوط عندما يزورهن. لكن الأحمق وحده، كما تزعم، هو الذي قد يفشل في رؤية أن نيتشه كان يقصد ذلك على نحو مثير للسخرية. وهي تعترف بأن نيتشه عرّف سعادة الرجال بأنها الإرادة الخالصة، وسعادة النساء، على النقيض من ذلك، هي إخضاع أنفسهن لإرادة الرجال. ومع ذلك، فهي تصر على أن هذا ينطبق فقط على النساء المشوهات من قبل المجتمع الفاسد الذي استنكره نيتشه. وتشير إلى فقرات يتخيل فيها نيتشه نساءً "نبيلات، متحررات العقل" "يناضلن من أجل رفع مستوى جنسهن". وتؤكد لنفسها أن نيتشه "تحدث بكلمات جادة ورائعة عن النساء... لدرجة أننا يمكن أن نسمي أنفسنا سعداء، إذا كان كل الرجال أعداءً للنساء" .ومع اكتمال تبرئة نيتشه من سمعته، عادت شتوكر إلى توضيح "دين الفرح" عند نيتشه... الذي يحول كل شيء أرضي إلى شىء متألق [و] إلهي" وإلى التخمينات اللاهثة حول "أي نوع من البشر سيصبح ممكنًا على هذا النحو!"

سعيًا وراء هذه الإمكانية المسكرة. فعلت شتوكر ما يبدو أقل شيء نيتشوي ممكن: ذهبت للعمل لمساعدة الضعفاء. أصبحت واحدة من أبرز الناشطات النسويات في جيلها، وكرست حياتها للقضاء على الظروف البائسة التي أبقت النساء في حاجة وتبعية. ناضلت من أجل الوصول إلى الإجهاض، وإجازة أمومة مدفوعة الأجر، والحماية القانونية للأمهات العازبات. نشرت اعتراضات قوية على القواعد التي تسمح للرجال بزيارة البغايا، لكنها طالبت بعفة النساء، ثم نبذت النساء بسبب الأمراض المنقولة جنسيا التي أصبن بها من أزواجهن.  أصبحت محاضرة معروفة عالميًا، مستخدمة رؤيتها للأنوثة المتحررة للدفاع عن ظروف عمل أفضل للنساء بالإضافة إلى وصولهن إلى التعليم العالي. وما أثار رعب حلفائها الأكثر تحفظا هو أن شتوكر دعت أيضا إلى الحرية الجنسية والإشباع الجنسي، زاعمة أن الحب المحقق بالكامل ــ الجسدي والروحي ــ هو الذي يمكن للمرأة أن تحقق إمكاناتها النيتشوية. ساعدت في تأسيس رابطة حماية الأمهات والإصلاح الجنسي وتحرير المجلات التي تعبر عن آراء المجتمع. في مقال تلو الآخر، زعمت أنه يجب السماح للنساء باختيار متى ومع من تنجب أطفالًا، ويجب تزويدهن بالرعاية الصحية التي من شأنها أن تسمح للأطفال بالنمو. وكتبت: "أتباع الأخلاق الجديدة يطالبون بأن تكون كل أم ألمانية قادرة على تغذية طفلها". وأضافت أنه لتحقيق هذه الغاية، “يجب أن تكون هناك شروط قانونية أساسية” لازدهار المرأة.

على الرغم من نسوية ستوكر التقدمية، إلا أن نظرتها للعالم أصيبت بموضوع نيتشوي أكثر قتامة والذي يتردد صداه أيضًا في كتابات ألاماريو. كانت ستوكر جزءًا من الجناح "الاجتماعي الراديكالي" لحركة تحسين النسل: وهي مجموعة ضمت ناشطات نسويات يرغبن في ضمان إنجاب النساء لأطفال "طبيعيين" أصحاء. وكان هذا أيضًا جزءًا من فكرة "الإنسانية الجديدة" النيتشوية التي ستكون خالية من المرض والتشوه. لم تدعو ستوكر صراحةً إلى التعقيم القسري أو القتل الرحيم. ولم تكن، على حد علمي، من دعاة تحسين النسل العرقي. لكنها أعطت مساحة في مذكراتها للآخرين الذين كانوا كذلك، واقترحت هي نفسها أن «المجتمع يجب أن يمنع الحمل» بين أولئك الذين يعانون من أمراض وراثية. وفي عالم أنشأته أخلاقياتها الجديدة، تخيلت أيضًا أنه سيكون من الضروري «إيجاد وسائل لمنع المرضى الذين يعانون من أمراض غير قابلة للشفاء أو المرهقين بسبب التكاثر ». كما أن استخدام ستوكر للمصطلحات النيتشوية التي استولى عليها النازيون لاحقًا، مثل الإنسان الأعلى والنظرة العالمية، كان له تأثير أيضًا على تشويه سمعتها كما أن صداقتها التي دامت طيلة حياتها مع شقيقة نيتشه، القومية الآرية إليزابيث فورستر نيتشه، ينبغي أن تجعلنا نتوقف جدياً.

سوف يسارع بعض علماء نيتشه إلى الرد بأن كل هذا غير عادل لنيتشه. لكن نيتشه غالبا ما يحصل على تصريح مجاني. الفلاسفة الذين أقدرهم يكتبون بشكل مؤثر حول كيف يمكن لنيتشه أن يساعدك على تحقيق الذات، أو التغلب على الاكتئاب، أو أن تكون متعاونًا بشكل أفضل في العمل. قد يبدو نيتشه الذي تم تصويره على هذا النحو وكأنه ليس أكثر من مجرد مدرب ودود للمساعدة الذاتية، يشجعك على أن تكون صادقًا مع نفسك، مهما كان ما يقوله رئيسك أو شريكك أو المجتمع. صحيح أن هذا النوع من الإلهام يمكن العثور عليه عند نيتشه. وصحيح أيضًا أن القانون الفلسفي سيكون أكثر فقرًا بسبب غيابه. ومع ذلك، يجب علينا أن نعترف أيضًا بأن فلسفته توفر أرضًا خصبة لهذا النوع من عبادة البطل الاستبدادية التي يمثلها ألاماريو وأن النشطاء والمدونين المحافظين اليمينيين المتطرفين ينشرون بنشاط إلى جمهور متزايد.

وكجزء من تحليله لألاماريو ومكانته بين المثقفين اليمينيين في صحيفة نيويورك تايمز، يحذر الصحفي دامون لينكر من أنه "من الصعب معرفة مدى جدية التعامل مع كل هذا". يبدو أن ألاماريو أحيانًا ما يكون كاريكاتيريًا وساخرًا عن عمد، ويكسر قواعد الجدل تمامًا كما يريد كسر النظام الاجتماعي. وربما تعلم هذا من نيتشه أيضا، ولكن مزيجه من الأساطير والسخرية والطيش أكسبه إعجاب العديد من الطلاب الجامعيين ــ وخاصة، في تجربتي، الطلاب الجامعيين الذكور.

إن تبنى شتوكر للمصطلحات النيتشوية التي استولى عليها النازيون لاحقًا قد شوه سمعتها أيضًا.

ومن المهم أن نلاحظ أن شتوكر نفسها لم تأخذ المخاطر الواضحة في رؤية نيتشه للهيمنة النخبوية على محمل الجد بما فيه الكفاية. ومع استمرارها في العمل من أجل تحرير المرأة بعد الحرب العالمية الأولى، بدأ الفاشيون الألمان في استخدام نيتشه للدفاع عن عصر «ما بعد الليبرالية». لقد أطلقوا على "الأرستقراطيين الطبيعيين" اسم "المتحدرين الروحيين" مثل بينيتو موسوليني وأدولف هتلر نيتشه. بدأ ألفريد بوملر، باحث نيتشه الرسمي في الرايخ الثالث وأستاذ الفلسفة في برلين، في الدفاع عن ما وصفه ستيفن أشهايم بأنه «إعادة تأكيد نيتشوية للقيم الذكورية البطولية والمجتمعية». هذا النوع من الحجج جعل شتوكر، التي تجرأت على تطبيق فلسفة نيتشه التحررية على النساء، منبوذة. ولسمعتها العالمية كمدافعة عن حقوق المرأة أدركت أنه عندما يصل النازيون إلى السلطة في عام 1933، سيكون اعتقالها وشيكًا. وبين  يوم وليلة، هربت: أولاً إلى سويسرا، ثم إلى إنجلترا، ثم إلى السويد. مع اقتراب الجيوش النازية، استقلت أخيرًا خط السكة الحديد العابر لسيبيريا عبر روسيا وباخرة من اليابان إلى سان فرانسيسكو. وبعد عقد من المنفى، توفيت لاجئة فقيرة في مدينة نيويورك. وعلى بعد محيط من المحيط، استمرت النخب الملهمة بنيتشه في السعي وراء نسخة من "الإنسانية الجديدة" التي كادت أن تدمر حضارة: ليس في غضون 100 عام، كما يزعم اتهام ألاماريو لسلطة المرأة، ولكن خلال العقد القصير الأخير من حياة هيلين ستوكر العاطفية المستوحاة من نيتشه.

***

..........................

المؤلفة: ليديا مولاند/Lydia Moland: ليديا مولاند أستاذة الفلسفة في جامعة جون دي وكاثرين تي ماك آرثر في كلية كولبي في واترفيل بولاية مين.  تشمل كتبها:  ليديا ماريا تشايلد: حياة أمريكية راديكالية (2022)، جماليات هيجل: فن المثالية (2019) المحررة لمجموعة (كلها إنسانية للغاية): الضحك والفكاهة والكوميديا في فلسفة القرن التاسع عشر (2018). وهي أيضا محررة مشاركة لكتاب أكسفورد القادم عن الفلاسفة الأمريكيين والبريطانيين في القرن التاسع عشر.

* ولدت هيلين شتوكر في 13 نوفمبر 1869 ونشأت في عائلة كالفينية متشددة في فوبرتال بألمانيا. كان تعليمها وتدريبها المهني، كما هو متوقع، محافظًا. وفي عام 1893 اجتازت امتحان المعلمين في المدارس الثانوية للبنات. حررت نفسها في منتصف العشرينات من عمرها: كانت واحدة من أوائل الإناث المقبولات في دورات التدقيق، ودرست التاريخ الأدبي والفلسفة والاقتصاد في جامعة برلين. لكن لم يكن مسموحًا للنساء بعد بالحصول على شهادة جامعية، لذلك ذهبت شتوكر إلى غلاسكو ثم إلى برن، لتصبح واحدة من أوائل الإناث اللاتي حصلن على درجة الدكتوراه في الأدب، في عام 1902. أصبحت ستوكر واحدة من أهم الأصوات في الحركة النسائية التي كانت تزداد قوة في ذلك الوقت، ودافعت عن قبول النساء في الجامعة، وناضلت من أجل تحررهن الجنسي. وفي وقت لاحق من حياتها، أصبحت من دعاة السلام بشدة ومعارضة للخدمة العسكرية. بعد وصول الاشتراكيين الوطنيين إلى السلطة، أصبح الوضع صعبًا بالنسبة لها: ففي عام 1937، تم تجريدها من جنسيتها ودرجة الدكتوراه، وم الاستيلاء على حسابها البنكي، ووضع كتاباتها على قائمة "المطبوعات الممنوعة وغير المرغوب فيها". وأحرقت مخطوطاتها. تمكنت ستوكر من الهجرة إلى سويسرا ومن ثم إلى الولايات المتحدة حيث توفيت بعد ذلك بوقت قصير فى عام 1943 .

وما النساء في المجتمع الذي عاش فيه نيتشه وشتوكر، إن لم يكن الضعيفات؟

إن تبنى شتوكر للمصطلحات النيتشوية التي استولى عليها النازيون لاحقًا قد شوه سمعتها أيضًا.

رابط المقال على سايكى /Psyche 29 فبراير 2024

https://psyche.co/ideas/how-the-feminist-philosopher-helene-stocker-canonised-nietzsche

 

لا يكاد يخلو عصر من العصور من جهودٍ لعلماء وباحثين في شؤون العلم والدين . ففي وقت لم يكن فيه العلم متمكناً من تقديم اجابات مقنعة، كان الدين حاضراً في تصورات الناس واعتقاداتهم . ثم جاء وقت انحسرت فيه قدرة البحث الديني عن تقديم اجوبة مقنعة أمام ما يحرزه العلم من انجازات جذبت الأذهان والنفوس اليها، ففي نهاية القرن التاسع عشر مثلاً كانت الآراء لصالح غلبة العلم في قدرته على اعطاء وصف مقنع للحياة واجابات كافية لأسئلة اثارتها طبيعة الاحداث . في هذا الصدد يذكر الكاتب المصري عباس محمود العقاد في كتابه (آراء المفكرين في القرن العشرين) ان جيمس فنز جيمس ستيفن كتب في سنة 1884م يقول: (اذا كانت الحياة الانسانية في نشأتها قد استوفى العلم وصفها فلست أرى بعد ذلك مادة باقية للدين، إذ ماهي فائدته وما هي الحاجة اليه ؟ إننا نستطيع ان نسلك سبيلنا بغيره، وان تكن وجهة النظر التي يفتحها العلم لا تعطينا ما نعبده فهي كفيلة ان تعطينا كثيراً مما نستمتع به ونتملاه) (1). وعن القرن العشرين يقول عباس محمود العقاد (نحسب اننا نجمل سمة القرن العشرين اصدق إجمال حين نقول: انها هي سمة الشك في الإنكار) .. ويقول العقاد (فليس من صحة الحكم ولا من صدق النظر ان يقال ان سمة الإيمان غالبة على القرن العشرين أو بينة الأثر فيه، ولكنه صحيح ولا ريب ان يقال ان المنكر في القرن العشرين لا يستطيع ان يستند الى اسباب من العلم يسلمها المفكرون كما كانوا يسلمون اسباب الإنكار في القرن السابع عشر، او القرن الذي يليه الى اوائل هذا القرن الذي نحن فيه) (2).

كان الأثر الذي خلفه اكتشاف كوبرنيكوس حول الأرض صادماً للمتلقين الذين يسيطر العقل الديني على تفكريهم لأن الارض في اعتقادهم مركز الكون، بينما هي كوكب صغير في مجموعة شمسية ضمن سلسلة كبيرة من المجموعات قد يصل عددها الى الآلاف في اعتقاد كوبرنيكوس .

ترى كيف هو تصور انسان اليوم في القرن الحادي والعشرين حيث التطور التقني المتسارع وثورة المعلومات والتدفق الهائل للبيانات، وهو يسمع تحليلات وتوقعات علمية تتحدث عن تهديد يتوعد الحياة على هذا الكوكب الصغير؟.

بالأمس كان لمذهب النشوء والارتقاء لـ (دارون) اثره السلبي في النفوس عندما عرف الانسان بالحيوان الناطق، وان نشوءه وتطوره لا يختلف عن الكائنات الحية الأخرى .

اليوم وفي مجال الذكاء الاصطناعي هناك مشاريع تعمل على انتاج روبوت يعيش مع الانسان، ومشاريع اخرى تعمل على تقنية متطورة لدمج الانسان بالآلة . فكيف سيكون تصور الانسان للدين في القرن الواحد والعشرين وعن حاجته اليه، اذا دخلت الروبوتات الصغيرة الدقيقة الذكية الى جسمه وراحت تنظم مستوى السكر في دمه وتنظم ضربات القلب وضغط الدم ولزوجته، الخ.. . يضاف الى كل ذلك ما تتناقله وسائل الإعلام ومراكز الابحاث من معلومات حول برامج ومشاريع عالمية تهدف الى تعميم ثقافة واحدة يفرضها الأقوى والأقدر اقتصادياً وعسكرياً وتقنياً، فأي تصور عن الدين سيكون عندئذ في ظروف لا يتوافر للناس فيها غير الإذعان لواقع الحال والقبول بالتبعية للأقوى ضماناً للبقاء .

لعلي لا أقلل من شأن الجهود المبذولة في دراسة تقارب الحضارات وحوار الحضارات اذا قلت انها مشاريع لا ترمي الى وحدة النوع الانساني بقدر ما ترمي الى جمع المتشابهات واعادة بثها من خلال مركز القوة الأكبر عالمياً بهدف إلغاء وتذويب الخصوصيات التي تتسم بها كل ثقافة، لكي يصبح الجميع تبعاً لحضارة جديدة واحدة على وفق تلك المشتركات، اذا اخذنا في نظر الاعتبار ان كثيراً من الجامعات العالمية الرصينة لا تقوم بأبحاث كبيرة مثل حوار الحضارات ووحدة الأديان وغيرها إلا بتمويل وإيعاز أو بطلب من جهات عالمية متنفذة، لها مآربها التي تريد ان تحققها من خلال النتائج التي يتوصل اليها العلماء .

واذا كانت ثنائية الخير والشر قد هيمنت على اجواء القرن العشرين بسبب تذمر الناس من الحروب العالمية بما نتج عنها، فإنني اعتقد ان ثنائية الوهم والحقيقة هي التي تهيمن اليوم على اجواء القرن الواحد والعشرين، فقد قدّمت التقنية المتطورة تعريفات جديدة لمفاهيم الحرية والكرامة والشخصية، وصارت هذه المفاهيم تتحرك وتعرف في مجال المال والاعمال ومشاريع الاقتصاد السياسي العالمي .

ارتبط ايمان عامة الناس بالدين من خلال حب الحياة المرتكز على ثنائية الرزق والعافية، فكانت حياتهم بسيطة حتى القرن العشرين تقريباً، إذ كان للقناعة فعلها المؤثر، وللقول (رزق قليل دائم خير من كثير منقطع) ما يعزز تلك القناعة، فكان الناس في العالم العربي الإسلامي يقبلون بالقليل ويقنعون باليسير، وكانت الطبيعة أكثر رفقاً بصحة الانسان منها اليوم إذ لم تسجل الارتفاع في عدد الامراض والاوبئة الذي تسجله اليوم . خدم ذلك حضور البعد الروحي للدين في تفاصيل حياة الناس، فكانت الاخلاق والالتزام الديني سمة بارزة في الهوية الشخصية للفرد العربي . فماذا عن الدين في تصورات الناس في القرن الواحد والعشرين وهم يقرأون ويسمعون عن اجندات ومشاريع عالمية تمول ابحاثاً علمية لانتاج اوبئة وفيروسات الكترونية وبيولوجية لحمل الناس على شراء اللقاحات والعلاجات التي تحميهم من الإصابات المحتملة بتلك الاوبئة المفتعلة ؟ لا شك انه امر مقلق .

ان قدرة الناس على التعامل مع التطورات المرحلية التي يترتب عليها المساس بالدين ، أو محاولة تغييره كانت كبيرة في الماضي بحكم الظروف المرحلية للبيئة المحلية والاقليمية والعالمية، كلها اجمالاً كانت الى جانب الحضور الفعال للبعد الروحي للدين في مفاصل الحياة . أما اليوم فقد أخذت طاقة تحمل الناس تتراجع عما كانت عليه بالامس، فالصبر لم يعد سلاحاً مؤثراً كما في السابق لأن ادوات العصر الجديد اختلفت عن السابق، هي اليوم اكثر تطوراُ وفاعلية وجاذبية . فعصر التقنية المتطورة قد لا يدعم تغييب الدين في حياة الناس لكنه بكل تأكيد يدعم وبقوة فاعلية حضور العلم المادي ويبشر بقدرته على حل جميع مشاكل الناس، فبرامج الذكاء الاصطناعي تعمل على توفير حلول مقبولة تناسب ظروف كل مرحلة، وان كانت تلك الحلول لا تتوافق مع المنطق الاخلاقي والديني والانساني  المسلّم به، وهذا بحد ذاته كاف لكثير من الناس الذين لم يعودوا يسألون ان كان مهماً تحقيق هذا التوافق ام لا، فالوضع العام اقتصادياً وثقافياً لم يعد يتقبل مفاهيم الدين والقيم والاخلاق والمثل العليا الا في الحدود التي لا يتقاطع تفعيلها مع المصلحة الخاصة . والذين لا يزالون يعتقدون بالدين والقيم والمثل العليا والاخلاق ويدافعون عنها بدأوا يشعرون بالغربة داخل مجتمعاتهم واوطانهم ولعلهم يعيشونها فعلاً، إذ لم يبق لهم في عصر السرعة وازدياد متطلبات الحياة سوى المجاملات الاجتماعية والثقافية وسيلة للتعامل مع الآخرين .

في إطار معطيات العصر الجديدة لم يعد الواقع قادراً على توفير أرضية خصبة للتفكير الموضوعي، كما ان البحوث الدينية لم تقدم ما يثير الفرد والمجتمع ويدعوهم الى التثبت والتشبث كما تفعل البحوث العلمية ومخرجات عصر التقنية الرقمية متسارعة التطور.

كان الذوق العام يشكل قوة كبيرة مانعة لحركة السلوكيات الشاذة والمنحرفة والغريبة، وكان الذين يعلنون عن مواقفهم وعواطفهم الغريبة او الشاذة يجازفون بحياتهم كونهم يعرضون النسيج الإجتماعي والبناء الإجتماعي الى الأذى والضرر . اما في عصر التقنية فبعد ان اخذ مفهوم الحرية مساحة فهم مرنة جداً عبر وسائل التواصل الإجتماعي فقد تجرأ كثير من الناس على استخدام تلك التقنية للتعريف بهواهم وميولهم وافكارهم وعواطفهم ومواقفهم دون اعتبار لما يمكن ان يلحقه ذلك من ضرر بالذوق العام للمجتمع، فانتشرت المحتويات الهابطة على مواقع التواصل الإجتماعي، منها ما يعرّض كرامة وسمعة وشرف صانع المحتوى الى الانتقاص بدافع نشر الغريب والمثير من أجل كسب اكبر عدد من المعجبين والمتابعين وهو ما يضمن كسباً مالياً اكثر بحكم سياسة عمل شركات الإنتاج الالكتروني المصنعة لتلك التطبيقات الالكترونية، ومضى الحال ببعض المحتويات الهابطة افتعالها الأكاذيب ونسبتها الى أشخاص والى مصادر معتبرة من الكتب والكتاب والمفكرين، مستغلين ضعف الإرتباط بين مجتمع اليوم وبين حقيقة ثقافته من جهة، والإعتماد الكلي لكثيرين على شبكة الإنترنت في استحصال المعلومات كمصدر وحيد بالنسبة لهم . وبرزت هنا مشكلة ثقافية خطيرة تتمثل في اقتحام بعضهم منصات التواصل والتطبيقات الرقمية لبث افكار مغلوطة أو مموهة أو منقوصة، واحياناً لتقديم افكار غريبة ذات صلة باعتقادات متأصلة في ثقافة العقل العربي عبر طروحات معتبرة يعاد صياغتها لعرضها على المتلقي على انها طروحات علمية وفكرية وثقافية واجتماعية، وهنا قد تدخل الخطورة على خط البث المباشر عندما تكون هناك اجندات تحركها شركات عابرة للانسانية تريد اعادة هيكلة الوجود البشري في اطار رقمي تقني يرتكز على ثنائية الانتاج والاستهلاك فقط دون اعتبار أو اهمية لمشروع انسنة الوجود البشري في العالم الرقمي .

في عصر التقنية المتطورة لا مجال لتعريض إيمان الآخرين الى التشكيك ما داموا لا يرون انفسهم خارج دائرة فكرة الإيمان وان اظهروا سلوكيات أو افكار قد تضعهم موضع الشك، لذا نحن بحاجة اليوم في واقعنا الثقافي الديني والعلمي الى نقد يتجاوز فكرة الإيمان ليصل الى نقد فكرة التعبير عن ذلك الإيمان .

يقول السير آرثر إدنتجون في كتابه (فلسفة العلم الطبيعي) (نحن حتى في العلم ندرك ان المعرفة ليست بالأمر الوحيد الذي نعتد به، ونسمح لأنفسنا ان نتحدث عن روح العلم .. وان اعمق من كل قضية من قضايا النكران لهي العقيدة التي هي قوة خالقة اهم مما نخلقه .. وفي عصر العقل تظل العقيدة راجحة لأن العقل بعض مادة العقيدة) .

عندما يتحرك العقل المعاصر بدافع القوة المادية للتقنية المتطورة في مناقشة أفكار وآراء وإعتقادات يدخل فيها البعد الروحي فإنه يعرض نفسه الى الخطر حين يسأل عن كيفية إثبات حقيقة الوحي تحت المجهر العلمي ولمّا تعذّر عليه ذلك انحرف عن حالة التوازن باتجاه حالة القلق الباعثة على الشك، وراح يترجم اضطرابه على شكل استفهامات عن حقيقة اتصال الأنبياء بالله عن طريق الوحي الذي لم يثبت له وجود في مختبرات العلم المتطور في عصر التقنية . لقد حصل هذا بالفعل وهو وان كان على نطاق محدود لكن لا يوجد في فضاء العالم الرقمي ما يمنع اتساعه . لذا يدعونا حسّنا الثقافي الى تحمل مسؤولية ما سيخيم على مناخ مستقبل ابنائنا من اعتقاد وتفكير خصوصاً وان انسان اليوم لم يعد يكترث للصورة التي كان عليها في الماضي بقدر انشغاله بالصورة التي سيكون عليها غداً في ظل مشاريع الذكاء الاصطناعي المثيرة والجذابة التي تعده بقدرتها على منحه العمر الذي يريده في حياته، وتشتغل بفاعلية كبيرة من اجل ان توفر علاجات لتقدم العمر .

يحتاج الواقع الثقافي الديني والواقع الثقافي العلمي الى علم موضوعي جديد يتناسب مع المتغيرات العالمية في كل المجالات، فعندما يتفق العلماء على ان حياة الانسان لم تخل في اي مرحلة من مراحلها من وجود دين فيها . كما يتفق العلماء على ضرورة العلم في تطور حياة الانسان، فإنني أرى ان هذا الاتفاق والتوافق لا يمكن ان يحدث في حدود العمر الزمني للانسان فقط دون عمره النفسي، كما ان الشخصية بشكل عام لا يمكن ان يحددها المظهر الذاتي للشخص دون المحتوى الموضوعي له . فعندما لم يصل العلم حتى اليوم الى طريقة صحيحة ودقيقة لتشخيص درجة ومقدار نضج الشخص فقد استحوذت التفاهة والاستغفال على مساحات نظيفة في حياة الناس، الأمر الذي ترك آثاره السلبية على نظرة الجمال التي يفترض ان يرى بها الناس وجودهم في الواقع او في الأذهان فقد ساءت الظروف حتى غاب الجمالي الحقيقي وحل محله المظهر المبرقّع بعمليات التجميل والشد والجذب والإضاءة والإعلام والتزييف الثقافي للحقائق . لقد تمكنت لغة الخداع والترقيع  من ثقافة المجتمع بعد إدخال تفعيلات رقمية عليها فصارت المشاريع الثقافية مشاريع استثمار تهدف إما الى مزيد من الكسب المالي أو الى مزيد من ترقيع ثقافة واقع مجتمعات اليوم فهي مشاريع توظيف لأجندات معينة اكثر منها مشاريع تثقيف يرتجى منها تمكين المجتمع ثقافياً، ففي انشطة ثقافة السلطة هناك قصور للثقافة في كل محافظات البلاد في العراق وهناك مكتبات مركزية يتم اعادة تأهيلها على وفق التطور التقني والعمراني وهناك دورات فنية ومسابقات أدبية وجوائز نقدية، ومعارض فنية ومعارض كتب . وهناك غياب واضح ومخيف للوعي الموضوعي كحالة اجتماعية عامة وكحالة خاصة في حياة كثير من الناس . فقد نجد أشخاصاً بمؤهلات اكاديمية يوظفون القضايا الكبيرة في اعتقادات الناس مثل رفض الاحتلال ورفض التطبيع ورفض الاستعمار عبر كتابات ولقاءات ومقاطع فديو يخضع انتاج نصوصها وموادها الى قوة واحدة غالبة على مشهد الحياة العامة في العالم وهي قوة العلم في مساره التقني والاصطناعي فيسوّقون للناس افكارهم المادية الأحادية الاتجاه على انها هي المنقذة والرامية الى تطور العقل الثقافي العربي من خلال إضعاف وتغييب فكرة ان قوة الدين لا يزال بمقدورها اقامة حضارة عربية جديدة في عصر التقنية، فيثيرون بدلاً عنها فكرة ان الدين انتهى كقوة امام قوة العلم التي باتت قادرة على اعطاء اجوبة وتفسيرات لكثير من القضايا التي هيمنت عليها ثقافة العقل الديني لسنوات طوال دون ان تتمكن من تقديم ما يقنع العقل المعاصر في ظروف العالم الجديدة . لذا فإننا اليوم بحاجة الى البحث في انثروبولوجيا الواقع من حيث التسليم بثنائية حضور الدين والعلم في منح الوجود صفة الحيوية الواعية التي يتميز بها الانسان عن غيره من الكائنات الحية . والتسليم باهمية حضور ثنائية الوعي التلقائي والوعي الموضوعي، واهمية حضور ثنائية العمر الزمني والعمر النفسي للانسان، واهمية حضور لغة الوعي الانساني أمام لغة التقنية الرقمية،  واهمية تفعيل مشاريع صناعة الوعي الإنساني أمام مشاريع صناعة الذكاء الآلي، لنصل الى حالة التوازن التي دعا اليها نبي الأمة الخاتم حين قال: (اطلبوا العلم طلباً لا يضر بالعبادة واطلبوا العبادة طلباً لا يضر بالعلم) .

***

د. عدي عدنان البلداوي

....................

1- كتاب أراء المفكرين في القرن العشرين - عباس محمود العقاد الصادر سنة 1984م عن دار المعارف في بيروت - ص23

2- كتاب أراء المفكرين في القرن العشرين - عباس محمود العقاد الصادر سنة 1984م عن دار المعارف في بيروت - ص27

التجربة الهولندية

(لماذا يعتبر النظام التعليمي في هولندا من افضل الانظمة التربوية في العالم؟)

من منا كان يتصور ان دولة صغيرة مثل هولندا ستصبح مصدر الهام للعالم اجمع في مجال التعليم؟ فبفضل تركيزها على تطوير مهارات التفكير النقدي والابداع، وتوفير بيئة تعليمية محفزة ومتنوعة، استطاعت هولندا ان تبني نظاما تعليميا يرقى الى مستوى التحديات العالمية. حقيقية لا مراء فيها ان هولندا هي المكان الذي يتناغم فيه الابتكار والتعليم.

ان هولندا ليست مجرد دولة تتميز بتقدمها في انتاج الاجبان والزهور كما نعرفها، بل هي ايضا دولة صناعية تستثمر بشكل كبير في راس مالها البشري، ايمانا منها بان التعليم هو مفتاح التقدم والازدهار. فمن خلال نظامها التعليمي المتطور، تسعى هولندا الى اعداد اجيال قادرة على مواجهة تحديات المستقبل وبناء مجتمع اكثر عدالة وازدهارا.

في هذه المقالة ضمن سلسلة التجارب العالمية في التعليم، سنتعمق في تفاصيل النظام التعليمي الهولندي، وسنستكشف العوامل التي جعلته من افضل الانظمة التعليمية في العالم. كما سنتطرق الى الاثار الايجابية لهذا النظام على الافراد والمجتمع ككل.

يتميز النظام التعليمي الهولندي، الذي يعتبر من ابرز الانظمة التعليمية عالميا، بتركيزه الشديد على تطوير الفرد بشكل شامل، متجاوزا حدود المعرفة الاكاديمية النمطية. فمن خلال تشجيع العمل الجماعي وحل المشكلات، وتطبيق المعرفة النظرية في مشاريع عملية، وتنمية مهارات التفكير النقدي والابداع، يعزز التعليم الهولندي قدرة الطلاب على التعلم المستقل والتكيف مع متطلبات سوق العمل المتغيرة. كما انه يوفر بيئة تعليمية متنوعة وشاملة تحترم الاختلافات الفردية والثقافية، وترسخ قيم التعاون والتسامح. هذا التكامل بين المعرفة النظرية والمهارات العملية، بالاضافة الى الشراكة الفعالة بين المدرسة والاسرة والمجتمع، يجعل من التعليم الهولندي نموذجا يحتذى به في اعداد اجيال قادرة على مواجهة تحديات المستقبل بثقة واقتدار.

لنتطرق فيما يلي الى ابرز الجوانب التي تجعل التجربة الهولندية من اغنى التجارب التعليمية والتربوية في العالم:

التركيز على التفكير النقدي والابداع:

يمتاز النظام التعليمي الهولندي بتشجيعه القوي على التفكير النقدي والابداع، مما يميزه عن العديد من الانظمة التعليمية الاخرى. ويتحقق ذلك من خلال مجموعة متنوعة من الممارسات التعليمية. فبدلا من الاعتماد على الحفظ والتلقين التقليديين، يشجع النظام الهولندي على التعلم النشط من خلال التجربة والاكتشاف، مما يمكّن الطلاب من تطوير مهارات حل المشكلات واتخاذ القرارات بشكل مستقل. كما يعزز النظام العمل الجماعي والتعاون بين الطلاب، وهو ما يهيئهم للعمل بفعالية في بيئات عمل متعددة الثقافات. وبدلا من تقديم المعلومات بشكل سلبي، يتدرب الطلاب على تحليل المعلومات وتقييمها وتكوين اراءهم الخاصة، مما يعزز قدرتهم على التفكير النقدي والابداعي. على سبيل المثال، قد يطلب من طلاب العلوم تصميم تجربة علمية لحل مشكلة بيئية محلية، او من طلاب الاداب تصميم مشروع فني يعكس قضايا اجتماعية معاصرة. وبهذه الطريقة، لا يقتصر التعليم في هولندا على اكتساب المعرفة النظرية، بل يتجاوز ذلك الى تطوير مهارات حياتية اساسية تمكن الطلاب من الاسهام بفعالية في المجتمع.

تعليم اللغات:

يتميز النظام التعليمي الهولندي بتعليم اللغات الشامل والمبكر، حيث يبدا الطلاب بتعلم اللغات الاجنبية، مثل الانكليزية والالمانية، منذ سن مبكرة كجزء اساسي من مناهجهم الدراسية. هذا النهج المتكامل يجعل الطلاب الهولنديين متحدثين متمكنين للغات متعددة، ويعزز مهاراتهم في التفكير النقدي والابداع، ويساعدهم على فهم الثقافات المختلفة وتقدير التنوع اللغوي والثقافي في العالم. من خلال الربط بين تعلم اللغة وفهم الثقافة وتوفير بيئة تعليمية متنوعة، يتمكن الطلاب الهولنديون من تطوير مهاراتهم اللغوية والمعرفية بشكل متواز، مما يهيئهم لمواجهة تحديات العصر الرقمي والعالمية المتزايدة.

التنوع والمرونة:

يتميز النظام التعليمي الهولندي بمرونته وتنوعه، حيث يوفر مجموعة واسعة من المسارات التعليمية التي تتراوح بين التعليم المهني الذي يركز على التدريب العملي والتطبيقي، والتعليم الاكاديمي الذي يوفر برامج دراسية متعمقة في مختلف المجالات. تشير الاحصائيات الى ان حوالي 60% من الطلاب الهولنديين يختارون المسارات التعليمية المهنية، بينما يختار 40% المسارات الاكاديمية. هذا التنوع يضمن ان كل طالب يمكنه العثور على المسار الذي يناسب ميوله وقدراته. بالاضافة الى ذلك، يشجع النظام على التعلم المستمر طوال الحياة، مما يتيح للطلاب تطوير مهاراتهم ومعارفهم بشكل مستمر، والتكيف مع متطلبات سوق العمل المتغيرة. هذا وتظهر الاحصائيات ان نسبة عالية من البالغين الهولنديين يشاركون في برامج التعليم المستمر، وهو يعكس ثقافة التعلم المستمر السائدة في المجتمع. فعلى سبيل المثال، يمكن للطالب الذي يدرس في مجال الهندسة ان يكمل دراساته العليا في مجال الذكاء الاصطناعي، او ان يتدرب على استخدام احدث التقنيات في مجال تخصصه. هذه المرونة تسمح للطلاب ببناء مسارات مهنية متخصصة وتلبية احتياجات سوق العمل المتغيرة باستمرار.

الاستقلالية والمسؤولية:

يشجع النظام التعليمي الهولندي على تنمية روح الاستقلالية والمسؤولية، حيث يشجع الطلاب على المشاركة الفعالة في عملية التعلم واتخاذ القرارات بشان مسارهم الدراسي. تخيل طالبا هولنديا في المرحلة الثانوية يختار دراسة العلوم الطبيعية لانه مفتون بكيفية عمل الكون. هذا الاختيار الشخصي ليس فقط يعزز حماسه للتعلم، بل يمنحه ايضا القدرة على تصميم مساره الدراسي ليلائم طموحاته المستقبلية. وفي مشاريع مدرسية، يتعاون مجموعة من الطلاب الهولنديين لتصميم تطبيق هاتف ذكي لحل مشكلة تواجه مجتمعهم المحلي. هذا النوع من المشاريع يعلم الطلاب كيفية العمل بشكل تعاوني، واتخاذ القرارات الجماعية، وحل المشكلات بطرق مبتكرة. ولتعزيز الشعور بالمسؤولية، يتحمل الطلاب مسؤولية تنظيم وقتهم وادارة مهامهم الدراسية، مما يهيئهم للحياة الجامعية والعملية. والهدف هو تذكير الطالب الهولندي الذي يتولى مسؤولية تنظيم جدول دراسته وتقديم المشاريع في مواعيدها. هذا النوع من الانضباط الذاتي يجهز الطلاب للحياة الجامعية والعملية، حيث يتعين عليهم ادارة وقتهم ومهامهم بشكل مستقل.

التكنولوجيا في التعليم:

يشهد التعليم الهولندي تطورا ملحوظا بفضل الاستخدام المكثف للتكنولوجيا الحديثة. تصور طالبا هولنديا يستخدم نظارات الواقع الافتراضي لاستكشاف اعماق المحيطات او يصمم مدينة مستقبلية باستخدام برامج التصميم ثلاثي الابعاد. هذه التجارب التفاعلية تجعل التعلم اكثر متعة واثارة، وتحفز الطلاب على الاستكشاف والابتكار. كما تتنوع الادوات التكنولوجية المستخدمة في التعليم الهولندي لتشمل الاجهزة اللوحية والحواسيب المحمولة والبرامج التعليمية التفاعلية ومنصات التعلم الالكتروني. هذه الادوات تسمح للطلاب بالوصول الى كم هائل من المعلومات والمعرفة، والتفاعل مع معلميهم وزملائهم بطرق مبتكرة. بالاضافة الى ذلك، توفر العديد من المؤسسات التعليمية الهولندية خيارات للتعلم عن بعد، مما يجعل التعليم اكثر مرونة ويسهل الوصول اليه. اثبتت التكنولوجيا الحديثة انها اداة قوية لتحسين نتائج التعلم في هولندا، من خلال توفير تجارب تعليمية مخصصة لكل طالب، وتنمية مهاراتهم في التفكير النقدي وحل المشكلات.

التركيز على الصحة النفسية والاجتماعية:

يولي النظام التعليمي الهولندي اهتماما كبيرا بالصحة النفسية والاجتماعية للطلاب، حيث يسعى الى توفير بيئة تعليمية امنة وداعمة تساعدهم على النمو والتطور. يتلقى الطلاب في هولندا دعما نفسيا واجتماعيا متكاملا، بدءا من برامج التوجيه المهني التي تساعدهم على اختيار مساراتهم الدراسية المستقبلية، ووصولا الى خدمات الدعم النفسي التي تقدم لهم المساعدة في التعامل مع الضغوط والتحديات التي قد يواجهونها في حياتهم اليومية. كما يشجع النظام على بناء علاقات ايجابية بين الطلاب والمعلمين، مما يخلق جوا من الثقة والاحترام المتبادل. ولا يقتصر التعليم في هولندا على نقل المعرفة الاكاديمية، بل يشمل ايضا تنمية المهارات الاجتماعية والعاطفية لدى الطلاب. ويسعى النظام الى غرس القيم الاخلاقية والمواطنة الصالحة في نفوس الطلاب، وتشجيعهم على التعاون والعمل الجماعي. ومن خلال ربط الصحة النفسية بالنجاح الاكاديمي، يسعى النظام الى تمكين الطلاب من تحقيق اقصى امكاناتهم.

نظام التقييم:

يتميز نظام التقييم في المدارس الهولندية بمرونته وتركيزه على التطور الفردي للطالب، حيث يعتمد بشكل اساسي على التقييم المستمر طوال العام الدراسي من خلال المهام والواجبات والمشاركة في الحصص والاختبارات القصيرة والمشاريع. وتكمل التقارير التقييمية الدورية والمقابلات مع الطلاب واولياء الامور هذه الصورة الشاملة لتقدم الطالب. هذا النظام، الذي يهدف الى تشجيع التعلم المستمر وتوفير تغذية راجعة مستمرة، يعطي الاولوية للتعاون بين المعلم والطالب ويوفر بيئة تعليمية داعمة تساعد الطلاب على تحقيق اقصى امكاناتهم.

التحديات التي تواجه التعليم الهولندي:

يعاني نظام التعليم الهولندي، رغم مكانته المرموقة، من عدة تحديات. فالتنوع الثقافي واللغوي المتزايد يفرض صعوبات في دمج الطلاب من خلفيات وبلدان مختلفة، وتفاوت المستويات التعليمية بين المدارس، خاصة في المناطق الحضرية والريفية، يمثل تحديا اخر. كما يعاني النظام من نقص في المدرسين المؤهلين، وزيادة الضغط على المدرسين الحاليين بسبب التوقعات العالية وحجم الفصول. بالاضافة الى ذلك، يتطلب التحول الرقمي استثمارات كبيرة وتدريبا مكثفا للمعلمين، بينما تواجه المدارس صعوبة في تلبية احتياجات سوق العمل المتغيرة. ولا يمكن تجاهل التحدي المتزايد المتعلق بصحة الطلاب النفسية، والذي يستدعي اهتماما اكبر من قبل المؤسسات التعليمية.

تسعى الحكومة الهولندية جاهدة لمعالجة هذه التحديات التي تواجه نظامها التعليمي. وتشمل هذه الجهود تطوير برامج مكثفة لدمج الطلاب الوافدين من المهاجرين، وتحديث المناهج الدراسية بشكل مستمر لمواكبة التطورات العالمية، والاستثمار بكثافة في التدريب المهني للمعلمين لضمان جودة التعليم. بالاضافة الى ذلك، تولي الحكومة اهمية كبيرة لتطوير البنية التحتية التكنولوجية في المدارس وتوفير الادوات الرقمية اللازمة للتعليم. كما تعمل على تعزيز التعاون بين المدرسة والاسرة من خلال برامج مشتركة تهدف الى خلق بيئة تعليمية داعمة للطلاب.

باختصار، النظام التعليمي في هولندا هو استثمار في المستقبل. فهو يهدف الى اعداد اجيال من الخريجين المتميزين القادرين على مواجهة تحديات المستقبل. من خلال التركيز على تطوير المهارات الحياتية الاساسية، مثل التفكير النقدي والابداع والتعاون، يضمن النظام الهولندي ان يكون خريجوه مواطنين فعالين وقادرين على الابتكار والاسهام في بناء مجتمعات اكثر ازدهارا. هذا النهج الشامل هو ما يميز النظام الهولندي ويجعله نموذجا يحتذى به في العالم. فبحسب الدراسات الدولية، يحتل الطلاب الهولنديون مراتب متقدمة في اختبارات PISA العالمية، مما يؤكد نجاح هذا النظام في اعداد اجيال من المتفوقين. كما ان نسبة الالتحاق بالتعليم العالي في هولندا مرتفعة، مما يعكس اهتمام المجتمع بالتعليم المستمر.

***

محمد الربيعي

بروفسور ومستشار - جامعة دبلن

 

أكثر الناس يرون السياسة عالماً بلا أخلاق. ثمة أشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. أنا واحد من هؤلاء، وكذا الكثير من الفلاسفة الأخلاقيين وعلماء السياسة وبعض رجالاتها. أما اتفاق الناس على خلو السياسة من الأخلاق، فمرجعه عاملان فيما أظن. أولهما أن السياسة نادٍ مغلق، عضويته حكر للنخبة العليا في المجتمع. أما العامل الآخر فهو أن الموضوع اليومي في مهنة السياسة، هو استعمال مصادر القوة وتوجيه نتائجها، بحسب ما يراه أهل هذه المهنة دون بقية الناس.

قد يقال إن النادي السياسي مفتوح لمن يطرق أبوابه، وليس لكل عابر، وإن السياسة كأي حرفة أخرى، تتطلب مؤهلات ربما لا تتوفر لكل راغب فيها. لكنني أجد أن انغلاق النادي معناه قلة الفرص المتاحة فيه. وأذكر هنا رأي المفكر الإيطالي القديم نيقولو ماكيافيلي، الذي قدمه في سياق تفسيـره لرغبة الناس في الحرية، حيث يقول إن الناس لا يطمعون في السلطة؛ لأنهم يدركون أن «مهنة الحكم» متاحة لعدد محدود جداً من الأفراد، وهم يشكون في أن أحدهم سينال الفرصة، دون عشرات الآلاف من الراغبين في دخول ناديها.

كون النادي السياسي مغلقاً، يعني أن معظم ما يجري بين جدرانه، مكتوم عن عامة الناس. مكتوم قصداً، أو بحكم اختلاف مجالات الاهتمام، وإمكانية الوصول إلى مصادر المعلومات، خصوصاً الحساسة منها. وطالما بقي عمل السياسيين سراً، فسوف يثير الارتياب، لا سيما بالنظر للعامل الآخر، أي كون موضوع عمل السياسي هو تحريك مصادر القوة وثمراتها بين الاتجاهات المختلفة، كما يدير السائق سيارته بين مسار وآخر، أو بين وجهة وأخرى. وكانت العرب تقول فيما مضى إن «المرء عدو ما جهل»، بمعنى انه أقرب إلى تفهم الأشياء التي يعرفها. والتفهم يعني تقبل مبرراتها حتى لو بدت - في ظاهرها - بغيضة أو ثقيلة على النفس.

- لكن يبقى السؤال قائماً: إلى أي حد يلتزم الفاعلون السياسيون بمعايير الأخلاق؟

هذا السؤال ينقسم - بالضرورة - جزأين: الأول ما هو المقصود بالأخلاق، هل هي طرق العمل المطابقة لما يمليه العقل السليم، أم هي - كما هو شائع بين عامة الناس - لين المعاملة والإحسان للناس وصدق القول والترفع عن الصغائر، وأمثال هذه؟

أما الآخر فيتناول موضوع العمل في النادي السياسي، الذي سنسميه اختصاراً «استعمال مصادر القوة»؛ لأن هذا التحديد يستدعي لزوماً السؤال: ما هي مصادر القوة التي نتحدث عنها، ولماذا نستعملها أو نحركها؟

سوف أبدأ بالآخر لأنه يوضح معنى الأول. إن «قانون الندرة» هو المبرر الجوهري لوجود السياسة والحكومة. يقول هذا القانون إن الموارد المتاحة لتسيير حياة الناس محدودة، بينما حاجات الناس متزايدة، ويمكن وصفها باللامحدودة، بمعنى أنها لا تتوقف عند حدٍ ولا تنحصر في إطار. توزيع الموارد المحدودة يعني أن كل فرد من الجمهور سينال حصة أصغر مما يطمح إليه. ولكي لا يعتدي على حصص غيره، احتجنا إلى القوة، أي إظهار العنف أو استعماله أحياناً، كي يرتدع المعتدي.

نحتاج طبعاً إلى تطوير الموارد كي تسد الحاجات المتزايدة. وهذا يتطلب استثمارات جديدة في الزراعة والصناعة والتجارة وغيرها. من هنا نعتبر المال والسلاح أبرز مصادر القوة، وهما محور العمل في مهنة السياسة. نحن نريد أن يلتزم رجال السياسة بالإنصاف والمساواة بين الناس، أن يعملوا ممثلين لمصالح المجتمع، وألّا يفرّطوا في الأمانة التي وُضعت في أيديهم. وهذا هو جوهر المضمون الأخلاقي للسياسة.

- هل يستلزم هذا ليناً في الكلام أو التعامل؟

أرى أنه لا يستلزم. وإن كان من مكارم الأخلاق، ومن علامات الكمال عند أي إنسان، سياسياً أو غيره. عالم السياسة مختلف عن العلاقات الاجتماعية العادية؛ ولذا فأخلاقياته مختلفة أيضاً. أي أن له أخلاقياته ومعاييره وإن خالفت توقعاتنا بعض الشيء.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

أحيي الحضور المستمع لما أقول أحسن تحية. وأشكر للصديق الأستاذ عبدالله فليفل ماتفضل به علىّ من تقديم ذي إضاءة تاريخية مهمة ومفيدة، كما أشكر لمنتدى الثلاثاء الثقافي دعوته إياي، لأتحدث اليكم عن تجربتي الشعرية التي سأقف، باختصار، عند المرحلة الجامعية منها فقط، لضيق الوقت المتاح لي. ولا أريد أن أتحدث اليكم عنها من حيث هي تجربتي، بل أريد أن أتحدث عنها لأنها تكشف الحياة الأدبية، وماكان بينها وبين الحياة الاجتماعية والسياسية من صلة في السبعينيات من القرن الماضي في العراق، فضلاً عن أنها مُعين لمن يود من الباحثين أن يعرف تطوري الشعري من الإحتجاج العاطفي في مراهقتي الى الإحتجاج الفكري في شبابي.. على أية حال قُبلتُ، في كليّة التربية في بغداد في سنة 1968م، كما ذكر الأستاذ فليفل في تقديمه، وكنت في الثامنةَ عشرةَ من عمري. وفي مطلع السنة الدراسية الأولى، كان أساتذة قسم اللغة العربية يستطلعون المواهب الأدبية بين الطلاب الجدد،. وحينما علم، أحد أساتذتي، أنّي أقول الشعر، خفّ إِليّ واستنشدني بعضاً مما عندي، فأنشدته قصيدة لي في رثاء والدتي. أقتطف منها الأبيات الآتية:

أَيا أُمِّي لمَن أَشكو؟ ومَن يَنصِتُ للشَّاكي؟

أَرَى حتَّى العصافيرَ تُجافي اليومَ شبَّاكي

لقد جَفَّتْ أَزاهيري. فيا أَهلاً بأَشواكي

وماإن فرغَت من إنشادها كاملة، حتى بشَّ لها محيّاه، وسُرَّ بها رضاً. كانت هذه القصيدة هي التي عرَّفت أساتذتي بباكورة شعري في الكلية، وجعلتهم يدعونني للمشاركة في احتفالاتها الشعرية. ولما حان موعد الحفل الشعري الأوّل لسنتي الدراسية الأولى، دعيت للمشاركة فيه. ولئن كانت مشاركتي هي الأولى في حفل جامعي، فماكانت هي الأولى في غيره، إذ ألِفت من قبل أن أشارك الشعراء في بعض المحافل النجفية التي تعلمت منها أنّ الخَطابة فنّ، وأنّ الشاعر قد يخيب مطلوبه إذا لم يحسن اختيار ما يلائم جمهوره ؛ لذا فكّرت في أن أختار من شعري ما يلائم البيئة البغدادية المتحضرة، فاخترت قصيدة لي في النسيب أي(الغزل). أذكر لكم منها الأبيات الآتية:

طلعت ليلى ما أحلاها*** سكرى ببهاء محيّاها

يتغنّى الطير بطلعتها*** ويضوع الورد بريّاها

لم تخشَ لصوصاً تتبعها ***حرستها منهم عيناها

حتى أقول:

لم أتمم زهرة عشريني*** وبُليت بشوك أذواها

إلى آخره.....

وعلى الرغم من أن هذه القصيدة لم تكن ذات حظ عالٍ من الجودة والإبداع، غير أنها قد اشتهرت في بغداد. وما كانت لِتشتهرَ بينهم لولا حلاوة وزنها أي موسيقاها. ولا أزعم أنّ البيئة البغداديّة كانت غير عميقة فنياً، بل على العكس مما يظهر.. ولقد لقيت فيها من بواعث التطور مالم ألقَ مثله في غيرها؛ ولاسيما الحرية الفنية التي جعلتني انطلق بشعري كلّ الإنطلاق، مصوّرا نفسي كما هي من دون أن أتحفظ أو أحترز؛ لأنّي اقتنعت، من ناحية، بأن الإنطلاق الفنيّ هو من حقّ الشاعر، ومن حقّ الفنّ عليه كذلك؛ واقتنعت، من ناحية أخرى، بأن خروج الشاعر على السلطات القمعية في العراق سواء أكانت رسمية أم غير رسمية لهو الفضيلة بعينها. فلأحتجَّ إذن عليها احتجاجا لايحيد عن الخير. واحتججت بالشعر فعلاً. وكان شعري الاحتجاجي خلال دراستي الجامعية على قسمين:شعرغزليّ حسّي وشعرسياسيّ وطنيّ.

أولاً شعري الغزلي الحسي:

لم أَنِ في أَنْ تمردت على سلطة المجتمع المهيمنة على العلاقة بين الرجل والمرأة، وعلى مفاهيمها المصبوغة بالطلاء الديني والعشائري. وبدأ تمرّدي يطرح شعراً ذاتياً مختلفاً عن الأشعار الذاتية المطروحة في زمني. ويظهر هذا الإختلاف في أني جهرت بمشكلة "الجنس" التي هي من أكبر مشاكلنا المسكوت عنها ؛ إذ رأيت الغريزة الجنسية ليست خارجة عن كينونتنا البشرية. ولا مفرّ لنا من تلبية ندائها. فإذا كانت هي فينا، ونحن منها، فلماذا إذن أتحرج من أن أذكر مايدلّ عليها في شعري؛ وقد ذكر الله ألفاظها صريحة في القرآن، بل بيّن حتى كيفية المجامعة وتوقيتها. ولم أكد أخجل بعد هذا كله من أن أتناول موضوع الجنس بكل تفاصيله في شعري. ومن الأمثلة عليه قولي:

رغبة الجنس ومن يوقفها*** أودع الله بها سر البقا

يالها من سبب أوجدنا*** كل مخلوق بها قد خلقا

أو قولي:

قدْ تَعَتَّقتِ خَمرَة *** وتَصفّيْتِ سُكَّرا

فوْق ساقيْكِ جَنَّة ٌ*** وجحيمٌ بها جَرَى

ونَبيذٌعلى فم ٍ*** قبِّليني لأَسْكَرا

وَلأَذ ُقْ منكِ مَرَّة ً*** مانسمِّيهِ مُنْكَرا

أوقولي في الكبت الأنثوي:

صارحِيْنيْ بالذي فيكِ بصمتٍ يتألمْ

هاهوَ الجنس بعينيكِ صريحاً قدْ تكلمْ

قبِّلِيْنيْ قبْلةً أبْرَدُها نارُ جَهَنمْ

أو قولي في الكبت الذكوري:

أرسم أنثى. أصرخ: ظمئٌ لشفاهك ياعطشى

مائي ظمئ ضوئى ظمئ طيني فارتشفيني

فأنا أتنفس من شفتيك نسائم أفراحي المقتولة.

وقد يبدو شعري من الأمثلة المتقدمة حسيّاً تغلب عليه الرغبة الجنسية تصريحاً وتلميحاً ؛ لكن من يقرأه كله بإزاء العلاقة بين الرجل والمرأة يجده مختلفاً عن هذا المفهوم الضيّق في شيئين:أولهما في نظرتي للمرأة، وثانيهما في نظرتي للرجل. أما نظرتي للمرأة، فإني كنت أراها نصفي الإنساني الآخر في الرغبة الجنسية. قلت في بعض ذلك:

شاركيني يا ابنة الكبت الهوى*** ولنطفئ به فينا الحُرقا

وليقل عنك وعني جاهل *** خالفا العرف وساءا خلقا

هي إذن ليست شريكتي في الجنس وحسب، وانما شريكتي في الإحتجاج على التخلف الاجتماعي أيضاً. ولطالما وقفت مبهوراً حِيالَ جلالِ أنثوتها وجمالِها. قلت:

وتعري لتريني* ماتخبى بالتعري

لأرى الله بعينيّ جليّاً فيك يسري

ولعلّ هذا المثال الأنثوي الأرضيّ الذي لم أتطلع إلى أكمل منه فيما وراء الطبيعة هو الذي صرفني عن أن أتصنّع التعفّف؛ لأنّ العفة ليست غاية بذاتها؛ وانما هي وسيلة لشئ آخر. قلت فيها:

أتخفين الهوى عبثاً بثوب *** وهل يخفى حريق بالثيابِ؟

وتبدين الوقار بخفض صوت ***وفي عينيك زلزال الشباب

تعالَيْ جَرِّبِيْ يوماً سمائي*** لتُطبِقَ فوقَ سهلكِ والهضابِ

هذه هي بايجاز نظرتي للمرأة التي عبرت عنها، بلغة شعرية مجازية في الجزء الثاني من ديواني. وأما نظرتي للرجل في مجتمعي، فإني رأيته مزدوج السلوك بإزاء المرأة. فهو من جانب يفرض الحصانة عليها، ويطالبها بالتعفف الجنسيّ ويبيح من جانب آخر لنفسه الحرية الجنسية. ولقد جاهدت أنا نفسي هذه الإزدواجية الذكورية في سلوكي لكي تتقوم شخصيتي. وتتجلّى تلك المجاهدة واضحة في قصيدتي"سيدة الليل" التي تناولت بمضمونها مشكلة البِغاء بنظرة مغايرة للنظرة الذكورية السائدة، لا لتبرير فعل البغي أي (الزانية)، وانما لإدانة فعل شريكها الرجل المسكوت عنه اجتماعياً. قلت فيها:

 سيَّدةَ الليلِ احكمي *** تاجُكِ تَحتَ المِحزَمِ

جسْمُكِ باللَّحم ِ يُنَادِيْ الناسَ لا بالكَلِمِ

مُسْتَهْزِئاً بالعُرْفِ، بالقانونِ، بالمُحَرَّم

لرَفْعِ ساقيْكِ انحَنَتْ *** رؤوسُ أهْل ِالشَّمَمِ

تعرض البغي في هذه الأبيات مفاتن جسدها لإغراء الرجل، وهو لايكاد يميّز الحُب من الجنس؛ إذ تصبح ماهية المرأة غير مهمة عنده. انما المهم هو جسدها وكيفية امتلاكه لتحقيق لذته الجنسية. هذا المفهوم المكتسب اجتماعياً يدفعه لتبجيل البغي مؤقتاً والخضوع لها تمهيدا للقضاء على شهوته كما قد تبيّن في الأبيات السابقة. وقلت فيها أيضاً:

مملكة اللّذات طوع أمرك المحترمِ

لافَرْقَ في الزوَّارِ بَيْنَ كافرٍ ومُسْلِمِ

 فخيْرُهمْ كَشرِّهِمْ***وُجُوْدُهُم ْ كالعدَمِ

سَاوَيْتِهِمْ كأنَّكِ الموْتُ، وهُمْ كالرَّمَم

حَيْثُ الزِّنَى الأعْمَقُ بالأرواح ِلا بالأجْسُمِ

إذا كانت النساء تتساوى عند الزاني في مفهومه اللذائذي، فإنّ الرجال يتساوون عند الزانية في مفهومها التجاري. ولئن تنجس بالبِغاء جسدها، فان الرجال الزناة قد تنجست به أرواحهم قبل أجسادهم، لأنهم هم المسؤولون عن النساء أخلاقياً في المجتمع الذكوري. ولا ريب في أن نجاسة الروح هي أشد من نجاسة الجسد؛ لأن قيمة الإنسان تكمن في مضمونه لا في جسده. وبهذا يكون فعل الرجل في البغاء أخطر من فعل المرأة. وعلى الرغم من خطورة فعله، فانه يرى المرأة هي المسؤولة عن إثمه لا هو. لماذا؟ لأنها هي الأضعف وهو الأقوى كما يظهر ذلك واضحاً في قولي:

سَيِّدَتي!نَحنُ قَتَلناكِ، ولَمْ نُتَّهمِ

ألحَقُّ في التاريخ ِلِلغالِبِ، لا المُنْهَزِمِ

وقلت على لسانه هو:

ويَسْألُ الإلهَ أنْ*** تَدْخلَ في جَهَنَّمِ

لأنَّها قدْ أثِمَتْ***وأنَّهُ لمْ يَأثمِ

هذا التناقض في المفهوم بين ما يفعله الرجل الزاني وبين مايقوله عن شريكته الزانية من سوء، جعلني أحتج شعريا على القيم السائدة في مجتمعي وأرفضها داعياً إلى التغيير بدءاً بثورتي أنا على شخصيتي الذكوريّة، وانتهاء بتثوير البغي نفسها على سلطة الذكورة في المجتمع. قلت فيما يتعلق بي أنا:

سَيِّدتي! لوْ تَعْلَمينَ مِنْ شَبابٍ سأمي

كرهتُ عشرينيَ حتى صرتُ صنوَ الهرِمِ

 مُنتفضاً للعدل ِوالإنْسان ِعبْرَ الأُمَمِ

وثائِرا ًمَعَ المَسِيحِ. رافِضا ًأنْ تُرْجمي

وقلت فيما يتعلّق بها هي:

 سَيِّدَةَ الليْلِ احكمي***قدْ آنَ أنْ تَنْتَقِمي

دُوْسِيْ عَلَى وَهْمِ الرجوْلاتِ وزَيْفِ الهمَمِ

وكلِّ منْ داسَ على***صَدرِكِ كالثوْرِ العَمِي

إعتقليهمْ واحداً ***فواحداً كالغَنَمِ

وعَلِّميهمْ ثورةَ الحقِّ، وَوَعْيَ المُلْهَمِ

وكَيْفَ تَكسرُ الحديدَ هِمَّةُ المُقتحِمِ

وبعد ذكر هذه الأمثلة الموجزة جدا من شعري في المرأة، استطيع أن أقول الآن إن هذا الشعر، قبيل العقد الثاني من عمري وفي أثناء المراهقة، هو مرآة نفسي، فيما نظرت به إلى المرأة من خلال علاقتي بها، وفيما نظرت به الى الرجل من خلال علاقته بها. وفي كلتا النظرتين هو شعر احتجاج على السيطرة الذكورية في مجتمعي. ومهما يكن الإحتجاج فيه؛ فانه ليس من أحبّ شعري عندي الآن؛ لأنني لم أحبب المرأة بعقلي ولا بقلبي في أكثره؛ وإنما أحببتها بحسي الشهواني. ولأنني لم أصف حالتها الداخلية في أكثره، وإنما وصفت صورتها الخارجية ورغبتي الجنسية فيها. وما إن جاوزت العقد الثاني من عمري حتى تخطيت هذه النظرة بحيث صار شعري الغزلي يدور كله أو أكثره حول الجمال المعنوى للمرأة لا المادي. وصار جمالها مرتبطاً عندي بحالتها الفكرية والنفسية لا البدنية.. وأكتفي، لضيق الوقت، ببعض الأمثلة دليلا على ماأزعم. ومنها قولي:

أَسمعها. تقولُ ليْ عيونُها:*** فكَّ قيودي. مَزِّقِ الأَسجافْ

وفَجرِ الأنهارَ في صحرائِنا*** حتَّى متَى يَحكمُنا الجفافْ؟

وقولي:

أَخرجيني من جنانٍ أَغلقتْ***كوَّةَ الضوءِ علَى كلِّ فَطينِ

خوَّفوكِ الأَهلُ منِّي وأَنا***منكِ باسم الدينِ أَهلي خوَّفوني

وقولي لها:

أَأَنتِ الإلهْ؟ يُميتُ، ويَبعثْ

سأُعلنُ رغم ذكوريّةِ الأنبياءْ،

سأُعلنُ أنَّ الإلهَ مؤنّثْ.

وأنّكِ كلِّي. وفيكِ اندمجتُ، وفيَّ اندمجتِ

أَأَنتِ أَنا أَمْ أَنا هو أَنتِ؟

تختفي في هذه الأمثلة الشعرية الثلاثة صفات المرأة الجسمانية تماما، ولايكاد يظهر منها غير فكرها الذي يكمن فيه جوهرها الإنساني. الإنسانيّ. وبتأكيدي على مضمونها دون شكلها تكون رؤيتي لها قد تغيرت في شعري تغيراً نوعياٍ. فأنا لم أعد أنظر إليها كما كنت بالأمس، وانما صرت انظر اليها نظرة إنسان يعيش في عصره في القرن الواحد والعشرين. أريد لها من الحرية والكرامة والحقوق مثل ماأريد لنفسي. كنت أجهر بهذا الرأي في العراق، وكان الناس يسخطون عليّ كل السخط، ثم شاءت الظروف السياسية في العراق أن تزيد على هذا السخط الإجتماعي سخطاً أشد منه وأخطر. أقصد السخط الحكومي..

ثانياً – شعري السياسي الوطني:

ظننت أني قد تحررت من قيدي السلطة الدينية والسلطة العشائرية حين أقمت طالباً جامعياً في بغداد المنفتحة اجتماعياً على الإختلافات العراقية بكل أشكالها. وهذا ماجعلني أتغنّى بها طرباً. مثل قولي: لالاوعينيك يابغداد ماضحكتْ*صحراء عمري ولا مسّ الندى ثمري كما أني ظننت أن طريق الحرية الفنيّة قد خلت لي للتعبيرعما يختلج في صدري، ولكن الأمر لم يكن كما ظننتت؛ إذ انضاف قيد سياسيّ جديد الى القيدين السابقين حين استولى حزب (النظام السابق) على السلطة في العراق في سنة 1968، وشرع يدير دفّة الثقافة والتعليم على هواه،، فألغى، مثلاً، كليتنا كلية التربية وألحقها بكلية الآداب، لإيقاف المد السياسيّ المعارض له فيها، واستبدل اأساتذتنا اأعضاء اللجنة الثقافية في الكلية بطلاب حزبيين يمثلونه ولايمثلون الثقافة. ولا أريد أن أستطرد هنا في ذكر تلك السلطة التي حكمت العراق خمساً وثلاثين سنة استطرادا مملا، ولا أن أعيد ماقيل فيها بعد سقوطها ولكن الشئ الذي أريد أن أقوله ؛ هو أنها حرفت الشعر العراقي عن مساره الفني، وأمالته عن الصدق والجمال إلا ماقلّ منه ؛ إذ أمسى جلّ الشعراء العراقيين مقيدين بأهدافها السياسية خوفا أو طمعا. ولقد إضطرّني هذا الإنحراف الشعريّ إلى أن أخرج عليه رافضاً أن أنافق ساتراً احتجاجي بقلبي، ومظهراً خلافه بلساني. ولئن تزعزعت أحلامي بالحرية ؛ فقد ترسخت قدمي في طريق الإحتجاج ضد القمع على الرغم من وحدتي واغترابي في وطني ؛ ولعل قصيدتي" الضياع"التي أنشدتها في أحد المهرجانات الشعرية في الكلية في سنة 1969م، قد كشفت كثيرا مما كنت أُعاني. ومنها هذه الأبيات:

مَلَّتْ من النَّغمِ المحزونِ ناياتي**وأَتعبتْ فَسَ الأَحزانِ آهاتي

أُناغمُ الجرفَ والأَقدارُ قد سحقتْ*منِّي الشراعَ وهَدَّ الموجُ مرساتي

وأَقتفي الشَّمسَ والأَشباحُ قافلتي***ودمعةُ الشَّعبِ يابغدادُ راياتي

عندما استمع الجمهور الجامعي إليّ وأنا أنشد هذه االقصيدة في الكلية، انقلبت صورتي عنده، من شاعر طرِبٍ غزِلٍ إلى شاعر حزِنٍ ضجِرٍ؛ وكيفما يرَني الجمهور، فإن أقلّ ماتدلّ عليه هذه القصيدة التائية شيئان: أولهما أن المحبوبة فيها لم تعد امرأة مثل ليلى التي ورد اسمها في قصيدتي المذكورة آنفاً؛ وانما هي مدينة اسمها بغداد. وقد استعملتها في معناها المجازي لا الحقيقي لتشمل العراق كله. وثانيهما أن عالمي الذاتي قد امتزج بعالمها الموضوعي حتى صرنا في الحزن واحداً. ومن هنا يمكن القول أن معاناتي الظاهرة في أغلب ابيات هذه القصيدة، هي في دلالتها العميقة تمهيد لمعاناتي

الوطنية التي ستظهر في قصائدي اللاحقات تلميحاً مرّة وتصريحاً أخرى، وباشكال مختلفة. ومما يدل على تلك المعاناة الوطنية تلميحاً

قولي:

بغدادُ ياظمأَ السمَّارِ بيْ ظماٌ***الى البكاءِ وبيْ شكوَى من السمرِ

إنَّا حزينانِ ماغنَّتْ ربابتُنا***إلاَّ بحشرجةٍ من ثغرِ مُحتضِرِ

ولازوارقُنا عبَّتْ مُهلِّلَةً***إلاَّ وأَفزعَها طيفٌ من الخطرِ

خلِّي الحكايةَ سكِّيناً تجزَّ بنا***وزغردي، فغداً لابدَّ من مطرِ

ومما يدل على تلك المعاناة الوطنية تصريحاً قولي :

بلاديَ أَذوَى صَرخةَ الفجرِ صمتُها**لوَى شمسَها ليلٌ، وأَطفأَها نهبُ

بلادي حبلى. راعها النزف. طفلة*** تضيع. نبي دربه القتل والصلب

وكلّما ضيّق الحزب الحاكم الخناق على الحياة في العراق، واشتدّت استهانته بكرامة الإنسان وقيمته، تحرّقت إلى الإحتجاج شعريّاً، وتهيأت للبذل من أجل الحق، ومما يدل على معنى ذلك قولي:

إِذا أَنا لم أُحرَقْ ومثليَ صاحبيْ*فمَنْ ذا يُضئُ الدَّربَ إِنْ أَظلمَ الدَّربُ؟

وقد مَلَّني صَبري. أُريدُ جنازةً***لحُبِّيَ، أَو شمساً يُغنِّي لها الشَّعبُ

أنا بيت شعر للجياع تخافني*** زبانية الوالي وتخشاني الكتب

لقد تسلط الحزب الحاكم على منابع الثقافة الجامعية كل التسلط، وعبث مسؤولوه بالحركة الأدبية شرّ عبث حتى خمدت شعلة الإبداع الأدبي في كلية الآداب. وما إن شاع خبر خمودها في الصحافة الحكومية في سنة1971 حتى بذل عميد الكلية ورئيس "الإتحاد الوطنيّ لطلبة العراق"وأتباعهما كل مالديهم من جهد لإحياء حفل شعري يثبتون فيه لذوي الشأن الثقافي في الحكومة خلاف ماشاع في الصحافة عن الأدب في كلية الآداب. ولعل استماتة أعضاء "اللجنة الثقافية"في إنجاح الحفل في الكلية، جعلتهم يتناسون مابيني وبينهم من صد واعراض، ويطلبون إليّ أن أشارك في ذلك الحفل الشعري الكبير. وشاركت فيه فعلاً بقصيدتي "قافلة الأحزان"التي كان مطلعها:

حملتُ شراعَ الموتِ في صمتِ آلامي*وأَرضعتُ من ثدي التباريحِ أَعوامي

ولم يخطر في بالي أن أرضي بقصيدتي رئيس الجمهورية الذي حضر الحفل نيابة عنه الفريق صالح مهدي عماش، ، ولا أن أرضي كبار مسؤولي الدولة والجامعة الحاضرين، ؛ وانما كنت أريد أن أرضي ضميري ووجداني لاغير. وما إن فرغت من حزني الخاص في البيت الأول من القصيدة، حتى اتسع ليعم حزن الناس كلها في البيت الثاني بقولي:

حملت دموع الأرض في جفن لوعتي*وخضبت في جرح الملايين أنغامي

ثم ختمت القصيدة بالبيت الآتي:

أَنا المغرمُ الهيمانُ شعبيْ حبيبتيْ*وأَنفاسُه لحنيْ، وعيناه إِلهامي

كان البيت الثاني والبيت الاخير في القصيدة صريحين في كشف مذهبي الذي جاوز البعد القومي الضيق ؛ إلى البعد الإنساني الأوسع. ومابين البيتين المذكورين(الثاني والأخير) كانت هناك أبيات شديدة النقد قد اغتاظ لسماعها ممثلو السلطة من الحاضرين، ولاسيما استاذي عميد الكلية الذي لم يقتدرعلى أن يكظم غيظه ضدي أمام الجمهور، فقال ماقال. لقد ألمحت محتجاً بهذه القصيدة إلى أهم الأشياء المسكوت عنها في المحافل الشعرية:ألمحت احتجاجاً إلى التفاوت الطبقي في ظل سلطة سياسية تدعو إلى مبدأ الإشتراكية دون أن تعمل به، حين قلت:

فذي دجلةٌ تَرغُو، وتلكَ حدائقيْ***تَجفُّ، وغصني يَلتويْ وردُه ظامي

وذا السنبل النامي وذلك منجلي * يحنّ إلى طيف من السنبل النامي

وألمحت احتجاجا إلى قمع السلطة للمثقفين الأحرار وهي تدعو إلى مبدأ الحرية؛ إذ قلت في عدم القدرة على الكلام:

خذي الحزنَ من عَينيَّ يَقصصْ حكايتي*ويُنبئْكِ كيف الريحُ أَلوتْب أَعلامي

وألمحت احتجاجا إلى أن العراق البلد الزراعي أخذ يتصحر إهمالاً وبدأ المواطن يُذل جوعا في دولة نفطية. قلت في ذلك:

أَنا القريَّةُ الخضراءُ قحطٌ أَذلَّني*فأَطفأتُ فانوسي وأَخفيتُ إِكرامي

وألمحت إلى موضوعات احتجاجية أخرى لم يتسع الوقت لذكرها. وقد يغض الحاكم الطرف عن التلميحات في القصيدة بسوء الأوضاع الاجتماعية والثقافية والزراعية وغيرها ؛ ولكن لن يغض الطرف عن التلميح بالثورة عليه احتجاجا حين طلبت من الجوع أن

يأخذ قمحه من دميْ لا من يدي بقولي:

تعال وخذ ياجوع قمحك من دمي *ودعني أمت وحدي على رمح آلامي

وإذا كان ذوالحكم أعجز من أن يصبر على المعنى المجازي ضده، أتظنه سيصبر على المعنى الحقيقي في وصف معاناة الشعب تحت قيادته بقولي:

أَنا قصَّةُ الجوعِ العراقيِّ. أَختبيْ**بضحكتيَ البلهاءِ، أَقتاتُ أَسقامي

أَنا البلدُ المنكودُ. أَتربني الأَسَى**وأَفزَعَني طيفي وأَشباحُ أَيَّامي

لقد أغضبت الحكومة بهذه القصيدة حقاً. وسرّ غضبها يكمن في أني أذعتها على الملأ وأنا حر طليق، ولم أذعها ضمن شروط العبودية وقيودها في العراق؛ إذ الشاعر بمفهوم الحكومة يتضمن التبعية لها، حيث سلطتها هي فوق سلطة الإنسان. وهكذا واجهت بعد إلقاء هذه القصيدة سلطة تساوي بين الشاعر والسلعة الإستهلاكية. وعندما فشلت تلك السلطة في أن تجعلني أداة مفيدة لها، لم تفكر في سبب

فشلها؛ وانما اتهمتني وأدانتني ونفتني وهي تحسبني سأندم حين

أتجرّع كأس الموت على يدها. ولم تحسب أن الموت الحقيقي للشاعر هو في جبنه حين يستسلم خاضعا للحكومة المستبدة، وإن منحته امتيازات ومكافآت، وبدا موظفا مسيطرا في مؤسساتها الثقافية، وشعره مسيطراً على الساحة الأدبية. إنّ الموت بالاحتجاج على الاستبداد من أجل الحق والعدل والجمال ليس موتاً في دلالته العميقة، وإنما هو إنتصار لجوهر الإنسان في الحياة ولقيمته وكرامته. .

***

بقلم عبد الإله الياسري

....................

* (آُلقيت هذه المحاضرة في"منتدى الثلاثاء الثقافي"بولاية أونتاريو بكندا،في اليوم الخامس عشر من شهر تشرين الأول/إكتوبر لسنة ٢٠٢٤م.ودونكم نصها)

"يمكننا أن نعيش بدون فلسفة،

لكننا سنعيش بشكل سيء"

Alain (Emile Chartier-)

***

خلف شخصية الفيلسوف آلان (Alain)، نجد الأستاذ إميل شارتييه ( Emile Chartier) الفيلسوف الملتزم والمثقف الثوري الذي ينتهي به الأمر إلى الاستقرار في "أعلى منصب في التعليم الثانوي"، هناك  العديد من الشهادات حول الكاريزما والموهبة التربوية للرجل، هو صاحب مشروع إصلاحي  وليس من المستغرب أنه كرس جزءا كبيرا من عمله لعلوم التربية والتعليم كان يحارب السذاجة او ماطلق عليه مصطلح التعليم السهل ودوره الاجتماعي والديمقراطي واضح للعيان . كتب على نطاق واسع عن التعليم الابتدائي، وعن العلاقة بين الطفولة والتعليم، وعن دور المدرسة.

ولد آلان في 3 مارس 1868 في مورتاني أو بيرش، في مقاطعة أورن. كان طالبا لامعا، وكان لديه سجل حافل في كلية Alençon، يقول ذلك بنفسه: "كنت خريجا من المدرسة العليا للمعلمين وأستاذا "  كان أساتذته سقراط وديكارت وأرسطو وأفلاطون ومونتين، ناهيك عن جول لاغنو، الذي اثر  بقوة على تفكيره.

تم تعيينه في بونتيفي، ثم لوريان. أدت محاضرة ألقاها في الجامعة الشعبية لتلك المدينة في عام 1897 إلى انتقاده من قبل الصحف الكاثوليكية. تجرأ على القول بأن "الشيطان غير موجود". تم قبول إميل شارتييه في برنامج بكالوريوس العلوم.وقد قدم، تحت إشراف جورج ليون، أطروحة حول نظرية المعرفة عند الرواقيين.

جاء إلى باريس كمدرس للرئيس الأول أو للفلسفة. وبعد اندلاع حرب عام 1914. في سن السادسة والأربعين، جند في المدفعية، معتقدا أنه لكي يتمكن من الحكم على الحرب، كان من الضروري أولا محاربتها. تم تسريحه في عام 1917 بعد حادث، واستأنف منصبه في هنري الرابع. نشر العديد من الكتب ومن المقالات حول الأدب والحرب والفن والدين والفلسفة، والتي أعيد طبعها جميعا عدة مرات.

توفي عن عمر يناهز 83 عاما في 2 يونيو 1951 في منزله الصغير في Le Vésinet، محاطا بأصدقائه، بما في ذلك أندريه موروا وموريس شومان وجورج كانغيلهيم.

هناك مفارقة حول مواقفه السياسة: إنه الجانب الذي ربما اشتهر به آلان، ولكنه أيضا الجانب الأكثر انتقادا. يجسد آلان بالفعل أول محاولة في فرنسا لفيلسوف للانخراط في السياسة، باسم الفلسفة. رجل من اليسار، مقرب من الحزب الراديكالي في ذلك الوقت، لكنه لم يكن خاضعا بأي حال من الأحوال لأي أيديولوجية، دافع آلان عن حقوق الفرد - دون اختلاف بين الجنسين، وهو أمر نادر في ذلك الوقت - حريته في الفكر والعمل. على الساحة الدولية، هو مدافع لا يكل عن السلام، وواحد من الشخصيات العظيمة.

حب الأعمال الأدبية في فلسفة آلان واضح، يقدم الأدب للفيلسوف رؤية نقية للعالم وعذاباته وجماله، ويسمح له ببناء فكره على عاطفة النصوص الجميلة، والتي يمكن الشعور بها أيضا عند قراءة الفلاسفة. قاد هذا آلان إلى العمل على أسلوبه الخاص، لإعادة تأهيل القيمة الفلسفية لمؤلف مثل مونتين في ذلك الوقت.

في فلسفة الان الثقافة والعبادة كلمات من نفس العائلة. لذلك فإن الرجل المثقف سيكون لديه بعض خصائص الرجل التقي. يقول :"  تخيل، كما رأيت، رجلا مثقفا يفتح Stendhal أو Balzac ويقرأ بصوت عال صفحتين مختارتين. هناك دين في تحركاته. وهذا الكتاب يؤخذ ككتاب مقدس أو قداس"

يؤكد الان ان المدرسة مكان مثير للإعجاب. يقول :" أنا أحب أن الضوضاء الخارجية لا تدخله. أنا أحب هذه الجدران العارية. أنا لا أوافق على تعليق أشياء عليها للنظر إليها، حتى الجميلة منها، لأنه يجب إعادة الانتباه إلى العمل. سواء كان الطفل يقرأ أو يكتب أو يحسب، فإن هذا العمل العاري هو عالمه الصغير، والذي يجب أن يكفي. وكل هذا الملل من حوله، وهذا الفراغ الضحل، يشبه درسا معبرا للغاية. لأنه لا يوجد سوى شيء واحد يهمك، أيها الولد الصغير، وهذا ما تفعله. سواء كنت تفعل ذلك بشكل جيد أو سيئ، هذا ما ستعرفه في الوقت الحاضر. لكن افعل ما تفعله" .

من أقواله أيضا: " المقاومة والطاعة، هاتان فضيلتان للمواطن. بالطاعة يضمن النظام. من خلال المقاومة يضمن الحرية"

شخصيات فلسفية وثقافية تحدثت عن الان

أندريه جيد

"قرأت بعض مقترحات آلان بإعجاب حيوي للغاية."

بول فاليري

"آلان، الذي يقول عنه النثر القوي والرائع كل ما يريده، وعلى عكس الآية الحقيقية، يريد كل ما يقوله."

فاليري، بول، La jeune Parque، تعليق على آلان، باريس، NRF-Gallimard، 76 صفحة، 1936 ؛ إعادة إد. 1953

سيمون ويل

أسر ويل لجيلبرت كان، في عام 1941: "هناك جزء من فكر [آلان] استوعبته لدرجة عدم القدرة على تمييزه عن فكري الخاص، وآخر رفضته".

في رسالة إلى آلان، من مايو 1941: "[لدي] وعي واضح للغاية بكل ما أدين به لك. وأنا مدين لك أكثر إذا كنت أكثر. ("رسالة إلى آلان"، Cahiers Simone Weil، II 4، ديسمبر 1979، ص 178)

جوليان جراك

« (…) الشيء الآخر الذي فاجأني كثيرا، لقد جئت من المقاطعات، هو أن الفاصل بين الفلسفة والأدب قد تم كسره. كل عام شرحنا فيلسوفا، كان يجب أن يكون هيجل، وبعد ذلك، في نفس الوقت، شرحنا كاتبا: كان بلزاك في ذلك العام. انتقلنا من واحد إلى آخر، اعتدنا على تحطيم أقسام المدرسة أو الجامعة التي تفصل بينهما. لذلك كان الأمر مثيرا للغاية. كان هناك عنصر من الجدة، بالنسبة لي، كان مذهلا للغاية، ثم كان هناك في آلان صورة رجل كامل: لقد كان ... ليس عملاقا، ولكن باختصار، كان شخصية طويلة وقوية ... (أ) نورمان؛ لقد شن الحرب. لقد أعطى انطباعا بوجود مادي كبير جدا، ثم عن توازن هائل أيضا. نعم، كان صلبا على ساقيه وأعطى انطباعا بأنه لا يتزعزع تقريبا، تحت أي ظرف من الظروف. في ذلك الوقت، كان في نفس الوقت معلما رائعا، وموهوبا، ومفكرا أيضا، لكنه كان أيضا نوعا بشريا مثاليا إلى حد ما. لقد ضربني. »

هذا هو صوت العرض حيث يتحدث Gracq:

ريموند آرون

"حتى اليوم، عندما أعيد قراءة الاقتراح الأخير قبل خطوبته، أو ندائه للأعداء في عام 1917، أرتجف من الاحترام أمام العظمة."

روجر مارتن دو جارد

"ما أنتجه الفكر الفرنسي ربما بأنقى طريقة منذ القرن الثامن عشر".

رومان رولاند

"[المريخ أو الحرب المحكمة] هو الكتاب الأكثر رجولة الذي كتب عن الحرب. كتاب ينتقم ويدمر المستنقع، بقوة الضوء المطلقة. كتاب، بينما يسخر من المريخ، "لا يسيء إلى الصبر ولا الشجاعة ولا العدالة".

أنا معجب بملاحظتك الغنية للروح. أنت واحد من الرجال القلائل، يا فيلسوف العزيز، الذي يضيف إلى مشهد الطبيعة البشرية بالنسبة لي - من خلال مساعدتي على فهمها. »

جان هيبوليت

"هناك في Propos sur l'éducation نظرية عميقة للطبيعة البشرية يمكن للمرء أن يبحث عنها عبثا في وجودية J.-P. سارتر »

جان هيبوليت، شخصيات الفكر الفلسفي، PUF

"برغسون وآلان، هذان العقلان العظيمان اللذان أساءا فهم بعضهما البعض واللذين يهيمنان بلا شك، بطرق مختلفة، على جميع الفلسفة الفرنسية المعاصرة."

"Alain et les dieus" في Figures de la pensée philosophique, Jean Hyppolite, Tome II, p 543, PUF, 1971

"نظرية آلان في الخيال ألهمت كل فكر سارتر"

"الوجود، التخيل والقيمة التي تشيز آلان" في شخصيات الفلسفة المعلقة، جان هيبوليت، تومي الثاني، ص 518، PUF، 1971

موريس ميرلو بونتي

"كان هناك في آلان من ناحية حكمة، علمها كما علم كل ما يدور في ذهنه، بالطبع. هذه الحكمة، على سبيل المثال في النظام العملي والسياسي، أدت إلى مواقف محددة للغاية ومحددة للغاية. ومن ناحية أخرى، كان هناك تعاطف كامل ومطلق مع كل ما يمكن تسميته فلسفة عظيمة، بما في ذلك، وفي المقام الأول، هيجل، بما في ذلك أيضا أوغست كونت، الذي كان على ما يبدو روحا معارضة جدا لآلان، والذي في الواقع جعله آلان معروفا أكثر من أي شخص آخر. بحيث يكون تأثيره ذا شقين: كان هناك في نفس الوقت ذلك النوع من وميض الحكم الذي كان حاضرا دائما والذي كان له تأثير على أحداث اليوم وكذلك على الماضي، ومن ناحية أخرى كان هناك كل هذا التقليد الثقافي العظيم الذي مثله والذي قدمه لتلاميذه. (…)

نعم، أعتقد أن التعريف دقيق تماما. ولإعطاء مثال أعتقد أنه يجسد حداثة هذه الفلسفة، أو على الأقل يجعلها محسوسة بوضوح، أود أن آخذ المثال التالي: هناك مشكلة، كانت دائما مشكلة فلسفية، لكنها ظهرت في شكل صريح فقط مع الظواهريين ومع الوجوديين، وهي مشكلة الآخرين. هذه مشكلة، على حد علمي، لم يقل برغسون كلمة واحدة عنها، وهي مشكلة لم يقل عنها برونشفيك كلمة واحدة. بالنسبة لآلان، سيكون الأمر أقل تأكيدا. آلان في بعض النواحي أقرب بكثير إلى مشاكل الوضع من الفيلسوفين الآخرين اللذين ذكرناهما للتو. »

مقابلات مع جورج شاربونييه، فيردييه، 2016

أندريه موروا

"لقد عرفت القليل من الرجال العظماء، أعني بدون أدنى قش في المعدن. يمكنك عدهم على أصابع يد واحدة. الفيلسوف آلان هو واحد منهم، وهناك عدد غير قليل منا عرف ذلك، من طلابه أو قرائه.

ماذا طلب وما هو القسم الذي يجب أن يؤديه لهذه الروح العظيمة؟

أعتقد أن هذا القسم يمكن تلخيصه في كلمة واحدة: الأمل. يطلب منا آلان أن نثق في الإنسان، مما يؤدي إلى احترام حرياته. الثقة في روحنا للذهاب، من خطأ إلى خطأ، نحو الحقيقة ؛ والثقة في إرادتنا لإيجاد ممرات عبر الكون الهائل من القوى التي لا تريد شيئا. من يعرف كيف يشك ويؤمن، يشك ويتصرف، يشك ويريد يخلص.

من بين كتاب هذا القرن، من سيستمر؟ بالنسبة للجزء الأكبر، لن أجرؤ على الإجابة. لكنني متأكد من هذا ولا أطلب أي مجد آخر لنفسي، بين أبناء إخوتنا العظماء، سوى أن أعلن عن ذلك ".

أندريه موروا، آلان، إصدارات دومات

جورج شتاينر

"كان حضوره بلا شك بارزا في التاريخ الأخلاقي والفكري لأوروبا. تغلغل تأثيره في التعليم الفرنسي وعناصر مهمة من الجسم السياسي من عام 1906، وهو عام إعادة تأهيل دريفوس، إلى أواخر أربعينيات القرن العشرين. يتميز نثره باقتصاد ووضوح لا مثيل لهما. سحرت نزاهته الرواقية أجيالا من الطلاب والتلاميذ. أصبحت المقارنة مع سقراط روتينية. كان آلان "الرجل الحكيم في المدينة"، "سيد الأسياد". بالإضافة إلى الكتابات الفلسفية والسياسية، بالإضافة إلى مقالات عن الفنون والشعر، مثل توضيحه لفاليري La Jeune Parque، نشر آلان تأملات في السيرة الذاتية. Histoire de mes pensées، من عام 1936، جوهرة. وكذلك تأملاته في الحرب، في المريخ. »

جورج شتاينر، الماجستير والتلاميذ، غاليمار، 2003

"فرنسا لديها تقليد رائع من المفكرين الذين هم أيضا من بين أعظم الكتاب، والكتاب العظماء الذين يجب على كل فيلسوف أن يأخذهم في الاعتبار. وهنا – سوف تضحك لأنه يبدو قديما جدا – أدعي فكر آلان، الذي لا يزال حاضرا بشكل مكثف بالنسبة لي. هو أيضا كان يقول دائما: "قراءة ستندال أو بلزاك هي ممارسة الفلسفة".

جورج شتاينر سبت طويل، ص 85، فلاماريون، 2014

روبرت ماجيوري

"تفلسف نيتشه بضربات المطرقة. كان إميل شارتييه، المعروف باسم آلان (1868-1951)، سيختار الفحم، أو قلم رصاص ميكانيكي ناعم أو ريش أوزة، إذا لم يكن صريرا. كان كل شيء ذريعة له للقيام بالفلسفة، صامتة وهادئة، لكنه أراد - كما يليق بالراقص ألا يسمح برؤية العمل في البار الذي يعدها في أرابيسك - ألا يظهر أي شيء مما يجعل الفلسفة قابلة للتحديد، الجهاز المفاهيمي، المراجع، تنظيم الأفكار، جمخانة الفكر. وهكذا، وباختصار من الكتابة والحكمة الحكيمة، ألقاها في مقترح شهير مخاطرة، صحيحا، بأن يعتبرها المتعلمون صحفيا، أو كاتب مقالات، أو في أحسن الأحوال، أخلاقيا. »

«عندما يكون الراقص نجما، فإنه لا يظهر في الأرابيسك الخفيف العمل الشاق في البار الذي يعدهم، ولا التدريب القسري والتعب والتشنجات. بالنسبة لآلان، نفس الشيء: الرغبة في عدم ظهور أي شيء يجعل الفلسفة قابلة للتحديد - الجهاز المفاهيمي، والإشارات إلى الفلسفات الأخرى، وتنظيم الأفكار، والإجراءات الجدلية - قدم لآلئ نقية من الحكمة التي بدت وكأنها لا تأتي من ورشة عمل، على غرار تلك المنحوتات الدقيقة التي تستخرجها شفرة جراحية من عود ثقاب أو رأس دبوس أو حبة أرز. نحن نختبر فيه الجمال والصغر، أعمال صحفي، كاتب مقالات، أو، في أحسن الأحوال، أخلاقي، وليس فيلسوفا".

جان بولهان

أول ما يذهلك بشأن آلان هو صحته الجيدة: لديه عين ثاقبة وخصر مرتفع وبشرة ملونة. إنه في مزاج جيد. يجعلك تريد أن تعيش. هذا ليس شائعا جدا بين الفلاسفة. يقول عن نفسه: "لدي شكل Percheron. إذا سافرت من Nogent-le-Rotrou إلى Argentan، فسوف تقابلني أكثر من مائة مرة. لذا، فإن آلان طبيعي. ورع! أنا لا أقصد عاديا. بل هو عكس ذلك. كان صديق لي يعاني من آلام في العين. قال له طبيب العيون الذي فحصه: "لديك عيون طبيعية تماما". وأضاف: "هذا غريب. لا يحدث مرة واحدة بالملايين.

آلان، أيضا، لا يصل مرة واحدة بالملايين. إنه ليس طبيعيا فحسب، بل يعرف ما يعنيه أن تكون طبيعيا. هذه معرفة لا يمكن وضعها في صيغ أو أنظمة. لكن يكفي أن نتذكر أقوال آلان المفضلة. مثل ماذا: نحن لسنا متأكدين أبدا من العثور على الأفكار حيث تركناها. على العكس من ذلك، يجب إعادة اختراعها في كل مرة.

ماذا يعني، ماذا يظهر بمثاله؟ هذا لأنه لا يوجد شيء للإنسان يعتبر أمرا مفروغا منه، لا الفكر ولا العلم ولا التكنولوجيا ولا المجتمع. هو أن كل شيء يجب أن يبدأ من جديد.

حسنا، هذا هو المكان الذي يكون فيه آلان طبيعيا، وإذا جاز لي القول، فهو شائع. عندما تذهب فتاة صغيرة إلى الكرة لأول مرة، فهي بعيدة كل البعد عن التفكير في أنها ستذهب بالفعل إلى الكرة لأول مرة. يبدو لها، في نقل السعادة، أنها أول فتاة صغيرة في كل العصور أعطيت لها للذهاب إلى الكرة.

إذا قرأت آلان، سترى بسرعة أن هذا هو حظنا جميعا، وعظمة مصيرنا: إنه أن العالم، مهما قال المرء، لم يخلق بعد. هذا لأنه كان ينتظرنا.

جان بولهان، 1952.

أوليفييه بوريول

(…) آلان فيلسوف. فيلسوف يستحق أن يدرس على هذا النحو، ليس فقط لصيغه التي غالبا ما تقترح كمواضيع البكالوريا، أو لدراساته التي تقدم سبينوزا أو أفلاطون أو ديكارت أو كونت أو هيجل، تأملات مكتوبة لموهبته كمعلم. إنه فيلسوف صعب، غالبا ما جعله جمال أسلوبه يبدو وكأنه كاتب ضائع في المفهوم، كما لو أن روسو لم يكن قد وضع بالفعل مثالا لفيلسوف يعرف كيف يكتب.

أوليفييه بوريول، آلان، لو جراند فوليور، لو ليفر دي بوتشي، 2006

أندريه كونت سبونفيل

"أين المزيد من الجمال؟ أين المزيد من الحقيقة؟ أين المزيد من الإنسانية؟ سيجد البعض أنه من الغريب أن آلان غالبا ما يساء فهمه أو نسيانه، على الأقل في الصالونات، عندما لا يتوقف الطهاة أو السفسطائيون أو الفاعلون على العكس من ذلك عن احتلال مركز المسرح.»

أندريه كونت سبونفيل، من المأساة إلى المادية والعودة، PUF 2015

***

علي عمرون – اختصاص فلسفة

تصفير الماضي بممسحة الحاضر البائس، دون غربلة نقدية موضوعية، يسطر مستقبلا محفوفا بالتشوه والاغتراب، كالباحث عن شماعة ليعلق عليها خيباته دون تبصر فيما حوله من تفاعلات لا تحتمها الوراثة!

والدعوة للنهضة الشاملة، إقرار بحالة النكوص والتقهقر والإنحطاط الشامل، الذي نجد أنفسنا فيه، بالمقارنة مع الاقران، ومع ما كنا عليه صعودا ونزولا، وما وصلنا اليه من نزول، ومع ما نطمح اليه من صعود، وهذا بحد ذاته علامة صحية وسوية ودالة على اننا مازلنا ننبض بالحياة، برغم كل تداعيات التبعية والإستهلاكية، والتوكلية، والدونية، وشيوع الاستبداد، والفساد، والجهل، والمرض، والفقر المادي والمعنوي الذي تخمر، وتخلل، وصار طقسا يفرض شروطه على كل مضارع فينا!

وعي الحالة وتشخيصها يستدعي البحث أولا في جذورها ومسبباتها، ثم أعراضها، والمعرفة هي رأس الحكمة هنا بحيث يقع على العارفين فيها فروض مزدوجة تجمع بين إجتهاد العين والكفاية، ولا يكفوا حتى يجعلونها فرض عين للعامة، بعد إجتهادهم في السعي للاولويات وثقتهم بما يعرضون من معالجات، ليصبح الحث صوبها قمة التثاقف العضوي، وهو مهمة الخاصة التي لا غنى عنها في اي إنتقال محمل بأثقال التنازع والإنكفاء  . 

دوران الحال يبعث فينا دوخة من يتعاطى زهورات الخشخاش،  الذي يُغيب البال لنشوة يهرب فيها من واقع الى آخر، ليس فيه مكان وزمان، وبالتالي ليس فيه منجز ولاعمران، وما يزيد الطين بلة ان يعمي بعضهم العيون بدلا من تكحيلها بإجتهاد نافذ ومتأصل ونابع من صميم بصمة وخصوصية مجتمعاتنا، يستسهلون الطريق مغتربين عن جادته بتعليقهم العلل كل العلل على شماعة التراث بكل ما فيه من دين وحضارة وثقافة ولغة، وكلسعات الزنابير تترك اوراما على الجلد تزول بعد حين ويبقى الجلد على حاله!

التعاطي النقدي البناء مع الماضي والحاضر لإستشراف مستقبل افضل يستلزم زاد وأدوات لا تحيد عن المعرفة الصرفة والموضوعية، وتجافي التبعية والتبصر بعيون مستعارة وينفض عن منهجه القطع في المحاولات والإستغراق في جلد الذات وإستسهال النقل عن إعمال العقل، وليس أي عقل، فالعقل عقلان، منضبط، ومنفلت، الاول ينطلق من الذات للموضوع ومن الخاص للعام ومن التخيير للتسيير، ويركز على جدل الظواهر والسمات ويخلص للحتميات ولا يجامل في الدفاع عن حصيلة فيها شفاء لعلة، والثاني مطلق العنان للمغامرة في المتاهات حتى لو كان فيها خراب غير منظور مادام للمتاهة سوق رائجة تشوش العقل وتجعله مغلوب على أمره، فمقارعة اي طبيعة كانت دون ضوابط واحكام، لها مآلات غير إنسانية خطرة خطورة الذكاء الاصطناعي، عندما يصبح خارج سيطرة الإنسان المسؤول عن بقاء النوع واحترام الطبيعة.

 البحث في التراث كأي إجتهاد وهو ليس ببدعة إنما هو قراءة متجددة بهدف إلتقاط ماينفع من النواميس، وله حسنتين إن أصاب، وحسنة واحدة إن أخطأ، وهذا ما نتعلمه من مذهب ابو حنيفة النعمان في القياس، ومن معطيات التراث نفسه ما يزكي ما ذهبنا اليه، ففي السيرة ما يعزز هذا المنحى، إجتهاد سليمان الفارسي في بلورة فكرة حفر الخندق التي تقبلها النبي رغم جدتها على نمط القتال عند قبائل العرب وقتها، وما قام به الخليفة عمر بن الخطاب المؤسس الثاني للنظام السياسي للدولة الاسلامية الاولى، الرشيدة، عندما أجاز إستخدام نظام الدواوين في شؤون الادارة وضمنها الكثير من أنظمة الضرائب بعد تعديلها لدواوين الخراج وبيت المال والجند وهي في الاصل رومية وأعجمية، في حوارات الامام علي مع الخوارج نفحات من التعاطي الإنساني مع المعارضة، والامثلة كثيرة .

واحدة من الإشكاليات في منحى التعاطي المعاصر مع التراث إرتباط النقد العمودي له بمواسم  الهزائم والانكسارات الكبرى، وبتغول نهج الاعتماد على الخارج في تلبية الضروريات،  بمعنى غياب المؤسسية النقدية التي تُقوم وتُقيم المواقف والحاجات وفي كل الاوقات، وهذه العلة لها جذر في طبيعة السلطة التي حورت مقتضيات الدولة بكل مرافقها وحولتها لغنيمة ووقف للمتسلطين!

الظلم مؤذن خراب العمران "إبن خلدون" :

لتقدم بلاد الغرب، وتخلفنا، علل داخلية وخارجية، وقبل الولوج فيها، لنتفق على ماهو مثبت، لم يكن الغرب مصدرا للاشعاع طوال الوقت بل كان الشرق هو مركز العالم، وكان قلبه النابض، ولم يجانب الصواب فولتير عندما قال : الغرب مدين بكل شيء للشرق وتقدمه، وكتاب " الجذور الشرقية للحضارة الغربية " لجون هوبسون المنشور عام 2007 يتكفل بشروحات تبرهن بطلان سردية التسلسل الانعزالي المتعمد، وذي النزعات الاستعلائية، التي تغذي الميول العنصرية للمركزية الاوروبية، كوازع للتفوق الذي يبرر الهيمنة بجعلها فطرية بنسبها، وعذراء بعذرية المجدلية، وكأنها نفحة قدرية بها قال الرب قولته حيث نهاية التاريخ، والانسان الاخير كما يذهب فوكوياما، بحكم يسوده شعب غربي ابيض هو المنتصر النهائي بل هو خاتمة الانسانية، بتزكية القوة التي يحتكرها وإعاقة المتطلعين والمتمردين بالترويض والخنق والإبادة ان تطلب الامر، اليونان القديمة انجبت روما، وتولدت عنها اوروبا المسيحية، وتمخضت، فولدت عصر النهضة، ومنها بزغ عصر التنوير، بمزج الديمقراطية السياسية والليبرالية الشاملة بالثورة الصناعية، ومن هذا المزيج نفحت الولايات المتحدة الامريكية التي تجسد الحياة والحرية والسعادة لتابعيها على الارض، ومن لا يركب قطارها، ذنبه على جنبه، حيث الانقراض والإبادة!!

 الحقيقة المطموسة ان الحداثة الغربية ذاتها لم تأتي من اليونان أو روما إنما من إحتكاكات بالثقافات غير الاوروبية وابرزها الشرقية الصينية والإسلامية، وعندما صدم المصدومون بها وعايشوا خرابها وتوحشها راحوا يبحثون عن ما بعدها، حداثة مجرمة إبتدأت بالإبادة الجزئية وتسرع الخطى نحو الإبادة الكلية حيث العبث بمصير الكوكب بما عليه!

يجافي المنطق من يصنف الحضارة اليونانية بالغربية، فهي ليست فقط جارة لصيقة بآسيا ولها بعد أفريقي عززته كريت مع المصريين وكما فعلت قبرص بالنسبة للفينيقيين، وإنما لم يكن لها مجال حيوي الإ في الشرق لان عمقها الجغرافي الشمالي بائر حضاريا، وبحر إيجة أرخبيل يعج بجزر التواصل وآسيا الصغرى تغذي وتضخ بما يفتق المعرفة المتنوعة بتنوع البضائع وتجار البر والبحر وحملات الجيوش، من إسبارطة نزولا الى أثينة وطروادة وإيونية الى الهوريين والحوثيين الى حيث الميزوبوتامية، الى التمدن الاول والارقى والاعمق والانبل، الى حيث السومريين لب التكوين وسره الاول، حيث طغيان النبوغ في مشاعة الحكم وحكمته والتنوع في التجاوز، والجاذبة لفضول المتطلعين للاندهاش، كالموشور يجمع ويفرد ويفرز جنائن وقوانين أكثر إنسانية من حداثة الغرب، من الوركاء وبابل وآشور من الصين والهند وفارس وآسيا الوسطى الى آسيا الصغرى لليونان والعكس كما في حملة الإسكندر المقدوني التي غزت الشرق وتفاعلت مع معطياته َ!

العلل داخلية وخارجية:

الاستبداد الداخلي والخارجي وتعاشقهما هو علة العلل في واقع تخلفنا، الذي يحتم الاضطراب وحجر الابداع المعرفي والحسي ويستبعد الاستقرار المجتمعي الذي يراكم الخبرات والثروات ويبعث بها روح الاستثمار المنتج للقيم المضافة، وخارجيا هيمنة الاستبداد الكولونيالي والاحتكاري ثم العولمي الذي يعمق تخلفنا وبالتالي تبعيتنا!

 الحريات العامة والخاصة وتفاعلها في ظل سلطة مؤسسات فعلية تقوم على اعتبار كل السكان شركاء في الوطن وهم مصدرسلطته ومناعته وثروته، ولهم جميعا حقوق وواجبات دستورية على اساسها يتم اختيار الحكام عبر آليات مستقلة فعليا وتتجسد عبر نظام التخصص وفصل السلطات، في دولة تترجم لوائح حقوق الانسان التي أبدع اصولها الشرق تحديدا قبل الغرب، ترجمة نافذة شكلا ومضمونا، دولة تنشد الرقي والرفاه، بالتحرر من الجهل والفقر والمرض والتبعية!

***

جمال محمد تقي

قيل ان يموت وهو على فراش المرض تمتم نيتشه بكلمات غامضة:" اضع يدي على الألف القادمة " واليوم تصادف الذكرى " 180 على ميلاده، ونحن نعيش عصر مواقع التواصل الاجتماعي وثورة الانترنيت لايزال الحديث عن نيتشه يشغلنا، ففي كل يوم يولد قارئ جديد سيقرأ فيما بعد سطراً من " العلم المرح " فيدهشه، أو كلمات من "هكذا تكلم زرادشت " فتسحره، او تغريه عبارة من إرادة القوة، ويظل هذا الفيلسوف الذي مات مجنونا لغز عالمي، فنيتشه كما كتب يوما الفيلسوف الألماني كارل ياسبرز:"لا يمكن استنفاذه، وقد غرف كل جيل من نبع رؤاه، وسعى الى استنفاذه، وقد بليت كل الانية وتكسرت، غير انه في العمق، ما يزال النبع نضاحاً لا ينضب "  .

كان نيتشه رجلا ذا مظهر صادم، متوسط القامة، ملابسه بسيطة، له شعر مسحوب الى الخلف، شاربه الكث مرتب ترتيبا دقيقا تخبرنا لو سالومي في كتابها " سيرة فكرية " – ترجمة هناء خليف غني – انه كان هادئا في سلوكه، وله اسلوب واضح ودقيق في التحدث .وتختتم سالومي انطباعها بالقول:" كان الرجل الاكثر تاثيرا وجاذبية الذي قابلته على الاطلاق " ..عند النظر الى صورة نيتشه الشهيرة بشاربه الكثيف ونظراته الحادة التي تبدو متشائمة في كثير من الاحيان، والعينين التي تمنح صاحبها انطباعا بالعزلة والانطواء، وهيأته الانيقة المدروسة، نكتشف حالة الغموض التي حاول ان يحيط بها نفسه، ورفضه وجود مَثَلٍ أعلى،:" انتصتوا ! فأنني على هذا النحو أو ذاك . فبحق الله لا تخلطوا بيني وبين أي شخص آخر " - هذا هو الإنسان ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد - .

في الرابعة والاربعين من عمره كتب فريدريك نيتشه:" إذا قُدر لك يوما ما ان تكتب عني .. فاستعن بالحصافة التي لم يتمتع بها احد للأسف، حتى الآن، واذكر خصائصي، اي اكتب وصفا لي لا تقييما لي .. فليس من الضروري على الاطلاق، ان ينحاز احد الى صفي، بل على العكس، إذ يبدو لي ان جرعة من حب الاستطلاع، كالتي يتسم بها من يشاعد نباتا غريبا، الى جانب مقاومة ساخرة، تمثل موقفا ازائي لا يدانيه في الذكاء شيء " .

منذ صدور كتابه الاول " مولد التراجيديا " عام 1872 ادرك نيتشة قوة واهمية كلماته، حيث شبه نفسه " بالقوة القاهرة " التي تكتب لتنتشر الكلمات في العالم، تبرق كاصاعقة، ظل يؤمن ان بامكانه بجرة قلم أن يقسم تاريخ البشرية الى قسمين " قسم عاش قبله، وقسم يعيش بعده " هذه الكلمات التي كتبها في كتابه " غسق الاوثان " قبل شهرين فقط من فقده عقله، لم يتوقع العالم ان ما كتبه هذا الرجل المجنون كان صحيحا . لكنه سيثبت فيما بعد بانه كان على حق بعد ان اعلن ان هدفه الاساسي كفيلسوف هو كشف الاوهام:" ان الانسان يصل الى العظمة عندما يصبح قادرا على الرقص من دون خوف وهو على حافة هاوية الموت . على حافة هوة وفراغ الوجود اللامعقول ودون ان يتراجع.

منذ سنوات وانا اتابع كل ما يكتب ويترجم عن نيتشه، ولست وحدي من القراء العرب من أغرم بهذا الفيلسوف الغريب الأطوار، والذي كتب عنه الكثير منذ ان كتب فرح انطوان عام 1908 سلسلة مقالات عن فلسفة نيتشة التي وصفها بالنقدية، ثم اصدر عام 1914 مرقس فرج بشارة كتاب بعنوان " هذا هو نيتشه "، مبرراً كتابته بالسعي لبث الحيوية في التاريخ العربي وإلهام الأمم التي تريد أن تتقدم وتنمو وترتقي بالنوع الإنساني، وما خصصه سلامة موسى لنيتشه من مقالات نشرها في مجلته الجديدة ولقي نيتشه اهتماماً من دعاة النهوض العربي، فترجم فيلكس فارس " هكذا تكلم زرادشت " اراد من خلال الترجمة كما يخبرنا سحق مشاعر الذل والمسكنة في الحياة العربية، وبث روح القوة فيه، ثم توالت الكتب عن نيتشه واصدر عبد الرحمن بدوي عام 1939 اول كتبه عن نيتشه وقد كتب في المقدمة:" ما نحن اولا نضع بين يديك اول صورة من صور الفكر الاوربي: صورة حية قوية فيها عنف وفيها قسوة، وفيها تناقض وفيها اضطراب،وفيها خصب وفيها حياة . ونحن نعلم مقدما انك لن تطمئن اليها، وان الكثير من القلق سيساور نفسك بازائها، ونخالنا نرى عينيك الآن وهما تتسعا دهشة واستغرابا، ونحس بقلبك وهو يهتز جزها منها وقشعريرة . ولكننا نعلم ايضا ان هذه الهزة هي القادرة وجدها على انتشالك من الظلمة التي انت فيها الى نور الفكر الحر والنظر الصحيح الى الاشياء ."، ثم كتاب فؤاد زكريا اضافة الى ترجمة معظم كتبه باكثر من ترجمة الى اخر كتاب اصدرته المطابع العربية عن نيتشه بعنوان " الحكمة التراجيدية " من تاليف الفرنسي ميشيل أونفراي والذي يقول انه يقدم في كتابه:" نيتشه الذي ادفع به هش، يحب النساء لكنه لا يعرف كيف يعبر لهن عن ذلك، لذا فانه يحتمي منهن فيظهر كالكاره لهن،إنه صاحب رقة وكياسة ووقار في حياته اليومية، لكنه على الورق يطلق العنان لأحصنته، ويُسمع دوي مدافعه، وازيز رصاصه، ويقتحم جبهات الفلسفة متسلحا بالحكمة الصادقة فقط، انه انسان معطاء، يكتب مثل شاعر كبير " – الحكمة التراجيدية ترجمة جلال بدلة -

لقد ادرك نيتشه منذ سنواته الاولى ان الظاهرة الأساسية القادمة في ثقافة الغد ستكون حتماً هي حاجة الفرد الى تمييز نفسه من الجماعة، ومن أكثر أوصاف نيتشه تاثيرا في النفس وصفه للانسان، والذي يرى نفسه شبيها بالأله، ففي هذا الوصف لايعود للانسان قمة اخرى يسعى اليها . وثمة طابور طويل من الادباء والفنانيين والفلاسفة وجدوا في عالم نيتشه دغدغة لمشاعرهم وتحفيزا لافكارهم، ويتراوح هؤلاء من شبلنجر الى هرمان هسه، ومن ريلكه الى عزرا باوند ومن توماس مان الى أليوت وحتى سارتر وهيدغر وكامو، هؤلاء جميعا يجدون انفسهم في كتابات نيتشه، وفي اشعاره الفاتنه، ولا يمكن لاحد اليوم ان يتجاوز نيتشه فنراه أختار لنفسه قناع صاحب الفكر الحر، او الداعية الى الاخلاق، او عالم النفس، او النبي، او المجنون، غير ان فكره يبقلى في ذلك جميعه وجوديا وتجريبيا ونموذجيا، وجودي لانه عني بتشكيل حياة نيتشه نفسه، وتجريبي لانه يضع المعرفة والتراث الاخلاقي جميعه موضع الفحص والاختبار، ثم ان تفكيره نموذجي في الاجابة على مشكلة العدمية التي نادى بها استاذه شوبنهور ..لقد شكك نيتشه تشكيكا اساسيا في معظم المفاهيم الفلسفية .

غالبا ما يعتبر نيتشه احد الأباء الروحيين للفلسفة الوجودية الحديثة التي ظهرت في القرن العشرين، ويكتب عبد الرحمن بدوي ان تاثير نيتشه على سارتر وهيدغر وكامو ربما يفوق تاثير كيركجارد . لا يوجد هدف أبدي ولا يوجد معنى أو مغزى مطلق للوجود البشري، هكذا يكتب كامو في مقدمة اسطورة سيزيف، وهو يقتبس هذه العبارات من هكذا تكلم زرادشت، يصر نيتشه على ان ما نصادفه في الحياة  مجرد تفاهة، اطلق عليها تعبير تفاهة اللامعنى . أن أرادتنا وقدرتنا على اتخاذ القرارات هي التي تميز البشر عن باقي المخلوقات وان انحطاط الأنسان العصري يظهر في كونه جبانا يفتقر الى فضيلة الشجاعة، لكن ألأنسان المتفوق هو ذلك الذي لايخشى ان يمارس رغبته في بلوغ المجد حتى أعلى المستويات .

ورغم ان الفلسفة الوجودية تدين بالكثير الى نيتشه، وينظر اليه مع كيركغارد، على انهما من رواد الوجودية، الا ان نيتشه يقف في كثير من الاحيان بالضد من كيركغارد الذي يصور الانسان الفرد على انه ضعيف، وعاجز، وجبان، ويجرد الفرد من جميع القدرات الانسانية، ويرى ان فقدان الانسان للايمان بنفسه، يدفعه للايمان المطلق بالله لحل مشكلاته الحياتية . لكن نيتشه يرفض هذا الحل الديني ن وهو يرى ان كيركغارد يحاول حل مشكلات الانسان عن طريق ادارة عقارب الساعة الى الوراء، والعودة الى الحكم المسيحي الذي يفرض تسليم النفس لله، وهذا مستحيل في نظر نيتشه، لان الله قد مات، وربما تكون فكرة موت الاله هي ابرز اسهامات نيتشه في الفلسفة الوجودية .

والان ربما يسأل البعض: لماذا نقرأ نيتشه، ولماذا كتبه لاتزال بعد اكثر من 120 عاما الاكثر مبيعا، فيما لو قمنا بكتابة كلمة نيتشه في موقع " غوغل " ستظهر لنا الالاف الكتابات والصور عن هذا الفيلسوف الذي كان مؤمنا بان مهمة الفلسفة تعليمنا كيف نصير نحن ..وتعلمنا كيف نكتشف اعلى مقدراتنا، وكيف نكون اوفياء لها .

قبل اعوام قليلة صدر كتاب يطرح فيه مؤلفه الكاتب الانكليزي باتريك ويست فكرة تخيل عودة نيتشه الى حياتنا هذه الايام، ويناقش تاثير نيتشه على عصرنا الحاضر، فهذا لفيلسوف الذي اخترع كلمة السوبرمان، لاتزال افكاره حول طبيعة الخير والشر، وارادة القوى، تردد صداها في جميع أنحاء العالم، وفي وسائل الاعلام، ونجده يظهر في سلسلة هاري بوتر كانسان خارق، يطرح الكاتب سؤالا: هل نحن مدينون لنيتشه، الذي اكد ان " ما هو عظيم في الإنسان، أنه جسر وليس هدفًا ". .

يقول الكاتب أن نيتشه يحب أن يطرح أسئلة. وقد كان يعتقد أنه كلما زادت عدد الأسئلة التي نطرحها كلما زادت الحكمة التي نكتسبها ونطورها في حيانتا بشكل أفضل، وان الانسان عندما يعاني للوصول الى هدفه فان ذلك افضل له، فالشجاعة هي في مواجهة الصعوبة، والسماح لنفسك بالعيش بشكل تجريبي، واستكشاف خبرات الحياة بجرأة:" كن ممتنا لأنك لم تأخذ الطريق السهل وتستمر في ذلك مثل "متعرج ممل".

لقد احببت نيتشه منذ ان انتهيت من كتابه " هكذا تكلم زرادشت " قبل ما يفارب الاربعين عاما، ورحت منذ ذلك الوقت ابحث عن هذا الفيلسوف الغامض والغريب، جذبني شيئًا ما باتجاهه وبدأت أشعر بإغراء لكل ما كتبه وما كُتب عنه، وتعلمت منه أن اقرأ بتمعن لاتمكن ان اجيب عن سؤاله الذي يطرحه في كتابه " هذا هو الانسان ": هل فهمت؟ . هل يمكن ان تشاركوني افضل كتاب قرأتموه لنيتشه؟

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

توطئة: أفرد طه حسين في كتابه الموسوم " تجديد ذكرى أبي العلاء " (2) فقرة قصيرة خاصة أسماها [البعث] حاول فيها معرفة حقيقة موقف وقناعة أبي العلاء المعري في موضوعة القيامة بعد الموت أو النشور أو البعث، والموضوعة هذه تمثل واحداً من أركان الديانة الإسلامية كما هو معروف. بذل الدكتور طه حسين في سبيل ذلك جهداً كبيراً مستقصياً ما قال أبو العلاء في هذه الموضوعة من أشعار. لم تسعفه هذه الأشعار ولم تساعده للوصول إلى نتيجة قطعية بعد أنْ نقّب وقلّب يمنةً ويسرة ً حتى إنتهى إلى نتائج ليست قاطعة حاسمة فخلص مرة ً إلى القول إنَّ الرجل شكّاك لا أكثر، أو إنه ينفي البعث، أو أنَّ الرجل مسلم مؤمن ملتزم بأركان دينه، وثمة مرة رابعة أفاد فيها أنَّ أبا العلاء لا يستطيع الجزم في أمر البعث والآخرة والحساب، أي أنه متردد حائر. كانت هذه أبرز إستنتاجات طه حسين فيما يخص موقف المِعرّي مما يأتي الإنسانَ فيما بعد الموت. أكرر، إعتمد طه حسين على ما قال المِعَرّي من أشعار في هذا الصدد وهو منهج علمي سليم لا غبار عليه، لكني لا أراه كافياً وافياً بل وأحسب أنَّ الركون إلى هذه الأشعار وحدها لا يكفي ولا يشفي الغليل ولا يوصل الباحث إلى النتيجة المُبتغاة. ما هو البديل إذاً؟ البديل أو المتمم هو كتاب رسالة الغفران (1) لأبي العلاء المعري. نعم، في هذا الكتاب يجد الباحث ضالته ويقف على مواقف الشاعر الضرير الحقيقية ومعتقداته حول الآخرة والجنة والنار. من يدرس رسالة الغفران دراسة متأنية يجد المعري واضحاً فيما تناول وكتب في رسالته. يجده ليس رجلاً شاكاً في العالم الآخر (الآخرة) حسبُ، بل وساخراً منه أيما سخرية... سخرية تتبدى في كل كلمة قالها أبو العلاء وفي كل سطر دبّجه وفي كل فكرة تناولها. لكنه كان ذكياً جداً حذراً جداً فتوارى خلف أساليب لغوية وآيات قرآنية تجنبه نقمة الناقمين وغضب المتعصبين وتجنبه الكثير من المتاعب وهو الرجل الأعمى العاجز المكتفي بغيره. أجلْ، كانت السخرية أسلوب وسلاح الرجل في هدم أسطورة النار والجنة والحياة بعد الموت. إتخذ الأدب والشعر والعديد من آيات القرآن الكريم وسائلَ وأساليبَ لهدم كل ما راكمت الأديان من أفكار ومعتقدات وتصورات حول العالم الآخر الذي ياتينا بعد الموت. فلا قيامة في نظره ولا حشر ولا حساب ولا كتاب ولا من جنة ولا من نار. سأعتمد لإثبات صحة إستنتاجي هذا على مواقف محددة وردت في كتاب (رسالة الغفران) وأترك الحكم النهائي للقارئ الكريم. قبل أن أنصرف لعرض بعض ما ورد في رسالة الغفران من أفكار وحجج مبطنة تنسف العالم الآخر، عالم الغيب... سأنقل قبل ذلك بعض ما كتب طه حسين (2) حول الروح والبعث ثم أستعرض بإختصار شديد ما قال في بعض أشعار المعري ذات العلاقة.

[لا يشك أصحاب الديانات في البعث، ولا يمتري المسلمون في حشر الأجسام، بذلك نطق القرآن الكريم في كثير من آياته. فأما الفلاسفة الماديون فينكرونه جملةً. وأما الفلاسفة الإلهيون من اليونان " ولا سيما الأفلاطونية " فينكرون حشر الأجسام، ولا يؤمنون ببعث الأرواح كما نفهمه نحن من الدين، ولكنهم يقولون بخلود الروح، وإنها تنتقل بعد الموت إلى عالمها العقلي، فتشقى أو تُسعد بتذكار ما صنعت في الحياة. ولا بدَّ عندهم من أن تعودَ إلى صفائها بعد المحنة. فلما نُقل هذا المذهب إلى المسلمين صبغه الفلاسفة منهم صبغة الإسلام فسموا رجوع الروح إلى عالمها العقلي بعثا ً، أما أبو العلاء فقد إضطربَ رأيه في البعث إضطراباً شديداً فمرةً أثبته فقال:

وإني لأرجو منه يومَ تجاوزٍ

فيأمرُ بي ذاتَ اليمينِ إلى اليسرى

*

وإنْ أعفَ بعد الموت مما يريبني

فما حظيَ الأدنى ولا يديَ الخُسرى

وتارةً يُنكره نصاً فيقول:

ضحكنا وكان الضحكُ منا سفاهةً

وحُقَّ لسكان البسيطةِ أنْ يبكوا

*

تحطمنا الأيامُ حتى كأننا

زجاجٌ ولكنْ لا يُعادُ له سبكُ

على أنَّ أبا العلاء لم ينفِ البعث في هذين البيتين وحدهما، بل نفاه أكثر من ستين مرة في اللزوميات. ومن أشنع قوله في ذلك ما رواه القفطي وياقوت.... ثم يقول طه حسين: وتارةً يقف أبو العلاء في أمر البعث موقف الشك فيقول

يا مرحباُ بالموتِ من منتَظَرٍ

إنْ كان ثمَّ تعارفٌ وتلاقِ

وتارةً يجزم بمذهب أفلاطون في الروح فيقول

وإنْ صدئتْ أرواحُنا في جسومنا

فيوشكُ يوماً أنْ يعاودَها الصقل

ثم يواصل طه حسين سوق حججه فيقول: ومهما يكن من شك أبي العلاء أو إنتحاله الشك في البعث، فإنه لا يرتابُ في قدرة الله عليه، وفي ذلك يقول:

وقدرةُ اللهِ حتى ليس يُعجزها

حشرٌ لجسمٍ ولا بعثٌ لأموات ِ]

إنتهت مقتبساتي مما قال طه حسين.

لقد سبق المتنبي أبا العلاء في تناول موضوعة علاقة النفس بالجسد بعد الموت ولخص موقفه منهما بدقة وإختصار شديد وفي بيت شعري واحد بناه على شكل تساؤل نسبه لغيره مستخدماً أسلوب المبني للمجهول (قيلَ) لكي ينأى بنفسه عن إتهامات مبغضيه وأعدائه وكانوا كُثراً في حياته وبعد مماته قتلا غيلةً. قال المتنبي (3):

تخالفَ الناسُ حتى لا اتفاقَ لهمْ

إلا على شَجَب ٍ والخُلفُ في الشجَبِ

*

فقيل تخلصُ نفسُ المرءِ سالمةً

وقيل تشركُ جسمَ المرءِ في العطبِ

خلاصة دراسة طه حسين لمسألة البعث لدى المعري في أشعاره:

أولا / إنه يشك فيه يوماً

ثانياً / وينفيه يوماً آخر

ثالثاً / إنه حائر في الأمر عاجز عن القطع به.

رابعاً / وإنه لا يشك في قدرة الله على إتيانه.

وهذه ثنائية غريبة، يؤمن المعري هنا بالله وبقدراته الخارقة لكنه لا يؤمن في أماكن أخرى بالبعث أو يشكك به أصلاً. فهل من الممكن فصل الإثنين عن بعضهما، أي وجود الله الخالق وعدم وجود حشر وقيامة وحساب وجنة ونار؟ نعم، هذه هي عقيدة أبي العلاء كما أرى. أسالُ المعري وهو في قبره سؤالاً: إذا محونا النصف الآخر لعالمنا، عالم ما بعد موتنا، فما جدوى وجود إله خالق يقال عنه سرمدي لم يلدْ ولم يولدْ خارج المكان والزمان؟ هل يستمر في خلق بشر جديد يوماً بعد يوم يلقيهم على أديم الآرض ويقول لهم وداعاً لا أراكم ولا ترونني يا معشر البشر... لا من حساب ولا من جنة ولا نار؟ إذا صح ذلك {وجود الله بدون بعث وآخرة وقيامة وحساب} فإنَّ معكوسه سيصح بعد ذلك.أعني وجود البعث ولكن لا من وجود للرب الخالق!! وهذا هو منطق الأفلاطونيين ـ وربما تأثر بهم المعري ـ الذين (ينكرون حشر الأجسام ولا يؤمنون ببعث الأرواح، ولكنهم يقولون بخلود الروح وإنها تنتقل بعد الموت إلى عالمها العقلي فتشقى أو تُسعد بتذكار ما صنعت في الحياة، ولا بدَّ عندهم من أن تعودَ إلى صفائها بعد المحنة). الأجسام فانية تتفسخ تحت التراب لكنَّ الروح خالدة أكانت صالحة أم طالحة في الحياة. وفي عالم العقل تصفو وتتنقى الأرواح الشقية الشريرة التي لم تكن صالحة في الحياة أي تتطهر لتغدو متطابقة مع مثالية عالم العقل. إذاً ليس في عالم أفلاطون نارٌ للكفرة والملحدين تعذبهم فيها ملائكة النار، بل هناك ما يشبه المدارس أعدت لغسل أدمغة العاقين والكفار وغير المؤمنين يتطهرون فيها ليدخلوا بعد ذلك ملكوت العقل الأبدي الخالد. وهذا ما ذهب إليه دانتي في الكوميديا الالهية حيث أوجد منطقة تتوسط الجنة والنار أسماها المطهر. الروح هنا لا تتعذب ولا تٌشوى بنيران جهنم ولا من سلاسل حديد في الأعناق وحول الأرجل. الرحمة هنا وكل العناية بالإنسان سواء من قبل خالقه إذا كان هناك ثمة من خالق أو من قبل الموكلين بعالم العقل كما يتصوره الأفلاطونيون وبعدهم دانتي. ديننا الإسلام قاسٍ مقفل لا يعفو في الآخرة عن مسيء ولا يقبل توبة وهو شديد السادية فصور العذاب والتعذيب وأساليبها وأدواتها كثيرة في القرآن الكريم وقد تعلم منها البعثيون وتبنوا أسلوب الإسراف في السادية وقتل الناس وتعذيبهم والتمثيل بأجسادهم قبل وبعد قتلهم. ليس من خيار أو طريق ثالث للإنسان في الإسلام، إما الجنة أو النار. طرفان متناقضان كليةً ً، في غاية التطرف والتباعد. ليس من منطقة وسطى فيما بينهما. لا وجودَ للتدرج أو التوبة فالغفران في الآخرة. التوبة مقبولة في الدين الإسلامي ولكن في حياة الإنسان في دنياه الفانية. لا تُقبل التوبة منه بعد موته ما دام قد وصل الآخرة كافراً أو ملحداً أو غير مؤمن أو مشركاً أي يحمل رأياً أو معتقداً أو قناعة مخالفة للدين الإسلامي. لا الله ولا دينه الإسلام يقبلان الإختلاف في الرأي والمعتقد. لا أزعم أن المستبدين وجبابرة التأريخ جميعا ً تعلموا وأخذوا طبيعة وأساليب الإستبداد عن الدين الإسلامي فالإستبداد ظاهرة قديمة جداً بداياتها إنقسام المجتمعات البشرية إلى مسُتغِل ومُستغَل.

المِعَرّي والجنة

أعود للمعري ورسالة الغفران لأتناول مسألة الدخول إلى الجنة وكيف صورها وبأية سخرية رسم فصولها. إستغرق هذا الموضوع الصفحات 101 إلى 109 من كتاب رسالة الغفران مبتدئاً بالعنوان [حديث الدينونة] حيث يقص (إبن القارح) قصة دخوله الجنة فيقول:

[لما نهضتُ من الريم (الريم: القبر) وحضرت حرصات القيامة والحرصات مثل العَرَصات، أُبدلتْ الحاء من العين، ذكرتُ الآية <<تعرجُ الملائكة ُ والروحُ إليه في يوم ٍ كان مقداره ُ خمسين ألف سنة ٍ، فاصبرْ صبراً جميلاً >> فطالَ عليَّ الأمدُ واشتدَّ الظمأ ُ والومدُ، والومد شدة الحر وسكون الريح، كما قال أخوكم النميري:

كانَّ بيضَ نعام ٍ في ملاحفها

جلاه ُ طل ٌّ وقيظ ٌ ليلهُ وَمَدُ

وأنا رجلٌ مهياف، أي سريع العطش، فأفتكرتُ، فرأيتُ أمراً لا قوامَ لمثلي به. ولقيني الملك الحفيظ بما زُبرَ لي من فعل الخير، فوجدتُ حسناتي قليلة كالنفأ ِ في العام الأرمل، والنفأ الرياض، والأرمل قليل المطر، إلا أنَّ التوبة في آخرها كأنها مصباح آبيل (أي راهب) رُفع َ لسالك سبيل].

أين السخرية في هذا القول؟ وهل فيما قال الرجل شئ من جدية أو إيمان بدين ورب؟ قام إبن القارح من قبره فحضر أحد أماكن أو مشاهد القيامة على أمل لقيا خالقه وقد قدّم َ للمَلك المسؤول عن التحقيق والمساءلة والمحاسبة كشفاً أو حساب َ ما فعل في دنياه وكل ٌّ يحمل كتابه في يمينه حسب بعض نصوص القرآن. لكنه تذكّر وهيأ نفسه لإنتظار طويل جداً قبل أن يستطيع مقابله ربه. ماذا تذكر؟ آية ً قرآنية تقول (تعرجُ الملائكةُ والروحُ إليهِ في يومٍ كان مقدارهُ خمسين ألف سنة ٍ فاصبرْ صبراً جميلاً). على الرجل إذا ً أن ينتظر خمسين ألف سنة حتى يصله الدور فيحظى بلقاء وجه ربه. الطريف أنَّ المعري يسمّي مكان الإنتظار هذا " الموقف " وهو تعبير شائع معروف في عالم الشرطة في العراق في الأقل... وهو مكان أو غرفة مخصصة لإيداع من عليه تهمة أو وشاية أو قام بمخالفة أو جناية أو جنحة يقيم فيها إنتظاراً لساعة التحقيق معه فيما فعل. الموقف... أي الحبس المؤقت!! حبس مؤقت في دنيانا لكنه حبس طويل في عرصات القيامة... حبس يستغرق خمسين ألف سنة. هذه أول نكتة يسخر المعري فيها من عالم البعث والقيامة والحساب وطرق هذا الحساب ولا يستثني من ذلك فكرة الرب نفسها!!

مع رضوان خازن الجنان

بعد هذه المقدمة الساخرة وما إعتورها من فذلكات لغوية لا أرى لها من لزوم، وستتكرر هذه الفذلكات في الكثير من صفحات رسالة الغفران وسأشير إلى أبشعها وأكثرها بعدا ً عن الضرورة... بعد المقدمة هذه ينتقل المعري / أو إبن القارح إلى رضوان خازن الجنان فكيف كان لقاؤه برضوانَ هذا وما دار بينهما من حوارات؟ سألخص الطريف لكني سأثبت الهام جداً حرفياً كما كتبه المعري. نظم أبياتاً في رضوانَ هذا يسترضيه فيها ويجامله بل ويستعطفه ثم أُضطر َّ إلى مدافعة الناس حتى بلغ نقطة منه بحيث يسمعه ويراه ويبدو أنه قد قرأها عليه لكن رضوان تجاهله ولم يأبه به. لم يفقد الأمل، نظم أبياتاً شعرية أخرى بحيث ينتهي أحدها كقافية بالإسم رضوان (بانَ الخليطُ ولو طُوِّعتُ ما بانا...) وكرر محاولة الدنو من رضوان وقرأ الأبيات الجديدة فلم يعره الأهمية المطلوبة. كتب الكثير من الأشعار التي يمكن إدخال الإسم رضوان في آخر أحد أبياتها فلم يغثه أو لم يفهم هذه الأشعار ولم يقم لها وزناً. فقد إبن القارح (المعري) صبره:

[دعوتُ بأعلى صوتي: يا رضوانُ، يا أمين الجبّار الأعظم على الفراديس، ألم تسمعْ ندائي بك وإستغاثتي إليك؟ فقال: لقد سمعتك تذكر رضوانَ وما علمتُ ما مقصدك، فما الذي تطلب أيها المسكين؟ فأقول: أنا رجل ٌ لا صبرَ لي على الدواب أي العطش، وقد إستطلتُ مدة الحساب ومعي صك بالتوبة، وهي للذنوب كلها ماحية، وقد مدحتك بأشعار كثيرة ووسمتها بإسمك، فقال وما الأشعار؟... فقلتُ الأشعار جمع شعر وكان أهل العاجلة يتقربون به إلى الملوك والسادات، فجئتُ بشئ منه إليكَ لعلكَ تأذنَ لي بالدخول إلى الجنة في هذا الباب، فقد إستطلتُ ما الناسُ فيه وأنا ضعيفٌ مَنين ولا ريبَ أني ممن يرجو المغفرة وتصح له مشيئة الله تعالى.

فقال: إنك لغبين الرأي! أتأملُ أنْ آذنَ لك بغير إذن ٍ من رب العزة؟ هيهات هيهات! (وأنى لهم التناوش من مكان بعيد / من سورة سبأ)].

حوار ساخن مؤثر بليغ بين الخازن أو الحارس أو الأمين على الجنان ورجل كبير مريض قد يكون مصاباً بمرض السكري لأنه لا يصبر على العطش يقف بباب الجنة وجهاً لوجه مع الأول حاملاً صكاً بالتوبة أو كتاب براءة وحسن سلوك وعدم محكومية... يرجوه فيه منه الدخول إلى الجنة لكنَّ حارس الفراديس الأمين يتصلب في موقفه ولا يلين ويرفض طلب الرجل المسن العليل بحجة أنَّ الأمر منوط بقرار رب العزة. رضوان هذا موظف والله ِ نزيه مضبوط لا يحيد عن أصول وقواعد النزاهة والإستقامة في أداء واجبات الوظيفة، ينفذ فقط ما يأتيه من أوامر ونواه ٍ. صك التوبة لا يكفي لدخول الجنة. هذا الصك بحاجة إلى تزكية وتصديق من لدن رب العالمين... بحاجة إلى ختم أصلي وتوقيع أو بصمة الإبهام الأيمن. رضوان شرطي أمين صارم لا يخالف أوامر ربه فكم كان مقدار ما يتقاضى من راتب لقاء هذه الوظيفة المتعبة وبأية عملة يقبض مرتباته اليومية كعامل أو الشهرية كموظف أو الأسبوعية على الطريقة الإنجليزية؟ هل قرأنا سخرية أكثر بلاغة ً من سخرية المعري مما يدور هناك في الأعالي من مهازل وما يُعرض من أفلام هندية وأخرى كارتونية ملونة وبالسينما سكوب؟

مع زُفَر، خازن الجنة الآخر

يئس المسكين إبن القارح من رحمة رضوان القاسي الذي لا يفهم الشعر ولا يتقبله كرشوة والشديد الإلتزام بما يمليه ربه عليه فمال إلى خازن ٍ آخرَ إسمه زُفَر لعله يتجاوب مع نداءاته ويستجيب لتوسلاته فيسمح له بالدخول. إتبع ذات المنهج الذي سلك مع رضوان فنظم له أشعاراً كثاراً وسمها بإسمه على وزن ما قال لبيد:

تمّنى ابنتاي أنْ يعيشَ أبوهما

وهل أنا إلا من ربيعة َ أو مُضرْ

أي أن يستبدل كلمة مضر بكلمة زُفر مثلاً... تجاهله زفر كما فعل رضوان قبله. لم يهتم بما قال من شعر بل وعلّق قائلاً:

[لا أشعر بالذي حممتَ أي قصدتَ، وأحسب هذا الذي تجيئني به قرآن إبليس المارد ولا ينفق على الملائكة، إنما هو للجان وعلموه ولدَ آدم فما بغيتك؟ فذكرت له ما أريد فقال: واللهِ ما اقدر لك على نفع، ولا أملكُ لخلقٍ من شفعٍ، فمن أي الأمم أنت؟ فقلتُ من أمة محمد بن عبد الله بن عبد المطلب فقال: صدقتَ، ذلك نبي العرب ومن تلك الجهة أتيتني بالقريض، لآنَّ إبليسَ اللعين نفشه في إقليم العرب فتعلمه نساءٌ ورجال، وقد وجبَ عليَّ نصحك فعليك بصاحبك لعله يتوصل إلى ما إبتغيتَ].

زفر أفضل من رضوان، إذ أخلص له النصح مقترحاً أن يتصل بعم النبي الحمزة بن عبد المطلب. زفر أكثر حنكة وذكاءً من زميله رضوان. إنه حكيم ساخر وفيلسوف. يعرف من أين وكيف أتى الشعر ُ أمة َ العرب. ويعرف علاقة الشعر بإبليس الغاوي والمستكبر والمغرور. يعرف ما قال القرآن بالشعر والشعراء. يعرف أن النبي نفسه كان متهماً بأنه شاعر وساحر وكاهن ومجنون فنفى هذه التهم عن نفسه. ثم، الأكثر طرافة، فهم زفر ما قرأ إبن القارح له من أشعار لكأنها قرآن!! قرآن إبليس. إنه لا ريبَ يعرف أسماء وأشخاص عدد من عرب الجزيرة ممن إنتحلوا أقوالا تحاكي آيات القرآن من أمثال سجاح ومسليمة الكذاب وغيرهما ممن لا نعرف. ثم في قول زفر إشارة جدَّ ذكية إلى الآيات الشيطانية التي جاءت في سورة النجم (4) من باب المساومة والمناورة العالية الدبلوماسية بين محمد وأبي سفيان... ثم أُضطر النبي وكان ما زال في بدايات رسالته إلى التنصل عنها وألغائها تحت ضغط زوجه خديجة وعمه العباس كما يذكر المؤرخون ومنهم أخذ سلمان رشدي وقائع فصلين من فصول روايته الآيات الشيطانية المعروفة. (قرآن إبليس)!! لمحمد قرآنه ولإبليس قرآنه الخاص. الجان لا الملائكة علموا بني آدم نظم الشعر، وإبليس أشاعه في إقليم العرب خاصة ً فإنتشر بين النساء والرجال على حد سواء!! إنه مقطع شديد التركيز كثير المغازي واضح السخرية من الكثير من الأمور التي تخص المسلمين ودينهم وتصوراتهم حول البعث والجنة. ليس دخول الجنة بالأمر اليسير كما نعلم وكما يخبرنا القرآن دستور المسلمين ولكن أبا العلاء المعري يقارب ثم يدنو كثيراً من أبواب الجنة هازئاً ساخراً ضاحكاً منها ومن حرّاسها الأمناء ومن كافة العقول التي يؤمن أصحابها بيوم فيه يبعثون ويحاسبون ثم يدخلون الجنة أو النار حسب أعمالهم في الدنيا العاجلة. كيف إجترأ هذا الرجل الضرير على قول كل ما قال بهذا الصدد؟ أما خشيَ العواقب الوخيمة؟ كيف وقف وحيداً يواجه طواغيت عصره من حكام وسلاطين ورجال دين؟ أكان عماه شفيعاً ومبرراً لجرأته غير المسبوقة في عالم تأليف الكتب من أمثال رسالة الغفران؟ كيف مرر هزءَه وسخريته على هؤلاء الحكام وعلى طبقات رجال الدين ووعاظ السلاطين؟ كيف؟

مع حمزة بن عبد المطلب

أصغى إبن القارح لنصيحة زُفر فيمم وجهه صوب الحمزة ونظم فيه شعراً جارى فيه أبيات كعب بن مالك التي رثى فيها الحمزة وخاطب صفية عمة النبي وأخت الحمزة:

صفية َ قومي ولا تعجزي

وبكّي النساءَ على حمزة ِ

ثم يقول

[وجئتُ حتى وليتُ منه فناديت: يا سيدَ الشهداء، يا عم رسول الله صلعم، يا إبن أبي عبد المطلب! فلما أقبل عليَّ بوجهه أنشدته الأبيات فقال: ويحك! أفي مثل هذه المواطن تجيئني بالمديح؟ أما سمعتَ ألآية " لكل إمرئ منهم يومئذ ٍ شأن ٌ يُغنيه ِ " فقلتُ بلى قد سمعتها وسمعتُ ما بعدها " وجوه يومئذ ٍ مُسفرة ضاحكة مستبشرة، ووجوه يومئذ ٍ عليها غبرة، ترهقها قترة، أولئك هم الكَفرة الفَجرة " فقال إني لا أقدرُ على ما تطلب، ولكني أنفذ معك توراً أي رسولاً، إلى إبن أخي علي بن أبي طالب ليخاطبَ النبيَ صلعم في أمرك. فبعث معي رجلاً، فلما قصَّ قصتي على أمير المؤمنين قال: أين بينتك؟ يعني صحيفة حسناتي].

هكذا نرى أسلوب المعري في التدرج ملتمساً شفاعة البسيط ثم الكبير الإسم والمسؤولية. تدرجاً منطقياً سلسا لا يجد القارئ فيه تعسفاً أو إفتعالاً أو مشقة لفهمه والإقتناع به. هدف المعري المركزي هو الوصول إلى نبيه بإعتباره الأقرب لمقام الله في الجنة. ليس في طوق عمه الحمزة الوصول إلى إبن أخيه ولكنَّ علياً قادرٌ على ذلك لسببين قويين أولاهما إنه إبن عم النبي وربيبه وثانيهما إنه صهره، زوج كريمته فاطمة الزهراء. لذا صرفه الحمزة ووجهه إلى علي بن أبي طالب مع رسول.

يغير المعري من سياق رسالة الغفران فيفرد بابا ً يسميه (مع أبي علي الفارسي) وهو أحد علماء النحو المعروفين. لم أجد في هذا الباب ما يضيف شيئاً جديداً لأطروحتي ووجهة نظري في فهم وتفسير رسالة الغفران وهي كالقرآن حمّالة أوجه ٍ متعددة متباينة سوى الفقرة الأخيرة فقد وجدت فيها أمرا ً ساخراً هازئا ً مرحاً يستوقف القارئ:

[... وشغلتُ بخطابهم والنظر في حويرهم (الحوير العداوة والمضادة)

فسقط مني الكتاب الذي فيه ذكر التوبة، فرجعتُ أطلبه فما وجدته].

هل كتاب التوبة هذا هو البينة التي سأل علي ٌّ إبنَ القارح عنها ففسرها هذا بأنها صحيفة حسناته؟ أظن ذاك. كيف ضيعها وأين ضاعت منه ثم أليس لديه نسخة ثانية منها كما نفعل في أيامنا هذه؟

مع الإمام علي

وقفة إبن القارح مع علي فيها الكثير من الطرافة بل والغرابة. هوَّن عليٌّ على إبن القارح من أمر ضياع كتاب توبته لكأنه كان على علم بهذا الضياع. قال له [لا عليك، ألك شاهد ٌ بالتوبة؟ قلت نعم، قاضي حلب وعدولها]. يشهد قاضي حلب بعد تردد على صحة توبة علي بن منصور إبن القارح فيتوجه هذا إلى أمير المؤمنين مذكّرا ً إياه بما التمس منه وهنا تحدث مفاجأة غريبة: يعرض عليٌّ عنه بجفاء وخشونة فيقول له [إنك لترومُ حددا ً ممتنعا ً ولك أسوة ٌ بولد أبيك آدم]!. ما تفسير هذا الإعراض والطرد وقد سبق وأنْ طالبه أمير المؤمنين بشهادة شاهد على توبته وقد فعل الرجل وأتاه بالشاهد الذي شهد له بالحق على توبته؟! أفما كان من الأوفق أن يطرد الرجل منذ لحظة اللقاء الأولى بدل تعنيته ومضاعفة شقوته وبلائه خاصة ً وقد ضاع منه كتاب توبته؟ ثم، ما تفسير كلام أمير المؤمنين [ولك أسوة بولد أبيك آدم]؟ يدل ظاهر هذا الكلام على تمسك علي ٍّ بمبدأ المساواة بين البشر سواءً أكان المقام أو المناسبة في الدنيا العاجلة أو الآجلة، على الأرض أو في السماء، فالبشر متساوون وهم سواء أمام ميزان العدالة. هذا ظاهر القول، أما الإحتمالات الأخرى المخفية فأراها غير بعيدة عن إحتمال أن يكون قصد الأمير أنَّ ابني آدم تخاصما فقتل أحدُهما الآخرَ... أي أن َّ الظلم وأنَّ الجريمة َ قديمتان وأنَّ طلب التوبة ليس بالأمر المستجد على بني البشر... فقد تكون يا إبن القارح أنت نفسك قاتلاً في دنياك رغم شهادة قاضي حلب ببراءتك ونظافة يدك؟ مَن قال إنَّ القضاة جميعاً نزيهون منزهون لا ينطقون إلا بالحق؟ فيهم المرتشون وفيهم المنحرفون جنسياً وفيهم السرّاق وفيهم وفيهم فهم في آخر الأمر بشر كباقي البشر. ما كان الأمير واثقاً من براءة وتوبة إبن القارح.

في نهاية هذه الفقرة من المواجهة الساخنة (الدرامية) بين علي ٍّ وعلي، عليٍّ الأمير وعلي ٍّ إبن القارح يعود المعري إلى سخريته اللاذعة التي تحمل أبعد وأعمق الدلالات. أحرج وأخجل موقف أمير المؤمنين إبنَ القارح، نشف ريقه وشفتاه، طلب الماء فقال:

[وهممتُ بالحوض فكدتُ لا أصل إليه، ثم نغبتُ منه نغبات ٍ لا ظمأ بعدها، وإذا الكَفرة ُ يحملون أنفسهم على الوِرد، فتذودهم الزبانية ُ بعصيٍّ تضطرمُ ناراً، فيرجعُ وقد إحترقَ وجههُ أو يدهُ وهو يدعو بويل وثبور]

هل هناك أكثر بلاغة وأروع تعبيراً من هذه الصورة التي شكلها خيال المعري؟ يطرده صهر الرسول ولا يحقق سؤلته... يشعر بالحرج وربما بالذل... يظمأ فيرى نفسه قريباً من حوض الكوثر... ينجح في تناول شئ من مائه السلسبيل... يفاجأ بوجود بشرغيره بالقرب منه ساعين بكل جهدهم لتناول بعض ماء الحوض... يفاجأ أكثر إذ يكتشف أنهم من الكفار، أي أنه وهم سواسية في الظمأ وفي المصيبة وفي القرب من حوض ماء الخلود... التائب بشهادة والكافر سواسية. الكل عطاشى فالعطش عنصر آخر يوحد ما بين البشر حتى لو كانوا هناك... في السماء ينتظرون قرار الحسم في قضاياهم والبت في مصائرهم. [... فتذودهم الزبانيةُ بعصيّ تضطرم ُ نارا ً، فيرجعُ وقد إحترقَ وجههُ أو يدهُ وهو يدعو بويل ٍ وثبور]. أية سادية مفرطة يمارسها بعض الملائكة المتخصصين بفنون التعذيب والتمثيل بحق المخالفين لشرعة أو دين ربهم؟ عصيٌّ من نار تحرق الوجوه والأيدي التي تتجاسر فتمتد لأخذ غُرفة ماء ٍ من حوض أبدي لا ينضب ما فيه!! من ذا يلوم يزيدَ بن معاوية أو عبيدَ الله بن زياد أو الحرَّ الرياحي الذين حرّموا الماء على الحسين بن علي ومَن معه في رمضاء الطف قريباً من كربلاء عام 61 للهجرة؟ كان الحسين مخالفاً ليزيد ومعارضاً لحكم خلافته أي أنه كان ذا موقف ورأي مخالفين كما هو شأن فئة الكفرة مع ربهم الذي سلط عليهم عذابين، نار العطش ونيران العصي الملتهبة. القوي يختار ويفرض نوع العقوبة على غريمه وخصمه. هذا جزاء الإختلاف مع الحكام في الرأي والمعتقد!!

يأخذنا المِعرّي بعد جولة مفاوضاته الفاشلة مع علي بن أبي طالب إلى زوجه إبنة الرسول فاطمة الزهراء. ها قد إقتربنا رويدا ً رويداً من سدرة المنتهى حيث كرسي العرش وحيث يجلس النبي إلى يمين رب العزة الذي خلق السماوات والأرض في سبعة أيام ثم إستوى على العرش وكان العرش فوق الماء. يتخذ المعري من فاطمة جسراً وسطاً للوصول إلى أخيها إبراهيم وقد أوصلته بالفعل.

مع فاطمة الزهراء

طاف إبن القارح قبل أن يلتقي فاطمةَ وهي تخرج من الجنة للسلام على أبيها إذ يقوم لشهادة القضاء... طاف على " العترة المنتجبين " وتضرع لهم أن يسألوها في أمره لعلها تسأل أباها فيه. أنقل فقرات مما قال المعري في أمر فاطمة لطرافتها وما فيها من غمزات ولفتات تثير التساؤلات والتفكير في الكثير من أمور ديننا:

[... فلما حان خروجها ونادى الهاتف أنْ غضوا أبصاركم يا أهلَ الموقف حتى تعبرَ فاطمة ُ بنت محمد صلعم، إجتمع من آل أبي طالب خلق ٌ كثير من ذكورٍ وإناث، ممن لم يشربْ خمراً ولا عرف قط منكرأ فلقوها في بعض السبيل فلما رأتهم قالت: ما بال هذه الزرافة؟ ألكم حال تذكر؟ فقالوا نحن بخير، إنا نلتذ ُّ بتحف أهل الجنة،.... وكان فيهم علي ٌّ بن الحسين وإبناهُ محمد وزيد وغيرهم من الأبرار الصالحين. ومع فاطمة، عليها السلام، إمرأة أخرى تجري مجراها في الشرف والجلالة فقيل مَن هذه؟ فقيل: خديجة إبنة خويلد بن أسد بن عبد العُزى ومعها شباب على أفراس من نور فقيل مَن هولاء؟ فقيل: عبد الله والقاسم والطيب والطاهر وإبراهيم بنو محمد صلعم. فقالت تلك الجماعة التي سألتُ: هذا ولي من أوليائنا قد صحّت توبته ولا ريبَ إنه من أهل الجنة وقد توصل بنا إليك صلى الله عليك، في أن يُراحَ من أهوال الموقف ويصيرَ إلى الجنة فيتعجلَ الفوز. فقالت لأخيها إبراهيمَ صلى اللهُ عليه، دونك الرجل فقال لي: تعلّقَ بركابي. وجعلتْ تلك الخيلُ تخلل الناسَ وتنكشف لها الأمم والأجيال. فلما عظُمَ الزَحامُ طارت في الهواء وأنا متعلق بالركاب].

أولاد النبي يمتطون صهوات أفراس من نور!! واحدة من لوحات المعري السوريالية وكان أحدهم إبراهيم الذي عرض على إبن القارح أن يتعلقَ بركابه، أي بركاب فرس من نور، فما أكبر حظوة هذا الرجل المرشح لدخول الجنة بتزكية من فاطمة ودعم من أخيها إبراهيم. بعد هذا المقطع يصل إبن القارح لحضرة نبي الإسلام ولسوف نرى ما يؤول إليه مصيره.

الرسول الشفيع

لقد شفع الرسول لإبن القارح بعد أن نظر في سجل عمله في الديوان الأعظم وقد خُتمَ بالتوبة. شفع له وحصلت الموافقة على دخول الجنة. الموافقات النظرية شئ ودخول الجنة شئ آخر. ما زالت أمام الرجل عقبات. تعلّق بركاب إبراهيمَ بعد إنصراف أخته فاطمة فأعانه على بلوغ الصراط المستقيم. هنا يواجه مشكلة أو محنة العبور. تعينه فاطمة الزهراء في أن توظف له خادمة ً إحدى جواريها. وبالفعل، تساعده الجارية على تخطي العقبة وعبور الصراط ولكن كيف؟ هنا تبلغ دعابة المعري وروح السخرية وجنوح الخيال أقصى المديات فيخلط الجد بالهزل والجنس غير الطبيعي المبطن بالشعر. وبعد كل هذه الدعابات والنجاح في عبور الصراط يواجه محنة آخرى هي الأخيرة في مسلسل محنه وتمحنه في الحياة الأخرى.

جعل المعري من محنة عبور الصراط فيلماً متحركاً نابضاً بالحياة والرمزية الساخرة لكأنه تعمد بذلك أن يضع أمام قارئه عقدة العقد بالنسبة للدين الإسلامي. فالجنة هي مبتغى المسلمين المؤمنين حيث الحور العين والولدان المخلدون (5) وأنهار الخمر واللبن والعسل والأثمار دانية القطوف والحياة الأبدية. الصراط هو عنق الزجاجة وهو الهدف والطريق لبلوغ الجنة. ليس عبور هذا الصراط بالأمر الهين على بعض الناس، إذ سوف يقاسي إبن القارح ويعاني من محاولات عبوره بل ويعجز عن العبور لولا مساعدة الجارية.

الصراط

بلغ إبن القارح الصراط لكنه لم يستطع إجتيازه... ربما لكبر سنه أو لدقة طريق العبور وضيقه أو ربما لفرحة ٍ أو رهبة ٍ تعتري مَن يحاول العبور والجنة في مرمى البصر. لكني أرى أن صاحبنا المعري قد تعمّد فأجاد في تشكيل لوحة عُسرة العبور عقبة ً أخرى تقوم في وجه التائب والمرشح لدخول الجنة. العِقاب كثارٌ فما جدوى التوبة إذا ً وعلام يتوب المخطئ والكافر والزنديق والمُشرك والناكر للدين الإسلامي أصلاً وفصلاً؟ أم أنَّ الجنة كالفنادق درجات ونجوم؟ للمؤمن الحق المثالي الذي لم يخالف ربه جنة درجة أولى بسبع نجوم وللمخالف العنيد الذي تاب في دنياه جنة أخرى درجة رابعة بنجمة واحدة مع عذاب وعراقيل وتوسلات ووساطات؟ ما هذا التفاوت ولِمَ يخدع القرآن ُ المسلمين؟ يا ناس!! ليس لكم إلا دنياكم!! ما عدا ذلك كذب وهُراء وهلوسات!! لا آخرة ولا من جنة ولا نار!!

أعود لفقرة الصراط فما قال المعري فيها؟ أقرأها فأغرق في الضحك. رجل بصير يرسم لوحات كاريكاتورية غير مألوفة يمتزج الهزل ُ والهزءُ فيها بالشعر والأخيلة التي لم تمر بخاطر بشر قبل المعري. سأنقل من هذه الفقرة اللوحات الأكثر طرافة وأهمية:

[... قيل لي هذا الصراط... فبلوتُ نفسي في العبور فوجدتني لا أستمسك فقالت الزهراء صلعم لجارية ٍ من جواريها يا فلانة ُ أجيزيه فجعلت تمارسني وأنا أتساقط ُ عن يمين ٍ وشَمال فقلتُ يا هذه، إنْ أردتِ سلامتي فاستعملي معي قولَ القائل في الدار العاجلة:

ست ُ إنْ أعياكِ أمري

فاحمليني زقفونة ْ

فقالت وما زقفونة ْ؟ قلت أنْ يطرحَ الإنسانُ يديه على كتفي الآخر ويُمسكُ الحاملُ بيديه ويحمله وبطنه إلى ظهره، أما سمعتِ قول الجحجول من أهل كفرطاب:

صلحت حالتي إلى الخلفِ حتى

صرتُ أمشي إلى الورى زقفونة ْ

(لعل الأصل والصواب هو: إلى الورا أي إلى الوراء بدل الورى والفرق كبير وواضح / الملاحظة مني).

... فتحملني وتجوزُ كالبرق الخاطف. فلما جزتُ قالت الزهراء عليها السلام: وهبنا لك هذه الجارية فخذها كي تخدمك في الجنان].

ما الذي جعل المعري أن يركب هذا المركب الصعب فيفتعل العجز عن عبور الصراط ليستعينَ على العبور بظهر إمرأة بدل ظهر رجل؟ أوليس في هذه الصورة الكثير من الجنس والتوق للمرأة التي حرّم نفسه منها في حياته؟ كان في إمكانه القول على سبيل المثال إنَّ الجارية قادته من ذراعه أو أركبته جحشاً أو مهراً من مهاري الجنة بدل أن تعرض ظهرها له فيمتطيه!! أي رجل لا يتهيج جنسياً وهو على ظهر إمرأة من نساء الجنة والجنة ونساؤها قد أُعدت للمتقين؟؟!! هذا هو منهج أبي العلاء وموقفه من مسألة الجنة. إنه يراها بحق مقلوب الأرض. إنها محض أحلام وأمنيات محرومين للطعام والجنس والشراب والنعيم السرمدي. فالقبيح على الأرض، كحال حمدونة، جميل هناك في الجنان والأسود، كما هو حال توفيق السوداء يغدو أبيض ناصعاً بلون الكافور{المصدر الأول ص 123} وعبور الصراط لا يصح إلا بركوب ظهر وركوب الظهر شذوذ جنسي مزدوج فيما يخص النساء. ثم، (وهبنا لك هذه الجارية)!! أبهذا الأسلوب الرخيص يتم التعامل مع النساء؟ يدخل الرجل الجنة ومعه إمرأة فكيف سيكون حاله حين تطأ قدماه أرض هذه الجنة مع بقية النساء من الحور العين اللواتي لم يطمثهن َّ أو يطأهن َّ إنسٌ ولا جان... خفيضات الطرف كأنهن َّ الدر المكنون؟

هل إنتهت رحلة إبن القارح وهل بلغ مركز الجنة المبتغى؟ كلا! سيجد عقبة أخرى أمامه. سيقابل الخازن رضوان الذي كان أول من قابلَ وسأله الإذن بدخول الجنة. سيطلب منه جوازَ مرور كما يحصل معنا في هذه الأيام لدى محاولتنا عبور حدود دولة إلى أخرى (باسبورت).

هل معك جواز؟

[فلما عبرتُ إلى باب الجنة قال لي رضوان: هل معك جواز؟ قلت لا، قال لا سبيلَ لك إلى الدخول إلا به].

ينقذه إبراهيم من ورطته الأخيرة هذه فيدخله الجنة.

الدخول إلى الجنة

[وإلتفتَ إبراهيمُ صلى الله عليه فرآني وقد تخلفتُ عنه فرجعَ إليَّ فجذبني جذبة ً حصلني بها في الجنة].

إستغرقت رحلة العذاب هذه ستة أشهر من شهور دنيانا حسب تقرير المعري قضاها في الموقف إياه، موقف المحجوزين والمحجور عليهم في إنتظار محاكمتهم والنظر في أمرهم!!

ملاحظات عابرة

تطرق المعري في رسالته إلى أمور لغوية لا قيمة كبيرة لها ولا من طرافة. فلقد تساءل عن وزن " أوِزّة " على سبيل المثال {المصدر الأول ص 121}... يسمي العراقيون الأوزة " وزّة " لا أكثر، تماماً كما يسمون الأرز / أرزْ " رُزْ " بحذف الهمزة ولا نجد في ذلك أية مشكلة أو إعواص. كذلك يتعسف المعري فيشتق من كلمة أعجمية لعلها فارسية... يشتق مصدراً ومن المصدر يشتق فعلَ ماض ٍ وفعلَ حاضر... أعني " زبرجد " وهو إسم أحد الأحجار الكريمة {المصدر الأول ص 100} علماً أن كثرة من الناس تسمي هذا الحجر " زُمَرّدْ " وهذا قريب من التسمية بلغات أخرى، فهو في الألمانية " زمراكد " وبالأنجليزية " إيزمرالد " وبالإيطالية " زمرالدو ". فكيف إشتق المعري مصدراً من " زبرجد "؟ حذف حرف الدال فكان المتبقي " زَبرَج ْ " وقال هذا هو المصدر... ثم ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك وأشد تعسفاً فإشتق فعلاً ماضياً من هذا المصدر وقال " زَبرَجَ " وإشتق فعلاً مضارعاً فقال " يزبرجُ ". معلوم أنَّ لكل فعل فاعل، تُرى، ما هو فاعل الفعل زَبرَجَ؟ وما معنى هذا الفعل إذ لكل فعل معنى أو أكثر؟

***

ا. د. عدنان الظاهر

آذار / نيسان 2008

......................

هوامش

أولا ـ كتاب رسالة الغفران لأبي العلاء المعري (دار الكتب العلمية. بيروت. الطبعة الأولى 1990).

ثانياً ـ طه حسين (كتاب من تأريخ الأدب العربي. الجزء الثالث / تجديد ذكرى أبي العلاء. دار العلم للملايين. الطبعة الثالثة 1980).

ثالثاُ ـ ديوان المتنبي (دار بيروت للطباعة والنشر. 1980 / الصفحة 436).

رابعاً ـ سورة النجم // ذكر بعض المؤرخين أن آيتين أو ثلاث وردت في سورة النجم ثم أسقطها النبي محمد بدعوى أنها جاءت من وحي الشيطان وليس من وحي جبريل الوسيط بينه وبين ربه. إنها الآيات الشيطانية... آيات سلمان رشدي... أذكر منها: تلك الغرانيق العُلى. وإنَّ شفاعتهن َّ لتُرتجى. وقد جاءتا قبل الحذف في سورة النجم بعد الآيتين: أفرأيتم اللاتَ والعُزى. ومناةَ الثالثة َ الأخرى.

خامساً ـ لقد كثر في القرآن ورود ذكر الوالدان المخلدين، الأمر الذي أثار في رأس المِعرّي بعض الأسئلة وبعض الشجن. ففي المحاورة بين إبن القارح وإبليس {المصدر الأول ص 137 و 138}يقول الأول لإبليس:

[إنَّ الخمرَ حرِّمت عليكم في الدنيا وأحلت لكم في الآخرة، فهل يفعل ُ أهل الجنة بالولدان المخلدين فعلَ أهل القريات؟ فيقول: عليك البهلة " أي عليك اللعنة "، أما شغلك ما أنت فيه؟ أما سمعتَ قوله تعالى: ولهم فيها أزواجٌ مطهرة ٌ وهم فيها خالدون؟].

أي أمر تركه المعري ولم يطرقه أو يناقشه أو يسأل فيه؟! عجيب أمر هذا الرجل الأعمى المكتفي بغيره؟!

لمن ينحاز المثقف، سؤال يجد البعض صعوبة في الاجابة عليه ويجد الاخر ان الامر بسيط ولايحتاج ثمة تفكير اذا اريد للاجابة ان تكون عائمة.

لكن الحقيقة ان الاجابة على هذا السؤال يتطلب المنعة الكافية  الغير منحازة الناجمة عن ديناميكية العقل بالتفكير الفردي والجمعي وبالتالي ايجاد الجواب المطلوب وعلى الاطلاق ارى ان ما يسمى مثقف السلطة او المنحاز كليا لفكر او معتقد تراه الاكثر تكوينيا على التنقل من حال الى حال. فتجد احيانا القومي يتحول الى ماركسي والماركسي الى قومي والمتشبث بالثقافة المكتسبة دينيا ينطبق عليه الامر.

اذن ونحن امام هذه المعطيات نرى التجرد العقلي والفكري يضع جام صحوته امام الفصل بين اي من المسلمات آنفة الذكر.

وحصرا فيما يتعلق بوحدة الرأي واستخلاص رؤية جامعة مانعة تدلنا على ما نحن عليه نجد الان جل الخطابات الفكرية والادبية في انحياز تام لما يجري حولنا وعلى الساحة الملبدة بالظلام المتأتي من حقب ظلامية استحوذت على ارادة مجتمعاتنا.

محنة المثقف تبدأ بعدم الركون للثقافة الجمعية لبناء المجتمع والتشبث برأي عقائدي ربما يمثله شخص ما بمرور الزمن فرضته ظروف غير موضوعية وبطرق مشكوك في تكوينها ليتبوأ المراكز القيادية لحزبه او المكون او الحزب الذي ينتمي اليه ليظل القائد التأريخي المنزل من السماءوتحت وعود الترهيب والترغيب تجري. استمالة المجتمع اجمعه مع الحكم البديهي انه من الممكن البقاء فترة قد يتوارثها ابناءه.

وما يهمنا ليست الحاكم بل ماهية المثقف في ظل الحاكم. ولعمري هناك ثمة اسئلة تتطلب الاجابة حول وجودجموع من الناس وعلى مختلف مذاهبهم يدلون بالطاعة والتقديس وخلق قائدا يكاد ان يعبد قد نجد الكثير من الاكاديميين والمثقفين شعراء ادباء وكتاب قصة لا بل حتى نقاد تنهار لديهم القيم الانسانية فيغرفون من مجدهم التليد او صمودهم ليقعوا في فك الانتهازية والوصولية المفضوحة.

ومن العجب نجد الكاتب اليساري والمتمدن والناطق باسم العلمانية يصطف مع الركب الرجعي  او يصطف مع احزاب عميلة جل وجودها ضد الوطن لا بل تراه يكتب القصائد ممجدا ذاك (القائد) او الحزب الذي وجد كي يتأمر على الوطن.

اما المثقف الاسلامي  تراه ينصب نفسا قائما على وصايا الناس معتقدا تمثيله. لعين الحقيقية ناكرا لوجود الاخرين ومعتقدا انه يمتلك كل الحقيقة وفق المعتقد والمذهب الذي يؤمن به، لذلك نحن امام اشكالية معرفية هي نتاج ما يمر به العراق والمنطقة.

اما الهرم الذي تتعكز عليه الثقافة والمتمثل بالاتحادات الثقافية والمنتديات فهي تعيش اسوأ حالات المجاملات الفكرية والدليل هو ما يحصل من مناكفات وصراعات بين بعض الادباء سيما ما ينشر في الفيس بوك من كتابات تسقيطية مبتذلة تدل بشكل كبير على وجود محنة ثقافية.

وفراغ فكري واسع ربما تكون مسبباته مرحلة الدكتاتورية او صراعات حالية لتشتت الارادة الفكرية واعتقاد الكاتب ان له مطلق الحرية باختيار الالوان، انها دعوة صادقة لمن يعاني هذه المحنة النأي بالنفس والاصرار على حيادية المثقف تجاه ما يجري وعدم الانغماس بسياسة الاحزاب وذلك للعبور بهذه المرحلة للعودة لعصر الثقافة  ووهجها وبريقها والتعافي المنشود بعد الخلاص من كل ضغوطات السلطات ترهيبا وترغيبا لاجل التناغم مع مصالحها.

***

عبد الامير العبادي

في المثقف اليوم