قضايا

كان السوفسطائيون في اليونان القديمة معلمين محترفينن ومثقفين. تعاليمهم أكدت على التحدث امام الجمهور وعلى السلوك الاخلاقي. ومع ان تعاليم السوفسطائين تطرقت الى مختلف الموضوعات لكن تأكيدهم كان على الخطاب العام والسلوك الاخلاقي في الحياة. كلمة "سوفسطائي" sophist مشتقة من كلمة سوفيا وتعني الحكمة او التعلّم. منذ زمن افلاطون (348 ق.م – 428) كانت كلمة سوفسطائي في الأصل تعني الحكيم "sage" او الخبير . وفي الاوقات المبكرة اثناء زمن هوميروس (بين القرنين الثامن والتاسع ق.م)، كانت كلمة سوفسطائي تُستعمل لتصف شخصا خبيرا في مهنته او فنه. لكن في القرن الخامس قبل الميلاد اتخذت السوفسطائية معنى جديدا. انها بدأت تشير الى حكمة عامة خصيصا تلك المتعلقة بالشؤون الانسانية كالسياسة والاخلاق.

القرن الخامس قبل الميلاد كان يمثل العصر الذهبي لأثينا ولعصر بريكلس وهي الفترة التي ازدهرت بها اثينا من حيث القوة السياسية والنمو الاقتصادي والانجازات الفكرية. في هذه الفترة ازداد الطلب على التعليم العالي الى ما وراء المواضيع التقليدية والأبجدية والرياضيات والموسيقى والتدريب البدني.

الأثنيون بدأوا التحقق في قضايا الطبيعة والقيم التقليدية والاخلاق واساليب الحياة والسياسة. اصبح السوفسطائيون مصرّين على المساهمة في تلك التحقيقات في تحدّي لطرق التفكير التقليدية. كانت مهنة السوفسطائيين فردية. انها ليست مدرسة في الفلسفة يؤمن اعضاءها بعقائد مشتركة. بل ان كل سوفسطائي له معتقداته الخاصة به واسلوبه في عمل الاشياء.

بروتاغوراس: أبرز سوفسطائي في اليونان القديمة

بروتاغوراس كان اقدم المعاصرين لسقراط واُعتبر واحدا من أبرز الممثلين لما سمي بالحركة السوفسطائية. كان اول فيلسوف في الغرب يدعو للذاتية، مجادلا ان تفسير أي تجربة او أي حدث مهما كان هو نسبي للفرد. بروتاغوراس هو صاحب القول الشهير: الانسان مقياس لكل الاشياء. بمعنى ان كل شيء هو نسبي خاضع لتفسير الفرد. هو كان اول من علّم الفلسفة النسبية في اليونان من خلال موقعه كسوفسطائي وكان من بين منْ يتقاضون أعلى الاجور في تعليم شباب الطبقة العليا. ولكي نفهم بشكل أفضل الفلسفة النسبية، دعونا نتصور رجلا يأتي من جو بارد في الخارج ليدخل غرفة دافئة بينما هناك شخص آخر موجود سلفا في نفس الغرفة ويشعر انها باردة.

طبقا لبروتاغوراس، كلا التفسيرين لدرجة الحرارة في الغرفة صحيحان في مثل هذا الموقف ومقبولان. وبالتالي، طبقا لبروتوغاروس، كلمة "صحيح" و "خطأ" هما وصفتان يستخدمهما الناس طبقا لتجاربهم وتفسيراتهم. وكذلك ينطبق نفس الشيء عندما نجد هناك مجتمعا معينا يعتقد في وجود الالهة بينما مجتمع اخر لايؤمن بذلك.

افلاطون هاجم بروتاغوراس والنسبية قائلا لابد هناك من وجود حقيقة نهائية. اذا كان معنى "صحيح" و "خطأ" فقط مسألة رأي عندئذ ستصبح القوانين والعادات الاجتماعية بلا معنى. كسوفسطائي، علّم بوتوغاروس الناس خصيصا الشباب افضل مسائل الثقافة وكيف يمكن التعبير بشكل صحيح عن افكارهم ويتصرفون طبقا لها. الكلمة الانجليزية "معقّد" sophisticated هي في الحقيقة مشتقة من السوفسطائي.

في ايام بروتوغاروس، كانت اليونان وبالذات اثينا تميل للمقاضاة لدرجة كانت المعرفة بفن الخطاب العام ذات قيمة عظيمة كوسيلة للدفاع عن المرء في المحكمة او تقديم شهادة ضد شخص آخر.

طالما لا وجود هناك لمحامين محترفين في اليونان القديمة، اضطر الناس في قضايا المحكمة للاستعانة بكتّاب محترفين بالكلام  لإعطاء كلام بليغ ومقنع في قاعة المحكمة.

طبقا للكتّاب القدماء، جعل بروتوغاروس رزقه الاساسي من تدريب الشباب الاثرياء على فن الخطابة لإستخدامه في قاعة المحكمة.

جادل بروتوغاراس بانه اذا عُرضت عليه دعوتان متضادتان  احداهما ضعيفة، هو لديه القدرة لإنتاج جدال مقنع بما يكفي لجعلها تبدو اقوى من الاخرى.

السوفسطائيون كأساتذة في كليات الحقوق

منح السوفسطائيون أهمية كبيرة للخطابة والقدرة على الاقناع والفوز في الجدال. كان هذا حتى لو تناقضت اسبابا وحججا معينة مع كل من الحقائق والقواعد الاخلاقية. وبصرف النظر عن الحالة، المتحدث العام الجيد لديه فرصة افضل لربح الدعوة، والسوفسطائيون كانوا افضل المعلمين في الخطابة. كان ايضا الطلب عليهم كبير.

اثناء زمن سقراط وافلاطون، علّم أحد السوفسطائيين البارزين واسمه جورجياس الاثنيين كيفية ربح الجدال عبر الاعتماد على الخطابة الجيدة والتلاعب بالقانون لصالح الشخص. افلاطون في احدى حواراته السقراطية - حوار جورجياس -، جعل جورجياس يعترف انه كان مهتما فقط في تعليم الطلاب ربح الجدال وان هدفه لم يكن الحصول على الحقيقة وانما النصر فقط. في الحوار، يكشف سقراط ان جورجياس يعلّم طلابه لإعطاء كلام حول السياسة. سقراط يرى انه لكي يعطي مثل هذا الكلام، يجب على المرء ان يفهم ايضا موضوع السياسة. السياسة حسب سقراط، فن انتاج العدالة. اذا كان جورجياس يعلّم الناس اعطاء كلام سياسي، هو ذاته يجب ان يفهم في البدء السياسة والعدالة.

عندما يعطي الطالب كلاما رائعا ويربح الجدال بدون اعطاء عدالة، عندئذ يُعتبر فعله غير عادل لأن الطالب سيستعمل مهارات الخطابة كوسيلة لغايات غير أخلاقية.

نوموس وفيزس

كان السوفسطائيون أول من أدخل الفرق بين نوموس Nomos (قوانين المجتمع) و فيزيس Physis (النظام الطبيعي). فمثلا، العدالة والعار مبادئ طبيعية لكنها تتجسد بشكل مختلف لدى مختلف المجتمعات. ما هو عار في مجتمع ربما هو مقبول في مجتمع آخر. كذلك، ما هو عادل في مجتمع ربما يُعتبر غير عادل في مجتمع آخر. لذلك، فان قانون المجتمع له أهميته رغم ان مصدره هو المبادئ العالمية الطبيعية لكل الناس. من جهة اخرى طلاب جورجياس رفضوا فكرة ان القانون ينبثق من الطبيعة كما اعتقد بروتوغاراس. هم جادلوا بان نوموس هي في تضاد مع فيزس. طلاب بروتوغاراس ادّعوا ان القانون الطبيعي الحقيقي يرتكز على القوة او الفكرة التي تصنع الصواب. من جهة اخرى، كاليكلس callicles ذهب أبعد من ذلك . هو كتب ان قانون المجتمع زائف لأنه يجبر الأقوى على التسامح مع الأضعف. مع ذلك، ليكوفرون – أحد طلاب جورجياس ادّعى ان عكس ذلك هو الصحيح، أي، ان كل الناس هم في الحقيقة متساوون في الطبيعة، وان القانون بالنهاية هو الذي يؤسس هرميات وأقسام.

***

حاتم حميد محسن

 

أحدثت العولمةُ تحولاتٍ عميقة في طرق تفاعل الثقافات وتطورها وتحديد هويتها. تشير الدراسات الفلسفية المعاصرة، إلى مطارحات جديدة حول المستجدات والرهانات المرتبطة بالتنوع الثقافي في عالم معولم. ضمن هذا الموضوع، أسعى في هذا المقال إلى مقاربة التطورات من خلال تقديم قراءة نقدية تستشرف مستقبل الثقافة في ظل العولمة، إذ نبدأ كيف أن التقاء الثقافات وتفاعلها لا ينحصر في مجرد اندماج سطحي، بل ينطوي على ضرورات واسهامات مستمرة، من أجل إعادة إنتاج للقيم والعادات والمعايير الثقافية بطريقة ديناميكية.

فالعولمة لم تعد مجرد نظام اقتصادي أو ثورة تقنية؛ وإنما هي بالأساس ظاهرة ثقافية عميقة تظهر في التداخل غير المسبوق بين الشعوب والمجتمعات والأفراد. حيث بات موضوع الثقافة في سياق العولمة من الموضوعات الأكثر إثارة للجدل في الأوساط الأكاديمية والفلسفية، إذ تتوالد إشكاليات جوهرية حول مستقبل التعايش والتسامح والاحترام والهويات الثقافية المحلية، وآفاق الانفتاح على قيم الآخر، ودور الوسائط الرقمية في صياغة أنماط التفاعل الثقافي، إلى جانب مسؤولية السياسات العامة في تعزيز الحوار الثقافي وحماية الخصوصيات.

بناءا على مراجعة أحدث الدراسات الفلسفية حول العولمة الثقافية، أستكمل في هذا الجزء من البحث، تعارضات هذا المسار بين توجه نحو الوحدة الثقافية بفعل انتشار النموذج الغربي وهيمنة وسائل الإعلام العالمية، وبين بروز رؤى تدعو إلى تعزيز التعددية الثقافية كمصدر إثراء وابتكار. كما أستعرض آليات جديدة تتشكل ضمن السياسات الثقافية لمواجهة تحديات العولمة، مثل دعم الصناعات الإبداعية المحلية، والتربية على الحوار بين الثقافات، ومأسسة حقوق الأقليات.

لا مناص أن اكتشاف الثقافة في سياق العولمة يتطلب مقاربة فلسفية نقدية تراعي تعقيد الظاهرة وطابعها المتغير وعدم قابليتها للانحصار في ثنائيات ضيقة، من قبيل الأصالة والمعاصرة أو المحلي والعالمي. سأحاول في هذا الجزء أن أعرض مقاربة كلية شاملة لمستقبل الثقافة في ظل العولمة،

الثقافة بين التنوع والتجانس:

تُبرز الدراسات الفلسفية المعاصرة وأهمها دراسة ماري كريستين ويتلي، "العولمة والثقافات المحلية: تعايش معقد" [1]، التوترات المعقدة التي تفرضها العولمة على المشهد الثقافي العالمي. فالعولمة من جهة تتيح فرصًا غير مسبوقة للتلاقي بين الثقافات المختلفة، وتُسرع من وتيرة تبادل الأفكار والممارسات، مما يساهم في إثراء الأطر الثقافية عبر خلق صور ثقافية هجينة جديدة، ولكن من جهة أخرى تفرز مخاطر حقيقية على التنوع الثقافي، إذ قد تؤدي إلى إضعاف وتهميش خصوصيات الثقافات المحلية، بل وتحويلها إلى صور نمطية أو حتى استيعابها في ثقافة موحدة قائمة على نموذج غربي مهيمن مركزي.

التعايش بين الثقافات:

يطلق مفهوم التعايش على ذلك التفاعل بين عدة ثقافات في بيئة إجتماعية واحدة أو مجتمع واحد، والذي يطُلق عليه أحياناً التعددية الثقافية، يعتمد على فكرة أن الثقافات المختلفة يمكن أن تعيش معاً مع الحفاظ على خصوصياتها. ويتطلب هذا إدارة دقيقة للاختلافات والتوترات التي قد تنشأ، لكن مخرجات العولمة ضمن الرؤية الحداثة الغربية ذات الثقافة الواحدة المطلقة شكلت تحديات عظمى أمام التعايش الثقافي، نذكر من بينها:

1.الصراعات على المصالح: في بعض الأحيان قد تتعارض قيم وممارسات بعض الثقافات مع قيم وممارسات مجموعات أخرى، على سبيل المثال: يمكن للاختلافات في القيم فيما يتصل بحقوق المرأة أو الممارسات الدينية أن تؤدي إلى التوترات.

2.التمييز وعدم المساواة: حتى في المجتمعات التي تدعي التعددية الثقافية، قد تتعرض مجموعات من الناس للتمييز بسبب ثقافتها أو عرقها أو أصلها كما نشهد ذلك في عدة دول. يحصل تهميش للأقليات، سواء في سوق العمل، أو في التعليم، أو في التفاعلات الاجتماعية اليومية.

3.التثاقف والاستيعاب: في بعض الحالات، قد يتم الضغط على الثقافات الأقلية للاندماج في المعايير السائدة من أجل قبولها. ويمكن النظر إلى هذه العملية باعتبارها شكلا من أشكال الاستيعاب أو إفقاد الهوية الثقافية.

رغم كل ذلك هناك بعد إيجابي مهم يؤتي ثمار التعايش الثقافي:

الإثراء الجماعي: يمكن للثقافات المختلفة أن تتبادل وتتقاسم المعرفة والعادات والفلسفات والممارسات التي تثري المجتمع ككل عبر منهج "الاعتراف والتعارف"[2].

الشبكات الاجتماعية والتضامن: يسمح التعايش المتناغم بإنشاء شبكات تضامن بين المجتمعات المختلفة، والتي يمكن أن تدعم بعضها البعض في جهودها لمكافحة عدم المساواة أو الظلم.

التسامح والاحترام المتبادل:

بحسب تعريف المفكر ماجد الغرباوي، "التسـامح قيمة حضــارية معرفية مطلقة وقد تصــدق نســبيته في الجانب الســلوكي. فلا يجامل نســـــــــــبية الحقيقة وتعدد الطرق إليها. ولا يؤمن بوجودها خارج خيال الإنســان وتختلف باختلاف قدرته على تصــورها ورســم ملامحها. التســــــامح الحقيقي يعتمد العقل فهم الحقيقة وطرق الوصول إليها، ويرفض الاســتســلام لأي معرفة لا تخضــع لمنهجه. فيســتبعد اللامعقول والخرافة والاوهام وكل ما لا يتعقله. التســــــامح ليس ردة فعل إنما موقف من الحياة والعالم"[3]. ويتضمن التسامح الاعتراف بالتنوع، مع قبول حقيقة أن الأفراد والمجموعات قد يكون لديهم قيم أو معتقدات أو ممارسات تختلف عن قيمنا أو معتقداتنا أو ممارساتنا، ولا يعني بالضرورة احتضان هذه الاختلافات، بل يعني القبول باحترام متبادل بيننا وبين الآخر المختلف.

و في إطار الثقافة، يتضمن هذا الاعتراف بأن كل الثقافات تتمتع بصلاحيتها وميزة التعايش الخاصة بها، حتى ولو كانت ممارساتها غريبة أو معارضة لقيمنا الخاصة.

الاحترام كثقافة:

إن الاحترام يتجاوز التسامح لأنه لا يتضمن فقط قبول الاختلافات، بل أيضاً تقديرها. إن احترام ثقافة ما، يعني الاعتراف بتاريخها وقيمها وممارساتها باعتبارها شرعية وتستحق التكريم. ويتضمن هذا أيضاً أمرين:

1/ احترام معرفي يستهدف التعارف الدائم،

2/ احترام حقوق الأفراد من الثقافات المختلفة في ممارسة ثقافتهم بحرية دون إكراه أو تمييز.

التوتر بين التسامح والاحترام:

على الرغم أنه ينُظر إلى التسامح في كثير من الأحيان باعتباره شرطا أًساسيا للتعايش السلمي، فإن التقدم الحقيقي يأتي من خلال الاحترام المتبادل. حيث التسامح دون احترام قد يؤدي إلى علاقات سطحية وهشة، في حين أن الاحترام يعزز بيئة أكثر تعاوناً وشمولاً وانفتاحاً.

كون مركب التسامح الحقيقي النابع من الاحترام معرفي وليس تكتيكي او شكلي كما يسميه المفكر الغرباوي، يدفعنا نحو إلى ما بين الثقافة والهوية الثقافية، وهذه الأخيرة تشكل نمط أو نهج إدراك الأفراد لأنفسهم وتفاعلهم في المجتمع.

كما لا نغفل على أن الهوية الثقافية تتأثر بالعوامل التاريخية والاجتماعية والأسرية التي تختزن حمولات متنوعة ومتعددة الأبعاد، ويمكن للهوية الثقافية أن تتطور من خلال التفاعل مع الثقافات الأخرى.

في ظل عالم معولم ومتنوع بشكل مطرد، صار التنوع والشمول مبادئ أساسية لضمان قدرة جميع الثقافات ليس فقط على الوجود، بل على الازدهار في مجتمعات عديدة.

و بالتالي التعايش بين الثقافات المتعددة يعتمد على قدرة المجتمعات على إدارة الاختلافات مع الحفاظ على الوحدة. ورغم ذلك، فإن هذا التعايش ليس متيسرا وبسيطا كما يتصور البعض: كونه يستدعي جهودا متواصلة للتغلب على الصراعات المحتملة وسياسات عدم المساواة والتمييز ومواجهة خطابات التطييف والعنصرية والتسقيط.

لذلك التسامح والاحترام هما جناحان أساسيان في أي مجتمع حتى تستطيع الثقافات ليس التعايش فقط بل وإثراء بعضها البعض والتعاون والتآلف والتقدم معا. وبعيدا عن التسامح (الذي قد يكون سلبيا)، فإن الاحترام النشط للاختلافات الثقافية هو الذي يسمح لنا ببناء مجتمع أكثر عدالة وانسجاماً، لأن النجاح الحقيقي يكمن في القدرة على الاستمتاع بالاختلافات مع تعزيز الشعور المشترك بالانتماء لوطن أو مجتمع أو أمة أو الإنسانية.

باختصار، يعتمد تطور المجتمع الحديث إلى حد كبير على قدرتنا على التوفيق بين الحفاظ على هويتنا الثقافية والانفتاح على الآخرين، في إطار من الاحترام والتسامح الحقيقي.

ج. بروتكول التجانس الثقافي

لا يمكننا فهم العولمة إلا من خلال تسليط الضوء على نظرية تعرف بالتجانس الثقافي، والتي تعتبر من الأساسيات فهم تأثير العولمة بما تحمله من هيمنة ثقافية، خاصة عبر ما يعرف بـ"الإمبريالية الثقافية". حيث يرى باحثون أن انتشار وسائل الإعلام العالمية، خاصة الغربية الأمريكية منها ووكلائها عبر القارات الخمس، وما يروج له من نماذج الاستهلاك الرأسمالي، يدفع نحو صهر الفوارق بين الثقافات في إطار واحد، مرجعيته المركزية هي الغرب بداية ونهاية سواء في القيم أو أنماط الحياة أو المنتجات والخدمات، ففي الدراسات الحديثة[4]، وسائل الإعلام العالمية، والسياحة، والاقتصاد التابعة للشركات متعددة الجنسيات تساهم بشكل كبير في دفع الثقافات نحو نمط واحد. هذه الظاهرة، التي تسمى بـ"تجانس الثقافة"، تمثل مهددا خطيرا على الهوية الثقافية للشعوب التي قد تجد نفسها في مواجهة عمليات تهميش لمظاهرها الفريدة، خصوصًا الثقافات التي ليست لديها القدرة على مقاومة التيارات العالمية أو التي تعاني من ضعف اقتصادي وسياسي.

كما أن انتشار اللغة الانجليزية والثقافة الغربية، من خلال الهيمنة الاقتصادية والسياسية، يشكل أحد أبرز مظاهر هذا التجانس، الأمر الذي يؤدي إلى تصغير حجم التنوع إثر تعزيز الثقافة الرأسمالية وعالمية الاستهلاك.

في مقابل التجانس العولمي، برزت أطروحات "التغاير الثقافي"[5] التي ترى أن العولمة توفر إمكانات لتلاقح الثقافات وإثرائها بطرق غير مسبوقة، فبدلاً من فقدان الخصوصية، هناك مجتمعات تنتج هويات وتقاليد جديدة تعكس التفاعل الخلاق بين المحلي والعالمي.

ولعل أبرز مؤشرات ذلك الانتشار العالمي لأنماط الطعام، والموضة، والموسيقى، مع المحافظة على لمسات محلية تضمن بقاء الطابع الخاص لكل ثقافة. وتبرز هنا نظرية "المرونة الثقافية[6]" (Cultural Resilience) والتي تدل على قدرة المجتمعات المحلية على امتصاص التأثيرات الخارجية دون خسارة الهوية الأصلية، بل بلورة هوية ديناميكية متجددة.

د. الثقافات بين التهجين والمقاومة:

مهما يكن، لا يُمكن اختزال العولمة في مجرد عملية تجانس أو محو، إذ تشير دراسة فلسفية معاصرة [7] إلى أن المجتمعات المحلية غالبًا ما تتفاعل مع هذه التغيرات بطرق مبتكرة، مما يؤدي إلى تكوين أشكال جديدة من الهجنة الثقافية[8] التي تجمع بين العوامل المحلية والتأثيرات الخارجية.

وظيفة هذه العملية تتمثل في إعادة صياغة الهوية بنمط ديناميكي، يسمح للحفاظ على جذور الثقافة المحلية، بينما يُوظف عناصر العولمة لخلق تركيبات جديدة تثري الحياة الثقافية.

على أساس ذلك، برز مفهوم "المرونة الثقافية" الذي يؤكد قدرة الثقافات على التجاوب مع المتغيرات دون أن تفقد ذواتها.

2. المقاربات الفلسفية الجديدة: "الهوية، التعددية الثقافية، والتداخل الثقافي"

عرفت الدراسات الفلسفية الحديثة مرتكزات نظرية عديدة، تستهدف فهم التغيرات التي تُحدثها العولمة في معالم الثقافة والهوية. هذه الأطر النظرية تساعد في تفسير :

كيف يمكن للمجتمعات والأفراد التفاعل بطريقة تؤمن احترام التنوع دون الانزلاق إلى صراعات أو فقدان ذات؟

أ. المنظور ما بعد الحداثي (Post-modernism)

يركز التيار ما بعد الحداثي على تفكيك الهويات الثابتة، إذ يعتبر أن العولمة تؤدي إلى تشظي وتفتت الهويات الثقافية المحلية، مع بروز تأثيرات تجعل الفرد يعيش داخل شبكات معقدة من الانتماءات المتعددة والمتداخلة. هذا التيار يسلط الضوء على العجز في استنبات مرجعية واحدة حصرية لكل فرد، مما يؤدي إلى صراعات داخلية قد تكون مرتبطة بالهوية بشتى تمثلاتها (العرقية، الدينية..إلخ) والجنسية والانتماءات الثقافية.

المواطنة العالمية: Cosmo-Citizen

يدعو تيار المواطنة العالمية إلى تبني هوية عالمية تفوق الحدود الوطنية والقومية، تُركز على الإنسان بوصفه كائنًا مشتركًا يتشارك في ثقافة إنسانية عامة. هذا التوجه يروّج لفكرة تجاوز الانقسامات الثقافية عبر التواصل والحوار بين الشعوب، مع التأكيد على قيم العدالة والاحترام المتبادل[9].

إلا أن الفلاسفة ينبهون إلى المخاطر المترتبة على سياسة التوحيد هذه، والتي قد تُفقد المجتمعات المحلية خصوصيتها الثقافية وتؤدي إلى ما يُعرف بـ"الاستعمار الثقافي "[10]

ج. التعددية الثقافية والتثاقف

في المقابل، تُعتبر التعددية الثقافية إطارًا فلسفيًا يُقر بشرعية التعايش بين ثقافات متعددة داخل مجتمعات واحدة، مع التشديد على حق كل مجموعة في التعبير عن هويتها الخاصة. كما يُعزز التثاقف هذه الفكرة من خلال دعوة إلى تفاعل حيوي ومثمر بين الثقافات، حيث لا تتنافس الهويات بل تتعارف وتتبادل وتتكامل[11]. هذه الرؤية الجديدة تحاول بناء جسر للتفاهم والحوار، وتُشجع على التعاون الاجتماعي والثقافي، مع توفير شروط للسلام الاجتماعي والتضامن.

3. الإعلام، التطور الرقمي والهوية الثقافية:

تشكل التحولات الرقمية والتقنية دافعاً أساسيًا في صياغة وتطوير الثقافة في عصر العولمة. حيث تعرف وسائل الإعلام الحديثة، خاصة الرقمية منها، بوصفها أدوات قوية من شأنها احداث تغييرات جذرية في كيفية بناء وتكامل الهويات الثقافية.

أ. صناعة الهوية العابرة للثقافات

في ظل تسونامي الرقميات، لم تعد الهوية تُحدد فقط من خلال الانتماءات الجغرافية أو الوطنية أو الدينية وما هنالك، بل صارت تتشكل عبر وتيرة تفاعلات وسائل التواصل الاجتماعي، والمنتديات الرقمية، والمنصات المفتوحة على التنوع الثقافي العالمي. إذ تسمح هذه الأدوات الرقمية للأفراد أن يختاروا ويتنقلوا بين هويات ثقافية متعددة، مكونين بذلك هويات "متعددة الثقافات" أو "عابرة للثقافات".

هذه الصناعة الجديدة للهوية تُبرز مرونة الإنسان في الزمن الحاضر وقدرته على التكيف مع الواقع المتغير، غير أنه يثير أيضًا تساؤلات حول عمق الترابط أو الثبات في الهوية الفردية والمجتمعية.

ب. مخاطر الفضاء الرقمي الثقافي

رغم الفوائد الهائلة التي توفرها التكنولوجيا الرقمية للقاء بين الثقافات[12]، إلا أن هناك مخاطر واضحة تتمثل في تحويل الثقافة إلى سلعة تُستهلك بغرابة أو بشكل سطحي، مما قد يؤدي إلى فقدان المعنى الحقيقي للقيم والممارسات الثقافية. تكمن المشكلة في أن بعض النقاط الهامة، كالخصوصية، والحقوق الثقافية، والحفاظ على التنوع الغني للمعرفة الفطرية، قد تُهمل في فضاء الإنترنت المفتوح، مما يعرّضها للاندثار ..

ج. دور التشريعات والمناهج التعليمية:

تؤكد الدراسات الحديثة على أن التوازن بين الاستخدام الإيجابي للتكنولوجيا الرقمية كمُعزز للحوار الثقافي وحماية التنوع والتقاليد، وأخطار التجزئة الثقافية رقميًا، يتطلب تنسيقًا سياسيًا فعالاً. فالمسؤولية تقع على كاهل الحكومات والمنظمات الدولية لتطوير أطر تشريعية وسياسات تعليمية تشجع الحوار المفتوح وتدعم الإنتاج الثقافي المحلي.[13]

4. تعزيز التنوع الثقافي

في مواجهة تحديات التجانس الثقافي التي تصاحب ظاهرة العولمة، برزت العديد من الاستراتيجيات والمبادرات[14] التي تهدف إلى صون ثراء وتعدد الثقافات في العالم المعاصر، وذلك من خلال مقاربات فلسفية وسياسية تعترف بأهمية التنوع كقيمة جوهرية للإنسانية.

أ. الحوار الثقافي والحكم الشامل

أكدت العديد من الدراسات الفلسفية الحديثة[15] على ضرورة إقامة حوار مستمر يقوم على الاحترام المتبادل والاعتراف بالآخر كشرط أساسي للحفاظ على السلم الاجتماعي واستدامة التعايش في المجتمعات متعددة الثقافات. كما تبرز أهمية تعزيز نظم حكم شاملة تستوعب مكونات المجتمع المختلفة وتمنحها حقوقًا متساوية في الممارسة الثقافية[16].

هذا النوع من الحوار ليس مجرّد تبادل للآراء، بل هو عملية ديناميكية تؤدي إلى تأطير فهم مشترك وإلى استحداث نماذج جديدة للتفاعل الاجتماعي تستند إلى تقبل التنوع وتثمينه.

ب. الفعالية المجتمعية والسياسات العامة

على المستوى العملي، تلعب النشاطات الثقافية المجتمعية دورًا حيويًا في الحفاظ على الهوية الثقافية، من خلال دعم الصناعات التقليدية والفنون المحلية، وتشجيع تعلم اللغات الأم، وتعزيز انتقال المعرفة والتقاليد بين الأجيال.

إضافة إلى ذلك، تعتبر السياسات العامة الثقافية أداة محورية في دعم التنوع الثقافي، حيث تعمل على توفير الدعم المالي والتنظيمي للمشاريع الثقافية المحلية وتشجيع التبادل الثقافي الدولي، مما يخلق بيئة داعمة لاستمرارية الثقافات المتنوعة.

ج. التكيف النقدي

تشير الفلسفة المعاصرة إلى ضرورة تبني المجتمعات موقفًا نقديًا إزاء العولمة، يقوم على التكيف مع المتغيرات العالمية بطريقة تحفظ الجوهر الثقافي وتمنع الانصهار الثقافي الكامل. وهذا يعني تطوير قدرة الأفراد والجماعات على امتصاص المؤثرات الخارجية بوعي وتحليلها واختيار ما يتناسب مع قيمهم الثقافية.

هذا التكيف النقدي يُعد طريقًا لتحصين الذاكرة الثقافية وفي نفس الوقت لاستثمار فرص النمو الثقافي المستند إلى الحوار والتفاعل العالمي.

العولمة، بعيدًا عن كونها مسارًا خطيًا، كونها ساحة تشهد توترات وتفاعلات وابتكارات غير مسبوقة في مجال الثقافة. تؤكد الفلسفة المعاصرة [17]على ضرورة الموازنة بين الحفاظ على التنوع الثقافي والانفتاح على التأثيرات الخارجية، معتبرة التعددية الثقافية والتداخل الثقافي بوصفهما مسالك متقدمة لمستقبل الثقافة في عالم معولم.

5. معوقات قبول الثقافات المتنوعة وتكاملها:

إن قبول الثقافات المتنوعة ودمجها في المجتمع ينطوي على العديد من التحديات والعقبات، سواء على المستوى الفردي أو المؤسسي. وقد تنشأ هذه العقبات من الأحكام المسبقة، أو سوء الفهم، أو السياسات الاجتماعية غير الملائمة، أو حتى المصالح الاقتصادية. وفيما يلي لمحة عامة عن العوائق الرئيسية أمام قبول الثقافات المتنوعة وتكاملها:

التحيزات والصور النمطية:

إن الصور النمطية هي عبارة عن تعميمات مبسطة، وخاطئة في كثير من الأحيان، تنُُسب إلى مجموعة ثقافية معينة. على سبيل المثال، يمكن أن تؤدي المفاهيم الخاطئة حول ثقافات معينة (مثل التصورات السلبية للمهاجرين، أو المعتقدات حول الممارسات الدينية أو الاجتماعية) إلى التمييز ومقاومة التكامل. كما أن الصور النمطية تغذي الخوف من الآخرين ويمكن أن تخلق حواجز غير مرئية بين المجتمعات.

مثال عن ذلك: قد تتفاقم الصور النمطية السلبية المرتبطة بمجتمعات معينة، مثل المهاجرين أو اللاجئين، بسبب وسائل الإعلام أو الخطاب السياسي. ويمكن أن يؤدي هذا إلى أشكال من العزلة الاجتماعية والنبذ، وخاصة في السياقات التي ينُُظر فيها إلى الأقليات على أنها تشكل تهديداً للثقافة السائدة وهذا لا نجده فقط في الدول النامية بل حتى في دول مثل كندا وأستراليا والولايات المتحدة الأمريكية بالرغم من السياسات العامة الصارمة والتشريعات المتطورة.

حيث كراهية الأجانب في العديد من المجتمعات هي الخوف أو العداء تجاه الأجانب أو الأشخاص الذين ينُظر إليهم على أنهم من بلدان أخرى. أما العنصرية، من ناحية أخرى، فهي شكل أعمق من أشكال التمييز على أساس العرق أو الدين أو البلد أو المذهب أو اللون.

وتشكل هذه المواقف عقبات رئيسية أمام قبول الثقافات الجديدة، لأنها تخلق انقسامات اجتماعية وتمنع التعايش المتناغم بين المجموعات المختلفة.

على سبيل المثال: في العديد من المجتمعات، قد تتعرض الشعوب ذات الأصول الأجنبية للوصم بسبب مظهرها الجسدي، أو لغتها، أو عاداتها المختلفة، كما حصل مع العرب والمسلمين بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001.ويمكن أن يؤدي هذا إلى الإقصاء الاجتماعي المنهجي، وخاصة في سوق العمل، وفي التعليم، وفي التفاعلات اليومية.

الاختلافات الثقافية وسوء الفهم:

إن إحدى العقبات الأكثر وضوحا أمام التكامل هي حاجز اللغة .قد يجد الأشخاص الذين يتحدثون لغة مختلفة عن لغة الأغلبية صعوبة في الاندماج الكامل في المجتمع، سواء في الحياة المهنية أو التعليمية أو الاجتماعية. ويمكن أن يؤدي هذا أيضاً إلى سوء الفهم والإحباط، سواء بالنسبة للأشخاص من ثقافات مختلفة أو بالنسبة لأولئك الذين ينتمون إلى الثقافة السائدة.

على سبيل المثال: قد يجد المهاجر الذي لا يتقن لغة البلد المضيف نفسه معزولاً، وغير قادر على المشاركة الكاملة في الحياة الاجتماعية، مما قد يحد من فرص عمله وقدرته على الوصول إلى الخدمات الصحية والتعليم وما إلى ذلك.

من جهة أخرى، للثقافات قيم ومعايير اجتماعية مختلفة جداً، مما قد يؤدي إلى سوء الفهم .على سبيل المثال، يمكن أن تكون الاختلافات في تصورات الوقت، أو العمل، أو الأسرة، أو العلاقات الاجتماعية، مصادر للتوتر، وهذا الأمر ذو أهمية خاصة في السياقات التي تختلف فيها القيم التقليدية للثقافة السائدة عن قيم المجتمعات الوافدة حديثاً، وبالفعل هذا ما سمعته من لدن العديد من العرب المهاجرين إلى ألمانيا، حيث اصطدموا بسياق ثقافي مغاير رغم سياسات الادماج المتقدمة في ألمانيا بالنظر لدول أوروبية أخرى مثل فرنسا وبريطانيا.

على سبيل المثال: في بعض الثقافات، قد تشغل المرأة أدواراً عائلية مختلفة تماماً عن الأدوار التي تشغلها في مجتمعات أخرى، مما قد يؤدي إلى سوء الفهم بشأن قضايا مثل المساواة بين الجنسين أو الأدوار داخل الأسرة، مما يخلق احتكاكاً بين المجموعات الثقافية.

التمييز الممنهج وعدم المساواة الاجتماعية:

يعد التفاوت الاقتصادي أحد العوائق الرئيسية أمام التكامل بين الثقافات في المجتمع الواحد، قد تواجه الأقليات الثقافية أو المهاجرون حواجز اقتصادية تحد من قدرتهم على الوصول إلى سوق العمل والتعليم والخدمات الأساسية مثل: الصحة والإسكان .وتؤدي هذه التفاوتات إلى تعزيز الإقصاء الاجتماعي وتعوق التكامل الثقافي.

على سبيل المثال: قد يواجه الأقليات العرقية أو المهاجرون صعوبات في الحصول على فرص عمل بسبب أصولهم أو مؤهلاتهم غير المعترف بها أو وضعهم المتعلق بالهجرة. ويمكن أن يؤدي هذا إلى خلق انقسام بين الفئات الاجتماعية، مما يدفع نحو تأجيج التوترات الثقافية وعدم المساواة في الثروة.

ويمكن أيضا أن يتم إضفاء الطابع المؤسسي على التمييز، أي أنه يصبح جزءا لا يتجزأ من القوانين أو السياسات أو الممارسات الاجتماعية، وبالتالي خلق نظام من الإقصاء لبعض المجموعات الثقافية، وقد يتجلى هذا من خلال التمييز في عمليات التوظيف، وفي الممارسات التعليمية، وفي إنفاذ القانون، وفي الوصول إلى الخدمات العامة.

مثال على ذلك: قد تتعرض الأقليات العرقية للتمييز في إجراءات التوظيف، حيث يؤثر التحيز العنصري على كيفية معالجة طلباتهم، على الرغم من حصولهم على نفس المؤهلات مثل المتقدمين الآخرين.

د. الخوف من التغيير ومقاومة التنوع:

لدى بعض المجتمعات أو المجموعات داخل المجتمعات وجهة نظر محافظة تجاه ثقافتها الخاصة وقد تنظر إلى وصول الثقافات الجديدة على أنه تهديد لتقاليدها أو أساليب حياتها. وقد تترجم هذه المقاومة للتغيير إلى رفض للقيم الثقافية الأجنبية والرغبة في الحفاظ على التجانس الاجتماعي.

على سبيل المثال: في المجتمعات التي تكون فيها التقاليد الدينية أو العائلية قوية بشكل خاص، قد ينُُظر إلى وجود ممارسات ثقافية أو دينية مختلفة على أنه يشكل تحدياً للنظام الاجتماعي القائم. وقد يؤدي هذا إلى خلق توتر بين المجموعات التي ترغب في الحفاظ على ثقافتها وأولئك الذين يصلون بممارسات ثقافية مميزة.

هنا تلعب الفعاليات الثقافية دورا أساسيا في تعزيز الهوية والتماسك الاجتماعي داخل المجتمعات، كونها توفر وسيلة للتعبير الجماعي الذي يقدر التاريخ المشترك والقيم والتقاليد والمعتقدات. حيث تعتبر الاحتفالات التي تمثل مراحل الحياة المهمة والمأكولات من الأمثلة الرئيسية، لأنها ترمز إلى لحظات الانتقال والتضامن والاحتفال، سوف أشير هنا إلى جوانب ثلاث:

الفعاليات الثقافية التي تعزز الهوية والمجتمع:

الأحداث الثقافية هي ممارسات أو أحداث جماعية تخلق شعوراً بالتضامن والمشاركة، في كثير من الأحيان تعكس التاريخ والقيم والتقاليد الخاصة بمجموعة ما، وتشارك بشكل فعال في بناء الهوية الجماعية.

هناك المهرجانات والمناسبات التقليدية[18]، مثل كرنفال ريو بالبرازيل، الذي يعد حدثاً مشهوراً عالمياً، وهو حدث ثقافي يجمع بين الرقص والموسيقى والأزياء والاستعراضات، يعكس الهوية البرازيلية، مع فرادة عنصر أفرو-برازيلي قوي، يعكس روح الفرح والوحدة.

الفلامنكو بإسبانيا، هذا النوع الموسيقي والرقصي، الذي نشأ في الأندلس، يجسد الهوية الإسبانية، وخاصة هوية الغجر، يتم ممارسته غالباً في الشوارع، وفي المهرجانات، وفي التجمعات المجتمعية. الريجي بجامايكا، موسيقى مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بتاريخ وهوية الشعب الجامايكي، وترمز إلى المقاومة والنضال من أجل العدالة الاجتماعية والفخر الثقافي. والعديد من الأحداث الثقافية التي تعكس الهويات الثقافية للشعوب عبر العالم.

هناك ممارسات صحية مثل أوراق كينتي بغانا في افريقيا هي ممارسة فنية تقليدية تعكس معتقدات وعادات وتاريخ شعب الأكانفي، حيث كل نمط في كينتي له معنى محدد، ويتم ارتداء ملابس كينتي خلال الأحداث الهامة.

فخار نافاجو بالولايات المتحدة الأمريكية، فخار خاص بشعب نافاجو وغيره من القبائل الأمريكية الأصلية ليس فناً فحسب، بل هو أيضاً وسيلة لنقل القصص الثقافية والروحية عبر الأجيال. هناك أيضا الاحتفالات التي تمثل طقوس رمزية خاصة بمراحل مهمة في حياة الأفراد والمجتمعات، مثل الميلاد والمراهقة والزواج والموت. إنها لحظات انتقالية تعمل على تعزيز الانتماء إلى المجتمع.

أمثلة:

حفل التسمية بغرب أفريقيا، أو ما يعرف عند المسلمين بالعقيقة، في العديد من الثقافات الأفريقية كذلك، تقام طقوس لتسمية الطفل. إن هذه المراسم مهمة لأنها ترمز إلى اندماج الطفل في المجتمع والعالم الروحي.

طقوس البدء بين الشعوب الأفريقية، في العديد من الثقافات الأفريقية، تقام طقوس البدء للإشارة إلى الانتقال من مرحلة الطفولة إلى مرحلة البلوغ، وقد تشمل هذه الطقوس مراسم الختان، أو اختبارات التحمل، أو التجارب الروحية.

حفلات الزفاف في الهند مع طقوس دينية ومهرجانات حيث تتجمع العائلات والمجتمع للاحتفال باتحاد شخصين. وتعتبر الاحتفالات (الخطوات السبع حول النار المقدسة)، كرمزية تدل على الالتزام العميق بالحياة المجتمعية. حفلات الزفاف الصينية التقليدية تتضمن طقوساً مثل تبادل الشاي بين العروس والعريس وعائلاتهم، مما يرمز إلى الاحترام والوحدة.

الموت والجنازات: كذلك فالجنازات المكسيكية Dia de los Muertos: في المكسيك، يوم الموتى هو احتفال بهيج حيث يقوم الأحياء بتكريم أسلافهم. يتم وضع القرابين على المذابح، بما في ذلك الصور، والزهور، والشموع، والأطعمة التي كان المتوفى يستمتع بها أثناء حياته. إنها فرصة للمجتمعات للالتقاء وتعزيز الروابط بين الأجيال.

الجنازات الإسلامية: تتبع الجنازات في الإسلام بروتوكولاً محدداً، بما في ذلك غسل الجثة، وصلاة الجنازة (صلاة الجنازة)، والدفن. وترمز هذه الطقوس إلى الانتقال إلى الحياة الآخرة وتعزيز الوحدة داخل المجتمع الإسلامي.

فن الطهو:

أصبح الطهو تعبير عن التاريخ والهوية الثقافية، لا يقتصر على الطعام فقط؛ إنها وسيلة أساسية للتعبير الثقافي. يحمل كل طبق أو وصفة أو مكون تاريخ شعب ما، وتأثيراته الجغرافية والاجتماعية والسياسية.

فالأطباق التقليدية كرموز للهوية:

-الكسكس طبق رمزي في بلدان المغرب العربي (الجزائر، المغرب، تونس)، هو رمز للضيافة والمرح. ويعد إعداده ومشاركته من الأفعال الثقافية العميقة، والتي ترتبط في كثير من الأحيان بالتجمعات العائلية أو المجتمعية والمناسبات الجماهيرية.

- البيتزا بإيطاليا: وخاصة البيتزا النابولية، هي مثال على كيفية تمثيل المطبخ الإقليمي في إيطاليا للتراث الثقافي العالمي. يعكس هذا الطبق التقليدي تاريخ نابولي وتطور تقنيات الطهي في إيطاليا.

- وجبات احتفالية:

عشاء عيد الشكر بالولايات المتحدة الأمريكية، تجمع هذه الوجبة التقليدية العائلات والأصدقاء حول أطباق مثل الديك الرومي والبطاطس المهروسة وفطيرة اليقطين. فهو مرتبط ارتباطاً وثيقاً بتاريخ المستوطنين الأوائل وفكرة الامتنان.

وجبات عيد الميلاد بأوروبا وخارجها، مع أطباق خاصة بكل بلد مثل شواء عيد الميلاد في إنجلترا، أو الديك الرومي في أمريكا، هي أوقات تنتقل فيها الثقافة من خلال المطبخ والتقاليد الذواقة.

الخاتمة:

في النهاية، يقتضي اكتشاف الثقافة في ظل تحديات ورهانات العولمة تأملاً أخلاقيًا وعمليًا يُراعي تعقيد الظاهرة وتنوعها، حيث يصاحب الاعتراف بالآخر الحفاظ على الذات، ويجب أن يترافق النهج الإنساني العالمي مع احترام حقيقي للتعددية الفعلية للهويات.

هذا التميز في فهم العلاقة بين الثقافة والعولمة يفتح آفاقًا جديدة للبحث والتطوير في مجالات الفلسفة، والعلوم الاجتماعية، والسياسات الثقافية في عالمنا العربي والاسلامي، ويعيد توجيه الاهتمام إلى كيفية بناء عالم يتمتع بالتنوع والعدالة الثقافية في آنٍ واحد.

ولقد أثبت مسار التاريخ الإنساني أن الثقافة ليست مجرد إرث من العادات والفنون، بل هي التجسيد الحي لروح الأمة وهويتها وعمقها الحضاري. وفي زمن العولمة، حيث تتقارب المسافات وتتسارع التبادلات، وتشتد محاولات توحيد الأنماط وإذابة الخصوصيات، يصبح لزامًا على الثقافات العريقة أن تُظهر قدرتها على المقاومة الإيجابية والإلهام المتجدِّد.

وفي عمق هذا المشهد المتشابك والمعقد، تبرز الثقافة العربية-الإسلامية كأيقونة حضارية متفرِّدة، تمتد جذورها من مكة والمدينة ومسقط إلى بغداد ودمشق ومصر والأندلس والمغرب العربي، حاملةً رسائل العدل والتسامح والتلاقي الإنساني. فالعدل في منظورها قيمة كونية، تنسجم مع ما قاله الإمام علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه): "الناس صنفان: إمّا أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق"، بما يلخّص فلسفة المساواة والاعتراف بإنسانية الآخر مهما اختلفت العقيدة أو اللسان.

أما التسامح، فقد عبّر عنه تراثها الفكري في صورة عملية وواقعية، وهو ما أشار إليه ابن رشد حين قال: "التفاهم بين الناس ضرورة عقلية وشرط للتمدّن، والحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له[19]". فالحوار عنده ليس ترفًا فكريًا، بل قاعدة لبناء مجتمع متماسك وحضارة مزدهرة.

وفي مقاربة فكرية معاصرة، يلخص مالك بن نبي هذه الرؤية بقوله: "لا تبنى الحضارة على القوة المادية وحدها، بل على الإرادة الأخلاقية التي تجعل الإنسان قادرًا على أن يعيش مع الآخر"، مبيّنًا أن مقاومة العولمة الموحِّدة لا تقوم فقط على الحفاظ الميكانيكي للتقاليد، بل على وعي أخلاقي حيّ يبني الجسور ويمنع القطيعة.

ولعلّ ما قاله الجاحظ يحمل بُعدًا فلسفيًا يتقاطع مع هذا المعنى: "الناس بخير ما تفاوتوا، فإذا تساووا هلكوا". فالاختلاف هنا ليس تهديدًا، بل هو مصدر غنى وتجديد، وضمانة لاستمرار الإبداع الإنساني في مواجهة النمطية.

ومن منظور حضاري شامل، يرى الشاعر والفيلسوف محمد إقبال أن: "الأمم لا تعيش إلا بروحها، وروح الأمة في ثقافتها وقيمها ومبادئها". وهنا تكمن قوة الثقافة العربية-الإسلامية في زمن العولمة: أنها قادرة على صون روحها، وفي الوقت ذاته مدّ العالم بتيارات فكرية وأخلاقية تعزز العدالة والتنوع والتعايش.

وعليه، فإن هذه الثقافة، إذا تمسّكت بجذورها وتفاعلت بوعي مع العالم، ستظل مشعلًا مضيئًا يهدي في عتمة التحديات، وجسرًا بين الشرق والغرب، ومصدرًا لإلهام ثقافات أخرى بروح العدالة ونبل التسامح، مسهمةً بذلك في رسم ملامح عالم أكثر عدلًا وإنسانية وتعدّدًا.

***

مراد غريبي – كاتب وباحث

........................

[1] Mary Christine Wheatley, « Globalization and Local Cultures: A Complex Coexistence » (2024)

[2] يمكن العودة لمؤلفات جوديث بتلر واكسل هونيث الخاصة بالاعتراف وكذا نظرية التعارف للدكتور زكي الميلاد المفكر السعودي.

[3] التسامح ومنابع اللاتسامح، ماجد الغرباوي ص 14-15، ط3.

[4] Kraidy M. Hybridity, or the Cultural Logic of Globalization. Temple University Press. 2006. and Sklair L. Sociology of the Global System. Johns Hopkins University Press. 1995.

[5] Appadurai A. Modernity at Large: Cultural Dimensions of Globalization. Minneapolis: University of Minnesota Press. 1996. and Nederveen Pieterse J. Globalization and Culture: Global Mélange. Rowman & Littlefield. 2009.

[6] Robertson R. Globalization: Social Theory and Global Culture. Sage. 1992. And Hannerz U. Transnational Connections: Culture, People, Places. Routledge. 1996.

[7] Alejandro Rojas, « Philosophical Reflection on Cultural Identity Formation in the Era of Globalization » (2024)

[8] تشير إلى ظاهرة اندماج عناصر من ثقافتين أو أكثر لتشكيل أنماط جديدة من التعبير الثقافي، سواء في اللغة أو الفنون أو الممارسات الاجتماعية أو القيم. وغالبًا ما تنتج عن الاتصال المستمر بين الشعوب، سواء بفعل الهجرة، أو التبادل التجاري، أو العولمة، أو وسائل الإعلام.

[9] م.س (7)

[10] Ecology & Society :volume 30, issue 01, Article 33(Confronting colonial history: toward healing, just, and equitable Indigenous conservation futures).

[11] Elwira Gross-Gołacka et Anna Martyniuk, « Globalisation and the Challenges of Managing Cultural Diversity » (2024)

[12] O’Brien M, Patel R. Digital diasporas: The role of media in migrant cultural expression. Cult Geogr. 2019;26(3):341–59.

[13] Eriksson M, Lindberg I. Education and cultural preservation in Scandinavia. Scand J Educ Res. 2024;58(1):77–93.

[14] Martinez S, Garcia R. UNESCO’s role in cultural heritage preservation. Int J Cult Heritage. 2023;18(2):156–72.

[15] Ogharanduku, V. I., & Tinuoye, A. T. (2020). Impacts of Culture and Cultural Differences on Conflict Prevention and Peacebuilding in Multicultural Societies. In Handbook of Research on the Impact of Culture in Conflict Prevention and

Peacebuilding (pp. 177-198). IGI Global.

[16] Si Shi & Zhuo Yang, « Philosophical Analysis of Cultural Diversity and Globalization » (2025)

[17] Alejandro Rojas, « Philosophical Reflection on Cultural Identity Formation in the Era of Globalization » (2024(

[18] International Journal of Frontiers in Sociology, 2023, 5(1 .(6

[19] فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال، لإبن رشد.

 

“اكتب يا هيبا، فمن يكتب لن يموت أبدًا.”هكذا يبدأ الهمس في أذن الراهب الحائر بين جدران ديره، وهكذا يبدأ أيضًا صراع كل كاتب يواجه سلطةٍ تحاول أن تحيله إلى صمت أبدي. في زمن هيبا، كانت جدران الكنيسة تزن الكلمة بميزان العقيدة. في زمننا، تتبدّل الجدران: قد تكون قاعة محكمة، أو شاشة إعلامية، أو ملفًا قضائيًا يُطوى فيه العمر على هامش تهمة.

اليوم، يواجه الدكتور الوليد مادبو حملة شعواء تسعى لمحاكمة نصوصه الكاشفة، وهي لا تحاكمه هو، بل تحاكم إمكانية أن توجد الحقيقة خارج أسوارهم البائسة. كما قال نيتشه: “كل حقيقة هي جيش من الاستعارات”، والاستعارة التي تنفلت من يد السلطة تتحول إلى تمرّد لا يمكن ضبطه.

فوكو، في تتبعه لمسارات السلطة، كان يدرك أن أخطر ما يهدد نظامًا ما ليس السلاح ولا العصيان المسلح، بل النص الذي يخلخل يقيناته، النص الذي يفضح اللغة التي تتخفّى بها السلطة وهي تعيد تشكيل الجسد والضمير على مقاسها. النص هنا ليس حبرًا على ورق أو شاشة هاتف، بل جسد متمرد، والكاتب ليس شخصًا، بل ساحة مفتوحة للصراع بكل أنواعه.

قرأتُ مقالات مادبو  التي تضمنتها "ثلاثية قرناص" كما لو كنتُ أطالع فصلًا مفقودًا من عزازيل. هناك، كان هيبا الراهب يدوّن يومياته في مواجهة مؤسسة تحاصره، لا خوفًا من زلة لسان، بل من أن تتحول كلماته إلى نبوءة بالحرية. كانت الكنيسة تحاكم الجسد الذي أحب، والفكر الذي تجرأ على النظر خارج المألوف، بالمنطق ذاته الذي تحاكم به سلطة اليوم الوليد مادبو، أو بالأحرى سلطة الأمر الواقع في بورتسودان: تحويل السؤال إلى تهمة، وجعل الحق في السرد جريمة مكتملة الأركان.

في عزازيل، كان هيبا ممزقًا بين لذّة الجسد وسوط العقيدة، بين حنينه إلى مريم وسقف الدير الذي يضيق كلما تنفست الحرية. وفي مقالة مادبو، بدت قرناص – لا كاسم، بل كأيقونة – تمثل الوجه الآخر لتلك السلطة التي أراد هيبا أن يتحرر منها: سلطة تجعل الأنوثة أداةً للتزيين السياسي، وتحيل الحب إلى وظيفة، وتحول الجمال إلى قسم العلاقات العامة للدولة، ومن ثم تُوزَّع كهبات وهدايا مغلفة في أوراق أنيقة تحمل عبارات وجملًا دينية.

لكن في سياق السودان، لهذا الوجه الآخر اسم وعنوان: الجبهة الإسلامية القومية. الجماعة التي زعمت أنها جاءت “لتطهّر” المجتمع، بينما كانت تزرع في جسده سرطان القمع والفساد. التي سنّت قوانين النظام العام لتجلد النساء في الأسواق، ومنحت الامتيازات لمن اختارتهم كواجهة “متدينة” لترويج مشروعها المزعوم. هي نفسها التي أرهبت الصحفيين والمفكرين، ومنعت الكتب، وأغلقت المنابر، ثم ابتسمت أمام الكاميرات وهي توزع صكوك الغفران السياسي.

السفيرة التي ترفع اليوم دعوى ضد الكاتب – والدعوى التي رفعها النظام باسمها – تكرر خطى أولئك الذين جرّوا محجوب شريف إلى المعتقل، وطاردوا حميد والدوش وغيرهم، ووضعوا أسماء الكتّاب على قوائم الممنوعين من السفر. ليست القضية فردية، بل امتداد لزمن كانت فيه الكلمة جريمة تستدعي العقاب.

فوكو كان سيقرأ ما حدث للوليد مادبو كتجسيد للسياسة الحيوية: كيف تدير السلطة حياة الأفراد وأجسادهم وسردياتهم، وكيف تجعل القانون أداة لإعادة إنتاج الطاعة. ويوسف زيدان كان سيرى في هذا الاستدعاء صدى لمحاكم التفتيش: المطلوب ليس إقناع المفكر بخطئه، بل إرغامه على قبول تعريف السلطة للصواب.

إنهم لا يحاكمون مادبو لأنه أساء لشخص – وهو لم يفعل – بل لأنه جرّد خطابهم من قماشه الرثّ، وواجههم بلغة لا يمكن وضعها في محاضر الاتهام دون أن يعترفوا بأنهم الطرف الآخر في الرواية. في ذلك، يضع الكاتب نفسه، عن وعي، في المسافة الحرجة التي وقف فيها هيبا: بين رغبة الاعتراف وخوفه، بين حق الجسد في أن يكون شاهدًا وحق الروح في أن تكون حرة.

ما فعله مادبو ليس هجومًا شخصيًا، بل مراوغة على طريقة الكبار: انزلاق بالكرة إلى قلب الشبكة التي تحرسها السلطة، لتكتشف متأخرة أن الملعب لم يكن لها أصلًا. ولهذا، فإن محاكمهم، مهما علت جدرانها، ستظل عاجزة عن محاكمة النص الذي خرج من سلطة اللحظة ودخل أرشيف الضمير.

التاريخ لا يحفظ أسماء القضاة ولا لوائح الاتهام، بل أسماء الذين قاوموا قبح السلطة بالكلمة. ستزول الجبهة الإسلامية كما زال كل طغيان، لكن وقائعها ستظل شاهدًا على سؤال بسيط: كيف تصنع سلطة عدوها من الشعراء والكتّاب؟ وحين تُفتح دفاتر المحاكم الحقيقية، لن يُسأل مادبو عمّا كتب، بل ستُسأل الجبهة عمّا فعلت، وحينها لن ينفعها وشاح دبلوماسي ولا بيان تبرير.

***

إبراهيم برسي

11/08/2025

الملخّص: يبحث هذا العمل في البنية المزدوجة التي تحكم مسار الوعي الإنساني، والمتمثلة في الصدفة التي تصوغ البدايات، والعادة التي تكرّس النهايات. ينطلق البحث من فرضية أساسية مفادها أن تحالف هذين العاملين يُسهم في تعطيل الفعل الإنساني الواعي، ويحول دون ممارسة الحرية الحقيقية. تتناول الدراسة، من خلال إطار فلسفي-اجتماعي، تعريف كل من الصدفة والعادة في ضوء التراث الفكري العراقي والعالمي، ثم تفحص آليات تداخلهما وتأثيرهما على أنماط التفكير والسلوك. وتعتمد المنهج التحليلي النقدي، ممزوجًا بالمنهج المقارن، لإظهار التباين والتقاطع بين رؤى فلاسفة عراقيين أمثال علي الوردي ومدني صالح، وفلاسفة عالميين مثل مارتن هايدغر وحَنّة أرندت وزيغمونت باومان. ويخلص البحث إلى أن تجاوز هذه البنية يتطلب مشروعًا معرفيًا مزدوجًا يقوم على تفكيك المسلّمات الموروثة، وكسر دورات التكرار التي تمنح الأمان الزائف، وصولًا إلى إعادة تعريف الحرية باعتبارها القدرة على الفعل المدروس المختار لا مجرّد التحرر من القيود الظاهرة.

المقدمة

ليست الصدفة في حياة الإنسان مجرّد حادثة عابرة تُسجّل في دفتر الأيام، ولا العادة مجرد تكرار رتيب للسلوك؛ بل هما، في العمق، قوتان متلازمتان، تعملان على رسم خريطة الوعي من أول منعطفاته حتى آخر محطاته. ففي حين تلقي الصدفة بالإنسان في بيئة وثقافة وزمن لم يخترها، تأتي العادة لتشيّد حوله أسوار المألوف، حتى يغدو حركته داخل دائرة مغلقة، يظنها أفقه الطبيعي. قال أحد المفكرين العراقيين: «ليست المصيبة أن تولد في بيئة لم تخترها، بل أن تموت وأنت لا تعرف أنك كنت سجينها». هذه الكلمة تختزل مأساة ملايين الأفراد الذين يعيشون حياتهم على إيقاع ما لم يختاروه، ثم يرحلون دون أن يمارسوا لحظةً واحدةً من الفعل الحرّ الذي يتجاوز شروط البداية ويكسر تكرار النهايات. تسعى هذه الدراسة إلى معالجة هذا الإشكال من خلال تحليل فلسفي واجتماعي معمّق لمفهوم الصدفة والعادة، واستكشاف كيف يتواطآن في تشكيل وعي الإنسان وتحديد مساره. ويتجاوز هذا البحث الطرح الأدبي المجرّد، لينخرط في قراءة نقدية مؤسّسة على مناهج الفكر الحديث، ويقارن بين التجربة الفكرية العراقية، التي انشغلت طويلاً بمسألة الموروث والعرف، وبين أطروحات الفلسفة الغربية المعاصرة التي تناولت قضايا البنية والحرية والفعل الإنساني.

إن الإلحاح على هذا الموضوع ينبع من الحاجة إلى إعادة النظر في معنى الحرية ذاتها. فليست الحرية، كما تذهب بعض التصورات الساذجة، مجرد تحرر من القيود الظاهرة، بل هي في جوهرها القدرة على نقد البدايات وفحصها، وكسر النهايات المكرورة التي تتحوّل بمرور الزمن إلى ما يشبه «القدر الاجتماعي». وهنا تكمن أهمية الفحص المزدوج: تفكيك ما جاءت به الصدفة من محددات أولى، ومساءلة ما فرضته العادة من تكرار. كما أن هذا البحث يهدف إلى تقديم تصور نظري قادر على صياغة استراتيجية للتحرر من أسر الصدفة والعادة، وذلك عبر بناء وعي نقدي، وخلق مساحات للفعل المقصود، حيث يصبح الإنسان فاعلاً في مسار حياته، لا مجرد مُساقٍ فيه. ولتحقيق هذا الغرض، سننطلق أولاً إلى تحديد المفاهيم، ثم تحليل آليات عملها، قبل الانتقال إلى المقارنة بين التجارب الفكرية المختلفة، وصولاً إلى طرح رؤية تتجاوز المأزق وتفتح أفقًا جديدًا للحرية والفعل.

الإطار النظري

أولًا: مفهوم الصدفة بين الفلسفة والمجتمع

منذ بدايات التفلسف الإنساني، ظلّت الصدفة مفهومًا ملتبسًا، يتأرجح بين كونها عاملًا عرضيًا خارج منظومة القوانين، وبين كونها أداة خفية في يد القدر. في الفكر اليوناني القديم، رآها أرسطو ضمن «العَرَض» الذي يقع خارج سلسلة العلل المنتظمة، لكنه لم ينكر أثرها في تحويل مجرى الأحداث. وفي المقابل، حاول الرواقيون ردّ كل ما يُسمّى بالصدفة إلى نظام كوني شامل، معتبرين أن ما يبدو لنا صدفة إنما هو جهل بترتيب الأسباب. أما في التصور الإسلامي الكلاسيكي، فقد نُظر إلى الصدفة باعتبارها وهمًا، لأن كل ما يقع إنما يقع بقضاء وقدر، لكن هذا لم يمنع من الاعتراف بوجود أحداث لا يتوقعها الإنسان، فتأخذ في وعيه شكل المفاجأة.

في السياق العراقي الحديث، تناول علي الوردي الصدفة في إطار تحليله للمجتمع التقليدي، فاعتبر أن نشأة الفرد في بيئة معينة «مقامرة وجودية» تحدد ملامح شخصيته، قبل أن يمتلك القدرة على الاختيار. وذهب مدني صالح إلى القول إن «أكبر صدفة في حياة الإنسان هي أن يولد»، مؤكدًا بذلك أن البداية ذاتها ليست من صنعه، بل تُفرض عليه فرضًا.

وهنا أقول: «الصدفة هي اليد التي تضعك على رقعة اللعب قبل أن تعرف شكل الرقعة أو قوانين اللعب، ثم تتركك لتظن أن وجودك هناك كان قرارك». هذا الاقتباس يوضح أن الصدفة ليست مجرد حادثة زمنية، بل هي بنية تأسيسية تحدد شروط الانطلاق، وتفرض على الإنسان مسارًا أوليًا قد يقضي حياته كلها داخله، ما لم يمتلك وعيًا ناقدًا لتفكيك تلك الشروط. من الناحية الاجتماعية، الصدفة هي المحدد الأكبر لما أسماه بيير بورديو بـ«الرأسمال الأولي»؛ فهي التي تمنح أو تحرم الإنسان من رأس المال الاجتماعي والثقافي منذ اللحظة الأولى. فالولادة في بيئة فقيرة أو غنية، في مجتمع متسامح أو متعصب، ليست سوى نتائج مباشرة لصدفة الميلاد، لكنها تُترجم سريعًا إلى فروقات هائلة في الفرص والخيارات. ولعل أخطر ما في الصدفة أنها كثيرًا ما تُموَّه في الوعي الجمعي تحت عناوين «القدر» أو «المشيئة» أو «الحظ»، بحيث يصبح نقدها ضربًا من التجديف أو الجحود. كما أقول: «أخطر الصدف هي التي تُعاش كأنها قدر مقدس، لا يقبل المساءلة ولا الفحص». هذا النوع من الصدفة هو الذي يغلق باب الفعل الإنساني الحر، لأنه يخلط بين ما فُرض على الإنسان قسرًا وبين ما يمكنه تغييره إذا امتلك الوعي والشجاعة. على المستوى الفلسفي المعاصر، يرى مارتن هايدغر أن الإنسان «مُلقى في العالم» (Geworfenheit)، أي أن وجوده يبدأ من نقطة لم يخترها، وعليه أن يتعامل مع المعطيات التي وجد نفسه فيها. هذا الإلقاء هو المعادل الوجودي لفكرة الصدفة، لكنه عند هايدغر لا يلغي إمكانية أن يتحرر الإنسان عبر ما يسميه «الوجود الأصيل»، الذي يقوم على مواجهة الذات للظروف وإعادة تعريفها. غير أن أغلب الأفراد لا يقطعون هذه المسافة، بل يعيشون كما يقول زيغمونت باومان في حالة «حياة سائلة»؛ حيث تتحدد مساراتهم بفعل قوى خارجية وظروف أولية، ويكتفون برد الفعل بدل صناعة الفعل. وهنا أقول: «الصدفة تكتب السطر الأول في كتاب حياتك، لكنك إذا لم تمسك القلم، فإنها ستكتب الفصول كلها».

إن فهم الصدفة، إذن، لا يقتصر على رصد لحظة الميلاد أو بداية الحدث، بل يتطلب تفكيك البنية الكاملة التي تنتجها، وفهم كيف تتداخل مع العادات لاحقًا لتشكل مصير الإنسان. وهذا يقودنا إلى المحور الثاني، حيث تتحول الصدفة إلى عادة، والعادة إلى قيد محكم.

ثانيًا: مفهوم العادة بين الفلسفة والمجتمع

العادة ليست مجرد تكرار آلي لسلوك أو تصرف، بل هي آلية ثابتة تحفظ التوازن الزمني للسلوك الإنساني، وتكرس ثقافة الأفعال، فتغدو من خلال ذلك عاملًا مؤثرًا في تشكيل الهوية والوعي. في الفكر الفلسفي، نظر إليها أرسطو على أنها ممارسة متكررة تؤدي إلى تكوين الفضيلة أو الرذيلة، أي أن العادة تبني الشخصية وتحدد مآلاتها. أما في الفلسفة الحديثة، فقد أعاد ديڤيد هيوم تعريف العادة باعتبارها القوة التي تربط بين الأفكار، وتشكل توقعاتنا للسلوك، لكن هيوم لم يتجاوز المنظور النفسي للفرد. في الفلسفة الاجتماعية، خاصة عند علماء الاجتماع، تنظر العادة إلى أنها مجموعة من الأنماط المستقرة، التي توارثتها المجتمعات لتضمن استمراريتها. وقد شدد علي الوردي، في تحليله للمجتمع العراقي، على أن «العادة تتجاوز كونها سلوكًا، لتصبح قانونًا غير مكتوب يتحكم في حياة الفرد، ويُعيق أي محاولة للخروج عن المألوف».

وهنا أقول: «العادة هي القيد المموّه الذي تلبسه الذات كدرعٍ يحميها من مواجهة اللايقين، لكنه في الوقت نفسه يحول دون حركتها الطبيعية». هذه العبارة تعكس الثنائية المأساوية للعادة، فهي من جهة تمنح شعورًا بالأمان والاستقرار، ومن جهة أخرى تمنع النمو والتغيير. على المستوى الاجتماعي، تُعتبر العادة مؤسّسة النظام القيمي، لكنها في كثير من الأحيان تتحول إلى آلة تُسقط كل محاولة للتمرد أو النقد. فالمجتمع الذي يعاني من عادات جامدة، كما قال مدني صالح، هو «مجتمع يعيش في زنزانة غير مرئية، حيث تصبح العادة حكمًا قضائيًا على كل جديد». في الفلسفة الوجودية، لاحظ سارتر أن الإنسان «محكوم بالحرية» ولكنه كثيرًا ما يهرب من هذه الحرية إلى العادات والتقاليد، لأنها توفر له ملاذًا آمنًا من قلق الاختيار والمسؤولية. وفي هذا الإطار، أقول: «العادة ليست فقط تكرارًا، بل هي استسلامٌ ضمنيٌّ لخطاب ما، ينتج طقوسًا وقوانين تلغي الفعل الحر، وتخنق الوعي تحت طبقات التكرار». عبر هذه المفاهيم، تتضح خطورة العادة كعامل يمنع الإنسان من إعادة قراءة الصدفة التي وُلد بها، ويُبقيه أسير تكرار موروثات لا يدرك أصلها ولا إمكانية تجاوزها.

وهكذا، يصبح فهم العادة ضرورة جوهرية لفك القيود التي تحيط بالإنسان، وهي الخطوة التي ستفتح الباب للتحليل الأعمق لتشابكها مع الصدفة، وكيف يؤثر هذا التزاوج على تعطيل الفعل الإنساني، وهو موضوع المحور التالي.

ثالثًا: التقاطع بين الصدفة والعادة وتعطيل الفعل الإنساني

إن العلاقة بين الصدفة والعادة ليست مجرد تتابع زمني، بل هي علاقة تشابك بنيوي ينتج حالة من الجمود المعرفي والسلوكي، تعيق الفعل الإنساني الحر، وتكرس حالة من «الوعي المعلّق» بين فرضيات لم تُسائل وأفعال لم تُختبر. فالصدفة، كما وضحنا، تمثل وضع الإنسان في نقطة بداية غير مختارة، تُحيط به شروط وأطر لا يد له في تحديدها. لكن ما إن تتلبّس هذه البداية بعباءة العادة، حتى تتحول إلى شبكة حديدية تحاصر الفكر والفعل. هذا التحالف الخفي يحول الحياة إلى دائرة مفرغة، حيث يُعيد الإنسان إنتاج ذاته وفق نمط محدد مسبقًا، تفرضه ثقافة صارت مألوفة. وقد عبر في أحد المقالات قائلاً: «أن تستسلم للمألوف، هو أن تضع نفسك في قبضة مزدوجة من الصدفة والعادة، لا حرية فيها ولا تحرر». هذه العبارة تلخص مصير كثيرين ممن يعيشون بلا نقد، بلا اختيار، بلا فعل مُنتج.

يضاف إلى ذلك أن هذا التعطيل لا يطال فقط الفرد، بل يمتد إلى البنى الاجتماعية، حيث تُكرّس المؤسسات التعليمية والدينية والسياسية هذه الثنائية، بحجة المحافظة على الاستقرار، وتجنب الفوضى. فتتحول الصدفة إلى «مقدس» لا يُمس، والعادة إلى قانون لا يُخالف. هذا السياق يجعل من الفعل الإنساني الفاعل حالة استثنائية، تُحسب لها ألف حساب، لأن تجاوز هذا الوضع يتطلب مواجهة مزدوجة: تفكيك إرث الصدفة، وكسر قيد العادة.

من هنا أقول: «الحرية ليست غيابًا عن الصدفة، ولا انفصالًا عن العادة، بل هي القدرة على أن تُعيد قراءة البداية، وأن تُعيد رسم المسار، فتصبح فاعلًا حقيقيًا في كتاب حياتك». هذه القدرة على الفعل الواعي هي جوهر النقد الفلسفي الحديث، كما عبرت عنه حنّة أرندت في مفهومها عن «الفعل» كخاصية إنسانية تميزه عن سائر الكائنات، ومن خلاله يُظهر الإنسان ذاته في العالم، ويخلق التاريخ. غير أن تحقيق هذا الفعل ليس ممكنًا إلا عبر وعي نقدي يُميز بين «الوجود المُلقى» والوجود المختار، بين ما وُضع عليه من شروط وما يمكنه تغييره. وهذا الوعي هو الذي يتحقق من خلال الأسئلة المستمرة، والمقاومة المدروسة للدوران في حلقة الصدفة والعادة.

وقد ورد في خطاب فلسفي: «حين تعيش حياتك كما رُسِمت لك، فإنك تموت قبل أن تعيش». هذه الجملة تلخص هشاشة الوعي المعلّق، الذي لم يجرؤ على كسر الدائرة، ولم يملك الشجاعة لمواجهة بداياته المفروضة. إن هذا التحليل يدفعنا للتساؤل عن آليات التحرر الممكنة، وكيف يمكن استنهاض الوعي ليُعيد صياغة العلاقة مع الصدفة والعادة، بحيث تتحول إلى أدوات للتجديد لا قيودًا للتكرار.

رابعًا: قراءة مقارنة بين الفلسفة العراقية والفلسفة العالمية

1. الرؤية العراقية

تناول الفلاسفة والمفكرون العراقيون قضية الصدفة والعادة من منطلق تأملي نقدي عميق في سياق المجتمع العراقي المركب بين التقاليد والعصرنة.

علي الوردي، في مؤلفاته الاجتماعية، أبرز كيف أن الفرد العراقي يولد في بيئة «مهيمنة بالصدفة الاجتماعية»، فالمولد في عائلة، طبقة، وبيئة ثقافية محددة لا يملك حيالها خيارًا، وأن هذه الصدفة تُشكّل «النشأة الاجتماعية» التي تحدد الكثير من توجهاته وسلوكياته. كما أكد الوردي أن العادة في المجتمع العراقي ليست مجرد سلوكيات متكررة، بل هي «آليات دفاعية ضد التغيير والاختلاف»، تجمّد العقل وتعيق الفعل الحر. مدني صالح، من جهته، ذهب إلى أن «الصدفة الاجتماعية، والارتباط بالعادة، يشكّلان في العراق منظومة ضاغطة تُقيّد إمكانيات التحرر الفردي والاجتماعي»، مبرزًا أن هذا الواقع ينجم عن تراكمات تاريخية وثقافية عميقة. وفي هذا الإطار، أقول: «الصدفة والعادة ليستا مجرد ظواهر، بل منظومة متكاملة من القيود النفسية والاجتماعية، التي تجعل من الإنسان سجينًا لظروفه، ما لم يملك وعيًا نقديًا لمواجهتها».

2. الرؤية العالمية

في المقابل، تناولت الفلسفة الغربية المعاصرة هذا الموضوع من منطلق وجودي نقدي وفلسفي واسع.

مارتن هايدغر، عبر مفهومه «الوجود الملقى» (Geworfenheit), أبرز أن الإنسان يبدأ حياته في ظروف مفروضة لا يمكن اختيارها، لكنه لا يزال يملك إمكانيات التحرر من خلال ما سماه «الوجود الأصيل»، الذي يقتضي وعيًا نقديًا وإرادة فعلية للخروج من العشوائية. حنّة أرندت، من جانبها، ركّزت على «الفعل» كشرط أساسي لإنسانية الإنسان، معتبرة أن الفعل الواعي والمقصود هو الذي يخلق التاريخ، ويحرر الإنسان من براثن «العادة» و«الروتين». زيغمونت باومان قدم تصورًا للمجتمعات «السائلة» حيث تغدو العلاقات والوعي مؤقتين ومتحولين، ما يجعل الصدفة والعادة عناصر أكثر تعقيدًا في تشكيل الوعي الحديث، ويدفع الإنسان إلى البحث المستمر عن معنى الحرية والفعل.

وبهذا، نجد أن الفلسفة العالمية تقدم أدوات تحليلية قوية لفهم وتجاوز الصدفة والعادة، من خلال التركيز على الوعي النقدي والفعل المقصود، وهو ما يفتح نافذة أمل للتحرر.

خامسًا: مقترح نظري للتجاوز: بناء وعي نقدي وفعل حر

في مواجهة ثنائية الصدفة والعادة، التي تقيد الفعل الإنساني وتجعله أسيرًا لأطر لم يختَرها، ينبثق الإشكال الفلسفي المركزي: كيف يمكن للإنسان أن يتحرر من هذا القيد المزدوج، ويستعيد قدرته على الفعل الواعي؟

يستند هذا المقترح النظري إلى مبدأين أساسيين:

1. تفكيك المسلّمات الموروثة

إن الخطوة الأولى في التحرر تبدأ بفعل نقدي حاد تجاه كل ما تلقاه الإنسان عبر الصدفة، فليس كل ما وُرِث صالحًا للبقاء، ولا كل ما رافق النشأة ضرورة لا يمكن تجاوزها. كما أقول:

ليس من حرية حقيقية أن تعيش في ظل افتراضات لم تُختبر، أو أن تمضي في حياة مُرسمة قبل أن تُفكر بها. ينبغي أن يتحول الإنسان إلى ناقد دائم للموروث الثقافي والاجتماعي، مفرّق بين ما يخدم حياته ووجوده، وما هو عبء يمنعه من النمو والتطور.

2. كسر دورات التكرار والروتين

العادة، التي تمثل الدوران في حلقة مفرغة من السلوك والتفكير، تحتاج إلى استراتيجية منهجية لكسرها، عبر ممارسة فعل واعٍ متكرر يقتحم هذا الروتين، ويمارس فيه حرية الاختيار لا الإجبار.

يُعدُّ إدخال الوعي النقدي في الحياة اليومية وتشكيل عادات جديدة قائمة على الفعل المقصود هو الطريق إلى التحرر. كما أكدت حنّة أرندت على أهمية الفعل في إحداث تغيير جوهري، حيث إن الفعل ليس مجرد حركة، بل هو إعلان وجود إنساني مميز.

3. إعادة تعريف الحرية

الحرية ليست غياب القيد فقط، بل هي القدرة على اتخاذ القرار الواعي المبني على الفهم الكامل للشروط المحيطة، وتحمل المسؤولية الكاملة عنه.

وهنا أقول: الحرية ليست فراغًا من القيود، بل هي ممارسة مستمرة لإعادة كتابة قواعد اللعبة التي وُضعت لك.

4. بناء وعي نقدي متعدد الأبعاد

ينبغي أن يتخطى الوعي النقدي حدود الذات الفردية إلى البنى الاجتماعية والثقافية والسياسية، فيكون نقدًا شاملًا يواجه الموروثات الاجتماعية التي تُكرس الصدفة والعادة.

5. الفعل الاجتماعي والتغيير المؤسساتي

التحرر الفردي لا يكفي، بل يجب أن يترافق مع فعل اجتماعي يغيّر الهياكل التي تكرّس الصدفة والعادة، سواء في التعليم، أو الثقافة، أو السياسة. هذا يتطلب وعيًا جماعيًا ومبادرات منظمة ومستمرة.

الخاتمة

إن البحث في ثنائية الصدفة والعادة يكشف عن عميق مأزق الوعي الإنساني بين فرضيات لا اختيار فيها وأفعال متكررة لا نقد لها. ففي الصدفة، يولد الإنسان داخل إطار لا يختاره، وفي العادة، يُكرّس هذا الإطار بأفعال مألوفة تعوق الحرية الحقيقية.

لقد بينّا من خلال الاستشهاد برؤى الفلاسفة العراقيين والعالميين أن هذه الثنائية ليست مجرد ظاهرة اجتماعية، بل هي بنية وجودية عميقة تُعطل الفعل الإنساني الواعي، وتجعل الإنسان أسيرًا لدائرة مفرغة من التكرار والجمود. لكن لا يعني هذا اليأس، بل على العكس، إنّ إدراك هذه الحقيقة هو الخطوة الأولى نحو التحرر. فالوعي النقدي، وممارسة الفعل الواعي، وإعادة تعريف الحرية، هي مفاتيح كسر القيد المزدوج، وبناء ذات حرة قادرة على صنع التاريخ بدلاً من أن تكون مجرد تابع له.

كما أقول: لا يكفي أن تُولد، بل يجب أن تعيش بإرادة، لا أن تموت وأنت نسخة من صدفة وعادة.

ولذلك، فإن الدعوة إلى إعادة قراءة البدايات، ومساءلة النهايات، ورفض الاستسلام للموروثات الجامدة، هي مشروع إنساني لا يقل أهمية عن أي مشروع تحرري آخر. في الختام، يظل الفعل الإنساني الحر أملًا متجدّدًا، يتطلب الشجاعة والإرادة، لكنه وحده الذي يُحرّر الإنسان من أسر الصدفة والعادة، ويفتح أمامه آفاقًا رحبة من الإمكانيات اللامحدودة

***

الكاتب: سجاد مصطفى حمود

 

دعائم لبناء الأمة والدولة

إنّ التسامح واللاعنف مفهومان أخلاقيان وإنسانيان عميقان، لا يمكن لأي مجتمع أن يبلغ رٌقيّه وآستقراره دون أن يجعلهما من أسسه الفكرية والسلوكية، وقد تجلى هذان المفهومان بوضوح في مسيرة عدد من الشخصيات التأريخية العظيمة، من بينهم السيد المسيح عليه السلام وعلي بن أبي طالب عليه السلام والمهاتما غاندي وغيرهم، الذين جعلوا من التسامح واللاعنف ليس فقط مباديء شخصية، بل أدوات للتغيير الاجتماعي والسياسي.

السيد المسيح.. التسامح جوهر الرسالة 

جاء السيد المسيح عليه السلام، برسالة محورها المحبة، فدعا الى التسامح حتى مع الأعداء، وقال عبارته المشهورة: (أحبوا أعدائكم، باركوا لا عنيكم). فلم يكن التسامح عند المسيح مجرد تغاض عن الأذى، بل كان موقفا واعيا يعكس قوة داخلية ترفض الرد على العنف بالعنف. وقد قدّم المسيح نموذجاً حيّاً حين سامح من أساؤوا إليه، حتى وهو على الصليب، فقال كما جاء في الكتاب المقدس:( ياأبتاه، إغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون) (أنجيل لوقا 23: 34). هذا النموذج من التسامح يُرسخ ثقافة السلام، ويمنح المجتمعات القدرة على تجاوز الكراهية والعنف والإنتقام، وهي عناصر مدمّرة لأية أمة ناشئة أو قائمة.

ففي قلب رسالة السيد المسيح كانت المحبة والتسامح، لا كدعوة نظرية بل كممارسة واقعية حتى في أحلك اللحظات. فقد واجه المسيح العنف بالمغفرة، وردَّ الإساءات بالدعاء للغفران، مُعلَّماً أتباعه أن العدواة لا تُقهر بالإنتقام، بل بالمحبة. حين قال:( أحبوا أعدائكم) (متي 5:44). كان يُرسّخ مبدأً قلبياً وإجتماعياً مضاداً لثقافة الثأروالرد بالمثل، ناهيك عن دعوته لعدم مقاومة الشر بالشر، بل قوله: (بأن يدير الإنسان خدهُ للآخر) ( متي 5:39). هذا الفكرلم يكن ضعفاً، بل قوة روحية وأخلاقية تدفع نحو تحوّل في السلوك الإجتماعي، وتعزيز قدرة المجتمعات على تجاوز الأحقاد وبناء سلام دائم.

الإمام علي بن أبي طالب .. العدالة والتسامح سلوك الحاكم والمواطن

يُعد الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام نموذجاً فريداً للتسامح والعدالة واللاعنف في الإسلام، ففي سيرته السياسية والاجتماعية، يتجلى منهج فريد يوازن بين العدل الصارم والرحمة الواسعة. رغم خوضه معارك فرضتها عليه الفتنة الداخلية بعد توليه الخلافة، فإن الإمام علي رفض آستخدام العنف كوسيلة للإستئصال، بل مراراً أكد على ضرورة إقامة الحجة أولاً، وإعطاء الفرص للتراجع والحوار، من كلماته المشهورة في وصف أهل البغي: (إخوانُنا بغوا علينا). فهو لم يخرج خصومه من دائرة الأخوة الإسلامية، رغم أنهم رفعوا السيف في وجهه.

كما كان الإمام علي، يوصي بعدم الإعتداء، حتى في لحظات الحرب، فقال: (لا تقتلوا مُدبراً، ولا تُجهزوا على جريح، ولا تهيجوا النساء، وإن شتمن أعراضكم وسببن أمراءكم). (خطب الإمام علي، نهج البلاغة، ج3).

ففي رسالته الشهيرة الى الوالي مالك الأشتر عندما ولّاه على مصر، رسم نموذجاً للحكم الإنساني العادل، مقولته المشهورة:( الناس صنفان؛ إما أخُ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق). بهذا المعنى، جعل الإمام علي، التسامح والعدل، ليس فقط مبدأً دينياً، بل أساساً لحكم الدولة وتنظيم المجتمع، مانعاً التحوّل الى سلطة قمعية أو إنتقامية، حتى مع المخالفين.

غاندي.. اللاعنف فلسفة التغيير ووسيلة للتحرر

في العصر الحديث، برز المهاتما غاندي كرمز عالمي لللاعنف (أهيمسا) (وتعني الرحمة وعدم الأذى في الهندوسية والبوذية)، مستلهماً أيضاً من تعاليم الديانات الكبرى، بما فيها اليهودية والمسيحية والإسلام، وبقية الديانات الاخرى. إذ رأى غاندي أن اللاعنف ليس ضعفاً، بل هو سلاح الأقوياء في وجه الظلم، فقاد حركة إستقلال الهند من الإستعمار البريطاني عبر المقاومة السلمية، مستخدماً العصيان المدني والاحتجاجات غير العنيفة. كان غاندي يؤمن بأن اللاعنف لا يُغيّر فقط مواقف الخصم، بل قلوب الناس ويُعيد تشكيل الوعي الجماعي نحو السلام والمصالحة. لقد أعاد تعريف النضال السياسي ليكون مبنياً على الأخلاق والكرامة الإنسانية. 

فضلاً عن، فقد أخذ المهاتما غاندي من تعاليم المسيحية والإسلام والهندوسية، كذلك من بعض الديانات الأخرى الكثير من القيم والتعاليم، وبلور فلسفة متكاملة تقوم على اللاعنف وقوة الروح في مواجهة الظلم، حيث رفض غاندي أن يتحول نضال الإستقلال الهندي الى عمل دموي، فأصر على المقاومة السلمية، مؤمناً بأن التغيير الحقيقي لا يكون من خلال السلاح، بل من خلال صبر الشعوب وإيمانها بالحق. ومقولته المشهورة:(اللاعنف هو أعظم قوة متوفرة للبشرية. إنه أقوى من أقوى سلاح دمار إخترعه الإنسان). لم يواجه غاندي الإستعمار فقط، بل واجه التحزّب الداخلي والطائفية، وسعى لبناء وطن يتسع للهندوس والمسلمين والمسيحيين معاً. فإن فكرته عن اللاعنف كانت شاملة، تمتد الى العلاقات بين الأفراد كما في السياسات بين الدول.

 التسامح واللاعنف لبناء الأمة والدولة

تأريخياً، لم تنهض أي دولة عظيمة إلا بعد أن آنتصرت على أزماتها الداخلية عبر التسامح والعدالة، لا بالبطش والقهر. ويمكن أن نشير الى عدد من الأفكار، التي تنهض بالأمة والدولة، ومنها: 1/تعزيز الإستقرار المجتمعي: فالمجتمعات المتسامحة أقل عرضة للإنتقام الطائفي أو العرقي، لأنها تقوم على آحترام الآخر والإعتراف بالتعددية. 2/ تمتين اللحمة الوطنية: فحين يسود التسامح، تنحسر الكراهية والإنتقام، ويتعزز الإنتماء الوطني على حساب الولاءات الضيقة. 3/ الإرتقاء بالخطاب السياسي: اللاعنف يُغيّر قواعد اللعبة السياسية، فيجعل من الحوار وسيلة لحل النزاعات بدلاً من العنف والإقتتال. 4/بناء مؤسسات عادلة: الأمم التي تتبنى اللاعنف تُنشيء مؤسسات قادرة على تطبيق القانون بعدالة، مما يعزز الثقة بين المواطن والدولة. 5/ تغذية ثقافة التنمية: إذ لا يمكن تحقيق تنمية مستدامة في بيئة يسودها العنف. السلام هو الشرط الاساسي لإزدهار الإقتصاد والتعليم والصحة والمرافق الاخرى. 6/التماسك الاجتماعي: فالتسامح يعيد لُحمة النسيج الاجتماعي، ويمنع تشظي المجتمع الى طوائف وفئات متناحرة. 7/ إرساء العدل والإنصاف: اللاعنف والتسامح يقودان الى إنشاء مؤسسات عدلية متوازنة ترفض التحيز، وتحترم الإنسان كقيمة. 8/ تقدُّم الثقافة السياسية: حين تصبح المعارضة والمخالفة مقبولة في إطار سلمي، تتطور الديمقراطية ويتعمّق الحوار. 9/ الاقتصاد والتعليم: المجتمعات المتصالحة تُركّز على البناء لا الصراع، ما يتيح لها التفرغ للتنمية والنمو. 10/ منع عودة الإستبداد: الأمم التي تؤمن بالعدالة والتسامح تُراقب السلطة وتمنعها من الإنزلاق الى التسلط.

 إن أثر ما تقدم يأتي في بناء الأمة والدولة عظيم، فممارسة التسامح واللاعنف داخل المجتمع يُفضي الى فوائد جوهرية كثيرة. إذ لا يكفي أن يبقى التسامح واللاعنف مجرد قيم روحية أو فلسفية، بل ينبغي أن تتحول الى سياسات تعليمية وتربوية، تُغرس في الأجيال منذ الصغر، وتُكرّس في الإعلام والقوانين والمناهج الدراسية.

إرث يتجدد

إنّ في كل حضارة أو نهضة إنسانية حقيقية، يقف مبدأآن كقواعد أخلاقية راسخة لبناء الأمم وتماسك المجتمعات، فالتسامح واللاعنف؛ هما ليسا مجرد فضيلتين أخلاقيتين، بل أداتان فعّالتان لإحداث تغيير إجتماعي، ونقل المجتمعات من دائرة الصراع الى رحاب التعايش، ومن فوضى العنف الى سلم البناء. وقد تجسدت هذه المباديء على ألسنة وسلوكيات شخصيات عظيمة في التأريخ، كما أشرنا، مثل السيد المسيح عليه السلام، والإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، والمهاتما غاندي، كلّ من زاويته الدينية والفكرية، لكن جميعهم آجتمعوا على نبذ العنف وتعزيز قيم العدالة والسلام.

لذا فالتسامح واللاعنف ليسا من بقايا التأريخ، بل إرث روحي وإنساني يتجدد في كل عصر. فمن السيد المسيح الذي غفر للكثير، الى الإمام علي الذي حكم فعدل وسامح، الى غاندي الذي قاوم بالسلام لا بالسلاح، نجد خيطاً أخلاقياً يريط هؤلاء الرموز، ويُعلّم البشرية كيف تبنى دولها وأممها بالرحمة والعدل لا بالكراهية والعنف.

ففي عصر تتزايد فيه النزاعات والهويات القاتلة، يصبح من الضروري العودة الى هذه القيم، لا كترف فلسفي، بل كخيار واقعي لا غنى عنه في سبيل السلام والنهضة. مما يتضح أن التسامح واللاعنف ليسا ضعفاً، بل قمة القوة والوعي، والأمم التي تريد أن تنهض من رماد الصراعات، وتبني دولة عادلة مزدهرة، لا غنى لها عن السير في هذا الطريق الأخلاقي العميق، الذي لا يُثمر إلا في بيئة تُقدّر الإنسان كقيمة عليا.

***

د. عصام البرّام

تكشف الارقام الاخيرة الصادرة عن وزارة التربية العراقية عن خلل هيكلي عميق في نظامنا التعليمي، حيث سجل 171 طالبا في الفرع العلمي معدل 100%، بينما حصل 1349 طالبا على معدل اكثر من 99% . هذه النتائج غير الطبيعية ليست مجرد ارقام، بل تعد مؤشرا صارخا على هيمنة ثقافة الحفظ والتلقين على حساب الفهم والتحليل النقدي، مما ينعكس سلبا على جودة التعليم ومخرجاته. 

هذه المعدلات المرتفعة بشكل لافت لا تعكس بالضرورة تميزا حقيقيا في الفهم او الابداع، بل تكشف عن خلل في نظام التقييم الذي يكافئ الحفظ الالي للمعلومات دون اختبار القدرة على التحليل او التطبيق العملي. والنتيجة؟ تعليم ينتج متعلمين سلبيين، يعتمدون على التكرار بدلا من التفكير، ويبرعون في استرجاع المعلومات دون تمكن حقيقي من توظيفها في حل المشكلات او الابتكار. 

هذه الظاهرة لا تقتصر اثارها على القطاع التعليمي فحسب، بل تمتد الى سوق العمل والمجتمع ككل، حيث يفتقد الخريجون المهارات الاساسية التي يحتاجها العصر، مثل التفكير النقدي، الابداع، والعمل الجماعي. فهل يمكن بناء مستقبل تنموي على اساس تعليم يعتمد على التلقين والحفظ؟ السؤال يبقى مطروحا، والاجابة تتطلب اصلاحا جذريا يبدا من مراجعة المناهج، طرق التدريس، وانظمة التقييم.

 كيف يحول التلقين الطلاب الى الات استظهار؟ 

يتجلى الفشل الذريع لمنهج التلقين في كل مناحي حياتنا، بدءا من ضعف الابداع وصولا الى العجز عن مواكبة العصر. فهل يعقل ان يظل طلابنا غرباء عن مفاهيم مثل العولمة، الثورة الرقمية، او حتى العمل الجماعي والبحث العلمي النزيه؟ الادهى من ذلك، ان الاساليب التعليمية السائدة لا تنتج سوى طلابا سلبيين، يعتمدون على الحفظ الاعمى، ويخضعون للافكار الجاهزة دون تمحيص، مما يجعلهم فريسة سهلة للتلاعب السياسي او الطائفي. 

لقد تحولت المناهج الدراسية الى مجرد حشو للمعلومات، دون مراعاة لسن الطلاب او اهداف التعلم الحقيقية. والمدرس، بدوره، لم يعد سوى ناقل للمعرفة، بينما تحول الطالب الى وعاء فارغ يملا بالحقائق (او الخرافات) دون فهم او تحليل. حتى الامتحانات صارت تقيس قدرة الاسترجاع، لا الفهم او الابداع، مما عزز ظاهرة "التفوق الوهمي" القائم على الحفظ المؤقت. 

هل الحفظ مرفوض تماما؟ 

لا ينكر احد اهمية حفظ بعض الاساسيات، كالقوانين العلمية او النصوص الادبية، لكن المشكلة تكمن في جعل الحفظ غاية لا وسيلة. ففي عصر غوغل والذكاء الاصطناعي، لم يعد تخزين المعلومات هو التحدي، بل تحليلها وتوظيفها. فالحاسوب يتفوق على الانسان في الحفظ، لكنه يعجز عن الابداع او النقد، وهنا تكمن قيمة التعليم الحقيقي. 

امتحانات بلا معنى عندما يصبح الـ 99% نقمة 

يعاني نظام القبول الجامعي من تشوهات كبيرة، حيث تحول الى سباق محموم نحو الدرجات، دون اعتبار للمهارات او الابداع. فكيف يمكن لفرق 1% ان يحدد مستقبل طالب بين الطب والهندسة؟ هذا النظام يفرز خريجين متشابهين في الحفظ، مختلفين في المواهب، مما يفاقم ازمة البطالة ويضعف سوق العمل. 

 بديل ممكن يعزز التفكير النقدي 

التفكير النقدي ليس ترفا، بل ضرورة لبناء مجتمع قادر على التطور. فهو يعني تحليل الافكار، ومساءلة المسلمات، واتخاذ القرارات بناء على الادلة، لا على التلقين. ولتحقيق ذلك، نحتاج الى: 

1. اعادة هيكلة المناهج: بحيث تركز على الفهم بدل الحفظ، وتدمج مهارات مثل التحليل والنقد. 

2. تغيير اساليب التقويم: باستبدال الاسئلة النمطية باخرى تحفز الابداع والتحليل. 

3. تمكين المعلمين: عبر تدريبهم على اساليب تعليمية تفاعلية، تشجع الحوار والنقاش. 

4. تقليل الاعتماد على الامتحانات: بادخال مشاريع عملية وتقويم مستمر. 

5. ربط التعليم بسوق العمل: من خلال التركيز على المهارات الحياتية والقدرات الابداعية. 

تعليم يبني عقولا، لا يخزن معلومات 

الارقام الصادرة عن وزارة التربية ليست مؤشر فخر، بل صفعة تستدعي الصحوة. فالتعليم ليس عملية نقل للمعرفة، بل اشعال لشعلة التفكير. والمسؤولية الان تقع على عاتق القائمين على المنظومة التعليمية لاحداث ثورة حقيقية، تنتقل بالعراق من دوامة التلقين الى فضاء الابداع والتحرر الفكري. فهل نستحق ان نحلم بمستقبل افضل؟ من اصرارنا على التعلم والتطور، ومن قدرتنا على تجاوز التحديات.

***

ا. د. محمد الربيعي

 

لطالما كان هناك اهتمامٌ في الثقافة الغربية بـ"الشخصيات الوطنية" "national characters". وكان هذا الاهتمام، في معظمه، جوهريًا، انطلاقًا من الاعتقاد بوجود ما يُسمى، موضوعيًا، بـ"الأمم"، وأنها منفصلة ومتميزة عن بعضها البعض، وأن كلًا منها يتميز بطابعه الخاص، وأن هذه الشخصية يمكن تحليلها من خلال النشاط الثقافي لتلك "الأمة" “nation’s”.

وخلال القرن العشرين، ترسخت مقاربةٌ نقديةٌ أكثر. ففي مجال الأدب المقارن تحديدًا، أصبح يُدرس الاختلاف الثقافي من حيث المواقف والتصورات لا من حيث الجوهر. ويُنظر إلى الجنسية و"الثقافات الوطنية" national cultures" الآن على أنها أنماطٌ للتعريف لا من حيث الهويات. لا شك أن هذه التصورات والتعريفات تؤثر تأثيرًا عميقًا على الممارسات الثقافية والاجتماعية، ولكن إذا أردنا تحليلها بروحٍ نقدية، فيجب اعتبارها مفاهيم ذاتية لا من حيث الجوهر الموضوعي.

نشأ التخصص في الأدب المقارن، الذي يدرس العلاقات بين الثقافات من حيث التصورات المتبادلة والصور والتصورات الذاتية، في فرنسا، حيث تبلورت منهجيته في خمسينيات القرن الماضي تحت اسم "علم الصورة" imagologie. وبينما قوبل هذا التخصص برفض من جانب نقاد الأدب ذوي التوجه الجمالي، لا سيما في الولايات المتحدة، إلا أنه حافظ على قاعدة راسخة من الأتباع في أوروبا، ولا سيما في ألمانيا (حيث اعتُبرت الدراسة النقدية للهوية الوطنية وتفكيك القومية مهمةً فرضتها أخطاء الماضي القريب). وقد لعب المقارن البلجيكي "هوغو دايسيرينك" Hugo Dyserinck الذي عمل في "جامعة "خن" university of Aachen دورًا رائدًا في هذا المجال.

وحظي علم الصورة  Imagology بدفعة إضافية من خلال بدء علماء الأنثروبولوجيا وعلماء النفس الاجتماعي، في تلك العقود نفسها، في انتقاد إرثهم العرقي والجوهري. فعلى سبيل المثال، قدمت مجلة "علم نفس الشعوب" psychologie des peuples تحليلات نقدية مثيرة للاهتمام للهوية الوطنية كصور ذاتية جماعية.

برزت دراسات الصورة في السنوات الأخيرة مع عودة ظهور القومية، وبشكل أعم، "سياسات الهوية" identity politics وفي ظل مناخ أكثر انفتاحاً على دراسة الطبيعة المُشكَّلة خطابياً للعديد من القيم الاجتماعية والثقافية.

هناك سلسلتان أكاديميتان مُخصصتان لعلم الصور: "Studia Imagologica" دراسة علم الصور. تحرير هوغو دايسيرينك ويوب ليرسن، ونشرتها دار بريل للنشر. Edited by Hugo Deiserink and Joop Leersen, published by Brill. و"Studien zur Komparatistischen Imagologie" دراسات في علم الصور المقارنة. تحرير إلكه مينرت وهوغو دايسيرينك، ونشرتها دار فرانك وتيمي Edited by Elke Meinert and Hugo Deiserink, published by Frank & Temi.

النظرية الكوزموبوليتانية

وفقاً لأستاذ الأدب المقارن الأمريكي "جوناثان كولر" Jonathan Culler تتضمن النظرية "علاقات معقدة من نوع منهجي" تتحدى التفكير وتُعيد توجيهه "في مجالات غير تلك التي تنتمي إليها ظاهرياً". ومن هنا جاء وجود أنواع مختلفة من النظريات في النقد الأدبي، ومن ثمّ استخدام النظرية الأدبية في مجالات أخرى، مثل تاريخ الفن. يمكن للحجج المستخدمة في النظريات المتعلقة بمجالات معينة أن تكون، وقد أثبتت ذلك، مُنيرة للذهن، وبالتالي مُثمرة لمن لا يدرسون تلك المجالات. يُعد مفهوم الفيلسوف واللغوي الروسي "ميخائيل باختين" Mikhail Bakhtin للكرونوتوب مثالًا معروفاً على هذا النقل:

سنُطلق اسم الكرونوتوب "الزمان والمكان" chronotopeعلى الترابط الجوهري للعلاقات الزمنية والمكانية المُعبَّر عنها فنياً في الأدب. يُستخدم هذا المصطلح "الزمكان" في الرياضيات، وقد أُدخل كجزء من نظرية النسبية لأينشتاين. أما معناه الخاص في نظرية النسبية، فليس مهمًا لأغراضنا؛ فنحن نستعيرها للنقد الأدبي كاستعارة تقريباً.

لقد قدّم العديد من المنظرين على مر الزمن أعمالًا محورية للباحثين الأدبيين: سواء كانوا فلاسفة، مثل "والتر بنيامين" Walter Benjamin أو "جوديث بتلر" Judith Butler أو محللين نفسيين، مثل "سيغموند فرويد" Sigmund Freud أو "جاك لاكان" Jacques Lacan أو علماء سيميائيين مثل "جوليا كريستيفا" Julia Kristeva أو "أمبرتو إيكو"  Umberto Eco أو علماء أنثروبولوجيا مثل "كلود ليفي شتراوس" Claude Lévi-Strauss أو "أرجون أبادوراي" Arjun Appadurai فقد كان لهم جميعاً تأثير كبير على الاتجاهات الجديدة والمتنوعة التي سلكها النقد الأدبي على مدى أجيال. وقد ساعد تفكيرهم تطور الآخرين على التقدم، مع أن منهجهم لم يكن بالضرورة أدبياً، لأنهم تحدوا المفاهيم الشائعة وركزوا على جوانب كانت قد أُهملت حتى سلّطوا الضوء عليها وتم اعتبارها ذات صلة بالتخصص.

تُمدّنا النظرية بالأدوات المفاهيمية التي نُنظّم بها أفكارنا حول المواضيع قيد البحث. فهي تُتيح فهماً مُعمّقاً للعناصر المُختلفة التي تُكوّن سرداً مُعيّناً، وتُوفّر منهجاً جدلياً. في الواقع، يرتبط تعريف المناهج بتحديد نظريات مُحدّدة تُساعد في تحديد الأهداف والمعايير. ولأنّ النظرية مُتعدّدة التخصصات، وتحليلية، واستكشافية، فإنّ لها آثاراً عملية، تُمكّننا، على وجه الخصوص، كمُقارنين، من مُقاربة المسائل الأدبية من منظورات جديدة، مُشكّكين في الافتراضات المُتعلّقة بالخطاب، والمعنى، والهوية، وغيرها، ومُستكشفين ظروف إنتاج النصوص. وكما هو مُعرّف تاريخياً، فإنّ النظرية تُؤثّر أيضاً على التطوّر الفكري في عصرها.

نشأت نظريات الأدب المُقارن من الاستجابات اللغوية والتخصصية للضغوط السياسية في القرن التاسع عشر، وتطورت فعلياً في القرن العشرين بعد أن اشتعلت الحروب ليس فقط بين الجيران الأوروبيين بشكل مُنتظم، بل على نطاق عالمي أيضاً. ثمّ أُجريت مُقارنات بين الآداب المُختلفة بروح من فهم الأمم لأنفسها بشكل أفضل واكتشاف الآخرين. وكانت أهدافها إنسانية.

وُلدت التصويرية من رحم هذه المساعي البناءة. وبتسليطها الضوء على الحاجة إلى فهم أعمق للديناميكيات بين الذات والآخر، أتاحت التصويرية إمكانيات جديدة للتعرف على مصادر وعواقب الأفكار المسبقة وضعف التواصل داخل الحدود وخارجها. وفي ظل السياق الحالي لتدفقات الهجرة والتغيرات المجتمعية، ومع تصاعد النزعات القومية مؤخراً والمطالبات العالمية من النساء والأقليات بالاحترام والعدالة، يبدو من المناسب دراسة النظريات التي تُغذي مجال علم الصور اليوم.

مبادئ علم الصور

يُحلل "علم الصور" imagology المعروف أيضاً بدراسات الصور، التمثيلات الثقافية العابرة لمختلف الأمم والجماعات في الأدب والسرد والبلاغة. ويُقدم تحليلاً نقدياً للصور والقوالب النمطية، المعروفة أيضاً في هذا المجال باسم الصور النمطية في الأدب وأشكال التمثيل الثقافي الأخرى. لطالما كان تصوير الآخر حاضراً في سرد القصص منذ العصور القديمة ولأغراض مختلفة. ويهدف علم الصور إلى استكشاف كيف يُمكن لجماعة ما، من خلال أفرادها عادةً، أن تُصوّر من تعتبرهم غرباء، وما يكشفه ذلك عن نظرة الجماعة لنفسها، ومصدر هذه الصور، وما إذا كانت تُستخدم بشكل متكرر (وربما يُساء استخدامها) ولأي تأثير.

يُعتبر الموقف السائد في التفاعل الثقافي هو التمركز العرقي، وتبدو الجوانب التي تختلف عن الأنماط المعروفة داخل وخارج النطاق المحلي غريبة بطبيعة الحال. وغالباً ما تُحفّز المفاهيم الخاطئة بشأن الاختلاف الثقافي الاعتقاد بأن للأمم والجماعات خصائصها الخاصة، وأنها ليست متساوية في قيمتها. ويهدف علم الصور إلى دراسة العمليات التي تُؤدي إلى بناء هذه الشخصيات. لدراسة كيفية إدراك الهويات الجماعية وإعادة صياغتها في مختلف الأنواع الأدبية، يتعمق علم الصور في نظريات مختلفة، مستعرضاً مفاهيم تتعلق بمجالات التاريخ، وعلم النفس، وعلم الاجتماع، والإثنولوجيا، واللغويات. ويُظهر كيف تُنشأ الصور النمطية من خلال صياغتها انطلاقاً من الأعراف والتصورات المرتبطة بالمجتمعات ولغاتها. ويُحلل علم الصور النمطية الذاتية الكامنة في جذورها، بالإضافة إلى تنوعها. يُعرّف المؤرخ الثقافي الهولندي "جويب ليرسن" Joep Leerssen الصور النمطية بأنها تشير إلى العقليات الجماعية التي تُهيئ مجتمعات معينة لأنماط سلوكية معينة.

بُنيت مبادئ علم التصوير بمرور الوقت على يد مفكرين من خلفيات ثقافية مختلفة، معظمهم من أوروبا. ولغاية النصف الثاني من القرن العشرين، ظلت المعتقدات التبسيطية في الشخصيات الوطنية منتشرة على نطاق واسع، على الرغم من وفرة كتابات الرحلات - وفي بعض الحالات، بسببها. لقد سيطرت على التمثيلات الأدبية للمجموعات الثقافية، التي تجسدها أحياناً شخصية واحدة. وقد تم التشكيك في هذه الممارسة المقبولة عموماً في بعض الأحيان، ولا سيما من قبل فلاسفة التنوير، وكان بعضهم أيضاً كتاباً مثل الفيلسوف والكاتب الفرنسي "جان جاك روسو" وأيضاً بمرور الوقت، من قبل شخصيات غير أدبية، مثل المراسل والكاتب الأمريكي "والتر ليبمان" Walter Lippman الذي حلل هذا الاتجاه في كتاب بعنوان "الرأي العام" Public Opinion, نُشر عام 1922، متسائلاً عن آثار التصورات التي تؤثر على السلوك الفردي بينما تمنع التماسك الاجتماعي الأمثل. وفي مجال النقد الأدبي، مهد بعض العلماء الطريق أيضاً لفهم عميق ومركب للشخصيات الوطنية. قبل صدور كتاب ليبمان مباشرة، أسس أستاذ الأدب المقارن الفرنسي "فرناند بالدنسبيرغر"  Fernand Baldenspergerو"بول فان تيغم" Paul Van Tieghemو"بول هازارد" Paul Hazard في فرنسا مجلة الأدب المقارن، وقدموا دراسات مرتبطة بتاريخ الأفكار، ركزت على الصور بين الثقافات.

الجوهرية القومية

ومع ذلك، لم يبدأ نبذ الجوهرية القومية بجدية إلا بعد الحرب العالمية الثانية. وقد أدى ذلك إلى تحليل تفكيكي لخطاب التوصيف الوطني كما هو موجود في النصوص الأدبية. منذ عام 1947 سلّطت دراسات أستاذ الأدب المقارن الفرنسي "جان ماري كاريه" Jean-Marie Carré للصور الأدبية للدول الأجنبية الضوء على التفاعلات الجوهرية بين السياسة والأدب. وتبعه زميله الفرنسي "ماريوس فرانسوا غويارد" Marius-François Guyard في مقاله "الغريب كما يراه" L’étranger tel qu’on le voit عام 1951 الذي أكد فيه على صور الأجانب كتصورات ذاتية متأثرة بسياقات تاريخية قابلة للتحديد. وبالاعتماد على مجالات أخرى لدراسة التمثيل الأدبي، تجاوز كاريه وغويارد معاً بشكل نقدي نقطة تحول نظرية.

وهكذا، منذ البداية، كانت دراسات الصورة في جوهرها متعددة التخصصات. وقد رُفض هذا النهج بسرعة وبقوة من قِبل شخصيات مرموقة مثل الناقد الأمريكي التشيكي "رينيه ويليك" René Wellek الذي استنكر وجهات النظر الاجتماعية التاريخية أو السياسية التي تُعتبر "دمجاً للثقافة الأدبية في علم النفس الاجتماعي والتاريخ الثقافي". وكان لهذا الخلاف دورٌ أساسي في الخلاف الذي نشأ بين باحثي الأدب المقارن في أوروبا والولايات المتحدة، حيث كانت هناك مقاومة شديدة لإدخال النظريات غير الأدبية في النقد الأدبي - وهو ما تغير بالطبع لاحقاً مع الدراسات الثقافية. في غضون ذلك، ازدادت أهمية التاريخ الثقافي وعلم النفس الاجتماعي في دراسات الصورة الأوروبية.

مع عمل هوغو دايسيرينك (ومدرسته في آخن للدراسات التصويرية، منذ أواخر الستينيات)، تم السعي بنشاط لتحقيق ما بدأه كاريه وغويير، وتطور علم التصوير نحو دراسة اجتماعية تاريخية للأبعاد الفكرية والسياسية والاجتماعية ذات الصلة بكيفية إبداع الأعمال الأدبية. وُجد أن الصور الوطنية تُعدّ بنيات خطابية تعكس الذاتيات السائدة في وقت معين - ذاتيات تُولّد التوترات الأخلاقية التي تتناولها الأعمال الأدبية. ومن المثير للاهتمام أن أول ظهور لمصطلح "علم الصور" imagology لم يكن في دراسة نظرية أدبية، بل في دورية علمية، وهي مجلة "المجلة الفرنسية لعلم النفس الشعبي" the French Revue de Psychologie des Peuples الفرنسية. ففي عدد صدر عام 1962، أعلن عالم النفس المجري "أوليفر براشفيلد" Oliver Brachfeld بعنوان "ملاحظة حول علم الصور العرقي"Note sur l’imagologie ethnique أن "علماً جديداً آخذ في الظهور هو: علم الصور" imagology. وفي عام 1964 بدأت المجلة بتقديم قسم بعنوان "علم الصور". في ذلك العام، قام المؤرخ الفلرنسي "بيير تشونو" Pierre Chaunu في كتابه "علم الصور: الأسطورة السوداء المناهضة للهسبانيين: من المارانو إلى عصر التنوير: من البحر الأبيض المتوسط إلى أمريكا" Imagologie : la légende noire antihispanique : des Marranes aux Lumières : de la Méditérranée à l'Amérique الذي نشره مركز البحوث والدراسات في علم نفس الشعوب وعلم الاجتماع الاقتصادي عام 2009، بدمج الأبعاد الجديدة والتأثير والخيال في مجال بحثه: علم النفس المعرقي.

أثبتت هذه الجوانب أهميتها البالغة لدى أحد أبرز علماء التصوير في ثمانينيات القرن العشرين الأستاذ الإسباني للأدب المقارن "دانيال هنري باغو" Daniel-Henri Pageaux الذي دعا إلى دراسة صورة الآخر تحديداً من خلال المخيال الاجتماعي، المُعرّف بأنه البعد الإبداعي والرمزي للعالم الاجتماعي، البُعد الذي يُنشئ من خلاله البشر أساليب عيشهم معًا وطرق تمثيل حياتهم الجماعية. ووفقاً لباجو تنشأ جميع الصور من وعي بذات واحدة في علاقة مع آخر، ووعي بـ"هنا" في علاقة مع "مكان آخر". تُظهر هذه الصور تبايناً كبيراً بين نوعين من الواقع الثقافي، ولذلك يُفترض أن الصور الثقافية تقوم على فرضية ثنائية القطب: الهوية مقابل الآخرية.

دافع باغو عن تاريخ الأفكار كأداة تُتيح إدراك كلٍّ من الآراء العامة، التي تُطوّر الصور وتُشرّع منها، ودورها في توجيه صداها العاطفي والأيديولوجي. لذا، فإن دراسة صورة ما تعني إثبات توافقها (أو عدم توافقها) مع نموذج قائم في ثقافة المجموعة التي تدرس صورة أخرى. كما أنها تتضمن فهم ما يجعلها مطابقة أو مختلفة عن الصور الأخرى للمجموعة نفسها. تؤدي هذه الخطوات إلى تحليل الخطاب حول الآخر، والذي يكشف في النهاية عن الذات. في الواقع، يتجلى نظام القيم في الثقافة التي تنبع منها الصورة من خلال اللغة المستخدمة للتحدث عن الآخر، كاشفاً عن موقف محدد تجاه العالم؛ إنها تُشكل "لغة ثانية" تتعايش مع اللغة المستخدمة لنقل تلك الصورة، معبرةً عن شيء مختلف عن التأكيد المقصود لأعضاء مجتمع يتشارك تلك اللغة "الأولى".

ويُضاف إلى ذلك اعتبارٌ آخر، وهو هوية القارئ، وأفق توقعاته، وردود أفعاله تجاه صور معينة. يقترح باغو أن يسأل علماء الصور أنفسهم عن هوية القراء المستهدفين لأعمال معينة، وما إذا كانت الصور قد أُدرجت فيها عمداً، ولأي غرض. إذن، ثمة علاقة مثلثية بين المرجع والصورة ومتلقيها، ويدرس علماء الصور كيفية كشف المرجع، من خلال حركة انعكاسية، عما تعكسه الصورة من استجابة المتلقي. لذا، تُقدم الجودة السيميائية للصور معانٍ مرجعية تُشير إلى لحظات تاريخية. يرى باغو أن الصور عناصر من لغة رمزية، ومن أهداف علم الصور دراسة هذا النظام الدلالي، أي الصور الثقافية.

وبهذا النهج، تُصبح القيمة الجمالية للنص ثانوية مقارنةً بالتأثير الأيديولوجي على جمهور محدد من القراء، ولإثبات هذا التأثير التاريخي، يقترح باغو أن يستند مخزون الصور إلى قوائم التكرارات المعجمية، وأن يُميز بين الكلمات المفتاحية وكلمات "الخيال" - وهي الأخيرة سمات افتراضية تُشغّل شكلاً رمزياً من التواصل، كما هو الحال في الأدب الغريب. يُحدد عدد هذه التكرارات الأفكارَ والصورَ النمطيةَ الشائعة، بما في ذلك أسماء الشخصيات المُكررة، والإشارات المكانية والزمانية التي تُحدد مواقع الصور. ويُوضّح أستاذ الأدب الألماني "مانفريد بيلر" والباحث الأدبي الهولندي "جوب ليرسن" Joep Leerssen هذا النهج على نطاق واسع في كتابهما الرائد "علم الصور: البناء الثقافي والتمثيل الأدبي للشخصيات الوطنية"

Imagology. The Cultural Construction and Literary Representation of National Characters

وعلى مستوى أكثر تركيزاً في كتاب اللغوي الأيرلندي "بادريك فريهان" Pádraic Frehan "التعليم والأسطورة السلتية: الصورة الذاتية الوطنية والكتب المدرسية في أيرلندا في القرن العشرين"

Education and Celtic Myth: National Self-Image and Schoolbooks in 20th-Century Ireland.

تاريخ علم الصور

ظهرت بانتظام منذ ثمانينيات القرن العشرين، العديد من المقالات ومجلدات المقالات، التي تُلخّص تاريخ علم الصور وفي مختلف الدول الأوروبية، وتُفضّل إما منهجية قائمة أو تقترح مناهج جديدة - مثل كتاب "إعادة النظر في علم الصور" Imagology Revisited للأكاديمي النمساوي "فالديمار زاكاراسيفيتش" Waldemar Zacharasiewicz  وكتاب "ملامح علم الصور: ديناميكيات الصور الوطنية في الأدب" Imagology Profiles: The Dynamics of National Imagery in Literature للأكاديمية الليتوانية "لورا لاوروشايتي" Laura Laurušaitė’ تُظهر هذه الأعمال اهتماماً مستمراً وتطوراً نظرياً في الدراسات التصويرية. غالبًاً ما تتضمن المجموعات الإنجليزية أعمالاً رائدة لجوب ليرسن. وقد ألهم منهجه البنائي بنجاح دراسة تمثيلات الشخصية الوطنية كموضوعات خطابية، ومجازات سردية، وشخصيات بلاغية، مؤكداً على ممارستها في الإنتاج الفني.

ولأن الصور النمطية ترتبط بمسائل الهوية، تُدرج نظريات جديدة بانتظام في التحليل التصويري. في هذا الصدد، يبرز لليرسن أيضاً، إلى جانب بارفوت وبيلر، اللذين ضمنت أعمالهما تطوير نطاق متعدد التخصصات في علم الصور، مرحبةً بأعمال علماء النفس الاجتماعي - مثل منظور عالم النفس الاجتماعي الإنجليزي "ماركو سينريلا" Marco Cinnirella للهوية الاجتماعية للصور النمطية العرقية، ودراسة عالم النفس الاجتماعي البولندي "هنري تاجفيل"    Henri   Tajfel للجوانب المعرفية للتحيز - مما ألهم الباحثين في دراسات ما بعد الاستعمار، مثل الأكاديمية الألمانية "مارغا مونكلت" Marga Munkelt والناقد الألماني "ماركوس شميتز" Markus Schmitz و أستاذ دراسات ما بعد الاستعمار الألماني "مارك شتاين"  Mark    Stein وأستاذة الأدب الإنجليزي الألمانية "سيلكه ستروه" Silke Stroh والأكاديمي السنغافوري البريطاني "ويليام تشيو" William Chew.

وفي الوقت نفسه، ظهر نقاد جدد، من بينهم أستاذة الأدب الإنجليزي الألمانية "إيمر أوسوليفان" Emer O’Sullivanالتي فتحت علم الصور والتصوير في مجال أدب الأطفال. على سبيل المثال، كتاب "الصديق والعدو: صورة ألمانيا والألمان في أدب الأطفال البريطاني من عام ١٨٧٠ إلى اليوم"

Friend and Foe: the Image of Germany and the Germans in British Children’s Literature from 1870 to the Present

وكتاب "تخيل التشابه والاختلاف في أدب الأطفال: من عصر التنوير إلى يومنا هذا"

Imagining Sameness and Difference in Children’s Literature: From the Enlightenment to the Present Day,

الذي شاركت في تحريره الأكاديمية الأمريكية "أندريا إميل" Andrea Immel

 ومقالها المؤثر "علم الصور يلتقي بأدب الأطفال" Imagology Meets Children’s Literature.

يشمل هذا النوع الأدبي عادةً كتب الصور، التي تنتمي إلى الفنون البصرية، وتُشكل مجالاً متميزاً لنشر الصور النمطية، وهي قيّمة بشكل خاص كاستراتيجيات خطابية. وقد خلق عمل أوسوليفان ديناميكية حقيقية في هذا المجال، وأضاف إليه آخرون رؤى جديدة، مثل الأكاديمية الفنلندية "ليديا كوكولا" Lydia Kokkola والأكاديمية الهولندية "سارة فان دن بوش" Sara Van den Bossche اللتين نشرتا دراسة حول المناهج المعرفية لأدب الأطفال، تقترح توسيع نطاق علم الصور من خلال العلوم المعرفية.

معجم علم الصور

إلى جانب ظهور المفاهيم وصقلها، ظهرت مع مرور الوقت مفردات متخصصة. لقد رأينا بالفعل مدى تعدد جوانب مصطلح "الصورة"؛ وبالمثل، أثبت "الصورة النمطية" أنها قضية متعددة الجوانب. فبينما يشير المصطلح عموماً إلى تصورات سلبية، تبدو الصور النمطية ضرورية للعديد من النقاد رغم محدوديتها ومخاطرها، لأنها تكشف عن قيم ومعتقدات المجموعتين، وعن العملية الأوسع التي تُفهم بها المجتمعات البشرية ذاتها من خلال التصنيف. تُقدم الصور النمطية بساطة خادعة تكشف، عند تحليلها، عن هياكل اجتماعية معقدة. يرى العالم الهندي البريطاني "هومي بابا"  Homi Bhabhaأن الصور النمطية "أنماط متناقضة من المعرفة والسلطة". وبالفعل، كما رأينا في أحداث واقعية مؤخرًا، فإنها قد تسمح بالتمييز بين المجموعات لضمان تأكيد الذات في مواجهة الآخر، مما يُشرعن الأفعال السلبية.

وبالتالي، ولإضفاء الدقة على هذه المفاهيم المحددة، تراكمت مفردات دقيقة بمرور الوقت. اقترح العالم الألماني "مانفريد فيشر" Manfred Fischer دمج مصطلحي "الصورة" و"النمطية" تحت المصطلح الأدبي "صورة النمط"، والذي ألهم لاحقاً مصطلح "الإثنوتايب"، الذي يصف تحديداً شخصية وطنية. أضاف العالم الإسباني "مانويل سانشيز روميرو" Manuel Sanchez Romero فكرة التحيز إلى تعريف "صورة النمط"، مؤكداً بذلك على أهمية الصور التي ترسخت بقوة من خلال التكرار في سياقات متنوعة. وظهرت مؤخراً مصطلحات ذات صلة، مثل "صورة النمط المرئي"، في إشارة إلى الإنتاجات التلفزيونية والأفلام.

تُوصف الصور الأدبية للفرد بأنها صور ذاتية (أو صور ذاتية وأنماط ذاتية)، بينما تُوصف صور الجماعات الأخرى بأنها صور غيرية (أو أنماط غيرية). ومع ذلك، فإن كون الصور "ذاتية" أو "غيرية" مسألة منظور، لذلك أُضيف مصطلحان آخران، وهما "المتوقع" للمجموعة الموصوفة، و"المتفرج" للمشاهد. عندما تُعرض الصفات والخصائص دون أي صلة بواقع ثقافي مُختبر، يُقال إنها مُتخيلة. تُعدّ الصور (وهي كلمة تجمع بين مفهومي "سيمات" و"ميم" و"صورة") عناصر تمثيلية متكررة، أشبه بالكليشيهات، يتجلى تواترها التناصي و"أقطابها الضمنية المركبة".

في الترجمات والاقتباسات. تعتمد هذه الصور على ما يُطلق عليه المجال خارج النص، أي التأثير المُتعمد للمؤلف على تصورات القراء، انعكاساً لبيئة أيديولوجية أو اجتماعية. أما في المجال داخل النص أو المجال الداخلي، فيُحلل التأثير الجمالي والبلاغي للصور وفقاً لموقف المؤلف، أي ما إذا كان يهدف إلى التوافق مع التوقعات أو مُعارضتها.

فيما يتعلق بموقف المؤلف، يقترح أستاذ الأدب المقارن الفرنسي "دانيال باجو" Daniel Pageaux ثلاثة مصطلحات: فيليا، وهي تتعلق بالصور الإيجابية غير المتحيزة ليس فقط لثقافة أو مجموعة أخرى، بل أيضاً لثقافة الفرد، مما يعكس كلاً من الاحترام المتبادل وتقدير الذات، بينما يتعلق الرهاب بدلاً من ذلك بالتصورات السلبية المتحيزة لثقافة أو مجموعة أخرى، ويشير الهوس إلى المبالغة في تقييم المؤلف لثقافة أو مجموعة أجنبية على حساب ثقافته، مما يحول الصورة التي يخلقها إلى سراب. واتباعاً لباجو، تقترح البرتغالية "ماريا جواو سيمويس" Maria Joao Simoes أستاذة الأدب البرتغالي المعاصر مفهوماً بين مفهومي فيليا وهوسها، وهو ما تسميه ألوفيليا. يمكن استخدامه، من ناحية، لدراسة الإلهام الإبداعي الذي يأتي إلى المؤلفين من إعجابهم بأسلاف محددين وثقافاتهم. من ناحية أخرى، يُساعد هذا على تحديد وتحليل ما تبقى من صورٍ مغايرةٍ ثقافيةٍ متوارثةٍ تاريخياً في مخيلة الأمة، وبالتالي إعادة النظر نقدياً في النصوص التي نقلت آراءً سلبيةً عن آخرٍ مُحدد، وذلك بهدف الوصول إلى رؤيةٍ مُحدثةٍ وأكثر عدلاً. ومثل أسلافها، تجاوزت سيمويس النظرية الأدبية لإيجاد مصطلحٍ يناسب غرضها. صاغ هذا المصطلح "تود بيتينسكي" Todd Pitinsky أستاذ علم النفس المُتخصص في السلوك التنظيمي. يصف هذا المصطلح موقفاً إيجابياً تجاه الجماعات الخارجية. ويُقصد به أن يكون نقيضاً للتحيز. في الوقت نفسه، يُضيف حبّ التماثل (allophilia) بُعداً جديداً لدراسة الصور المغايرة.

أساليب التحليل

وفقًا لدراسة المؤرخ الثقافي الهولندي "يوب ليرسن" Joep Leerssen "الغريب/أوروبا" Stranger/Europe فإن الهدف الرئيسي لعلم الصور هو ترسيخ التناص لتمثيل جماعة معينة كموضوع، وإثبات أن "تكوين الصورة هو، إذن، عملية إنتاج ثقافي ونقل وتبادل، وليس انعكاساً مباشراً للواقع الاجتماعي". يرى البرتغالي "ليونيل مورا" Lionel Moura في دراسة "علم الصور/الصور الاجتماعية"، أنه أثناء تحليل العناصر التي تُكوّن الصورة النمطية، تُحدد دراسات الصور ما ينتمي في جوهره إلى إبداع المؤلف. فعندما يُعيد الأدب إنتاج صور نمطية لأغراض أنانية أو حتى دعائية، على سبيل المثال، فإن عمل عالم الصور هو في غاية الأهمية التمييز بين الحقيقة والخيال لتحليل هذه الصور، والقيام بذلك بنزاهة. وبينما يُمكن استخدام تصوير جماعة لجماعة أخرى للحفاظ على تحيزاتها ونشرها، في المقابل، قد يُقوّض المؤلفون الصور التقليدية في أعمالهم بطرق مختلفة، والسخرية منها إحدى هذه الطرق.

في الوقت نفسه، تُبحث الصور النمطية بالتوازي مع سجلات الأفعال السياسية أو الأحداث التاريخية التي تشير إلى منشأ وانتشار و/أو التغيير المحتمل لمعتقدات الجماعات ومواقفها وعقلياتها - كما هو موضح، على سبيل المثال، في مقال الباحث الأمريكي "روبرت جافريك" Robert Gavrik "صورة الهند في الأدب السلوفاكي في القرن التاسع عشر" The image of India in 19th-century Slovak literature. تُظهر هذه السجلات أن الصور أصبحت مجازات مألوفة بسبب التكرار والتشابه بينها - وهي استراتيجية محاكاة تم توضيحها.

***

الدكتور حسن العاصي

أكاديمي وباحث في الأنثروبولوجيا

مفهوم الشخص أو المواطن يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالذات الواعية بفكرها، القادرة على تحمّل مسؤولياتها الأخلاقية والقانونية والمعرفية داخل حدود وطنها. وتحقيق هذا الوعي والانتماء لا يتحقق تلقائياً، بل هو ثمرة منظومة مؤسساتية تتولى الدولة رعايتها مباشرة، سواء نشأت هذه الدولة بإرادة شعبية أو تأسست بفعل ظروف تاريخية عززت مشروعيتها السياسية.

ومهما كانت ظروف النشأة، فإن بقاء الوطن وسيادته مرهونان بقدرة أفراده على بناء هوية جماعية أصيلة، وتطويرها بما يمنحها قابلية التغيير والتجدد والمنافسة في إنتاج القيم. وعندما تمتلك الدولة مؤسساتها وسلطتها، يصبح لزاماً عليها أن تتحول إلى وعاء ترابي ومؤسساتي يحتضن الجميع ويؤهلهم باستمرار. هذا النموذج التنظيمي وقفتُ على تجسيده بوضوح في التجربة الفرنسية منذ عقود.

لا يمكن بناء أمة قوية دون أسرة متماسكة ومدرسة فاعلة. فالأسرة هي "المؤسسة الأولى في المجتمع"، ودورها في التنشئة لا يقل أهمية عن دور الدولة، بل هو شريك حاسم في صياغة المستقبل، حتى في الدول غير الديمقراطية. وإذا كانت جهود الدولة المغربية في مجال البنية التحتية والمشاريع الإنتاجية تستحق التقدير، فإن الخلل الواضح يظل في الفضاء العام، حيث يغيب التناغم بين كفاءة الدولة وكفاءة الأسرة والمدرسة.

فالطمأنينة في الشارع العام، وحسن الجوار في الأحياء الحضرية والقروية، يعتمدان بشكل أساسي على جودة أداء هاتين المؤسستين. لكن الفوضى والعنف المنتشرين بين الأطفال، وضعف أو انعدام رعايتهم، يضعفان الانتماء الترابي، ويهددان النسيج الاجتماعي. نرى أطفالاً يطارد بعضهم بعضاً بعنف، أو يتعرضون للإهانة والاعتداء، ويعبثون بممتلكات الغير، فيما تنتشر الحيوانات الضالة بلا رقيب.

هذه الأوضاع تكشف غياب الإرادة الحقيقية لتعزيز المصلحة المشتركة، وفي ظل تراجع الأدوار التربوية للأسرة والمدرسة، تضيع قيم التضامن، وتتفشى الفردانية والنزاعات. النخب تنعزل في أحياء محروسة، والطبقة الوسطى تطمح للحاق بها، بينما تُترك الأحياء الشعبية للفوضى. أما المثقفون الذين يرفضون الانعزال، فيجدون أنفسهم مضطرين لإغلاق أبوابهم اتقاءً للأضرار.

إن العناية بالأسرة والمدرسة والشارع العام مسؤولية سيادية للدولة. وقد برهنت تجربة تدبير جائحة "كوفيد-19" على قدرة المغرب في فترات قصيرة على فرض النظام وضبط الفضاء العام بفعالية، كما حدث مع تعميم الالتزام بحزام السلامة المرورية. الأمثلة عديدة وتثبت أن الدولة قادرة على قيادة التغيير بحكمة إذا توافرت الإرادة.

في هذا الإطار، يمكن للمغرب أن يستفيد من التجارب الغربية الناجحة، خصوصاً التجربة الفرنسية، التي أثبتت أن الانضباط في الشارع ليس صدفة، بل نتيجة منظومة متكاملة من القوانين، والرقابة، والخدمات الاجتماعية، والتربية المجتمعية، تجعل من النادر رؤية طفل أو حيوان تائه في الفضاء العام.

فرنسا تعتمد الصرامة القانونية في حماية القاصرين، وتجرّم إهمالهم بعقوبات قد تصل إلى السجن وسحب الحضانة، مع شبكة متكاملة من العقوبات والآليات الرادعة. كما تمنع القوانين التخلي عن الحيوانات أو الإساءة إليها، وتفرض تسجيلها برقاقات إلكترونية تربطها بمالكها.

الشرطة البلدية متواجدة ميدانياً، وتتدخل فوراً عند ملاحظة أي طفل أو حيوان ضال، فيما تتولى خدمات الإنقاذ الاجتماعية (*ASE*) حماية الأطفال المهددين، وتتولى الشرطة البيئية والفرق البيطرية إيواء الحيوانات. إضافةً إلى ذلك، يُسجَّل كل طفل في النظامين التعليمي والصحي، مما يسهل التعرف عليه، وتُلزم الحيوانات الأليفة بوسائل تعريف دائمة.

منذ السنوات الأولى، يتعلم الأطفال في المدرسة والأسرة مخاطر التجوال وحدهم، وطرق طلب المساعدة. المجتمع نفسه متيقظ: أي مواطن يلاحظ حالة طارئة يبادر بالاتصال بالسلطات عبر أرقام مخصصة لذلك. لكل بلدية اتفاقات مع مراكز إيواء وجمعيات متخصصة، سواء للأطفال أو للحيوانات.

لقد ترسخ في الوعي الفرنسي، بفضل حضور الدولة القوي، أن ترك طفل أو حيوان بلا رعاية ليس فقط مخالفة للقانون، بل وصمة عار اجتماعية. وتدعمه حملات إعلامية وتوعوية وغرامات رادعة.

وخلاصة القول: المغرب يمتلك طاقات ونخباً قادرة على قيادة المجتمع المدني نحو انطلاقة جديدة. ويبقى على الدولة أن تحسم خيارها في ضبط المجتمع بما يخدم الوطن والمواطن، كما فعلت في محطات سابقة، لأن المستقبل يُصنع اليوم، في الشارع قبل المؤسسات.

***

الحسين بوخرطة

دبلوماسية روحية تصنع جسور المحبة

شكّلت الزوايا في المغرب إحدى أبرز الظواهر الدينية والاجتماعية التي وسمت التاريخ المغربي منذ العصور الوسطى. يذهب المؤرخ عبد الهادي التازي إلى أن الزوايا لم تكن مجرد أماكن للذكر أو الانعزال الروحي، بل مؤسسات تعليمية واجتماعية، لعبت دور "الجامعة الشعبية" التي تفتح أبوابها للجميع دون تمييز، حيث كان الفقراء والأغنياء يجلسون جنباً إلى جنب في حلقات العلم.

أما محمد حجي، في إطار دراسته عن “الحياة الفكرية بالمغرب”، فيرى أن الزوايا شكّلت شبكات اجتماعية معقّدة، لها أذرع تعليمية واقتصادية وسياسية، إذ كانت تملك أوقافاً تضمن استقلاليتها المالية، كما كانت تتمتع بقدرة على التوسط بين القبائل والسلطة المركزية، مستفيدة من الرأسمال الرمزي الذي يمنحه لها الانتماء إلى سلاسل صوفية معتبرة.

في هذا السياق، قدّم عبد الأحد السبتي تحليلاً معمقاً لدور الزوايا في فترات الأزمات، مؤكداً أنها شكّلت "ملاذاً اجتماعياً" عند انهيار مؤسسات الدولة أو ضعفها، كما في فترات الفتن أو التهديدات الخارجية. أما المستعرب الفرنسي هنري تيراس فقد ركّز في أبحاثه على دور الزوايا في تثبيت الشرعية السياسية، مشيراً إلى أن المخزن المغربي كان يحرص على نسج علاقات ودّ مع مشايخ الزوايا الكبرى لما لهم من تأثير في المجتمع.

من جانب آخر، أبرز إدمون دوتي أن الزوايا كانت أيضاً منصات لتعبئة الجهاد ضد القوى الاستعمارية، خصوصاً في القرن التاسع عشر، مستشهداً بحالات زوايا شمال المغرب التي لعبت أدواراً حاسمة في مقاومة التوسع الإسباني والفرنسي.

وتُعدّ الزاوية القادرية البوتشيشية، التي تأسست في القرن التاسع عشر على يد سيدي علي بن محمد البوتشيشي في منطقة مداغ بجهة الشرق، امتداداً للتيار القادري الذي أسسه عبد القادر الجيلاني في بغداد في القرن السادس الهجري. يوضح الباحث أحمد التوفيق أن البوتشيشية حافظت على جوهر المنهج القادري، لكنها أضفت عليه خصوصية مغربية تقوم على الجمع بين الالتزام بالشريعة والتدرج في التربية الروحية عبر "الصحبة" و"الذكر" و"خدمة الخلق".

يرى عبد المجيد بن جلون أن قوة البوتشيشية تكمن في خطابها المعتدل القادر على التكيّف مع مختلف الشرائح الاجتماعية والثقافية، وهو ما منحها امتداداً واسعاً خارج المغرب، لتصبح مركزاً دولياً يجذب مريدين من أوروبا وإفريقيا وآسيا.

كما لفت المستشرق ميشيل شوفالييه إلى أن البوتشيشية تبنت منذ عقود رؤية أممية، جعلتها تشارك في ملتقيات الحوار بين الأديان والثقافات، وتعرض التصوف المغربي باعتباره "رسالة أخلاقية عالمية" قائمة على المحبة والسلام. هذا البعد الأممي، حسب عبد السلام بلاجي، يعكس قدرة الزاوية على الجمع بين الأصالة التراثية والانفتاح على القضايا الكونية المعاصرة، مثل السلم، والتعايش، ومواجهة التطرف.

إضافة إلى بعدها الروحي، لعبت الزاوية القادرية البوتشيشية أدواراً اجتماعية وسياسية مهمة. وفقاً لتحليل محمد ضريف، فإنها ساهمت في نشر ثقافة السلم الأهلي في محيطها، وحاربت النزاعات القبلية، بل وحتى النزعات الانفصالية عبر تعزيز الانتماء الوطني. ويضيف ضريف أن مجالسها الروحية لم تكن مجرد حلقات ذكر، بل فضاءات لحل النزاعات بين الأفراد والجماعات، حيث كان الشيخ أو المقدم يقوم بدور الوسيط والمصلح، مستفيداً من الشرعية الدينية والاحترام الاجتماعي.

كما يشير إريك جوفروي، المتخصص في التصوف الإسلامي، إلى أن البوتشيشية تقدم نموذجاً لـ "التصوف الحي"، الذي لا يكتفي بالممارسة الروحية، بل ينخرط في قضايا التنمية البشرية وخدمة المجتمع. فقد أنشأت الزاوية، عبر شبكة مريديها، مبادرات لمحو الأمية، ودعم المشاريع الصغيرة، ورعاية الأيتام، والمساهمة في حملات الإغاثة خلال الكوارث الطبيعية، خصوصاً في المناطق الهشة اقتصادياً.

ويرى عبد السلام بلاجي أن الدور السياسي للزاوية البوتشيشية يتمثل في قدرتها على أن تكون جسراً بين السلطة والمجتمع، بعيداً عن الاصطفافات الحزبية، إذ تحافظ على مسافة واحدة من مختلف الفاعلين السياسيين، مما يمنحها مصداقية في أعين الجميع. هذا الحياد النشط مكنها من لعب أدوار هامة في فترات الأزمات، مثل التهدئة أثناء التوترات الاجتماعية، والمساهمة في تعبئة المواطنين خلال لحظات مفصلية في تاريخ المغرب المعاصر.

بينما تؤكد دراسات عبد الأحد السبتي أن حضور الزاوية في المشهد السياسي لا يتم عبر الخطاب المباشر، بل من خلال "التأثير الهادئ" القائم على بناء شبكات اجتماعية واسعة، تتجاوز الحدود الجغرافية للمغرب. هذا الامتداد الإقليمي والدولي جعلها قادرة على تقديم صورة إيجابية عن المغرب في المحافل الدولية، خاصة في مجال الحوار بين الأديان، وهو ما يتوافق مع رؤية المستشرق ميشيل شوفالييه الذي اعتبر البوتشيشية "سفيراً غير رسمي" للقيم المغربية في العالم.

وقد لعبت البوتشيشية، عبر عقود، دوراً في تعزيز الدبلوماسية الروحية، سواء من خلال استقبال شخصيات سياسية ودينية عالمية في مقرها بمداغ، أو عبر مشاركة ممثليها في مؤتمرات السلم الدولية، مما جعلها مكوناً من مكونات القوة الناعمة للمغرب، على حد تعبير الباحث الفرنسي جيل كيبيل.

وتُفسَّر الجاذبية العالمية للزاوية القادرية البوتشيشية بعدة عوامل متداخلة، دينية وثقافية واجتماعية. يشير إريك جوفروي إلى أن أهم هذه العوامل هو الخطاب الروحي المعتدل الذي يجمع بين أصالة التراث الصوفي القادري والقدرة على مخاطبة الإنسان المعاصر بلغته واهتماماته. فالزاوية لا تفرض على مريديها نمطاً ثقافياً واحداً، بل توفر إطاراً روحياً مرناً يمكن أن يتعايش مع تنوع الخلفيات الثقافية.

من جانب آخر، يرى ميشيل شوفالييه أن الانفتاح اللغوي والثقافي للزاوية لعب دوراً أساسياً في توسعها الأممي، إذ تعتمد في مجالسها ولقاءاتها على لغات متعددة كالفرنسية والإنجليزية والإسبانية، مما جعلها ميسورة الوصول للمريدين في أوروبا وأميركا وإفريقيا جنوب الصحراء.

كما يبرز الباحث المغربي محمد ضريف عاملاً آخر يتمثل في شبكة المريدين المنتشرة عالمياً، والتي تعمل كسفراء غير رسميين ينقلون التجربة الروحية البوتشيشية إلى بلدانهم، ويقيمون هناك لقاءات ومجالس ذكر، مما يخلق جسوراً متجددة للتواصل مع المركز في مداغ.

ويؤكد عبد السلام بلاجي أن إحدى نقاط القوة هي البعد الإنساني العابر للحدود في خطاب الزاوية، حيث تُقدّم قيم المحبة والسلام وخدمة الإنسان كمرتكزات أساسية، بعيداً عن أي خطاب إقصائي أو سياسي مباشر، مما يمنحها جاذبية لدى فئات واسعة تبحث عن الروحانية النقية في عالم مضطرب.

كما أن مشاركة الزاوية في المؤتمرات الدولية للحوار بين الأديان والثقافات، إلى جانب حضورها في مبادرات أممية حول السلم، جعلت صورتها أكثر إشعاعاً في الأوساط الأكاديمية والروحية العالمية، وهو ما يصفه جيل كيبيل بأنه "توظيف ذكي للدبلوماسية الروحية لخدمة الحضور المغربي في العالم".

***

د. هدى لحكيم بناني

تتكئ ثقافتنا المعاصرة على نحو العموم على التراث أكثر من اعتمادها على الواقع، ولذلك فأنها تقابل بشاعة الواقع وتجهمه وقساوته بالاستماع والانتشاء بجمال الصوت والتشبيه والاستعارة، وبذلك يتحول الابداع من كونه معالجا تشوهات الواقع الى تجميل الاساليب والصياغات، ويتحول هذا الخطاب وبلاغته من كونه اداة لطاقة عقلية خلاقة الى أداة لتخدير المجتمع، بمعنى انَّ الخطاب هنا ليس اداة للإقناع، وسعيا للتغيير، وتزويد المتلقي بالوعي، وانما يصبح ستارا ضبابيا مكثفا يحجب الواقع بكل ما يشتمل عليه من تناقضات، فانه يحجب بؤس الواقع وقسوته، وبشاعة استغلال الانسان لأخيه الانسان، واكثر من هذا انها قد تجمل القتل الوحشي بوصفه قضاء على الانحراف، وبداية لصياغة العقول بحسب معتقدات القاتل.

إنَّ بلاغة الخطاب تصبح أداة لتلميع الأردية البائسة والأقنعة الشريرة وتهدف الى تجميل الخواء، إنها بلاغة فارغة لأنها لا تشتمل على رؤية لتغيير الواقع واستشراف المستقبل، ولا تسهم في تحرير المجتمع بامتلاك أداة الوعي، كل ما في الأمر أنها تكتفي بجمالية التشبيه وبهاء الاستعارة وبراعة المقابلات والمطابقات في وشي البلاغة وزخرفها، ومن ثم فلا مضمون جديد يعتد به.

إنَّ المدهش حقا في مجتمعاتنا العربية الحديثة حالة استرخاء تام، وهي تبصر اتساع الهوة بين القول والفعل، ومن الملاحظ ان انتاج الثقافة والوعي سواء أكان في ثقافة السلطة الرسمية أم في غيرها، وحتى في ثقافة المعارضة، انما هو إعادة لذات الانتاج الانشائي الخاوي الذي لا يبصر الواقع ولا يعترف به، كما ان صدق الخطاب يتجلى هنا بزخرف القول وليس بالاعتراف بالواقع والبحث عن في ثناياه عن معضلاته وقراءتها نقديا، ولذا فان هذا اللون من الثقافة يعلي من شان مفردات : التاريخ المجيد، والبطولات المتوهمة، والعنتريات الزائفة، والمصير العظيم، لكنها لا تستطيع ـــ وهذا واجبها الأساس ـــ تقديم تصور عن سياسة تعليمية متطورة، او نظام صحي منصف صحيح، ولا تكشف عن علاقات تحفظ للإنسان كرامته.

وليس هناك اخطر من اللغة وبلاغتها حين تستعمل لتخدير الشعوب بدلا من تنبيهها، وتتحول بلاغة اللغة الى مجرد بلاغة فارغة ممجوجة، تهدف الى تسكين الازمات، وتهدئة المتناقضات، وترحيل الأزمات، وتمييع المسؤوليات، وبذلك تصبح البلاغة لونا ثابتا من المضامين تتكرر في أثواب قشيبة متعددة، إذ تتكرر الصيغ الجمالية الجاهزة، ويتضخم الاعلاء من شان التمجيد والتبجيل، وتتحول الهزائم الى انتصارات، في حين يكون الواقع غارقا في الانكسار والفساد والتهميش.

إنَّ أغلب الصياغات التي توظفها السلطة الرسمية تتجلى فيها بوضوح ما يمكن ان نطلق عليه ـــ التورم البلاغي ـــ لان الصياغات، والحالة هذه، تخضع لسيطرة الزخارف البلاغية، إذ تضيع الفكرة تحت وطأة افياء تشبيهاتها واستعاراتها وتحت وطأة ايقاعها.

إنَّ الخطاب الرسمي السياسي والديني والتربوي انما يكتبه انصاره لمجرد ان يقال، وليس من اجل ان يفعل، ويستعمل ليس للنقاش، وانما كي يبهر السامع ولا يغيره.

اننا في ضوء هذا لا ندعو الى محاربة البلاغة كما عرفناها في تراثنا، سواء اتفقنا او اختلفنا مع جابر عصفور حين قسم البلاغة الى بلاغة السلطة، بلاغة القامعين، وهي بلاغة الوضوح، او بلاغة المعارضة، وهي بلاغة المقموعين، وهي بلاغة الرمز والاشارة، اقول لا ادعو الى محاربة البلاغة بهذا الشكل وطردها خارج اطار الابداع، وانما نسعى الى تحرير البلاغة من التهويمات الفنية المبالغ فيها، ولكن البلاغة حين تكون نابعة عن رؤية حقيقية، وتشتمل على قيم أخلاقية، وتطمح الى التغيير الإيجابي، تصبح بهذا، ليست اداة اظلام، وانما اداة تنوير، ولكنها حين تفقد بوصلتها الحقيقية وتصبح غايتها التأثير، ليس غير، من اجل اقتناص اللحظة والانفعال الزائف، فأنها تتواطأ مع الاستبداد وتخدم التخلف وتزين للناس الفساد والهزائم .

إنَّ الخطاب التغيري ينبغي له ان تستفيد فيه اللغة من شرف المعنى ونبل الغاية، وليس بهرجة الالوان وجلجلة الصوت، وندعو هنا الى تفكيك الموالاة بين انصار هذا الخطاب واصحاب السلطة القمعية، أي كسر التواطؤ بين السياسي والمنبر الثقافي، وتهشم تبعيه المستمع للواعظ، وتزيح سلطه الكاتب المدجن، وخصوصا الإعلامي المدجن، عن القارئ، اننا نريد للكلمات ان تسهم بالفعل، وللشعارات ان تحدث التغيير، فالكلمة اذا لم تؤدِ الى معرفه، ولا تقترن بالتزام ومسؤوليه، تبقى مجرد كلمات فارغه لا قيمه لها، مهما كان رنينها جميلا.

اضحى من الواجب اليوم اعاده التفكير بالوظيفة الاجتماعية للغة وبلاغتها، وان تتوقف الخطابات التي تعالج اعراض الامراض وليس اسبابها الحقيقية، وان تتوقف تماما عن البلاغة التي تبهر الاسماع، وتسكن الجراح بدلا من معالجتها، وان تستعيد البلاغة عافيتها وشجاعتها الاخلاقية والمهنية والإنسانية، وليس بهرجتها اللونية والصوتية، في وقت يهان فيه الانسان باسم القيم، وتبرر فيه السلطة باسم الله، لا يكفي ان نقول كلاما جميلا، فلابد ان نقول كلاما مسؤولا يعري الزيف، ويوقظ الوعي، ويمهد للتغيير، لا يسكن في افياء اللغة وبهرجها اللفظي، بل يتخطاها نحو صنع الحياة.

***

د. كريم الوائلي

قال ان حياته اتسمت بالهدوء والخجل من الآخرين، لكنه ما أن يطلب منه الكلمة في مؤتمر أو حلقة دراسية حتى تتجه الانظار اليه ويسود الصمت، فالرجل الأنيق في مظهره، صاحب الشعر الابيض المنكوش، أنيق ايضا في اختيار عباراته، بعكس المقالات التي يكتبها والتي دائما ما تثير الضجيج والتساؤل. يقول أن القدر خدمه كثيراً: " أن يكون المرء غريباً هو وضع متميز "، يردد دائماً ان الحياة لا يمكن أن تكون إلا عملا فنياً: " إذا كانت الحياة بشرية، حياة كائن يتمتع بالارادة وحرية الاختيار. إذ تترك الإرادة والاختيار بصماتها على شكل الحياة " – باومان فن الحياة ترجمة محمود احمد -. وصِف بأنه: " أحد المعلقين الاكثر اهتماماً والاكثر تاثيراً على حالتنا الإنسانية، وان كتبه ومقالاته هي واحدة من اكثر الاعمال اهمية لفهم طبيعة العالم الذي نعيش فيه ".

أن تكون فرداً، معناها أن تكون مسؤولاً عن اختيارك للحياة، وهذا الأمر ليس بحد ذاته مسألة اختيار، بل هو قرار مصيري يتعلق بحريتك: " الحرية تعني القدرة على تحقيق رغبات المرء وأهدافه"، إلا ان زيغمونت باومان يرى أن فن العيش الاستهلاكي في عصر الحداثة السائلة يَعِدُ بهذه الحرية، لكنه يفشل في الوفاء بوعده. قال انه في شبابه، تأثركثيراً بفكرة سارتر "مشروع الحياة". اصنع مشروعك الخاص للحياة، وامضِ قدماً نحو هذا الهدف، سالكاً أقصر الطرق وأكثرها مباشرة. حدد أي نوع من الأشخاص تريد أن تكون، وعندها ستكون لديك الصيغة اللازمة لتصبح هذا الشخص. لكل نوع من الحياة قواعد محددة، وسمات يجب أن نكتسبها. من البداية إلى النهاية، كما تصور سارتر، تسير الحياة خطوة بخطوة على طريق محدد تماماً حتى قبل أن نبدأ الرحلة.

صاغ باومان مصطلح "الحداثة السائلة"، الذي يشير إلى الوضع الراهن لمجتمعنا وما يشهده من تحولات غير مسبوقة في جميع جوانب الحياة - الحب، والعمل، والمجتمع، والسياسة، والسلطة-، وقد غطّى طيفاً واسعاً من المواضيع، من الحرب إلى العولمة، ومن تلفزيون الواقع إلى العنف، ومن الاستهلاك إلى المجتمع، متجاوزاً مجال تخصصه الأساسي ليشمل مجالات الفلسفة وعلم النفس. يصف حياته بانها مثل الانتقال من شريطي قضبان الى آخر، كل واحد منهما يذهب إلى مكان ما.

الطفل المولود في التاسع عشر من تشرين الثاني عام 1925 في مدينة بوزنان غرب بولندا لعائلة فقيرة، كان الاب قارئاً نهماً، اثر كثيرا على ابنه الذي وجد نفسه منذ الصبا غارقا في كتب الادب والفلسفة، إلا ان هذه الحياة لم تستمر طويلا فما أن بلغ الرابعة عشر من عمره، حتى وجد نفسه مهاجرا مع عائلته صوب الاتحاد السوفيتي، خوفا من ملاحقات الجيش النازي الذي احتل بولندا عام 1939، في السادسة عشر من عمره يعمل مجنداً في الجيش الاحمر، بعدها يرقى الى رتبة ضابط في الجيش البولندي، بعد نهاية الحرب تعود العائلة الى بلادها، يقدم للجامعة فيرفض طلبه، ولأن العائلة لا تملك المال لم يستطع الدراسة في الخارج. كان يحلم بدراسة الفيزياء، لم يفكر آنذاك بعلم الاجتماع، كانت الحرب قد دمرت بلاده: " كنت شاب في التاسعة عشر من عمره عاد للتو من الغابة وخط المواجهة لاهثاً، هل ينبغي اضاعة الوقت في فهم اسرار الانفجارات الكبيرة والثقوب السود ؟ دع الثقوب السود الأخرى تحتفظ بأسرارها لبعض الوقت. أولاً جئت لبلادي وهي في حالة خراب وانفجار كبير من قيامتها " – هكذا تكلم زيغمونت باومان ترجمة محمد احمد -.

يعترف انه كان شيوعياً ملتزما أثناء الحرب العالمية الثانية، فقد كانت الماركسية بالنسبة الية طريقاً للحرية، لكن بعد احداث 68 في بولندا اخذ يردد ان الالتزام الحزبي " طريق مختصر الى مقبرة الحريات "، درس علم الاجتماع في أكاديمية وارسو للعلوم السياسية والاجتماعية، أكمل الماجستير وفي عام 1954 أصبح محاضرا في جامعة وارسو، حيث ظل هناك حتى عام 1968.كتب عن الحركة الاشتراكية البريطانية صدر اول كتبه عام 1959، بعدها نشر كتاب " علم الاجتماع اليومي " واستمر في نشر الكتب التي وجدت استجابة من القراء في بولندا.

تاثر بافكار الايطالي أنطونيو غرامشي، واخذ يوجه النقد الى الحكومة الشيوعية، مما ادى عدم منحه درجة الاستاذية في الجامعة، تعرض الى ضغوط من الامن، شملته حملة التطهير السياسي التي بلغت ذروتها بعد احداث اذار 1968، ليفقد وظيفته، فقرر ان يتخلى عن جنسيته البولونية من اجل السماح له بالسفر. امضى عامين في اسرائيل حيث كانت تعيش اعائلته، لكنه سرعان ما وجه الانتقاد الى عنصرية الحركة الصهيونية، عام 1970 تم تعينه رئيسا لقسم الاجتماع في جامعة ليدزالبريطانية، اخذ ينشر كتاباته باللغة الانكليزية. انتقد باومان الصهيونية وإسرائيل، قائلاً إن إسرائيل ليست مهتمة بالسلام وإنها "تستغل الهولوكوست لإضفاء الشرعية على الأعمال غير المعقولة".

عندما هاجر باومان الى الغرب تمسك بالتزامه بهدف تحقيق الاشتراكية، موجها النقد الى الانظمة البيروقراطية غير المستنيرة، كان هدف باومان هو خلق وجود اجتماعي يُمكن العقلانيين والمتحررين من ممارسة حريتهم بطريقة خلاقة، وقد رأى ان ازدياد انعدام الأمن الجماعي، وحالة الاضطراب التي تمر بها المجتمعات الغربية، يدفع الناس لتقبل سياسات سطحية بحثا عن راحة البال.

انصبت جهود باومان على تتبع مفهوم " السيولة " الذي استحدثه في كتابه " الحداثة السائلة " الصادر عام 2000، وقد وصف الكتاب بأنه محاولة تسعى الى فهم زمن متغير. المجتمع السائل على حد قول باومان هو حالة حضور في العالم تعارض حالة المجتمع الصلب القديم الذي كانت فيه الحياة الاجتماعية والمؤسسات ومكانة كل فرد مُحددة سلفاً بطابعها الجماعي. في حين ان العلاقات الإنسانية في المجتمع السائل قد فقدت ديمومتها وصار كل شيء مرناً وقابلاً للتخلي عنه والتخلص منه، على غرار العمل والحب والاسرة، ويؤكد باومان ان: " ما يميز ابناء المجتمع السائل هو دخولهم في حالة صراع متواصل مع ذواتهم لتحقيق اقصى درجات سعادتهم الفردية دونما كبير اهتمام بواقع مجتهاتهم وشروطها القيمية "- سامية شرف الدين ابناء المجتمع السائل مجلة الدوحة تشرين الثاني 2018 –

 ظل باومان ملتزماً بشكل من أشكال الاشتراكية التي ظلت مناهضة للثقافة السائدة،. كان يؤمن بأن المجتمع الصالح حقًا هو المجتمع الذي لا يرضى أبدا بأنه جيد بما فيه الكفاية. بينما يختار الناس إدارة شؤونهم الفردية كمستهلكين، أملاً في إيجاد حلول لمشاكلهم الخاصة من خلال التسوق، فقد توقفوا إلى حد كبير عن التصرف جماعياً كمواطنين يتشاركون قضايا عامة مشتركة. يقول: "هل يمكن لمفاهيم المساواة والديمقراطية وتقرير المصير أن تستمر عندما يُنظر إلى المجتمع بشكل أقل فأكثر على أنه نتاج عمل مشترك وقيم مشتركة، وبصورة أدق كمجرد حاوية للسلع والخدمات تتنافس عليها أيادٍ فردية؟"

يوصف باومان بأنه كاتب غزير الإنتاج ومنضبط، يبدأ الكتابة قبل شروق الشمس. وقد استمر في الكتابة والنشر حتى الايام الاخيرة من حياته، في سنواته الاخيرة حذر من صعود الشعبوية اليمينية في أوروبا والولايات المتحدة، واصفاً إياها بـ"أزمة إنسانية". كان الوعد بأوروبا تقدمية اجتماعياً يعني له الكثير. كان يؤمن إيمانًا راسخًا بأن الاتحاد الأوروبي يُمثل ضمانة للحقوق التي حُصل عليها بشق الأنفس، وللحماية المشتركة من الحرب وانعدام الأمن الاجتماعي.

تذكرنا اعماله بأن عالمنا من صنع أيدي البشر، وبالتالي يُمكنهم إعادة تشكيله أيضاً. ورغم شغفه وتشاؤمه، كتب إيمانًا منه بإمكانية مواجهة هذا التحدي، بل وضرورة مواجهته.

توفي زيغمونت باومان، في التاسع من كانون الثاني عام 2017.

كان باومان يردد إن ما يعوز مجتمعاتنا اليوم هو توقفها عن مساءلة نفسها.وقد سعى الى تشجيع عملية الحوار داخل المجتمع المدني، فكان أمله ان يعمل المثقفون على تشجيع الافراد العاديين للقيام بمشاركة قوية ونشطة في جعل المجتمع اكثر حرية وأكثر مساواة وأكثر عدالة، وقد واصل باومان تمسكه برؤيته التي تقول ان الثقافة تمثل المجال الرئيس الذي يتجدد في أطاره بناء المجتمع، كما كان لديه اعتقاد راسخ بأن المثقفين سيبقون قريبين من الناس العاديين، ويقدمون وجهة نظر حول الأمور المشتركة المثيرة للنقاش.

في الفصل الاول من كتابه " فن الحياة " يطرح باومان هذا السؤال: ما الخطأ في السعادة ؟، لقد كان كانط يقول إن الإنسان لا يمكنه أن يقصد مباشرة نموذجاً تاماً للسعادة، ولكن يمكنه على الأقل، ان يجعل نفسه جديراً بالسعادة، فيما يرى باومان اننا سعداء، طالما لم نفقد الأمل في السعادة، نحن في مأمن من التعاسة طالما ما يزال الأمل يدقُ أبوابنا وبالتالي فأن مفتاح السعادة وترياق البؤس هو الحفاظ على الأمل في السعادة حياً باقياً.

بدأ باومان رحلته الشخصية كعالم اجتماع يتبع شعار غوته الشهير: السعادة تتلخص في التغلب على التعاسة يوماً بعد يوم. سُئل غوته ذات يوم إن كانت حياته سعيدة، فأجاب: "نعم، لقد عشت حياة سعيدة للغاية، لكن لا أستطيع تذكر أسبوع واحد سعيد"يرى باومان ان هذه إجابة حكيمة للغاية. السعادة ليست بديلاً عن الصراعات والصعوبات في الحياة. البديل لذلك هو الملل. إذا لم تكن هناك مشاكل يجب حلها، ولا تحديات يجب مواجهتها والتي تتجاوز أحيانًا قدراتنا، فإننا نشعر بالملل. والملل هو أحد أكثر الأمراض البشرية شيوعا. السعادة ليست حالة بل لحظة، لحظة. نشعر بالسعادة عندما نتغلب على الشدائد والمصائب. نخلع زوجًا من الأحذية الضيقة التي تضغط على أقدامنا ونشعر بالسعادة والراحة. السعادة المستمرة مروعة، كابوس.

يرى باومان ان مجتمعاتنا اسلكت مساراً متنامياً، متقناً، ومتماسكاً. يكسب المرء فيه الأمان والقدرة على التنبؤ، لكنه يفقد الاستقلالية والحرية، إلا ان هذه المجتمعات وبدءاً من فترة ما بعد الحرب، غيّرت مسارها واصبحت سمتها الرئيسية " سيولة " متزايدة، تتكون من خيارات عابرة وآفاق جديدة. دون التقيد بمكانة محددة، كل شيء قابل للتغيير في أي وقت، ولهذا على الإنسان ان يدرك ان الرغبة في السعادة رفيقة ابدية للوجود البشري: " السعي وراء السعادة محرك رئيس للفكر والعمل البشري " – فن الحياة ترجمة احمد عبد الله -.

من اجل العيش بسعادة فان باومان يؤكد على اهمية الروابط الاجتماعية، فهذه يمكن ان تكون منبعاً للسعادة. إن الحياة المدنية تقتضي مواطنين حقيقييين، قادرين على التفكير بانفسهم، واغنياء بانسانية متحررة.

يشير باومان الى ما يسميه " مفارقة السعادة. من حهة ندرك ان الحياة صعبة، وان المعاناة في هذا العالم لا تغيب، ومن جهة أخرى، تسعدنا حقيقة كوننا احياء، في مواجهة الضرر، الألم، معاناة الوجود، باستطاعتنا في الحقيقة استقبال السعادة او رفضها، نحتار ان نكون سعداء أو تعساء، وقد اشار في كتابه " فن الحياة " الى نيتشه ومفهومه للسعادة، حيت اعتبر ان السعادة تصاحب حب الحياة، وقبول المصير على نحو تام، لن نجد السعادة من خلال رفض ضروب المعاناة في الحياة. ان الحياة يجب ان تكون صلبة مبنيةٌ على آفاقٍ مرنةٍ ومساحةٍ مشتركةٍ أوسع. فيها، تجد الطموحاتُ والرغبات التي نسعى إليها، والأحلامُ والواقعُ مكانَها. وكذلك الحريةُ والسعادة.

في كتابه " الحداثة السائلة"، يعتبر باومان مجتمع ما بعد الحداثة مجتمع صيدٍ، الكل يصطاد فيه الكل: " المسكوت عنه في مجتمعنا الحاضر، مجتمع الصيادين، هو أن باستطاعت المرء أن يكون الصياد والطريدة في الوقت نفسه، فهو يقوم في أغلب الأحيان بمطاردة الآخرين من البشر ليبقى وحد في ميدان السباق. علاوة على ذلك، فإن فكرة إنهاء الصيد، في مجتمع الصياديين، ليست نمغرية بل هي مرعبة، لان هذه النهخاية لا يمكن الآن إلا شكل هزيمة شخصية " – الحداثة السائلة ترجمة حجاج ابو جبر -.

***

علي حسين – رئيس تحرير جريدة المدى البغدادية

 

الفلسفة، كأي نشاط فكري، تتأثر بالمشتتات المحيطة، الافتراضات المسبقة أو النظريات غير المدعومة. مما يؤدي إلى تشظيها في عدة اتجاهات. تتشظى الفلسفة مع ظهور مدارس فلسفية جديدة، عندها تتباين الآراء والمفاهيم، مما يؤدي إلى انقسام الفلاسفة بين تيارات مختلفة. التقدم في العلوم الطبيعية والاجتماعية يطرح تحديات جديدة على الفلاسفة، مما يدفع لتطوير أفكار جديدة أو إعادة التفكير في التقليدية منها، انتشار الأفكار الفلسفية عبر الثقافات المختلفة يعزز من تنوع الآراء، مما يجعل من الصعب الوصول إلى توافق حول قضايا فلسفية معينة. في عصر المعلومات تتزايد المشتتات مثل وسائل التواصل الاجتماعي المحتوى الرقمي، مما يمكن أن يؤثر سلبًا على عمق التفكير الفلسفي، الأحداث العالمية والتغيرات الثقافية يمكن أن تؤدي إلى ظهور قضايا جديدة تحتاج إلى معالجة فلسفية، مما يزيد من تعقيد النقاشات، بذلك تتشظى الفلسفة في سياق التغيرات المستمرة، مما يجعلها مجالًا ديناميكيًا متعدد الأبعاد.

القضايا الفلسفية الجديدة

في السنوات الأخيرة، ظهرت العديد من القضايا الفلسفية الجديدة نتيجة للتغيرات الاجتماعية والتكنولوجية ،مع تزايد استخدام الذكاء الاصطناعي، برزت تساؤلات حول المسؤولية الأخلاقية، تثير هذه تساؤلات فلسفية حول الذات، الانتماء، وحقوق الأفراد في التعبير عن هويتهم .مع انتشار المعلومات الرقمية، تطرح قضايا حول معنى المعرفة وتأثير المعلومات على التفكير البشري، هذه القضايا متعلقة حول كيفية تأثير العالم الرقمي على التجربة الإنسانية والهوية، بما في ذلك الافتراضات حول الوجود والعلاقات والنقاشات حول الفوارق الاجتماعية والاقتصادية كما تثير قضايا فلسفية حول العدالة، المساواة، وحقوق الإنسان. في سياق عالمي متغير تعكس هذه التحديات المواجهة الجديدة مع الفلاسفة في عالم متغير.

الوجودية الرقمية والوجودية التقليدية

الوجودية الرقمية تختلف عن الوجودية التقليدية في عدة جوانب رئيسية ،الوجودية التقليدية  نشأت في سياقات تاريخية واجتماعية مختلفة، مثل الحربين العالميتين، حيث كان التركيز على الأزمات الوجودية الفردية والمعاناة البشرية ،الوجودية الرقمية  تتعامل مع القضايا المرتبطة بالعصر الرقمي، مثل تأثير التكنولوجيا على الهوية والعلاقات الإنسانية ، الوجودية التقليدية تركز على مفهوم الهوية الفردية كشيء ثابت أو متجذر في التجربة الإنسانية ،الوجودية الرقمية  تنظر إلى الهوية كشيء متغير، يتعلق بالتواجد على الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، حيث يمكن أن تتفكك  التجربة الإنسانية الى خوارزميات برامجية ،الوجودية التقليدية تركز على العلاقات الإنسانية الواقعية والتجارب المباشرة والمواجهات، الوجودية الرقمية تتناول كيف تؤثر العلاقات الافتراضية والرقمية على التجارب الإنسانية، بما في ذلك العزلة والاتصال. الوجودية التقليدية تسعى للبحث عن المعنى في الحياة من خلال التجربة الفردية والحرية، الوجودية الرقمية تستكشف كيف يمكن أن يتأثر البحث عن المعنى والهدف من خلال الانغماس في العالم الرقمي، حيث يؤدي الإغراق في المعلومات الى فقدان الإحساس بالمعنى، الوجودية التقليدية ترتبط بالأزمات الشخصية، مثل الموت، الحرية، والعبثية، الوجودية الرقمية تتضمن أزمات مرتبطة بالتكنولوجيا، مثل القلق من فقدان الخصوصية، الإدمان على الإنترنت، وتأثير المحتوى الرقمي على الصحة النفسية. بذلك تقدم الوجودية الرقمية نمطا سطحيا لفهم التحديات الجديدة التي طرأت على الوجود الإنساني في عصر التكنولوجيا.

الوجودية الرقمية ومفهوم الحرية

في العالم الرقمي، تتاح للأفراد خيارات غير محدودة تقريبًا، مما يعزز الشعور بالحرية. مع ذلك، يمكن أن تؤدي هذه الخيارات إلى الشعور بالارتباك أو القلق، مما يجعل الاختيار نفسه تحديًا تكنولوجيا، المعلومات تتيح للأفراد حرية التعبير، لكنها أيضًا تعرضهم لمراقبة مستمرة من قبل الحكومات والشركات. هذا الرقابة تقيد حرية التعبير وتؤثر على كيفية تصرف الأفراد في العالم الرقمي، لذا يحاول الأفراد إعادة تشكيل هوياتهم بطرق جديدة، يمكن أن يعزز الشعور بالحرية، لكنه يؤدي أيضًا إلى صراعات داخلية حول الهوية الحقيقية مقابل الهوية الافتراضية، توفر التكنولوجيا وسائل جديدة للتواصل، مما يعزز الحرية في بناء العلاقات، لكن يمكن أن تؤدي هذه الوسائل أيضًا إلى تآكل العلاقات التقليدية، مما يخلق شعورًا بالعزلة، الاستخدام المفرط للتكنولوجيا يمكن أن يقيد الحرية من خلال الإدمان، حيث يشعر الأفراد بأنهم مضطرون للتفاعل مع الأجهزة بدلاً من ممارسة خياراتهم بشكل انساني ومباشر ، في عصر المعلومات يتحول التركيز من البحث عن المعنى الحقيقي إلى التفاعل مع المحتوى السطحي، مما يقلل من الإحساس بالحرية الحقيقية في اتخاذ القرارات، بذلك تقدم الوجودية الرقمية رؤية مفككة للحرية، حيث تتداخل الفرص مع القيود، مما يستدعي إعادة التفكير في كيفية فهمنا للحرية في عصر التكنولوجيا.

الوجودية الرقمية والتشظي الفلسفي المعاصر

في العالم الرقمي، يمكن للأفراد تشكيل هويات متعددة ومتغيرة، مما يؤدي إلى تباين في الآراء والمفاهيم. هذا التنوع يمكن أن يؤدي إلى انقسام في الفلسفات حول مفهوم الهوية، تطرح الوجودية الرقمية تساؤلات جديدة حول معنى الوجود الإنساني في عصر التكنولوجيا، مما يؤدي إلى ظهور مدارس فلسفية جديدة تتناول هذه القضايا، مما يزيد من التشظي، التفاعلات الافتراضية التي تؤثر على كيفية تجربة الأفراد للعالم، مما يخلق مفاهيم جديدة حول الوجود والعلاقات الإنسانية. هذا التغيير يؤدي إلى تباين في الآراء حول القيم والأخلاق، مع ظهور قضايا جديدة مثل الخصوصية، حقوق البيانات، وأخلاقيات الذكاء الاصطناعي، تتشكل فلسفات جديدة، مما يزيد من تعقيد النقاشات ،ويؤدي إلى تشظي الفلسفة .الإغراق بالمعلومات والبيانات يؤدي إلى صعوبة في التوصل والتوافق حول القضايا الفلسفية، مما يزيد من الانقسام بين الفلاسفة، الشعور بالقلق والاغتراب الناتج عن التواجد الدائم في العالم الرقمي يمكن أن يؤدي إلى إعادة تقييم المفاهيم التقليدية، مما يزيد من التشظي في الفلسفة ، تسهم الوجودية الرقمية في خلق نقاشات فلسفية عبر الفضاء الافتراضي لتبقى افتراضية بحتة.

ازدواجية المعرفة وتشظي الفلسفات

تُعبر فكرة ازدواجية المعرفة وتشظي الفلسفات عن حالة معقدة في العالم المعاصر، حيث تتداخل الفلسفات وتتنافس في تقديم تفسيرات مختلفة للوجود والمعرفة، حضور مجموعة من الأنظمة المعرفية المتنوعة، منها العقلانية، التفسيرية، والتقنية، يؤدي إلى تباين في كيفية فهم العالم، حيث يمكن أن يتبنى الأفراد وجهات نظر مختلفة بناءً على خلفياتهم الثقافية والاجتماعية، تساهم وسائل الإعلام الرقمية الحديثة في نشر معلومات متباينة، مما يزيد الفوضى المعرفية، التي تؤدي إلى تشويش في الفهم الاجتماعي للأحداث والقضايا. نظام التفاهة، كما وصفه بعض المفكرين، يشير إلى التركيز على المحتوى السطحي والمشوش بدلاً من الأفكار العميقة، يمكن أن يؤدي إلى تقليل الاهتمام بالقضايا الفلسفية المعقدة، كما ان تشجيع الثقافة الاستهلاكية في نظام التفاهة يساهم في تعزيز ثقافة الاستهلاك السريع، حيث يُفضل المحتوى السهل والسريع على التفكير العميق والمناقشات الفلسفية ، يمكن أن يؤدي إلى فقدان الثقة في المؤسسات التقليدية، بما في ذلك العلم والفلسفة، زيادة الانقسام تؤدي إلى انقسام اجتماعي، حيث يميل الأفراد إلى التمركز حول مجموعاتهم الخاصة الاثنية، الطائفية والقبلية، مما يعزز العزلة الفكرية .تُظهر هذه الديناميكيات كيف أن العالم المعاصر يعاني من ازدواجية معرفية وتشظي فلسفي، حيث تسهم  الوجودية الرقمية ونظام التفاهة في تكريس هذا الوضع، مما يُعقد من القدرة على التوصل إلى فهم مشترك للواقع، ويستدعي الحاجة إلى إعادة تقييم التفكير النقدي وتعزيز الحوار الفلسفي العميق كما تشكل الوجودية الرقمية، جنبًا إلى جنب مع ازدواجية المعرفة وتشظي الفلسفة، تحديات جديدة للفهم الإنساني. تتطلب هذه التحديات نهجًا نقديًا ومرنًا يجمع بين مختلف المعارف والآراء.

***

غالب المسعودي

في عالمٍ تتسارع فيه وتيرة الحياة، وتتزاحم فيه المصالح وتتدافع، وتتبدل فيه منظومة القيم، تبقى الإنسانية عنواناً عريضاً لا يخفت وهجه، ولا تتساقط أوراقه، ولا تذبل ثماره، لأنها منبثقة من ضمير حي يقظ، وصاحب مواقف عظيمة.

ليست الإنسانية مجرد شعارات ترفع، أو عاطفة عابرة ما تلبث أن تنطفئ شمعتها، بل هي منظومة متكاملة تنبض في القلب، وتستنير بالعقل، وتترسخ في الوعي، وتوجه البصيرة نحو الخير والرحمة والعدل.

الإنسانية الحقيقية تنبع من قلب حي نابض، يحسن الشعور بما حوله، ويتفاعل مع آلام الناس وأحلامهم وآمالهم. قلب لا يعتاد القسوة، ولا يبرر اللامبالاة أو التبلد الذي يسيطر على كثير من الناس تجاه من حولهم من بشر يستحقون الالتفات والحضور. بل هو قلب ينبض بإحساس عميق، يترجم إلى رحمة وتعاطف، ودعم وسخاء في العطاء، دون انتظار مقابل أو ثمن لقاء خدمة أو إعانة أو جهد يبذل.

أما الفكر الإنساني، فهو فكر متوقد واع، لا يعيش على هامش الأحداث، بل يتأمل ويتفاعل ويدرك أن لكل فعل صدى، ولكل موقف أثر. إنه فكر يعي أن الإنسان لا يقاس بما يملك، بل بما يقدم ويبذل، وبما يتركه من أثر في نفوس من حوله.

ثم تأتي البصيرة النافذة، التي تمنح صاحبها رؤية تتجاوز اللحظة الراهنة، وتتخطى مظاهر الأشياء. بصيرة ترى ما لا تراه العيون، وتقرأ ما بين السطور، وتتأمل في المآلات لا المظاهر. فالبصير هو من يزن الأمور بميزان الحكمة، ويدرك أن لكل قرار مسؤولية، ولكل كلمة وقعًا، ولكل موقف قيمة.

ويتوج ذلك بالعقل الراجح، الذي يتحلى برجاحة فكر، وحسن تقدير، وبعد نظر. عقل لا تسيره الأهواء، ولا تستعبده المصالح الآنية، بل يزن الأمور بميزان المبدأ، وينطلق من قيم ثابتة تضع رضا الله، وسعادة الناس، واستقرار النفس فوق كل اعتبار.

الإنسان الحق لا يرى في الفوز مجرد تفوق فردي أو مكسب شخصي، بل يفهم أن النجاح الحقيقي هو ذاك الذي يثمر جماعياً، وينعكس على من حوله طمأنينة وراحة واستقراراً. هو من يجعل من محيطه بيئة أكثر أمانًا، وعدلاً، وإنسانية.

الإنسانية ليست كلمات منمقة، ولا خطَباً براقة، بل هي سلوك يومي بسيط يبدأ بابتسامة صادقة، ويتجسد في يدٍ تمتد للعون، وقلب يتسع للناس، وعقل يُنصف الآخر، ويحتوي الاختلاف، ويمنح من حوله فرصة لحياة كريمة.

كن إنساناً يرى في من حوله بشراً لا أرقاماً، وأرواحاً لا أدوات، ورفاقاً في درب الحياة لا منافسين على غنيمة.

كن من أولئك الذين تتجلى فيهم الإنسانية فعلاً لا قولاً، حضورًا لا شعاراً، تأثيراً لا استعراضاً

فالعالم لا يحتاج إلى مزيد من المتحدثين عن الإنسانية، بل يحتاج إلى مزيد من الذين يعيشونها واقعاً ملموساً، تترجم فيه معانيها ومفرداتها وجملها.

فالأمثلة تتوالى وتتكاثر في بيئة العمل، فهذا المدير الذي يقدر موظفيه ويحترمهم، يمنحهم إجازات طارئة دون تردد أو تلكؤ، لا سيما حين يمر أحدهم بظرف إنساني طارئ، كالمشكلات الأسرية، أو الضائقة المالية، أو الحوادث، أو مرض أو وفاة أحد أفراد الأسرة. يبادر بالدعم والمساندة دون مماطلة أو ضغط، واضعاً إنسانيته فوق القوانين الجامدة التي يصر البعض على جعلها عنواناً للنجاح المهني. ولا ننسى زميل العمل الذي يمد يد العون لإنجاز مهمة ثقيلة دون أن يطلب منه ذلك؛ يلاحظ تأخر زميله في إنهاء تقرير ما، فيعرض عليه المساعدة تطوعاً وعوناً، دون أن ينتظر شكراً أو مكافأة.

ورب العمل الذي يراعي الظروف المالية لبعض موظفيه، يبادر بتقديم سلفة دون من أو تفضل، أو يؤجل اقتطاع مبلغ معين من الراتب، أو حتى يساعد في تسديد أقساط دراسية أو جامعية لأبنائهم. وكذلك حسن الترحيب بالعاملين الجدد ومساعدتهم على الاندماج والانسجام، بدلاً من معاملتهم بجفاء أو تنافسية؛ حيث يتم استقبالهم بود، وتوجيههم، ومرافقتهم، حتى يشعروا بالأمان والانتماء.

وفي الحياة اليومية، مواقف تنضح بالإنسانية والأخلاق، كأن تساعد عجوزاً في عبور الشارع أو في حمل أغراضه، دون انتظار مقابل أو حتى شكر، بدافع المسؤولية تجاه الآخر فقط. أو تفتح باب الحوار مع شخص يعاني من التوتر، أو العزلة، أو الإحباط؛ مجرد الجلوس معه والإنصات لمشكلاته قد يكون طوق نجاة ويداً تمتد في الوقت المناسب. أو تتبرع بالدم، أو تشارك في حملات خيرية، دون انتظار عائد مادي أو معنوي. أو تتنازل عن مكانك في طابور طويل لإنسان مرهق أو لامرأة حامل، في موقف بسيط، لكنه يجسد رُقيّاً إنسانياً عظيماً. أو تترك طعاماً أو ماء للقطط والكلاب في الحي، أو تساعد في علاج حيوان جريح.

في الختام: إنسانيتك هي الأثر الذي تتركه، والقيمة التي تعيش بها، والدرب الذي تسلكه، والرسالة التي تنقلها. فبقدر ما تمنح من إنسانيتك، تدب الحياة فيك، وتحيي بها من حولك، ويجزى لك بالعطاء والخير والبركة: نجاحاً، وألفة، ومحبة، وسعادة غامرة تضفيها على حياتك وحياة غيرك.

أولئك الذين غيرت فيهم وأضفت لهم معاني كانت قد فقدت من حياتهم، وبلغ بهم السيل الزبى إحباطاً وضعفاً وقلة حيلة، فكنت منقذاً ورباناً لسفينتهم التي كادت أن تغرق، لولا تدخلك. رفعت شراعها، ليستمر إبحارها، وتعلو ناصيتها، وتسير نحو أهدافها ومراميها ومبتغاها. فالإنسانية ليست حكراً على العطاء المادي،

بل تكمن في كل تصرّف يتضمّن احتراماً للآخر، وتقديراً لمعاناته، وسعياً لمساعدته، ولو بكلمة طيبة.

***

بقلم: د. أكرم عثمان

7-8-2025

في زمنٍ تتزايد فيه الصراعات باسم الدين، وتتوالد فيه الانقسامات من بطون النصوص المقدسة، وتُرتكب فيه الجرائم تحت راية العقيدة، لم يعد السؤال عن "الدين" ترفًا فكريًا أو شأنًا خاصًا، بل أصبح سؤالًا وجوديًا يمسّ جوهر الإنسان والمجتمع، ويحدد مصير الأوطان والثقافات.

ليس الدين ـ كما يُتوهّم ـ هو أصل المشكلة، بل مشكلتنا تكمن في كيفية فهمنا له، وطريقة توظيفه، والعدسة التي نقرأه من خلالها: هل نقرأه بعين الوعي، أم بعين التلقين؟ هل نتعامل معه كوسيلة تحرير، أم كأداة سيطرة؟ هل نراه طريقًا إلى الله، أم جدارًا عازلًا بين الناس والله؟

لقد تحوّل الدين، في كثير من واقعنا، من دعوة إلى الرحمة والعدالة إلى خطاب للفرز والإقصاء، ومن تجربة روحية إلى صراع هويات، ومن مشروع أخلاقي إلى وسيلة تبرير للسلطة. والمؤسف أن كثيرًا من هذا التشويه يتم باسم "الدفاع عن الدين"، في حين أن ما يُدافَع عنه غالبًا ليس الدين في جوهره، بل سلطة من يتحدث باسمه، أو مصالح من يحتكر تأويله.

إننا بحاجة ملحّة لإعادة طرح السؤال الكبير: كيف نفهم الدين؟ لا لنهاجمه أو ندافع عنه، بل لنفهمه أولًا، ونحرره من التكلّس، ونحرر أنفسنا من عبوديّة الفهم الجامد له. هذا الفهم لا يبدأ من التقديس الأعمى، ولا من الشك العدمي، بل من رحلة وعي، تُعيد وصل النص بالتجربة، والتاريخ بالعقل، والروح بالأخلاق.

من هنا، ينفتح هذا المقال على ستة محاور، تحاول أن تُقارب الدين لا كقضية إيمان فقط، بل كمسألة إنسانية وثقافية وتاريخية، تحتاج إلى تأمل نقدي وتفكير شجاع..

الدين كنص مفتوح على التأويل

النص الديني ليس مجرد كلمات ثابتة وحروف جامدة، بل هو خطاب حي يتفاعل مع المتلقّي عبر العصور والثقافات. لفهم هذا، علينا العودة إلى الأصول التي تأسست عليها العلوم الإسلامية، حيث نشأت مدارس متعددة للفهم والتأويل، مثل مدرسة المحدثين، مدرسة المعتزلة، وأهل الظاهر وأهل الباطن. هذه المدارس لم تكن متعارضة فقط بل كانت تعبيرًا عن ديناميكية فكرية.

في العصر الذهبي للحضارة الإسلامية، كان العلماء يقرؤون النصوص الدينية بعين متفتحة، يسألون كيف يمكن أن تتجدد المفاهيم لتلائم واقع الناس دون الإخلال بمقاصد الشريعة. فمثلاً، تعدد المذاهب الفقهية كالحنفي، المالكي، الشافعي، والحنبلي، ليس ضعفًا بل دليل ثراء فكري يسمح بالتنوع والاجتهاد.

لكن مع مرور الزمن، تحولت التأويلات إلى حدود صارمة أُغلقت الأبواب أمام الاجتهاد، وأصبح الخطاب الديني يكرّس نمطًا واحدًا يُفرض على الجميع، حتى بات بعض القراءات مجرد تكرار نصوص مغلقة لا تسمح بالحوار ولا بالتغيير. وهذا أدى إلى جمود فكر الدين، وتحوله إلى أداة في يد من يسيطرون على مفاتيح السلطة.

هنا يظهر الفرق الجوهري بين قراءة النص كـ"حقيقة مطلقة" وثابتة لا تقبل المناقشة، وبين فهمه كـ"نص حي" يتفاعل مع سياقات جديدة. التأويل إذًا ليس تحريفًا أو تخريبًا للنص، بل هو تجديد مستمر يهدف إلى استخراج الروح الأخلاقية والإنسانية التي لا تتغير.

الدين كتجربة روحية لا كهوية صراعية

الدين، في جوهره، هو علاقة روحية عميقة بين الإنسان وربه، تبدأ من داخل النفس، من عمق الشعور بالخضوع، والتوق إلى المطلق، والبحث عن السلام الداخلي. هذه التجربة الروحية تسبق أي تصنيفات اجتماعية أو سياسية، وهي ما يعطي الدين بريقه وصدقه.

في التاريخ، نجد عبر عصور عديدة كيف تحولت الروحانية إلى متنفس للإنسان المتعب من صراعات الدنيا، فقد ارتبطت الصلوات، والتأمل، والزهد، والذكر بسكون القلب وطمأنينة النفس. ومن هنا، تعلّم الإنسان التواضع والرحمة والاحترام للآخرين، بما في ذلك المختلفين عنه في الدين أو المذهب.

لكن المؤسف أن الدين في كثير من الأحيان صار مُختزلًا في هوية تعرّف الإنسان ضمن حدود طائفية أو مذهبية ضيقة، تحولت معها العلاقة الشخصية مع الله إلى معارك بين جماعات، تُستخدم لتبرير العداوة والكراهية.

ينتج عن هذا الانغلاق الفكري والعاطفي تهميش الروحانية الحقيقية، ويحل محلها تعصب متصلب، يجعل من الدين علامة تمييز لا وسيلة وفاق. المؤمن الحقيقي، الذي يعايش تجربة الإيمان الحقيقية، هو من ينبذ الغلو والتعصب، ويحتضن الآخر، ولا يرى الإيمان مجرد شعار بل ممارسة تفيض محبة وسلامًا.

لذلك، إعادة اكتشاف الدين كتجربة روحية فردية وجماعية يجب أن تكون أولوية، لفصل الإيمان الصادق عن النزاعات المذهبية، وللتمهيد لطريق يعيد للدين بريقه كمنبع للسلام الداخلي والتعايش بين الناس.

الدين كتاريخ بشري لا كقداسة مطلقة

حين نتحدث عن الدين، لا بد من التمييز الواضح بين "الرسالة الإلهية" التي هي نقية وعالمية، وبين "التدين البشري" الذي يمثل تطبيقات وممارسات بشرية متأثرة بالسياقات التاريخية والثقافية والسياسية.

التاريخ الإسلامي، مثل غيره من التواريخ الدينية، شهد صراعات وتطورات، وتداخلًا بين الدين والسلطة، ما أدى أحيانًا إلى تحوّل مؤسسات دينية إلى أدوات تحكم، وأصبح بعض العلماء والفقهاء ممارسين للسلطة السياسية بلباس ديني.

إن تمجيد تراث بعينه واعتباره مقدسًا، سواء كان فقهًا أو ممارسات، يعطّل القدرة على النقد والتجديد، ويغلق الباب أمام الاجتهاد الذي هو روح الدين الحي. فالفقه الذي وُضع في ظل ظروف معينة، قد لا يكون قابلًا للتطبيق حرفيًا في زمن مختلف تمامًا.

لا يعني هذا التقليل من قدسية الدين، بل هو دعوة لفهمه كرسالة متجددة، تتجاوز زمن النبي والمؤسسين لتلائم واقع الإنسان المعاصر. التاريخ الديني يحوي أخطاء وانحرافات وقراءات مغلوطة يجب التعرف عليها ونقدها، لكي يُستعاد جوهر الدين كمنارة هداية.

بفهم الدين كتاريخ بشري، نصبح قادرين على تحريره من أساطير العصمة المزعومة التي حصرته في كتابات وأقوال ماضية، مما يمكّننا من استثمار قيمه الإنسانية والأخلاقية بوعي متجدد يعزز السلام والعدل بدلاً من الصراع.

الدين كمشروع أخلاقي لا كمنظومة أوامر

الدين لم يُبعث ليكون مجرد مجموعة من الأوامر والنواهي، أو قائمة طقوس تُؤدى دون أثر، بل هو مشروع لصناعة الإنسان الأخلاقي، الإنسان الذي لا تقتصر علاقته بالله على العبادات، بل تنعكس هذه العلاقة في سلوكه مع الناس، في عدله، وصدقه، ورحمته، ونزاهته.

لقد وقع كثير من الخطاب الديني في فخ الشكلانية، حين ربط التدين بالمظاهر والالتزام الحرفي بالشعائر، واعتبر أن الالتزام بالأوامر كافٍ لقياس الإيمان، متناسيًا أن جوهر الدين هو الأخلاق. كيف يُفهم الدين حين يتحول إلى منظومة سلوكية تفتقر إلى الرحمة والإنصاف؟ كيف نصلي، ونصوم، ونحج، ونشهد في الوقت نفسه الظلم، والكذب، والفساد ولا نستنكره؟

الأخلاق ليست أمرًا ثانويًا في الدين، بل هي لبّه. فقد جاء عن النبي محمد: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، وجاء عن الإمام جعفر الصادق: "كونوا دعاةً لنا بغير ألسنتكم" أي بسلوككم لا بشعاراتكم.

حين يتحول الدين إلى سلّم للنفوذ، أو وسيلة لإقصاء المختلف، أو وسيلة للتمييز بين الناس باسم "الصلاح الظاهري"، يفقد معناه ويُصبح عبئًا ثقيلًا على الناس. نحن بحاجة إلى دين يُقاس بأثره في المعاملات، لا بكثرة خطبته أو طول لحيته. بحاجة إلى فهم يعيد مركزية الأخلاق في الدين، ويربط بين التعبّد والسلوك، بين الصلاة والعدل، بين الصيام والرحمة، بين العقيدة والضمير. بهذا المعنى، يصبح الدين قوة بناء لا أداة تزكية مزيفة.

الدين والعقل... تكامل لا تصادم

من أوضح ما تميزت به الرسالة القرآنية أنها لم ترفض العقل، بل خاطبته، وراهنَت عليه. فجاءت عشرات الآيات تبدأ بـ"أفلا تعقلون"، "أفلا تتفكرون"، "لعلهم يتفكرون"، في تأكيد واضح على أن الدين لا يكتمل بدون التفكير، ولا يستقيم بدون الفهم.

العقل في جوهره هو أداة التمييز، والبحث، والفهم. وبدونه يصبح الإيمان مجرد تكرار لما يُلقّن، لا قناعة حقيقية. ولهذا، فإن أعظم الإيمان ليس ما يُؤخذ عن تقليد أعمى، بل ما يُبنى على تأمل وتساؤل وتجربة ذاتية.

التاريخ الإسلامي ذاته عرف لحظات ذهبية حين ازدهرت الفلسفة، والمنطق، والكلام، جنبًا إلى جنب مع الفقه والحديث. فابن رشد، والفارابي، والكندي، وابن سينا، والغزالي، وغيرهم، سعوا إلى الجمع بين العقل والنقل، واعتبروا أن الوحي لا يتناقض مع العقل، بل يكمله.

لكن مع صعود تيارات فكرية أغلقت باب الاجتهاد، وجرّمت السؤال، وتحاشت النقاش، بدأ الدين يتحول إلى منظومة مغلقة تخاف من كل ما هو جديد. فأصبح العقل متّهَمًا، والسؤال مذمومًا، وكأن التساؤل يهدد الإيمان، لا يُعزّزه.

هذا التصادم المفتعل بين الدين والعقل، ليس نابعًا من النصوص الدينية ذاتها، بل من تحوّل الخطاب الديني إلى أداة سلطة تريد الطاعة العمياء، وتخشى كل ما يوقظ الوعي.

إن الإيمان القوي لا يخاف من العقل، بل يتغذى عليه. والإيمان الحقيقي لا يُطلب بالقهر أو القطيعة مع الفكر، بل بالحوار، والوعي، والانفتاح. والشك هنا لا يعني الإلحاد، بل يعني الحفر في المعنى، واختبار القناعة، وبناء الإيمان على أساس متين.

فالدين بلا عقل يتحوّل إلى طقوس جوفاء، والعقل بلا قيم روحية قد يسقط في العبث. والإنسان لا يكتمل إلا بهما معًا.

الدين في زمننا.. مسؤولية لا ميراث

في عالم سريع التحول، تتداخل فيه الثقافات وتتشابك فيه القيم، لم يعد كافيًا أن نُورّث الدين كما نُورّث أسماء العوائل أو عادات القبيلة. فالدين ليس عباءة تُسلَّم من جيل إلى جيل، بل مسؤولية تُحمَل بوعي، وتُجدد بفهم، وتُفعَّل بضمير حي.

الخطورة في التعامل الوراثي مع الدين أنه يجعل التدين طقسًا شكليًا، لا علاقة له بالوعي أو السلوك أو الموقف من الظلم. فيصبح الانتماء الديني تقليدًا لا سؤالًا، ويغدو الدفاع عن "الدين" دفاعًا عن الهوية الجمعية، لا عن القيم الأخلاقية التي جاء بها الوحي.

في زمن الانكشاف الإعلامي، واحتكاك الأديان، وصعود الإلحاد واللادينية، لم يعد ممكنًا الاستمرار في تقديم الدين كما قُدِّم قبل قرون، بل يجب إعادة التفكير فيه، لا من باب "تغيير الدين"، بل من باب تحريره من الكسل الذهني، ومن سلطة التكرار. التديُّن المعاصر يجب أن يكون مسؤولًا:

- مسؤولًا أمام ضمير الإنسان، لا فقط أمام سلطة المؤسسة.

- مسؤولًا في مواجهة الظلم، لا متواطئًا معه.

- مسؤولًا في إنتاج الخطاب، لا مستهلكًا لنصوص ماضوية.

نحن بحاجة إلى دين يتحدث بلغة الإنسان، لا بلغة التحذير والتكفير. دين يوسّع الأفق، لا يُغلقه. دين يُربّي على النقد والبصيرة، لا على التبعية والخوف.

إن مسؤولية المؤمن اليوم هي أن يُحرّر الدين من برودة الوراثة، ويبعث فيه دفء المعنى. أن يتعامل معه كقضية حيّة، متجددة، لا كحقيبة مغلقة، ولا كصندوق أسرار لا يُفتح. ففي عصرنا، لا يُقاس صدق الإيمان بكثرة الخطب أو عدد المساجد، بل بقدرة الدين على أن يكون صوتًا للمظلوم، وعدلًا في وجه الطغيان، وجسرًا للسلام بين البشر.

خاتمة: نحو فهم ينقذ الدين من أتباعه ... ويعيده إلى روحه

لقد آن الأوان لأن نتوقف عن التعامل مع الدين كقالب جاهز، أو تركة لا تُمس، أو سلطة لا تُسائل. الدين ليس جدارًا نحتمي خلفه لنُهاجم الآخرين، ولا بطاقة عضوية في جماعة ما، ولا ذخيرة أيديولوجية نخوض بها حروبنا النفسية والسياسية.

الدين، في جوهره، رحلة وجودية تبدأ من التساؤل لا من الحفظ، ومن التواضع لا من التسلط، ومن اختبار الذات لا مراقبة الآخرين. هو مشروع تحرر، لا مشروع تقييد. مشروع إنساني قبل أن يكون شعائري. أخلاقي قبل أن يكون سلطويًا.

إن إعادة فهم الدين لا تعني هدمه، بل إحياءه. لا تعني نزع القداسة عنه، بل تحريرها من الاستغلال. نحن لا نُشكك في جوهر الدين، بل نُشكك في الطرق المتحجرة التي يُفهم ويُطبَّق بها، وفي أولئك الذين اختزلوا الدين في طقوس ظاهرية، أو استخدموه كواجهة لسلطة ظالمة أو تجارة مقدسة.

لسنا بحاجة إلى المزيد من المتدينين الصاخبين، بل إلى مؤمنين صامتين يغيّرون العالم بسلوكهم. لسنا بحاجة إلى أصوات ترفع الشعارات، بل إلى ضمائر تعيش القيم. ولسنا بحاجة إلى اجترار الموروث، بل إلى عقل نقدي يُعيد تأويله، ويُحسن الإنصات لما فيه من جوهر حيّ، ويطرح عنه ما علق به من تشوّهات الزمن وسلطة الإنسان على المعنى.

نحن بحاجة إلى شجاعة عقلية وروحية، تضع اليد على مواطن الخلل، وتفتح النوافذ نحو أفقٍ دينيٍّ جديد:

- دين لا يُختصر في المظاهر، ولا يُختزل في التاريخ، ولا يُؤدلَج في السياسة.

- دين يتنفس عبر القلب والعقل معًا، وينبض في سلوك الإنسان لا في صراخ المنابر.

إن لم نمتلك هذه الشجاعة، سيظل الدين ضحية أتباعه، وسيرث أبناؤنا عبئًا لا نورًا، وسيُنظر إليه كمشكلة لا كحل، وكعائق لا كجسر عبور نحو إنسانية أسمى.

***

محمد ساجت السليطي - كاتب وباحث عراقي

........................

المراجع والمصادر:

1. أبن رشد، تهافت التهافت.

2. أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين.

3. الجاحظ، البيان والتبيين.

4. زكي نجيب محمود، تجديد الفكر العربي.

5. عبد الله العروي، السنة والإصلاح.

6. عبد الجبار الرفاعي، الدين والظمأ الأنطولوجي.

7. علي شريعتي، النباهة والاستحمار.

8. فؤاد زكريا، التفكير العلمي.

9. محمد أركون، الفكر الإسلامي: قراءة علمية.

10. محمد إقبال، تجديد التفكير الديني في الإسلام.

11. محمد شحرور، الكتاب والقرآن: قراءة معاصرة.

12. ماجد الغرباوي، مدارات عقائدية ساخنة.

13. نصر حامد أبو زيد، النص، السلطة، الحقيقة.

14. هشام جعيط، الفتنة: جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر.

15. عبد المجيد الشرفي، الإسلام والحداثة.

16. يوسف الصديق، هل قرأنا القرآن؟.

المقدمة: تظل ظاهرة الشذوذ الجنسي في المجتمعات التقليدية إحدى أكثر القضايا إثارة للجدل والنقاش، إذ تُقرأ غالبًا على أنها خروج عن الفطرة واعتداء على النظام الطبيعي للأمور. لكن المعاينة الدقيقة تكشف أن هذه الظاهرة ليست سوى انعكاس لخلل اجتماعي وفكري أعمق، يتغلغل في بنية المجتمع ذاته. فالشذوذ، في جوهره، ليس فعلًا فطريًا فحسب، ولا مجرد انحراف فردي، بل هو مرآة تتكسر عليها تناقضات المجتمع ذاته، ومحاولة يائسة لتجاوز الحدود المفروضة على التعبير عن الذات والهوية. تسعى هذه الدراسة إلى تفكيك مصطلحات الفطرة والشذوذ في إطار التحليل الاجتماعي والفلسفي، مستندة إلى مفاهيم فلاسفة كبار مثل ميشيل فوكو، ابن عربي، وهربرت ماركوز، مع تسليط الضوء على دور الدين والإعلام في تعميق أو تخفيف حدة الإشكال، وصولًا إلى طرح سؤال محوري: من شذّ أولًا؟ الفرد أم المجتمع؟

الفطرة والهوية: بين القمع والنفي

منذ ولادتنا، لا نُمنح الفرصة للتعبير عن هويتنا الحقيقية، بل يُفرض علينا نمط اجتماعي وثقافي يحدد مَن يجب أن نكون. يوضح ميشيل فوكو في كتابه الاهتمام بالذات أن الهوية ليست طبيعة ثابتة، بل هي إنتاج اجتماعي يُعاد تشكيله باستمرار (فوكو، 1984). تُكبت الفطرة الحقيقية بفعل القوالب الصارمة للمجتمع التي تحصر الفروق والاختلافات ضمن نطاق ضيق، فتولد حالة من الصراع والتمزق الداخلي. ينبغي التساؤل: هل الشذوذ هو خروج عن الفطرة أم أنه نتاج قمع الفطرة وتكبيلها؟ هل نحن أمام حالة فردية أم ظاهرة اجتماعية تنتجها بنى ثقافية تُفرض على الأفراد؟ هكذا، تصبح الفطرة ذاتها مشروخة، متكسرة في مرآة التقاليد والنصوص التي تحكم المجتمع.

الجسد كضحية وأداة احتجاج

يؤكد هربرت ماركوز في رجل واحد، عقل واحد أن الجسد هو ميدان الصراع السياسي والاجتماعي، فهو آخر منبر يستطيع الإنسان من خلاله التعبير عن ذاته حين تغلق الأبواب الأخرى (ماركوز، 1966). حين تُقمع اللغة، يصبح الجسد هو الصرخة الأخيرة. في المجتمعات التي تُجمد النقاشات حول الهوية الجنسية وتمنع التعبير الحر، يتحول السلوك الجنسي خارج الإطار المقبول إلى احتجاج صامت. هذا السلوك لا يعبّر فقط عن شهوة، بل عن رفض لقمع الحرية والتعريف الضيق للفطرة. يتجلى ذلك في ازدواجية المجتمع الذي يخاف من الجسد لكنه يراقبه ويُدين صاحبه.

الدين بين الحقّ والمزايدة

يحتل الدين موقعًا مركزيًا في تشكيل مفهوم الشذوذ. فالشرائع الدينية، ومنها الإسلام، تحرّم الممارسات الجنسية خارج الأطر الشرعية. لكن ابن عربي، في الفتوحات المكية، يذكر: الحق لا يُطلب منه أن يقمع الإنسان، بل ليهديه إلى ذاته (ابن عربي، 1911). هذا التصور يفتح المجال أمام قراءة مختلفة؛ إذ يتحول الدين في بعض الحالات إلى أداة مزايدة أخلاقية تُستخدم لإدانة الآخر وتكريس الحكم، لا كمرآة للحق وللفهم العميق للإنسان. في هذه الحالة، يتماهى الدين مع المواقف الاجتماعية المحافظة التي تكرّس حالة الإنكار والقمع.

الإعلام كمرآة مشوهة وحجة سهلة

تؤكد دراسات بول هاريسون على دور الإعلام في تشكيل الرأي العام، لكنها تُبيّن أيضًا أن الإعلام يتجه أحيانًا إلى تبسيط الظواهر وتعطيل التحليل النقدي (هاريسون، 2002). ينسب كثيرون ظاهرة الشذوذ إلى الغرب عبر خطاب استيراد القيم والثقافات، وهذا تحميل للآخر مسؤولية ما هو نتاج تربة محلية. الإعلام بذلك يُستخدم كأداة لتبرير المواقف التقليدية وتكريسها، مع تجاهل الأسباب العميقة والمتجذرة في داخل المجتمعات نفسها.

علاج الظاهرة أم علاج المجتمع؟

يرى جون لوك أن المجتمع الذي لا يتيح لأفراده التعبير عن ذواتهم بحرية سيُجبرهم على البحث عن بدائل غير مباشرة لإعلان وجودهم (لوك، 1689). بناء عليه، لا يكمن الحل في محاربة السلوكيات الظاهرة فقط، بل في تفكيك البنى الاجتماعية التي تكرّس القمع والإنكار. يستلزم ذلك بناء ثقافة حوارية تُعلي من قيمة الاعتراف بالذات، وتحترم التنوع في الهويات الجنسية، وتتعامل مع الأفراد كشركاء في صناعة المجتمع، لا كأعداء يجب استئصالهم.

الهوية الجنسية بين الذات والمجتمع

الهوية الجنسية ليست مجرد مسألة بيولوجية أو فطرية وحسب، بل هي أيضًا بناء اجتماعي وثقافي. بيير بورديو يشير إلى أن الهوية هي نتيجة لعلاقات القوة التي تُمارس داخل الحقل الاجتماعي (بورديو، 1990). بناءً على ذلك، يُفرض على الأفراد قبول أو رفض هويات معينة بحسب مواقعهم في هذه العلاقات. في المجتمعات المحافظة، تُختزل الهوية الجنسية ضمن إطار ضيق جداً، ما يخلق فجوة بين الذات الحقيقية والمُتوقع اجتماعيًا. يترتب على ذلك شعور متواصل بالاغتراب وعدم الانتماء، وهذا بدوره يُفضي إلى البحث عن مساحات بديلة تعبر فيها الذات عن حقيقتها، وإن لم تكن مقبولة رسميًا.

الاستلاب الاجتماعي والتمرد الفردي

تحدث كارل ماركس عن الاستلاب عندما يصبح الإنسان غريبًا عن ذاته بسبب أنظمة اجتماعية واقتصادية تضغط عليه (ماركس، 1844). يمكننا أن نرى في ظاهرة الشذوذ إحدى صور الاستلاب، حيث يُجبر الفرد على الانفصال عن فطرته أو هويته الحقيقية، ويصبح جسده وميوله نقطة تمرد على هذا القمع. الشذوذ إذًا ليس فقط مسألة شخصية، بل فعل احتجاج اجتماعي مكبوت، يعبّر عن رفض للقواعد التي تفرض الهوية وتقمع الاختلاف.

النصوص الدينية بين التحرير والتقييد

تُشير الدراسات الحديثة إلى أن النصوص الدينية، رغم صلابتها الظاهرة، تحمل في طياتها إمكانات للتأويل والتحرير. يذكر توماس ميلر أن القراءات الحصرية للنصوص تعزز من حالة القمع، بينما القراءات النقدية تفتح باب التفاهم والقبول (ميلر، 2010). في هذا السياق، ينبغي أن نعيد النظر في الخطاب الديني الرسمي الذي يُستخدم لتبرير الإدانة، مقابل روح الدين التي تدعو إلى الرحمة والعدل، وتفهم الطبيعة الإنسانية بكل تعقيداتها.

الإعلام والتحولات الثقافية

الإعلام ليس فقط ناقلًا للرسائل، بل صانع لها. في زمن العولمة، تنتقل القيم الثقافية وتختلط، لكن الإعلام في كثير من الأحيان يعكس أو يحرف هذه القيم بما يخدم مصالح معينة. من هنا، يتزايد حجم الجدل حول ظاهرة الشذوذ باعتبارها تصديرًا ثقافيًا. يجب أن ندرك أن هذا التصدير هو في الأصل انعكاس لصراعات داخلية، وأن محاربة الظاهرة بإلقاء اللوم على الخارج تغفل عن مسؤولية المجتمع في فهم ذاته وتطوير خطاب داخلي متوازن.

المجتمع والشفاء: نحو حوار إنساني

التعامل مع ظاهرة الشذوذ يتطلب إعادة بناء العلاقة بين الفرد والمجتمع على أسس جديدة. هذا لا يعني التسامح فقط، بل يتطلب إنشاء فضاءات للحوار الصريح، تشجيع ثقافة الاعتراف بالذات، ورفض منطق القهر والإنكار. فالحوار هو الطريق الوحيد لشفاء المجتمع، لأن محاربة الأعراض دون معالجة الأسباب لن تؤدي إلا إلى تعميق الانقسامات وتكريس الانعزال.

العنف الرمزي بين التنشئة الاجتماعية والهوية

بيير بورديو يعرّف العنف الرمزي بأنه القوة التي تُمارس خفية، عبر التنشئة الثقافية والاجتماعية، لتكريس نظام الهيمنة (بورديو، 1991). في المجتمعات التي تُدين الشذوذ، يُمارس هذا العنف عبر التنشئة التي تُلزم الأفراد بقوالب محددة للهوية والجنس والسلوك. هذه القوالب تقمع الاختلاف، وتحول الانحراف الظاهر إلى جريمة اجتماعية لا تُغتفر. العنف الرمزي لا يقل خطورة عن العنف الجسدي، فهو يشكل آلية أساسية في تكرار الهيمنة الاجتماعية، ويخلق حالة من الصراع النفسي المزمن لدى الأفراد الذين يرفضون القوالب المسبقة.

الصمت والتمييز: عبء الرفض

يؤدي هذا العنف الرمزي إلى خلق مناخ من الصمت حول قضايا الهوية الجنسية، حيث يُنكر المجتمع وجودها أو يُخفيها تحت وطأة العار واللوم. يشير إرفينغ غوفمان إلى مفهوم الوصمة التي تلاحق الأفراد المختلفين، وتُقيد حريتهم الاجتماعية (غوفمان، 1963). هذا الصمت يجعل الأفراد أكثر عُرضة للتمييز والإقصاء، مما يفاقم معاناتهم النفسية والاجتماعية، ويعزلهم داخل دوائر الانعزال والرفض.

نقد مفهوم الشذوذ: إعادة النظر في اللغة

مصطلح الشذوذ ذاته يحمل دلالات سلبية قوية، ويُستخدم لتعميق الهوة بين المقبول والمنبوذ. يقترح بعض الباحثين استبدال هذا المصطلح بمفاهيم أكثر حيادية، مثل الاختلاف الجنسي أو التنوع الجنسي، لتخفيف حدة الإدانة وتعزيز الفهم. هذه اللغة الجديدة ليست مجرد تغيير في الكلمات، بل تعكس تحولًا فكريًا واجتماعيًا نحو قبول الآخر والاعتراف بتعددية التجارب الإنسانية.

المجتمع والسياسة: القوانين والحقوق

القوانين التي تُجرّم الشذوذ تعكس سيطرة القيم التقليدية، لكنها في الوقت نفسه تُنتج مشاكل قانونية واجتماعية معقدة. تشير تجارب عدة دول إلى أن التشريع الذي يقمع الحرية الجنسية يعمق الانقسامات، ويزيد من حالات العنف والاضطهاد (الأمم المتحدة، 2019). الحوار السياسي حول الحقوق الجنسية يجب أن يُبنى على أساس احترام كرامة الإنسان وحقوقه، وليس على أساس المحرمات التقليدية فقط.

المستقبل: نحو مجتمع أكثر انفتاحًا

مع تصاعد حركة حقوق الإنسان وانتشار ثقافة التنوع، بدأت العديد من المجتمعات تعيد النظر في مواقفها تجاه الهوية الجنسية. لا يعني هذا تقبلًا أعمى، بل خطوة نحو فهم أعمق، وإنشاء مجتمعات أكثر عدالة وإنسانية. يبقى الطريق طويلاً، لكنه يبدأ بالاعتراف بالاختلاف وعدم التنكر له، وبتبني خطاب حوار يوازن بين التقاليد وحقوق الإنسان

الاستراتيجيات النفسية لمواجهة الرفض

في مواجهة القمع الاجتماعي والوصمة، يلجأ الأفراد إلى استراتيجيات نفسية متعددة للحفاظ على توازنهم، من بينها الإنكار، التبرير، أو التمرد الصامت. فرويد يشير إلى أن الكبت النفسي يؤدي إلى تشوهات في السلوك تُفسّر على أنها انحراف (فرويد، 1915). لكن هذه الظواهر ليست أمراضًا نفسية بالمعنى التقليدي، بل استجابات طبيعية لضغوط اجتماعية غير قابلة للتغيير أو الفهم.

الهوة بين الفرد والمجتمع: التوتر المستمر

التوتر بين الفرد والمجتمع ينبع من تناقض بين تطلعات الحرية الفردية ومتطلبات الانسجام الاجتماعي. إيميل دوركهايم يوضح أن الهوية الفردية تتشكل ضمن الإطار الاجتماعي لكنها ليست مرهونة به بالكامل (دوركهايم، 1897). هذا التوتر يؤدي إلى صراعات داخلية وخارجية، تعكس مدى تعقيد عملية بناء الذات والهويّة ضمن حدود اجتماعية ضيقة.

إعادة تأهيل الخطاب الثقافي

لتحقيق فهم أفضل، يجب إعادة تأهيل الخطاب الثقافي المحيط بقضايا الهوية الجنسية. لا بد من تفكيك الصور النمطية والأحكام المسبقة التي تروجها وسائل الإعلام والمؤسسات الدينية والتعليمية. هذا يتطلب برامج توعية وتعليمية ترتكز على الحوار وقبول التنوع، لا على الإدانة والوصم.

دور القانون في حماية الحقوق وتعزيز التعايش

القانون ليس فقط أداة للضبط، بل يجب أن يكون ركيزة للحماية والعدالة. تشريعات تحترم حقوق الإنسان، وتكفل حرية التعبير عن الهوية الجنسية، تساهم في بناء مجتمع أكثر صحة وانسجامًا. وعلى الرغم من المقاومة المجتمعية، تظهر تجارب دول عديدة أن حماية الحقوق تعزز من استقرار المجتمع وتقلل من حالات التمييز والعنف.

استشراف المستقبل: التحديات والفرص

المستقبل يحمل تحديات كبيرة أمام المجتمعات التي ما زالت تراوح في مكانها في التعامل مع قضايا الهوية الجنسية. إلا أن التطور الثقافي، وظهور منظمات حقوق الإنسان، وانتشار التعليم، كلها عوامل قد تؤدي إلى تحول جذري. يبقى الأمل معقودًا على قدرة المجتمعات على التفاعل مع هذه التغيرات بوعي ومرونة، وتحويلها إلى فرص للنمو والتقدم.

الخاتمة والنتائج

إن قراءة ظاهرة الشذوذ من منظار الفطرة والمجتمع تكشف عن تعقيدات كبيرة ومتناقضة، تحتم علينا تجاوز الأحكام الجاهزة والمواقف السطحية. المجتمعات التي ترفض فهم هذا الواقع وتتعامل معه بالعنف الرمزي والقمع تحكم على نفسها بالعزلة والانغلاق، وتعمّق الانقسامات والانعزال. في مواجهة هذه الظاهرة، لا تكمن الحكمة في تبرير الشذوذ أو الدعوة إليه، بل في فهمه في سياقه الاجتماعي والنفسي، وبعيدًا عن الإدانة الجاهزة. الشذوذ ليس مجرد سلوك منفصل عن الذات، بل هو تعبير عن معاناة مجتمع كامل يعاني من قمع الفطرة وتعقيدات نفسية واجتماعية. لذا، يجب أن نتوقف عن لوم الفرد فقط ونتساءل بصدق عن دورنا في صنع هذه الظاهرة، ونعيد النظر في مفاهيم الفطرة والهوية والدين، جنبًا إلى جنب مع نقد دور الإعلام في تشكيل الخطاب العام. فهذا ليس أمرًا سهلاً، لكنه ضروري، لأن المجتمع الذي يغلق على ذاته لا يستطيع أن ينمو ولا أن يشفي جراحه. ينبغي أن نبني ثقافة حوارية تُعلي من قيمة الاعتراف بالذات، وتحترم التنوع في الهويات الجنسية، وتُعامل الأفراد كشركاء في صناعة المجتمع لا كأعداء يجب استئصالهم. فالحوار الصريح، ورفض منطق القهر والإنكار، هما الطريق الوحيد لشفاء المجتمع وتحقيق انسجامه. كما أن إعادة تأهيل الخطاب الثقافي حول الهوية الجنسية، وتطوير برامج توعية تعتمد على الحوار والقبول، مع ضمان حماية الحقوق من خلال قوانين عادلة، تشكل خطوات جوهرية نحو مجتمع أكثر صحة وعدالة. يبقى السؤال الأساسي مطروحًا وبقوة: من الذي شذّ أولًا؟ الفرد أم المجتمع؟ هذا السؤال ليس دعوة للخضوع، بل بداية لفهم أعمق وأكثر مسؤولية تجاه أنفسنا ومجتمعاتنا، ولبناء مستقبل يمكن فيه للجميع العيش بحرية وكرامة.

***

الكاتب سجاد مصطفى حمود

منذ أن خطت أول قدم بشرية على تراب الأرض، لم يكن القبح مجرد تشوه في الخَلق أو خلل في التناسق، بل كان يُتمًا وجوديًا، يصرخ بين طبقات النفس، ويُنذر بانكسار في الميزان الأخلاقي. القبح ليس نقيض الجمال فحسب، بل هو ظاهرة بشرية تحمل في طياتها فلسفةً مغايرة، ومأساةً قديمة، وأحيانًا، تمردًا على ما يُظن أنه حسن.

وهنا هل بالإمكان ان نسأل القبح هل انت وليد ام انت صاحب هوية؟:

الإنسان لم يولد حاملاً القبح؛ بل وُلد حاملاً القابلية له، كما وُلد حاملاً القابلية للخير والشر. القبح ليس جينًا وراثيًا، ولا لعنة بيولوجية، انما انعكاس لتشوّهات داخلية قد تنشأ من التربية الفاسدة، من بيئة لا ترحم، من مجتمع يُقصي، أو من عقيدة تُشوّه لا تُطهّر.

ونرجع لمثالنا وهو؟

حين قتَل قابيل أخاه، لم يكن قبح الفعل في الدم المسفوك، بل في الدافع: الغيرة، الحسد، غياب الإدراك. ومنذ تلك اللحظة، انقسم الإنسان إلى وجوه متباينة، بعضها يُضيء، وبعضها يعبس في وجه الحياة.

إذا هل للقبح ملامح: من هيئة إلى سلوك؟

القبح لا يستقر في الأنف أو العين أو الثياب الرثة، بل يسكن في الكلمة الجارحة، في النظرة المتعالية، في الفعل الجائر. هو طيف واسع يلبس قناعًا تارة، ويكشف وجهه دون خجل تارة أخرى. هو فردٌ يستضعف الآخر، هو سلطة تبتلع الحقوق، هو صمتٌ في وجه الظلم.

وهنا يطرح العقل أسئلته: هل للتربية دور؟ بالتأكيد. فكلما شُوّهت القيم، كلما تجرأ القبح على الهيمنة. هل للمعتقد أثر؟ نعم، حين يُحرّف الدين عن مقصده الروحي، يُنتج تديّنًا مشوهًا يخلط الجمال بالقبح دون تفرقة.

حين يصبح القبح ردًا... لا اختيارًا

هناك لحظات يُضطر فيها الإنسان ليقترف القبح، لا لأنه يرغبه، بل لأنه يُجبر عليه ليحمي حقه، ليصرخ، ليقاوم، ليُسمع. القبح هنا ليس فضيلة، لكنه صيحة وعي مكسور، حين تعجز أدوات الجمال عن استرداد العدالة.

لكن القبح قد يُغري أيضًا: حين يُستسهل، حين يتحول من رد فعل إلى عادة، من موقف إلى هوية، يصبح قناعًا دائمًا لا يُخلع. واليك أمثلة عن القبح عبر العصور: من الملوك إلى المفكرين، من نيرون الذي أضرم النيران في روما وهو يعزف، إلى ليوبولد البلجيكي الذي حصد أرواح الكونغوليين دون رحمة، ومن فرعون الذي قال "أنا ربكم الأعلى"، إلى هتلر الذي جسّد القبح في قالب عنصري دموي... تتعدد ملامح القبح، لكنها كلها تتغذى من الإفراط في الأنا وغياب الضمير.

أما الفلاسفة، فقد قاربوه كلٌ بطريقته:

أفلاطون اعتبره انحرافًا عن المثال الأعلى.

أرسطو رأى أنه اختلال في الاتساق الطبيعي.

نيتشه دافع عنه حين قال إن الحقيقة غالبًا ما تكون قبيحة والجمال يخفيها.

الصينيون فسّروه كتوازن مفقود في الروح، وليس في الشكل.

في الدين: أين يقف القبح؟

جاء الإسلام بمنظومة تُفرّق بين القبح الخارجي والقبح الباطني، وكان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم رفيقًا بالخلق، حتى قال: "إذا ضرب أحدكم فليتجنب الوجه..."، رفضًا لربط القبح بخلقة الله. الإمام علي عليه السلام نثر حكمًا تلخص الفكرة كلها: "أكبر العيب أن تعيب ما فيك مثله"، إدانة لقبح النفاق، لقبح الازدواجية، لقبح الذين يرون أنفسهم فوق النقد. الدين لا يُجرّم القبح الشكلي، بل يرفض القبح الأخلاقي؛ وبهذا أُعليت قيمة النية والعدل والرحمة على أي مظهر أو هيئة.

القبح الفني: جمال من نوعٍ آخر

لوحات "غويا"، قصائد "بودلير"، روايات "دوستويفسكي"، كلها وظّفت القبح لا لتمجيده، بل لكشف الحقيقة وفضح الزيف. هنا يصبح القبح أداة جمالية، لكنه لا يتخلّى عن دوره النقدي، ولا عن وظيفته التحريضية.

القبح كمأساة إنسانية مستمرة

في مجتمعاتنا اليوم، ما زال القبح يُنتج ضحاياه بصمت: يُحتقر الفقير، يُهمّش المختلف، يُقصى ذو الإعاقة، ويُكرّم المتغطرس. القبح لم يمت، بل تطوّر، واكتسى ثوبًا مؤسسيًا يُشرعن التمييز.

خاتمة السرد: القبح ككاشف، لا كمشين

القبح، في النهاية، ليس شيئًا يُقصى فقط، بل يُفهم، يُواجه، يُكشف. هو مرآة للزيف، منبهٌ للضمير، وصفعة للذين اعتادوا النوم على وسائد الجمال المصطنع. ولعل أجمل ما يمكن أن يُقال عنه: أن القبح لا يخدع، وأن الاعتراف به أول خطوات التحرر.

***

بقلم: د. محمد صبي الخالدي - الكوفة

مفارقة البغل هي مثال فلسفي يُستخدم لتوضيح الصعوبات التي يمكن أن تواجهها في اتخاذ القرارات أو تحديد الخيار الأفضل. استخدام مفارقة البغل كمثال في السياسة قد يبدو مجحفًا، لأن البغل كحيوان لا يمتلك القدرة على التفكير المعقد أو اتخاذ القرارات ، الجهات الفاعلة تمتلك قدرات فكرية واستراتيجيات معقدة، مما يجعل وضعها مختلفًا عن حالة البغل انهم  يتعاملون مع ضغوط داخلية وخارجية معقدة، مما يؤثر على قدرتهم على اتخاذ القرارات بشكل فعال، القضايا السياسية تتعلق بحياة الناس ومعاناتهم، لذا فإن المقاربة التي تستخدم حيوانات كمثال قد لا تعكس الأبعاد الإنسانية والأخلاقية لهذه القضايا، بينما يمكن لمفارقة البغل أن تبرز بعض الجوانب من حالة عدم القدرة على اتخاذ القرار، فإنها لا تعكس تعقيدات السياسة وتحدياتها بشكل كامل من الأفضل التفكير في هذه الديناميات ضمن سياقها الإنساني والسياسي الأوسع.

عوامل تجعل اتخاذ القرارات معقدًة في الشرق الأوسط

المنطقة تضم مجموعة متنوعة من الثقافات والأديان، مما يزيد من التعقيدات الاجتماعية والسياسية. التوترات بين الجماعات يمكن أن تؤثر على القرارات السياسية والنزاعات التاريخية وتخلق بيئة من عدم الثقة وتزيد من صعوبة التوصل إلى حلول ،القوى الدولية والإقليمية تتدخل في الشؤون الداخلية للدول، مما يؤثر على السياسات المحلية ويزيد من الانقسام، الفساد المستشري في بعض الحكومات يؤدي إلى ضعف الثقة في القيادة ويعقد عملية اتخاذ القرار، الأزمات الاقتصادية يمكن أن تؤدي إلى تغييرات مفاجئة في السياسات، مما يجعل التخطيط طويل الأمد صعبًا مع وجود الجماعات المسلحة والتهديدات الإرهابية يجعل الحكومات مضطرة للتركيز على الأمن بدلاً من القضايا التنموية، الحركات الاحتجاجية والمطالب الشعبية تضغط على الحكومات، مما يجعل اتخاذ القرارات صعبًا في ظل الحاجة للتوازن بين المطالب الشعبية والمصالح السياسية ،التحالفات بين الدول والجماعات تتغير بسرعة، مما يجعل فهم المشهد السياسي أمرًا صعبًا ويعقد اتخاذ القرارات الاستراتيجية، تتداخل هذه العوامل بشكل معقد، مما يجعل اتخاذ القرارات السياسية في الشرق الأوسط عملية صعبة تتطلب التوازن بين مصالح متعددة وتحديات متنوعة ،عندما تكون الخيارات صعبة ومتساوية ،تشير المفارقتان إلى قضايا أعمق حول معنى الوجود والاختيار هل يعني ذلك أن جميع الخيارات المتساوية يمكن أن تعكس المفارقتان ؟  ان طبيعة البشر في مواجهة القرارات، ويمكن أن يؤدي التردد إلى نتائج سلبية مثل عدم القدرة على اتخاذ أي خطوة إلى الأمام تُعتبر نقطة انطلاق لمناقشات أعمق حول مفهوم الحرية، والمسؤولية، واتخاذ القرار. في السياقات الفلسفية تحديات مهمة لفهم الواقع تساعد في استكشاف حدود التفكير المنطقي.

المفارقات المنطقية والتطبيقات العملية

تساعد المفارقات في استكشاف قضايا الحقيقة، المعرفة، والوجود. تؤدي إلى تطوير نظريات فلسفية جديدة حول طبيعة اللغة والمعنى هذه المفارقات تسلط الضوء على كيفية تأثير السلوكيات الحيوانية على التفكير البشري وتساعد في فهم بعض القضايا الفلسفية والاجتماعية، تتناول المفارقتان فكرة حرية الإرادة وكيف يمكن أن تؤثر الخيارات المتساوية على القدرة في اتخاذ القرار. إذا كان لدى الحمار خياران متساويان، هل يعني ذلك أنه يملك حرية الاختيار؟ تسلط المفارقة الضوء على مشكلة التردد، حيث يمكن أن يؤدي التفكير المفرط في الخيارات المتاحة إلى عدم اتخاذ أي قرار. كيف يمكن للإنسان التغلب على التردد في مواقف مشابهة؟ تتعلق المفارقة بكيفية تقييم الخيارات. إذا كانت الخيارات متساوية في القيمة، كيف يمكن للفرد تحديد ما هو الأفضل؟ هذه القضية تتناول مسألة التفضيل الشخصي، كما تثير المفارقة تساؤلات حول معنى الوجود والاختيار. إذا كان الحمار غير قادر على اتخاذ قرار، هل يعني ذلك أن وجوده بلا معنى؟ تُظهر المفارقة كيف يمكن أن تؤدي العوامل العقلانية والعاطفية إلى صراع عند اتخاذ القرارات وكيف يمكن تحقيق التوازن بين التفكير العقلاني والعواطف في مواقف مماثلة؟ تثير المفارقة قضايا حول كيفية استخدام اللغة والمنطق في التعبير عن الخيارات. كيف يمكن أن تساهم هذه القضايا في توسيع فهمنا للقرار، الحرية، والوجود؟ مما يجعل مفارقة الحمار موضوعًا غنيًا للنقاش الفلسفي.

دور العوامل الداخلية في عملية اتخاذ القرار

مزاج الكائن يمكن أن يؤثر على قراراته. إذا كان الحمار يشعر بالتوتر أو القلق، قد يتردد أكثر في اتخاذ القرار الدوافع الداخلية مثل الجوع أو الرغبة في الاستكشاف يمكن أن تؤثر على الخيار الذي سيتخذه. إذا كان جائعًا وعطشانا، قد يميل لاختيار أحد الاتجاهين بشكل أسرع، التجارب السابقة تلعب دورًا كبيرًا، إذا كان الحمار قد تعلم من تجاربه السابقة أن كومة القش أفضل، فإنه يفضلها بناءً على تلك المعرفة ،مستوى الإدراك والفهم يؤثران على كيفية معالجة الخيارات، إذا كان الحمار قادرًا على تقييم الخيارات بشكل أفضل، فقد يتخذ قرارًا أكثر وعيًا .يمكن أن يكون لدى الكائنات تفضيلات شخصية تؤثر على اختياراتها، مثلًا، إذا كان الحمار يميل إلى نوع معين من التبن، فقد يفضل الكومة التي تحتوي عليه، الخوف من العواقب المحتملة لاختيار معين يمكن أن يؤدي إلى التردد، إذا كان الحمار يخشى من عدم الحصول على الطعام الكافي، فقد يؤثر ذلك على قراره، تُظهر هذه العوامل كيف يمكن أن تؤثر العوامل الداخلية بشكل كبير على عملية اتخاذ القرار، مما يجعلها معقدة ومتعددة الأبعاد، المعتقدات الشخصية والقيم الأخلاقية يمكن أن تؤثر على الخيارات، إذا كان الحمار يعتقد أن أحد الخيارات ليس جيدًا قد يتجنبه ،عندما يكون الكائن مرهقًا عقليًا، يكون أقل قدرة على اتخاذ قرارات جيدة، الإرهاق يمكن أن يؤدي إلى اختيارات غير مدروسة. القدرة على التفكير النقدي والتحليلي تؤثر على كيفية تقييم الخيارات، إذا كان الحمار قادرًا على تحليل الموقف بشكل أفضل، فقد يتخذ قرارًا أكثر وعياً التفكير. إذا كان الحمار يتوقع أن أحد الاتجاهين سيؤدي إلى نتائج أفضل، هذا التحفيز يمكن أن يكون دافعًا قويًا، العواطف مثل الخوف أو الفرح يمكن أن تلعب دورًا في اتخاذ القرار.. إذا كان الحمار مرنًا في تفكيره، قد يكون أكثر قدرة على تغيير رأيه بناءً على الظروف. تُظهر هذه العوامل أن عملية اتخاذ القرار ليست بسيطة، بل تتأثر بمجموعة من العوامل الداخلية التي تتفاعل مع بعضها البعض.

تفاعل العوامل الداخلية مع العوامل الخارجية

تتفاعل العوامل الداخلية مع العوامل الخارجية بطرق معقدة تؤثر على عملية اتخاذ القرار. العوامل الخارجية مثل البيئة أو المحفزات يمكن أن تؤثر على الحالة النفسية أو الدوافع الداخلية. على سبيل المثال، يمكن أن يؤدي وجود غذاء شهي إلى زيادة الدافع الداخلي للحمار لاختيار كومة معينة، العوامل الداخلية مثل القيم أو المعتقدات يمكن أن تؤثر على كيفية تفسير العوامل الخارجية. إذا كانت هناك كومة من التبن تبدو غير جذابة، قد يتجاهلها الحمار بناءً على قيمه أو تفضيلاته، العوامل الداخلية مثل المرونة العقلية تساعد الكائنات على التكيف مع العوامل الخارجية. إذا تغيرت الظروف، قد يغير الحمار طريقة تفكيره بناءً على ما يراه أو يشعر به. العوامل الخارجية مثل وجود حيوانات أخرى قد تؤثر على القرارات بناءً على العوامل الداخلية مثل القلق أو الثقة بالنفس، يشجع الضغط الاجتماعي الحمار على اتخاذ قرار مختلف عما كان سيفعله بمفرده في التجارب السابقة. إذا كان الحمار قد تعلم أن اتجاها معينا أفضل، قد يتفاعل بشكل مختلف عند مواجهتها مرة أخرى.

*مفارقة الحمار ومفارقة البغل هما مثالان على مشكلات فلسفية تتعلق بالاختيار والقرار.

مفارقة الحمار (حمار بوريدان)

تتعلق هذه المفارقة بحمار وجد نفسه بين كومة قش ودلو ماء الحمار لا يستطيع اتخاذ قرار بشأن أي اتجاه يذهب إليها لأنه لا يوجد سبب مميز في وعيه للاختيار. بسبب هذا التردد، ينتهي به المطاف بالموت جوعًا، مما يسلط الضوء على مشكلة اتخاذ القرار في ظروف مماثلة.

مفارقة البغل

تتعلق بمفهوم الهوية والتعريف، حيث يُعتبر البغل (نتاج تزاوج الحمار والفرس) مثالًا على الكائن الذي لا يمكن تصنيفه بشكل دقيق ضمن الفئات التقليدية. فهو ليس حمارًا ولا فرسًا، مما يثير تساؤلات حول طبيعة الهوية. إذا كان البغل لا يمكنه اتخاذ قرار بشأن الاتجاه الذي يجب أن يسلكه، فإن هذه المفارقة تُظهر كيف يمكن أن يؤدي عدم القدرة على اتخاذ القرار إلى شلل. كلا المفارقتين تطرحان أسئلة حول الإرادة الحرة والاختيار، لكن كل واحدة منهما تعالج جوانب مختلفة من هذه القضية.

***

غالب المسعودي

الحرية السوبر خلاّقة = إنتاج أفعالنا وهوياتنا وماهياتنا على ضوء رغباتنا ومعتقداتنا × إنتاج مسؤوليتنا وإبداعنا وتطوّرنا المستمر. وهذه الحرية سوبر خلاّقة لأنها فعّالة كفعّاليتها في إنتاج ماهياتنا وتطوّرنا. أما رغباتنا ومعتقداتنا التي من خلالها نغدو أحراراً فهي تلك التي ننتجها على أساس تفكيرنا المنطقي والموضوعي والعلمي لكي تحقق منفعتنا ومنفعة كلّ فرد. وبذلك الرغبات والمعتقدات الداعية إلى الصراعات والحروب غير مُعبِّرة عن أيّة حرية لأنها مضرة للذات والآخرين بضرر أيّ صراع و أيّة حروب. من هنا، معادلة الحرية السوبر خلاّقة تتضمن أيضاً أنَّ الحرية الحقة تكمن في إنتاج النافع والمفيد للذات والآخرين، وبذلك هي حرية أخلاقية بامتياز.

إن لم ننتج أفعالنا على ضوء رغباتنا ومعتقداتنا، فحينئذٍ أفعالنا نتائج رغبات ومعتقدات الآخرين وبذلك نكون سجناء الآخرين ورغباتهم ومعتقداتهم فنفقد حريتنا. لذلك الحرية كامنة في إنتاج أفعالنا على ضوء رغباتنا ومعتقداتنا تماماً كما تؤكِّد على ذلك معادلة الحرية السوبر خلاّقة القائلة بأنَّ الحرية = إنتاج أفعالنا وهوياتنا وماهياتنا على ضوء رغباتنا ومعتقداتنا × إنتاج مسؤوليتنا وإبداعنا وتطوّرنا المستمر. من المنطلق نفسه، إن لم ننتج هوياتنا وماهياتنا، نغدو حينئذٍ سجناء هويات وماهيات مُحدَّدة لنا من قِبَل الآخرين فنخسر حريتنا. لذلك الحرية كامنة أيضاً في إنتاج هوياتنا وماهياتنا كما تقول معادلة الحرية السوبر خلاّقة.

بالإضافة إلى ذلك، إن كنا أحراراً، فحينها نحن مَن ننتج أفعالنا وبذلك نصبح مسؤولين عن أفعالنا. من هنا، الحرية تتضمن بالضرورة المسؤولية. لذلك الحرية إنتاج المسؤولية كما تؤكِّد معادلة الحرية السوبر خلاّقة القائلة بأنَّ الحرية = إنتاج أفعالنا وهوياتنا وماهياتنا على ضوء رغباتنا ومعتقداتنا × إنتاج مسؤوليتنا وإبداعنا وتطوّرنا المستمر. تكمن الحرية أيضاً في الإبداع لأنَّ الإبداع إنتاج ما هو جديد ومغاير مما يحرِّرنا من التقاليد والنماذج الفكرية والسلوكية الماضوية. على هذا الأساس، الحرية إنتاج الإبداع كما تقول معادلة الحرية السوبر خلاّقة.

تكمن الحرية أيضاً في التطوّر المستمر. فإن كنا لا نتطوّر اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً باستمرار، فحينئذٍ نحن سجناء ما نحن عليه حالياً مما يتضمن خسران الحرية. لذلك الحرية كامنة أيضاً في إنتاج تطوّرنا المستمر تماماً كما تؤكِّد على ذلك معادلة الحرية السوبر خلاّقة. وكلّ البراهين السابقة تدلّ على مقبولية معادلة الحرية السوبر خلاّقة وصدقها.

***

حسن عجمي

في ظل المجتمعات المتعددة والمتنوعة، يرتكب خطأ استراتيجي، حينما يوجه الخطاب حين التوتر أو الأزمة إلى عقلاء الطوائف، بدل أن يتوجه الخطاب إلى عقلاء الوطن والأمة.. لأنه مهما كانت الظروف والأحوال، من الخطأ العميق   توجيه الخطاب إلى فئة من المواطنين، لأنه لا يؤسس إلى حالة أن كل طرف أو مكون يوجه خطابه إلى المكون الآخر.. فتضيع المسؤولية بين الخطاب والخطاب المتبادل.. 

والأجدى على المستوى الوطني توجيه الخطاب إلى عقلاء الوطن والأمة، لأنه هو الذي يحافظ على وحدة المجتمع بكل تعدده وتنوعه، والجميع يتحمل مسؤوليته الوطنية في كل القضايا الوطنية المطروحة.. فلا يوجد شيء خاص بعقلاء الطائفة السنية ويقابله أمر خاص بالطائفة الشيعية.. كل القضايا من اختصاص جميع المواطنين.. ويرتكب خطأ عميق بحق الوطن، حينما يوجه الخطاب والكلام إلى فئة خاصة من فئات وشرائح الوطن والمجتمع.. 

لأن الخطابات الخاصة تدشن لحالة وكأن الوطن منقسم على نفسه.. فكل قضايا الوطن تهم جميع المواطنين.. وليس ثمة قضية خاصة بمكون من مكونات الوطن دون بقية المواطنين.. 

أحسب أن الخطاب الشامل للجميع أجدى وأنفع للوطن والمواطنين على كل الصعد والمستويات.. 

وحين يصاب الوطن بأزمة ومشكلة، جميع المواطنين يتحملون مسؤولية العمل للخروج من هذه الأزمة والمشكلة.. فالمواطن بصرف النظر عن مذهبه أو منطقته أو قبيلته، يتحمل مسؤولية مباشرة عن كل القضايا التي تصيب الوطن.. ولا ريب أن الخطابات الفئوية غير لائقة وطنياً، كما أنها تقدم رسالة خاطئة لبقية المواطنين. ووجود قصور في ثقافة الناس على هذا الصعيد، ينبغي أن يعالج بالإصرار الدائم على أن كل قضايا الوطن هي من اختصاص واهتمام جميع المواطنين.. 

لأن المساهمة في تطييف قضايا الوطن وتوزيع هذه القضايا على عقلاء كل مكون، لا ينسجم ونظام الوحدة الوطنية.. إن الوطن واحد وإن تعدد وتنوع أهل هذا الوطن. 

وما دام الإنسان يحمل صفة أنه مواطن، فهو يتحمل مسؤولية وطنية مباشرة عن كل أمور وقضايا الوطن والمواطنين.. 

وهذه المسؤولية الوطنية التي يتحملها تترجم عبر مختلف الآليات الوطنية.. وما يخصنا في سياق هذا الموضوع أنه لا توجد قضايا وطنية خاصة بالطائفة الشيعية وقضايا أخرى خاصة بالطائفة السنية.. وإنما كل القضايا خاصة لجميع المواطنين. والخطاب الذي يوجه ينبغي أن يوجه للجميع بصرف النظر عن مذاهبهم ومدارسهم الفقهية والعقدية.. 

فالوطن أوسع من الطوائف، وليس من الحكمة الوطنية تقسيم المواطنين تبعاً لانتماءاتهم العقدية والمذهبية.. لأن هذا يؤدي إلى خلق حالة التحاجز النفسي والاجتماعي بين مختلف الأطياف والمكونات.. 

ومن الأجدى في كل الظروف والأحوال، تذويب كل الحواجز التي تمنع أبناء الوطن من التفاعل والتعاون بين بعضهم البعض.. فليس اختصاص أي مواطن أن يدافع عن مواطن دون آخر أو عن مكون دون بقية المكونات.. فكل مواطن معني بالدفاع عن كل المواطنين.. فلا نريد لوطننا الواحد أن يعيش حالة التحاجز بين أبناءه أو مكوناته.. وعلى ضوء هذه الاعتبارات، فإن توجيه الخطاب الإعلامي أو السياسي إلى مكون دون بقية المكونات يضر بمفهوم الوحدة الوطنية، ويرسل رسالة خاطئة لجميع المواطنين مفادها أن هناك قضايا في هذا الوطن من اختصاص هذه الفئة دون بقية الفئات، وأن هذه المسألة يتحمل مسؤوليتها هذا المكون دون بقية المكونات.. 

وعليه لا يوجد خطاب لعقلاء هذه الطائفة أو تلك، وإنما يوجد خطاب وطني لجميع المواطنين.. 

ووجود قضايا إدارية أو تدبيرية خاصة بهذا المكون أو ذاك، لا يشرع بناء خطاب خاص لهذه الفئة أو تلك.. ومن مصلحتنا جميعاً أن نعمل على سد كل الثغرات التي يتسرب منها نزعات التفريق بين المواطنين على أساس مذهبي أو قبلي أو مناطقي. من مصلحتنا جميعاً أن يكون خطاب الجميع لكل المواطنين، وأن تكون كل قضايا الوطن لكل أهل الوطن.. وأن نعمل معاً لطرد كل الخطابات والممارسات التي تفرق بين المواطنين لاعتبارات مذهبية أو قبلية أو مناطقية.. 

فالوطن لنا جميعاً، ومن واجبنا أن نعمل على حمايته وتطوير نظام العيش المشترك فيه.. 

ولا نريد لهذا الوطن أن يعيش حالة من الحروب المذهبية بين مكوناته وشرائحه. نريده وطناً لجميع المواطنين، والجميع يعيش فيه بعدالة ومساواة.. 

ووفق هذه الآلية نصون الوطن من كل المخاطر والتحديات، ونحميه من كل الآفات التي قد تصيب بعض المجتمعات التي تعمل على بث الكراهية بين المواطنين لاعتبارات دينية أو مذهبية أو قبلية.. 

ونرى أن الجميع يتحمل مسؤولية تطهير المناخ الوطني والاجتماعي من كل الميكروبات التي تضر العلاقة بين مكونات الوطن الواحد.. 

ويبدو من مختلف التطورات والتحولات التي تجري في أكثر من بلد، أن هذه المسألة ليست حالة ترفيه لصيانة أمن الوطن والمجتمع.. وإنما هي من ضرورات الأمن الاجتماعي والسياسي.. وإن التساهل في هذا الأمر، سينعكس سلباً على أمن الجميع.. 

وفي هذا السياق ندعو جميع المواطنين إلى الالتفات إلى النقاط التالية:  

1.  ضرورة العمل ومن قبل جميع مكونات الوطن، لتطوير نظام التعارف المتبادل بين جميع المواطنين.. لأننا نعتقد أن الجهل المتبادل بين المواطنين يؤسس لحالة من الجفاء والابتعاد عن بعضنا البعض.. آن الأوان أن يعمل الجميع لتطوير نظام التعارف بين المواطنين.. 

2.  مؤسسات الدولة التعليمية والإعلامية، تتحمل مسؤولية حماية نظام التعايش السلمي بين مختلف المواطنين.. وتجريح أية ممارسة يقوم بها أي مواطن تضر بحالة العيش المشترك بين المواطنين.. 

3.  إشاعة ثقافة الحوار والتسامح بين المواطنين، وتفكيك كل الثقافات العنفية التي يعيشها هذا المواطن أو ذاك.. لأن الأمن الاجتماعي والوطني، بحاجة إلى ثقافة التسامح والبعد عن كل عوامل التشنج التي تصيب بعض المجتمعات وتنقل مزاج المجتمع من حالة الاعتدال إلى حالة التطرّف والاقتراب من ظاهرة العنف.. 

***

محمد محفوظ

كرسي كرونوس هو مفهوم رمزي يعكس علاقة الإنسان بالزمان وكيفية تأثيره على حياتنا. يأتي اسم "كرونوس" من الأسطورة اليونانية، حيث كان يُعتبر إله الزمن. (“غالب المسعودي - كرسي كرونوس وثقافة الزمن”) في هذا السياق، يمكننا استكشاف عدة جوانب تتعلق بالزمن:

الزمن كعنصر حاسم في الحياة

الزمن هو المورد الوحيد الذي لا يمكن استرجاعه. كل لحظة تمر لا يمكن استعادتها، مما يزيد من أهمية كيفية استخدامنا له.

ثقافة السرعة

في العصر الحديث، أصبحت ثقافة السرعة تهيمن على حياتنا. يتوقع من الأفراد إنجاز المهام بسرعة، مما يؤدي إلى الشعور بالضغط والتوتر.

التأمل والتفكير العميق

على الرغم من ضغوط الزمن، فإن تخصيص وقت للتأمل والتفكير في اللحظة الحالية يمكن أن يمنحنا شعوراً بالراحة ويساعدنا على تقدير ما لدينا.

الزمن الاجتماعي

يختلف مفهوم الزمن من ثقافة لأخرى. في بعض الثقافات، يُعتبر الوقت خطياً، بينما يُنظر إليه في ثقافات أخرى على أنه دائري، مما يؤثر على كيفية تنظيم الحياة اليومية.

التكنولوجيا والزمن

التكنولوجيا غيرت بشكل جذري كيف نعيش ونتفاعل مع الزمن. من الجدول الزمني للمواعيد إلى التفاعلات السريعة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أصبحت حياتنا مرتبطة بشكل وثيق بالتكنولوجيا.

فلسفة الزمن

تناول الفلاسفة مفهوم الزمن من زوايا متعددة، مثل الزمن كحقيقة موضوعية أو كإدراك شخصي. هذه المناقشات تعكس عمق التفكير البشري حول طبيعة وجودنا.

الاستدامة والوقت

التفكير في الزمن يمتد إلى قضايا الاستدامة، حيث نحتاج إلى إعادة التفكير في علاقتنا بالموارد الطبيعية وكيفية تأثير أفعالنا على المستقبل.

"الجلوس على كرسي كرونوس يتيح لنا فرصة للتأمل في علاقتنا بالزمن وكيف يمكن أن نعيش حياة أكثر معنى وتوازنًا." (“كرسي كرونوس وثقافة الزمن - الحوار المتمدن” -غالب المسعودي) من خلال الفهم العميق للزمن وثقافته، يمكننا أن نعيد ترتيب أولوياتنا ونعيش بوعي أعلى.

تأثير التكنولوجيا على فهم الزمن في المجتمعات المتخلفة

تؤثر التكنولوجيا بشكل كبير على كيفية فهم الزمن وإدارته في المجتمعات المتخلفة:

تسريع التغيير

انتشار الهواتف الذكية والإنترنت ساهم في تسريع الوصول إلى المعلومات، مما يجعل الأفراد أكثر وعياً بالتغيرات العالمية ويعزز من توقعاتهم الزمنية. توفر الدورات التفاعلية عبر الإنترنت أو البرامج التعليمية يسهم في تحسين المهارات في وقت أقل، مما يعيد تشكيل مفهوم الوقت كمورد للتعلم.

تغير الأولويات

تكنولوجيا الإنتاج مثل الأتمتة تعزز من أهمية الكفاءة والسرعة، مما يغير طريقة تفكير الأفراد حول الزمن كعامل حاسم في النجاح الاقتصادي. قد تؤدي التكنولوجيا إلى زيادة الشعور بالضغط لإنجاز المهام بسرعة، مما يعكس ثقافة الوقت.

الزمن الاجتماعي

تتيح التكنولوجيا تواصلًا فوريًا، مما يعيد تشكيل العلاقات الاجتماعية ويدفع نحو مفهوم الوقت اللحظي، حيث تصبح اللحظة الحالية محورية. التقنيات الحديثة قد تؤدي إلى تباعد الأسر، حيث يقضي الأفراد وقتًا أطول على الأجهزة بدلاً من التواصل المباشر.

المفاهيم التقليدية للزمن

في المجتمعات المتخلفة، قد يتعارض المفهوم التقليدي للزمن (مثل الزمن الدائري) مع المفاهيم الحديثة (مثل الزمن الخطي)، مما يخلق توترات ثقافية. قد تؤدي التكنولوجيا إلى تغييرات في العادات اليومية، مثل كيفية تنظيم المواعيد أو الاحتفال بالتراث الثقافي.

فرص جديدة

تكنولوجيا مثل الزراعة الذكية أو التجارة الإلكترونية توفر فرصًا جديدة لتحسين مستويات المعيشة، مما يدفع الأفراد لإعادة التفكير في كيفية استخدام الزمن لتحقيق هذه الفرص التكنولوجيا في المجال الصحي قد تعزز من الوعي الصحي وتغير الأساليب التقليدية للرعاية، مما يؤثر على كيفية تقدير الزمن في سياق الصحة العامة. تؤثر التكنولوجيا بشكل عميق على فهم الزمن في المجتمعات المتخلفة، مما يعيد تشكيل القيم والعادات والتفاعلات الاجتماعية. من المهم أن يتم التعامل مع هذا التأثير بحذر لضمان الاستفادة من الفرص التي توفرها التكنولوجيا دون فقدان الهوية الثقافية أو القيم التقليدية.

مفهوم كرونوس وهوية المثقف الشرق أوسطي

كرونوس كما هو معروف إله الزمن في الأساطير اليونانية، ويرمز إلى الزمن الخطي الذي يسير في اتجاه واحد. يعكس هذا المفهوم كيف أن الزمن يُعتبر قوة حاسمة تؤثر على الحياة الإنسانية والتاريخ. (“غالب المسعودي - كرسي كرونوس وثقافة الزمن”) يُعتبر كرونوس أيضًا رمزًا للتغير المستمر، حيث يُظهر أن الزمن لا يمكن إيقافه أو التراجع عنه، مما يدفع الأفراد إلى التفكير في كيفية عيش حياتهم في ظل هذا الزمن المتواصل.

الهوية للمثقف الشرق أوسطي

المثقف الشرق أوسطي يعيش في منطقة غنية بالتنوع الثقافي والديني، مما يؤثر على هويته. يتفاعل مع مجموعة واسعة من الأفكار والتقاليد. تاريخ المنطقة مليء بالأحداث الهامة، من الاستعمار إلى الحروب الأهلية، مما يساهم في تشكيل الهوية للمثقف ويجعله يواجه تحديات الزمن.

التحديات المعاصرة

يعيش المثقف الشرق أوسطي في صراع دائم بين الحفاظ على التراث الثقافي والانفتاح على الحداثة. هذا التوتر ينعكس في أعمالهم وأفكارهم. مع دخول التكنولوجيا الحديثة، يتغير مفهوم الزمن وكيفية التفاعل مع العالم. يساهم ذلك في تشكيل هوية جديدة تعكس التحديات والفرص المعاصرة.

الزمن والذاكرة

المثقف الشرق أوسطي غالبًا ما يستند إلى الذاكرة الجماعية لتاريخ المنطقة، مما يؤثر على فهمه للزمن. يُعتبر الزمن ليس فقط خطيًا، بل أيضًا دائريًا يتكرر فيه الأحداث والمآسي. يتداخل الزمن الشخصي مع الزمن الجماعي، حيث يسعى المثقف إلى فهم هويته من خلال تجربته الفردية والمجتمعية.

التفكير النقدي

المثقف الشرق أوسطي يميل إلى التفكير النقدي، حيث يسترجع الأحداث التاريخية والنماذج الثقافية لفهم الزمن وتأثيره على الهوية يسعى المثقفون إلى إحداث تغيير إيجابي في مجتمعاتهم من خلال التعليم والنقاشات الفكرية، مما يعكس رغبتهم في إعادة تعريف الزمن وهويتهم الثقافية. مفهوم كرونوس يساهم في تشكيل هوية المثقف الشرق أوسطي، حيث يتفاعل مع الزمن من خلال تجربته الثقافية والتاريخية. هذا التفاعل يعكس التحديات والفرص التي تواجهها المنطقة، مما يجعل المثقف عنصرًا محوريًا في فهم الزمن وتطوير الهوية الثقافية في سياق عالمي متغير.

التحديات الرئيسية

التأثيرات العالمية قد تؤدي إلى تآكل الهويات الثقافية المحلية، حيث تتراجع الفنون والتقاليد التقليدية أمام الثقافات السائدة. المثقفون قد يشعرون بضغط للتكيف مع المعايير العالمية، مما يؤدي إلى فقدان الأصالة. صعوبة المنافسة مع الإنتاج الثقافي الضخم الذي تقدمه الشركات العالمية، مما يجعل الوصول إلى الجمهور المحلي تحديًا. الانجذاب إلى المحتوى الترفيهي العالمي قد يحد من الاهتمام بالمحتوى الثقافي المحلي. الانفجار الهائل في المعلومات الرقمية يجعل من الصعب تحديد المصادر الموثوقة والتمييز بين الحقائق والأكاذيب. التأثيرات السلبية للوسائل الرقمية على التركيز قد تؤثر على قدرة المثقفين على إنتاج محتوى عميق وذو معنى. في بعض الدول، تواجه الأفكار النقدية والآراء المختلفة رقابة شديدة، مما يعوق حرية التعبير. النزاعات السياسية والاجتماعية قد تعرقل المناقشات الثقافية وتؤدي إلى انقسامات داخل المجتمع. قد يواجه المثقفون صعوبة في الحصول على التمويل والدعم لمشاريعهم الثقافية، مما يؤثر على قدرتهم على الابتكار والإنتاج. تراجع الاستثمارات في الثقافة والفنون يحد من الفرص المتاحة للمثقفين. ثقافة الردود الفورية والتفاعل السريع تؤثر على جودة النقاشات الثقافية وتعمق الأفكار. المثقفون قد يشعرون بالضغط لتبني آراء شائعة أو شعبية على حساب آرائهم الشخصية. الأجيال الشابة قد تفضل الثقافات العالمية على حساب التراث الثقافي المحلي، مما يؤثر على استمرارية الهوية الثقافية. قلة الوعي بأهمية الثقافة والتراث قد تؤدي إلى تراجع مشاركة الشباب في الفعاليات الثقافية.

من هو كرونوس؟

كرونوس (Cronus) هو إله في الأساطير اليونانية، ويعتبر واحداً من تيتان. وُلد كرونوس من الجيل الثاني من الآلهة، وهو ابن أورانوس (السماء) وجيا (الأرض). يُعرف كرونوس بأنه كان حاكم الزمن، وغالباً ما يُصوَّر وهو يحمل منجلاً.

أبرز النقاط حول كرونوس

الأسطورة: في الأسطورة، قام كرونوس بإسقاط والده أورانوس، وأخذ مكانه كملك للآلهة.

الزواج والأبناء: تزوج من ريا، وأنجب منها العديد من الآلهة، بما في ذلك زيوس، هيرميس، وأثينا.

الخوف من النبوءة: كان كرونوس خائفًا من نبوءة تقول إنه سيتم الإطاحة به من قبل أحد أبنائه، فكان يأكل كل طفل يولد له حتى لا يواجه هذا المصير.

السقوط: تم الإطاحة به في النهاية من قبل زيوس، الذي أنقذ إخوته من بطن والدهم.

كرونوس يمثل فكرة الزمن والدورات الطبيعية في الحياة، وقد ارتبط اسمه أيضاً بكلمة "كرونولوجيا"، التي تعني دراسة الوقت.

***

غالب المسعودي

قراءة ثانية في واقع ما بعد السابع من أكتوبر

كتب الدكتور زكرياء سعيدي قائلا "معظم الكتابات التي نقدت العقل العربي وحللت بنيته ومكوناته تنتمي إلى فترة النكبة الأولى والثانية للهزيمة العربية ضد الكيان السرطاني.... واليوم أمام الفضيحة العربية المخزية تجاه ما يجري لإخواننا في غزة لم تعد تجدي تلك التحليلات شيئا ولم يعد لها قيمة معرفية، اليوم يجب الحفر أعمق في بنية العقل العقيم، هذا العقل المستقيل من أسباب بقائه الحقيقية" الوحي"، هذا العقل المتورط في محرقة القرن"، وبحكم تفاعلنا مع ما كتب فإننا نوسع الأطروحة لتشمل تشريح بنية العقل الإنساني جمعاء، فبعد أزمة كورونا والحرب -الروسية الأوكرانية- صار الحديث عن مصير إنساني مشترك أمرا مطروحا في الساحات الفكرية والثقافية.

وفي ظل ما يعيشه العالم اليوم من توجيه الحديث حول القضية الفلسطينية، وبما أن محورية التقييم اليوم ومعيار الحكم على العقل الإنساني، أصبحت في التعامل مع ما يجري في غزة، يمكننا أن نقول أننا بحاجة لقراءة ثانية لواقع العقل الإنساني، أو الحديث عن تقسيم عام للعقل البشري.

ولا أستثني في هاته التقسيمات عربي أو أوربي، مسلم أو غير مسلم ، أو كل ما يدعي أنه إنساني ، ولعل هذا ما رسينا عليه في أخر تصريح للفيلسوف الفرنسي إدغار موران الذي جاء فيه " صمتت العالم، صمتت الولايات المتحدة الحامية لإسرائيل، صمتت الدول العربية، صمتت الدول الأوروبية التي تدعي أنها تدافع عن الثقافة الإنسانية وحقوق الإنسان ، أعتقد أننا نعيش مأساة مروعة لأننا أيضا عاجزون، أنا مذهول، ومستاء من حقيقة أن الذين يمثلون أحفاد شعب تعرض للاضطهاد لقرون بسبب أسباب دينية أو عرقية أن الأحفاد من هذا الشعب الذين هم اليوم، صناع القرار في دولة إسرائيل، أنهم يمكنهم ليس فقط استعمار شعب كامل وطرده جزئيا من أرضه ورغبتهم في طرده بشكل نهائي من أرضهم، ولكن بالإضافة إلى ذلك بعد مجزرة 7 أكتوبر  انغمسوا في مقاتل هائلة حقيقية على سكان غزة وما زالو يستمرون بلا توقف ويستهدفون المدنيين والأطفال والنساء ، وأرى أن صمت العالم، وصمت الولايات المتحدة الحامية لإسرائيل، وصمت الدول العربية، وصمت الدول الأوربية التي تدعي أنها تدافع عن ثقافة الإنسانية وحقوق الإنسان، أعتقد أننا نعيش مأساة مروعة لأننا أيضا عاجزون أمام هذا الشيء الذي يتفشى وعلى الأقل شهادة ، الشيء الوحيد الذي يبقى إذا لا يمكننا المقاومة بشكل ملموس، فلنقاوم في أذهانناـ لا تدعوا أنفسكم يتم خداعها، ..... ".

وقد ارتأيت من قراءتي للواقع و متاباعاتي أن يكون كالآتي:

1-العقل التدميري: هو الذي يدمر غزة الأن وتمثله القوى الوحشية الكبرى: إسرائيل وداعمتها أمريكا.

2-العقل الاتكالي: وهو العقل الذي يعول على غيره في تحرير غزة وسكانها، ويناشد بهذا دوما.

3-العقل المستقيل: وهو العقل الذي اختار أن يواصل حياته كما هي غير أبه بما يحدث في قطاع غزة من قتل وتجويع، وتدمير، وإبادة ممنهجة، وتطهير عرقي...

4-العقل الحقير: وهو العقل الذي اختار بيع اخوانه تطبيعا من داخل الدول الإسلامية) وبيع الإنسانية الغزاوية (تمويلا بالسلاح وكل ما يحتاجه الكيان الصهيوني لإبادة الشعب الفلسطيني).

وقد أضاف لنا الدكتور زكرياء سعيدي بتفاعله نوع خامس وهو:

5-العقل المقاوم: وهو عقل ملحمي يصنع بطولات هذا الزمن ويعيد كتابة التاريخ ...وهو فيص التفرقة بين الحق والصهيونية.

وهو العقل الذي يعول عليه الأن في إحداث نهضة تغييرية لمصير الأمة الإسلامية ومصير الإنسانية جمعاء.

*** 

هاجر فرزولي

مسارات لا شعورية نحو النور الخفي

خدعة الإيمان: من المسلّمات إلى المساءلة

الإيمان ليس فعلًا حرًّا كما يُصوَّر، بل نتيجة تلقّي طويل، يجري في مستوى اللاوعي تحت تأثير البيئة التي نشأنا فيها. نحن لا نختار ما نؤمن به. نحن نُبرمج عليه، ثم نُقنع أنفسنا لاحقًا بأننا اخترناه. المشكلة ليست في الفكرة، بل في الطريقة التي تسرّبت بها إلى وعينا. الفرد لا يولد حاملًا لأي معتقد. كل ما يعتقده لاحقًا هو نتاج تراكم: أسرة، تعليم، إعلام، محيط، سلطة. إنه ينتمي قبل أن يختار، ويصدّق قبل أن يسأل، ويدافع قبل أن يفهم.

محور أوّل: الإيمان كتشكيل لاواعي

 السؤال الجوهري الذي يجب أن يُطرح على كل ما نؤمن به هو:هل هذه القناعة هي ثمرة تفكير واعٍ؟ أم أنها جزء من تشكيل ذهني سبق حريتنا في التفكير أصلًا؟ ثقافتنا لا تسمح للوعي بأن ينمو في بيئة نقدية، بل تُنشئه في سياق يُعيد إنتاج نفسه:

ما تعتقده الأسرة يصبح ما تؤمن به المدرسة. وما تصوغه المدرسة يصبح ما يُكرَّر على المنبر. وفي نهاية المطاف، يصبح "الإجماع" هو معيار الصحة. هكذا تتحول الثقافة إلى نظام مغلق يحرس نفسه من الداخل. كل انحراف عن هذا النظام يُوصف بالضلال، أو الشذوذ، أو الجهل. ولذلك يندر أن يسأل الناس أنفسهم: لماذا نعتقد ما نعتقده أصلًا؟ لأن السؤال ذاته صار محرّمًا.

محور ثانٍ: وهم اليقين وحقيقة التلقين

إنّ أخطر ما تصنعه الثقافة المهيمنة، أنها تمنحك شعورًا باليقين دون أن تمرّ بعملية التفكير. فتعيش الوهم مرتين:

1. بأن ما تؤمن به هو الحقيقة. 2. بأنك وصلت إليه بإرادتك. بهذا المعنى، ما نؤمن به ليس ضرورةً عقلية، بل نتيجة لاصطفاف قسري داخل معايير المجتمع. تسمّيها الجماعة "هوية"، لكنها في حقيقتها مجرد مجموعة قناعات غير مفحوصة، تم تلقينها مبكرًا.

 أخطر أنواع الإيمان هو الإيمان الذي لا نعرف كيف بدأ. لأن كل قناعة لا نستطيع تتبّع أصولها، لا يمكن الوثوق بها. وأي اعتقاد لا يُحتمل زعزعته، ليس جديرًا بالبقاء. إذا لم نسأل أنفسنا: هل اخترنا هذا الإيمان؟، فسنستمر في إعادة إنتاجه جيلًا بعد جيل، ونمنحه قداسة ليست له، ثم نقمع به غيرنا، ونكبت به شكوكنا.

خاتمة أولى: لحظة المساءلة

ما نؤمن به اليوم ليس دائمًا انعكاسًا لحقيقتنا، بل كثيرًا ما يكون بقايا تشكيلٍ لم نختره. التحرر لا يبدأ بإضافة أفكار جديدة، بل بإخضاع الأفكار الموروثة للمساءلة. فالمشكلة ليست في أن نؤمن... بل في أن نؤمن دون أن نعرف: لِمَ آمنّا؟ وكيف؟ ومتى؟

محور ثالث: التفكيك كشرط أولي للفهم

الوعي الحقيقي لا يبدأ من تراكم المعلومات، بل من القدرة على تفكيك المسلّمات. ذلك أن القناعة غير المفحوصة تمثّل عبئًا معرفيًا، لا ميزة فكرية. التفكير النقدي لا يتطلب عداءً مع البيئة، بل موقفًا مستقلًا عنها. والتفكيك لا يعني العدوان، بل تحرير الفكرة من شروطها المسبقة. حين تسأل: لماذا أؤمن بهذا؟ فأنت تمارس تفكيرًا غير اعتيادي. لأن السؤال يُهدّد البُنى الراسخة، ويكشف أن كثيرًا من معتقداتك ليست حقائق، بل نتائج تَطبيع ثقافي طويل.

محور رابع: لا تُقاس القناعة باليقين

اليقين شعور... وليس حجة. أن تشعر بأنك على حق لا يعني أنك كذلك. التاريخ مليء بيقينيات قادت شعوبًا بأكملها نحو الهاوية. فلا تجعل من شعورك بالأمان دليلاً على صحّة الفكرة. فأكثر الأفكار خطورة هي تلك التي تُشعرك بالأمان المطلق، وتمنعك من أن تسأل أصلها. إنّ وجود آلاف الناس الذين يشاركونك نفس الإيمان، لا يعني شيئًا سوى أن المنظومة التي صنعتهم، هي ذاتها التي صنعتك. التكرار لا يصنع الحقيقة... بل يُخدّر بها الوعي.

محور خامس: الحريّة لا تبدأ من الخارج

 لن يتحرر الإنسان، قبل أن يتحرر وعيه من شبكة المسلّمات التي زرعتها ثقافته فيه. فأنت لن تكون حرًّا، حتى لو سقطت كل السلطات من حولك، ما دمتَ خاضعًا للسلطة التي تعيش في داخلك. تلك التي جعلتك تؤمن بشيء دون أن تفكر فيه، وتدافع عنه دون أن تفهمه.

محور سادس: من الإيمان الموروث إلى الفهم المكتسب

إذا كان التفكيك هو الشرط الأولي للتحرّر، فإن إعادة بناء الذات لا تقل صعوبة عنه. الشكّ وحده لا يكفي. لا يُطلب من الإنسان أن يهدم فقط، بل أن يُعيد بناء وعيه على أساسٍ جديد، لا يقوم على الوراثة، بل على الفهم. كل فكرة تُبنى بعد التفكيك، يجب أن تمرّ باختبارين صارمين:1. هل اخترتها بحرّية؟2. هل تفهمها بعمق؟أي معتقد، قيمة، أو موقف، لا يمرّ بهذين الشرطين، يُعدّ استمرارًا للخداع الثقافي، مهما بدا مقبولًا. المسألة لا تتعلق بصواب الفكرة، بل بشرعية الطريق الذي وصلت به إليها. ليس المهم أن تصل إلى الحق، بل أن تصل إليه كحقّ، لا كإرث. الانتقال من الإيمان الموروث إلى الفهم المكتسب، يعني أن تبدأ من اللايقين المدروس لا من اليقين المحفوظ. أن تبني موقفك بعد الفحص، لا أن تردّده لأنه مألوف. وأن تختبر علاقتك بأفكارك، لا أن تنصاع لعلاقتك بمُلقنيك.

محور سابع: بناء الذات واسترداد العقل

 لا تُبنى الذات الحرة عبر الإجماع، بل عبر المواجهة. لن تتطور شخصيتك المعرفية إذا بقيت تبحث عن مَن يُوافقك، بدل أن تبحث عمّا يُوقظك. كل من يعيش داخل منطقة الأمان الفكري، سيظل يدور حول نفسه، ظانًا أنه يمشي للأمام. أنت لم تُخلق لتوافق، بل لتفهم. ولا قيمة لأي إيمان، إذا لم يكن مسبوقًا بفحص، ومحمولًا على فهم، ومفتوحًا على المراجعة. الوعي لا يُقاس بكثرة المعلومات، بل بقدرتك على رفض ما لم تفكر فيه بحرية. والفهم لا يعني أن تؤمن بشيء…بل أن تعرف لماذا لا تؤمن بغيره.

خاتمة المقال: ما بعد الصدمة

إن ما تؤمن به ليس دائمًا نتاجك، بل نتاج من سبقك. ما لم تتوقف لتُعيد تقييم هذا الإيمان، ستظل تعيش داخل وعي غيرك، باسم قناعتك أنت. نقطة البداية هي الشك، ونقطة التحوّل هي التفكيك، ونقطة النضج هي الفهم الذي تصل إليه بقرارك، لا بوصاية المجتمع. لا تورِّث أبناءك أفكارك. ورِّثهم الشجاعة ليسألوا إن كانت تستحق أن تبقى.

***

الكاتب: سجاد مصطفى حمود

 

أثينا مسقط رأس الفلسفة ومنتجع العلم وملهمة العالم حضارة راقية شعت بأنوارها شرقاً وغرباً. والفلسفة من حيث معناها اللغوي حب الحكمة واصطلاحاً البحث عن الحقيقة والوجود المطلق. (والحقيقة) هذه الكلمة التي دوخت الأنبياء والفلاسفة والمصلحين والقادة والأحزاب ليس الوصول إليها سهلاً وقلة هم الذين يبحثون عنها في نزاهة وتجرد من الأهواء سواء كانت قومية أو دينية أو مصلحية ولم ينحصر البحث عنها في شخص واحد أو في عصر من العصور فكل مراحل التاريخ كانت مفتوحة للبحث عنها وكل مكان في الأرض كان مسرحاً لتسليط الأضواء عليها وهكذا ظهرت الأديان من أجل إجلاء معالمها فكانت الأديان الوضعية (الأرضية) والتي كانت في الواقع وأكثر التصاقا به من الأديان التي نشأت بعدها والتي سميت (الأديان السماوية) لأن مشاكل الأرض لا تحل من السماء بل من الأرض فزادت الأديان السماوية الأمر تعقيداً والغموض غموضاً لأن هذه الأديان متناقضة إلى حد التقاطع ومتصارعة إلى حد الاقتتال بالسيف وهكذا عانت البشرية الشيء الكثير من الاضطهاد والاستعباد رغم أن هذه الأديان أخذت تمني الإنسان المحروم بما يعوضه في حياة أخرى موهومة ينعم فيها بحياة هانئة، انها مجرد وعود تخديرية ليس إلا.

أعود مرة أخرى للبحث عن الحقيقة فقد حاول بوذا حيث ترك حياة الملوكية والبذخ والعيش الهانيء وراح يجوب القفار والغابات للبحث عنها وكذا فعل سقراط وإفلاطون وأرسطو وابن رشد ثم ظهر ديكارت صاحب نظرية (الشك) وبعده فرنسيس بيكون الذي حدد العقبات التي تقف بوجه الإنسان للوصول غلى الحقائق بما أسماه بالأوثان الأربعة وهي: القبيلة والكهف والسوق والمسرح. فلم تستطع كل فلسفات العالم وأديانه وأحزابه الوصول إلى الحقيقة فما أصعبها.

وديوجنيس هذا فيلسوف يوناني عاش في الفترة بين (404 – 323 ق.م) وقيل أنه كان يسكن في برميل خمر ويتجول نهاراً في شوارع أثينا وبيده مصباح موقد وحين يسأله الناس عن جدوى هذا المصباح في وضح النهار وضوء الشمس الساطعة يكون جوابه: أنا أبحث عن الحقيقة.

ديوجنيس رفض كل شيء عن الواقع المحسوس وأنكر تعدد الآلهة وجميع العبادات الدينية وقال عنها أنها مخترعات بشرية محضة زائدة عن الحاجة (كما أنه وجماعته من المدرسة الفلسفية التي ينتمون إليها احتقروا الغنى وزهدوا في اللذائذ واعتبروا العمل الشاق المؤلم أمور نافعة للإنسان تساعده على تحقيق الفضيلة ولم يحترموا القوانين والأعراف التي درج عليها أبناء زمانهم وكانوا يرتكبون ما يتحرج الناس من فعله من غير خشية ولا احتشام وكانوا في ذلك كالكلاب فأطلق عليهم أهل زمانهم أسم الكلبيين) مباديء الفلسفة – زايوبرت، ترجمة أحمد أمين، ص94، الهامش.

فإذا كانت الحقيقة لا تدرك بسهولة ويسر وعجز عن ذلك فلاسفة وأديان فليس من حق يونانيين آخرين أن يضحكوا أو يبكوا على الحالة التي وصلت إليها الإنسانية في تخبطها وفي عبثها اللامجدي عن الحقائق الضائعة فالفيلسوف اليوناني ديموقريطس (460 – 370 ق. م) اعتبر الحالة البشرية مضحكة باطلة فما ظهر بين الناس يوماً إلا وضحك والسخرية ملء وجهه فسمي بذلك الفيلسوف الضاحك.

إما الفيلسوف اليوناني هرقليطس (540 – 480 ق. م) فقد أشفق على الحالة البشرية وعطف عليها فما انقشع الأسى عن وجهه يوماً وما خلت عيناه من الدموع فاستحق لذلك أن يسمى الفيلسوف الباكي.

وأخيراً فإن الحقيقة لا تدرك بالوحي والإلهام وإنما تدرك بالعقل فالحقيقة موجودة ولكنها غائبة وراء الكواليس ولو اجتمعت كل فوانيس العالم للبحث عنها.

***

غريب دوحي

مقدّمة: إنّ العلاقة بين الدّين والعصر علاقة معقّدة وديناميكيّة، تتأثّر بعوامل تاريخيّة واجتماعيّة وثقافيّة متعدّدة، حيث يمثّل الدّين، بقيمه وتشريعاته، إطارا مرجعيّا للإنسان المسلم المعاصر، بينما يمثّل العصر بكلّ ما فيه من تطوّرات علميّة وتقنيّة وحضاريّة، تحدّيا يفرض على الدّين التّجديد والاجتهاد في الفهم والتّطبيق، فالتّقدم العلمي والتّكنولوجي الكبير في مجالات حسّاسة مثل علم الأحياء والفيزياء الفلكيّة يقدم تفسيرات للعالم تختلف عن تلك التّي تقدمها التّفسيرات التّقليديّة للنّصوص الدّينية، ومن جهة أخرى فالعولمة وتزايد التّواصل بين الثّقافات المختلفة تُفضي إلى ظهور وجهات نظر متعدّدة ومتنوعة حول القضايا الأخلاقيّة والدّينيّة، ممّا قد يُثير التّساؤلات حول صحّة المعتقدات الرّاسخة، إضافة إلى ذلك، تُثير قضايا مثل الحقوق المدنيّة، وحقوق المرأة، والمساواة الاجتماعيّة نقاشات حادة حول تفسير النّصوص الدّينية وتطبيقها في سياقات عصريّة.

ويرى البعض تضاربا حتميّا بين القيم الدّينية الثّابتة ومتغيّرات العصر السّريعة، وفي المقابل يؤكد البعض الآخر على إمكانيّة التّكامل والانسجام بينهما، فهل نحن أمام صراع لا مفر منه، أم أنّ التوفيق بين الدّين والعصر ممكن بل وضروري لبناء مستقبل أفضل؟

- الدّين والتّحدّيات:

يواجه الدّين في العصر الحديث تحدّيات كبيرة، أبرزها:

- العلمانيّة:

صعود العلمانيّة وتأثيرها على المجتمعات، ممّا أدى إلى فصل الدّين عن الدّولة في العديد من البلدان، وتقليص دور الدّين في الحياة العامّة.

- الحداثة:

 ارتبطت الحداثة بتغيّرات اجتماعيّة واقتصاديّة وثقافيّة كبيرة، مثل الثّورة السّياسيّة والعلميّة والصّناعيّة خاصّة التّي أدّت إلى التّطوّرات العلميّة والتّكنولوجيّة التّي غيّرت نظرة الإنسان إلى العالم، وأثارت تساؤلات حول العلاقة بين الدّين والعلم.

- العولمة:

حيث يشهد العالم انفتاحا غير مسبوق على العديد من الثّقافات الأخرى، هذا الانفتاح يطرح تساؤلات حول قدرة الثّقافة العربيّة على الحفاظ على هويّتها الثّقافية في مواجهة المد العولمي المتدفّق، الذّي يسعى إلى إذابة الفوارق الثّقافية في قالب واحد.

- التّطرّف:

 ظهور حركات متطرّفة تستغل الدّين لتبرير العنف والإرهاب، ممّا أدّى إلى تشويه صورة الإسلام، فالتّطرّف الدّيني هو ظاهرة معقّدة ومتعدّدة الأوجه، تتجلّى في تبني أفكار وسلوكيّات متطرّفة مرتبطة بالدّين، ممّا يؤدي إلى العنف والإرهاب.

في المقابل، يوفّر العصر الحديث فرصًا للدّين، منها:

- التّواصل:

سهولة التّواصل عبر الإنترنت ووسائل الإعلام، ممّا يتيح للدّين الانتشار والتّأثير في المجتمعات.

- الحوار:

إمكانية الحوار والتّفاعل مع الثّقافات والأديان الأخرى، ممّا يعزز التّفاهم والتّعايش السلمي.

- التّجديد:

الحاجة إلى تجديد الفكر الدّيني والاجتهاد في فهم النّصوص وتطبيقها على الواقع المعاصر.

- الإصلاح:

 فرصة لإصلاح المجتمعات الإسلاميّة وتطويرها، من خلال تطبيق قيم الإسلام في مجالات الحياة المختلفة.

- التّجديد والاجتهاد

 التّجديد والاجتهاد هما مفتاحان أساسيّان لفهم العلاقة بين الدّين والعصر، فالتّجديد ليس مجرد تغيير في الأساليب والوسائل، بل هو تجديد في الرؤى والاستيعابات الدّينية، بحيث يهدف إلى تجاوز الأنماط التّفسيرية التّي تبعد الإنسان عن الالتزام بقيم الدّين وتشريعاته، والاجتهاد هو بذل الجهد في استنباط الأحكام الشّرعية من مصادرها الأصليّة، مع مراعاة الواقع المعاصر ومتطلباته.

الإسلام دين ودولة؟

شعار "الإسلام دين ودولة" أثار جدلا واسعا، ويرى البعض أن هذا الشّعار حديث، نشأ مع تجربة التّحديث والاندماج في النّظام العالمي الحديث، ويرتبط بالإسلام السياسي، بينما يرى آخرون خاصة من التّيّار الإسلامي السّياسي، أنّ هذا الشّعار أصيل، وأنّ الجديد هو في المنطوق فقط .

- دور الدّين في الحياة:

يلبيّ الدّين حاجات المجتمع العاطفيّة والفكريّة والماديّة، ويجيب عن أسئلة العصر من جهة أخرى، ففي ظلّ التّقدم السّريع والتّحولات الاجتماعيّة المتسارعة، يُمكن للدّين أن يُوفر إطارا أخلاقيّا قويّا، يُساعد الأفراد على مواجهة الضّغوط النّفسيّة والاجتماعيّة، ويُشجعهم على التّضامن والتّعاون، كما يُمكن له أن يُسهم في تعزيز القيم الإنسانيّة الأساسيّة، مثل العدالة والرّحمة والتّسامح، مما يُساعد على بناء مجتمعاتٍ أكثر تماسكا.

 أضف إلى ذلك، أنّ التّفسيرات الحديثة للنّصوص الدّينية تُحاول التّوفيق بين القيم الدّينيّة الثّابتة ومتطلّبات العصر، من خلال التّأكيد على جوهر الرّسالة الدّينية وتكييف تطبيقها مع السّياقات المفروضة.

- تحقيق التّوازن بين الدّين والعصر:

وذلك يتطلّب:

- الفهم الصّحيح للدّين: أي فهم جوهر الدّين وروحه، والتّمييز بين الثّوابت والمتغيّرات وذلك بالرّجوع إلى المصادر الإسلاميّة الأصيلة لفهم جوهره الذّي يتشكّل منه الإسلام ونموذجه المعرفي.

- الوعي بالواقع: من خلال إدراك التّطورات والتّغيرات التّي يشهدها العالم، والتّفاعل معها بإيجابية، مع الحفاظ على الهويّة.

- التّجديد والاجتهاد: وذلك من خلال تجديد الفكر الدّيني والاجتهاد في فهم النّصوص وتطبيقها على الواقع.

- الوسطيّة والاعتدال: بتجنب الغلوّ والتّطرف، والتّمسك بالوسطيّة والاعتدال، فأساس الإسلام الوسطيّة والتّي تعني العدل والخيريّة، قال تعالى (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ) (البقرة 143).

- التّواصل والحوار: من خلال الانفتاح على الآخرين، والحوار معهم، وتعزيز الّتفاهم والتّعايش السلمي.

غير أنّ التّوفيق بين الدّين والعصر أمرا سهلا في ظاهره صعبا تطبيقيّا، حيث يتطلب حوارا مستمرّا وعميقا بين رجال الدّين والعلماء والمفكرين، مع مراعاة السّياقات الثّقافيّة والاجتماعيّة المختلفة، فالتّعصب الأعمى وغياب الحكمة لأيّ منهما يُؤدي إلى نتائج سلبيّة.

الخلاصة:

إنّ العلاقة بين الدّين والعصر علاقة مستمرة ومتجدّدة، حيث يوفر الدّين للإنسان إطارا مرجعيّا للعيش في الحياة، بينما يمثل العصر تحدّيا يتطلّب التّجديد والاجتهاد في الفهم والتّطبيق، وتحقيق التّوازن بين الدّين والعصر يتطلب فهما صحيحا للدّين ووعيا بالواقع، وتجديدا واجتهادا، ووسطيّة واعتدالا، وتواصلا وحوارا.

***

د. سلوى بن أحمد - تونس

"النجاح ليس في ألا تخطئ، بل في ألا تكرر نفس الخطأ مرتين." جورج برنارد شو

مفتتح: عندما نناقش حال الثقافة العربية راهنا، نحن في الحقيقة نلاحق واقع المثقف، أو أولئك الذين يعيشون تأنيب الضمير أحيانا والنكوص أحيانا أخرى أو الانفصام الجزئي او التام عن ماهية الثقافة في شخصياتهم...في مجتمعاتنا العربية المعاصرة، ظل المثقف محط الاستهزاء، وأحياناً محطّ نقد حاد، ليس فقط بسبب محتوى فكره وأطروحاته وتقلباته التي لا تنتهي بين فصول الواقع، وإنما بسبب "العورات" الفاضحة في واقع معاصر يعصف بالقيم والتقاليد والمفاهيم. هذه العورات ليست مجرد نواقص سطحية أو زلات سلوكية أو نزوات ما بعد الثلاثينيات، بل تشكل عقداً مركبة من التصدعات البنيوية في رمزية المثقف التي تحبس المثقف في دائرة مغلقة من التبعية، الانعزال، التجزئة، فقدان المصداقية والنكوص، مع إغراءات عابرة للسطحية والابتذال.

لذا خصصت هذه السطور لمقاربة قراءة عابرة تكتشف جذور هذه العورات التي جعلت المثقف وهما في مخيال الإنسان العربي، مع محاولة تقديم تصور استراتيجي لإنقاذ المثقف العربي من سوءاته ونكساته ورهاناته النابعة من نرجسيته المرضية، حتى يستعيد قوته لإحداث نقلة حضارية حقيقية، عبر خطاب ثقافي منفتح على الواقع ومدرك لحيثياته ومتطلع لمستقبل مشرق للإنسان العربي المتعطش للكرامة والعدالة.

أولى عورات المثقف في المجال العربي، هي التبعية التي لطالما غذت تقوقع المثقف في أطر صلبة لا تسمح له بالتحرر بنفسه من رهانات السلطات المستحكمة في واقع مجتمعه وعالمه الكوني، مما أثر على استقلالية آرائه، حيث يتجنب المثقف الاصطدام مع الخطوط الحمراء حفاظًا على مصالح شخصية أو مركز اجتماعي. هذا التواطؤ أنتج خطابات عقيمة بعيدة عن النقد البنّاء.. تحكمها علاقات معقدة بمراكز النفوذ، حيث يتنازل المثقف عن استقلالية فكره مقابل حماية مصالحه الشخصية أو مكانته الاجتماعية، لذلك المدخل هنا هو التحرر الداخلي الذي لا يكون إلا استناداً إلى قوة من الداخل، قوة تمثل التزاماً حقيقياً بالقيم والمعايير الفكرية التي يؤمن بها، وليس التي يتاجر بها. المثقف العربي اليوم مطالب بأن يعيد تأسيس مركز ثقته الذاتية بعيداً عن حسابات التفاهة والهشّاشة التي تتقلب بتقلب الأهواء الأيديولوجية وهذا ما نجده في تمثلات المثقف عند ادوارد سعيد و"المثقف والسلطة" عند كل من ماكس فيبر وميشال فوكو أو كما يرى أنطونيو غرامشي، بأن خطورة المثقف تكمن حين يكون أداة في يد الطبقات المهيمنة لتثبيت أيديولوجيتها و"الهيمنة" عبر التعليم، الإعلام، والدين، وليس فقط عبر السياسة المباشرة. المثقف العضوي في المقابل، هو الذي يرتبط بحركة اجتماعية تغييرية ويناضل من داخل المجتمع لبلورة فكر نقدي يُحدث قطيعة مع "الحس المشترك" الساذج والمتناقض، ويعيد للمجتمع وعيه الموحد"1.

تصوف المثقف:

كلما انعزل المثقف عن مجتمعه، وانسحب نحو صومعته الزجاجية لا يمكن له أن يؤثر في حلحلة هموم الواقع المعاش. هذه العزلة هي التي أنتجت في سبعينيات القرن الماضي خطابا نخبويا منفعل نرجسي ولا تزال تعيد انتاجه الى يومنا هذا، مما اوقعها في مأزق سوء الفهم وعدم القدرة على التواصل مع الجماهير على طول العالم العربي خصوصا مع شباب مفعم بالسرعة والنقد والنانو واقعية، فأصبحت أفكار المثقف كرسائل في زجاجة في بحر واسع لا تُلتقط إلا نادراً وبعد فوات الاوان. لذلك على المثقف أن يخطو خطوات مباشرة نحو الناس، أن ينفتح على تجربتهم، يستوعب لغتهم، ويجعل من فكره جسراً حياً يربط النظرية بالتطبيق والخطاب بجدليات الواقع والوعي بالمستقبل والرؤية بالقيم، وتجديد نظراته الأكاديمية لتقترب من هموم الناس وتفكك شفرات الأزمات، لابد للمثقف أن ينعزل عن أبواق الأيديولوجيات، سواء كانت يسارية أو يمينية أو دينية أو ليبرالية وليس عن مجتمعه وطبقاته الهشة ثقافيا وسياسيا واقتصاديا، لان الاستغراق في اروقة الادلجة يفقد المثقف موضوعيته وقدرته على إنتاج خطاب نقدي مستقل، وينشغل في معارك اصطفاف أيديولوجي بدل خوض المواجهات الفلسفية والفكرية الهادئة والخلاقة للمعنى الحضاري. المثقف المتصوِّف الذي يلوذ بالعزلة—زاهدًا في الواقع، عازفًا عن التجديد—يترك جماهيره تتخبط في العتمة بلا دليل. وإذا ما جمد تفكيره النقدي، وأغلق نوافذ روحه على رياح العصر ومتغيراته، صار خطابه طقسًا باهتًا في معبد مهجور. تصوف المثقف إذًا ليس صفاءً، بل انسحابٌ عقيم من معركة الوعي، وحرمان المجتمع من بوصلة كان يؤمل أن تهديه إلى حقه في الفهم والمعرفة، وتجدد حياته في لحظة عطش لمياه الكرامة والعدالة.

عليه ان ينزل من صومعته ليسترجع دوره كمرآة تفضح الأخطاء وتتبنى الإصلاح دون الوقوع في مطبات النضال الأيديولوجي وصراعاته الوهمية. لأن النقد الحقيقي لا يأتي من خلف خطوط الانتماءات المغلقة، بل من مواقف إنسانية وفكرية رصينة.

العُجب الإعلامي للمثقف

بورصة الإعلام المعاصر تتغذى على إدمان الشهرة كمخدر للوعي والأدوار والإصلاحات، لأن معظمه مؤدلج، المثقف هو الهدف الأول بالنسبة لوسائل الاعلام كسلطة عبر الرأي العام، حيث تحولت القضية الفكرية للمثقف عبر العالم العربي إلى ميدان صراع للحصول على التريندات والمتابعات والاعجابات، فاستصغرت الأفكار عميقة المحتوى أمام بريق السطحية والاستعراض والتفاهة. هذا ما حمل المثقف على التخلي عن عمقه وموثوقيته مقابل إشباع رغبة نفسية عابرة في التقدير الاجتماعي الفوري كراقصة أفكار في ملهى سفهاء القوم. هكذا في ظل هيمنة وسائل التواصل الاجتماعي، طغى الاستعراض على العمق، وأصبح المثقف أسير للرغبة في الشهرة والترند، وصارت كتابات وخطابات أشباه المثقف سلعة سريعة الاستهلاك تفتقد الأصالة والتحليل المعمق، وقايض المثقف جرأته مقابل إعجابات أو متابعات، لقد تم استغواء المثقف لينزلق في مستنقع الشهرة السطحية والعجب المميت وحتى يستعيد هيبته الفلسفية وحجمه التأثيري ومناعته القيمية عليه أن يتجاوز نرجسيته ويتخلص من أغلال العجب الإشهاري لوسائل الاعلام ليتمكن من فك التناقضات التي اوقعته في أوحال الزعم بلا أثر..

مأزق التجديد عند المثقف

المثقف عندنا أصبح عصابي أسير عوراته التي جعلته حبيس الصدمة (كما يعبر بعضهم عن نكسة 1968م بينما النكسة تعود لما بعد الموحدين أو قبل ذلك بكثير)، في قلب هذه العورات تكمن قضية عبر عنها شارل بيبان في كتابه الأخير بعنوان " العيش مع ماضينا"2 أنه بإمكاننا أن نقيم علاقة حرة وخلاقة مع موروثنا، بدلا من الحداد المرضي البارز في ازدواجية الفكر والممارسة، حيث يرى المجتمع تناقضات صارخة بين دعوات المثقف القيمية وممارساته التي غالباً ما تكون نقيضة لها تماما، مما أفقده كرامته ومصداقيته وجعله حبيس أعراضه النفسية والاجتماعية التي عطلت مسار حياته الذاتي والوظيفي كمؤثر في حاضر مجتمعه ومستقبله. هذا المثقف الذي يظل أسير مقولات آبائه الفكريين أو لخطابات تقليدية عفا عنها الزمن، ولا يواكب التحولات المذهلة الاجتماعية والاقتصادية والتكنولوجية الرقمية، ليس بمقدوره مخاطبة الأجيال الجديدة بلغة مفهومة أو حلول عملية، فالواقع العربي لا يمكنه أن يتجدد ما لم يبدأ المثقف بالتجديد بنفسه قبل مخاطبة الآخرين، يحتكم للفعل قبل القول، فتصير كلماته جسوراً لا نيازك قادمة من ماضيه الفكري لتهدم لا لتطور او تجدد الرؤية والمنهج والآفاق.

فقدان القدرة على التنوير نابعة من جمود التجديد في حقبة زمنية من الفكر الإنساني، فالخطابات الفكرية بعمومها لدى المثقف العربي، ظلت سجينة لنماذج وأفكار سابقة تفتقد إلى المرونة التي تسمح بمواكبة التحولات الاجتماعية والتكنولوجية والثقافية الراهنة. الخطاب الثقافي للمثقف لا يمكنه التألق والحضور الفعلي ما لم يعكس استشراف المستقبل بفهم شامل للواقع ومخاطبة حقيقية لاحتياجات الإنسان العربي المتجددة، كما عبر عنها مالك بن نبي في كتابته النقدية بخصوص مشكلة الثقافة وأيضا البروفسور مهدي منجرة والدكتور عبد الوهاب المسيري... وغيرهم من العرب الذين لم يتوقفوا عن التحذير من انفلات الصدمة واغتراب المثقف عن دوره في كل زمن قادم..

عورات المثقف في ذاته هي أساس الإصلاح والتجديد، باعتراف المثقف بهذه العورات المخزية، والعمل على مراجعة الذات، وتجديد روح النقد واستقلال الموقف وصدق الفعل ليستعيد المثقف مكانته كضمير للمجتمع الحي وناقدًا يُصلح لا يُبرر، وإلا سيفقد المثقف مسؤوليته الحضارية وكرامته وعدالته الاجتماعية للأبد، ويدفع الناس للتشكيك بدور الثقافة في الإصلاح الاجتماعي والتنوير الفكري.. وعليه لإرساء قواعد ثقافة ومشروع خطاب جديد يتجاوز هذه العورات، لا بد من تبني النقاط الآتية:

- استعادة المثقف لطبيعته المستقلة: عبر تأسيس مؤسسات ثقافية وأكاديمية مستقلة تحمي الحرية الفكرية وتدعم البحث النقدي المستقل بعيداً عن الضغوط السياسية والاقتصادية.

- خلق فضاءات تواصل مع المجتمع: بإعتماد أساليب تواصل حديثة وجذرية بين المثقف والفئات الشعبية، من خلال تعليم الثقافة اللغوية والرقمية والمدنية، وإشراك المثقف في مشاريع مجتمع مدني تلامس الواقع.

- هجران الأيديولوجيات المستبدة: تشجيع حوار تعددي بين مختلف الاتجاهات الفكرية، بعيدا عن تبنّي أصطفافات جامدة، مع التركيز على القضايا الإنسانية الكبرى التي تجمع دون تفرقة.

- ضبط الاسهام الإعلامي: بدعم مبادرات إعلامية ثقافية تقدم محتوى معمق وموضوعي دون الانزلاق للسوقية والبحث عن الشهرة الزائفة.

- تفعيل مبدأ الإحسان ودور الابداع: عبر برامج ممارسات التفكير النقدي للمثقف حول إيجاد أوجه القصور في سلوكه.

- تجديد التفكير النقدي المستدام: على المثقف العربي الاعتراف بأنه عبر التحول المتسارع في استخدام الأدوات الرقمية، أصبح الوعي الإنساني مترابطا بشكل غير مسبوق مع العالم التكنولوجي، حيث أثرت الأجهزة الذكية، والإنترنت، ووسائل التواصل الاجتماعي على طريقة تفكيرنا وتفاعلنا مع العالم من حولنا. يمكن تقسيم تأثير التكنولوجيا على الوعي إلى مستويين: مستوى الوعي الفردي ومستوى الوعي الجماعي3. مما يستدعي تجديد يواكب تسارع التحولات والرهانات بخصوص دور ومسؤولية المثقف كمفكر ناقد بشكل دينامي مستدام..

هذه النقاط بمثابة دعوة للمثقف العربي نحو سبيل إنعاش الوعي الثقافي العربي وترك بصمة تنويرية تليق بتاريخنا وحاضرنا ومستقبلنا. سبيل الارتقاء يبدأ عبر تحرير المثقف من عوراته الذاتية والتاريخية، ليكون أداة فعالة في بناء مجتمع عربي يحترم التعدد الثقافي، يضمن الكرامة لكل أفراده، ويحتضن الأمل في غدٍ أفضل من خلال خطاب ثقافي واقعي وحيوي ينبض بالكرامة والعدالة.

***

مراد غريبي

.................

1- من مقال "المثقفون" لأنطونيو غرامشي .

2- ترجمة الدكتور مصطفى حجازي، الصادر عن المركز الثقافي العربي سنة 2024م.

3- الوعي في العصر الرقمي، البروفسور فارس البياتي، ص59، سنة 2024م

على نظريات العلماء في الحقبة المعاصرة، دراسة مقارنة بين العلم والفلسفة

مقدمة: في الحقبة المعاصرة، تتسم العلاقة بين العلم والفلسفة بديناميكية معقدة، حيث تتفاعل التطورات العلمية السريعة مع التأملات الفلسفية العميقة حول طبيعة المعرفة، الأخلاق، والهوية البشرية. يقرأ العلماء أنساق الفلاسفة لفهم الأسس النظرية والأخلاقية لأبحاثهم، بينما يعلق الفلاسفة على النظريات العلمية لاستكشاف دلالاتها الوجودية والاجتماعية. تُبرز هذه العلاقة التوتر بين العلم، بوصفه منهجًا تجريبيًا يركز على القياس والتنبؤ، والفلسفة، بوصفها تأملًا نقديًا يسعى إلى فهم السياقات والمعاني. تهدف هذه الدراسة إلى تحليل هذا التفاعل في الحقبة المعاصرة من خلال مقاربة مقارنة، تركز على أمثلة محددة من العلوم (مثل الفيزياء، علم الأحياء، والذكاء الاصطناعي) وتعليقات الفلاسفة المعاصرين عليها، مع الإشارة إلى كيفية استلهام العلماء من الأنساق الفلسفية واستلهام الفلاسفة من النظريات العلمية. تسعى الدراسة للإجابة عن السؤال: كيف يُشكل التفاعل بين العلم والفلسفة في الحقبة المعاصرة فهمنا للمعرفة ومستقبل الإنسان؟

1.قراءة العلماء لأنساق الفلاسفة في الحقبة المعاصرة

السياق التاريخي والمعاصر

في الحقبة المعاصرة، يتزايد اعتماد العلماء على الأنساق الفلسفية لفهم الأسس النظرية والأخلاقية لأبحاثهم، خاصة في مجالات مثل الفيزياء النظرية، علم الأحياء، والذكاء الاصطناعي. على سبيل المثال، يستلهم الفيزيائيون النظريون مثل ستيفن هوكينغ وماكس تيغمارك من الفلسفة الوضعية المنطقية وأعمال كارل بوبر لتطوير مناهج التفسير العلمي. كما أن علماء الأحياء، مثل ريتشارد دوكينز، يتفاعلون مع الأنساق الفلسفية المتعلقة بالتطور والأخلاق لفهم دلالات نظرية التطور.

أمثلة معاصرة

الفيزياء النظرية وفلسفة العلم:

يستلهم الفيزيائيون مثل شون كارول من أعمال توماس كون حول "التغيرات النموذجية" لفهم التحولات في النظريات الفيزيائية، مثل الانتقال من ميكانيكا نيوتن إلى ميكانيكا الكم. كما يتفاعلون مع فلسفة عمانويل كانط لمناقشة طبيعة الواقع وحدود المعرفة العلمية، خاصة في قضايا مثل تفسير "الكون المتعدد".

علم الأحياء والأخلاق: يستلهم علماء الأحياء من أعمال فلاسفة مثل بيتر سنغر لمناقشة القضايا الأخلاقية المتعلقة بالهندسة الوراثية وتحرير الجينوم. على سبيل المثال، يُثير تطوير تقنية تهذيب الطبع البشري تساؤلات فلسفية حول حدود التدخل في الطبيعة البشرية.

الذكاء الاصطناعي والوجودية: يقرأ علماء الذكاء الاصطناعي، مثل نيك بوستروم، أعمال فلاسفة مثل مارتن هيدجر وجون سيرل لفهم طبيعة الوعي والذكاء. يستخدم بوستروم مفهوم "المحاكاة" لمناقشة إمكانية أن تكون الواقعية نفسها بناءً فلسفيًا.

تأثير الأنساق الفلسفية

تُساعد الأنساق الفلسفية العلماء على:

توجيه البحث العلمي: توفر الفلسفة أطرًا لتحديد الأسئلة الكبرى، مثل "ما هو الواقع؟" أو "ما هي حدود المعرفة؟".

نقد المناهج: تُساهم فلسفة العلم، كما عند بوبر وكون، في تقييم صحة النظريات العلمية وتجنب الدوغمائية.

الأخلاقيات: تُوجه الفلسفة الأخلاقية العلماء في التعامل مع قضايا مثل التجارب على البشر أو تأثير التكنولوجيا على المجتمع.

2. تعليق الفلاسفة على نظريات العلماء في الحقبة المعاصرة

دور الفلسفة في تفسير العلم

الفلاسفة المعاصرون يعلقون على النظريات العلمية لفهم دلالاتها الوجودية، الاجتماعية، والأخلاقية. يركزون على تفكيك الافتراضات الكامنة في العلم ووضعها في سياقات أوسع. على سبيل المثال، ينتقد يورغن هابرماس الاستخدام التقني للعلم دون مراعاة البعد الأخلاقي، مشيرًا إلى أن العلم قد يُصبح أداة للهيمنة إذا لم يُوجه بقيم إنسانية.

أمثلة معاصرة

الفيزياء وفلسفة الواقع: يعلق فلاسفة مثل ديفيد ألبرت على نظريات ميكانيكا الكم، متسائلين عن طبيعة الواقع والقياس. على سبيل المثال، يناقش ألبرت تفسير "العوالم المتعددة" من منظور فلسفي، مشيرًا إلى أنها تثير تساؤلات حول الحتمية والحرية.

علم الأحياء والهوية البشرية: يناقش فلاسفة مثل دونا هاراواي تأثير التكنولوجيا الحيوية على مفهوم الإنسان، حيث تُقدم فكرة الروبوت من خلال مفهوم "السايبورغ" (cyborg) كطريقة لتفكيك الحدود بين الإنسان والآلة، مستجيبة لتطورات علم الأحياء.

الذكاء الاصطناعي والوعي: يعلق فلاسفة مثل دانيال دينيت على نظريات الذكاء الاصطناعي، مشيرين إلى أن فكرة الوعي الاصطناعي تتطلب إعادة تعريف فلسفي لمفهوم الذكاء. ينتقد دينيت الافتراضات المادية في علوم الحاسوب، داعيًا إلى مقاربة وظيفية للوعي.

تأثير التعليقات الفلسفية

تُسهم تعليقات الفلاسفة في:

توسيع السياق: وضع النظريات العلمية في سياقات فلسفية وثقافية أوسع.

نقد الافتراضات: كشف الافتراضات غير المعلنة في العلم، مثل النزعة المادية أو الحتمية.

توجيه الأخلاقيات: توفير إطار أخلاقي لتقييم تأثير العلم على المجتمع، كما في قضايا الهندسة الوراثية أو الذكاء الاصطناعي.

3. مقاربة مقارنة: العلم والفلسفة في الحقبة المعاصرة

المناهج والأهداف

العلم: يعتمد على المنهج التجريبي، يركز على القياس، التنبؤ، والتحكم في الظواهر. في الحقبة المعاصرة، يهيمن العلم على مجالات مثل الفيزياء الكمومية، التكنولوجيا الحيوية، والذكاء الاصطناعي.

الفلسفة: تعتمد على التأمل النقدي والتحليل الهرمينوطيقي، تسعى إلى فهم المعنى، السياق، والحدود الأخلاقية. في الحقبة المعاصرة، تُركز الفلسفة على قضايا مثل الواقع، الهوية، والأخلاق التكنولوجية.

التفاعل بين العلم والفلسفة

من العلم إلى الفلسفة: يستلهم العلماء من الفلسفة لتوجيه أبحاثهم وفهم السياقات الأخلاقية. على سبيل المثال، يستخدم علماء الذكاء الاصطناعي أفكار جون سيرل حول "الغرفة الصينية" لمناقشة حدود الذكاء الاصطناعي.

من الفلسفة إلى العلم: يعلق الفلاسفة على النظريات العلمية لتفسير دلالاتها. على سبيل المثال، يناقش فلاسفة مثل برونو لاتور العلم كممارسة اجتماعية، مشيرين إلى أن الاكتشافات العلمية تتشكل من خلال السياقات الثقافية والسياسية.

التناقضات: بينما يسعى العلم إلى الحقيقة الموضوعية، تُشكك الفلسفة في إمكانية الموضوعية المطلقة. على سبيل المثال، ينتقد لاتور فكرة العلم كنشاط محايد، بينما يدافع علماء مثل دوكينز عن الموضوعية العلمية.

دراسات حالة معاصرة

ميكانيكا الكم: يستلهم الفيزيائيون من فلسفة كون لفهم التحولات النموذجية، بينما يعلق فلاسفة مثل ألبرت على تفسيرات الكم لمناقشة طبيعة الواقع.

الهندسة الوراثية: يستلهم علماء الأحياء من أخلاقيات سنغر، بينما يناقش فلاسفة مثل هاراواي دلالات تحرير الجينوم على الهوية البشرية.

الذكاء الاصطناعي: يستخدم علماء مثل بوستروم أفكار سيرل ودينيت، بينما ينتقد فلاسفة مثل هابرماس التأثيرات الاجتماعية للذكاء الاصطناعي.

4. تحديات وآفاق التفاعل في الحقبة المعاصرة

التحديات

التخصص المفرط: يعاني العلم والفلسفة من التخصص الضيق، مما يُقلل من فرص الحوار البيني.

النزعة المادية: تهيمن النزعة المادية على العلم، مما يُقلل من أهمية التأملات الفلسفية حول المعنى والأخلاق.

الأخلاقيات: تثير التطورات العلمية، مثل الذكاء الاصطناعي والهندسة الوراثية، تحديات أخلاقية تتطلب حوارًا مستمرًا مع الفلسفة.

الآفاق التكامل البيني:

يمكن للحوار بين العلم والفلسفة أن يُنتج معرفة أكثر شمولية، كما في مجال الأخلاقيات الحيوية.

النقد الفلسفي: يُساعد الفلاسفة في نقد الافتراضات العلمية، مما يعزز المسؤولية الاجتماعية للعلم.

التعليم متعدد التخصصات: تعزيز التعليم البيني يمكن أن يُشجع العلماء والفلاسفة على التفاعل بشكل أكثر إنتاجية.

خاتمة

تُظهر هذه الدراسة أن التفاعل بين العلم والفلسفة في الحقبة المعاصرة يُشكل فهمنا للمعرفة ومستقبل الإنسان. يقرأ العلماء أنساق الفلاسفة لتوجيه أبحاثهم وفهم السياقات الأخلاقية، بينما يعلق الفلاسفة على النظريات العلمية لتفسير دلالاتها وحدودها. من خلال مقاربة مقارنة، تُبرز الدراسة أن هذا التفاعل يُنتج حوارًا غنيًا يجمع بين المنهج التجريبي والتأمل النقدي. في عالم يواجه تحديات معقدة مثل التكنولوجيا الحيوية والذكاء الاصطناعي، يتطلب التفاعل بين العلم والفلسفة تعزيز الحوار البيني والتعليم متعدد التخصصات لضمان أن تُسهم التطورات العلمية في تعزيز الإنسانية بدلاً من تهديدها. فمتى نرى علما فلسفيا وفلسفة علمية؟

***

د. زهير الخويلدي

كاتب فلسفي

 

هناك تداخل كبير بين منهجي "التاريخ من أسفل" و"التاريخ السفلي"، حيث يتشاركان في بعض المبادئ الأساسية، كلا المنهجين يسعيان إلى إبراز الأصوات والتجارب التي غالبًا ما تُهمل في السرد التاريخي التقليدي،  يستخدم كلاهما مصادر غير تقليدية، مثل الشهادات الشخصية، اليوميات، والمقالات الصحفية، لفهم التجارب الحياتية، يسعى كل من المنهجين إلى إعادة تشكيل السرد التاريخي ليكون أكثر شمولية ودقة من خلال دمج وجهات نظر متعددة ،كلاهما يعترف بتأثير الفئات الشعبية على الأحداث التاريخية الكبرى وكيف يمكن أن تؤثر هذه الأحداث على حياة الأفراد، "التاريخ من أسفل" يركز أكثر على الأفراد وتجاربهم، بينما "التاريخ السفلي" يهتم بكيفية تأثير هذه التجارب على الأحداث الكبرى، يمكن القول إن المنهجين يكملان بعضهما البعض، حيث يعززان الفهم الشامل للتاريخ من خلال التركيز على التجارب الشعبية والأصوات المهمشة.

الإعلام المعاصر مزيج من الإعلام السفلي والإعلام من أسفل

وسائل الإعلام المعاصرة مثل وسائل التواصل الاجتماعي تُظهر كيف يمكن للأصوات الفردية أن تتجمع وتؤثر على السرد العام، الإعلام المعاصر يعكس الأحداث الكبرى ويشكلها من خلال تغطية فورية وشاملة، مما يتيح للأفراد التأثير على مجرى الأحداث ،الإعلام من أسفل يسعى إلى إبراز تجارب الفئات المهمشة والمجتمعات التي لا تُسمع بشكل كافٍ، من خلال المدونات والفيديوهات المستقلة التي تعطي صوتًا لأولئك الذين غالبًا ما يُغفل عنهم ،يعتمد إنتاج المحتوى على الأفراد، يحاول ان يعكس تجاربهم الحياتية وآرائهم بشكل مباشر، يمكن القول إن الإعلام المعاصر هو مزيج من الإعلام السفلي والإعلام من أسفل. فهو يعكس تأثير الفئات الشعبية على السرد التاريخي، بينما يسلط الضوء على الأصوات والتجارب التي غالبًا ما تُهمل. هذا يجعل الإعلام المعاصر أداة قوية للتغيير الاجتماعي والتعبير عن التنوع.

الإعلام وتعزيز الوعي التاريخي

التوثيق والتحقيق عبر إنتاج أفلام وثائقية تسلط الضوء على أحداث تاريخية مهمة، يمكن للإعلام تقديم سرد شامل وموثوق الذي يمكن الصحفيين التحقيق في الأحداث التاريخية المثيرة للجدل، مما يساعد على كشف الحقائق المظلمة، السرد المتوازن في تناول الأحداث التاريخية من زوايا مختلفة، يساعد على تطوير فهم شامل ،كما ان الالتزام بالموضوعية في عرض التاريخ، يعزز مصداقية المحتوى والربط بين الماضي والحاضر من خلال دراسة الأحداث التاريخية وربطها بالأحداث الراهنة لتوضيح تأثير الماضي على الحاضر، من خلال هذه الأساليب، يمكن للإعلام أن يلعب دورًا حيويًا في تعزيز الوعي التاريخي، ويسهم في بناء مجتمع مدرك لتاريخه وثقافته.

الاعلام والتاريخ من الاسفل

التاريخ من الأسفل والإعلام من الأسفل مفهومان مترابطان ،التاريخ من الأسفل يشير إلى دراسة تاريخ الطبقات المسحوقة والمهمشة، مثل الفقراء، العمال، والنساء، بدلاً من التركيز فقط على الأحداث والسياسات التي تتعلق بالطبقات الحاكمة ،يكشف هذا النوع من التاريخ عن تجارب ومعاناة الناس العاديين، مما يعزز الفهم الشامل للتاريخ ويعطي صوتًا لمن لم تُروى قصصهم، الإعلام من الأسفل يركز على الأصوات والأخبار التي تأتي من المجتمع المحلي أو الطبقات المهمشة، بدلاً من السرد السائد الذي تروج له وسائل الإعلام التقليدية كما يعزز التنوع في الروايات الإعلامية ويتيح للناس التعبير عن قضاياهم واهتماماتهم، مما يمكّنهم من المشاركة الفعالة في النقاشات العامة. كلا المفهومين يسعى لإبراز قصص وتجارب الأفراد والمجموعات التي غالبًا ما تُغفل أو تُهمش في السرد التقليدي، التاريخ من الأسفل والإعلام من الأسفل يتحديان الروايات الرسمية التي تركز على النخب، مما يساهم في تشكيل روايات أكثر شمولية ويسلط الضوء على ضرورة أن تكون وسائل الإعلام مسؤولة تجاه القضايا الاجتماعية، الاقتصادية والسياسية التي تؤثر على الطبقات المسحوقة، التاريخ والإعلام من الأسفل يمثلان أداتين حيويتين لفهم المجتمع بشكل أعمق، ويعزز الوعي بالقضايا الاجتماعية كما يساهم في تحقيق العدالة الاجتماعية.

التاريخ من الأسفل والتاريخ التقليدي

التاريخ التقليدي يركز على الأحداث الكبرى والشخصيات البارزة مثل الملوك، القادة، والحروب، يميل إلى تقديم سرد مركزي يركز على النخب ،التاريخ من الأسفل يعتمد على مصادر غير تقليدية مثل الشهادات الشخصية، الأدب الشعبي، والمصادر الشفوية، يستخدم منهجيات متعددة مثل الأنثروبولوجيا ودراسات الهوية، التاريخ التقليدي يعتمد غالبًا على الوثائق الرسمية، السجلات الحكومية، والتواريخ المكتوبة التي تركز على الأحداث الكبرى ويتبع منهجيات تاريخية تقليدية تعتمد على التحليل الأركيولوجي  للنصوص، التاريخ من الأسفل يوفر منظورًا مغايرًا يساهم في تشكيل فهم أعمق للتاريخ ويعزز تمثيل أصوات المهمشين، بينما التاريخ التقليدي يركز على السرد الرسمي للأحداث الكبرى والشخصيات البارزة في حين يركز الإعلام من الأسفل على تقديم الأخبار والقصص من منظور محلي ويعزز التفاعل كما ان التاريخ من الأسفل يركز على دراسة تجارب المهمشين في سياق تاريخي.

التحديات التي تواجه التاريخ والإعلام: السفلي والأسفل

يواجه الإعلام السفلي ومن الأسفل صعوبة في تأمين مصداقية المعلومات، حيث يمكن أن تتعرض الأخبار للتشويه أو التلاعب، نقص الموارد المالية والقدرة على الوصول إلى التكنولوجيا اللازمة لنشر المحتوى يمكن أن يحد من فعالية هذا الإعلام ، يتعرض الإعلام من الأسفل للانتقادات بسبب تقديم وجهات نظر معينة دون غيرها، مما يمكن أن يؤدي إلى تحيز في التغطية، يمكن أن يتعرض الصحفيون والإعلاميون للرقابة أو القمع من قبل السلطات، مما يحد من قدرتهم على العمل بحرية، كذلك التحديات التي تواجه التاريخ من الأسفل اذ يكون من الصعب العثور على مصادر موثوقة حول تجارب الطبقات المهمشة، مما يؤثر على دقة البحث ،غالبًا ما يتم التقليل من قيمة التاريخ من الأسفل في الأوساط الأكاديمية، حيث تُفضل الدراسات التي تركز على الشخصيات والأحداث الكبرى كما  يمكن أن يتأثر المؤرخون بوجهات نظرهم الشخصية، مما قد يؤدي إلى تحيز في تفسير الأحداث التاريخية، توثيق تجارب الأفراد والمجموعات المهمشة يمكن أن يكون تحديًا، خاصة عندما تكون تلك التجارب غير موثقة رسميًا ،كلا من الإعلام من الأسفل والتاريخ من الأسفل يواجهان تحديات فريدة تعيق قدرتهما على تقديم روايات دقيقة وشاملة. بينما يسعى الإعلام إلى إبلاغ الجمهور بالحقائق، يسعى التاريخ إلى تفسير تلك الحقائق في سياقاتها الاقتصادية، الاجتماعية والثقافية. تقوم السلطات غالبًا بفرض رقابة على المعلومات، مما يؤدي إلى تهميش الروايات التي لا تتماشى مع السرد الرسمي. هذا يمكن أن يعوق قدرة الإعلام من الأسفل على الوصول إلى الجمهور، تميل السلطات إلى التركيز على الروايات التي تعزز من صورتها، مما يؤدي إلى تهميش تجارب الأفراد والمجموعات المناهضة، هذا يساهم في طمس تاريخهم وتجاربهم، يمكن للسلطات أن تعمل على إعادة كتابة التاريخ بما يتماشى مع مصالحها، مما يؤدي إلى تحريف الحقائق وتغييب الأحداث المهمة التي تعكس تجارب الفئات المجتمعية المختلفة، الإعلام التقليدي، الذي غالبًا ما يتلقى دعماً من السلطة، يمكن أن يعزز الروايات الرسمية على حساب الروايات البديلة، مما يؤدي إلى طمس المعلومات الهامة.

السرديات التاريخية والتهميش

السرديات التاريخية تنشئها السلطات أو المؤسسات الرسمية، مما يؤدي إلى تعزيز وجهة نظر معينة وتهميش الروايات البديلة كما تُغفل تجارب المجتمعات المهمشة والأفراد الذين لا تتناسب قصصهم مع السرد السائد، تحدد السرديات التاريخية ما يُعتبر مهمًا وما يُعتبر غير مهم، مما يؤدي إلى إقصاء الأحداث والتجارب التي تعكس وجهات نظر متنوعة، تُدرّس الروايات التاريخية الرسمية في المدارس، مما يُعزز من تصديق السرديات السائدة ويقلل من أهمية السرديات البديلة ،يساهم الإعلام التقليدي في نشر الروايات الرسمية ويعزز من تصديقها، مما يعوق انتشار السرديات من أسفل، تعمل السرديات التاريخية على إعادة كتابة الأحداث بطريقة تخدم مصالح معينة، مما يؤدي إلى طمس الحقائق وتجارب الفئات المهمشة، كما تؤثر السرديات التاريخية على تشكيل الهوية الثقافية، حيث تُعزز من سرديات معينة على حساب أخرى، مما يؤدي إلى فقدان الارتباط بالتاريخ المحلي، تساهم السرديات التاريخية في تهميش التاريخ من أسفل من خلال الهيمنة على السرد، وتحديد المعايير، وتأثير التعليم والإعلام. يتطلب الأمر جهودًا لاستعادة الأصوات المهمشة وتعزيز السرديات المتنوعة لتقديم صورة أكثر شمولية للتاريخ.

***

غالب المسعودي – باحث عراقي

إنَّ المعنى – كما ذهب إلى ذلك فلاسفة اللغة ومفكِّرو العلامة – ليس حكراً على اللغة وحدها، بل يتعدّاها إلى كل ما يصدر عن الفكر البشري من رموز وإشارات وأفعال. فكما أنّ للألفاظ معنى، فإنّ للأشكال معنى، وللحركات معنى، وللأصوات والصور والطقوس معنى، بل يمكن القول مع الفيلسوف الفرنسي رولان بارت إنَّ "كلّ ما يمكن أن يُقرأ يمكن أن يُؤوَّل"، أي أنَّ كل ظاهرة بشرية هي نصّ مفتوح على التأويل.

من هنا جاءت السيميائيّة (Semiotics) كعلم يعنى بدراسة العلامات ودلالاتها، بوصفها وسيطاً حيويّاً لفهم العلاقات بين الفكر واللغة والوجود الاجتماعي. ولعلَّ ما يجعل السيميائيّة حقلًا معرفيّاً متفرّداً هو قدرتها على النفاذ إلى البنية العميقة للظواهر، وكشف الطبقات الدلاليّة التي تختزنها، سواء أكانت لغويّة أم غير لغويّة. فهي لم تكتفِ بتفسير المعنى في النصوص الأدبية فحسب، بل خاضت – كما يذكر يوري لوتمان – في دراسة الأساطير، والعادات، والممارسات اليومية، والفنون بمختلف أشكالها، وفي مقدّمتها الفن التشكيلي الذي يعدّ أحد أوسع حقول العلامة وأغناها.

لقد كان الفيلسوف تشارلز ساندرس بيرس من أوائل من صاغوا رؤية فلسفية شاملة للعلامة، حيث اعتبرها "واسطة ثلاثية" تتكون من الدال (العلامة)، والمدلول (الموضوع)، والتأويل (الفهم البشري للعلامة). فيما ركّز فرديناند دو سوسير على ثنائية الدال والمدلول، ورأى في اللغة "نظاماً من العلامات التي تعبّر عن الأفكار"، مؤسِّساً بذلك للمنظور البنيوي الذي غيّر جذريّاً فهمنا لطبيعة المعنى. وتوسّع أومبرتو إيكو لاحقاً في تحديد وظيفة العلامة، مؤكّداً أن المعنى ليس معطىً جاهزاً، بل يُبنى عبر التفاعل بين النصّ والمتلقّي، وهو ما يُعرف بـ"التأويل المفتوح".

إنَّ جوهر السيميائيّة يكمن في تفكيك هذا التداخل بين العلامات والمعاني والسياقات. فالأشكال الهندسية في اللوحة التشكيلية مثلًا ليست خطوطاً وألواناً فحسب، بل هي رموز تختزن دلالات ثقافية وتاريخية ونفسية، قد تتجاوز قصد الفنان ذاته. وكذلك الإيماءات في الطقوس الاجتماعية أو الحركات في المسرح أو حتى الأزياء في الموضة، كلها نصوص سيميائية قابلة للقراءة والتأويل. ولهذا أكّد جاك دريدا أن "النصّ يتجاوز الكتابة ليشمل كل نظام دلالي يمكن تفكيكه".

أولًا: السيميائيّة في الشعر العربي الحديث

حين نقرأ قصيدة مثل: "أنشودة المطر" لبدر شاكر السيّاب نجد أن المطر ليس مجرد ظاهرة طبيعية، بل يتحول إلى علامة ذات حمولة دلالية كثيفة:

 "عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعةَ السحرْ

أو شُرفتانِ راحَ ينأى عنهما القمرْ"

المطر هنا يرمز إلى الخصب والحياة والانبعاث، لكنه يتداخل مع دلالة الحزن والانكسار الجمعي في سياق سياسي واجتماعي مأزوم. وهذا ما يسميه بارت "المعنى الثاني" أو المستوى الإيحائي للعلامة، حيث ينفتح النص على تأويلات متعدّدة تتجاوز دلالة المفردات المباشرة.

ثانياً: السيميائيّة في الفن التشكيلي

في لوحة "غيرنيكا" لبيكاسو، نجد أن الخيول الممزقة، والأم الثكلى، والظلال الحادّة ليست عناصر تصويرية عشوائية، بل علامات دلالية مكثفة تجسّد فظائع الحرب الإسبانية. هنا تتحول الأشكال إلى لغة بصرية تتجاوز الكلمات، وهو ما يجعل اللوحة نصًّا سيميائيّاً بامتياز، يمكن قراءته على ضوء السياق التاريخي والسياسي والنفسي.

أما في أعمال شاكر حسن آل سعيد، فإنّ التشكيلات الخطّية المستوحاة من الحروف العربية ليست مجرد تجريد بصري، بل هي علامات روحية تحيل إلى فلسفة الصوفيّة وفكرة الاتحاد بالمطلق، حيث يصبح النص التشكيلي فضاءً للتأمل والمعنى المتعالي.

نحو فهم جديد للمعنى

يمكننا القول – في ضوء هذه الأمثلة – إنّ السيميائيّة لم تعد علمًا وصفيّاً فحسب، بل صارت أفقاً معرفيّاً لفهم الإنسان والعالم، لأنها تكشف لنا أن كلّ فعل بشري، مهما بدا بسيطاً، هو رسالة تنتظر قارئاً يفكّ شيفرتها. وهذا ما يجعلها علماً يتجاوز الحدود التقليدية للغة ليُعيد صياغة علاقتنا بالمعنى في أوسع صوره.

***

عماد خالد رحمة - برلين

 

تصطادنا في نسغ الحياة اليومية مقولات عدمية تقول بأن الفساد أكبر من أن يصلحه عطّارو هذا الزمن. وأن الخواء استشرى حتى تقزّم العمارُ وانتفى.

ونحن حينَ ننساب في هذه الشباك العدمية نكون قد استجبنا لشرطين: الأول هو شرط العدمية الرخيصة المتأتية من قناعات شخصية دبّت إلى حيواتنا دبيب النمل الخفي على الصخر الأملس في الليل الأدمس... والثاني هو شرط العدمية المدروسة والممنهجة والمُبيّتة والبانية تسرّبها الخفيّ على مرجعية غيرية تروم اقتلاعَنا من جذورنا المتفائلة ديناً وفطرةً، انطلاقاً من قناعة هذه الغيرية باندحار مشروعها الحضاري في مقابل انبعاث الذات الإسلامية بفلسفتها القويّة والعاملة على عمارة الأرض حتى آخر رمق. (عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا تَقوم حتى يَغرِسَها، فليَغرِسْها)1.

هي إذن تلكمُ الفلسفة المحمدية القاضية بعمارة الأرض حتّى النزع الأخير في البشرية، تأسيساً لمفهوم حضاري لا يرى في الوجود وجوداً مأزوما على الدوام، ولا يرى فيه وجوداً متروكاً للصدفة الفاسدة والمفسدة، تعيث فيه ما شاءت وكيف شاءت، ولا ترى فيه وجوداً قلقاً ينتحر في كل مرة يفشل فيها في استيعاب المعنى خارج الله.

 إنها – وأقصد الفلسفة المحمدية - نظامٌ على منهج يفتحان في وجه الأزمة، وإن شئنا تعبيراً غير مستورد، نقول في وجه الابتلاء كل الإمكان البشري لتجاوز لحظاتها العصيبة في غير جنوح مرَضِيّ وفي غيرِ نزوع انتكاسي يعطّل في الإنسان حاسة البياض الجميل والمتفائل.

إن ما يوجّه الإنسان المسلم داخل هذا المتاه، مقروءٌ في كتاب الله، باعتباره المصدر العلوي الذي يقرأ الإنسان والكون قراءة متعالية فوقية عارفة لا بحاجات هذا الإنسان وهذا الكون، وحسب، بل هي عارفة بأسرارهما وبتحولاتهما الظاهرة والباطنة والراهنة والاستشرافية، بشكلٍ يحسم في بناء القناعات الإيمانية بناء صارما وقوياً ومفتوحاً على الإعجاز الخارق. إلا أن هذه القناعات الصارمة يقرؤها المتعالمون والميالون إلى التفسير المادي، قراءة عرجاء وهوجاء تلهج بأن هذه القناعات الاعتقادية الخارجة من مشكاة الله (تعالى شأنه) هي ثوابت جامدة تحول دون حرية الإنسان، ومن ثمة فهي في نظرهم القاصر، معيقات للنفس البشرية الباحثة عن استوائها الممكن.

والاستواء في المنظور الإسلامي هو الاعتقاد بالامتلاء وبالعمار، وليس الاعتقاد بالخواء والعدم الذي يؤطر الرؤية الفردية والجمعية في حال وقوع الأزمة والابتلاء، وفي حال تمادي هذه الأزمة وذاك الابتلاء. إن الاعتقاد بلاجدوى القيم والأخلاق والمعتقدات هو صميم الهزيمة النفسية المؤدية إلى الهزيمة في شموليتها وارتداد الإنسان إلى القناعة الخاوية أن هذا الوجود لا معنى له وليس له فائدة. وهو صلب الرؤية العدمية المثبّتة للفساد والمشجعة لابتزازه كل الطاقات الممكنة في تفاؤل الإنسان بالقضاء عليه أو على بعضه، أو على أقل تقدير، إخراجه من حالة الشرعية المزوّرة إلى حالة التجريم.

***

نورالدين حنيف أبوشامة

..................

1- مسند الإمام أحمد 3 / 183، 184، 191 مسند الطيالسي 2068، البخاري في الأدب المفرد رقم: 479

 

تُعتبر (الزوفوبيا) السياسية والزوتوبيا* الاجتماعية من الظواهر المعقدة التي تعكس التحديات الاجتماعية والسياسية في العصر الحديث، (الزوفوبيا السياسية) تتعلق بالخوف أو النفور من الأفراد أو الجماعات بناءً على آرائهم السياسية أو انتماءاتهم. يمكن أن تتجلى هذه الظاهرة في استبعاد الأفراد من المناصب أو الفرص بناءً على آرائهم السياسية واستخدام لغة عدائية أو تحريضية ضد مجموعات معينة بسبب ميولها السياسية، كما يتعرض الأفراد أو الجماعات للعنف أو التهديد بسبب معتقداتهم السياسية ووصمهم بمختلف الاوصاف السلبية بسبب انتمائهم السياسي، مما يؤدي إلى العزلة الاجتماعية. تؤدي (الزوفوبيا) السياسية إلى تقليل فرص الحوار البناء بين الأفراد من خلفيات سياسية مختلفة وتعزز الفجوة بين الجماعات السياسية، مما يؤدي إلى انقسام المجتمع ويمكن أن تؤثر على المشاركة السياسية، حيث يشعر الأفراد بالخوف من التعبير عن آرائهم. (الزوفوبيا) السياسية تعد تحديًا كبيرًا للمجتمعات الديمقراطية، وتتطلب جهودًا لتعزيز الحوار والتفاهم بين مختلف الفئات السياسية.

انتشار (الزوفوبيا) السياسية

تساهم عدة عوامل في انتشار (الزوفوبيا) السياسية، ومنها التغطية الإعلامية السلبية أو المبالغ فيها للأحزاب أو الجماعات السياسية التي يمكن أن تعزز الصور النمطية والخوف، تزايد الانقسامات بين الأحزاب السياسية يؤدي إلى تعزيز المشاعر السلبية تجاه المعارضين كما ان غياب ثقافة الحوار والتفاهم بين مختلف الآراء السياسية يمكن أن يزيد من حدة (الزوفوبيا)، استخدام الخطاب التحريضي من قبل القادة السياسيين أو الأحزاب يمكن أن يزيد من التوترات والخوف، كذلك تجارب الأفراد السلبية مع أشخاص من جماعات سياسية مختلفة تعزز مشاعر النفور، يلعب ضعف الوعي أو الفهم للمعتقدات السياسية المختلفة دورا مهما في تشكيل آراء سلبية وضغوط من المجتمع أو الأقران ،بالتالي يؤدي الى تبني آراء متطرفة أو سلبية تجاه الآخرين، فهم هذه العوامل يمكن أن يساعد المجتمعات في تطوير استراتيجيات للتقليل من (الزوفوبيا) السياسية وتعزيز الحوار والاحترام المتبادل.

(الزوفوبيا) نتيجة حتمية للنظرة الاستعمارية

يمكن اعتبار (الزوفوبيا) نتيجة حتمية للنظرة الاستعمارية المعاصرة للشعوب وكذلك التأثيرات التاريخية للاستعمار، حيث يتم استغلال الموارد والثقافات، التي تركت آثارًا نفسية وثقافية أدت إلى الخوف من الآخر، الإعلام في كثير من الأحيان ينقل صورًا نمطية سلبية عن الشعوب المستقلة ، مما يعزز (الزوفوبيا) ويزرع الخوف وعدم الثقة ،في حقيقة الامر ان الاستعمار انشا التفاوتات الاقتصادية والسياسية بين الدول المتقدمة والنامية وعزز من مشاعر الخوف من المهاجرين واللاجئين، حيث يُنظر إليهم كتهديدات للموارد والفرص، مع التغيرات السريعة في المجتمعات، يشعر البعض بتهديدات جدية لهويتهم الثقافية، مما يؤدي إلى ردود فعل سلبية ،تعتبر هذه العوامل مجتمعة جزءًا من ديناميكية معقدة تسهم في تعزيز (الزوفوبيا) كاستجابة للنظرة الاستعمارية المعاصرة.

أشكال الزوفوبيا المختلفة

يمكن أن تؤدي هذه العوامل إلى أشكال مختلفة من (الزوفوبيا)، ومن أبرزها (زوفوبيا) عرقية وهي الخوف أو الكراهية تجاه أفراد عرقيين معينين، وغالبًا ما تكون مدعومة بالصور النمطية السلبية، كذلك (زوفوبيا) ثقافية، الخوف من الثقافات المختلفة، مما يؤدي إلى رفض العادات والتقاليد والتوجهات الثقافية المختلفة، كما ان هناك (زوفوبيا) اقتصادية وهي القلق من تأثير المهاجرين على فرص العمل والموارد الاقتصادية، مما يعزز مشاعر التهديد كما تؤدي الظروف انفة الذكر الى(زوفوبيا) دينية وهي الخوف من الأديان أو الممارسات الدينية المختلفة الذي يؤدي إلى التمييز ضد الأفراد بناءً على معتقداتهم. كل شكل من هذه الأشكال يتأثر بالعوامل السياقية، الاجتماعية، الاقتصادية والسياسية، وقد تتجلى في ممارسات تمييزية أو عنصرية، تتداخل هذه الأنواع المختلفة من (الزوفوبيا) مع بعضها البعض بشكل كبير، هذه التداخلات تؤدي إلى تعزيز المواقف السلبية والخوف من الأخر، يتعزز هذا الحال عندما يكون الأمر من خلال مزيج من العوامل العرقية والثقافية، مما يؤدي إلى مواقف أكثر تطرفًا، حيث يعتقد أن الأخرين ينافسونهم على الموارد والفرص. المجتمعات التي تعاني من (زوفوبيا سياسية) تكون أكثر عرضة لظهور (زوفوبيا) دينية، حيث يتم رفض الممارسات الجديدة والمختلفة، (الزوفوبيا) السياسية والعرقية يمكن أن تؤدي إلى سياسات تمييزية تؤدي الى زيادة العنف ضد المجموعات المستهدفة.

(الزوفوبيا) السياسية و(الزوتوبيا)

هناك دور تتكامل فيه (الزوفوبيا) السياسية و(الزوتوبيا) في الانظمة السياسية، لذا من الضروري أولاً تحديد مفهوم (الزوتوبيا) السياسية، غالبًا ما تستخدم (الزوتوبيا) السياسية كأداة لاستكشاف قضايا مثل المساواة والعدالة الاجتماعية والتعايش السلمي بين المجموعات المختلفة في سياق سياسي، بينما يمكن أن تتجلى (الزوفوبيا) في شكل قوانين وسياسات تمييزية تستهدف مجموعات معينة على أساس عرقهم أو أصلهم أو جنسيتهم يمكن استخدام (الزوتوبيا) السياسية كأداة نقدية لفضح أوجه القصور والعيوب في الأنظمة السياسية القائمة. من خلال مقارنة الواقع السياسي الحالي بالمجتمع المثالي الذي تمثله (الزوتوبيا)، ويمكن تسليط الضوء على مظاهر الظلم والتمييز وعدم المساواة، ويمكن استخدام (الزوتوبيا) السياسية كنموذج لاستكشاف التحديات التي تواجه المجتمعات المتنوعة التي تسعى إلى تحقيق التعايش السلمي والعدالة الاجتماعية. يمكن أن تساعد دراسة ديناميكيات السلطة والعلاقات بين المكونات المختلفة في (الزوتوبيا) في فهم أفضل للتحديات المماثلة التي تواجه المجتمعات البشرية المتنوعة، ويمكن استخدامها كإطار تحليلي لفهم دور الخوف والكراهية في السياسة. من خلال دراسة كيف يمكن استخدام (الزوفوبيا) لتبرير التمييز والعنف ضد مجموعات معينة، يمكن تطوير استراتيجيات لمكافحة هذه الظاهرة وتعزيز التسامح والتعايش ويمكن استخدام (الزوتوبيا) السياسية كمصدر إلهام لتصميم أنظمة حكم أكثر عدلاً ومساواة. من خلال دراسة المبادئ والقيم التي تقوم عليها (الزوتوبيا)، كما يمكن تطوير نماذج جديدة للحكم تعزز المساواة والعدالة الاجتماعية والتعايش السلمي بين جميع أفراد المجتمع. من خلال دراسة هذه المفاهيم معًا، يمكن فهم أفضل لدور الخوف والكراهية في السياسة وكيف يمكن مكافحة هذه الظواهر لتعزيز التسامح والتعايش السلمي.

(الزوفوبيا) الاجتماعية

هي الخوف من التفاعل الاجتماعي، هي حالة نفسية تتسم بالقلق الشديد أو الخوف من المواقف الاجتماعية. يعاني الأشخاص المصابون بها من صعوبة في التفاعل مع الآخرين، مما قد يؤثر على حياتهم اليومية وعلاقاتهم الاجتماعية.

تأثيرات (الزوفوبيا الاجتماعية)

 (الزوفوبيا) الاجتماعية تؤدي الى تقليل فرص التفاعل بين الأفراد، مما يعزز تراجع الروابط الاجتماعية والمعروف ان نقص التعاون يمكن أن يؤثر سلبًا على الابتكار، حيث الأفكار الجديدة. انتشار (الزوفوبيا) الاجتماعية يمكن أن يزيد من معدلات الاكتئاب والقلق، مما يؤثر على الإنتاجية العامة ويساهم الخوف من الآخرين الى تهميش بعض الفئات، مما يؤدي إلى فقدان التنوع الثقافي والتجارب المختلفة، الذين يعانون من (الزوفوبيا الاجتماعية) يواجهون صعوبات في التفاعل في البيئات التعليمية، مما يؤثر على تعليمهم وتطورهم الشخصي، فهم (الزوفوبيا) الاجتماعية والتعامل معها يمكن أن يسهم في بناء مجتمع أكثر صحة وتواصلًا.

(الزوفوبيا) الاجتماعية والتنمية الاقتصادية

يمكن أن تؤثر (الزوفوبيا) الاجتماعية بشكل ملحوظ على التنمية الاقتصادية. الأفراد الذين يعانون من (الزوفوبيا) يكونون أقل قدرة على المشاركة في القوى العاملة، مما يؤدي إلى نقص في الإنتاجية والتفاعل الاجتماعي. الخوف من المواقف الاجتماعية يمكن أن يعوق تبادل الأفكار، مما يؤثر سلبًا على الإبداع، المجتمعات التي تعاني من انعدام الثقة أو القلق الاجتماعي تكون أقل جذبًا للاستثمارات، مما يعوق التنمية الاقتصادية، (الزوفوبيا) تؤدي إلى ارتفاع معدلات القلق والاكتئاب، مما يزيد من تكاليف الرعاية الصحية ويؤثر على الاقتصاد ويمكن أن تؤدي (الزوفوبيا) الاجتماعية إلى عواقب اقتصادية سلبية، مما يستدعي الحاجة إلى استراتيجيات الدعم وتعزيز التفاعل الاجتماعي.

***

غالب المسعودي – باحث عراقي

....................

:1https://academic.oup.com/screen/article/60/4/567/5673450

:2https://www.quora.com/What-exactly-was-the-intention-of-the-social-commentary-in-Zootopia

:3https://www.quora.com/What-exactly-was-the-intention-of-the-social-commentary-in-Zootopia

:4https://www.quora.com/Does-the-politics-and-symbolism-in-the-movie-Zootopia-have-parallels-to-the-real-world

مقدمة: لطالما اعتُبر الأدب مرآةً صقيلة تعكس الواقع الإنساني بأبعاده المتعددة: التاريخية، الاجتماعية، النفسية، والرمزية. ومن بين أبرز الإشكالات التي شغلت النقّاد والمفكرين عبر العصور سؤالٌ جوهريٌّ مفاده: إلى أي مدى يُعدّ الأديب ابنًا لبيئته؟ وهل بمقدوره التمرّد على محدداتها، أم أن البيئة تظلّ نسغه البنيويّ ولبنته الأساس؟

هذا السؤال لا يستدعي إجابة ثنائية مغلقة بقدر ما يفتح أفقًا للتفكير في طبيعة العلاقة بين الأديب والسياقات التي تشكّله، ويضعنا أمام خيوط معقّدة تتداخل فيها الفلسفة مع النقد، والذات مع الجماعة، والواقع مع الخيال.

يهدف هذا البحث إلى معالجة هذا الإشكال من زاوية نظرية وتطبيقية، من خلال تحليل مفاهيمي، وتفكيك النظريات المهتمة بتأثير البيئة في الأدب، مع عرض دراسات تطبيقية لأدباء عرب وغربيين جسّدوا بطرق مختلفة هذه العلاقة الإشكالية، وصولًا إلى تأملات نقدية حول إمكانية تجاوز الأديب لبيئته دون القطيعة معها.

أولًا: التأطير المفاهيمي

1- مفهوم البيئة

يُقصد بالبيئة في هذا السياق المفهوم الواسع الذي يتجاوز الدلالة الجغرافية أو الطبيعية، ليشمل:

البيئة الثقافية: كمنظومة قيمية تتضمن الدين، اللغة، الموروث، الطقوس، الرمز، والإنتاج الرمزي.

البيئة الاجتماعية والسياسية: بما تحويه من بنى السلطة، الطبقات، أنماط العلاقات، النظم الاقتصادية.

البيئة النفسية: التي تتشكل في الطفولة وتمتدّ في اللاوعي، بما تحمله من تجارب شخصية وجراح حميمة.

البيئة التاريخية: بما تفرضه من ذاكرة جمعية وصراعات وطنية وأحداث مفصلية.

2 - من هو الأديب؟

لا يُختزل الأديب في كونه ناقلًا للواقع أو راوياً للأحداث، بل هو ذات مبدعة تُعيد تشكيل العالم بواسطة الأدوات الجمالية. هو كائن يتوسّل الفن ليعيد ترتيب الفوضى، ويحوّل الواقع المعيش إلى نصّ متخيّل يفيض دلالاتٍ. الأديب بهذا المعنى ليس ابن بيئته بالولادة فقط، بل بالحفر فيها أو الحفر ضدّها.

ثانيًا: النظريات النقدية حول تأثير البيئة في الأدب

1 - الواقعية الاجتماعية:

تُعدّ الواقعية الاجتماعية من أبرز المدارس التي تؤمن بأن الأديب يتشكّل ضمن شروط واقعه الاجتماعي. فبحسب جورج لوكاتش، "الرواية هي مرآة تسير على جانب الطريق"، أي أنها تعكس الصراع الطبقي، والتحوّلات السياسية، والانقسام الاجتماعي. فالأدب في هذا الإطار وثيقة مشبعة بديناميات الواقع لا يمكن فصلها عن السياق (Lukács, 1963).

2 - النقد الثقافي:

يمثل النقد الثقافي، كما نظّر له إدوارد سعيد وريـموند ويليامز، مقاربة ترى الأدب كموقع لصراع الخطابات، وكمنتَج محكوم بقوى الهيمنة الثقافية والسياسية. من هذا المنظور، لا يُمكن للكاتب أن يكون "خارج" بيئته، لأن اللغة ذاتها محمّلة بإرث السلطة والمركز، بل حتى محاولة التمرّد على البيئة تستبطن وجودها كسلطة يجب مقاومتها (Said, 1978؛ Williams, 1958).

3 - نظرية التلقي

تذهب نظرية التلقي، كما طوّرها هانز روبرت ياوس وولفغانغ إيزر، إلى أنّ المعنى لا يُنتج من النص فقط، بل من علاقة النص بالقارئ الذي يستقبله. هذا القارئ نفسه ابن بيئةٍ ثقافية واجتماعية، وبالتالي يعيد إنتاج البيئة حتى في فعل القراءة والتأويل (Jauss, 1982).

ثالثًا: دراسات تطبيقية – الأدباء العرب كنماذج

1 نجيب محفوظ: تأريخ الحارة والمجتمع المصري

في الثلاثية وزقاق المدق، تظهر الحارة القاهرية كمسرح مركزي تتحرك فيه الشخصيات. البيئة هنا ليست خلفية، بل هي بطل خفيّ يتحكم بمصائر الشخصيات. من السلطة الأبوية إلى صعود الوعي السياسي، فنرى نجيب محفوظ يشتبك مع بيئته لا بوصفها قدرًا بل بوصفها مادة جمالية يعيد إنتاجها (محفوظ، دار الشروق).

2 - الطيب صالح: الهجنة والصراع الهوياتي

في موسم الهجرة إلى الشمال، نشهد تماهيًا وصراعًا بين بيئتين: سودانية تقليدية، وأوروبية حداثية. مصطفى سعيد ليس مجرد مهاجر، بل جسد ممزّق بين مرجعيتين. البيئة هنا تظهر كعامل نفسي وهوياتي يُفرز أزمته ويغذي خيباته (الطيب صالح، دار العودة).

3 - محمد شكري: الهامش كبيئة روحية

في الخبز الحافي، يتكشّف الهامش الطنجاوي بكل بؤسه وحرمانه. البيئة ليست فقط حكاية بل أسلوب: لغة فجة، توتر نحوي، وقسوة سردية. إنها كتابة من العراء، حيث البيئة تحضر كألم لا كمشهد (شكري، دار الساقي).

4 - محمود درويش: المنفى كبيئة رمزية

درويش يحوّل فلسطين من جغرافيا إلى استعارة. في قصيدته "بطاقة هوية"، وفي دواوينه الكبرى كـ أثر الفراشة وسرير الغريبة، نجد أن البيئة ليست محض مكان، بل رمز للانتماء والضياع والهوية. الشعر عنده يُحوّل البيئة إلى ما يشبه النشيد الوجودي (درويش، دار العودة).

5 - محمود المسعدي: حين يتجلّى المجتمع في مرايا الذات المفكرة.

محمود المسعدي المفكر والروائي التونسي مشروع ثقافي وفلسفي كامل، ينهل من التراث كما يغترف من أسئلة الحداثة. إنّ ما يميّز كتاباته، على قلتها، هو أنّها تكتبُ المجتمع من زوايا غير مباشرة، وتنفذ إليه عبر التجريد، والرمز، والسؤال الوجودي. فالمجتمع عند المسعدي ليس جموعًا تتحرك في الشوارع، بل هو كائن ميتافيزيقي، يتلبّس الفرد ويشكّل وعيه، ثم يتجلّى من خلاله في النصّ.

في أعماله الكبرى، مثل حدث أبو هريرة قال... والسد وتأصيلاً على البداوة...، لا نجد وصفًا اجتماعيًا واقعيًا مباشرًا كما في الرواية الكلاسيكية، بل نقرأ مجازًا رمزيًا كثيفًا، فيه أصداء من القرآن الكريم، ومن الفلسفة الوجودية، ومن الأساطير، كلها تتعانق لتصنع رؤية للمجتمع لا تصفه بل تسائله.

رابعًا: هل توجد استثناءات؟

1 - أدباء المهجر

جبران خليل جبران: رغم مغادرته الجغرافيا العربية، ظل يحمل الشرق في لغته ورموزه وتجلياته الصوفية، حتى في كتابه الأشهر النبي، المكتوب بالإنجليزية (جبران، الهيئة المصرية العامة).

أمين معلوف: يكتب بالفرنسية عن شخصيات عربية، مما يدل على أن البيئة ليست حاضرة بمكانها بل بحمولتها الرمزية والنفسية.

2 - كتّاب الفانتازيا والرمز

فرانز كافكا: رغم الطبيعة العبثية لنصوصه، فإن بيئة براغ اليهودية والنظام البيروقراطي تظهر في كوابيسه الوجودية كظل كثيف (كافكا، دار المدى).

إيتالو كالفينو: نصوصه مثل مدن غير مرئية تبدو عابرة للبيئات، لكنها تستبطن تحولات ما بعد الحرب في إيطاليا، وقلق الحداثة الأوروبي.

خامسًا: البيئة كمحفّز لا كقيد

لا ينبغي النظر إلى البيئة باعتبارها سلطة قمعية فقط، بل بوصفها محفّزًا للخلق الفني. الأديب يكتب من داخل البيئة أو ضدّها، لكنه لا يكتب خارجها تمامًا. حتى التمرّد يفترض وجود سياق يُتمرَّد عليه. إن الإبداع في جوهره ليس فعل مطابقة للبيئة، بل فعل جدل معها، وتحويل لها عبر الرمز، والخيال، والتقنية.

سادسًا: العولمة وتحوّلات العلاقة بين الأديب وبيئته

1 - مفهوم العولمة وتحول المرجعيات

مع مطلع القرن الحادي والعشرين، أصبح من الصعب الحديث عن بيئة "محلية" بمعزل عن التأثيرات العابرة للحدود. لقد مزّقت العولمة الجدران التقليدية التي كانت تفصل بين الثقافات، وأفرزت فضاءً رقميًا-رمزيًا جديدًا يتقاطع فيه المحلي والعالمي، الفردي والجمعي، الواقعي والافتراضي.

وفي هذا السياق، لم يعد الأديب مجرد ابن حارته أو أمّته، بل أصبح أيضًا ابن شاشة، وابن خريطة ثقافية متشظّية، يتنقّل فيها بين مرجعيات متعددة: الأدب العالمي، السينما، الموسيقى، وسائل التواصل، الفلسفة الرقمية.

يقول زيغمونت باومان في الحداثة السائلة: "أصبح الانتماء اختيارًا، والهوية بناءً متحركًا لا قالبًا ثابتًا".

2 - الأديب بين التجذّر والانخلاع

في ظل العولمة، يواجه الأديب تحدّيًا مزدوجًا:

من جهة أولى: تمارس العولمة نوعًا من التوحيد الثقافي، حيث تُغرق الأدب في نموذج السوق العالمي، وتدفع الكاتب أحيانًا إلى "تسليع" تجربته كي تُقرأ وتُترجم وتُباع.

من جهة ثانية: تمنح العولمة للأديب إمكانيات كبرى للتفاعل مع قضايا كونية: المناخ، الهجرة، الذكاء الاصطناعي، الفقر العالمي، الهويّات المركّبة.

هذا الوضع يفرض على الأديب المعاصر أن يختبر ذاته ككائن "هجيني"، يعيد التفكير في بيئته لا بوصفها وطنًا ضيّقًا، بل كبنية دلالية قابلة للتأويل والانفتاح.

3- نماذج أدبية من زمن العولمة

إليف شافاق (تركيا): تكتب بالإنجليزية عن قضايا الهوية، التعدد، والجندر في بيئة شرقية وغربية في آن. تقول: "اللغة ليست جغرافيا، إنها انتماء داخلي".

ربيعة ريّان (المغرب/فرنسا): توظّف الهجرة والهوية المزدوجة كمرآة لقراءة العالم، حيث لا تعود البيئة وطنًا بيولوجيًا بل سؤالًا فلسفيًا.

واسيني الأعرج (الجزائر): في رواياته الأخيرة، يحوّل المنفى والذاكرة والتاريخ إلى فضاء روائي عابر للحدود، حيث تلتحم بيئات متعددة في سردية مركّبة: عربية، أندلسية، فرنسية.

4 - الرقمنة والأدب

العولمة الرقمية، خاصة عبر وسائل التواصل الاجتماعي والنشر الإلكتروني، منحت الأديب قدرة أكبر على الوصول، لكنها حملت في ذات الوقت خطر التسطّح والتشظّي. صار الأدب أحيانًا يُكتب بوعي "الجمهور العالمي"، ما قد يؤدي إلى نوع من الاستلاب الرمزي، أو إلى "التطويع الذاتي" للغة والأسلوب كي يتلاءم مع توقعات السوق العالمية.

5 - من ابن البيئة إلى ابن العالَم؟

ليس المقصود هنا إعلان قطيعة مع البيئة الأصلية، بل الانتباه إلى أن الأديب المعاصر لم يعد يكتب من جغرافيا واحدة، بل من جغرافيا مركبة: جغرافيا الذات، وجغرافيا الذاكرة، وجغرافيا الشاشة.

وبذلك، لم تعد البيئة مفهومًا ضيقًا محصورًا في الإطار المحلي، بل أصبحت بنية سائلة، تتداخل فيها الهويات والمراجع والتجارب. البيئة اليوم لم تعد فقط "ما نُولد فيه"، بل أيضًا "ما نستهلكه"، و"ما نحلم به"، و"ما نتفاعل معه" حتى وإن لم نعشه جسديًا.

خاتمة

في ضوء ما تقدّم، يمكن القول إن الأديب لا يُولد في فراغ، ولا يكتب في العدم. البيئة تمنحه مادته الخام، لكنها لا تحدد بالضرورة مصيره الجمالي، بل تمنحه تحدّيًا وجوديًّا وفنيًّا في آنٍ معًا. التفاعل مع البيئة قد يأخذ شكل الاحتضان أو الرفض، وقد يتحول إلى لعبة تأويلية معقدة بين الذات والمجتمع، بين الداخل المتخم بالحلم، والخارج المثقل بالتاريخ والقيود. إن عبقرية الأديب لا تكمن فقط في تصوير الواقع أو التعبير عنه، بل في كيفية تحويل المحدّد إلى إمكان، والشرط إلى فضاء للتجاوز، والمعطى إلى أفق منفتح على التجديد والإبداع.

فالبيئة، بما تحمله من رموز وصراعات وتحولات، ليست سجنًا مغلقًا ولا قدَرًا محتومًا، بل نهرًا يمكن السباحة فيه، أو حتى السباحة ضده، بجرأة من يُدرك أنّ الحرية الأدبية لا تُمنح بل تُنتزع. وإنّ الأديب الحقّ، حين يتجاوز سلطة الانتماء الضيق، ويعيد تشكيل العالم بلغته ورؤيته، يصبح فاعلًا لا مفعولًا به، ومُشكِّلًا لا مُشكَّلًا فقط. هكذا، تتجلّى الأدبية كفعل مقاومة ضدّ التلقين، وكفنٍّ للانعتاق من أسر الجغرافيا والتاريخ، حيث لا تكون البيئة نهاية المطاف، بل نقطة انطلاق نحو ما هو أكثر رحابة وعمقًا وإنسانية.

***

مجيدة محمدي – تونس

..........................

المراجع

محفوظ، نجيب. الثلاثية. القاهرة: دار الشروق.

الطيب صالح. موسم الهجرة إلى الشمال. بيروت: دار العودة.

شكري، محمد. الخبز الحافي. بيروت: دار الساقي.

درويش، محمود. أثر الفراشة. بيروت: دار العودة.

سعيد، إدوارد. الاستشراق. بيروت: دار الآداب، 1978.

كليطو، عبد الفتاح. الكتابة والتناسخ. الدار البيضاء: دار توبقال.

ويليامز، ريموند. الثقافة و المجتمع  .

 

من بقايا الطفولة البعيدة، أستعيد مشهدًا غائرًا في الطين العائلي، إذ تجتمع الطقوس والمفارقات على مائدة واحدة. كان ذلك في يوم زفاف أحد أبناء عمي، وكنت بعدُ فتىً غضًّا في أولى سنوات المتوسطة، أُساهم مع أترابي في تمزيق الأرغفة ونثرها فوق الصحون، استعدادًا لمأدبة الغداء، وفق العادة المتوارثة في مناسباتنا. كنّا "جنود الظل" الذين لا يُذكرون، نعد الصحون لتُملأ بالتشريب والتمن واللحم، بينما الوجهاء والشباب الأقوياء ينهضون بتوزيع الوليمة، بوصفهم "المعازيب" الذين يحفظون النظام ويرعون الضيافة.

لكن الزحام اشتد وتكاثرت الأجساد، وانبعث القلق والخشية ألّا يكون التوزيع بأتَمَّ حال. وهنا تقدّمت امرأة من أقاربي– تلك المرأة "كبيرة الشأن"، وهي إن تكلّمت، أصغت لها العقول–  لتصرخ بعبارة صارت فيما بعد رمزًا لكل ما هو عبثي حين الهلع في قناعتي:

"فوتوا وهدموا السياج!"

كانت تقصد سياج الدار– ذاك الحاجز الذي يفصل الداخل عن الخارج، والذي يشبه حدود الدولة، أو ما تبقّى من الهيبة الرمزية للمكان. صُدمتُ، ليس لأنَّ السياج عزيز، بل لأنَّ الفكرة نفسها مستحيلة ومربكة: كيف لعقل راجح، في مقام عائلي، أنّ يقترح هدم الجدار لتجاوز زحام لن يدوم أكثر من دقائق؟! من الذي سيهدم؟ وماذا سيقول عمي حين يرى داره وقد فُتح جدارها على المجهول من أجل "غداء"؟! هل سيحزن؟ هل سيعذر؟ وهل سيتناول ضيوفه اللقمة على أنقاض الجدار وكأنّ شيئًا لم يكن؟!

في وقتها، بدت لي الحادثة نكتةً أو سوء تقدير لحظي. لكن، بعد أنّ انخرطتُ في مسرح الحياة ومفارقاتها، وأخذت أراقب الإنسان وهو يدير شؤونه، فهمت أنّ هذا الموقف الصغير كان تمثيلًا رمزيًا مكثفًا لما يحدث في مستويات أعلى.

فكم من موقف هدمنا فيه أسيجةً شخصية واجتماعية من أجل دفع احتشاد هنا أو ضغط هناك؟! وكم من سياجات للصداقة والقرابة تهافتت من أجل تخفيف ضيق عابر؟! وكم من علاقات ومبادئ ومؤسساتٍ، تهاوت تحت ضغط لحظة، أو من أجل امتصاص غضب طارئ؟!

لقد أدركت أنَّ هذا الموقف الصغير لم يكن إِلَّا انعكاسًا دقيقًا لمشهد أوسع. كم من السياسات، وكم من المشاريع، وكم من الزعامات، رفعت شعار "هدم السياج" باسم الخدمة أو التطوير أو تسهيل المرور؟!

إنّه منطق المفارقة: أن تُهدم البنى التحتية– المادية والرمزية– باسم الاستعجال، أو الطوارئ، أو الرغبة في الإرضاء. كأننا أمام طبقة من "العمّات السياسية" في كل بلد، تصرخ في وجه الأزمة: "اهدموا السياج!" غير آبهين لما يعنيه ذلك من خرق للحصانة، وتهشيم لأسس المكان والدولة، وإهانة للعقل. وهكذا، تتحوّل الطوارئ من أحداث عابرة إلى مبررات دائمة للعبث، حين نُخضع المبادئ لمنطق الاستثناء.

ليس كل ما يُقترح قابلًا للتطبيق، وليس كل ما يُقال في ساعة احتشاد يمكن أنّ يمرّ دون نقد. فالمفارقة، حين تصبح أسلوب حكم، تتحوّل من طرافة فردية إلى كارثة جماعية.

إنّ في كل سياج نهدمه نعترف ضمنيًا بعجزنا عن التنظيم والتدبير، ونلوذ بالفوضى كحلّ سهل للهروب من التعقيد. لكن الهدم، مهما بدا حاسمًا في ساعته، هو فعلٌ ضد الزمن، ضد الذاكرة، وضد المعنى الذي راكمته الأشياء.

فالبُنى، سواء كانت جدرانًا أو أعرافًا أو مبادئ، لا تنهار دون أنّ تخلّف في الوعي شرخًا يصعب رتقه. والعقل، حين يبرر الانفعال باسم الضرورة، يُسلم زمامه للعبث ويتنازل عن شرطه الإنساني. وهكذا، لا ينهار السياج فقط، بل تنهار معه تلك المسافة الرمزية بين النظام والغرائز الأولى.

***

د. حيدر شوكان سعيد

جامعة بابل/ قسم الفقه وأصوله.

في ضوء أطروحات حسن حنفي وصادق جلال العظم

في مجتمعنا، وفي المجتمعات العربية، كثيراً ما نسمع مصطلح "الفهلوي" في السياقات العربية الشعبية والثقافية لوصف شخص بارع في الخداع، وماهر في المراوغة، ويتصرف بمكر، يمزج بين الذكاء والانتهازية. في الوعي العربي الجمعي، الفهلوي هو من "يعرف من أين يستخرج أفضل ما لديك"، لكن لا يمكن الاعتماد عليه في المواقف الحرجة التي تتطلب ثباتاً أخلاقياً أو التزاماً مبدئياً. وقد ترسخ هذا النموذج كمرادف لـ"البطولة الزائفة"، التي تختبئ بالمكر في وجه واقع لا يكافئ الصدق، بل يشجع على المراوغة.

حيث يرى حنفي أن أزمة الذات العربية تكمن في تمزّقها بين التراث من جهة، والحداثة الغربية من جهة أخرى. وقد أدت محاولات التوفيق غير النقدي بين هذين القطبين إلى ظهور نوع من "الوعي المزدوج"، وعي لا ينتمي كليًا إلى الماضي ولا إلى الحاضر، بل يتأرجح بينهما بصعوبة. يقول حنفي في مقدمة كتابه "التراث والتجديد": "نحن لا نعيش في واقعنا، بل نرتدي أقنعة متعددة. ظاهريًا نقف مع الحداثة، بينما باطنينا مرتبطة بالماضي، ونفتقر إلى مشروع متماسك للتحرر" (حنفي، ١٩٨١، ص ٢٢).

من هذا المنظور يُعتبر الفهلوي ابن هذا الوعي المنقسم، يعيش بوجهين: وجه يُظهر التدين أو الالتزام الأخلاقي، وآخر براغماتي، بارع في التلاعب بالمواقف والرموز والمصالح. إنه نسخة فردية من معضلة جماعية تتمثل في عجز الثقافة العربية عن بناء علاقة نقدية مع تراثها من جهة، ومع الحداثة من جهة أخرى. ولأن الحنفي يُصر على ضرورة "تثوير التراث من الداخل"، تُمثل الفهلوية انحرافًا عن هذه الثورة، إذ تُبقي التراث في موضع استعباد واستغلال، بدلًا من أن يكون فعالًا ومبادرًا. من هذا المنظور، تُقوّض الفهلوية العلاقة الصادقة مع التراث، إذ لا تتعامل معه كمشروع تجديد، بل كمستودع للاستخدام الانتقائي. إنه شكل من أشكال "الاغتراب الثقافي الداخلي"، حيث يُصبح الانتماء إلى التراث مجرد شعار يخدم السلطة أو المصلحة الذاتية، بدلًا من أن يكون مساحة للالتزام الأخلاقي أو التحرر.

مع ذلك، يرى صادق جلال العظم أن من مظاهر التخلف الثقافي في العالم العربي غياب الانسجام بين الخطاب والممارسة، بين ما يُعلن في النصوص وما يُمارس فعليًا. ويرى العظم أن هذا التناقض يُنتج شخصية "زائفة" تميل إلى التظاهر لا إلى تمثيل حقيقي للقيم. ولذلك، يقول في نقده للفكر الديني: "إن استبداد الخطاب الدعوي الخالي من الفعل جعل من التدين قناعًا اجتماعيًا لا تجربة وجودية" (العظم، ١٩٦٩، ص ٤٥).

وفي هذا الإطار فإن الفهلوية هي الشخصية التي تتقن تقمّص الأقنعة، وتلعب على تناقضات الخطابات الرسمية، وتستغل المناطق الرمادية في القوانين، وهي – بتعبير العظم – نتاج مباشر "لثقافة التحريم" التي تمنع النقد وتكافئ التملق. فالفهلوي ليس مناهضًا للنظام، بل هو نتاجه الأصيل؛ فهو بارع في التكيف؛ متلون في المواقف، ويعيش وفق منطق "الضرورة السياسية" و"المصلحة الاجتماعية".

وفي كتابه ذهنية التحريم، يحلل العظم هذه الذهنية بوصفها معادية للعقل النقدي، وتقوم على القمع الرمزي. وهنا تظهر الفهلوية كاستراتيجية دفاعية للفرد في بيئة لا تمنح فرصًا متكافئة، بل تفتح المجال أمام الانتهازيين الذين يحسنون "اللعب تحت الطاولة". الشخصية الفهلوية، إذن، هي الشكل الفردي لثقافة القهر الجماعي.

وهنا يمكن الاستفادة من مفاهيم علم الاجتماع النقدي، كما طرحها بيير بورديو، خصوصًا في حديثه عن "العنف الرمزي" و"الهابيتوس". فالفهلوية ليست خيارًا فرديًا واعيًا بالضرورة، بل هي جزء من "الهابيتوس الثقافي" الذي يتكون لدى الأفراد في بيئة اجتماعية تشرعن المراوغة وتكافئ الخضوع الذكي. وبحسب بورديو: "يميل الإنسان إلى التطبيع مع البنى الاجتماعية القهرية حين تتلبّس هذه البنى شكل العادات والذوق الاجتماعي"  (Bourdieu, 1990, p. 5)

وبالعودة إلى الثقافة العربية، فإن الفهلوي هو من تربى على أن يقول ما لا يفكر فيه، وأن يُظهر غير ما يبطن، وأن يكون ماهرًا في استغلال الرموز الدينية أو القومية لتحقيق مكاسب آنية. إنه نموذج للإنسان "ما بعد الصادق"، الذي اختفى فيه الفرق بين النية والسلوك، وتحول فيه الفكر إلى أداة للشرعنة لا للتحرير. ولكسر هيمنة الشخصية الفهلوية، لا بد من مشروع ثقافي نقدي يعيد الاعتبار لثلاث قيم مركزية:

1.  الصدق الفكري: وهو ما دعا إليه العظم، من خلال تفكيك التناقضات في الخطاب السائد وفضح الازدواجية.

2.  التحرر من التراث السلبي: كما طالب به حنفي، عبر إعادة قراءة التراث من الداخل بوصفه أداة مقاومة لا عبودية.

3.  المسؤولية الأخلاقية: أي التحول من الانتهازية إلى الالتزام، ومن الذكاء الماكر إلى الذكاء الواعي.

أي إن الفهلوية لا تزول بقرار فردي، بل بتغيير البنية الثقافية والسياسية التي تفرزها، وهذا يستدعي ثورة معرفية تبدأ من المدرسة والجامعة، ولا تنتهي إلا بخلق نموذج جديد للمثقف والمواطن، يتجاوز فيه الازدواجية، ويستعيد صلته بالأصالة دون أن يتخلى عن روح الحداثة.

وختماً لما تقدم ذكره نرى إن الشخصية الفهلوية ليست مجرد ظاهرة اجتماعية معزولة، بل هي نتيجة مركبة لانفصام الوعي، وهيمنة الخطاب الوعظي، وقمع الحرية، وغياب المشروع الثقافي التحرري، وقد أضاء نقد كل من حسن حنفي وصادق جلال العظم على جوانبها المتعددة، من خلال نقدهما الجذري للثقافة العربية المعاصرة. الفهلوية، وفي النهاية هي مأساة الذات عندما تفقد أصالتها، وتُرغم على التلون لتنجو. وكسر هذه الحلقة لا يكون إلا بخلق فضاء ثقافي نقدي يعيد الاعتبار إلى الحقيقة، لا إلى الحيلة.

***

الدكتور: إبراهيم أحمد شعير الجميلي / كركوك - العراق

....................

المراجع

1. حسن حنفي، التراث والتجديد، بيروت: دار التنوير، 1981.

2. صادق جلال العظم، نقد الفكر الديني، بيروت: دار الطليعة، 1969.

3. صادق جلال العظم، ذهنية التحريم، عمان: دار بترا، 1992.

4.  Pierre Bourdieu, The Logic of Practice, Stanford University Press, 1990.

5. محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1982.

6. علي حرب، نقد النص، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1993.

ويهزّ وهم الهوية المستوردة!

في زمنٍ صار فيه الاسم وسيلةً للتماهي مع ما هو وافد وغريب، بدل أن يكون إعلانًا عن الهوية وتجذرًا في الأرض والذاكرة، تبرز الحاجة إلى إعادة الاعتبار للأسماء الأصيلة التي تُحاكي الإنسان في عمقه الثقافي والنفسي والروحي. فالتسمية ليست مجرد إجراء شكلي، ولا عادة أسرية عابرة، بل هي خطاب صامت ينحت ملامح الانتماء، ويوشّح الفرد بميراث لا يُشترى.

لقد أصبحت مجتمعاتنا العربية عمومًا، والمغربية على وجه الخصوص، رهينةً لهوس التحديث السطحي الذي اقتحم حتى حميمية التسمية، فاختلطت الأسماء، وغاب المعنى، وابتُذلت الهوية. صار البعض يُطلق أسماء أجنبية على أبنائه دون معرفة خلفياتها اللغوية أو دلالاتها الثقافية، وربما دون وعي بجنسها، أهي لمذكر أم لمؤنث. في هذا المشهد، يبدو الرجوع إلى أسمائنا التراثية المحلية ليس نكوصًا، بل موقفًا واعيًا واستعادة لهوية أصيلة.

من هذه الأسماء، يبرز اسم "حدهم" بوصفه حالةً خاصة؛ نادرة، بسيطة، ولكنها مشحونة بالدلالة، وذات رمزية لسانية واجتماعية وروحية عميقة. يحمل هذا الاسم في طيّاته قصة، ويُلخّص واقعًا، ويُثير تساؤلات حول التسمية كفعل ثقافي، يزاوج بين الفردي والجماعي، وبين المحلي والإنساني.

- الأصل اللغوي والمعجمي والدلالي لاسم "حدهم":

يتألف اسم "حدهم" من مقطعين: "حدّ" و"هم". فـ"حدّ" في المعاجم العربية يعني المنع، أو الفصل، أو الحدّ الفاصل بين شيئين. يقول ابن منظور: "الحدّ ما يمنع الشيءَ أن يَتَعَدَّى غيرَه، وهو الفاصل بين الشيئين" (ابن منظور، 2005، ص. 135). أما "هم" فهي ضمير الجمع للغائبين، ويُستخدم في العربية الفصحى للإشارة إلى جماعة غير حاضرة.

وبناءً عليه، يُمكن فهم الاسم دلاليًا على نحوين:

- "أحدهم": أي شخص غير محدد من بين جماعة.

- "آخرهم": بمعنى ختام الجماعة أو نهايتهم، وهي دلالة أكثر التصاقًا بالسياق الشعبي المغربي.

في الاستعمال المغربي، وتحديدًا في الشرق ومناطق زعير وزمور، خاصة منطقة تيفلت، نجد الاسم متداولًا في سياقات خاصة، حيث تُطلق عبارة "هاذي حدهم" في وصف آخر بنات الأسرة، خاصة إن تتابعت ولادات الإناث دون فاصل ذكري. ثم حُذفت "هاذي" لتبقى "حدهم" اسمًا قائمًا بذاته، يُعبر عن أمنية ضمنية بأن تكون هذه آخر البنات، أي علامة على الاكتفاء و"ختم النسل"، أو "آخر من حدّهم"، أي آخر نسلهم أو طفلهم الأخير إن صح التعبير.

وقد أشار بعض كبار السن في منطقة زمور (مقابلات ميدانية، 2024) إلى أن التسمية كانت دعاءً ضمنيًا أو فألًا حسنًا بأن يُرزق بعد ذلك بولد، أو ألا تستمر الولادة لأسباب صحية أو اقتصادية.

ما يميز اسم "حدهم" أيضًا هو أنه اسم لا يُنسى. فندرته، وغرابته النسبية، وسياقه العاطفي، تجعله يحمل أثرًا في الذاكرة السمعية للمجتمع. وتمنحه فرادة وتجعله سهل التذّكر، بل يلفت الانتباه إلى حامله، ويمنحه هوية لسانية مميزة، ويُشار إليه باسم له حكاية وجذور تاريخية أصيلة، لا كتسمية نمطية عابرة.

- البعد الديني والثقافي والاجتماعي:

في السياق الإسلامي، تحمل كلمة "حدّ" شحنة دلالية قوية، إذ تُذكر في القرآن الكريم ضمن ما يُعرف بـ "حدود الله"، وهي الأحكام التي شرّعها الله لتنظيم السلوك وحفظ التوازن الأخلاقي والاجتماعي، كما في قوله تعالى: ﴿تلك حدود الله فلا تعتدوها﴾ (البقرة: 229)، وقوله: ﴿ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه﴾ (الطلاق: 1). هذه الحمولة القيمية تمنح الاسم عمقًا رمزيًا، وإن لم يكن الاشتقاق مباشرًا، لكنه يحيل إلى معاني الضبط والمنع والحسم (الشوكاني، 2001، ص. 22).

كما أن حضور الاسم في الثقافة الشعبية المغربية يعكس تفاعله مع الوجدان الجمعي، خصوصًا في المجتمعات القروية، حيث التسمية ليست فقط اختيارًا لغويًا بل تعبير عن أمل أو رسالة غير منطوقة. اسم "حدهم" في هذه البيئة لا يُطلق عبثًا، بل يأتي محمّلًا بتجربة عائلية أو رغبة في نهاية مرحلة معينة من الإنجاب أو بداية مرحلة جديدة. فالتسمية هنا تُصبح أشبه بدعاء غير مباشر، فيه رجاءٌ واستسلام للقدر.

لهذا الاسم طابع اجتماعي يضفي على حامله فرادة لافتة. فهو لا يُشبه الأسماء المتداولة، بل يتفرد بها، فيُصبح لسان حال الجماعة حين يُذكر. والفرادة في الاسم تعني غالبًا فرادة في الهوية. فالطفل الذي يُقال له "أنت حدهم" يُنشّأ على وعي ضمني بأنه مختلف، وربما مميز، وهذا يسهم في بناء تصوره الذاتي وإحساسه بقيمته داخل الجماعة.

من جهة أخرى، يحمل الاسم في بنيته الصوتية قوة واضحة. لا ليونة في النطق، بل حدة، وصلابة، وجديّة. وهذه النغمة تُساهم في إضفاء معانٍ إضافية على الاسم كرمز للقوة والشجاعة والقدرة على التميّز. وهذا الأثر الصوتي يُرافق الشخص في حياته، ويؤثر في طريقة تفاعله مع العالم من حوله (بنيس، 1999، ص. 87).

وبينما تحاول بعض الأسر مسايرة موجة "الحداثة الشكلية" بتسمية أبنائها بأسماء أجنبية قد تُفقدهم الاتصال بهويتهم الأصلية، وتزرع فيهم شعورًا بالغربة اللغوية أو القيمية، فإن الرجوع إلى أسماء محلية مثل: حدهم، عائشة، رحمة، ضاوية، نجمة، يطو، فاطنة، الجيلالي، عباس، الخياطي، مبارك، مسعود… هو استعادة لفعل ناتج عن ثقافة التسمية المرتبطة بالحظ والأقدار أو التفاؤل والانتماء، وهو احتفاء بالثراء المغربي في تعدده العربي والأمازيغي والحساني والصوفي والإسلامي (المجلس الأعلى للتربية والتكوين، 2019).

- رؤية حضارية ومعالجة معرفية:

ليست التسمية إلا لبنة أولى في مشروع تربية شاملة. فالاسم يرافق الإنسان في بطاقة هويته، وصوته، وسجّلات المدرسة، ومراسلات العمل، وحتى في ذكريات من يحبّونه. وحين يُحمل اسم مثل "حدهم"، يصبح جزءًا من خطاب غير منطوق: خطاب يروي حكاية المكان والأسرة والزمان.

يتحول الاسم في هذا السياق إلى وثيقة ثقافية تصف علاقة الإنسان بجذوره. في التسمية اعتراف ضمني بأن الطفل ليس بداية من لا شيء، بل هو استمرار لسياق عائلي واجتماعي وإنساني. واسم "حدهم"، بما له من فرادة وارتباط بالذاكرة، يزرع في الطفل نوعًا من الفخر الخفي والانتماء العميق إلى قصة أكبر منه.

من الجانب النفسي، تساعد هذه الأسماء على بناء شخصية مستقلة، ترفض الانصهار فيما يُملى من الخارج. فاسمٌ مثل "حدهم" يحيل مباشرة إلى سردية خاصة، ويُغذي خيال الطفل حول مكانته في العائلة، كما قد يفتح أمامه بابًا للتساؤل حول المعنى، والسياق، والذاكرة.

إن التسمية تُصبح وسيلة للمقاومة الرمزية، وخصوصًا حين تتخذ الأسر موقفًا ضد الاستلاب الثقافي عبر أسماء مستوردة تُفرَغ من أي دلالة هوياتية. فاختيار "حدهم" هو إعلان عن التمسك بالحق في تسمية الذات من داخل الثقافة، لا من خارجها (المعجم العربي الأساسي، 1989، ص. 42).

ولا تعني العودة إلى الأسماء التراثية رفضًا للحداثة، بل دعوة إلى الانفتاح الواعي والاختيار النقدي. فأن نحمل أسماء لها جذور، لا يعني أننا نرفض العالم، بل أننا ندخله ونحن نعرف من نحن. بهذا المعنى، يُصبح الاسم "حدهم" جسرًا بين المحلي والعالمي، بين الأصالة والانفتاح، بين الذاكرة والطموح.

خاتمة

إن الاسم ليس مجرد دالّ لغوي، بل هو حاضنٌ للمعنى، ومُعبّر عن انتماءٍ متجذر في الزمان والمكان. واسم "حدهم" لا يُمثل فقط حالة لسانية نادرة، بل يُمثل اختزالًا لثقافةٍ تعي جيدًا أن الهوية ليست ترفًا، بل هي حاجة وجودية تُمارَس حتى في أدق تفاصيل الحياة، ومنها التسمية.

في عالمٍ يزداد فيه التشابه، وتُعاد فيه الأسماء وكأنها سلعة قابلة للتكرار، يأتي "حدهم" ليربك هذا النسق ويعلن عن فرادة الإنسان المغربي، في لغته، ووجدانه، وتاريخه. فالاسم هنا لا يُعرّف فقط صاحبه، بل يُعرّف من اختاره، ويُعلن عن موقف لغوي وقيمي وثقافي.

لذلك، فإن إعادة الاعتبار لهذا النوع من الأسماء ليس فقط فعل وفاء للموروث، بل هو فعل بناء للذات في عالم يمحو الحدود ويُميع الاختلافات. اسم "حدهم" ليس فقط نداءً شخصيًا، بل بيانٌ ثقافيٌّ صغير في مواجهة العولمة الرمزية التي تبدأ أحيانًا من الاسم.

***

د. فاطمة الزهراء العسالي - المغرب

....................

المراجع

- ابن منظور. (2005). لسان العرب (ج2، ص. 135). بيروت: دار صادر.

- الشوكاني، محمد بن علي. (2001). نيل الأوطار في أحكام الحدود (ص. 22). بيروت: دار المعرفة.

- بنيس، عبد السلام. (1999). الهوية والسيمياء في الثقافة المغربية (ص. 87). الدار البيضاء: دار النشر المغربية.

- المجلس الأعلى للتربية والتكوين. (2019). تقرير حول الهوية الثقافية في المدرسة المغربية. الرباط.

- المعجم العربي الأساسي. (1989). تونس: المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم.

- مقابلات ميدانية مع سكان زمور وتيفلت، شهري مارس وأبريل، 2024.

بين القراءة الاختزالية وفلسفة النقد البنَّاء

في عالمٍ متسارعٍ تتنازع فيه القراءات والتأويلات، يبرز سؤالٌ جوهريّ: إلى أيِّ مدى يمكننا قبول ممارسة النقد في بيئةٍ تُجرِّم التفكير الحرّ وتُسقِط كل قراءة جريئة تحت مسمّى "الخيانة" أو "التطاول"؟ إنّ القراءات الاختزالية والمتعسفة، التي تُبتر النصوص من سياقها وتُقوِّل أصحابها ما لم يقولوه، لا تمثل فقط خيانةً للمعرفة، بل هي جريمة في حقّ الحقيقة، لأنها تُوظَّف - عن قصد - لتبرير الأهداف الخبيثة، ولتشويه المقاصد النبيلة التي يتوخاها الفكر النقدي. وهنا يكمن الخطر الذي أشار إليه ميشيل فوكو حين قال: "السلطة لا تُمارس فقط من خلال المؤسسات، بل أيضاً من خلال إنتاج الخطابات التي تحاصر الحقيقة وتعيد تشكيلها وفق مصالحها."

إنّ هذه الآلية - أي تفريغ النصوص من عمقها وتحويلها إلى شظايا وظيفية تخدم السلطة أو الأيديولوجيا - هي ما يجعل المثقفين العرب متردّدين في تقديم قراءات نقدية جذرية تهدف إلى إعادة البناء والتقويم. فالنقد عندهم محفوفٌ بمخاطر التصيّد، والتأويل الخبيث، والتشهير. وهنا يمكن أن نفهم لماذا ظلّ "النقد والنقد الذاتي" مشروعاً مؤجَّلاً، لا يكتمل في فضائنا الثقافي العربي.

إنّ الخوف من القراءة المجتزأة هو في جوهره خوف من "اغتيال المعنى"، وهو ما يجعل العديد من المفكرين العرب يكتفون بالتماسّ مع القضايا الكبرى دون الخوض فيها بعمق. وقد حذّر بول ريكور من هذه النزعة حين تحدّث عن "سوء الفهم المُمَنهَج"، حيث تُختَزل المعاني في أكثر تأويلاتها تبسيطاً لتفقد قدرتها على إثارة التفكير النقدي.

ومع ذلك، فإنّ التجارب الفكرية العالمية تقدّم لنا نماذج ملهمة، فـهنري ميلر - أحد أكثر الكتّاب انتقاداً للسياسات الأمريكية - لم يكن صوتاً مناهضاً لوطنه، بل عاشقاً جريحاً له. وهذا ما أكّده مثقفون غربيون كثر حين أقرّوا بأنّ نقدهم هو تعبير عن فرط انتمائهم، لا عن نقمة أو خيانة. لقد جسّدوا ما أشار إليه الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس حين وصف النقد بأنه "شكل من أشكال المشاركة الفاعلة في الفضاء العمومي، ووسيلة للدفاع عن قيم المجتمع نفسه".

وإذا التفتنا إلى التجربة النقدية العربية، نجد أن إرهاصاتها الأولى ارتبطت بمحاولات التحديث والانفتاح على الفكر الغربي، كما فعل رفاعة الطهطاوي في القرن التاسع عشر حين كتب عن ضرورة نقل العلوم والأفكار من الغرب لا لتقليده، بل لإعادة بناء المجتمع العربي وفق قيم التقدم. كانت قراءاته جريئة في زمانها، ومع ذلك واجهت هجمات عنيفة من التيارات المحافظة التي اجتزأت نصوصه واتهمته بالعمالة الفكرية.

وفي القرن العشرين، ظهر مشروع محمد عابد الجابري في نقد العقل العربي، وهو مشروع إصلاحي عميق يهدف إلى تفكيك البنى الفكرية الموروثة وإعادة بنائها. لكن حتى محمد عابد  الجابري، الذي حمل همّ النهضة، وقع ضحية للتأويلات المغرضة التي حوّلت مشروعه الفكري إلى أداة لتصفية الحسابات الإيديولوجية، بدل أن يكون منطلقاً لحوار حضاري واسع. ويبدو أنّ هذا المصير يكاد يطارد كل من تجرأ على ممارسة النقد في فضائنا العربي، من طه حسين إلى عبد الله العروي، حيث حُوربت مشاريعهم باسم الدين أو القومية أو الوطنية، وكأن النقد لا يمكن أن يكون فعل حب للوطن.

هنا يصبح النقد البنَّاء أسمى أشكال الوطنية، لأنه لا ينطلق من رغبة في الهدم، بل من حرص على البناء وإكمال النقص، ومن إيمانٍ بأنّ الأوطان التي تُحصّن نفسها ضد النقد تُمهّد لانهيارها الذاتي. وبهذا المعنى، يغدو النقد ممارسةً وجودية تُعبّر عن "حبٍّ عميق للوطن" كما وصفه ميلر ومارسَه كبار المفكرين الغربيين.

إنّ ما نحتاجه اليوم هو أن نعيد تعريف النقد في وعينا الجمعي، لا كفعل عدائي، بل كصرخة حبّ، وكفعل تحرّر من سطوة القراءات الضيّقة التي تُقصي كل محاولة لإعادة التفكير في ثوابتنا الثقافية والسياسية. فالذين يخشون النقد لا يخافون الكلمة بحدّ ذاتها، بل يخافون انكشاف هشاشة بنيانهم.

النقد إذن ليس ترفاً فكريّاً، بل ضرورة حضارية؛ وبدونه لا يمكننا أن نواجه الجمود ولا أن نحلم بوطن "أفضل وأكثر كمالاً مما يمكن أن يتم هجاؤه". إنّه دعوة إلى الشجاعة الفكرية التي تحدّث عنها إيمانويل كانط في مقالته "ما التنوير؟"، حين رأى أن التقدّم يبدأ حين نجرؤ على استعمال عقولنا خارج الوصاية المفروضة علينا.

بهذا، يصبح النقد فعل انتماء بامتياز، ووسيلة لإنقاذ الخطاب من تحريفه وتوظيفه في مساراتٍ مغرضة. إنه صراع ضد القراءات التي تُراد لها أن تُميت المعنى بدل أن تُحييه، وهو، قبل كل شيء، إعلان حبّ للوطن في أبهى صوره.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

الواقع بين فیلم 'عرض ترومان' وحلم ديكارت

- المدخل: لاینكر، إن فكرة الواقع ومفهوم العالم،  كرّست في ثقافة البشر وغرست في الأذهان كحقائق بدیهیة. ولكن، في ظل ما يقع في العالم الحاضر، من أحداث ووقائع، يرغمنا على التفحص والتدقيق في مفهوم الواقع. فعندما نتابع أحداث العالم والكوارث في شتى ظهورها، لا نتفاجأ كأننا نتفرج في 'ديزني لاند' ولكن بصورة أكثر مأساوية.

لكن بفضل تكنولوجیا التواصل الذكي، أصبح الأمور أكثر شفافية  مما كان، وعلی الرغم من هذا يغدو الواقع متلبسا، رماديا وغیر واضح تماما. هذه الفكرة تعود الی بدایات شروعي في كتاب 'الفلسفة والفیسبوك' عام ٢٠١٩بالكردیة'، عندما استنتجت بأنه لم یعد هناك خط فاصل بین ماهو واقع/كائن وماهومصطنع/متخیل.

لأن مفهوم الواقع تأثر بهیمنة التكنولوجیا الحدیثة ورؤیتنا للعالم تغیرت من حیث المكان والزمان. لذا لم یعد الفصل بین ماهو واقع ولاواقع، ولابین ما هو مرئي وماهو مجرب ممكنا. لكن المفارقة هنا هي: أن الواقع أصبح ضبابي في الفضاء المسمی بالواقع المرئي. وبالتالي فما نراه في الأفلام، تقدم وجها آخر لحقيقة الواقع. فهل یمكن للسینما أن یقربنا من الواقع أم أنه یقدمه بطریقة خاطئة أو يقدم بديلا آخرا عنە؟

الواقع كسؤال فلسفي

ماهو الواقع اصلا؟ هل هو مجرد سرد أم خطاب ایدولوجي نتداولە؟ هل هو حقيقة أم فبركة؟ وهل هناك مفهوم أحادي للواقع؟ أم لابد من التفیكر في الواقع بصيغة الجمع/ الوقائع؟

فلسفیا، یمكن الجزم ان الواقع كمهوم كمعطی وجودي. لكن لابد أن يخضع مفهوم الواقع الی محكمة العقل والنقد مجددا. لأنه أصبح متلبسا، مبهما ومخلوطا. فهو ليس كشيء في ذاته (الوجودالعيني) یمكن قبضه. بل یمكن القول بأن الواقع مابین العوالم- الوجودات (جمع الوجود) المتعددة. أصبح الواقع بظهور التكنولوجیا المتطورة في حيز تلبیس ابلیس، إذا صح التعبير.

لأن التكنولوجیا حول ملامسة الواقع الی شيء مابيني وتراكم رقمي أكثر مماهو سائد. فلم یعد یمكن القول بأن الواقع بدیهي كما كان. بل أصبح من نوع 'السهل الممتنع' الذي يتعذر على العقل المعاصر التعامل معه كموضوع خارجي وطبیعي بحاله.

وهل هذا یعني بأن الواقع مجرد وهم ومن صنع عقولنا؟ أم هو حقيقة خارجة عنا؟ إبستمولوجیا، ينشأ فكرة الكون/العالم في الوعي من خلال ملامسة الواقع وتتشكل من خلال رؤية المرء وادراكها. فإذا جزمنا بأن العالم مجرد وهم، فهذا لايعني عدم واقعيته، بقدر مانعني بە سوء الفهم حوله. الوهم يشبه الحلم ويبدو الأمور ثابتًا حتى يستيقظ المرء منه.

كما، لا ننسى أیضا بأن العقل لا يخلق كل شيء، ولكنه يُملي على الأمور معاني وتفسيرات حسب ما يجول في خباياه. لذا، كان التمييز بين "الواقع"و"اللاواقع" أو الحقيقة و"الحلم" أمرا ضروريا. لكن تبدوا الأن بأن الحیاة اختزلت في الشبكات والمنصات وباتت موازية لما تعكسها. فماهو كائن ونعتبره واقعا منسوج خوارزمي خاصة بظهور الذكاء الإصطناعي.

من هنا، نشهد امورا لاواقعیة وأحداث أو أخبار غير موثوقة ولكن تنشر كحقائق بدون سند واقعي. وهذا مايجعلنا نتساءل: مدی واقعیة الأمور في الوقت الحاضر. كما لانستغرب إذا ادركنا أنما يحدث في الواقع بمعناه السائد وعلى المستوى المحلي والعالمي أیضا لم یعد يهزن مشاعرنا. لأننا نعایش الأحداث والمآسي من خلال الشبكات فقط. وهذا یؤدینا الی سؤال خطیر: هل هذا بسبب الموت الفكري فینا أم بسبب "موت الواقع" نفسه؟ لكن كيف یموت 'الواقع'؟ وهل ما نمر به في الوقت الحاضر مجرد حلم أم ماذا؟

الواقع في الحلم الدیكارتي وترومان شو

قبل حوالي أربعة قرون، تساءل ديكارت (1596-1650) نفسه: هل ما هو موجود، حقيقة أم حلم؟ كيف أعرف أنه حلم في حین أن حواسي نشطة أثناء "حلمي"؟

إذن، كیف نرسم الخط الفاصل بين الحقيقة والزيف في ظل التقنیات الذكیة؟ ربما نتسرع بالقول؛ أن فكرة ديكارت طفولية في الأساس. فمن منا لا يفهم الفرق بين الأحلام والواقع.

بطبيعة الحال، كان هدف ديكارت هو؛ أن الأحلام دليل آخر على أن حواسنا تضلّلنا في معرفة الحقيقة. ومن ثم، يصبح السؤال عن ماهية الواقع، أمرا صعبا. وهذا يقود ديكارت إلى منهج "الشك" عن مانختبره ونحس به.

لنعود إلى فیلم (The Truman Show) الخيالي في عام 1998 وبطولة أيقون السينما 'جيم كاري'. فأصل القصة تبدأ؛ بعد أن يترك ترومان والدته، عندما كان طفلاً، تم تبنيه من قبل شركة إنتاج تلفزيوني ومنذ ذلك عاش في استودیو 'سیف هافن'. ولم يغادره طيلة حياته. وبطبيعة الحال، فإن ترومان محروم من العديد من الأشياء دون إرادته وعلمه.

ثم تقوم الشركة باستخدامه في برنامج تلفزيوني. وفي أحد السيناريوهات، يغرق "والده" في قارب أمام عينيه، ويسبب هذا الحدث الخوف من الماء. كما أنه يتعامل یومیا مع المكان - الأستوديو - الذي نشأ فيه، كبيئة واقعية حقیقیة دون أن يدري.

في حين أن الماء والسماء ودرجة الحرارة والمناظر الطبيعية والشوارع والمنازل والأسواق وما إلى ذلك هي جزء من الاستوديو المجهز. ولايدرك بأن الحياة التي يعيشها، ليست حقيقية.

فالبيئة، والأحداث، والحوارات كلها تم إعدادها في "الفضاء المنظم" استوديو كبرنامج تلفزيوني يتم بثه بالطريقة المباشرة للجمهور امام التلفزیون. فحياة ترومان، مسجلة عبر خمسة آلاف كاميرا في مختلف الأماكن داخل الستوديو. بتعبير أخر، أن الواقع مزور ومختلق بداخل الستودیو. واستدرك جیم بأن العالم ووسائل الإعلام والسياسة وحتى أصدقائه وأقاربه يكذبون عليە.

إذن أن المظاهر/الظاهر كما یراه ویدركه، مصطنع ومنسوج لغوي وانعكاس للفكر/العقل. فقصة 'ترومان' مثل المجنون الذي أيقظ الواقع عقله. فما اختبره وجربه لم یكن الواقع بذاته، بل كان منسوج فني عن طريق إخفاء الحقائق عنه.

الرسالة هنا؛ أن الحياة المصورة، تعني أن كل ما نراه هو مجرد سيناريو. فعمله وزوجته وأصدقائه وزملائه كلهم ليسوا إلا ممثلون يؤدون أدوارهم. فالكل جزء من سلسلة تلفزيونية حية، يشاهدها الجميع في أنحاء العالم.

وهذا یشبه نوعآ ما یحصل في حياتنا الآن، حیث يتلاعب السياسيون والشخصيات الدينية والإجتماعية والإعلامیة بالمعاني و"الحقائق" وتحویرها. فمن خلال سرد قصص أيديولوجية- الوطنية والقومیة، الدينية والليبرالية الجديدة والخ في الوسائل الإعلامیة والشبكات، یهدفون الی خلق واقع بدیل ومزیف.

وهذا يعرض وعي الناس الی نوع آخر من الخطر ویمكنه تسمیته بالإستبداد الجدید. فهناك قوى فاعلة ونافذة محليا وعالمیا، یتحكم بالوعي. فمن بسرد أخبار ومعلومات غیر صحیحة الی وقائع بدیلة وتضخیم امور سطحیة.  فالهدف؛ هو تمديد عمر 'السلطة' الحاكمة من خلال افشاء أوهام وسردیات لازمنیة.

لازالت السلطة تراهن "رهانا فاوستیا" مع الشر/الشيطان من أجل البقاء. وذلك، بخلق واقع كاذب ومبرر وتشويه الحقائق وتزوير التأریخ من خلال الروايات الكاذبة. لذا لا نستغرب بان الوضع في مجتمعاتنا المعاصرة یكاد يشبه مجتمع 'ما بعد-الحقيقة'. فطغیان المعلومات الملفقة والحقائق المشوهة، تضيق الخناق علی الواقع.

فنحن أمام ظاهرة أو حملة "تشويه الواقع". وهذا، یذكرنا  برسالة الرسام الإنجليزي فرانسيس بيكون (1909-1992)؛ الذي اعتقد  'إذا أردتَ نقل الحقيقة، فلا سبيل إلی ذلك إلا بتشويهها'. فمن خلال تشويه أو إستبدال "الظاهر" بصورة أخرى عنها.، یكمن خلق حقیقة أخری!

ولكن بفضل حلم ديكارت ووهم ترومان، وفرشاة بيكون والفكر الفلسفي الناقد، إيقاظ الوعي من كابوس "الواقع". فعندما تكون الخطابات والسرديات السائدة عن الواقع منشغلة بتهدئة عقولنا، يتعين علينا إستعادة الوعي الذاتي والنقدي ونبش نعي الواقع/الحقیقة مجددا ومرارا. لم یعد الواقع بریئا كما كان أو علی الأقل بالصورة المقدمة الینا.

***

بقلم نوزاد جمال

باحث ودكتوراه في الفلسفة الحدیثة

 

بالنسبة إلى المنهج التحليلي السوبر خلاّق، العدالة السوبر خلاّقة = إنتاج كلّ أنماط الحرية والمساواة الممكنة × إنتاج كلّ أنماط السلام والتطوّر الممكنة. هذه هي العدالة السوبر خلاّقة لأنها فعّالة في إنتاج كلّ أنماط الحرية والمساواة والسلام والتطوّر. من فضائل العدالة السوبر خلاّقة فضيلة أنها تضمن استمرارية تطوير العدالة وفضيلة تحريرنا من مفاهيم العدالة الماضوية.

بما أنَّ، بالنسبة إلى العدالة السوبر خلاّقة، العدالة كامنة في إنتاج كلّ أنماط الحرية والمساواة والسلام والتطوّر بينما كلّ أنماط الحرية والمساواة والسلام والتطوّر تتضمن أنماط الحرية والمساواة والسلام والتطوّر التي لم تُكتشَف بعد، إذن تضمن العدالة السوبر خلاّقة استمرارية تطوير العدالة من خلال اكتشاف كلّ أنماط الحرية والمساواة والسلام والتطوّر غير المُكتشَفة حالياً أو في الماضي وتطبيقها. وضمان استمرارية تطوير العدالة فضيلة أساسية دالة على أنَّ العدالة السوبر خلاّقة هي العدالة الحقة. من المنطلق نفسه، بما أنَّ العدالة السوبر خلاّقة تدفع بنا إلى اكتشاف أنماط حرية ومساواة وسلام وتطوّر لم تُكتشَف سابقاً من جراء أنَّ العدالة كامنة في إنتاج كلّ أنماط الحرية والمساواة والسلام والتطوّر الممكنة، إذن تحرِّرنا العدالة السوبر خلاّقة من أن نكون سجناء مفاهيم العدالة الماضوية. و في هذا التحرّر فضيلة كبرى دالة على أنَّ العدالة السوبر خلاّقة هي العدالة الحقة.

العدالة السوبر خلاّقة تُحلِّل العدالة من خلال الحرية لأنَّ من دون الحرية نفقد إنسانيتنا. فمثلاً، إن لم نكن أحراراً فحينها سوف نشبه الأشياء الفاقدة للحرية كالحجارة والتراب مما يتضمن خسران إنسانيتنا. لذلك العدالة كامنة في تحقيق واحترام حرية كلّ فرد تماماً كما تؤكِّد على ذلك العدالة السوبر خلاّقة. كما تكمن العدالة في المساواة بأنواعها المختلفة كافة كالمساواة أمام القانون والمساواة الاجتماعية والاقتصادية. هذا لأنه بلا وجود مساواة كغياب المساواة أمام القانون يَسُود التمييز بين الناس مما يُقيِّد حرياتهم و بلا مساواة اجتماعية واقتصادية يفقد الإنسان قدرته على ممارسة حريته بسبب قِلة ما يملك من موارد. من هنا، المساواة بأنواعها كافة ضرورية لتحقيق الحرية فسيادة العدالة الكامنة في الحرية. كلّ هذا يرينا بأنَّ العدالة تكمن في الحرية والمساواة معاً تماماً كما تقول العدالة السوبر خلاّقة.

بالإضافة إلى ذلك، بلا سيادة السلام، نخسر الحرية والمساواة. لذلك العدالة قائمة أيضاً على تحقيق السلام وسيادته. في زمن الصراعات والحروب، يفقد معظم الناس حرياتهم كحرية التنقل وحرية التكلّم والتخاطب بلا قيود بالإضافة إلى الخسائر البشرية والاقتصادية. لذا السلام ضروري لتحقيق الحرية فبناء العدالة. من المنطلق نفسه، في زمن الصراعات والحروب، تزول المساواة بين الناس لأنَّ الصراعات والحروب متصفة بغالب ومغلوب مما يتضمن زوال المساواة بين الأفراد المنتمين إلى جماعات متصارعة. هكذا السلام ضروري لتحقيق المساواة فسيادة العدالة. كلّ هذا يرينا أنَّ العدالة كامنة أيضاً في السلام تماماً كما تؤكِّد العدالة السوبر خلاّقة.

لكن بلا أن يتطوّر الفرد باستمرار، يغدو الفرد سجين ما هو عليه وبذلك يفقد حريته. لذلك العدالة كامنة أيضاً في التطوّر الاجتماعي والاقتصادي والثقافي المستمر. فمن دون تطوّر الفرد اجتماعياً وثقافياً واقتصادياً، يمسي الفرد سجين وضعه الحالي وسجين ماضيه فيخسر حريته ويفقد بذلك إنسانيته. من هنا، لا تتحقق العدالة سوى باستمرارية تطوّر كلّ فرد اجتماعياً واقتصادياً وثقافياً تماماً كما تقول العدالة السوبر خلاّقة. و كلّ هذه البراهين تشير إلى أنَّ العدالة الحقة هي العدالة السوبر خلاّقة التي تحلِّل العدالة من خلال الحرية والمساواة والسلام والتطوّر بقولها إنَّ العدالة السوبر خلاّقة = إنتاج كلّ أنماط الحرية والمساواة الممكنة × إنتاج كلّ أنماط السلام والتطوّر الممكنة.

***

حسن عجمي

فيما يتعلق بفلسفة العار وعقيدة الصدمة

جذب انتباهي عنوان نص في المثقف للكاتبة لندى حطيط موسوم ب " غرور يرسم خريطة التاريخ ل تحولات العار" المستند إلى كتاب "فلسفة العار عاطفة ثورية للفيلسوف فريدريك غرو " المنشور بتأريخ 31 .07. 2025، والذي يمثّل غوصاً جريئاً في منطقة ملغومة من النفس والمجتمع، تلك التي طالما جرى إسكاتها أو محوها باسم «الصحة النفسية» أو «التكيف الاجتماعي». إن ما يقدّمه غرو ليس ترفًا فكريًا، بل نداء أخلاقي يلامس صميم معاناتنا المعاصرة، حيث يُعاد إنتاج العار كأداة خفية للهيمنة لا كوعي تحرريّ، بل أداة للسيطرة تهدم الذات وتمحوها كصفحة بيضاء يجري إعادة كتابتها حسبما يتناسب والهدف المرجو.

بلغة حادة الوضوح، وسرد عميق، يُعيد غرو تعريف العار لا بوصفه سقوطًا فرديًا، بل كصرخة كونية ضد الظلم الممنهج، وكقوة كامنة في صمت المنسيين والهامشيين. العار هنا ليس لعنة، بل شعلة. ليس نهاية، بل بداية لإدراك موجع، يتحوّل ـ متى ما أُصغي إليه ـ إلى فعلٍ مقاوم، وإلى كتابة، وإلى رفض.

وما يجعل هذه القراءة ضرورية في زمننا، هو هذا التذكير الفلسفي بأن ما نخشاه ونواربه ونخجل منه، قد يكون هو ذاته ما يمنحنا فرصة للتماهي الإنساني، ولإعادة اكتشاف ذواتنا المطمورة خلف أقنعة الرضا الكاذب. فالعار، كما يقترح غرو، ليس ما ينبغي ستره، بل ما ينبغي الإنصات له، إذ قد يكون أول خيط في نسيج الخلاص والتحرر.

أوجه التقاطع بين فلسفة العار لفريدريك غرو وكتاب عقيدة الصدمة لنعومي كلاين.

بكل تأكيد، ثمة تقاطعات عميقة وبارعة بين فلسفة العار لفريدريك غرو وكتاب عقيدة الصدمة لنعومي كلاين، وإن انطلقت كل واحدة منهما من سياق تحليلي مختلف. فكلاين تُفكّك في عقيدة الصدمة الآليات النيوليبرالية التي تستغل الأزمات لفرض سياسات قهرية على الشعوب، بينما غرو يُحلّل العار كعاطفة خفية تُستخدم لضبط الأفراد والجماعات؛ وكلاهما في الحقيقة يضيء جانباً من تجربة القهر المعاصرة: أحدهما في الاقتصاد السياسي، والآخر في الشعور الوجودي.

ففي قلب عقيدة الصدمة نجد أن «الصدمة» ليست فقط حدثًا مادّيًا (حرب، كارثة، انقلاب)، بل هي أيضاً لحظة انهيار داخلي تُسلب فيها المجتمعات من قدرتها على التفكير النقدي والمقاومة. هذه الصدمة تُحدث فراغاً نفسياً وسياسياً يُملأ بإجراءات عنيفة تُفرض بوصفها علاجات. وهنا يتقاطع هذا مع فكرة غرو عن «العار» بوصفه لحظة انهيار داخلي، ولكنها – خلافاً للصدمة الصامتة – تحمل إمكانية للرفض والتمرّد إذا تم الإصغاء إليها.

نعومي كلاين تشير إلى كيف تُستخدم الأزمات لترسيخ الهشاشة والخضوع باسم "الإصلاح"، ويكشف غرو كيف يُعاد إنتاج العار كوسيلة لصناعة الطاعة الذاتية، لا بالقوة، بل بالخجل من الهوية والموقع والانتماء. كلا الخطابين يلتقيان في نقد ما يُسمّى بـ"التحرر الزائف": ذلك الذي يمنح الناس حرية الاستهلاك، ويصادر منهم حرية التعبير عن الألم، أو مساءلة البنية التي أنتجت هذا الألم أصلاً.

كلاين تكشف آليات "الهيمنة من الخارج"، وغرو يضيء على "الهيمنة من الداخل". كلاهما، بطريقته، يحثّ على مقاومة صامتة تصبح فيها العاطفة (سواء كانت صدمة أم عارًا) بداية لوعي جديد.

***

سعاد الراعي

70.312025.

........................

رابط المقال

https://www.almothaqaf.com/choices/982608

سؤالٌ شغلَ الفكرَ الإنساني وامتدَّ صداه في أروقة الفلسفة والنقد والفن، حتى بدا وكأنَّه ليس مجرد قضية نظرية، بل معضلة وجودية تتصل بجوهر الإنسان ومآلات حضوره في العالم. لقد أرهق هذا السؤال الباحثين طويلاً، قبل أن تتبلور لديهم قناعة بأنَّ الحداثة، في عمقها الأقصى، ليست سوى وجهٍ آخر للكينونة؛ أو بالأحرى، هي التعبير الأكثر تمظهراً عنها. فإذا كانت الكينونة هي انكشاف الوجود في أبهى تجلياته، فإن الحداثة هي تلك الحركة التي تمنح هذا الانكشاف مضمونه الإبداعي والفعلي.

إن الإبداع الفني، حين يحقق ذاته، لا يضيف شكلاً جديداً أو مضموناً مبتكراً وحسب، بل يحقق كينونته، أي يؤسس لوجود يتجاوز الحدود التقليدية للمعنى، ويتخطى زمنه ومكانه ليبلغ مرتبة الحضور الفاعل. هنا يغدو العمل الفني كائناً قائماً بذاته، لا يستمد قيمته من مرجعية خارجية بقدر ما يصوغ قيمته في صميم كينونته الخاصة. ومن هذا المنطلق، فإن الحداثة ليست تجديداً سطحياً في المعاني أو الألفاظ أو الأساليب، وليست قطيعة شكلية مع الماضي، وإنما هي فعل وجودي، ينهض في مواجهة المألوف ليصوغ أفقاً جديداً للوعي والتجربة.

بهذا المعنى، تصير الحداثة كينونة ثانية: وجوداً موازياً لا يقل تأثيراً عن أي وجود آخر، لكنها كينونة منحازة للاعتبار الشعري، ذلك الاعتبار الذي يبتكر المختلف، ويقيم المعنى على حافة الدهشة، حيث يغدو المألوف غريباً، والغريب مألوفاً. إنها ليست مفهوماً محصوراً في أمة بعينها أو عصراً بعينه، بل هي أفق مشاع، متاح لكل كينونة تستشعر ضرورة الثورة على رتابتها، سواء أكانت فرداً أم مجتمعاً أم أمةً بأسرها. وهنا يستقيم القول مع ما ذهب إليه مطاع الصفدي حين اعتبر أن الحداثة ثورة في صميم الكينونة، وليست استيراداً جاهزاً لتقنيات أو أشكال من الخارج.

ومن هذه الزاوية، تبدو الأمة العربية والإسلامية مدعوةً إلى التحديث، لا بوصفه استجابة لضغوط الخارج أو مسايرة لركب الآخرين، بل بوصفه دعوة ذاتية تنبع من أعماق كينونتها نفسها. إن عليها أن تباشر فعل الاختلاف الجوهري الذي يُعيد تأسيس ذاتها على قاعدة الانفتاح والتجدد، لا لتستعير حداثة الآخرين، بل لتصنع حداثتها الخاصة؛ تلك التي تتكئ على إرثها الروحي والثقافي، لكنها لا تتقوقع فيه، بل تفعّله في أفق إنساني رحب. عندئذ فقط يصبح ممكناً الحديث عن حداثة عربية حقيقية، تنبثق من كينونتها، وتُسهم في الحوار الكوني للحداثات.

إن الحداثة، بهذا التصور، ليست محطة وصول، بل مسار مفتوح، وحين يلتقي هذا المسار مع سؤال الكينونة، يصبح الإبداع فعلاً تأسيسياً للحضور الإنساني، ويغدو الفكر والفن ساحة اختبار دائمة لمدى قدرتنا على أن نكون، وأن نعيد صياغة وجودنا باستمرار.

فالحداثة ليست زخرفة للوجود ولا قناعاً جديداً للحياة، بل هي ثورة في صميم الكينونة؛ لأنها تقوّض البنى المستقرة التي تجعل الوجود مألوفاً ومفهوماً، لتعيد تشكيله من الداخل. إنها فعل خلخلة يطال الأسس التي نعرّف بها أنفسنا والعالم، فبدل أن تبقى الكينونة استسلاماً لواقع جاهز، تتحول في الحداثة إلى مشروع دائم لإعادة اختراع الذات والوجود. بهذا المعنى، الحداثة ليست حدثاً تاريخياً عارضاً، بل هي مجازفة وجودية: مغامرة للكينونة كي ترى نفسها في مرايا جديدة، وتخلق معانيها الخاصة بلا وصاية من الماضي أو قوالب التقليد.

أما الإبداع، فليس ترفاً جمالياً ولا نشاطاً ثانوياً يضاف إلى الحياة، بل هو فعل تأسيسي للحضور الإنساني؛ لأنه اللحظة التي يتحول فيها الوجود من كونه معطى جاهزاً إلى كينونة واعية تصوغ ذاتها. بالإبداع يخرج الإنسان من دائرة التلقي السلبي للعالم إلى فعل الخلق، فيصبح شريكاً في إنتاج المعنى لا مستهلكاً له. إنه اللحظة التي يبرهن فيها الإنسان على حضوره، لا بمجرد البقاء، بل بإضفاء معنى على بقائه، فيصير وجوده مشروعاً مفتوحاً للتجدد وإعادة الاكتشاف.

***

بقلم: عماد خالد رحمة – برلين.

قراءة في العقل الطائفي العربي

 في المجتمعات العربية ذات الغالبية الدينية، لم تكن المذهبية يومًا مجرّد تمايز فقهي أو اجتهادي في فهم النصوص، بل تحوّلت مع الزمن إلى بنية متكاملة من الانتماء المغلق، تُقاس فيها الحقيقة بمدى قربها من "هويتنا" المذهبية، لا بموضوعيتها أو عدالتها. وفي خضم هذا الواقع، يبرز مفهوم "التواضع المذهبي" بوصفه فضيلة مغيّبة، وأملًا في إعادة الاعتبار إلى الدين كرسالة روحية وأخلاقية، لا كأداة فرز طائفي أو أيديولوجي.

"التواضع المذهبي" هو الاستعداد للاعتراف بنسبية الفهم البشري للدين، والانفتاح على المذاهب الأخرى من موقع إنساني وفكري، لا من موقع الهيمنة أو الازدراء. وهو، بهذا المعنى، موقف نقدي من الذات المذهبية قبل أن يكون تسامحًا مع الآخر. غير أن هذا النوع من التواضع نادر في البيئة العربية، إذ يهيمن على الخطاب الديني والإعلامي والسياسي نمط من التفكير الطائفي يقسّم الناس إلى "حقٍّ مطلق" و"باطلٍ مطلق"، ويمنح كل فريق شرعية إقصاء الآخر أو إسقاطه دينيًا وأخلاقيًا.

تنطلق هذه الدراسة من سؤال جوهري: لماذا يغيب التواضع المذهبي في المجتمعات العربية رغم كثافة الخطاب الديني، وادعاء التعدد والاختلاف؟ وما العوامل البنيوية التي ساهمت في تكوين "عقل طائفي" يعجز عن ممارسة النقد الذاتي أو قبول التعدد داخل المجال الديني نفسه؟

تسعى هذه الدراسة إلى تحليل الظاهرة من خلال تفكيك البنية الفكرية والنفسية والاجتماعية التي تقف وراء انعدام التواضع المذهبي، عبر قراءة في التجربة الدينية العربية، وممارسات المؤسسات الدينية، وآليات إنتاج الانتماء الطائفي، وتوظيف الدين في الصراعات السياسية.

تكمن أهمية هذه الدراسة في أنها لا تكتفي برصد مظاهر الطائفية، بل تحاول النفاذ إلى الجذر العقلي والثقافي الذي يُنتجها، وهو غياب التواضع بوصفه وعيًا عميقًا بالذات وبالآخر في آنٍ واحد. كما تبرز أهميتها في كونها تفتح أفقًا للتساؤل حول كيفية استعادة القيم الدينية في بعدها الإنساني، وتحريرها من أسر المذهب والهوية المغلقة.

تعتمد الدراسة مقاربة تحليلية-نقدية، تستند إلى تفكيك الخطاب الديني الطائفي، وقراءة الممارسات الدينية من زاوية علم الاجتماع الديني، وعلم النفس الجمعي، مع الإحالة إلى شواهد تاريخية وفكرية معاصرة من التجربة الإسلامية والمجتمعات العربية.

 التواضع المذهبي.. المفهوم الغائب

رغم تكرار مفردات التسامح والتعدد والاختلاف في الخطاب الديني المعاصر، يبقى التواضع المذهبي مفهومًا غائبًا أو مُغيبًا، سواء في التنظير أو في الممارسة. فالخطاب المذهبي غالبًا ما ينطلق من منطق الدفاع والتبرير، أو من موقع التفوق والاحتكار للحقيقة، فيُسقط على الآخر المذهبي صورًا نمطية مشوهة، دون أن يملك الشجاعة لتفكيك بنيته الذاتية أو نقد تاريخه الخاص.

ما هو التواضع المذهبي؟

التواضع المذهبي لا يعني الذوبان في الآخر، ولا التنازل عن القناعات، بل هو الاعتراف بأن الفهم الديني البشري نسبيّ، وأن المذاهب - مهما بلغت من العمق والثراء - هي اجتهادات بشرية في قراءة النص، لا مساوية للنص نفسه. إنه موقف فكري وأخلاقي يقوم على:

- فصل المذهب عن القداسة المطلقة.

- الاعتراف بأن الآخر قد يمتلك جزءًا من الحقيقة.

- القدرة على مساءلة الذات والانفتاح على النقد.

- النظر إلى الدين من أفق إنساني شامل لا من زاوية الهوية الضيقة.

لماذا هو غائب؟

يُغيَّب التواضع المذهبي في مجتمعاتنا لعدة أسباب:

1. البنية التعليمية الأحادية: حيث يتربى الأفراد على أن مذهبهم وحده هو الصحيح، بينما الآخرون ضالّون أو منحرفون.

2. الخطاب الديني التحشيدي: الذي يتغذى على المقارنة مع الآخر بهدف تعزيز الانتماء لا بهدف الفهم.

3. الذاكرة التاريخية الجريحة: بما تحمله من حروب وصراعات بين المذاهب، تُستعاد وتُوظف في الحاضر.

4. تحالف المذهب مع السلطة: حيث يصبح الدفاع عن المذهب دفاعًا عن هوية سياسية واجتماعية، لا مجرد رأي ديني.

النتيجة

ينشأ خطاب ديني لا يعترف إلا بذاته، ولا يرى في الآخرين إلا تهديدًا يجب الرد عليه، لا تجربة يمكن التعلم منها أو الحوار معها. ويتحول الدين، في ظل هذا الغياب، إلى أداة فرز لا إلى دعوة شاملة، ويصبح المذهب هو الدين نفسه، لا مجرد طريقة في فهمه.

 كيف تشكَّل العقل الطائفي؟

العقل الطائفي ليس نتيجة انفعال لحظي، ولا ظاهرة عابرة. إنه بنية متراكمة، تشكّلت عبر قرون من التفاعل بين عوامل دينية وتاريخية ونفسية واجتماعية، حتى أصبحت منظومة إدراك وتأويل واصطفاف، يرى من خلالها الإنسان العالم والآخر والدين والتاريخ.

1. النشأة في بيئة مغلقة

يولد الفرد في بيئة مذهبية مغلقة، يتربى على أن انتماءه الديني هو الحق المطلق، وأن كل ما عداه باطل أو مشبوه.

يتلقّى الدين لا كدعوة للبحث، بل كإرث مقدس لا يُمس. تُربّى لديه الحصانة لا المناعة، والتسليم لا التفكير، فينشأ على أن الإيمان يعني الولاء المطلق للمذهب، لا للحق بمعناه الكوني.

2. التعليم المذهبي

يُلقَّن الطالب – منذ المراحل الأولى – تاريخًا دينيًا مشحونًا، يتم فيه تمجيد الذات وشيطنة الآخر. في كثير من المدارس الدينية، لا يُدرّس فقه المذاهب الأخرى إلا من باب الرد والتفنيد، لا من باب الفهم والاعتراف، ويُختزل تاريخ الآخر في لحظاته السوداء، بينما يُصنع من تاريخ الذات سردية انتصارية بلا نقد.

3. الذاكرة الجمعية الجريحة

الصراعات التاريخية بين المذاهب، من الفتن الكبرى إلى المذابح الطائفية، خلّفت جروحًا في الوعي الجمعي، يتم استدعاؤها في كل لحظة توتر، وتُستخدم لتبرير الحذر، أو الكراهية، أو الاستعداد للعداء. تصبح الذاكرة مادة تعبئة لا درسًا أخلاقيًا، وتُحمل الأجيال الحاضرة وزر أفعال الأجداد.

4. الرموز مقابل القيم

يتحوّل الدفاع عن الرموز (الصحابة، الأئمة، العلماء...) إلى مركز العقيدة، بحيث يصبح الولاء للرموز أهم من الولاء للقيم نفسها. من هنا، يُقصى الآخر لأنه لم يُجلّ رموزنا، لا لأنه ارتكب ظلمًا أو أخلّ بقيمة. ويجري خلط خطير بين حبّ المقدّس وكراهية المختلف.

5. تديّن الانتماء لا تديّن القيم

في العقل الطائفي، يصبح التدين إثبات انتماء، لا تجسيد أخلاق. الدين يتحوّل إلى هوية سياسية أو اجتماعية، لا طريق نحو الله. فيُختزل الإيمان في شعارات واصطفافات، ويُقاس الالتزام بمدى عدائك للخصم المذهبي، لا بمدى قربك من العدل والرحمة.

العقل الطائفي إذن، ليس جهلًا فرديًا، بل بنية جماعية، تُنتجها المؤسسات، وتُغذيها الخطابات، وتُكرسها الذاكرة، وتُحصّنها السلطة. ومن دون تفكيك هذه البنية، سيظل التواضع المذهبي غائبًا، بل مستحيلًا.

الدين حين يُختزل في المذهب

من أخطر التحولات التي أصابت التجربة الدينية في العالم الإسلامي، هو اختزال الدين في المذهب، بحيث لم يعد الإسلام عند كثير من الناس هو رسالة النبي، بل صار هو ما تقوله الطائفة وما تفسّره المدرسة المذهبية، وما تقرره المؤسسة التي تحتكر التفسير.

1. من النص إلى التفسير

النص القرآني واحد، لكن فهمه متعدد. ومع ذلك، يتعامل كثير من أتباع المذاهب مع تأويلهم للنص على أنه النص نفسه. فتصبح أقوال الإمام، أو العالم، أو المذهب، بمثابة الحقيقة الدينية القطعية. بل قد يُترك النص أحيانًا لصالح رأي مذهبي لاحق، أو يتم ليّ عنق النص كي ينسجم مع ما تقرر سلفًا في كتب الطائفة.

2. تحويل التراث إلى مقدس

يتحول التراث الفقهي والكلامي والتاريخي إلى منطقة محرّمة، لا يجوز نقدها أو مساءلتها. ويُعامل كلام الفقهاء وكأنه وحي، وتُبنى العقيدة على استنتاجاتهم، لا على النصوص نفسها. وبدل أن يكون التراث مرآة لتعدد الاجتهادات، يصبح معيارًا لمحاكمة الآخرين، وسيفًا يُرفع بوجه المختلف.

3. الدين كهوية لا كقيمة

في هذا الاختزال، يفقد الدين وظيفته الروحية والأخلاقية، ويتحوّل إلى هوية مغلقة.

لا يسأل الناس: هل أنا عادل؟ هل أنا صادق؟ بل يسألون: هل أنتمي للمذهب الصحيح؟

وهكذا، تُختزل التقوى في الشعارات الطائفية، وتُنسى القيم الكبرى مثل الرحمة والصدق والكرامة، لصالح ولاء مذهبي صارم.

4. انغلاق باب التأويل

عبر التاريخ، شكّل التأويل بابًا للاجتهاد والتجديد، لكن مع صعود الخطاب الطائفي، أصبح التأويل تهمة، وخرج من أيدي المفكرين ليدخل في قبضة الفقهاء الحزبيين. فأُغلق الباب أمام القراءات الجديدة للنص، وأُعيد إنتاج الفهم ذاته، حتى أصبح الدين مجرد صدى لصوت المذهب، لا صوتًا حيًّا للحقيقة.

5. تقديس الانقسام

تتحول الخلافات الفقهية إلى مقدسات طائفية، ويُبنى عليها الاصطفاف والانتماء. فمن يوافقنا فهو مسلم كامل، ومن يخالفنا فهو متهم أو منقوص أو على حافة الخروج من الدين. تتوقف مرونة الدين، وتتجمد حيويته، ويصبح خلاف المذاهب حاجزًا نفسيًا وعقليًا بين الناس، لا مجرد تنوع اجتهادي.

إن اختزال الدين في المذهب لا يقتل فقط روح التعدد، بل يفرغ الدين نفسه من محتواه. فإذا غاب الأفق الإنساني والروحي والأخلاقي، لم يبقَ من الدين سوى هياكل مذهبية تتصارع على تمثيله، كلٌ يدّعي أنه الأقرب إلى الله، وهو أبعد ما يكون عن روحه.

من الدفاع إلى العدوان

في كثير من الحالات، يبدأ الانتماء المذهبي من موقع الدفاع: الدفاع عن الذات، عن الحقيقة، عن الهوية، عن التاريخ، عن الشعائر. لكن هذا الدفاع، إذا لم يُضبط بالوعي النقدي والتواضع الإيماني، سرعان ما يتحول إلى عدوان على الآخر، لا في الجسد فقط، بل في الذاكرة والوعي والخطاب والشرعية.

1. الدفاع المذعور

ينشأ كثير من الخطابات الطائفية من خوف جماعي، حقيقي أو متخيّل، من ضياع الهوية أو طمس الخصوصية. فكل اختلاف يُرى تهديدًا، وكل نقاش يُستقبل كتشكيك، وكل تقارب يُعدّ مؤامرة. ينغلق العقل، ويُستنفر الوجدان، ويُبنى الحصن: "نحن الضحية... إذًا الآخر عدوّ".

2. تحويل الآخر إلى كائن مشوّه

العدوان لا يبدأ بالسلاح، بل بالصورة الذهنية. تُبنى صورة الآخر من خلال سرديات منحازة، تتقصّد التشويه، وتُعيد إنتاج الكراهية عبر القصص المتوارثة، والنكات الساخرة، والاتهامات الدينية. يُجرد الآخر من صفاته الإنسانية: فلا عدل له، ولا تقوى، ولا صدق، لأنه ببساطة... "من تلك الطائفة".

3. الشرعنة اللاهوتية للعداء

لترسيخ العداء، يُستدعى الخطاب الديني المذهّب، فتُنتزع من التراث أسوأ الروايات وأكثرها عنفًا، وتُقدَّم باعتبارها تمثل جوهر الطائفة الأخرى. ثم يُبنى خطاب "الولاء والبراء"، و"الحق المطلق والباطل المطلق"، ويُصبح الاختلاف عذرًا للنبذ، والنبذ مدخلًا للتكفير، والتكفير تمهيدًا للعدوان.

4. من الكلمة إلى الرصاصة

حين تُهيمن هذه البنية الذهنية، يصبح العنف نتيجة طبيعية:

- في الخُطب: سبٌّ وشتم وتحقير.

- في الكتب: تشويه وتحريض.

- في المنابر: تعبئة واستنفار.

- في الشارع: تهديد وتصفية واستبعاد.

وكل فعل يُبرَّر باسم "الدفاع عن العقيدة"، حتى لو كان عدوانًا صريحًا.

5. الدفاع الذي يقتل الدين

المفارقة أن هذا "الدفاع العدواني" لا يحمي الدين، بل يقتله من الداخل. لأنه يُفرغه من معاني الرحمة، والعدل، والحرية، والتواضع. فيتحوّل الدين إلى خندق، والمذهب إلى سلاح، والناس إلى فرق متقاتلة باسم الله، والله منهم براء.

الدفاع عن الهوية حق مشروع، لكنه لا يكون مشروعًا إذا تحوّل إلى أداة قمع. والحرص على المذهب فضيلة، لكنه يصبح رذيلة حين يُمارَس على حساب الحقيقة والعدل والكرامة. الطائفية لا تبدأ بالسلاح، بل تبدأ بفقدان التواضع المذهبي.

هل من مخرج؟

بعد هذا العرض لبنية العقل الطائفي، وآليات تشكله، وتجليات غياب التواضع المذهبي، يظل السؤال الكبير:

هل من مخرج؟ هل يمكن في بيئة مشبعة بالانغلاق والذاكرة الجريحة والانتماء المتعصب، أن يُولد وعي جديد؟

وهل للتواضع المذهبي من فرصة واقعية، أم أنه مجرد حلم طوباوي في زمن الانقسام؟

1. إعادة مركزية القيم بدل المذاهب

أولى الخطوات للخروج من الطائفية هي ردّ الدين إلى جوهره القيمي: العدل، الرحمة، الكرامة، التواضع، حرية الضمير. حين تصبح هذه القيم مركز الخطاب، ينزاح المذهب من موقع التقديس إلى موقع الاجتهاد، وينفتح المجال لرؤية إنسانية وروحية للدين.

2. تفكيك الهويات الطائفية

لا يمكن أن يُولد تواضع مذهبي دون مساءلة الهويات الدينية المغلقة. فالهوية الطائفية حين تتحوّل إلى مطلق، تصير قفصًا للفكر والدين والوجدان. المطلوب هو إعادة تعريف الذات الدينية بوصفها هوية أخلاقية مفتوحة، لا جماعة مغلقة.

3. تحرير التعليم الديني

المدارس الدينية هي المصانع التي يُشكَّل فيها الوعي. ولذلك، فإن أي إصلاح يبدأ من تحرير التعليم من النزعة المذهبية المغلقة، وإدخال مناهج مقارِنة، تعرّف بالاختلاف المذهبي بوصفه تراثًا إنسانيًا، لا تهديدًا عقائديًا.

4. تشجيع التأويل والنقد

فتح باب التأويل، وتشجيع القراءة النقدية للنص والتراث، وإعادة الاعتبار للعقل في التعامل مع الدين، من أهم أدوات الخروج من الانغلاق. فالمذهب المغلق يخاف من العقل، والمذهب الواثق يتسع للنقد.

5. بناء خطاب ديني جديد

نحتاج إلى فقهاء ومفكرين ووعاظ يتحدثون بلغة القيم، لا بلغة الاصطفاف. ينبذون الكراهية، ويتحررون من الحسابات السياسية والطائفية، ويدافعون عن الإنسان بما هو إنسان، لا بما هو تابع لطائفتهم. خطاب يزرع الوعي بدل الولاء، ويُعيد للدين طُهره الأول.

ليس المطلوب طمس الفوارق المذهبية، ولا تذويب الهويات، بل العكس: المطلوب هو التواضع الذي يعترف بها، ويعقلنها، ويجعلها جسرًا للفهم لا خندقًا للعداء. إنها معركة وعي، تحتاج إلى شجاعة فكرية، وأصوات مخلصة، ومؤسسات تربية تؤمن بأن الله لا يُعبد بالكراهية، وأن الحق لا يُختزل في مذهب.

خاتمة

إن التواضع المذهبي ليس ضعفًا في الإيمان، ولا تهاونًا في الدفاع عن العقيدة، بل هو أرقى درجات النضج الديني، وأصدق تعبير عن فهم الإنسان لمحدوديته، وعن إدراكه أن الله لا يُحدّ في مذهب، ولا يُختصر في طائفة، ولا يُحتكر من قبل جماعة.

في مجتمعات أنهكتها الحروب الطائفية والانقسامات المذهبية، وأفسد فيها الدين السياسي الوجدان العام، لم يعد يكفي أن نتحدث عن التسامح، أو نتغنّى بالوحدة، ما لم نواجه البنية التي تصنع الكراهية وتعيد إنتاجها جيلًا بعد جيل.

التواضع المذهبي لا يولد من الخطاب الرسمي، بل من إعادة تربية العقول والقلوب:

- من تعليم الناس أن المذاهب اجتهادات، لا حقائق مطلقة.

- من نقد التاريخ الديني دون خوف، وقراءته بعيون مفتوحة لا بأفواه مغلقة.

- من إعادة مركزية الإنسان في فهم الدين، لا المذهب أو الطائفة أو الزعيم الروحي.

لقد آن الأوان أن نخرج من عقلية "الفرقة الناجية"، إلى أفق "الحق الواسع"، ومن منطق الولاء للمذهب، إلى منطق الولاء للقيم، ومن الاصطفاف وراء الراية، إلى السير وراء البصيرة. إن ما يحمي الدين من التوظيف الطائفي، ويحمي الإنسان من السقوط في التعصب، هو هذا الإدراك الرفيع بأن الحقيقة لا تُختزل فينا، وأن لله طرائق بعدد أنفاس الخلائق.

فهل نملك الشجاعة الفكرية والأخلاقية لنبدأ من هنا؟

***

محمد ساجت السليطي - كاتب وباحث عراقي

..............

المصادر والمراجع

1. الجابري، محمد عابد. بنية العقل العربي. مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1982.

2. حنفي، حسن. التراث والتجديد. المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1980.

3. الطوزي، محمد. الإسلام السياسي: قراءة سوسيولوجية. دار توبقال، 1992.

4. الغرباوي، ماجد. مدارات عقائدية ساخنة. مؤسسة المثقف، 2020.

5. فضل الله، محمد حسين. خطاب الاعتدال في مواجهة التطرف. دار الملاك، بيروت، 2005.

6. شحرور، محمد. الكتاب والقرآن: قراءة معاصرة. دار الساقي، بيروت، 1990.

7. العروي، عبد الله. الإيديولوجيا العربية المعاصرة. المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1995.

8. نصر حامد أبو زيد. الخطاب والتأويل. المركز الثقافي العربي، 2000.

9. علي حرب. نقد النص. المركز الثقافي العربي، بيروت، 1993.

10. هشام جعيط. الفتنة: جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر. دار الطليعة، بيروت، 1992.

11. إريك هوبسباوم. اختراع التقاليد. ترجمة: فايز الصياغ، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2007.

12. بيير بورديو. العقلانية العملية. ترجمة: جلال بدلة، دار الفارابي، بيروت، 2012.

13. عبد الجبار الرفاعي. الدين والنزعة الإنسانية. مركز دراسات فلسفة الدين، بغداد، 2018.

14. كمال عبد اللطيف. الهوية والاختلاف في الفكر العربي المعاصر. دار توبقال، الدار البيضاء، 2006.

15. برهان غليون. اغتيال العقل: مدخل إلى تحليل الخطاب الاستعماري. المركز الثقافي العربي، بيروت، 1990.

 

في المثقف اليوم