قضايا

عندما يعود بك الزمن إلى كتب التقطتها من أرفف كانت يوما تتنفس ثقافة، تشعر كأنك تلمس ظل إنسان. هكذا التقطت كتاب "تجلي الجميل" لهانس جادامر، بترجمة الدكتور سعيد توفيق، في تلك الأيام الباكرة من الألفية، حين كان المركز القومي للترجمة ورشة للعقل، يديرها الدكتور جابر عصفور. كان يصر أن يضع بين يدي كل كتاب جديد، كأنه يمنحني قطعة من عالم لم نعشه. اليوم، تغيرت الرفوف، وصارت الكتب كالغرباء في وطن نسي لغته.
جادامر، الفيلسوف الذي رأى في الفن مرآة للوجود، يفتح في هذا الكتاب أفقًا تأويليا لاستعادة الجمال من سجن الحداثة. يذكرنا بأن الفن القديم لم يكن مجرد لوحة تعلق، بل كان حكاية تنسجها الجماعة، وطقسا يذوب فيه الفرد بالكل. أما اليوم، فالفن تحول إلى كيانٍ معزول، يسكن المتاحف كأشباح، بعيدًا عن نبض الحياة. هذه المفارقة التي يكشفها جادامر ليست نقدًا للفن، بل صرخة ضد اغتراب الإنسان عن جذوره.
الترجمة، هنا، ليست نقلًا لغويا، بل إحياء لروح النص. الدكتور سعيد توفيق، كمترجم خبيرٍ بدهاليز الفلسفة، نجح في أن يجعل النص الألماني ينطق بالعربية بسلاسة نهر. لم يخن جادامر، بل حمله بلغة تليق بثراء أفكاره، كأنما يضع القارئ في حوارٍ مع فيلسوف يهمس: "الجمال ليس فكرة، بل تجربة نعيشها".
لكن، أينا يذكر تلك الأيام؟ أيام كان الكتاب هدية من صديقٍ مثقفٍ كجابر عصفور، يغريك بكل إصدار جديد كأنه سر يكشف. المركز القومي للترجمة كان خيمة تجمع المشتغلين بالكلمة، أما اليوم، فكأنما الثقافة صارت غيمة تمر من بعيد، لا تمطر إلا نادرًا.
لم يكن جادامر في كتابه هذا يحاور الفن وحده بل كان يحاور الزمن نفسه. زمن انشق إلى شظايا: ماضٍ كان الجمال فيه جزءًا من نسيج الوجود اليومي وحاضر صار الفن فيه لغزا يحلل في مختبرات النخبة. الكتاب، بترجمة سعيد توفيق التي تشبه عبور النص من ضفة الاغتراب إلى ضفة الحميمية، يطرح سؤالا جوهريا: هل يمكن أن نستعيد الجمال كـ" حدث" يلمسنا قبل أن يكون فكرة نفككها؟
هنا، يفتح جادامر نافذة على الهرمنيوطيقا كفن للفهم، لا كمنهجٍ جاف. إنه يرى أن العمل الفني ليس شيئا نفسره، بل شيئا نعيشه، كالضوء الذي يخترقنا دون أن نمسك به. لكن الحداثة حولت هذا الضوء إلى شيء، إلى سلعة تعرض في سوق القيمة الرمزية. الفن الذي كان يوماً صلاة جماعية صار طقسا فرديا، والمتحف الذي كان يجب أن يكون بيت الذاكرة صار مقبرة للأشياء الميتة.
الدكتور سعيد توفيق، بوعي المترجمِ الذي يعرف أن الفلسفة حكاية قبل أن تكون مصطلحات، نجح في أن ينسج لغة عربية تحمل ثقل الأسئلة الوجودية دون أن تنكسر. ترجمته ليست مرآة عاكسة بل هي حوار صامت بين لغتين، بين عقلين. كأنما يقول لنا: الفلسفة الألمانية يمكن أن تولد من جديد تحت شمس العربية، إذا وجدت من يحملها باحترام الحرفِ وروح المعنى.
أما جابر عصفور، صديقي الذي أهداني الكتاب مع عشرات الكتب الأخرى، فكان يرى في الترجمة مقاومة ثقافية. المركز القومي للترجمة، في عصره، كان مشروعا لإنقاذ الذاكرة من طوفانِ التسطيح. اليوم، حين أزور مقر المركز، أشم رائحة الغياب. الرفوف التي كانت تضج بالكتب كأنها خلية نحل صارت متحفا للصمت. حتى الكتب الجديدة تبدو كغرباء في بلد لا يتذكر لغته.
ما يفعله جادامر في "تجلي الجميل" هو تفكيك وهم الاستقلاليةِ الذي يحيطُ بالفن الحديث. حين يقول إن الجمال كان في الماضي حدثا جماعيا، فهو يشير إلى أن أزمة الفن هي في جوهرها أزمة انفصالِ الإنسانِ عن عالمه. الفن لم يعد ينبع من الحياة، بل صار يسكن في جزرٍ معزولة: لوحة تعرض، سمفونية تسمع، رواية تقرأ... كل شيء منفصل عن سياقه الحيوي.
لكن هل يمكن أن نعود؟ هل يمكن أن نستعيدَ تلك اللحظة التي كان فيها الفن تنفسا مشتركا؟ جادامر لا يقدم إجابات جاهزة، بل يفتح أبواب الأسئلة. هو يذكرنا بأن الهرمنيوطيقا ليست أداة لفك الشفرات، بل هي استعداد للاستماعِ إلى ما يقوله العمل الفني لنا الآن، في هذا الزمنِ بالذات. الفن الحقيقي لا ينتمي إلى ماضيه، بل ينتمي إلى كل لحظة نعيشه فيها من جديد.
في زمنٍ تسيطر عليه ثقافة الاستهلاكِ، حيث يختزل الجمال في "إنستجرام" والصورةِ السريعة، يبدو كتاب جادامر كنداءِ صحوة. نداء يوقظنا من سباتِ العادة، ويدعونا إلى أن نرى الفن كـ "لقاء" وجودي، لا كـ "شيء" نحصيه في سجل الإنجازات.
أما أنا، الذي قرأت الكتاب في زمنٍ كان جابر عصفور يملأُه بالكتب كأنها أطفال يولدون من رحمِ الثقافة، أتساءل: هل صارت الترجمة اليوم مجرد نشاطٍ بيروقراطي؟ أم أن هناك من لا يزال يؤمن بأن الكتب جسور نعبر بها إلى ذواتنا قبل أن نعبر بها إلى الآخرين؟
تبقى كلمات جادامر، في هذا الكتاب، كالندبة التي تذكرنا بأننا جرحنا الجمال حين فصلناه عن الحياة. وتبقى الترجمة، حين تكون أمينة، كالوشم الذي يحمل قصص الأجداد على جلد الأحفاد.
"تجلي الجميل" ليس كتابا عن الفن فحسب، بل سيرة جمالٍ ضائعٍ بين الماضي والحاضر. يذكرنا بأن النقد الحداثي للفن قد يكون مرآة لأزمتنا نحن: أزمة انفصالٍ عن العالم، وعن بعضنا. وكأن جادامر يناجينا: عودوا إلى حيث كان الجمال ينبع من الحياة، لا من المتاحف.
هكذا كانت الكتب أيام جابر عصفور: جسورا بين العوالم. أما الآن، فكثير من الجسورِ صار خرابا، وكثير من الأسرار بلا حكاة. ولكن، يبقى الكتاب بصمة نور في ظلام الزمن الرديء.
***
عبد السلام فاروق

كيف تُستخدم المصطلحات السياسية والدينية لإخضاع الشعوب
لم يكن الاستبداد يومًا مجرد سلطة خشنة تُمارَس بالحديد والنار، بل هو هندسة متقنة للوعي، معماريّة للذهن تُشيَّد بالمفاهيم قبل السجون، وباللغة قبل البنادق. فالكلمات ليست محايدة، إنها دواليب الزمن، وقاطرات التاريخ، وأحيانًا، قيود لا تُرى. ومنذ أن أدرك الطغاة أن العنف العاري يخلق المقاومة، لجأوا إلى ما هو أكثر مضاءً: تفخيخ المصطلحات، وإعادة تعريفها بحيث تبدو كما هي، لكنها تحمل نقيضها. فالطاعة ليست طاعة، بل “استقرار”، والخضوع ليس خضوعًا، بل “مصلحة وطنية”، واحتكار السلطة ليس استبدادًا، بل “وحدة الصف”.
يبدأ كل استبداد بعملية إعادة تأويل ممنهجة للمفاهيم، حيث تتحول اللغة إلى أداة ضبط لا تُمارِس القمع المباشر، لكنها تشكل العقل ببطء، كما ينحت النهر الصخور بصبر لا ينفد. منذ لحظة دخول الإنسان إلى فضاء السلطة، سواء عبر الدولة أو المؤسسة الدينية، يجد نفسه محاطًا بمفاهيم لا يملك رفاهية مساءلتها، لكنها تشكل حياته بأدق تفاصيلها. فالطاعة ليست فقط علاقة بين الفرد والسلطة، بل منظومة تُعاد هندستها في المدارس، ودور العبادة، والبرامج التلفزيونية، والوثائق الرسمية، وحتى في الأحاديث اليومية التي تجري بلا اكتراث، لكنها تحمل في طياتها ترسبات قرون من الإخضاع الممنهج.
حين قال أفلاطون إن الحاكم ينبغي أن يكون “راعيًا” لشعبه، لم يكن يدرك أنه يضع حجر الأساس لاستعارة قاتلة. فالراعي لا يكون إلا إذا كان الناس قطيعًا، والقطيع لا يسير إلا بوهم الطاعة أو بسوطها. ولذا، شُيِّدت النظم السلطوية على مصطلحات تُعيد إنتاج هذه العلاقة، فأُفرغت السياسة من معناها الجدليّ، وأُعيد تعريفها كعلاقة رأسية، لا تقوم إلا على الطاعة والتسليم.
في السياق الديني، تحولت عبارات مثل “طاعة أولي الأمر” و"درء الفتنة" و"الخروج على الجماعة" إلى أسلحة مفاهيمية تضمن للسلطة بقاءها، لا بالحجة، بل بإرهاب الفكرة نفسها. هكذا أصبح الحاكم ظلّ الله، وأي مساس به مساس بالعقيدة. حتى أن الغزالي، رغم تأملاته العميقة، سقط في فخ هذه الصياغة حين قال: “السلطان ضروري في نظام العالم”، رغم أن السلطان لم يكن يومًا إلا الضرورة الوحيدة في خراب العالم.
أما في الحقل السياسي، فالأمر أكثر تعقيدًا، إذ يتخذ الخطاب أشكالًا أكثر حداثة، لكنها لا تقل قِدَمًا في جوهرها. فمصطلحات مثل “الأمن القومي” و"المصلحة العليا للدولة" تُستخدم اليوم بذات الطريقة التي استُخدمت بها في عصور السلاطين، لكن في لبوس جديد. في القرن العشرين، لم يكن القمع في الأنظمة السلطوية يُمارَس بذريعة الحق الإلهي، بل تحت راية “حماية الاستقرار”. ومن السودان البشير إلى عراق صدام، ومن سوريا الأسد إلى ليبيا القذافي، ظل “الاستقرار” حجر الأساس في قمع كل ما يهدد احتكار السلطة.
منذ فجر التاريخ، كان للسلطة قدرة خارقة على التكيف، على تغيير جلدها دون تغيير جوهرها. ففي الدولة الأموية، حين أراد عبد الملك بن مروان أن يُحكم قبضته على الخلافة، لم يُشهر سيفه فحسب، بل أشهر مفهومًا: الجبرية، التي صاغها وعّاظ السلطان لتصبح أيديولوجيا تخدم الخليفة. فصار الحاكم هو قَدَر الأمة، ورفضه هو رفض لإرادة الله. هذه الصياغة لم تكن سوى صورة أولية لما سيأتي لاحقًا في الأنظمة الحديثة، حيث يُعاد إنتاج الطغيان لا بالسيوف، بل بالمفاهيم.

وما الجبرية سوى نواة لأشكال أخرى من إعادة إنتاج الطاعة؟ في العصر الاستعماري، كانت “رسالة الرجل الأبيض” هي الجبرية بثوب حديث، حيث صُوّرت الهيمنة الغربية كقدر لا يُردّ، ومهمّة حضارية لا تقاوم. أما في الدولة الوطنية، فقد تحول الاستعمار إلى استعمار داخلي، حيث استبدلت الشعارات، لكن البنية بقيت كما هي. فالقائد الضرورة هو ذاته الحاكم بأمر الله، والدولة الأمنية هي امتداد للحامية الاستعمارية، وإن تغيّرت الأسماء.
لكن هل يمكن قلب الطاولة؟ هل يمكن للمصطلحات أن تُحرر بدل أن تُكبِّل؟ هنا يأتي دور المثقف، ليس بوصفه مصلحًا اجتماعيًا، بل بوصفه مُخرِّبًا للخطابات المستقرة. فالتفكيك ليس رفاهية فكرية، بل ضرورة سياسية، وهو فعل مقاومة بحد ذاته.
حين قال غرامشي: “الهيمنة تبدأ بالثقافة”، كان يضع أصبعه على الجرح. فالسلطة لا تحكم بالسلاح فقط، بل بمنظومة كاملة من الخطابات التي تجعل الطاعة أمرًا بديهيًا. ومن هنا، فإن تفكيك اللغة ليس تمرينًا لغويًا، بل مواجهة للهيمنة في أعمق مستوياتها.
لكن هذا التفكيك لا ينبغي أن يكون هدمًا فحسب، بل إعادة بناء. فالمفاهيم لا تزول، بل تتحول، وما يُفكَّك اليوم يمكن أن يُعاد تشكيله غدًا. فالمصلحة الوطنية، مثلًا، ليست مفهومًا سلطويًا في جوهرها، بل أداة يمكن أن تُستعاد لصياغة مشروع شعبي، والأمن القومي ليس سلاحًا لقمع المعارضين، بل يمكن أن يكون ضمانًا لحماية الجماهير من الدولة نفسها.
غير أن السلطة تتكيف، وها هي تعيد إنتاج نفسها في الفضاء الرقمي. فمن كان يظن أن وسائل التواصل الاجتماعي ستكون منبرًا للتحرر، وجدها تتحول إلى ساحة جديدة للرقابة، حيث يُعاد تعريف “حرية التعبير” وفق شروط السوق والتوجهات الأيديولوجية السائدة. فمن يحكم اللغة يحكم الوعي، ومن يحكم الوعي يحكم المصير.
في الصين، على سبيل المثال، صيغ مصطلح “التناغم الاجتماعي” ليبرر الرقابة على الإنترنت، وفي الغرب، أُعيد تعريف “الأخبار المزيفة” بحيث أصبحت أداة لإسكات الأصوات غير المرغوبة. أما في العالم العربي، فما زالت المصطلحات تُستخدم بذات الحيلة القديمة: فمن يرفع صوته يُتهم بأنه “عميل”، ومن يطالب بحقوقه يُتهم بأنه “مخرّب”، وهكذا تدور الدائرة.
التاريخ ليس قدرًا، والمصطلحات ليست محايدة، واللغة ليست أداة للتعبير فقط، بل هي أداة للتحكم أو للتحرر. وما دام الاستبداد قادرًا على إعادة إنتاج نفسه عبر الخطاب، فإن المقاومة تبدأ من تفكيك الكلمات التي صيغت لخدمته، وإعادة تعريفها بحيث تصبح في خدمة الإنسان، لا الطاغية.
فالطاعة ليست استقرارًا، والاستبداد ليس قدَرًا، واللغة ليست حكرًا على السلطة. ومن هنا، فإن استعادة الوعي لا تبدأ فقط من تحرير الأجساد، بل من تحرير الكلمات، لأنها أول ما يُسلب، وآخر ما يُستعاد.
***
إبراهيم برسي - باحث سوداني

إنّ الأديب الحقيقي الملتزم الواقعي، شاعراً كان أو قاصاً أو روائيّاً، لا يفصل الحالة الأدبيّة التي يشتغل عليها عن الحالة الاجتماعيّة التي تحيط به أو ينشط داخلها، لما بينهما من ترابط عضوي، وتشابك يصل إلى حدّ التماهي، إنّ الأديب يظل جزءاً لا يتجزّأ عن محيطه ممثلاً في أسرته ومجتمعه وأمته ووطنه، فهو ظاهرة اجتماعيّة بامتياز، تنطلق من المجتمع لتصبّ فيه، وهو جزء من تراثها في مرحلة اجتماعيّة معيّنة عبر التاريخ، في الوقت الآخر هو جزء أيضاً من ماضيها ومؤسس بالضرورة لمستقبلها أيضاً، وهو طاقة تعكس حال المجتمع في تحوّلاته المستمرّة، في حياته وحركيّته… والأديب إضافة لكونه هكذا، أي هو صورة المجتمع، فدوره لن يقتصر على تصوير الواقع وقضايا فحسب، بل عليه أيضاً أن يعمل على تنميته وتطويره من خلال إظهار عوامل تخلفه ورسم الحلول لتجاوز معوقات تخلفه. وما التنوّع الإبداعي في القضايا التي يتناولها الأديب بشكل عام، إلّا دلالة على عمق التجربة التي مر بها هذا الأديب، ورمزيتها الرؤيويّة. من هنا تأتي واقعيّة الأدب وتأثيره وذاتيّته وثوريته والتزامه بقضايا الفرد والمجتمع والإنسان عموماً.
إن الأديب الواقعي لملتزم هو ليس المنغرسّ في تربة وطنه فحسب، بل وفي تراث أمته، ولكنّه في الوقت ذاته، هو منفصل عن تراث أمته نسبيّاً، وما انفصاله هنا إلا من أجل إعادة تأويل واستلهام هذا التراث بما يتفق وروح العصر.
من خلال تعرفنا على مناهج النقد الأدبي الحداثيّة وبخاصة (السياقيّة) منها، وهي المناهج التي تدرس العوامل الخارجي المحيطة بالكاتب التي تؤثر فيه عند كتابته لنصه الأدبي، مثل المنهج التاريخي الذي يهتم بالأحداث والوقائع التاريخيّة. والمنهج النفسي الذي يعتمد على آليات علم النفس في دراسة النص، ويهتم بنفسيّة المبدع وعقده النفسيّة إن توفرت، والمنهج الوصفي والمنهج النسوي ومنهج النقد الثقافي وغيرها، أو المناهج ما بعد الحداثيّة (النسقيّة) منها وهي المناهج التي اهتمت بالبنية الداخليّة للنص فقط، وأهملت العوامل الخارجيّة المحيطة بالنص، كالبنيويّة التي قالت بموت المؤلف، وعدم الاهتمام بمولده أو تاريخ حياته أو بنيته النفسيّة، ويقوم الناقد أو المتلقي بدراسة النص من خلال لغته فقط وليس كوسيلة تواصل، وهذا ما يدفع الناقد في هذا المنهج للبحث عن جماليّة النص. فالتركيز على اللغة نجده أيضاً في المنهج التفكيكي، ومنهج التلقي، وعند المنهج الشكلاني الروسي .. الخ، فكل هذا المناهج (النسقيّة) عملت على دراسة العمل الأدبي لذاته، والاشتغال على نظريّة الأدب للأدب، أو الفن للفن.
فمن خلال اطلاعنا كما ذكرت على جوهر هذا المناهج تبين لي أن أفضل المناهج التي يجب علينا دراسة النصوص الأدبيّة بكل تجلياتها وخاصة في مجال النثر والشعر، هو المنهج الواقعي الذي بينا في دراسة سابقة لنا طبيعة هذا المنهج وسماته وخصائصه وأهدافه، وخاصة في تياره الاجتماعي الذي جاءت نظريّة أو منهج الانعكاس لـ"جورج لوكاش" لتضفي عليه حيويته عندما ربط ما بين البناء التحتي والفوقي وطبيعة العلاقة الجدليّة بينهما. هذا مع تأكيدنا على ضرورة الاتكاء على المناهج النقديّة الأخرى، فهي ليست عديمة الفائدة في آليّة عملها وسماتها وخصائصها وأهدافها، ففيها جوانب جيدة قادرة على إغناء المنهج الواقعي الاجتماعي، وليست مسألة اللغة كعلامات وإشارات ورموز سواء أكانت طبيعيّة لا يتصرف الانسان فيها، كصوت الحيوانات أو عناصر الطبيعة، أو الاصوات الدالة علي التوجع والألم وغير ذلك. أم كانت هذه العلامات اصطناعيّة أوجدها الإنسان نفسه للتعبير عن حاجاته وتداولها في اللغة اليوميّة المباشرة، أي في اللغة التقريريّة، أو اللغة الأدبيّة وما تحمله هذه اللغة الأدبيّة من جماليات البلاغة كالانزياح والتشبيه والاستعارة والصورة والرمز .. وغير ذلك. وبالتالي أستطيع القول إن اللغة بكليتها هي علامات أو أصوات راحت تدل على كل مفردات الحياة. فللفن لغته وما تحمل من دلالات، وكذلك الفلسفة والطب والعلوم الطبيعيّة والاجتماعي وغير ذلك.
إن المناهج التي فيها ما يعانق الواقعيّة الاجتماعيّة برأيي هي أداة لإثراء القراءات النقديّة، وهي أنموذج أنسب لتصور قراءة الداخل والخارج (المضمون والشكل) قراءة دقيقة لبنية النص الشعري والنثري ونسيجهما... قراءة تتطلب بالضرورة تفكيك أو تشريح بنية النص، لا لهدم بنيته العامة وإقصاء العوامل الخارجيّة التي أنتجته من أجل خلق قراءات لا حدود لها عند المتلقي الذي ارتبط بالنص بعيدا عن المؤلف وظروف حياته التي ساهمت في إنتاج هذا النص، بل هي عملية تفكيك لبنية النص للبحث عن المستوي الاجتماعي والدلالي والنحوي والرمزي والأسطوري، والتركيبي، والصوتي والايقاعي والجمالي في هذا النص.
إذاً إنّ العلاقة بين الأدب والمجتمع علاقة قويّة متماسكة كما بينا أعلاه، لا يمكن فصلها؛ إذ إن أيّ أديب مهما بلغ من الشهرة لا يمكن أن ينتج أدباً إلاّ في إطار الجماعة التي يعيش معها. وهو يستمدّ تجربته الذاتيّة من هذا المجتمع، وتتولد انفعالاته من خلال شبكة العلاقات الاجتماعيّة في مواقفها المتعددة، تلك التي تمدّه بدفق المشاعر والانسياب الشعري بشكل خاص.
وبناءً على ذلك تعد دراسة الجانب الاجتماعي عند أديب ما، هي في غاية الأهميّة؛ لأنها تكشف عن علاقة الأديب بالواقع الاجتماعي الذي عايشه، من خلال النظر إلى النصّ الأدبي الذي أنتجه، وهذا النوع يعتمد على المنهج الاجتماعي في كشف تلك العلاقات بين الأديب وبيئته الخاصة المتصلة بأسرته ومكان سكنه، ومكونات المجتمع الذي يعيش فيه. وقد تأثر النقاد العرب المحدثون بهذا المنهج الاجتماعي، ونظروا إلى النص الأدبي بوصفه وثيقة اجتماعيّة مهمة، وأن المجتمع هو المنتج الفعلي للأعمال الإبداعيّة، فالقارئ حاضر في ذهن الأديب وهو وسيلته وغايته في آن واحد؛ لأن الأدب في أي بلد هو انعكاس للصورة الاجتماعية التي يمارسها المجتمع بكل فئاته. (1)،
تنوع الخصائص الاجتماعيّة في البعد الأدبي:
نظراً لارتباط الأدب بالوجود الاجتماعي، فإن هناك تعدداً في خصائص أو مفردات البعد الاجتماعي في مضمون الأعمال الأدبيّة، حيث تشمل نـساءً ورجالاً، وأطفالاً وشيوخاً ينتمون إلى مهن متنوعة ومكانات اجتماعيّة وعلميّة مختلفـة، مثلما نجد فيها أحداثاً وتناقضات وصراعات سياسيّة وثقافيّة واجتماعيّة طبقيّة، وهناك حرب وسلم.. الخ. وكل هذه المفردات تشكل المنطلقات الموضوعيّة والذاتيّة للأديب، وغالباً ما يتشابك العديد من هذه المفردات مع بعضها في نطاق عمل إبداعي اجتماعي ضيق، يرصده لنا الأديب من خلال نافذته الخاصـة التي يطل من خلالها على واقعه، وهي تختلف من أديب لآخر. وبالرغم من أن هذه الخصوصيّة لهذا العمل أو ذاك، إلا أن هذه الخصوصيّة التي يقدمها الأديب عن أي ظاهرة اجتماعيّة لا تـتم بمعزل عن بقيّة عناصر المجتمع أو خصائصه، وإنما تظل مرتبطة بالضرورة مع غيرها من الخصائص بشكل مباشر أو غير مباشر، وهنا يأتي التأكيد على التزام الأديب مـن خلال تفاعله مع وسطه الاجتماعي الذي يتحرك فيه. وبهذا يتم التعرف علـى موقـف الأديب عن طريق ربطه بالنسيج العام الذي يتداخل معه والحكم عليه مـن خـلال هـذا التداخل. (2).
البعد التاريخي والوطني والقومي في الأدب:
- البعد التاريخي:
إن الأديب بشكل عام لا يكتب التاريخ أو يدون الأحداث والوقائع الماضية ليكون أدبه سجلا لأحداث التاريخ كي لا تنساه الذاكرة، وإنما يأتي التاريخ هنا حصيلة وعي إبداعي تتداخل فيه خبرات متعددة للكاتب، ومن ثمة لا يكون التاريخ هو المحور والغاية، ولكنه إطار لأحداث كثيرة تكشف عن الهموم والقضايا التي تشغل ذهنية الأديب .
لذلك فإن القضايا التاريخيّة التي يشتغل عليها الأديب في نصه شعراً كان أو قصة أو رواية، هي تحيل إلى الماضي بصفته مرجعيّة للذات المبدعة، تستمد منه انشغالات متعددة الأبعاد يحتاج إليها المبدع، وتعمل على إثراء وإغناء النص الإبداعي من جهة، والمتلقي وهو يتأمل تلك اللمسات يجد فيها علاقات معبرة عن صور شتى ترسم ملامح الحاضر في اندماجه مع الماضي في أشكال فنيّة رائعة، تختلف عن السياق التاريخي الجاف الذي يسرد الأحداث بطريقة تخلو من ملامح انعكاس الذات على الماضي في تلونها وتشكلها عبر مسارات تعلو وتنخفض تنكسر وتنحني تستقيم وتتعرج من جهة ثانيّة. وعلى هذا الأساس يأتي التاريخ في النص الأدبي لحظة تأمل في زمن سادته انكسارات وأوهام وضعف وقوة ورقي وحضارة،
إن النص الأدبي يستمد القوة والجماليّة من الأبعاد التاريخيّة التي يتجاوز بها الأديب عند تناولها النمطيّة، فالشعر الحداثي مثلاً حين يوظف ملامح التاريخ المتجلية في الخرافة والأسطورة والشخصيات والأحداث الدينية والسياسية والاجتماعية، فإنه يهدف إلى بناء نص شعري جديد يتصف بالحداثة والجماليّة، ويستطيع المتلقي أن يدرك الأهداف التاريخيّة أو العودة إلى الماضي في تشكيلة من الإبداع تنأى عن الأسلوب التاريخي النمطي الذي يتناوله المؤرخ.
إن ينطبق على البعد التاريخي من قضايا اشتغل عليها النص الأدبي كما بينا أعلاه، ينطبق أيضاً على البعد الوطني والقومي والإنساني عموماً.
إن " الشخصيّة الإنسانيّة التي يشتغل عليها الأديب لا تقتصر حدودها على التجربة الفرديـّة أو الاجتماعيّة أو الوطنية والقومية، وإنمـا تمتـد أيضاً لتستوعب التجربة الإنسانيّة عموماً.
***
د. عدنان عويّد
كاتب وباحث من سوريا.
..........................
الهوامش:
1- العقاد، عباس محمود، دراسات في المذاهب الأدبية والاجتماعية، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، 2012م. ص15.
2- نقد الرواية في الأدب العربي : أحمد إبراهيم الهواري، القاهرة ، دار المعـارف ، د/ط ، ٩٩٣م. صـ.٢٦٧. بتصرف

 

تنتهي الكثير من التعريفات الأكاديمية إلى حدِّ الحرية بكونها إمكانية الفرد، دون جبرٍ أو شرط، على اتخاذ قرار أو تحديد خيار من عدة إمكانات موجودة... أو هي حق الفرد في التعبير عما يراه مناسباً، دون أي ضغطٍ خارجي أو حتى نفسي. وهذا يقودنا إلى وصفها، وببساطة شديده، بـ(كسر القيود في التعاطي مع الأشياء من حيث خلق الأفعال وممارستها)، ولكن، ومن المفارقة، نجد أن الحرية من أكثر المفاهيم التي تحتاج إلى قيد أخلاقي لتكون فعلاً ملائماً وصالحاً للمداولة الاجتماعية. وهنا نصل إلى التساؤل الجوهري عن مدى علاقة الحرية بالحتمية الأخلاقية؟. أي هل نفهم من الحرية فعل مجرد عن كل التبعات والمسؤوليات؟ أم هي مبدأ يحتاج في صيرورته وسيرورته إلى عملية إدامة إلزامية؟.
وقبل أن نجيب عن ذلك، لنا أن نشير إلى أن الحرية لا تكمن في الوجود بقدر ما تتعلق بالماهية، وحتى في الأخيرة فهي لا يمكن أن تكون إلا باشتغالٍ نسبي ومحدود، ففضلاً عن كوننا لا نمتلك الخيار في خلقنا بهذه الهيئة أو في تلك البيئة، فإننا نفتقر من جهةٍ أخرى إلى رسم خصوصيتنا وطريقة تفكيرنا، فنحن لا نختار ما يجب أن نكون عليه، لذلك دائماً ما تبقى صورة الإنسان الكامل تطاردنا من جهة ونطاردها من جهة أخرى(تحت معايير دليل الكمال لـ ديكارت) دون جدوى من اللحاق بها؛ وبالتالي فما نحن إلا نتاج البيئة التي نشأنا فيها دون خيارٍ أو معرفة(تحت معايير هربرت سبنسر "الإنسان ابن بيئته")، وقد نكون فيها مجرد دمية، نتوجه إلى حيث ما يريد الرقيب أن نتجه، سواء أكان الرقيب ديناً أو فكرة طائفية أو حتى مؤسسة تربوية واجتماعية، فهو-أي الرقيب- يُمارس على الفرد إمكانية الصناعة والتدجين، فنحن لم نكن كذلك، بل صرنا كذلك.
وعلى كلِّ حالٍ، فينبغي أن تقترن الحرية بالمسؤولية، كما أقرت الفلسفة الوجودية ذلك، بل يجب أن تكون قرينة القيد والحدود، لأن حالها كحال (الفضيلة) من وجهة نظر أرسطو والكندي، أي إنها الوسط الذهبي بتعبير الفيلسوف الصيني (كونفوشيوس)، فلا إفراط ولا تفريط، فالحرية الدينية على سبيل المثال تقع وسطاً بين هامشين، التعصب الأصولي من جهة، الذي يقضي على حرية الفرد في أن يختار دينه ومعتقده، فيحكم عليه بالانفلات، والانفلات القيمي من جهةٍ أخرى، والذي يؤدي بالأخير إلى ازدراء الأديان والمعتقدات، فينتهي بالحكم على الآخر بكونه متعصباً وإرهابياً... أما وسط هتين الحريتين فتكمن الحرية الدينية، التي تدع للآخر في أن يعتنق دينه ومذهبه دون التطرف وإقصاء أصحاب الملل والنحل الأخرى. وكذا الحال بالنسبة للحرية الأخلاقية، فهي أيضاً وسط بين رذيلتين، الانغلاق والعزل عن المجتمع بدافع الحفاظ على السمعة والتقاليد، والانحلال الأخلاقي الذي يمارس الحرية بشكلٍ هجين وصارخ. أما الحرية الأخلاقية فهي قرينة الذوق العام، والتي تُمارس أفعالها بمسؤولية اجتماعية، لا تنتهي بصاحبها إلى الرجعية ولا إلى متاهات الشهرة العمياء.
من خلال ما تقدم نجد أن الحرية تلتزم في تطبيقها على مسؤولية كبيرة، فهي إن احتلت المكانة الوسطية بين المبادئ، بقي عليها أن تحترم مقررات غيرها، وإن أدى ذلك إلى الاختلاف، أما الحرية المطلقة فقد تنتهي إلى احتدام الخلاف، وشتان ما بين الخلاف المُنهِك والاختلاف المُنتج.
ففي الوقت التي تكون فيه الحرية مرهماً ضرورياً لعلاج الأزمات النفسية لمعشر المنغلقين والمتعصبين، في أن تخرجهم من ضلالات العمى إلى إشراقات المستقبل، عن طريق تفعيل خاصية العيش السليم، فإننا اليوم بحاجة فعلية إلى الحتمية في ترويض الانفلات الأخلاقي الذي يُمارس تحت يافطة الحرية، فينبغي أن يتم تقنين المفهوم لدرجة سلب الحرية عن الحرية ذاتها.
***
د. حيدر عبد السادة جودة

يبدو ان الخلاص غير مطلوب في المجتمعات الوهمية والة القمع التكنولوجية هي المهيمنة، المشهد فانتازيا والكائن اسطوري يحلم بالمستحيل وهو يحاول ان يختار شكلا اعلى من الوجود كي يتجلى في الحياة، الوعي العميق والإدراك يمكن أن يقودا إلى شعور بالاغتراب، إلا أنهما أيضًا يمكن أن يكونا مصدراً للنمو الشخصي والتواصل الأعمق مع الذات، هكذا يمكن أن يؤدي إلوعي العميق دوره في الواقع، و يكشف عن تناقضات العالم، مما يسبب شعورًا بالعزلة، الشعور بالاغتراب هو ناتج عن التفكير النقدي والتأمل العميق في مشاكل الانسان، يشعر الانسان بالغربة و عدم الانتماء، مما يؤدي إلى تمرده على القيود الاجتماعية، ويظهر ذلك كاغتراب، هذا التحرر والاغتراب يمكن أن يكون تجربة إيجابية، ولكنه يؤدي أيضًا إلى شعور بالعزلة، المفكرون يحتاجون إلى مجتمعات تشاركهم نفس الاهتمامات لتخفيف نفورهم الداخلي، بالتالي هذا الشعور يكون تجربة شائعة بين العلماء والفلاسفة نتيجة للإدراك العميق، لكنه ليس أمرًا حتميًا. يمكن ان يكون إدراك عبثية الوجود وفكرة أن الحياة قد تحمل معنى ثابتًا أو هدفًا، هوالذي يمثل الصراع بين رغبتنا في إيجاد معنى والواقع الذي يبدو عبثيًا، بالتالي يؤدي الاعتراف بعبثية الوجود ولايسمح بخلق معنى خاص . يحتاج الانفصال عن الواقع ومواجهة الحقيقة الهروب أحيانا، يمكن أن يوفر الهروب راحة مؤقتة، إلا أنه يؤدي أيضًا إلى تفاقم الشعور بالفراغ إذا لم يتم التعامل مع المشاعر الحقيقية بشكل واقعي، وبهذا يمكن أن يكون نوعًا من الدفاع النفسي، إلا أنه يؤدي إلى عدم معالجة القضايا الأساسية، ويفاقم الفراغ الوجودي على المدى الطويل. بينما تكون هذه الآليات وسائل مؤقتة للتعامل مع الفراغ الوجودي، لكنها لا تعالج القضايا الأساسية، البحث عن معنى خارجي، يمكن من خلق معني وهمي لكنه الاستسلام، ولايمكن أن يكون نقطة انطلاق في خلق معاني خاصة، التركيز على اللحظة الراهنة وتحقيق توازن بين الفهم الفلسفي للعبثية وعيش حياة مليئة بالرضا يمكن ان يؤدي الى خلق معنى وتجاوز عبثية الحياة.
التمرد على العبثية متاهة عقلية
التمرد على العبثية يُعتبر متاهة عقلية في بعض السياقات، لكنه أيضًا يكون جزءًا من عملية الفهم والنمو الشخصي.عندما يواجه الأنسان فكرة عبثية الوجود، يشعر بالقلق والإحباط. التمرد يمكن أن يكون استجابة طبيعية لهذا الشعور، حيث يسعى الأشخاص للعثور على معنى أو هدف، التمرد يدفع الأفراد للبحث عن معانٍ جديدة أو قيم بديلة، هذا البحث يمكن أن يكون محفزًا للتفكير النقدي والنمو الشخصي في بعض الأحيان، يمكن أن يؤدي التمرد على العبثية إلى صراع داخلي مستمر، هذا الصراع يكون مرهقًا، حيث يتنقل الأفراد بين قبول العبثية ومحاولة مقاومة ذلك، بعض الأشخاص يستخدمون التمرد كوسيلة للتعبير عن أنفسهم من خلال الفنون أو الكتابة، هذا الإبداع يمكن أن يكون طريقة فعالة لمعالجة العبثية وتحويلها إلى شيء ذي معنى، التمرد على العبثية أيضًا يمكن أن يكون جزءًا من رحلة الفهم والنمو، من خلال مواجهة هذه الأفكار، يجد الأنسان طرقًا جديدة لإيجاد المعنى وعيش حياة مُبدعة رغم العبثية.
النسيان الطوعي
النسيان الطوعي والإدراك العميق في مقاربة فلسفية مثيرة، يمثل كل منهما جوانب مختلفة من التجربة الإنسانية ويشيران إلى القدرة على استعمال المشاعربشكل اعمق، مما يؤدي إلى فهم أكبر للذات والعالم. الإدراك العميق يعزز الوعي باللحظة الراهنة ويشجع على التفكير النقدي، يرتبط بحضور الوجود والوعي، وكيف يمكن أن يؤدي ذلك إلى فهم أعمق لمعنى الحياة، تجاهل أو نسيان التجارب أو المشاعر المؤلمة، يمكن أن يكون نوعًا من الدفاع النفسي الذي يهدف إلى تجنب الألم أو المعاناة، وقد تؤدي إلى فقدان جزء من التجربة الإنسانية، التوازن بين الإدراك العميق والقدرة على النسيان الطوعي يكون ضروريا أحيانًا لتخفيف العبء، لكن يجب ألا يكون ذلك على حساب النمو الشخصي وفهم الذات، يمكن استخدام النسيان الطوعي كوسيلة لتخفيف الضغط النفسي، بينما يُستخدم الإدراك العميق كوسيلة لمواجهة وتحليل المشاعر، البحث عن توازن بين هذين المفهومين يمكن أن يؤدي إلى حياة أكثر رضا، الوصول الى السلام الداخلي يكون بالوعي العميق وادراك الاشياء بشكلها الكامل والواقعي.
السلام الداخلي
لا توجد طريقة واحدة واضحة للوصول إلى السلام الداخلي. قد تكون مزيجًا من الوعي العميق، الفهم البسيط، وإدراك الواقع كما هو. من خلال استكشاف هذه الطرق، يمكن للفرد أن يجد طريقه الفريد نحو تحقيق السلام الداخلي، العديد من الفلاسفة تمردوا على الأفكار السائدة أو المعتقدات التقليدية في سعيهم للبحث عن معنى أعمق للحياة. هذا التمرد كان جزءًا من رغبتهم في فهم طبيعة الوجود، إدراك العبثية في الحياة يمكن أن يؤدي إلى تمرد ضد القيم التقليدية، حيث يسعى الأفراد لتجاوز المعنى الظاهري والبحث عن معاني جديدة، الفلاسفة وصلوا إلى الإدراك العميق للحياة من خلال التفكير النقدي والتأمل الذاتي والتفاعل مع العالم. تمردهم كان نتيجة لرغبتهم في البحث عن معنى أعمق، ورفض القيم الاجتماعية السائدة، هذا التمرد ساعدهم على تطوير أفكار جديدة ومفهوم أعمق، العديد من الفلاسفة واجهوا تجارب صعبة، هذه التجارب دفعتهم إلى التساؤل عن معنى الحياة والوجود، مما ساهم في تمردهم على الأفكار السائدة، الفلاسفة الذين يخوضون تجارب عميقة يميلون إلى التفكير فيها بشكل نقدي، هذه التأملات تساعدهم على فهم المعاني المحتملة وراء تجاربهم، مما يعزز الإدراك العميق من خلال التفكير في تجاربهم ومحاولة الوصول الى السلام الداخلي، يمكن للفلاسفة أن يتحدوا معتقداتهم الشخصية مما يؤدي إلى إدراك أعمق للحياة، عندما يعاني الفيلسوف من تجارب خاصة، قد يشعر بأنه مضطر للتمرد على القيم أو المعتقدات التي لا تعكس واقعه. هذا التمرد يمكن أن يكون دافعًا للبحث عن فهم أعمق للتجارب الشخصية، مما يدفع الفلاسفة للبحث عن معانٍ جديدة وتطوير أفكار تتجاوز الفهم التقليدي، التجربة الشخصية للفيلسوف تلعب دورًا حاسمًا في تشكيل تمرده وإدراكه العميق لمعنى الوجود، المعاناة والنجاحات، إلى جانب التأمل النقدي في هذه التجارب، يمكن أن تؤدي إلى فهم أعمق وتحدي القيم السائدة، مما يسهم في تطوير أفكار فلسفية جديدة.
الوعي العميق ومجتمعات الحافة
مجتمعات الحافة، أو ما يُعرف بالمجتمعات المهمشة، تشكل عادةً أغلبية اجتماعية في معظم السياقات، بالرغم من انها تُعتبر أقلية في المجتمع الأوسع، هذه المجتمعات تتضمن أفرادًا أو مجموعات تعاني من التهميش الاجتماعي، الاقتصادي، والسياسي، وغالبًا ما تواجه تحديات مثل الفقر، نقص الفرص، والتمييز ومع ذلك هذه المجتمعات كبيرة من حيث العدد في بعض السياقات، في المناطق الحضرية تأثيرها الاجتماعي والسياسي قد يكون محدودًا بسبب العوامل الهيكلية التي تعيق مشاركتها الفعالة في الحياة العامة، يمتلك أفراد مجتمعات الحافة وعيًا عميقًا حول قضاياهم الخاصة، لكن هذا الوعي لا يتماشى دائمًا مع المفاهيم الأوسع للوعي العميق التي تتعلق بمشكلات المجتمع بشكل عام، الوعي العميق يمكن أن يساعد في فهم قضايا مجتمعات الحافة بشكل أفضل، مما يعزز من قدرتهم على مواجهة التحديات، يتعرض الوعي العميق للتهديد بسبب عدم فهم القضايا الثقافية والاجتماعية الخاصة بهذه المجتمعات، مما يؤدي إلى فرض حلول غير ملائمة وخلق الفجوات الثقافية بين مجتمعات الحافة والمفكرين الذين يحملون وعيا متقدما تؤدي إلى صعوبة في التواصل وفهم القضايا بشكل مشترك، يتم تجاهل القيم والتقاليد المحلية، مما يؤدي إلى فقدان الهوية والانفصال عن القضايا التي تهمهم ويفقدهم القدرة على اتخاذ قرارات دون قيود خارجية أو داخلية.
***
غالب المسعودي

أظن أننا جميعاً نعرف الظاهرة التي تسمى «تضخم الذات» أو «الأنا المتضخمة». ولعل كلاً منا قد لاحظ حالات تكشف عن ذوات متضخمة، في مقابلات صحافية أو على منصات التواصل الاجتماعي، أو في المجالس، وربما اختبرها بعضنا في نفسه، في بعض الأحيان على الأقل.
وتتمظهر هذه الحالة في صورة تكبُّر على الغير، بل قد يبلغ الأمر حد مطالبة الناس بالتسليم بفضله عليهم، فإن لم يستجيبوا، بادر بإنكار كل قيمة لهم وكل حُسن فعلوه في حياتهم.
ليست هذه مشكلة كبرى، فضررها محدود، لكنها تصل إلى مستويات خطرة، حين يتحول التعبير عن الذات المتضخمة إلى إعلان كراهية لجنس بأكمله، مثل القول بأن الأحباش أو البنغال فيهم كذا وكذا، أو القول بأن البوذيين أو اليهود فيهم كذا وكذا، أو أن العرب أو الأكراد فيهم كذا وكذا. هذا التنميط السلبي لشعوب كاملة يتبلور مع الزمن على شكل كراهية منفلتة، تبرر كل أذى يقع على الناس، وربما حرضت على إيذائهم، أو حتى قتلهم.
السؤال الذي يُلح على ذهني هو: هل يمكن لوسائل الاتصال الجمعي أن تُحول هذه الحالة الفردية إلى سلوك جمعي؟ هل يمكن للسياسيين وغيرهم من النافذين والمؤثرين على الرأي العام أن يُحولوا الكراهيات الفردية إلى كراهية عامة؟
تردَّد هذا السؤال في ذهني وأنا أقرأ خبراً من الفلبين فحواه أن الحكومة ستُسلّم رئيس الجمهورية السابق إلى المحكمة الجنائية الدولية، التي تتهمه بارتكاب جرائم ضدّ الإنسانية، خلال حربه على تجار المخدرات بين 2011 و2019.
وتقول الأنباء إن الشرطة قتلت 6000 شخص في تلك الحرب، من دون محاكمة. سألتُ نفسي: كيف تسنَّى للرئيس أن يواصل هذه المقتلة العظيمة، طوال ثماني سنين من دون عوائق جدية، بل لعلِّي أزعم أن الشعب، أو شريحة مُعتبرة منه، كانت راضية بتلك المقتلة، لأنها اقتنعت بأن البلد فيه فعلياً 6000 تاجر مخدرات، كما قال الرئيس. ومما يدل على رضا تلك الشريحة هو تكرار انتخاب رودريغو دوتيرتي في منصب عمدة مدينة دافاو، حيث أسس فرقة إعدام ميداني، ثم انتخابه رئيساً للجمهورية، وقبل ذلك عُرض عليه منصب وزير الداخلية أربع مرات. هذا يدل على أن الرجل محبوب، رغم المعلومات الكثيرة التي تفيد بأن كثيراً من الضحايا قُتلوا لمجرد أن الشرطة وجدتهم في مواقع يرتادها الحشاشون.
حسناً... ما الذي يحمل الناس على دعم حملة دموية كهذه، وهل يمكن أن تتكرر في أماكن أخرى؟
هل يمكن لسياسي مثل دوتيرتي أن يقنع الناس العاديين بأن احترامهم مشروط بقتل مَن يكرهونه؟
الذي فعله رودريغو دوتيرتي، حين رشح نفسه لمنصب نائب العمدة في دافاو، هو إقناع المواطنين بأن سكان الأحياء المعروفة بتجارة الحشيش، ومن يتواجد قريباً منها أو يتعامل مع سكانها، هم عدوهم، وأنهم يستحقون القتل. ولتسهيل المهمة على الناس، فإنه لم يكلفهم بقتل أحد، بل أقنعهم بأن يكرهوه فقط وأن يتمنوا موته، وسيأتي أشخاص آخرون لحمل العبء الأثقل؛ أي القتل.
هكذا قتل 6000 شخص، بينهم ما لا يقل عن 1150 طفلاً وامرأة، رمياً بالرصاص، في بيوتهم أو على قارعة الطريق، من دون أن تُواجه الشرطة استنكاراً أو شجباً من جانب جمهور الناس، ومن دون أن تحتاج الحكومة إلى تبرير تلك الدماء.
أظن بعضنا يستذكر الآن حوادث القتل الجمعي التي سمعنا عنها، في غزة وحواليها، وفي سوريا والعراق، وفي السودان والصومال، وفي مناطق أخرى... ألم تبدأ المسألة بأشخاص مثل دوتيرتي، يقنعون المواطنين بأن أولئك أعداؤهم وأنهم يستحقون القتل، وأن المطلوب منهم هو فقط إعلان التأييد أو التبرير، وسيتولى غيرهم الجزء الأصعب من المهمة.
لو سمعتم بشخص يدعو للتخلص من سكان بلد بأجمعه أو قبيلة بمجملها أو دين بكل أتباعه، ألن تقفز إلى أذهانكم قصة رودريغو دوتيرتي؟
***
د. توفيق السيف

 

فهم يتجدد لقوله تعالى: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾ [هود: 114]. لاح في أفق تفكيري وتدبري لهذه الآية الكريمة، وما سُميت آية إلا دعوة كريمة من الكريم المطلق الأبدي، وهو الحق سبحانه، إلى مائدة الأفكار التي يُدعى إليها أولو الألباب من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات، لتقتات القلوب من هاته المعاني الذوقية اللذيذة معنى، الراقية مضمونًا، المطرَّزة مبْنى، كما هو الشأن في بناء الآيات القرآنية. وهذا ما جعلني أكتب حول هذا الموضوع الذي يُعد استثمارًا معنويا في أسواق التجارة التي لا تبور، بشكل جميل لا يُضاهى.
لفهم المقصود، لنرجع بتفكيرنا إلى أنواع الروائح الكريهة في تاريخ البشرية، وأساليب البشر في مكافحتها من أجل عيش يوم هنيئ. فلا شك أن الإنسان في حياته اليومية عبر التاريخ، ومنذ القدم، يتعرض لمواقف مختلفة، إما بتصبب عرق متراكم يؤذي الجالسين على نفس المائدة، أو التعرض لروائح كريهة من حيوانات ميتة أو فضلاتها. كما أن الفضاءات المغلقة أيضًا تجتمع فيها الروائح الكريهة التي تتراكم بشكل قد لا يُطاق.
وبسبب كل ما سبق، اجتهد الإنسان منذ القدم في اختراع وإبداع أجود أنواع العطور ليُقضي على ما يُسيء رونق حياته اليومية، ليحيى حياة هنيئة طيبة.
إذا تأملنا أنواع العطور اليوم، ستجد منها ما هو خفيف لمجرد الانتعاش اليومي، ويغطي ويستر المستور ولا يزيله من الجذر (Body Mists). ولإزالة الروائح الكريهة بقوة، يمكن استخدام المسك أو العنبر، وهي تدخل ضمن (Parfum Oils). ولروائح الطعام الكريهة، تُستخدم في الغالب عطور (Dior Sauvage).

وقد سقتُ هذه الأمثلة لِنُشخِّص الفهم العميق للحديث النبوي الشريف:
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال:
«مَثَلُ الجَلِيسِ الصَّالِحِ وَجَلِيسِ السُّوءِ كَحَامِلِ المِسْكِ وَنَافِخِ الكِيرِ، فَحَامِلُ المِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الكِيرِ إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا مُنْتِنَةً» (متفق عليه).
فبتحليل دقيق، مع استحضار ما سبق، سيُحيلنا ذلك إلى أن الحسنات درجات في فاعليتها بنحو السيئات، بحسب نية العبد وإبداعيته في تنزيل تلك النية على أرض الواقع. ولهذا اختلف الأنبياء في مقاماتهم، وتنوع الأولياء في درجاتهم، وتفاقمت دركات أهل الكفر والنفاق -والعياذ بالله-.
فلا شك أن التصورات تبتدئ بفكرة، وهي النية، ثم بعد التصور يأتي التنزيل الواقعي لذلك التصور. فنجد أن المخترع نزل فكرة صنع طائرة من مجرد تصور، أو صنع عجلة كانت سبب تقدم البشرية في كل ميادين تقدمها؛ لأن العجلة كانت عند بعض العلماء من أهم الاختراعات في تاريخ البشرية. حيث لا يختلف اثنان في أن سهولة التواصل بين بني البشر تعتمد على سهولة باقي الاختراعات مهما تنوعت؛ لأنه لولا العجلة لما تمكنوا من استحضار المواد الأولية لأي اختراع آخر.
عالم السموم وإيجاد ترياق لها بحر عميق لمن تبحر فيه، حيث إن أنواع السموم ودرجات فعاليتها تختلف -ولا شك حسب الأطباء- فمنها ما يسبب شللًا للأعضاء، ومنها ما ينتج اختناقًا تنفسيًا، كما أن منها ما قد ينتج عنه أمراض سرطانية أو مزمنة، وأخرى تسبب الموت في جرعات متوالية، ومنها ما قد يقتل فورًا.
في المقابل، فإن العقل البشري طور أنواعًا من الترياق ضد كل هذه الأنواع من السموم، حيث طور الإنسان أنواعًا من الترياق الكيميائي الذي يحول السم إلى فيتامين (B12)، ومنها ما يسهل إخراج السموم من الذات الإنسانية، ومنها ما يزيل تراكم السموم الزئبقية في جسم الإنسان، كما أن هناك من أنواع الترياق ما يخلص الجسم من السموم بإخراجها من الكبد.
والحديث في ذلك عند أهل الاختصاص يطول، وقد أخذنا منه ما يفيدنا لفهم المقصود في ارتباطه بحديثنا عن إكسير الخير، وفعالية درجات الحسنات في إذابة السيئات وإزالة روائحها المعنوية الكريهة بعطر أعمال الخير المتباينة في درجاتها.
يقول الحق سبحانه في الآية الكريمة، والقانون الكوني الرهيب في جماليته والغني بمعانيه الذي يأخذ بالألباب:
﴿وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا﴾ [الإسراء: 21].
ليس المقصود -في نظرنا- في تفسير هذه الآية هو شرح التباين الحاصل بين الحياة الدنيا والآخرة، بقدر ما أن القصد هنا يتمحور حول أعمالنا المرتبطة باهتماماتنا اليومية، سواء كان دافعنا إليها دنيويًا أو أخرويًا. هذه الدوافع والنوايا والتصورات القبلية هي ما يجعل التفاضل كبيرًا في نتائجها. هذا التفاضل والتباين يكبر كلما تعلق بهدف سماوي أخروي، ويصغر كلما كان مرتبطًا بما هو أرضي دنيوي.
وما سُميت الدنيا -في نظرنا- إلا لصغر ودناءة نتائجها، وما ارتبطت الآخرة بما هو سماوي غيبي إلا لسمو وعلو درجاتها ومقاماتها علوًا كبيرًا. وضرب الله مثالًا على ذلك اصطفاء مريم عليها السلام اصطفاءً جوهريًا ليُحيلنا إلى أهمية مفهوم الجوهر والأخلاق الطيبة وفاعليتها في إزالة السموم المعنوية.
يقول تعالى:
﴿يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: 42].
وهو ما يشبه قول الرسول ﷺ في الحديث النبوي الشريف:
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ:
«عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ، فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا. وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ، فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا» (متفق عليه).
إن كل متدبر في الآية الكريمة والحديث النبوي الشريف سيتبادر إلى ذهنه الارتباط الوثيق بينهما في أن تكرار الأشياء في الحياة اليومية يمكن من إتقانها وتمكينها واستقرار أثرها في قلب الإنسان، سواء في جانبها الإيجابي أو السلبي. وهو قانون الاصطفاء في جانبه الإيجابي أو السلبي، فمن كل شيء خلق الله زوجين اثنين، فلينظر كل أحد في أي شق أراد أن يصطفي ويختار بضم الياء.
وختامًا، فإن ما يزيل السموم القاتلة بترياقاتها الكيميائية يُحيلنا إلى درجات وفاعلية الترياق المعنوي في إزالة كل دركات السموم المعنوية من حقد وكره ونفاق وغفلة وفتنة وأمراض اجتماعية، بأعمال القلوب التي هي التصورات القبلية لكل أعمال الجوارح. فالتوبة والأوبة إلى الله تعالى دافع قوي للإبداع في الأعمال القلبية الأخرى من حلم وصبر ومحبة وشوق وإيثار وتدبر وتعقل، يورث الحكمة التي هي كيفية تنزيل الآية والقانون الكوني على أرض الواقع لكل مؤمن في حياته اليومية. ولا يتأتى ذلك إلا بفهم وفقه ووعي عن الله عز وجل، الذي به يحقق الإنسان المؤمن القصد من خلقه في هذا الكون.
***
د محمد غاني - كاتب، المغرب

الفيزياء وحدود العلم التجريبي

عبر التاريخ، طوّر البشر سُبلًا متعددة لجمع المعرفة، مدفوعين بفضول فطري. تطورت هذه السُبل من التفكير المنطقي في الأكاديميات اليونانية، إلى مشاريع علمية ضخمة تعادل اقتصادات دول، كمشاريع الفضاء وأبحاث الفيزياء الجزيئية. في هذا المقال، أحاول تسليط الضوء على تطوّر مناهج المعرفة تاريخيًا، وكيف يمكن للفيزياء والعلم الحديث أن يعيداننا، بعد مضي قرابة أربعة قرون، إلى نقطة البداية: التساؤل الفلسفي والعقلانية.
مسار تطور طرق جمع المعرفة
اعتمد الفلاسفة الأوائل على العقلانية الفلسفية للوصول إلى فهمٍ لطبيعة الوجود. انتهجوا منهجًا استنتاجيًا قائمًا على التحليل المنطقي، مؤمنين بأن المعرفة يمكن استنباطها من مبادئ عقلية أولية. استمر هذا التصور لفترة طويلة، بدءًا من الفلاسفة اليونانيين كأرسطو، وصولًا إلى ديكارت وسبينوزا، اللذين رسّخا مفهوم أن التفكير المنطقي وحده كفيل باكتشاف الحقيقة.
أما التحول إلى المنهج التجريبي، فقد بدأت ملامحه بالظهور لدى العلماء المسلمين في العصر الذهبي، أمثال ابن الهيثم، والبيروني، وابن سينا. رأى ابن الهيثم، في كتابه المناظر، أن المعرفة لا تكتمل دون التجربة والتحليل. إلا أن هذا الإسهام كثيرًا ما يُهمَّش في السردية الغربية، التي تبدأ عادةً من أمثال غاليليو ونيوتن بوصفهم المؤسِّسين للعلم التجريبي الحديث.
لقد أثبتت العلوم التجريبية قدرتها الفائقة على تفسير الظواهر الطبيعية، بل وحتى الظواهر السلوكية والإنسانية. ويُعزى هذا النجاح إلى عوامل متعددة، من أبرزها تطوّر فلسفة العلم التي رسمت حدودًا واضحة لما يمكن اعتباره علمًا. هذه الحدود، التي بلورها فلاسفة كبيكون، وبوبر، وتوماس كيون، جعلت من العلم التجريبي مجالًا مفتوحًا على التصحيح والاختبار المستمر.
بين العقلانية والعلم التجريبي: اختلاف في المنهج والرهان
العقلانية، كما تُفهم في السياق الفلسفي، هي المذهب الذي يرى أن العقل هو المصدر الأهم، بل الكافي، للمعرفة. وقد أسست لمنهج استنتاجي يرى أن التفكير المنطقي وحده قادر على بناء معرفة يقينية. غير أن هذا المنهج، رغم ما وفره من أدوات تحليلية، بقي في معظمه معلقًا في فضاء التأمل، غير قادر على اختبار صدقية نتائجه في العالم الواقعي.
في المقابل، جاء العلم التجريبي ليبني معرفته على التجربة القابلة للرصد والاختبار، واضعًا الواقع في مركز العملية المعرفية. لم يلغِ دور العقل، بل أعاد ترتيب العلاقة بينه وبين الواقع؛ فبات العقل خادمًا للواقع، لا حاكمًا عليه. وقد ساعد هذا التواضع المعرفي في جعل العلم التجريبي أكثر قدرة على التقدّم والتصحيح والتطوير.
ميكانيكا الكم كحالة غير مسبوقة
رغم النجاح الهائل الذي حققته العلوم التجريبية، فإن القرن العشرين شهد أزمة معرفية قلبت مفاهيم الفيزياء الكلاسيكية. جاءت ميكانيكا الكم، لا لتكمل مشروع الفيزياء، بل لتعيد التفكير في أسسه. ففي المستوى دون الذري، لم تعد التجربة وحدها كافية للوصول إلى نتائج يقينية. فمجرد القياس ذاته يؤثر على النظام المدروس، ويغيّر من سلوكه.
تُقدّم ميكانيكا الكم تصورًا للعالم يختلف تمامًا عن التصورات الكلاسيكية؛ فالجسيمات لا تكون في موقع محدد، بل توصف عبر دالة موجية تمثل احتمالات وجودها في أماكن متعددة. قبل القياس، يكون الجسيم في حالة تراكب، أي في عدة حالات محتملة في آن واحد. وعند القياس، تختفي هذه الحالة لتظهر نتيجة واحدة فقط، كما لو أن الجسيم "اختار" موقعًا معينًا.
تتعدد التفسيرات الفلسفية لهذه الظواهر؛ فهناك من يرى أن الدالة الموجية تمثل واقعًا فيزيائيًا حقيقيًا (تفسير أنطولوجي)، وهناك من يعتبرها مجرد أداة تعكس معرفتنا (تفسير إبستمولوجي). وكلا التفسيرين منسجمان مع النتائج التجريبية، لكن الاختلاف بينهما يبقى فلسفيًا في جوهره.
هكذا، نجد أن الفيزياء المعاصرة، وعلى رأسها ميكانيكا الكم، دفعت العقل مرة أخرى إلى الواجهة، لا كبديل عن التجربة، بل كأداة لتأويل نتائج لا تكفي التجربة وحدها لفهمها. وأمام هذا التعقيد، لجأ بعض الفيزيائيين إلى فرضيات يصعب إخضاعها للتجريب، كفكرة الأكوان المتعددة.
في الختام: نحو عقلانية جديدة
في نهاية المطاف، يبدو أن مسار العلوم التجريبية، بكل ما فيه من دقة وصرامة، يعيدنا إلى سؤال فلسفي قديم: ما حدود معرفتنا؟ بل يعيدنا تحديدًا إلى العقلانية، ولكن ليس بصيغتها الكلاسيكية التي تفصل العقل عن التجربة، بل إلى عقلانية جديدة، تأخذ في اعتبارها التداخل المعقّد بين الملاحظة والتأويل، بين التجريب والتفكير النظري.
نحن اليوم لا نملك إجابات حاسمة، بل احتمالات وتفسيرات يظل كثير منها مفتوحًا للتأويل. لم يعد العقل سيدًا مطلقًا، بل شريكًا متواضعًا في مشروع لفهم الكون، مشروع يحتاج إلى تعاون دقيق بين المناهج المختلفة للمعرفة، دون أن يدّعي أيٌّ منها احتكار الحقيقة.
***
فضل فقيه – باحث
.....................
قراءات اضافية:

-Heisenberg W. Physics and Philosophy: The Revolution in Modern Science. London: George Allen & Unwin; 1958.
-Kova A. The weirdness of quantum mechanics forces scientists to confront philosophy. Big Think. Published February 8, 2023.

 

لم يكن الفكر يومًا رفاهيةً زائلةً أو زينةً يتأنق بها من يقتاتون على هوامش النصوص، بل كان وسيظل ميدانًا لصراع الإنسان مع واقعه، ومنبرًا للتساؤل الدائم الذي يهزّ أركان الجمود.
والقراءة النقدية التي نحن بصدد تحليلها ليست خروجًا عن هذا المسار، بل تأتي كإسهامٍ جادّ في بلورة معالم الصحافة الثقافية، وإعادة مساءلة دورها في إنتاج المعرفة ومشاركتها.
لقد استطاعت هذه القراءة النقدية أن تنفذ إلى قلب إشكالية الصحافة الثقافية، متجاوزةً الطابع الاستهلاكي لبعض المنابر إلى تفكيك علاقتها بالمثقف العضوي، وما إذا كانت فضاءً للحوار والتجديد، أم مجرد دائرة مغلقة تعيد إنتاج ذاتها بشكل روتيني بحت.
والمقال هنا لا يكتفي بوصف المشهد أو الاكتفاء بموقع الرائي المحايد، بل يتورط فيه، مُسائلًا ذاته بالقدر ذاته الذي يُسائل فيه الآخر.
أهمية هذا الطرح تتجلى في كونه يزاوج بين النقد الذاتي ونقد المؤسسات الثقافية، فلا يكتفي الكاتب بمساءلة صحيفة المثقف موضوع النقد، بل يمدّ أسئلته إلى ذاته ايضا، متسائلًا عن موقعه داخل هذا النسق. وهذه الازدواجية تمنح المقال قوةً ومصداقية، إذ يتحول النقد هنا من سلطة تُمارس من موقع الوصاية، إلى فعلٍ عضوي يتجاوز أحكام القيمة إلى الحفر في طبقات المعنى.
إن البناء اللغوي لهذا النص يتسم بجزالة المفردات وثراء التراكيب، حيث تتضافر الجمل المتماسكة في نسيجٍ يجعل القراءة أشبه بتجربة فكرية جمالية في آنٍ معًا. فهو لا يُسهب في التوصيف السطحي، بل يختار كلماته بعناية، فيأتي النص مشحونًا بكثافة فكرية لا تنفصل عن طاقته التعبيرية.
أما على المستوى النقدي، فيمكن القول إن هذا المقال ينتمي إلى مدرسة النقد الجدلي، حيث لا يضع الأمور في ثنائيات جامدة، بل يخلق دينامية داخل النص، فيظل القارئ متنقلًا بين التساؤلات، لا ليجد إجاباتٍ نهائية، بل ليشارك ويدعو الى المشاركة الفعالة في توليد أسئلةٍ أكثر عمقًا املا في الوصل الى الامثل.
هذه المقاربة تجعل من النقد فعلًا مفتوحًا، لا يبتغي هدم ما هو قائم لمجرد الهدم، بل يسعى إلى بناء بدائل أكثر حيوية وانفتاحًا.
والنقد هنا ليس تمرينًا لغويًا ولا محاولةً لتسجيل المواقف، بل هو التزامٌ معرفيٌّ واعي يحاول أن يردم الفجوة بين التنظير وديناميكية التطبيق، بين المثقف والجمهور، وبين الخطاب الثقافي وواقعه الاجتماعي. وفي هذا السياق، يكتسب هذا المقال قيمته الحقيقية، إذ إنه لا يدين الصحافة الثقافية من موقع المتعالي، بل من موقع الشريك في إنتاجها، الأمر الذي يمنح النقد بعدًا أخلاقيًا يخرجه من دائرة الخطابة إلى مجال التأثير الفعلي.
إن قراءةً نقديةً كهذه تكشف عن أهمية وجود منابر "مثل المثقف" تستوعب هذا النوع من الطرح، لأن النقد الموضوعي والبنّاء لا غنى عنه في تطوير العمل الصحافي الثقافي، وضمان انفتاحه على آفاقٍ جديدة. فالمجلة أو الصحيفة التي تحتضن هذه الأصوات تبرهن على أنها ليست مجرد قناة لنقل المحتوى، بل مختبرٌ لإنتاج الأفكار، ومجالٌ لاختبار حدودها وإمكاناتها.
في النهاية، فإن هذه القراءة النقدية ليست مجرد مقالةٍ عابرة، بل نموذجٌ لما ينبغي أن يكون عليه النقد الثقافي: فعلٌ حيويٌّ لا يكتفي برصد المشكلات، بل يضع ذاته على المحك، ليؤكد أن الفكر الحقيقي لا يتوقف عند حدود القول، بل يمتدّ إلى مساءلة الذات والواقع في آنٍ واحد.
***
سعاد الراعي

 

يحتدم رأيان في قضية تذوق الأعمال الأدبية، سعيا لتحديد المسافة بين النص وقارئه. هل يتعلق الأمر بمتعة وجدانية متحررة من أي استدلال عقلي أو مسبقات لغوية وبلاغية؟ أم هي ملكة لا تستوعب جمالية قول شعري أو نثري، إلا باستيفائها شرط الإلمام بمعارف تساعد على الإيضاح وتبديد الغموض؟
إلا أن كلا الرأيين يتفقان على أن التذوق في مجال الآداب لا يتحقق بدون فهم. فالمتذوق في عالم الإحساس الجسمي يكفيه جزء يسير لبلوغ الإحساس المطلوب، سواء تلذذا أو نفورا، بينما يحتاج متذوق الأدب إلى وقت طويل، ينتهي خلاله من قراءة النص أو استماعه إلى نهايته.
تكمن خصوصية الأدب في كونه يتطلب إلماما بنظام رموزه، حيث الكتابة رمز ننفذ من خلاله إلى شيء كامن خلفها. ولذا يتوجب على كل قارئ أن يفك شفرات النص أولا، ثم يحدد مدلول كل كلمة في نفسها أولا، ثم بوضعها داخل سياق تعبيري وتركيبي متعدد بتعدد النصوص الأدبية زمانا ومكانا. وهو الجهد الذي لا تتطلبه التعبيرات الفنية الأخرى، من تشكيل وموسيقى وغيرها.
كل تذوق إذن يشتمل على معرفة في حدها الأدنى بلغة النص الأدبي وأسلوبه، والقواعد التي تحكم جنسه، ثم الاتجاهات التي ينحاز إليها كاتبه، اجتماعية كانت أم سياسية أم غيرها. وهذا يعني أنه لا يوجد قارئ يبدأ من نقطة الصفر كما يؤكد الدكتور إبراهيم عوض (1)، وأن الملكة النفسية التي تدرك نواحي الجمال لابد أن تسبقها عملية الفهم.
تلهمنا قراءة النصوص الأدبية شعورا مكثفا بالنشوة والامتلاء، لأنها استنطاق لما تحمله الرموز من صور خيالية، ورؤى ومشاعر وجدانية. وهو الشعور الذي لا يتحقق إلا بشكل مضطرب ومشوش في باقي الإبداعات الفنية، حيث اللوحة أو المعزوفة الموسيقية حاضرة أمام المتلقي يعاينها ويسمعها. أما النص الأدبي فلا يُقيد القارئ بهذا الحضور المادي، بل يحرره معتمدا على الخيال الذي لا يلتزم سوى بالخطوط العامة للنص.
هذه الحرية تتيح للمتذوق أن يخلق للنص الأدبي أوضاعا وأشكالا لا حد لها، وأن يستغرق فيه لدرجة الفناء، بحيث يصبح شخصا من شخوصه وليس مجرد متابع. وهي السمة التي يشير إليها أوسكار وايلد في قوله: " تتلخص السمة الوحيدة المميزة للشكل الرائع في أن باستطاعة أي واحد أن يُضمنه ما يخطر على باله، أن يرى فيه ما يريد أو يرغب".
يبدأ التذوق فرديا قبل أن يتخذ طابعا جماعيا نسميه "الذوق العام"، ثم ينعكس فيما بعد على الفرد. وهذا يعني أن التذوق عملية متجددة باستمرار، تتيح لبعض الأعمال الأدبية والفنية عموما أن تصمد أمام اختبار الزمن، بينما تفشل أخرى ويكون مآلها النسيان، رغم ما قد تستحوذ عليه من شهرة إبان صدورها. لذا يمكن القول دون مواربة أن التذوق الأدبي مشاركة إبداعية، تعزز بروز طاقات الخلق والإبداع لدى القراء، وتُنمّي التعبير الجمالي عن الذات والوجود.
رغم أن الأعمال النقدية للأديب المصري طه حسين تشكلت قبيل منتصف القرن الماضي، إلا أننا نلمس في تكويناتها إرهاصات ذكية بأهمية التذوق في إنتاج الدلالة الأدبية، والإسهام في تخمر الأفق النقدي الذي حرّك فيما بعد ثورة البنيوية. لقد تميز إنصات طه حسين للمنجز الأدبي باستحضار قارئه الضمني، ومشاركته أحكامه في الأدب والنقد، وبالتالي إرساء استراتيجية فكرية تتمثل القارئ وتصنفه إلى مستويات، بدءا بالموافق له وانتهاء بمن يفترض أنه خصمه. وقبل أن يتوجه للقارئ بصفته ناقدا للعمل الأدبي، كان يهمس في أذنه باعتباره متذوقا، يتدرب على اختبار فهمه، واستكشاف المنطقة الواصلة بينه وبين العمل الأدبي.
إذا أخذ طه حسين في نقد القصة، يقول الدكتور صلاح فضل، كانت بؤرة تركيزه على فعاليتها الجمالية تنصب على وصف حاله كقارئ، ووصف ما يتعين على بقية القراء أن يستوعبوه منها؛ فموقف القارئ هو الذي يحدد طبيعة النص، وليس العكس كما يتوهم بعض الناس.. إنه بذلك يبني الخطوط الجوهرية لصورة القارئ وهو يبني المعالم البارزة للنص القصصي. (2)
وطّأت الأعمال النقدية لطه حسين أرضية الاشتغال على الذوق والتذوق، باعتباره مقياسا للكفاءة الأدبية، ولكون غاية الأدب في النهاية هي تحقيق التواصل الجمالي. وهو يحدد للتذوق مستويين: أحدهما الذوق الجماعي لعموم الناس في زمان معين، والثاني هو الذوق الفردي الذي يمتاز به نخبة القراء، ويتيح لهم اختبار فاعلية النص الأدبي وكفاءته الوظيفية؛ لكنه يضعهم في علاقة جدلية متوترة، تسهم في تأطير ما يسميه بالحياة الفنية.
يستهدف التذوق جوهر العمل الأدبي وأصالته، وعوامل تأثيره في النفس الإنسانية. ولتحقيق ذلك يتسلح بقوتين: قوة الشعور وقوة الفكر. لذا يدافع بعض النقاد عن ضرورة الاستعانة بمعارف مختلفة، تتيح للمتذوق تعليل الذوق الذي حصل له من قراءة هذا العمل أو ذاك. يتعلق الأمر هنا بمستوى ثان هو "التعمق"، حيث ينتقل القارئ إلى تحليل وتعليل النص، ليكون تذوقه أعمق وأدق.
خلال هذا المستوى يصبح التذوق الأدبي قراءة للنص من داخله، وتحقيقا لأدبية الأدب كما يحددها الدكتور بيومي توفيق مصطفى في صورة حوار بين القارئ والنص؛ يصغي القارئ لكلماته فيثير الحوار من الهزة والقلق أكثر مما درج عليه، ويحاول استكناه الشكل اللغوي وسبر أغواره وتحليل طاقته الإبداعية. تلك الأدبية التي تثق بالنص وتعترف بقدراته، وتمارس فحصا مستمرا لتداخل بنيته، وفك شفرته، فتنمي ملكات الأدب بمعزل عن أشياء مقحمة عليه، كأبحاث علم النفس وعلم الاجتماع والجمال. (3)
يمنح التعمق في الأعمال الأدبية فضيلة توجيه النشاط الإنساني والفني للكاتب، في حال تحرره من ذاتيته المفرطة وإنصاته لنبض المجتمع. وهو توجيه ذو دلالة قيمة، يجعل من التذوق الأدبي مقياسا للتجربة الإنسانية في شمولها وجزئياتها، وفي صلابتها وتكيفها. لذا حين عكف تولستوي على تذوق مجمل الأعمال المسرحية لشكسبير، متحررا من سلطة التقعيد التي انتهجها النقد الكلاسيكي، كشف عن صورة العالَم الإقطاعي الذي كان شكسبير يتحرك داخله، ويحدد لأعماله وجهة ارستقراطية لا تهتم بالطبقات الكادحة!
كيف نتذوق الأدب؟
يثير رونان ماكدونالد في كتابه (موت الناقد) مسألة التحول الجذري الذي طرأ على المشهد الثقافي منذ الثورة الطلابية لسنة 1968. وكيف أن معاداة السلطة في مجتمع الشباب الأوربي امتدت لسلطة الناقد الأكاديمي الذي يملي وجهة نظره حول الآداب والفنون، كأنها كلمة فصل لا تلقي بالا لجمهرة واسعة من القراءة غير المتخصصين. هكذا إذن ازداد النقد تباعدا عن القراء، بعد أن تحول إلى ما يشبه العلم الإنساني الذي يستعير علوم اللغة والعلوم التجريبية في مقاربته للنص الأدبي؛ فعمد القارئ " الجديد" إلى التخلص من النقد وأحكام القيمة، ليفسح المجال ل "وجهات نظر"، يدلي بها قراء تتنوع معارفهم وتوجهاتهم، وبالتالي "أذواقهم".
كان لزاما أن يستحث هذا المنعطف الحرِج جمهور الدارسين لتأطير القراءة التذوقية، وتمكين القارئ من معايير واستراتيجيات تُشركه في تكوين النص الأدبي وإعادة إنتاجه. بل واشترط بعض النقاد كفاءات محددة يجدر بالقارئ أن "يتخلق" بها، من قبيل الموهبة الفطرية، والحساسية الفنية، والوعي المعرفي الشامل، والحياد الذي لا يُكره مستويات النص على التجاوب مع انتماء القارئ او اتجاهاته الفكرية والدينية وغيرها.
شكّلت قاعات الدرس منطلقا لتأسيس معايير تذوق النص الأدبي، وتخريج جيل من القراء يتميز أداؤه في التفاعل مع الأعمال الفنية المختلفة بالمنهجية والدقة. واهتمت الدراسات المعتمدة بوضع قوائم المهارات المطلوبة (رشدي أحمد طعيمة، أحمد عبده عوض، أحمد مناع، فرانك وآخرون..)، والتي يمكن الاتكاء عليها باعتبارها مستويات معيارية للتذوق، من قبيل:
- معرفة المعنى الدلالي والإيحائي للكلمة.
- التمييز بين الأساليب المختلفة في العمل الأدبي.
- استنباط العاطفة المسيطرة على العمل الأدبي.
- إبراز الدور الجمالي للصور والأخيلة في النص.
- تحديد العناصر البنائية للعمل الأدبي. (4)
وأما خارج قاعات الدرس فإن التذوق منوط بقدرة القارئ على التأمل الذي يحقق إفادة المعنى، والتأثر بالتجارب التي يعانيها الأدباء، كل وفق أسلوبه الذي تقترن فيه خصائص التعبير الفني بروعة الأداء، وبالتصوير الذي يُبرز المعاني في إطار مبدَع يهز النفوس.
يصير التذوق الأدبي حركة مستمرة بين النص وقارئه، حتى يحدث التوازن والتناسب، وتتحقق التجربة الجمالية. لذا يتوجب على المتذوق أن يجرد حواسه وشعوره إلى جانب فكره ليصدر عنه قبول العمل الأدبي أو رده وفق ملكة فنية عارفة.
يورد ابن سلام الجمحي في (طبقة الشعراء) خبر الرجل الذي قال لعلّامة البصرة خَلَف الأحمر: إذا سمعتُ الشعر واستحسنته فما أبالي ما قلتَ فيه أنت وأصحابك، فقال خلف: إذا أنت أخذت درهما فاستحسنته، فقال لك الصرّاف: إنه رديء، هل ينفعك استحسانك له؟
***
حميد بن خيبش
......................
(1) د. إبراهيم عوض: التذوق الأدبي
(2) د. صلاح فضل: حواريات الفكر الأدبي. ص148
(3) د. بيومي توفيق مصطفى: أدبية الأدب. ص7
(4) د. ماهر شعبان عبد الباري: التذوق الأدبي.

في سيرته الذاتية الشعرية (المقدمة،1799)، يصف الشاعر البريطاني وليم وردزورث William Wordsworth حلماً رأى فيه فارسا عربيا يمتطي جواده بسرعة كبيرة حاملا حجرا و درعا. الحجر مثّل العقل والعلم، بينما الدرع يرمز الى الشعر والإلهام. كلاهما كانا في خطر شديد، ومن الواضح ان وردزورث منح قيمة عليا متساوية لكل منهما.
من الصعب تقدير ما اذا كان خطر هاتين القيمتين ازداد أم تناقص منذ ايام وردزورث (1770-1850)، لكن يبدو من الواضح ان العقل والعلم حصلا باستمرار على المكانة الراقية على حساب الشعر والخيال. هذا الموقف اكتسب قوة أكبر بفعل عاملي الوضعية والإختزالية، بصيغتهما "هذا هو ذلك فقط". طبقا للاختزالية، البايولوجي في النهاية يُختزل الى الكيمياء، والكيمياء تُختزل الى الفيزياء، وفي نفس المنحى، الشعر ربما يُختزل الى البايولوجي. لكن المعركة لازالت مستمرة.
في كتابها الشهير (قصص دارون: السرد التطوري،2009 جورج اليوت ورواية القرن التاسع عشر) تقارن الكاتبة واستاذة الادب جيليان بيرGillian Beer تلاميذ العقل مع مخلوقات اكثر قدرة على التخيّل. تطرح بير ادّعاء فرويد بان "النرجسية الكونية للرجال، وحبهم للذات،عانت حتى الان من ثلاث ضربات عنيفة من بحوث العلم (الصعوبة في مسار التحليل النفسي، 1953). هذه الضربات حسب ترتيبها الزمني هي : الثورة الكوبرنيكية التي اسقطت مركزية الارض، الجدال الداروني بان "الانسان ليس كائنا مختلفا او متفوقا على الحيوانات"، وثالثا، ادّعاء فرويد بان "الايغو ليس سيدا في بيته" طالما نحن نتصرف بحوافز لاواعية. هذه الضربات لإحساس الانسانية بالخصوصية،ترابطت كخطوات متتابعة قدماً للذهن العقلاني.
هل ان هذه "الثورات" في هوية الانسان التي تبدو أخف في تعاقبها هي دليل على تكيّف الانسان؟وكما بالنسبة للاولى، ربما العديد يشعرون بالفرح في اننا لسنا عالقين في كون ما قبل كوبرنيكوس الصغير نسبيا محاطين بكرات بلورية متحدة المركز بجحيم مشتعل بعيدا عنا .
من الواضح ان الثورة الدارونية عبر الانتخاب الطبيعي كانت فكرة صعبة القبول من جانب اكثرية الناس. تكتب بير عن "القشعريرة المادية" العميقة للعديد من الفيكتوريين الذين شعروا بها من تصوّر العلاقات الجديدة بين الناس والحيوانات – شعور غريزي بالتهديد من جانب البدائي واللاعقلاني في السيطرة على الانسانية الرشيدة. يرى البعض ان التهديد الحقيقي هنا هو للنموذج الأصلي الطبيعي لـ "الاختلاف البشري" – وهي الفكرة التي بدونها لا يستطيع الذهن البشري، بكل اصنافه الاجتماعية، من العمل ابدا. اذا تم انكار الشعور القوي بالاختلافات بين الانسانية وبقية العالم، فان الاضطراب الذهني والعاطفي والارباك والجنون سوف يكون هو السائد . حاليا – تقريبا 165 سنة بعد كتاب اصل الانواع الذي نُشر عام 1859 – العديد من الناس يشعرون بالرفعة بدلا من الانحطاط بسبب قرابتنا بالوحوش، وبكل الاشياء العضوية وغير العضوية. لكن ربما التباينات في صورة شخص ما عن العالم، بما في ذلك اختلافه هو عن الاخرين، هي ضرورية للذهن للاحتفاظ بإحساسه بالهوية؟ اذا كان الأمر كذلك، أين نؤسس الآن إحساسنا بالاختلاف؟
البعض يسقطون الاختلاف وبشكل ضار وغير مستديم على العرق او الثقافة او الجنس. و بنفس التحفيز الاساسي، العديد من النقاد يطالبون وبشدة ان الفن يجب ان يكون مزعجا ومواجها، ويدفعنا دائما الى اعادة ترتيب جذرية لأفكارنا.
كانت هناك ايضا جوانب اخرى صعبة لنظريات دارون. مقدمة خطاب وليم هيرشل William Herschel حول دراسة الفلسفة الطبيعية (1831) "أثارت حماسا شديدا في الشاب تشارلس دارون اضافت الكثير من المساهمات المتواضعة لهيكل العلوم الطبيعية" . مع ذلك، وصف هيرشل لاحقا ثورة دارون بـ "قانون الاضطراب والتشويش"، لأن كل شيء بدا يحدث بشكل مجزأ وعشوائي. كذلك، وكما يقول هكسلي T.H.Huxley،"اذا لم يكن هناك انقطاع ولا خرق في استمرارية السببية الطبيعية"، هل نستطيع كجزء من الطبيعة الحفاظ على معنى الحرية والاختيار الذي تعتمد عليه انسانيتنا؟ (حاليا، ربما هناك طرقا، مثل نظرية الأنظمة العامة، قادرة على انتشالنا من فخ الحتمية، عبر بيان مثلا ان الكون يمكن ان يتكشف بطرق غير متوقعة كثيرا، يرمي حقائق جديدة نحن جزءاً منها و يمكن ان نساهم بها بشكل واع وخلاق).
وفق المنظور المادي الخالص او الطبيعي الذي صاغه دارون،فان كل الأحكام الاخلاقية والجمالية هي وهمية، او في أفضل الاحوال، هي ذاتية فقط. اذا كان كل شيء يعمله الفرد طبيعي (لأنه لا يوجد شيء آخر يكون عليه)، لماذا نستمر بالكفاح ضد اللاعدالة، او نحاول "إنقاذ" المحيط الحيوي؟ مرة اخرى، يبدو ان الاختلافات تذوب في ظلمة رمادية حزينة ويأس معاد للانسانية.
وبالرغم من هذا، وربما جزئيا عبر تجاهل المضامين، استمر الناس بعمل التمايزات والاختيارات مدعومين ومحرّضين من جانب الطبيعة الخلاقة للّغة. الذهن البشري ككل نجا من ثورات العلم عبر الحكايات، والشعر،والتحيزات و ايجاد معنى الجمال. فمثلا، جون ستيوارت مل لجأ الى وردزورث لإنقاذه من الإنهيار العصبي الناجم عن الفراغ والكآبة في الفلسفة المادية.
يجدر الانتباه الى اسلوب فرويد الذكوري في التعبير عن وصف الثورات العلمية الثلاث بالحركات. افتراضه ان الايغو يجب ان يكون "سيدا في بيته" هو ابوي في العبارة، واشارة فرويد لنرجسية الرجل تبدو متأسسة على سيطرة الذكر الاجتماعية بدلا من ان تكون فكرة انسانية شاملة. بدلا من رؤية التحليل النفسي كفارس لإستعمار الظلام، نحن يمكننا التفكير في العقل المتجسد المستكشف لكلا الجنسين باعتباره يخلق روابطا جديدة بين الظلام والنور، العقلاني والعفوي. هذا يقودنا الى تصور الانسانية كافراد يتفاعلون بنوايا طيبة وآمال واهتمام بالملاحظات، لكن لانزال لا نتوقع ابدا معرفة المعنى التام لما يفعلون. لا توجد هناك طريقة بان الضوء العقلاني سيمتد الى كل ما حولنا، لذا يتعين الوثوق بالظلام المتبقي. بهذا الفهم،نستطيع مثلا، نؤكد القرابة مع الحيوانات التي سوف من المحتمل تبقى دائما محيرة. لاحاجة هناك لاحتضان الافاعي والنمور او الذئاب، لكن لاحاجة لايذائهم بدون سبب كاف.
في نفس الوقت هناك الحس الشعري والمرمم في ان هناك نسيج واحد للوجود: نسيج متعدد الالوان ومزخرف بشكل معقد يتضمن كل من العضوي واللاعضوي. دارون ترك بعمق بصمة من القرابة البايولوجية على الذهن الحديث، وعلم الكون الذي يشتق مكونات اجسامنا من النجوم القديمة يدفع الترابط بعيدا. لكن خيال وردزورث كان هناك سلفا عندما ننظر في مقطع مبكر حيث يكتب "قلب يهتز الى الابد، مستيقظ/ للشعور بكل الاشكال التي يمكن ان تتخذها الحياة/ ذلك الاتساع لايزال تعاطفه يمتد/ ولايرى أي خط ينتهي عنده الوجود"(مشية في المساء،1793).
ان أكبر تهديد لهذا الإحساس بكمال الوحدة ربما لايكون في النهاية أي شيء فلسفي، وانما وجود الألم الذي لايمكن توضيحه، الى جانب الحكم بان هذا الألم عظيم ايضا ومدمر،لايمكن تحمّله من جانب الكائن البشري الضعيف. نحن (ربما) نبقى منقسمين في ثنائية عاطفية لا يمكنها ابداً ان تحوّل بشكل دائم وروتيني اللامقبول الى ايجاب. دارون الذي هو ذاته عانى جدا من موت بنته الشابة بسبب المرض، مع ذلك كتب "طبقا لتقديري، السعادة تسود حتما بين الكائنات الحية، مع ذلك هذا سيكون من الصعب اثباته ... بعض الاعتبارات الاخرى،تقود الى الايمان بان كل الكائنات الحية ،كقاعدة عامة،تكونت لتتمتع بالسعادة" (السيرة الذاتية،1876). وردزورث ايضا واجه خسارة وحزن – خاص به وبالناس الآخرين – وهذا بالنسبة له اصبح جزءاً مما نستمع من "موسيقى الانسانية الحزينة والبطيئة"،والتي تبقى مسلية بشكل محير.
كتب دارون ايضا في سيرته الذاتية "الصعوبة الفائقة او استحالة تصوّرهذا الكون الهائل والمدهش، المتضمن الانسان بقدرته في النظر بعيدا الى الوراء وبعيدا نحو المستقبل، كنتيجة للحظ الأعمى او الضرورة. عندما افكر بهذا انا اشعر مكرها للنظر الى ان السبب الاول يمتلك ذهنا ذكيا بدرجة ما مشابه لما لدى الانسان، وانا استحق ان يُطلق علي مؤمنا". مع ذلك، وبصدق تام، هو يستمر لإضعاف هذا الاستنتاج بالسؤال،"هل عقل الانسان الذي،كما اعتقد، تطور من ذهن متدن كالذي تمتلكه ادنى الحيوانات، يمكن الوثوق به عندما يُطرح هكذا استنتاج عظيم؟". هو يقرر انه ليس بسبب ما يبدو من الإزدراء الدائم لعقول الغوريلا – ولهذا يقول، "انا يجب ان اكون راضيا بالبقاء لاادريا". هذا هو استنتاج دارون المتواضع. هناك جو من الشعور الكئيب في قبوله. في وردزورث نجد ادّعاء للحقيقة اكثر شمولا وإلهاما لكنه نسخة شعرية و غير دوغمائية. بالنسبة لوردزورث، الطبيعة كانت روحا تشكيلية "في عملها المظلم واللامرئي توفق بين العناصر المتنافرة".
الطبيعة المُجسدة على شكل "هي" توفر ارشادا – شيئا ما لطيفا، احيانا شرسا، لكنه دائما يضيف الى الإحساس بالمعنى، يدمج بين الفخامة والمتعة العميقة في الكون. هذه التجربة من الشعر لا تساعد في عمل ادّعاءات الحقيقة التي، بالطبع، يقترب منها الناس بوجهات نظر مختلفة هم احرار في انكارها.
وردزورث اعترف بان ما أسماه "فلسفة القرود" من المرجح ان تهاجم الشعراء واصحاب الرؤى بمثل هذه المصطلحات المهينة مثل المحتالين والمتطفلين والمتخلفين عقليا. لكننا تُركنا مع بدائل مفهومة يمكن ان نسلط عليها الضوء بشكل حاد. من هذه، استنتاج وردزورث هو بالتأكيد معقول ومحبط في آن واحد. لذا مع كل الاحترام الواجب لعالم عظيم مثل دارون، لايزال يريد إنقاذ كل من الحجر والدرع من كارثة ثقافية، يمكن القول ان وردزورث هو أفضل مرشد ومثال للحياة الانسانية.
***
حاتم حميد محسن
....................
Wordsworth&Darwin, philosophy Now Feb/Mar 2025

 

لم يكن الفكر يومًا ترفًا يتسلى به العابرون في مسالك التلقي، بل كان—وسيظل—عتاد الوجود في مجابهة ظلامه، وخنجرًا يفلّ هشاشة المسلّمات التي تُختزل بها الحياة. وإن كان للفكر من موئلٍ يحتشد فيه، فإن الصحف والمنابر الثقافية كانت دومًا انعكاسًا لما استقرّ في وعي الجماعة من تصوّرات، ومختبرًا لإعادة إنتاج الأسئلة التي تشاغب صلادة اليقينيات.
غير أنّ الصحافة الثقافية، في سعيها للقبض على وهج المعنى، قد تسقط في فخاخٍ لا تخرج منها سالمة، إذ تترنّح بين النخبوية التي تُفقدها جدواها، والتسطيح الذي يسلبها فرادتها. وهنا، في هذا الحيّز الذي أتسلل إليه الآن ككاتبٍ تتنازعه أسئلته بقدر ما تشدّه مسؤولياته، أجد نفسي مضطرًا لأن أمارس النقد لا بوصفه سلطةً تُلوّح بأحكامها، بل كالتزامٍ لا ينفكّ عن صميم الموقف المبدئي للمثقف العضوي.
إنّ المثقف—بمعناه الغرامشي العميق—ليس محض كائنٍ يلوك المصطلحات ويتنقل بين النصوص، بل هو حاملٌ لرسالةٍ تضطلع بكسر الاحتكارات المعرفية وإعادة توزيع الوعي كحقٍّ للجميع، لا كسلعةٍ يُتاجَر بها في مزاد الصفوة. وإنني إذ أتناول صحيفة المثقف بالنقد، لا أنطلق من موقع الندّية العابثة، بل من إيماني بأن النقد—في جوهره—ليس إلّا فعل حبٍّ شديد التطلّب، لا يرضى بما هو قائم لأنه يؤمن بإمكان ما يجب أن يكون.
وإني إذ أُمنح هذه المساحة لأمارس فعلي النقدي داخل هذا الفضاء، أجد نفسي أمام تناقضٍ لا بدّ من الاعتراف به: كيف لمن يمارس النقد الجذري أن يقبل باستضافةٍ في ذات المنبر الذي يواجهه بالسؤال؟ لكنّ هذا التناقض ليس مما يُخيفني، بل هو عينه ما يؤكد الحاجة الملحّة لفحص الحدود التي تقف عليها الصحافة الثقافية في عالمٍ باتت فيه الفجوات بين الفكر والمجتمع أكثر عمقًا.
إنّ مشكلة المثقف لا تكمن في غياب المحتوى، بل في طبيعة الخطاب الذي يكرّس المسافة بين الكاتب والقارئ، بين الفكرة وواقعها، بين التنظير وإمكانات التفعيل. ففي كثيرٍ من الأحيان، تظلّ المقالات محصورةً في سياقاتٍ أكاديميةٍ تجريدية، تصوغ المعضلات بمنطق المغلق على ذاته، دون أن تمتلك نَفَس النقد الذي يغامر بالدخول إلى عمق الفوضى ليعيد تشكيلها.
وإنني إذ أؤمن بأن الفكر لا يُختزل في المخرجات النصيّة وحدها، بل هو فِعلٌ تغييريٌّ بالأساس، أجد نفسي متسائلًا:
كيف يمكن لمشروعٍ ثقافيٍّ أن يبقى حبيس دوائر محدودة من التلقي دون أن يُعيد مساءلة شروط خطابه؟
كيف تُبنى الصحافة الثقافية على دعوى الانفتاح بينما تبقى محصورةً في ترديد ذات الأسماء وذات المفاهيم، كأنّ لا خارجَ ممكنًا لهذا النسق؟
لكن، إن كان لي أن أُوجّه السهام، فلا ينبغي أن أكتفي بتوجيهها نحو الصحيفة وحدها، بل لا بدّ أن أوجّهها نحوي أيضًا. فأنا، في نهاية الأمر، جزءٌ من هذا الفضاء، شريكٌ—بوعيٍ أو بغير وعي—في إنتاجه وإعادة إنتاجه.
فهل يكفي أن أنقد المنابر الثقافية وأنا أستثمر وجودي فيها؟
هل أستطيع التبرّؤ تمامًا من النخبوية التي أُدينها، وأنا أمارس الكتابة بأسلوبٍ لا يبرأ هو الآخر من تعقيدٍ يجعل الوصول إليه محفوفًا بالمجازفات؟
إنّ الكتابة، في جوهرها، هي موقفٌ مزدوج: ممارسةٌ للمعرفة، ومساءلةٌ لا تنقطع عن طبيعة هذه الممارسة. وإن كنت أتمسّك بدوري كمثقفٍ عضوي، فلا ينبغي أن أرى نفسي فوق النقد، بل عليّ أن أسائِل ذاتي بالقدر ذاته من الحِدّة التي أُسائل بها الخطابات الأخرى.
إنّ الالتزام بالمثقف العضوي ليس شعارًا يُرفع، بل امتحانٌ عسيرٌ يتطلّب من صاحبه أن يبقى في اشتباكٍ دائم مع الواقع، لا أن يتحصّن خلف المفاهيم. وإنني إذ أكتب الآن، لا أُحاول أن أُبرّئ نفسي من التعقيدات التي تحكم وضعي ككاتب، لكنني على الأقل أضع هذه التناقضات في الضوء، بدلاً من أن أُداريها تحت لافتاتٍ برّاقة عن التنوير والمقاومة الثقافية.
وإنّني إذ أُمارس هذا النقد، أُدرك أن لا خلاصَ فرديًا في معركة الفكر، وأنّ كل محاولةٍ لإنتاج خطابٍ جديدٍ تظلّ ناقصةً ما لم تنفتح على نقاشٍ أوسع، على جدلٍ لا يخشى الانهيار، بل يجعله وسيلته للوصول إلى أفقٍ أكثر رحابة.
ليست المثقف هي المشكلة في حدّ ذاتها، بل طبيعة الصحافة الثقافية ككلّ، بما فيها أنا وأنت والآخرون، بما فيها كل من ظنّ أنه يمسك بناصية الفكر وهو في الحقيقة لا يزال أسيرًا لأنماط التعبير القديمة.
فإن كانت هذه المساحة قد أتاحت لي أن أقول ما أقول، فذلك لا يعفيها من النقد، كما لا يعفيني من مسؤوليتي في أن أجعل نقدي متجاوزًا لحدود القول، متجذرًا في فعاليةٍ لا تكتفي بأن تُشير إلى المشكلة، بل تسعى لصنع بدائل أكثر حيوية.
هذا المقال ليس بيانًا ختاميًا، وليس حكمًا نهائيًا، بل هو محض استهلالٍ جديدٍ لسؤالٍ قديم:

 كيف يكون الفكرُ فاعلًا، لا مجرد تكرارٍ لمرايا تُعيد انعكاس ذاتها بلا انقطاع؟
***
إبراهيم برسي

عزيزي القارئ المُحبِّ للحكمة.
أمّا بعد، يُذكر في تاريخِ الأغارقة قصصٌ وعبرٌ تُبذرُ في عقلك ووجدانك على حدٍ سواء. وفي هذا التاريخ مَعينٌ من دليل المبتدأ والخبر، لا ينضب من الحكمةِ والرشادِ والأمل. نسوقُ إليكَ أيها القارئ، مقام فيلسوفٍ عظيمٍ من الأغارقةِ الشامخين، عِلمًا وفهمًا وافهامًا وتفاهمًا. إنه فيلسوفٌ يَعلُو في سماءِ الحكمةِ الإغريقية ولا يُعلى عليه. ازداد بمدينة ستاغيرا عام 384 (ق. م)، عاش بأحضان محبوبته ورمز عطائه الفلسفي مدينة أثينا، وانتقل أيضا إلى مدينة أسوس، المدينة التاريخية التي انتصر فيها الإسكندر الأكبر على داريوس الثالث ملك الفرس عام 333 (ق. م). تتلمذ على يد الفيلسوف أفلاطون، فكان الأوّلَ على دفعته في الأكاديمية. فهل عرفتم من يكون؟
إنه الفيلسوف صاحب العقل الإغريقي الجبّار أرسطو، صاحب المقولاتِ، والتحليلات، وَواضع علم المنطق، والخطابة، والأخلاق... وعلوم ومعارف أخرى ذات الإرتباط بالطبيعة والإنسان. وهو مؤسّس "اللوقيون" أو "الليسيه"، المدرسة الفلسفية النموذجية التي بزغ فيها نجم التقليد الفلسفي المشائي الذي عُرف به هذا الفيلسوف.
أمّا بعد، أسوقُ إليك أيها القارئ الباحث عن الحكمة المُحبِّ لها والمُتلمسِ نفحاتها، قصةً طريفة، بطلها أرسطو وتلميذه الإسكندر المقدوني الأكبر، عظيم الأغارقة المُبجل الذي لا يهدأ له بال، ولا يرتاح له حال، إلا بجوارِ الفيلسوف المَشَّاء. فهل يَخفى على كاتبِ هذه السطور إنْ كانَ فاهمًا أن يُوصلَكَ إلى مرتبةِ الافهام؟ ولا على ساردِ هذه القصة إنْ كانَ مُقتنعًا بنور الحكمة الوضَّاح أن يَعجز عن الإقناع؟ فمُحالٌ مُحَالْ..!!
إليكَ بالقصة: كان للإسكندر الأكبر مجلسٌ في قصره، ذائع الصيت، وكان يُجلسُ على يمينه بهذا المجلس، أستاذه الفيلسوف أرسطو الذي أخذ عنه الحكمة والعلوم والمعارف، فجعله مقربا منه أينما حلّ أو ارتحل. وبينما يُجلسُ على يساره رئيس وزرائه، والرجل الثاني في الدولة بعد الإسكندر. وفي يوم من الأيامِ، تقدم إلى مجلسه أحد المُتزلفين من خُدّام الدولة الأوفياء، من الذين يُبدون لكَ غِيرتهم على هيبة الدولة حسب زعمهم الكاذب المُريب، ونِفاقهم الخبيث الذميم. وأمثال هؤلاء وَأُولئك، ممن يُظهرون تَزلفهم للبلاط على طريقة الذئاب التي تتخفى بدُربةٍ ومهارةٍ وإتقانٍ خلف رداءِ المكر والخداع، وتُظهر لكَ بُرقع الطهارةِ والصفاء.. وما أكثر هؤلاء المنافقين داخلَ بلاطِ الحُكَّامِ وخارجه! هُمْ خُدَّامُ الأعتاب الأوفياءِ الصلحاء، الظرفاءِ الأسوياء..!!
اقترب الرجل المُتزلف، وهو يحيي الإمبراطور بابتسامةٍ ماكرة مرسومة على فكيه، مُكشِّرًا عن نابيه، مُطأطئًا رأسه في تذلل وتواضع، غير مُظهرٍ لذيلهِ الطويل المَلْفُوفِ على بطنه، وهو يمشي على حافريه. عوى المتزلف الذئب قائلا:
- سيّدي الإمبراطور! إسكندرنا الأكبر المقدوني المُعظم المخلّد!
أتسمح لي سيدي بطرح سؤالٍ نابعٍ من غيرتي على دولتكم.
- تفضل خادم أعتابنا الذي يغار على هيبة دولتنا.
- نعم سيدي! أعزتكم الآلهة وباركتْ إمبراطوريتكم!
- قلتُ لكَ سلني يا هذا..!! ماذا تريد أن تقول؟ بدون كثرة المقدمات..!!
- حسنا مولاي! كيف تضعون في مجلسكم المُوقر المبارك هذا، على يمينكم، وعلى مقربة منكم، الفيلسوف أرسطو، وعلى يساركم خادمُ الدولة رئيس وزرائكم؟
كيف يُعقل يا مولاي الإسكندر الأكبر أن تُعلونَ شأنًا من الذي ليس بممثلٍ للدولة والسلطة، وتُقلون شأنًا من رئيسِ وزرائكم الذي جعلتموه في هذا الموضع منكم؟
عفوًا يا مولاي.. أعتذر لجنابكم العالي بالآلهة على تطفلي.. إنّني فقط أتحدثُ عن هيبةِ دولتكم وعظمة مجلسكم الذي نعتبره جزءًا لا يتجزأ من إمبراطوريتكم المُمتدة حتى أطراف الأرض.
ابتسم الإسكندر المقدوني للسائل المُتزلفِ خادم أعتاب البلاط بسخرية وهو يبدي استهزاءه لغيرته المبالغ فيها على دولته، مستهجنًا كلامه ثم أجابه:
ـ اعلم أن رئيس وزرائي الذي تتحدث عنه، أستطيعُ أن أصنع منصبه هذا بمرسومٍ مني لا يأخذ مني غير سطرٍ أمليه على كاتبي، فيكتبه على جلد غنم أو ماعز على حد سواء!
ولِمَ أُكلّفُ نفسي عناء إملاء السطر؟
بل بكلمةٍ واحدةٍ أتلفظها، فآتي بآخر جديد على المقاس الذي أختاره لكي يحل محله وأُجلسه على يساري بمجلسي. إنّه بإشارةٍ مني يكون ذلك. أصنعُ ما أريد. وأنتَ أيضا لو كنتَ مكاني لاستطعتَ القيام بنفس الشيء. وكما قلتُ لكَ فالمسألة ها هنا لا تستدعي صعوبة إخراج القرار أو حتى العمل على تنفيده..!!
أمّا أرسطو فمن هذا الذي يستطيعُ أن يصنعَ مثله؟
هل يا تُرى بمرسوم؟ أم بسطر؟ أم بإشارةٍ مني...؟
ثم اعلم يا هذا أنّني أستطيعُ أن أُلغي رئيس وزرائي بنفس الطريقة التي أخبرتكَ بها قبل قليل.
أمّا أستاذي أرسطو فمن هذا الذي يستطيعُ منا أن يُلغيَ منصبه ومكانه؟
وأنا نفسي باستطاعة الشعب أن يثور عليَّ فينقلب ضدي، ويتم إبعادي عن الحكم فأصير مجرد رجلٍ عادي مثلي مثل أي مواطنٍ إغريقي..!!
أمّا أرسطو فمن منا يستطيع أن يجعله رجلا عاديا..؟!
إنّه كالآلهة! نعم كالآلهة! لا يد لنا في صُنعه أو إلغائه! لذلك فهو دائمًا الأعلى مرتبة منا جميعا.
بُهتَ المُتزلف واحمرَّ وجهه وجحظتْ عيناه في مجلس الإسكندر، وكأنّه استشعر صفعةً كالسيفِ القاطعِ، فازورَّ من لهيبها ثُمَّ تجمَّع وانصرفْ!
هكذا أيها القارئ كان مقام أرسطو عند الإسكندر المقدوني الأكبر عظيم الأغارقة. إنه مقامُ الفيلسوف حيثُ أَقَامَهُ بنفسه وعِلمه وأخلاقه، وشَهِدَ له بذلك تلميذه الإسكندر الذي شدّ به أَزْرَهُ، فكان الفيلسوف له عونًا على الحكم ومُوجِّهًا لسياسته داخل إمبراطوريته التي اممتدتْ حتى بلاد فارس. ولا عزاء أيها القارئ لمن ينكَّر لأستاذه ويرتمى في أحضان الانتهازية والوصولية لقضاء مآربه..!! وما أكثر هؤلاء بحكم وجودهم على سطح الأرض في صنعِ تاريخٍ بشريٍّ مِلؤه التملق والتزلف، وبما في هذا التاريخ من مُيوعةٍ مُبتذلة، ونفاقٍ مشروع، وكذبٍ مُباح..!!
لذلك أيها القارئ المُحبِّ للحكمة،
لا تستغرب إن وجدتَ الناس يجعلون من كلِّ جَرْوٍ وعْواعٍ إلا وله رأي ومعرفة وصوت وفلسفة وشعر...!!
عجبي لمن يريد من هؤلاء الانتهازيين أن يَسلب النار حرارتها والريح عصفها والشمس نورها، والذي لا نرى فيه إلا تفاهةً تَستتير بمِعطفِ المعجبين والهاتفين المُذكِّينَ للأنانية الهمجية وحبِّ الذات إلى درجة أن صارتْ نظرة المتعجرفين صغيرةً جدًا لعظمة الكونِ اللامحدود، وفي مقابل ذلك صارتْ نظرتهم كبيرة جدًا لذواتهم إلى درجة النرجسية والعياد بالله..!!
وقد صدق أرسطو عندما رد على هؤلاءِ المتعجرفين قائلا: "إن المعرفة تجعلنا متواضعين لأننا ندركُ بواسطتها مدى عظمة الكون وصغر أنفسنا".
وبعد، فَلْيُبَارِك كلُّ مُحبٍ للحكمةِ هذا الفيلسوف مباركةً تُخلِّدُ ذِكراه في سماءِ الفكرِ الإغريقي، ثُمَّ عليه وعلى سيرته العطرة أسمى عباراتِ التقدير والاعتزاز.
***
بقلم: محمد الشاوي

رَضِىَ المُتَيّمُ فِي الهَوىٰ بِجُنونِهِ، خَلُّوهُ يَفْنَىٰ عُمْرِهِ بفُنُونِهِ
لا تَعْذِلُوهُ فَلَيْسَ يَنْفَعْ عَذْلُكُمْ، ليس السلو عن الهوى من دينه (أبو الحسن الشيشتري)

في درب المناجاة، لا يبرح القلب يترنح كالطير الباكي، ولا تصحو الجوارح كلها، على نقيض ما تلهج به سوانح الدنيا وملماتها، دون أن تصرف آثار البوح عما ترنو إليه محبة المعشوق ونياط العاشق.
هذه المفازة البعيدة والفرادة اللذيذة، لا تصبر عن الإماطة، فيما يجدر به أن يكون تأويلا لحقيقة الوجود، حتى يتألف بيان المباينة بين الرب والمربوب، والخالق والمخلوق. وهو ما تقره الفطرة، وتسلكه الدوافع الإيمانية عقلا وإيمانا واعتقادا.
فما شكل ونوع المناجاة في تفكير الرائي؟ وما تدبير القول فيما ينتج عن التناجي والتَسَارّ المجليان للكشف والتعلق والخشوع والتطهر؟
في التفكير الصوفي، يكون الحب الإلهي، مقامات وأحوال تسبر الحالة الوجدانية العرفانية المنبثقة عن بوح ومناجاة، تبذر لغة خاصة ممتلئة بجمال الذوق وحسن الصنعة وارتقاء الشعر. وفي سحر هذا التجرد الإيتيقي لحال المتصوفة، تستكنه النفس بعضا من تجليات الفناء في الحب الإلهي، فيجود البدل الوجداني المناجاتي بأبلغ ما تفور به الوجدانات، دهشة وتحيرا واستغرابا.
ﻭتطرح ﺭﺅﻳﺔ التناجي تلك، ﻫﺎﺟس تجاوز المحسوس والمادي ومحدودية الذات من أجل معانقة المطلق الكلي لذاك الجمال المنذور، تحت سلطة لامرئية، توازي استيهامات التلقي وحضور كل أنواع الخشوع والذلة والاعتذار والمسكنة والافتقار.
عن أبي الحسن الشاذلي أنَّهُ قال: قيل لي: يا عليُّ، طَهِّرْ ثِيَابَكَ من الدَّنَسِ تَحْظَ بمَدَدِ اللهِ في كلِّ نَفَسٍ، فقلت: وما ثيابي؟ فقيل لي: إنَّ الله كساك حُلَّة المعرفة، ثم حلة التوحيد، ثم حُلَّة المحبة، ثم حُلَّة التوفيق، ثم حُلَّة الإيمان، ثم حُلَّة الإسلام، فمن عرف الله صغر لديه كل شيء، ومن أحب الله هان عليه كل شيء، ومن وحَّد الله لم يشرك به شيئًا، ومن آمن بالله أمن من كلِّ شيء، ومن أسلم لله قَلَّمَا يعصيه، وإن عَصَاهُ اعتذَرَ إليه، وإن اعتذر إليه قَبِلَ عُذْرَهُ. قال: ففهمت من ذلك قوله تعالى: "وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ".
فذلك أن مناجاة من يدرك ويبصر، هو معرفة بذات المدرك، وتكسي ب"حلة المعرفة"، وحلة التوحيد، كناية على إبداع لا تضاهيه سوى حجب الإيمان والتسليم بكل شيء، والتقرب بكل شيء، مخافة العصيان وانكفاء بسمة الاعتذار قبل العذر. وإلى ذلك، تصير حالة التطهر مساحة واجدة وموجودة. يقول الجنيد: " اللهم وكل سؤال سألته فعن أمر منك لي بالسؤال، فاجعل سؤالي لك سؤال محابّك، ولا تجعلني ممن يتعمد بسؤاله مواضع الحظوظ بل يسأل القيام بواجب حقك". ذلك السؤال الذي لا يميط اللثام عن كل ما يجوس بالأنفس حين انشغالها بالمعشوق، وانحلالها عن طريقه وكونه.
ولهذا يحمل المتصوفة في بلاغات مناجاتهم آثار الخوف من عاديات الذنوب وأوساخ الدنيا، فيبلُغون أقصى درجات المناجاة، ليحتموا بالمغفرة والسُلُوًّان، ومرضاة الرضوان، فيوثرون الإغراق في تمجيد الذات الإلهية وإعلائها. يقول أحدهم تعبيرا عن هذا التناص الروحي:
"مثال الذَّنْبِ عند أرباب البصائر كجيفةٍ أدخلت الكلاب خراطيمها فيها، أرأيت إذا غمس رجلٌ فمه في جيفة أفما تعيب عليه؟ إذا كان الحق سبحانه قد جعل ميزانًا للبيع والشراء أفما يجعل ميزانًا للحقائق؟!".
ومثال ذلك عندنا، أن إدراك الحقائق لا يكون بدون انشداد وتحري، إطاعة واستطاعة، وإذعان وتماهي. والمناجاة بكل ذلك، يكرس صفة التسامي والتوق إلى ملاقاة الحبيب بما يجدر بالمخلوق وما يقتضي لدى خضوعه واستسلامه.
يقول أحد الشعراء:


فإن بَدَا منهم حال توَلُّهِهِمْ
عن الشريعةِ فاتْركْهم مع اللهِ
*
لا تَتَّبِعْهُم ولا تَسْلكْ لهم أثرًا
فإنهم طُلقاءُ اللهِ في اللهِ
***

د. مصطفَى غَلْمَان

بين حرية الفكر وأسر البيولوجيا

لو أن النيل توقف عن جريانه يوما، متكئا على أمجاد ضفتيه الفرعونيتين، لصار بركة آسنة تذكر بالماضي ولا تنتج حياة. هذا بالضبط ما يحدث حين تحول الهوية نفسها إلى مسلحة بالدم و"السحنة" و"السلالة"، بدل أن تكون نهرا يجمع روافد التاريخ، ويواري في أعماقه أسرار التحول. كتاب سلامة موسى عن "مصر اصل الحضارة" يضعنا أمام مرآة مكسورة لزمن مضى، تتقطع فيها صورة مصر إلى شظايا بيولوجية، وكأن حضارة بنت الأهرام بالعقل والروح، يمكن اختزالها في حمض الفوليك.
لم يكن سلامة موسى - ذلك المفكر الكبير - مجرد كاتب، بل كان ابنا شرعيا لعصره؛ عصرِ الهوس بالعلموية (Scientism) كبديل عن الدين، وبالعرق كبديل عن الثقافة. هنا، تخطر مفارقة: كيف لرائد تنويري أن يقع في فخ التبسيط البيولوجي، مقرا بأن جينات المصريين تحمل سر تفوق أجدادهم؟! الجواب يكمن في أن النزعة الفرعونية - التي انبثقت مع فك رموز حجر رشيد - لم تكن سوى رد فعل هش لصدمة الاستعمار الغربي. فـ"الغرب" الذي استعبد الجسد المصري بالاحتلال، استعبد العقل المصري أيضا بمعرفته المزيفة عن الشرق. فجاءت دعوة موسى للعودة إلى الفرعونية - عبر بوابة الدم - كصرخة لاستعادة الكرامة، لكنها - للأسف - استعارت أدوات الخصم العرقية ذاتها.
البيولوجيا كأيديولوجيا
ما أخطر أن تتحول الهوية من سؤال ثقافي متنوع إلى إجابة جينية مغلقة! حين يتحدث سلامة موسى عن "السحنة المصرية "، فإنه - دون قصد - يقيد مصر في إطار أنثروبولوجي ضيق، يشبه ذلك الذي رسمه علماء الاستعمار لـ"تقسيم" البشر إلى أعراق متراتبة . لكن أليس العبقرية المصرية - من ابن سينا إلى طه حسين - هي التي أثبتت أن الحضارة تبنى بالانفتاح، لا بالانغلاق؟! ألم تكن مصر دائمًا بوتقة انصهار للآشوري والنوبي والفارسي والعربي، حتى صار "الدم المصري"- لو جاز التعبير - كالنيل: خليط من كل الأنهار، لكنه نهر واحد؟!
حرية الفكر وعبادة التراث:
ليس المطلوب هنا محاكمة سلامة موسى- فكل عقل ابن زمنه - بل محاكمة الفكرة ذاتها: هل يصح أن نتعامل مع التراث كمعطى “بيولوجي" يورث، أم كـ "مصدر ثقافي" يفتح للنقاش؟ دعوة سلامة موسى -رغم نبل مقصدها - تقع في فخ التقديس، وكأن الهوية إرث ننقله في الجينات، لا مشروع نصنعه بالإرادة. هنا، يبرز سؤال جمال حمدان الذي طالما أرقه: هل مصر جغرافيا أم تاريخ أم مشروع؟! إذا كانت الإجابة "كل ذلك"، فلماذا نختزلها في "سلالة" ؟!
نحو هوية نيلية
قد نغفر لسلامة موسى تعلقه بـ"الفرعونية البيولوجية"، فربما كان ذلك ضرورة تاريخية لمواجهة شعب مهان. لكننا- اليوم-أمام تحد أكبر: أن نصنع هوية تستوعب الفرعوني دون عقدة التفوق، والعربي دون عقدة النقص، والإفريقي دون عقدة الحدود. هوية تكون كالنيل: تصب فيها كل الروافد، لكنها تظل نهرًا واحدًا يجرِي نحو المستقبل، لا نحو الماضي.
سيناريوهات المستقبل
1. الجذور التاريخية كـ «ألغام»: لماذا تعود الفرعونية البيولوجية اليوم؟
لا ينفصل هوس سلامة موسى بالهوية الفرعونية عن سياق جيوسياسي معقد: مصر أوائل القرن العشرين كانت جسدا مقسما بين احتلال بريطاني يسحق كرامتها، ونخبة وطنية تبحث عن سردية تعيد لها الفخر المفقود. لكن الخطر هنا ليس في الفكرة ذاتها، بل في تحويلها إلى أيديولوجيا قابلة للاستنساخ. فاليوم، نرى إحياء جديدًا لخطابات التفوق العرقي تحت مسميات مثل «أصالة الدم» أو «الحفاظ على النقاء الجيني» ، وكأن التاريخ يعيد نفسه بوجه معصفر بالتكنولوجيا! السؤال الاستراتيجي: هل تريد مصر أن تكون أمة مستقلة بهوِيتها، أم سجنا كبيرا لـ«مومياوات فكرية»؟
2. المعضلة الجيوسياسية: الهوية بين التميز والانعزال
مصر- بحكم موقعها -جسر بين قارات ثلاث، وحضارتها نتاج لتفاعل الأفارقة والآسيويين والأوروبيين. لكن النزعة الفرعونية البيولوجية - كما قدمها موسى - تحول هذا الموقع المفتوح إلى قلعة منغلقة، تحاصر نفسها بأسوار الماضي. هل يعقل أن تنافس مصر- التي كانت ولا تزال محور العالم -بمفردات انعزالية ؟! الإجابة تكمن في مفارقة: قوة مصر الإستراتيجية تأتي من قدرتها على استيعاب التناقضات، لا إنكارها.
3. البيولوجيا كـ«سلاح استعماري»: استدراج الضحية لتكرار جريمة الجلاد
الغرب - الذي اخترع «العنصرية العلمية» لتبرير استعماره - نجح في تصدير أدواته الفكرية إلى النخب المحلية، فصار المصري يحارب الاستعمار بعقدة التفوق نفسها التي زرعها فيه المستعمر! هنا يبرز السؤال المحوري: كيف لنا أن نصوغ هوية وطنية لا تستورد عقد التفوق/ الاضطهاد من الغرب، بل تستلهم خصوصية مسارها الحضاري؟
4. سيناريوهات المستقبل: الهوية بين «التطهير العرقي» و«التنقية الثقافية»
لو افترضنا أن مصر تبنت رؤية موسى البيولوجية بشكل رسمي، فما السيناريوهات الممكنة؟
- السيناريو الكارثي: انقسام مجتمعي بين من يصنفون «أصحاب دم فرعوني» وآخرين «دخيلين»، مع تصاعد خطاب الكراهية.
- السيناريو الانعزالي: تقوقع ثقافي يفصم مصر عن محيطها العربي والإفريقي، وفقدان تدريجي لدورها الإقليمي.
- السيناريو التوافقي: تبني هوية مركبة تعترف بالفرعونية كـ«طبقة» من طبقات التاريخ، دون إنكار العروبة أو الأفريقانية.
5. البديل الاستراتيجي: الهوية كـ« مشروع ديناميكي» لا كـ « نسب جامد»
الدرس الأهم من تجربة سلامة موسى هو أن الهوية - إذا تحولت إلى مسلحة - تقتل ذاتها. البديل يكمن في رؤية ثلاثية الأبعاد:
- البعد الأفقي: الاعتراف بتعددية الروافد المكونة للشخصية المصرية (فرعونية، عربية، إفريقية، متوسطية).
- البعد الرأسي: الربط الواعي بين الطبقات التاريخية دون تقديس أي منها.
-البعد المستقبلي: تحويل الهوية إلى أداة لصناعة مشروع وطني يستوعب التحديات العالمية (كالتغيرات المناخية، والثورة التكنولوجية).
الخاتمة الإستراتيجية: النيل لا يبحث عن منبعه، بل عن مصبه .. مصر التي تستمد شرعيتها من «نقاء الدم» ستكون دائمًا أضعف من مصر التي تستمد قوتها من « نقاء المشروع ». الفرق هنا جوهري: الأولى تحفر قبرها بالحنين إلى الماضي، والثانية تبني جسورها نحو المستقبل.
***
عبد السلام فاروق

تتشكَّل تجاربُنا في هذا العالم من خلال تفاعلنا مع الآخرين عبر اللُّغة، وهي أداة تطورت جنبًا إلى جنب مع الفكر الإنساني. لطالما ظن الإنسان أنَّ الكلمات تحمل معاني ثابتة ومحايدة، لكن الواقِع أكثر تعقيدًا، إذ تتغير الدَّلالاتُ عبر الزمن، متأثرة بالسياق والاستعمال والتَّأويل.
الكلمات تحمل أكثر من مجرد تعريفات مُعجميَّة، إذ تتشكل من خلال التَّجربة والاستعمال، وتكتسب أبعادًا تتجاوز معناها الظاهر. حين تُنطق أو تُكتب، فإنها تدخل في شبكة معقدة من العلاقات، حيث لا يكون اللَّفظ معزولًا عن السياق الذي وُلِد فيه، ولا عن التأثيرات التي تراكمت داخله عبر الزمن. لهذا، لا يمكن التعامل مع اللغة بوصفها أداة محايدة، فهي دائمًا مشحونة بدلالاتٍ تتجاوز المقصود المباشر، وتستدعي آثارًا من استخدامات سابقة قد تظل حاضرة حتى دون وعي المُتكلِّم بها.
وهكذا، فإنَّ المعنى لا يُستخلص من المُفردة وحدها، بل ينبثق من التفاعل بين الكلمات، ومن موقعها داخل البنية التي تحتويها. في كل استعمال، تنشأ إمكانية جديدة للفهم، حيث تتغير العلاقات وفقًا للسياق والنية والانطباعات المسبقة. ما يبدو واضحًا عند القراءة الأولى قد ينفتح على مستويات أخرى عند التأمل في طبيعة التَّراكيب المستخدمة أو في الدَّلالات التي تستدعيها الكلمة ضمن نص معين. ولهذا، يصبح الفهم عملية ديناميكية، لا تتوقف عند حد معين، بل تتطور مع كل قراءة جديدة.
ولا يتوقف الأمر عند ذلك، إذ لا تنشأ أي كلمة من العدم، فكل لفظ يحمل أثر استعمالاته المتراكمة، ويتحرك في فضاء لغوي تتداخل فيه الأزمنة والدلالات. عند استخدام مصطلح ما، يتجاوز معناه المباشر، مستدعيًا إرثًا لغويًا متجذرًا. وهو ما أسمِّيه: «طيفُ المعاني»، وهو يشير إلى ذات المعنى، لكنه أكثر وضوحًا وأدق من كلمة “الأثر” عند دريدا. يمنح هذا التراكم اللغة عمقًا وحيوية، ويفتح المجال لتعدد التأويلات، حيث يتشكل المعنى من تفاعل قصد المُتكلِّم وإمكانات الفهم لدى المُتلَقِّي.
على هذا الأساس، الألفاظُ ليست كياناتٍ ثابتة، فإن التعامل معها يقتضي وعيًا بحركتها الدائمة، وبالاحتمالات التي تنفتح من خلالها. كل نص يخلق شَبكةً من المعاني التي قد تتقاطع مع النُّصوص الأخرى أو تتعارض معها، مما يجعل أي خطاب امتدادًا لحوار مستمر بين الحاضر والماضي، بين القصد والتأويل، بين الدَّلالة الظَّاهِرة والاحتمالات التي تظل كامنة في بنية اللغة نفسها.
***
خالد اليماني

 

في عالم يمتلئ بالادعاءات الكاذبة والجهل والخرافات، ويموج بالتحديات والتحولات، عالم يتلاعب فيه السياسيون بنا وبأفكارنا، ويسوقوننا في دوامة من الفساد ونهب الاموال، يبرز التفكير النقدي ليس فقط كأداة حيوية للشخصية، بل كمسؤولية ملحة تقع على عاتق كل فرد. انه واجبنا نحو انفسنا واجيالنا القادمة، ان نتحرر من قيود التبعية، وان نمتلك القدرة على التمييز بين الحق والباطل، وان نسعى لبناء مجتمع قائم على العدل والشفافية. التفكير النقدي ليس مجرد مهارة مكتسبة، بل هو نهج حياة يحرر العقل من قيود الانقياد الاعمى، ويصقل الشخصية لتكون قادرة على مواجهة التضليل والتلاعب وفضح الفساد واستعادة زمام المبادرة في بناء مستقبلنا. انه يمنحنا القدرة على التفكير المستقل، ويمكننا من تحليل المعلومات وتقييمها بشكل موضوعي، واتخاذ قرارات مستنيرة. من خلال التفكير النقدي، يكتشف لنا معنى وجودنا ودورنا في الحياة. نتساءل ونستكشف ونحلل، مما يقودنا الى فهم اعمق لنفسنا وللعالم من حولنا. يدرك المفكر النقدي ان التلقين هو عملية تقيّد العقل وتحجّم الابداع. انه يرفض ان يكون مجرد ببغاء يردد ما يسمعه، بل يسعى الى فهم الحقائق وتحليلها بنفسه.
الاسئلة الجوهرية وادوات التحليل
التفكير النقدي أداة حياتية تمكننا من التمييز بين الحقيقة والزيف، وبين الرأي والحقيقة. تخيل نفسك تقف أمام بحر من المعلومات المتضاربة، كيف ستعرف أيها جدير بالثقة؟ هنا يأتي دور التفكير النقدي، فهو يزودك بالبوصلة التي ترشدك في هذا البحر المتلاطم. لكن التفكير النقدي لا يمكنه تحقيق ذلك دون معرفة ومعلومات. فبدون قاعدة بيانات واسعة ومتنوعة، يصبح التفكير النقدي مجرد أداة فارغة. لذا، الجمع بين التفكير النقدي والمعرفة المتينة هو المفتاح للوصول الى الحقائق واتخاذ قرارات مستنيرة.
يبدا التفكير النقدي بطرح الاسئلة الجوهرية: ما هو مصدر هذه المعلومة؟ هل هو موثوق؟ هل هناك اي تحيزات كامنة؟ هل الادلة المقدمة قوية وكافية؟ هل هناك وجهات نظر اخرى تم تجاهلها؟ هذه الاسئلة ليست مجرد تمارين عقلية، بل هي ادوات تمكننا من تحليل المعلومات بعمق، وتقييم الحجج بموضوعية، والوصول الى استنتاجات مستنيرة.
عندما تواجه خبرا او معلومة، فان الخطوة الاولى هي التحقق من المصدر. السؤال الاساسي الذي يجب ان يرافقنا دائما هو: من هو مصدر هذه المعلومة؟ هل هو موثوق؟ فعندما نصادف خبرا او معلومة، يجب ان نبدا بالبحث عن مصدرها الاصلي، هل هي وكالة انباء معروفة، صحيفة موثوقة، ام مجرد منشور على وسائل التواصل الاجتماعي؟ لا تكتف بذلك، بل تحقق من سمعة المصدر، هل لديه تاريخ في نشر معلومات دقيقة؟ هل هو معروف بالشفافية والنزاهة؟ والاهم من ذلك، ابحث عن مصادر اخرى تؤكد نفس المعلومة، فكلما زادت المصادر الموثوقة التي تؤكد المعلومة، زادت الثقة بها. هذه الخطوات العملية تمكننا من بناء اساس متين من المعلومات الموثوقة، وتجنب الوقوع في فخ الاخبار المزيفة والتضليل.
بعد التحقق من المصدر، حان دور تحليل المحتوى. لا تقبل اي معلومة دون دليل، اطلب من صاحب المعلومة تقديم ادلة تدعم ادعاءاته، وحلل الادلة المقدمة، هل هي قوية وكافية؟ هل هناك اي ثغرات او تناقضات في الحجة؟ ابحث عن اي تحيزات محتملة في المحتوى، هل هناك اي محاولة للتلاعب بالعواطف او تضليل الجمهور؟ لنفترض انك رايت خبرا مثيرا للجدل على وسائل التواصل الاجتماعي؛ لا تشاركه فورا، بل تحقق من مصدر الخبر، وابحث عن مصادر اخرى تؤكده، حلل المحتوى، وابحث عن اي علامات تدل على التضليل.
لا تكتفِ بوجهة نظر واحدة، بل ابحث عن وجهات النظر المختلفة حول القضية، وحلل نقاط القوة والضعف في كل وجهة نظر، وحاول ان تفهم دوافع الاشخاص الذين يحملون وجهات نظر مختلفة. تخيل انك تستمع الى شخص يحاول تضليلك، لا تقبل كلامه دون تفكير، اطلب منه تقديم الادلة، وحلل حججه، وحاول ان تفهم دوافعه.
كل معلومة او حجة تستند الى افتراضات معينة، حاول ان تحدد هذه الافتراضات، واسال نفسك: هل هذه الافتراضات صحيحة؟ هل هناك اي افتراضات بديلة؟ لا تتردد في التشكيك في الافتراضات الشائعة او المسلمات.
استخدم الادوات المتاحة للتحقق من المعلومات، مثل محركات البحث ومواقع التحقق من الحقائق وادوات تحليل البيانات.
التفكير النقدي والابداع
ان التفكير النقدي ليس مجرد اداة للدفاع عن النفس ضد التضليل، بل هو ايضا محرك للابداع والابتكار. انه يشجعنا على التفكير خارج الصندوق، وطرح الاسئلة غير التقليدية، وايجاد حلول جديدة للمشاكل القديمة. انه يمنحنا القدرة على بناء مستقبل افضل، لاننا نصبح قادرين على اتخاذ قرارات مستنيرة ومسؤولة.
كيف يمكن للتفكير النقدي ان يكون محركا للابداع والابتكار، هذه بعض الامثلة العملية: يبدا التفكير النقدي بالتشكيك في الوضع الراهن، هذا التشكيك يفتح الباب امام استكشاف بدائل جديدة وحلول مبتكرة. تخيل انك في مجال تصميم المنتجات، بدلا من قبول التصميمات التقليدية، تساءل: "لماذا نصنع هذا المنتج بهذه الطريقة؟ هل هناك طريقة افضل واكثر كفاءة؟" هذا التساؤل قد يقودك الى ابتكار منتجات جديدة او تحسين المنتجات الحالية، وهذا هو جوهر الابداع.
لا يقتصر التفكير النقدي على التشكيك فقط، بل يشجع على توليد الافكار الجديدة من خلال البحث عن العلاقات بين المفاهيم المختلفة، وتحليل المشاكل من زوايا متعددة، واستخدام الخيال والابداع. لنفترض انك تواجه مشكلة معقدة، استخدم تقنيات العصف الذهني، تلك العملية الابداعية التي تشجع على تدفق الافكار بحرية ودون قيود، لتوليد مجموعة متنوعة من الافكار، من خلال فتح العقول على مصراعيها، وتشجيع الجميع على المشاركة بأي فكرة تخطر ببالهم، مهما بدت غريبة او غير تقليدية، ففي هذه المرحلة، لا مجال للنقد او التقييم، بل الهدف هو اطلاق العنان للخيال، وجمع اكبر قدر ممكن من الافكار، التي قد تكون نواة لحلول مبتكرة ومبدعة. ثم استخدم مهارات التفكير النقدي، التي تتضمن التحليل العميق والتقييم الموضوعي والمنطقي، لتقييم هذه الافكار واختيار الافضل. ابدا بتحليل كل فكرة على حدة، وفكر في مدى جدواها وقابليتها للتطبيق، وهل تتناسب مع الاهداف المرجوة؟ ثم قارن بين الافكار المختلفة، وقم بتقييم نقاط القوة والضعف في كل منها، وفكر في المخاطر والمكافأت المحتملة لكل خيار. لا تتردد في طرح الاسئلة الصعبة، مثل: هل هناك اي افتراضات غير صحيحة؟ هل هناك اي تحيزات محتملة؟ هل هناك اي حلول بديلة؟ استخدم المنطق والاستدلال لتقييم الادلة، وتجنب التفكير العاطفي او المتحيز. في النهاية، اختر الفكرة التي تتوافق مع معاييرك وتلبي احتياجاتك بشكل افضل. هذه العملية تضمن ان الحلول التي تتوصل اليها ليست فقط مبتكرة، بل ايضا قابلة للتطبيق وفعالة.
بعد توليد الافكار، ياتي دور التقييم والتنقيح. في مجال البحث والتطوير، على سبيل المثال، استخدم مهارات التحليل والتفكير المنطقي لتقييم جدوى الافكار الجديدة، وحدد المخاطر المحتملة، وطور خطط عمل لتنفيذ هذه الافكار. هذا التقييم النقدي يضمن ان الافكار الابداعية تتحول الى ابتكارات عملية ومجدية.
التفكير النقدي يمنحنا القدرة على اتخاذ قرارات مستنيرة ومسؤولة، وهو ما يساعدنا على بناء مستقبل افضل. في مجال ادارة الاعمال، استخدم مهارات التحليل المالي والتفكير الاستراتيجي لاتخاذ قرارات استثمارية مستنيرة، وتطوير خطط عمل فعالة، وادارة المخاطر بشكل مسؤول. هذه القرارات المستنيرة هي التي تقود الى النجاح والتقدم.
كما يمكن للتفكير النقدي ان يحدث تغييرا جذريا في مجالات مختلفة. في مجال التعليم، يمكن ان يدفع المعلمين الى تطوير اساليب تدريس مبتكرة تشجع الطلاب على التفكير النقدي والابداعي. في مجال الطب، يمكن ان يدفع الاطباء الى تطوير اساليب علاج جديدة واكثر فعالية. وفي مجال التكنولوجيا، يمكن ان يدفع المهندسين الى تطوير تقنيات جديدة ومبتكرة تحل المشاكل المعقدة. هذه الامثلة توضح كيف يمكن للتفكير النقدي ان يكون محركا قويا للابداع والابتكار، وبناء مستقبل افضل للمجتمعات.
وعندما نمتلك ادوات التفكير النقدي، نصبح اكثر قدرة على تحدي الافكار والمعتقدات التي يفرضها السياسيين والمتطرفين. سوف لن نقبل الامور كما هي، بل نسعى الى فهم الاسباب والنتائج. في عصر المعلومات، نواجه سيلا من الاخبار والمعلومات المتضاربة. التفكير النقدي يمكننا من التمييز بين الحقيقة والزيف، واتخاذ قرارات مبنية على معلومات موثوقة. يساهم التفكير النقدي في رفع مستوى الوعي لدينا، مما يجعلنا اكثر قدرة على المشاركة الفعالة في بناء مجتمعنا ووطننا.
انه يشجعنا على الابداع والابتكار، فهو يدفعنا الى التفكير خارج الصندوق، وايجاد حلول جديدة للتحديات التي تواجهه، ويساهم في تحقيق التنمية المستدامة، من خلال التشجيع على التفكير في القضايا البيئية والاجتماعية والاقتصادية بشكل مسؤول. كما يعتبر التفكير النقدي اساسا لبناء مجتمع المعرفة، حيث يتم تشجيع الحوار والنقاش وتبادل الافكار.
يمكن القول ان التفكير النقدي هو ضرورة حتمية للانسان المستقل في هذا العصر. انه يمنحه الحرية والاستقلال الفكري، ويمكنه من مواجهة التحديات وبناء مستقبل افضل.
***
ا. د. محمد الربيعي
.........................
مقالات للكاتب حول الموضوع:
- اهمية التفكير النقدي في التعليم والثقافة والبحث العلمي. 2024. الثقافة الجديدة. العدد 442
- تحدي التفكير النقدي مقابل الحفظ والتلقين. 2020. شبكة الاقتصاديين العراقيين.
- ما هي أهمية وفوائد "التفكير النقدي"؟ 2017. كتابات في الميزان.

klepto cracy كليبتو كراسي أو الكليبتوقراطية، إصطلاح ظهر في بدايات القرن التاسع عشر يصف النظام السياسي الذي يستولي على صناعة القرار فيه أشخاص يعتمدون منهج الفساد المالي والفساد الإداري، يعملون على توظيف صلاحيات السلطة في تسهيل وصول الفاشلين والفاسدين الى المناصب الإدارية المهمة والمناصب السياسية المتقدمة. هذا يعني وجود خلل وإنحراف في هيكلية الواقع السياسي للسلطة. يظهر هذا الإنحراف في أجندات عمل مؤسسات الحكومة من قبيل تضمين الخطاب الحكومي الرسمي آيات قرآنية وأحاديث نبوية وحكم وعبارات المواطنة والإنسانية ولغة الحوار والمدنية والتثقيف وعبارات (القانون فوق الجميع) و(استقلال العدالة ونزاهة القضاء)، وإنصاف المظلومين، وتقديم الخدمات للمواطنين وتخفيف معاناة الفقراء، وتوفير فرص العمل، وحق التعليم وحرية التعبير، وإقامة مهرجانات وندوات ومحاضرات حكومية لمكافحة الفساد، وتوجيه الوعي العام للمواطنين، وتحذيرهم من عمليات الإحتيال والابتزاز، ونشر ارقام للخطوط الساخنة، واطلاق اسماء شخصيات تاريخية وطنية اتصفت بالنزاهة والشجاعة والابداع والمبدئية على هذا الشارع وتلك البناية وذاك المجمع.
يقابل ذلك ملفات فساد ضخمة لمسؤولين كبار في الحكومة، وهدر مقنن لمبالغ طائلة في ميزانية الدولة، وخروج ميسر لمسؤولين متهمين بقضايا فساد من البلاد، وغياب واضح لمصير أموال مسروقة، وظهور مئات الأشخاص من ذوي الثراء الفاحش مقابل ملايين الفقراء والعاطلين، مشاريع وهمية، صفقات مشبوهة، صفقة القرن، عقود فضائية، رواتب مزدوجة، منح ونثريات شكلية، وتدخل للمزاجية الرسمية في إستقطاع نسب من رواتب الموظفين والمتقاعدين.. و.. و..
وكلما كبرت هذه القضايا وكثرت ملفات الفشل والفساد، اشتغلت الماكنة الإعلامية الرسمية لتعلن عن مبادرة حكومية لمكافحة الفساد وعن تشكيل لجان لتقصي الحقائق، وإستصدار أوامر إعتقال بحق موظفين فاسدين، وإجراء إتصالات ومشاورات مع جهات معنية لسد الثغرات، وإستضافة شخصيات ومنظمات مدنية لتشكيل منطقة عمل مشتركة مع الحكومة لتحسين أداء مؤسساتها، وغيرها من عمليات ترقيع ذلك الإنحراف في هيكلية السلطة. منها عرض مفهوم الحياة مقابل مفهوم العدالة بحيث يتم تضييع إهتمام الناس بتطبيق العدالة في إشغالهم بمشاريع تحسين حياتهم بشراء منزل جديد وسيارة حديثة ومشاريع عمل في السوق العالمية المفتوحة وتوفير قروض ميسرة وفرص عمل ووظائف. هكذا ينصرف الناس الى شؤونهم الحياتية الخاصة حتى صاروا يسمعون ويقرأون ويشاهدون عبر شاشات الإعلام ووسائل التواصل الإجتماعي عن حجم الفساد المالي والفساد الإداري للحكومات المنتخبة، واقتصر رد الفعل عند كثيرين على إستياء وانفعال وقتي يزولان بعد اختفاء الخبر السيء، ويعودان مع ظهور خبر آخر، وهكذا، حتى ادمن كثير من الناس هذا الحال السيء الذي حوّل بدوره احزاب سياسية متسلطة الى قوى كبيرة غير صديقة للمجتمع تسحق كل من يواجهها.
أمام هذا التورم المتعاظم في قوة السلطة الفاشلة والفاسدة، بدا حضور قوة المؤسسة الدينية ضعيفاً في تفاصيل المشهد الحياتي للبلاد، عندما اقصرت المؤسسة الدينية دورها على تقديم النصح والإشارة الى مكامن الخلل، فما كان منها بعد قولها (بح صوتنا) إلا ان أدارت ظهرها لهذا التورم في قوة السلطة السياسية واعلنت رفضها إستقبال المسؤول الحكومي الفاشل والفاسد. واعطت لصلاة الجمعة حيث الخطبة السياسية، إجازة مفتوحة حتى بعد زوال المؤثر الذي تسبب في تعليق صلاة الجمعة وهو وباء كورونا.
وبعد ان ضمنت حكمة المرجعية الدينية قوة وقدرة حسمها للقضايا المصيرية الكبيرة كما حصل في فتوى الجهاد الكفائي وظهور الحشد الشعبي . اصبح المجتمع العراقي أمام تحديات كثيرة وخطيرة تتعلق في التفاصيل الدقيقة وفي طريقة حياة الناس والنظام الإجتماعي وانماط السلوك التي يتعامل بها الناس مع بعضهم في شؤونهم الخاصة من جهة، ومع الحكومة من جهة اخرى، وهذه التحديات في إعتقادي لا تقل خطورة عن القضايا المصيرية الكبيرة. تتأتى خطورتها من كون النظام السياسي العراقي اليوم مصاب بواقع منحرف في هيكليته، كما ذكرنا في بداية الحديث، نتج عن هذا الواقع المنحرف قلق مستمر أصاب الشخصية العراقية المتصفة بالصبر والتحمل طيلة اكثر من عشرين سنة من بداية القرن الواحد والعشرين وحتى اليوم، والذي راح ينذر بإنفجار كبير، لا يبدو من واقع حال الحكومة انها منتبهة لهذا القلق، أو مكترثة له، أو انها تدرك حجم هذا الإنفجار النفسي وحجم الأضرار التي يمكن ان يلحقها بالبناء الإجتماعي. لأنها لا تزال تستخدم لغة قديمة من شأنها ان تقضي على حركة العملية السياسية، هي لغة شتم وإهانة وإعتقال متظاهرين مدنيين يطالبون بحقوق أو خدمات و.. و.. وتهديم دور وإزالة تجاوزات اغلبها كان لأناس مدنيين فقراء. كما انها لا تزال ماضية في مشاريعها المالية، فبعد ان بدا العجز واضحاً في ميزانية الدولة بسبب حجم الأرقام المخيفة للأموال المسروقة من قبل سياسيين ومن يعمل بمعيتهم، راحت تبحث في سبل إستحصال أموال من الناس عن طريق رفع رسوم المعاملات الشخصية في دوائر الدولة وزيادة الضرائب وابتداع سبل حجز أموال الناس وإرغامهم على إنجاز شؤونهم المالية الخاصة عن طريق المصارف الحكومية والدوائر الرسمية على وفق ضوابط وقوانين وتعليمات وضعية تخدم تضخيم عائدات الحكومة المالية اكثر من استهدافها خدمة المواطن.
أمام هذا المشهد الحياتي الذي تبرز فيه قوة المؤسسة السياسية في حماية المال لصالحها، وتبرز فيه قوة المؤسسة الدينية في حماية مصير الصالح العام. اصبح المجتمع أمام قوتين إحداهما قوة غير صديقة تدخل في التفاصيل الدقيقة هي قوة المؤسسة السياسية، وقوة اخرى صديقة لا تدخل في التفاصيل الدقيقة هي قوة المؤسسة الدينية. لذا اصبح من الضروري جداً ظهور قوة صديقة تدخل في التفاصيل الدقيقة للمشهد الحياتي للمجتمع، هذه القوة ينبغي ان تكون قوة الثقافة، بالفهم الإنثروبولوجي لكلمة الثقافة، حيث لا يزال المواطن يكتنز كثيراً من القيم العليا والأخلاق، وكثيراً من طاقة الأمل في تغيير الواقع السيء، لأنه يمتلك مقومات وجود ذلك الأمل عبر الموروث التاريخي واحداثه، وعبر خبرته من خلال تجارب الواقع، تجعله يتمتع برصيد كافٍ لإعادة البناء الإجتماعي، يحتاج فقط الى قوة صديقة قادرة على استثمار هذا الرصيد. هنا تبرز مسؤولية المثقف الحقيقي في وعي المرحلة القادمة من عمر البلاد التي يراد لها ان تكون امتداداً للواقع المنحرف في هيكلية الجهات المتنفذة حالياً. وهذا واضح من خلال الخطوات التحضيرية للعملية الانتخابية القادمة.
الثقافة اليوم معنية بإصدار ما اصطلح عليه بـ حكم الثقافة. تحدد فيه ملامح التكوين الجديد للقادم من الأيام وتعين المواطن على قراءة ما بين السطور وتثير وعيه بقيمة صوته، وتحفظه من التحول الى كتلة بشرية مادية قابلة للاستهلاك والاستغلال والإستغفال.
***
د. عدي عدنان البلداوي

مما لا شك فيه، أن الناس في عالم اليوم يمرون بحالة غير مسبوقة وهائلة من الكذب والخداع الإعلامي وقلب الحقائق، وهذا ما يسمى بالتضليل الإعلامي. لقد أصبحنا اليوم نعيش في فوضى إعلامية، اختلطت فيها الحقائق بالأباطيل، وشوّهت الحقائق.
يهدف التضليل الإعلامي إلى خلق حالة من الفوضى الفكرية التي تؤدي إلى بلبلة عقول الناس عن طريق تشويه الحقائق أو قلبها، وبالتالي يمكن تطّويع عقول الناس وتغيير أفكارهم بما يتناسب مع أهداف حملة التضليل. من الأمثلة الحديثة التي عاشتها المجتمعات البشرية، جائحة كرونا. فبمجرد انتشار فايروس الكرونا في دول العالم، ظهرت في وسائل الإعلام، أصوات تكذّب اخبار الجائحة، وتوحي إلى أنها مؤامرة مفّتعلة من الحكومات بالتواطؤ مع شركات الأدوية. انقسم العالم بين مؤيد ومعارض، وشوّهت الحقيقة، ودخل الشك إلى قلب الحقيقة. وما زال التناقض في الآراء قائم لحد الآن. ونعيش اليوم حالات الخداع والتضليل الإعلامي في جرائم الحرب والإبادة الجماعية التي يمارسها الجيش الإسرائيلي بحق الشعب الفلسطيني، ولا يوجد مُنصف ولا نصير. هذه أمثلة واضحة على تأثير الإعلام على عقول الناس. وفي مثل هذا الوضع السائد حالياً، من تضارب في المعلومات وتشويه في الحقائق، يقف الناس في حالة من التشظي الفكري والعقائدي!! فما هو السبيل إلى معرفة الصدق وتجنب الكذب؟
ظهر في أوروبا، في ستينيات القرن الماضي، مصطلح التضليل الإعلامي، ويسمى بالإنكليزية (Disinformation) ليشير إلى التسريب المقصود والمتعمد للمعلومات المفبركة أو الكاذبة. واستُعمل مصطلح (Misinformation) ليشير إلى تسريب المعلومات الخاطئة. وتختلف المعلومات المضَلِّلة عن المعلومات الخاطئة في، أن التضليل يكون متعمداً وله أهداف محددة، بينما لا يوجد عامل التعمد في المعلومات الخاطئة، بل هي غالباً ما تحصل بحسن نية وبدون قصد أو تعمد.
تتفق معظم المصادر التي تبحث في موضوع التضليل الإعلامي على تعريف التضليل الإعلامي: بأنه عملية نشر معلومات كاذبة، مُضلِّلة أو مفبرَكة، أو قلب الحقائق أو اجتزائها وتغييرها، بقصد خداع الناس والسيطرة على عقولهم، بهدف نشر آراء أو أفكار معينة، لأغراض سياسية أو دينية أو عسكرية، أو غيرها من الأهداف المقصود إملائها على الناس، من خلال الإيحاء بواقع مزيّف وغير حقيقي، يكون مقنعاً ومحبوكاً حبكة عالية لكي يصّدقه الناس على أنه الحقيقة بينما هو وهم. وقد يكون التعريف أكثر دقة إذا ما قلنا "أن التضليل الإعلامي هو استعمال وسائل الإعلام المنتشرة عالمياً للتأثير على، أو السيطرة على عقول الناس وأفكارهم وعقائدهم، عن طريق نشر معلومات كاذبة أو تشويه الحقائق أو اجتزائها وحذف جزء منها، وجعلها خاضعة لما يريدون ترّويجه بما يتماشى مع مصالحهم الخاصة، وذلك على فرضية أن (عامة الناس لهم مدى محدود من الانتباه). والملاحظ، ولسبب غير معروف، أن أكثرية الناس يميلون إلى تصديق الشائعات ورفض الحقائق مهما كانت مبررة ومنطقية.
من الأهداف المعروفة للتضليل الإعلامي، هو العمل على كسر أو إحباط الحالة النفسية للخصم جيشاً وشعباً، عن طريق نشر أو تصوير أخبار أو أفلام كاذبة تبين قوة الجيش المحارب والقتل الوحشي المروِّع ليخاف الناس ويرتدعوا.
الخِداع والاحتيال هما إحدى الطرق المستعملة في التضليل الإعلامي. يتم ذلك بنشر خبر أو تقرير في وسائل الاعلام، على أن يكون الخبر كاذباً أو مفبركاً، ويكون قابلاً للتصديق، ومحبوك بحرفية أو تقنية عالية جداً. من الأمثلة الشائعة على أسلوب الخِداع هو نشر فيديوهات مفبركة أو فيديوهات قديمة عن حوادث معينة كانفجارات أو مظاهرات أو اجتماعات أو غير ذلك، حدثت في وقت سابق وفي مكان ما، وبهدف معيّن، وتكون مصوّرة بدقة عالية فيصدقها عامة الناس على الرغم من كونها غير صحيحة. وقد برعت أمريكا في أسلوب الخداع والتحايل لتضليل الرأي العام. مثال ذلك:
في فترة حكم الرئيس بوش الاب، عام 1990، واثناء احتلال الجيش العراقي للكويت، أدلت فتاة تبلغ من العمر 15 عاماً بشهادتها امام مجلس الشيوخ الأمريكي، وقالت إنها شاهدت جنود عراقيون دخلوا مستشفى كويتي وسرقوا الحاضنات وألقوا الأطفال الخدّج على الأرض ليموتوا. تناقلت وسائل الإعلام هذه الشهادة، وانتشر الخبر بسرعة، وأيّدت القصة منظمة العفو الدولية فاكتسب مصداقية عالية، واستُغلت الشهادة لتجريم أفعال الجيش العراقي. بعد ذلك اتضح أن الشهادة كاذبة وأن القصة مفبركة. فالحاضنات لم تسرق، وإن الأطفال ماتوا بسبب هرب الممرضين والأطباء من المستشفى، والقصة اختلقتها المخابرات الأمريكية لتبرر تدميرهم للجيش العراقي.
لم يخجل الامريكان من فعلهم هذا ولم يتعظوا. ففي شباط 2003، فترة حكم الرئيس بوش الابن، كَذَبَ الامريكان مرة أخرى على العالم عندما ظهر كولن باول، وزير خارجية أمريكا، في مجلس الأمن حاملاً انبوبة صغيرة تحتوي على مسحوق أبيض (يقصد جرثومة الجمرة الخبيثة)، وعرض صوراً قال إنها من الأقمار الصناعية تمثل شاحنات كبيرة تحمل في داخلها مختبرات كاملة، متطورة ومتنقلة لإنتاج الجراثيم القاتلة، مؤكداً على امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل استناداً إلى معلومات استخبارية مؤكدة. وكان هذا هو المبرر القوي لغزو العراق. بعد الغزو واحتلال العراق تبيّن أن العراق لا ولم يمتلك أي نوع من أسلحة الدمار الشامل وإن هذه القصة كلها كذب وافتراء لتنفيذ خططهم الإجرامية.
من الأساليب الأخرى المعروفة والمستعملة كثيراً لتضليل الناس هو أسلوب التكرار. ويعتمد هذا الأسلوب على تكرار نشر الخبر الكاذب بصورة مستمرة إلى أن يتقبله الناس فيصدقونه ويعملون به، عملاً بمقولة وزير الدعاية في حكومة هتلر (جوزف غوبلز) التي قال فيها "اكذب ثم اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس" وأضيفَ إليها "ثم اكذب ثم اكذب ثم اكذب حتى تُصَدق نفسك". وهذا ما يفعله الامريكان والأوروبيين في الوقت الحاضر، فهم أصبحوا يُصَدقون اكاذيبهم التي ينشرونها على إنها حقائق، ولا يصدقها الناس في انحاء العالم الأخرى. فهم يقولون (وهم يُصَدّقون ما يقولون) أنهم يلتزمون بالقانون الدولي، والكل يعلم أنهم يتنكرون لجرائم الحرب والتطهير العرقي التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي بحق الفلسطينيين، ومثل ذلك قولهم عن حقوق الانسان والديمقراطية. ونذكّر هنا بمقولة إبراهام لنكولن "تستطيع ان تخدع كل الناس بعض الوقت، أو بعض الناس كل الوقت، لكن لا تستطيع أن تخدع كل الناس كل الوقت".
من الأمثلة التي نعيشها حالياً على اعتماد الاعلام الغربي لأسلوب التكرار بهدف التضليل، هو ربط تهمة الإرهاب بالإسلام. يعمد الإعلام الغربي بكل أنواعه على توصيف العمل (الانتحاري أو التفجيرات أو الدهس وغيرها) بأنه عمل إرهابي إذا كانت له صلة مباشرة أو غير مباشرة بالإسلام، وتزدحم الاخبار والتحليلات عن الحادث كونه عمل إرهابي، بينما لا تطلق صفة الإرهاب على الحوادث المشابهة لمثل هذه الأفعال إذا لم تكن لها علاقة بالإسلام، وغالباً ما يوصف الفاعل بالمريض النفسي، ويمر الحادث مرور الكرام في القنوات الإخبارية، على الرغم من أن مثل هذه الحوادث تقتل أعداداً كثيرة من الأبرياء وتكون أشد قسوة وبشاعة من غيرها. في أمريكا مثلاً، دخل شاب أمريكي أبيض إلى كنيسة للسود أثناء أداءهم القداس وقَتَل أثني عشر أمريكياً أسود ولم يعتبر الحادث إرهابياً، ولم يأخذ الخبر حيزاً مهما في وسائل الإعلام. وفي مناسبة أخرى، دخل شاب أمريكي أبيض إلى معبد لليهود أثناء أدائهم العبادة وقتل أثني عشر يهودياً ولم يعتبر حادثاً إرهابياً. في المقابل دخل شاب أمريكي مسلم من أصول عربية إلى حانة للمثليين وقتل أثني عشر شخصاً منهم فاعتبر الحدث إرهابياً وقامت الدنيا ولم تقعد. وباستعمال استراتيجية تكرار ربط الإرهاب بالإسلام، تطبّعت عقول الناس على مثل هذه الاخبار بحيث أصبح الآن بمجرد ذكر كلمة الإرهاب تبرز في عقول الناس شخصية الإرهابي كشاب مسلم وملتحي. ومع الأسف تطابقَ هذا مع عقولنا نحن العرب المسلمين وأصبحنا نصدق تهمة الإرهاب وربطها بالمسلمين.
تاريخياً، تذكر بعض المصادر أن التضليل الإعلامي تم استخدامه منذ القرون البعيدة. فقد استخدمه اليونانيون في حروب أثينا وإسبارطة، وكذلك الرومان. وفي العصر الحديث، يُذكر أن ستالين استعمل التضليل الإعلامي للتحكم بالمعلومات. واستخدمه هتلر اثناء الحرب العالمية الثانية لكسر أو تحطيم الإرادة لأعدائه. إلّا أن هذه المعلومات لا تَصِف بدقة مفهوم التضليل الإعلامي، لأن التضليل الإعلامي يعتمد بالأساس على توفر وانتشار وسائل الإعلام لغرض التأثير على الرأي العام في ترسيخ المعلومة الكاذبة أو قلب الحقائق. وحيث أن وسائل الاعلام لم تكن بالوفرة أو الانتشار الذي هي عليها الآن، لذلك فان تأثيرها يكون محدوداً على فئة معينة وقليلة من الناس، أو لفترة زمنية محددة، وغالباً ما كانت تمارس لأهداف عسكرية. أما في تاريخنا المعاصر فقد ابتدأ استغلال التضليل الإعلامي، كما نصفه اليوم، في تسعينيات القرن الماضي. وتحديداً، تزامن ذلك مع انتشار الآلاف من القنوات الفضائية وسهولة الحصول عليها، مع انعدام الضوابط أو سلطة الرقابة عليها، فأخذت تبث مختلف الآراء والأفكار وتنشر الدجل والفساد. وفي نفس الحقبة الزمنية ظهرت الانترنت وأصبحت متوفرة لعامة الناس، وجرى عليها ما جرى على القنوات الفضائية، بل يمكن القول إنها فاقت القنوات الفضائية من حيث التأثير المضلل على الرأي العام.
وفي بداية القرن الحالي، ظهرت مواقع التواصل الاجتماعي، التي انتشرت بين الناس في جميع انحاء العالم بسرعة وبصورة مذهلة، بحيث أصبح من الصعب الآن أن تجد شخصاً لا يستعمل أو لا يتفاعل مع وسائل التواصل الاجتماعي. وأصبحت الوسيلة الإعلامية الأولى، الأكثر انتشاراً وتداولاً بين الناس، والأكثر قبولا عند الناس، وذات مصداقية كبيرة. على الرغم من أنها تعتبر الآن من أكثر الوسائل الإعلامية استعمالاً للكذب والتضليل الإعلامي. والسبب في ذلك هو سهولة الحصول عليها، وانعدام الضوابط والرقابة على محتوياتها، ويمكن لأي شخص أن ينشر فيها ما يريد بدون عائق أو محاسبة.
تعرّف مواقع التواصل الاجتماعي: بأنها تطبيقات أو برامج تكنولوجية تسمح بنقل أو تبادل المعلومات بين الافراد بسهولة، مع إمكانية العثور على، والاتصال المباشر مع، اشخاص أو مجموعات بشرية لها اهتمامات مشتركة. ظهرت مواقع التواصل الاجتماعي في نهاية تسعينيات القرن الماضي. ظهر اولاً الفيسبوك عام 2003، ثم ظهر اليوتيوب عام 2005 في ولاية كاليفورنيا، ثم اشترته شركة غوغل عام 2006 بمبلغ 1.6 مليار دولار. بعدها ظهرت منصة تويتر (حالياً تسمى x) في عام 2006. وأخيراً توّجت مواقع التواصل الاجتماعي بظهور الذكاء الاصطناعي، والذي من المتوقع ان يتفوق وبامتياز على كل وسائل الإعلام لما له من الإمكانيات التقنية العالية في الفبركة والتزييف، والتي يصعب جداً الكشف عنها.
والعجيب أن الناس يصدقون، وبشدة، الأخبار والمعلومات التي تنشر في مواقع التواصل الاجتماعي حتى إنهم يدافعون عنها ويؤكدون على صحتها، على الرغم من أن معظمها تنشر أخباراً كاذبة ومُضلِّلة.
حديثاً، ظهر ما يسمى بالذباب الالكتروني أو الجيش الالكتروني، وهو عبارة عن مجموعة كبيرة من الحسابات الوهمية ينشئها مجموعة من المبرمجين المحترفين التابعين للأجهزة الامنية للدول. تنشر هذه الحسابات الوهمية مئات الآلف من الصور والفيديوهات والأخبار الكاذبة والمضللة، بما يتماشى مع أهداف الدول التي تستعمل هذا الأسلوب للتأثير على عقول الناس. وتنتشر وتتداول هذه الرسائل بسرعة بين الناس. ومن المعلوم أن المعلومات الكاذبة والأكثر تضليلاً هي تلك التي تُبنى على جزء من الحقيقة، لكي يتم تحويرها أو تغيرها بما يتناسب مع أهداف التضليل، لكي تصبح أكثر قبولاً للتصديق من قبل الناس ثم يعاد نشرها لتبدوا كأنها معلومة جديدة على الرغم من انها قديمة جداً.
وقد برعت الولايات المتحدة وإسرائيل في إنشاء غرف الكترونية متطورة جداً للتضليل ونشر الأكاذيب المفتعلة بهدف التلاعب بأفكار الناس وقيمهم وعاداتهم.
ويحق لأي شخص أن يتساءل " هل هناك تأثيرات سلبية للتضليل الإعلامي على الثقافة والفكر العربي؟" الجواب نعم. فقد حدثت تغيّرات جوهرية في الثقافة والفكر العربي!! فعلى سبيل المثال، انتشار الفكر الطائفي المتعصب والتكفيري المدمّر في تاريخنا المعاصر بما لم يكن له مثيل في تاريخنا القديم والحديث. فقد ترسخت الأفكار الطائفية بمختلف وجوهها في المجتمعات العربية. وأدّت إلى صراعات عنيفة داخل المجتمعات. وظهرت أيضاً اجتهادات وتأويلات تمس أركان الدين وتشريعاته مما زعزع ثقة بعض الناس بدينهم واخذوا يشككون بأحكامه. وكذلك تصديق بعض الناس لما يروّج له من أن التاريخ مزيّف ومشوّه، وأن التراث لا أهمية له. وغير ذلك الكثير مما يمكن ملاحظته على طبيعة تفكير أفراد المجتمع التي أصبحت متناقضة مع واقعه الشرقي الأصيل.
والرسالة الختامية من كل ما تقدم: ماذا علينا أن نفعل في التعامل مع التضليل الإعلامي؟
علينا أولاً أن نعي ونفهم بصدق أن مواقع التواصل الاجتماعي التي أنشأت بهدف التواصل والتعارف بين الافراد والمجتمعات ونشر الأفكار والثقافات، قد تمّ استغلالها للتحايل والابتزاز والتزوير، وانتهاك خصوصيات الافراد والتشهير بهم. المهم ان يعلم الجميع، ويتأكدوا، أن معظم ما ينشر في مواقع التواصل الاجتماعي من فيديوهات أو وثائقيات أو مقالات، هو كاذب ومضلل ومبني على جزء من الحقيقة ليصدقه الناس، وأنه في الحقيقة يحتوي على معلومات مفبركة محبوكة بتقنية عالية جداً قد يصعب كشفها من قبل عامة الناس.
وثانيا: عليناً أن نعوّد أنفسنا على عدم تقبل أي معلومة تصلنا من وسائل الإعلام على إنها صحيحة ومقبولة، إلّا إذا كنّا على علم بالمعلومة ومتأكدين منها. وبغير ذلك فعلينا أن نتحرى صحة المعلومة من مصادر أخرى معروفة وموثوقة. فإن لم نجد ما يؤيدها، فإنها تكون موضع شك لحين التأكد من صحتها. وكقاعدة عامة: فإن كل خبر يصدر من شخص أو جهة غير معروفة، يجب التعامل معه بالحذر والتشكيك في مصداقيته. وإذا ما عوّدنا أنفسنا على توخي الحذر والشك في تصديق المعلومات، سنكون قادرين على كشف الخداع والتضليل، فنتجنبه ونأمن شرّه.
***
د. صائب المختار

 

من أجل عالم بلا أسرار حققت السلطة الرابعة ثورة فعلية، بكشفها عن أسرار وجرائم ذوي الياقات البيض، من سياسيين ومسؤولين حكوميين ورجال أعمال، ظلت انحرافاتهم وتجاوزاتهم غائبة عن أدبيات علم الاجتماع، بسبب ندرة المعلومات أو صعوبة الحصول عليها.
يعود الفضل بالأساس لثورة المعلومات التي لا تجامل مطابخ الأسرار الملوثة، ليتمكن الناس من رؤية الحقيقة كما هي لا كما تقررها الأنظمة. وهذا الكم المفجع من الفضائح التي تنكشف بوتيرة غير مسبوقة، يعزز الحاجة إلى إرساء حقل جديد في علم الاجتماع، يدرس الخروقات والتجاوزات التي تشوش على استقرار المجتمع وقواعده الضبطية.
كان عالم الاجتماع الأمريكي وليام سون William Son أول من دعا إلى العناية بهذا الحقل المعرفي، وضرورة تدخل الباحث الاجتماعي لتحليل وتأويل ردود الأفعال إزاء الفضائح، ورصد الآليات التي تعمل على توحيد الأحكام القيمية بشأنها. إلا أن هذا التقصي والبحث ينبغي أن يتم ضمن المتعارف عليه بشأن مسؤولية الباحث العلمي، وتجرده أثناء دراسة المعضلات الاجتماعية، لأن الهدف ليس هو التشهير وإنما تحرير المجتمع من العاهات والتقرحات التي تعيق استشرافه للمستقبل.
تنشأ الفضيحة حين يفشل المرء في التفاوض مع المعتقدات الاجتماعية الراسخة، والتزام المبادئ التي يفرضها المجتمع. وهي في عمقها جزء من طبيعة البشر" التلصصية" التي تتطلع لإطلاق الأحكام على الغير؛ لكنها في الوقت ذاته تحفز ميكانيزمات المجتمع على استئصال الفاسدين، لإضرارهم بالمؤسسات، وزعزعة الثقة بالقوانين والآداب العامة.
ولا يتخذ الحدث شكل الفضيحة إلا إذا تضمن جملة من الأركان يحددها المؤلف بنحو خمسة عشر، أهمها:
- كونه مناف للأخلاق والأعراف والقواعد القانونية.
- تستر فاعله عليه خوفا من انكشاف أمره.
- احتماؤه بمبررات تسويغية.
- لا يكشف أمره زمن حدوثه بسبب التعتيم والتكميم الذي يفرضه منصب الشخص.
- وصمته أقسى من أية عقوبة سجنية، لأن له تأثيرات علائقية ونبذية مجتمعيا..
للفضيحة إذن دور اجتماعي في تنقية المجتمع من عناصر الفساد، وإعادة التوازن لحياته التنظيمية. ويتميز العصر الحال بميلاد تنظيمات وهيئات مدنية، تعمل في جو من الحرية الفكرية والاستقلالية عن المؤسسات الحكومية، مما يتيح لها العمل كمصفاة مدنية تكشف الممارسات المجافية للأخلاق والقانون قبل استفحالها.
ترتبط الفضيحة بالشهرة، أي بالسمعة الاعتبارية المتميزة التي يحققها المرء بفضل أدائه المهني، أو نتيجة إعجاب شريحة واسعة من الناس بتألقه في أحد المناشط الاجتماعية التي تحظى باهتمامهم. لكن الشهرة تقيد حركة الشخص وتمنعه من التصرف على سجيته، وأحيانا أخرى قد تسبب الغرور والتعالي مما يؤدي إلى فقدانها. بينما يميل البعض الآخر إلى تفضيل السمعة على الشهرة، لكونها رديفة الاحترام والتقدير، حتى وإن كانت أضيق نطاقا من الشهرة.
ولا يعني كشف السلوك المفضوح دوما رغبة في تنقية المجتمع من المارقين على قواعده التنظيمية، إذ يعرض عالم الفن والرياضة عشرات الفضائح التي كانت سببا في شهرة مرتكبيها، ونحت مسارهم إلى النجومية. يتعلق الأمر هنا بطبيعة الضوابط الاجتماعية التي قد تكون متشددة، وتدفع بالتالي إلى الاستنكار وانسحاب المفضوح من موقعه تحت تأثير ما يمكن اعتباره إعداما اجتماعيا، أو غير متشددة، مثلما هو الشأن بالنسبة للمجتمع الفرنسي والإيطالي، فتعتبر الواقعة حدثا شخصيا، يمكن تبريره بمسوغات عقلية أو أعراف تقي من الوصمة الاجتماعية، لذا لم تمنع التحقيقات القضائية، واتهامات الفساد التي لاحقت رئيس الوزراء الإيطالي السابق سيلفيو برلوسكوني إبان حكمه، من إعادة انتخابه أكثر من دورة!
تنعقد الفضيحة بتوفر ثلاثة أركان: الجاني، والضحية، والسلطة الرابعة إلى جانب منظمات المجتمع المدني. وقد يكون الجاني ضحية انحرافه عن المعايير، أو ضحية بعض أشكال التكسب الإعلامي والمهني التي يثيرها التنافس حول المناصب ومواقع القرار. وتدفع المرأة ثمنا اجتماعيا ونفسيا أبلغ حدة مقارنة بالرجل، خاصة في ظل التطور التقني الذي أسهم في تحويلها إلى سلعة للمقايضة والاستثمار المؤقت، وتدنيس وظيفتها الاجتماعية داخل الأسرة وخارجها.
إن الفضيحة هي أقسى تعبير عن الممارسات المعيبة التي يزلزل انكشافها مكانة الفرد، ويؤثر على علاقاته بمن حوله. غير أن الثقافة الاجتماعية في بعض البلدان العربية على سبيل المثال، تفصح عن ازدواجية مريبة في تأكيد الوظيفة الثقافية لبعض الممارسات الموروثة التي تندرج تحت مسمى الفضيحة الاجتماعية، من قبيل: الاحتفال المصاحب لختان الإناث، أو لسروال العروس ابتهاجا بالعذرية، وإدراج بعض أشكال العنف ضد المرأة ضمن السلوكيات المقبولة اجتماعيا.
تخلّف الفضيحة أثرا اجتماعيا صادما ومحفزا في الآن ذاته، فهي من جهة تكشف الخروقات والانحرافات التي مست آليات الضبط الاجتماعي، ومن جهة أخرى تحفز على مراجعة القواعد المخترقة، وجعلها أكثر دقة ومحاسبة. وهنا يكمن دور الباحث الاجتماعي في كشف التشريعات والقوانين الضعيفة، وتتبع جدية تنفيذ القرارات المعرّضة لأساليب احتيالية والتوائية متعددة.
وفي المقابل تنشط بنية الفساد للتستر على الفعل المنافي للضوابط قبل افتضاحه، وتفعيل أشكال التضليل والتمويه التي تحمي الصورة الاجتماعية للفاعل وتُجنبه المساءلة. وسواء كان التستر صادرا عن فرد أو حزب أو حكومة، فإن آلياته المتعددة تسلط الضوء على الطبيعة المؤسسية للفساد، ودورها في تفريخ النماذج الفضائحية. هكذا تتم مقاومة الفضيحة أو منعها من خلال:
- آلية التجنب: بالابتعاد عن تناول الموضوع المتستر عليه لئلا يثير الانتباه.
- آلية التسويغ: بالحديث عن تدني الدخل الشهري للموظف، وغلاء المعيشة وغيرها..
- آلية التمييع: بإهمال الشكاوى المتعلقة بها.
- آلية الإنكار: برفض الحديث عن الموضوع كليا.
- آلية التمويه: من خلال تبني سلوك مغاير، أو ادعاء المثل العليا والاستقامة.
على الرغم من سلبياتها، والدوي الذي تُحدثه بكشفها للممارسات المعيبة، إلا أن الفضيحة تقدم خدمة للمجتمع على المدى البعيد، فهي بتعريتها للعناصر الفاسدة في النظام، تُعزز الرقابة الإعلامية على مفاصله النسقية، وتُدين دوافع الانحراف المعياري التي تهدد قيم المنافسة الشريفة، والموضوعية في الترقي للمناصب والحفاظ عليها.
تقدم الفضائح السياسية المحلية أو الدولية، مثالا للممارسات غير الطبيعية التي يغذيها الشعور بتهديد المنافس، والرغبة في بالبقاء بالمنصب، والتمتع بمزايا النفوذ والسلطة. أما فضائح رجال الدين الذين يُفترض بهم السهر على التنشئة الدينية، والاستقامة الأخلاقية، وتقوية الرباط الروحي للأفراد، فإنها تنعكس بشكل خطير على الهوية الذاتية والاجتماعية، وتسلب الدين مهمته الجليلة والسامية، باعتباره دستور الحياة الذي لا يمكن للفرد أن يستمر في العيش بدونه. يظهر الأمر جليا من خلال ردود الأفعال التي أعقبت فضائح الاستغلال الجنسي للأطفال على يد قساوسة الكنائس الكاثوليكية، والتي وثقت الراهبة السابقة ماري ديسبينزا جزءا من فظائعها في كتاب "انقسام: طفل، وقس، والكنيسة الكاثوليكية".
وصرّح البابا فرانسيس لوسائل الإعلام بأن نحو ثمانية آلاف قس من مجموع أربعمئة وأربعة عشر ألفا في أنحاء العالم، يتحرشون بالأطفال. كما أقرّ بشناعة هذه الجرائم طالبا الغفران من الضحايا، ومعلنا أنه مثل المسيح، سيستخدم العصا ضد القساوسة المولعين جنسيا بالأطفال. وترتب عن سلسلة الفضائح تلك تخلي أزيد من تسعين ألف مواطن عن المذهب الكاثوليكي في إنجلترا وحدها.
على امتداد ستة فصول من كتابه (علم اجتماع الفضائح) راهن الدكتور معن خليل العمر على تأكيد فاعلية الحقل الجديد في الارتقاء بعلم الاجتماع من مستوى وصفي-سردي إلى مستوى نقدي-إصلاحي، وذلك بجعل الفضيحة مادة بحثية ناقدة، تكشف عن آليات تكسير النسق الاجتماعي، وصور تجاوزات المسؤولين وصناع القرار التي ظلت غائبة عن أدبيات علم الاجتماع لزمن طويل.
والدكتور معن خليل العمر عالم اجتماع عراقي، حاصل على شهادة الدكتوراه من جماعة واين ستيت الأمريكية عام1976، وتولى التدريس بعدد من الجامعات داخل العراق وخارجه. ويعد من أنشط الباحثين في علم الاجتماع العربي وأغزرهم إنتاجا، حيث تجاوزت مؤلفاته ستين كتابا، بالإضافة إلى قائمة طويلة من البحوث والدراسات التي أكدت حسه السوسيولوجي العميق في رصد وتحليل الظواهر الاجتماعية، خاصة علم الإجرام، والمشكلات الاجتماعية، والاتجار بالبشر.
ومن أهم إصداراته المنشورة:
- نحو علم اجتماع عربي،1984
- علم اجتماع المعرفة، 1991
- جرائم الاحتيال،2006
- علم ضحايا الإجرام،2008
- الجريمة المنظمة والإرهاب،2013
- حقول مستحدثة في علم الاجتماع المعاصر،2017
- علم اجتماع الفقر، 2019..
***
حميد بن خيبش

في عالم ما بعد الحداثة، حيث تتفكك الهويات الثابتة وتنسف الرؤى التقليدية للمعرفة، يصبح التحرش ليس مجرد فعل مادي يحدث في الشارع أو مكان عام، بل هو أيضًا بنية معرفية تخلق التفرقة بين “الذات” و”الآخر”. هو ثمرة لحقب تاريخية حملت في طياتها اختلالات فكرية جعلت من الجسد الأنثوي ساحة للصراع الرمزي، بين ما هو مقدس وما هو مدنس، وبين ما يُقبل وما يُرفض. فالتوترات بين الجنسين ليست مجرد صراع بيولوجي، بل هي صراع ثقافي مرتبط بالعلاقات الاجتماعية التي تعيد إنتاج نفسها على مدار الزمن.
من خلال هذه الفكرة، يظهر الجسد الأنثوي ليس ككيان ذاتي يُعبّر عن حرية الفرد، بل كفضاء يُخضع لسلطة ثقافية، حيث يُنظر إليه كجسم للاستهلاك، التسلية، أو حتى كأداة للسيطرة. وعليه، يصبح التحرش بكل أشكاله ليس فقط سلوكًا فرديًا أو تصريحًا كلاميًا، بل هو أسلوب لتأكيد الوجود في نظام اجتماعي يدافع عن امتيازات طبقية وذكورية قديمة، حتى وإن تغيرت أشكالها. هذا السلوك يعكس ضرورة وجود الآخر ليظل المُهيمن في مكانه، وبالتالي فإن التحرش يصبح أداة لصيانة الهياكل الاجتماعية التي تقوم على الهيمنة الذكورية، وهو ما يعزز من استمرار هذه الأنماط القمعية.
العقل الذي يعرض هذه الظاهرة يتأثر بعوامل عديدة، منها البناء الاجتماعي والتاريخي، حيث يتم تجسيد الهويات من خلال الرموز والممارسات اليومية. أما في نظر علماء النفس، مثل سيغموند فرويد، فإن التحرش يعبر عن نزاع داخلي في النفس البشرية بين رغبات مكبوتة وأعراف اجتماعية تضغط على الفرد لكي لا يعبّر عن هذه الرغبات بشكل علني. هنا، يصبح التحرش ليس فقط فعلًا ضارًا للجسد الأنثوي، بل هو أيضًا علامة على خلل أعمق في البنية النفسية للمعتدي، وهو ما قد يعكس اضطرابًا في العلاقة مع الهوية الشخصية والسلطة. هذا الجانب النفسي يرتبط بتصورات الفرد حول الجسد والسلطة، حيث إن الشخص الذي يمارس التحرش قد يكون في الواقع يعبر عن هشاشة داخله وتوتره النفسي الذي يترجم إلى محاولة الهيمنة على الآخرين، بما في ذلك الجسد الأنثوي الذي يُعتبر رمزيًا جسد السلطة وموضوع السيطرة.
عندما ننظر إلى هذه الظاهرة من منظور كل من لويس ألتوسير وميشيل فوكو، يمكننا أن نرى أن التحرش هو جزء من عملية “التشكيل الأيديولوجي” للمجتمع. في هذا السياق، يرى فوكو أن السلطة لا تقتصر على المؤسسات القمعية فقط، بل هي موجودة في كل جانب من جوانب حياتنا اليومية، بما في ذلك الطريقة التي ننظر بها إلى الآخر وكيف نحدد مساحات الجسد والمكان. فالجسد الأنثوي في هذا السياق هو ساحة للصراع بين الأيديولوجيات التي تستمر في تهميش وتقييد النساء، مما يخلق ديناميكيات قمعية تظل محورية في الثقافة المعاصرة.
التفسير الفوكوي لهذه العلاقة بين الجسد والسلطة يُظهِر كيف أن التحرش ليس مجرد حالة فردية للعدوان، بل هو نتاج لبنية اجتماعية أوسع، حيث يتداخل الذكاء الاجتماعي مع الذكورية السامة التي تُعيد إنتاج نفسها من خلال الإعلام، التربية، والعلاقات الاجتماعية اليومية. التحرش، في هذه الحالة، لا يُفهم فقط باعتباره سلوكًا منحرفًا، بل جزءًا من دائرة السيطرة التي تُمثلها هذه البنى الثقافية المستمرة.
هذا التفسير يكشف عن كيفية تجذر التحرش في بنية مجتمعية تشجع على تبني النماذج التقليدية للجنس والسلطة، والتي تُصر على تعزيز الذكورية السامة عبر أطر تربوية وتعليمية تجعل من الجسد الأنثوي هدفًا للتسلط والهيمنة الرمزية.
وبينما نجد أنفسنا في عالم مليء بالتغيرات السريعة والتحولات الفكرية التي تعيد تشكيل هوياتنا، يجب أن نتساءل: كيف يمكن فهم التحرش في ظل هذه الفوضى المعرفية؟ هل يمكننا حقًا وضع إطار ثابت لفهمه؟
في عالم ما بعد الحداثة، تصبح الإجابة على هذه الأسئلة متشابكة، حيث لا توجد إجابة واحدة، بل تعدد للحقائق. إن التحرش، بما هو كائن ثقافي واجتماعي، يمكن أن يظهر في صورة أشكال متعددة: من الاعتداء اللفظي في الشوارع إلى تصرفات سلوكية في الأماكن العامة، وكل ذلك يشكل شبكة من الأفعال التي تُعيد تأكيد الأدوار التقليدية. هذه الأشكال المتعددة لا تنفي أنها مرتبطة ببنية فكرية وثقافية معقدة، تستمر في إنتاج آليات القوة التي تحدد “المكان” و”الحق” في التعبير عن الذات، وتؤكد على الهيمنة الذكورية في المجتمع.
ومن هذا المنظور، لا يُمكن أن يكون التحرش مجرد فعل فردي، بل هو تجسيد لثقافة من التسلط تتجذر في الفكر الاجتماعي والنفسي للأفراد. هذا التسلسل من الأفعال يحمل في طياته تناقضات معمارية في المجتمع الذي لا يزال يراهن على الهويات الثابتة للذكورة والأنوثة، ويستمر في تكرار أنماط القمع الرمزية والجسدية. يُصبح التحرش إذاً ليس مجرد حالة من الفوضى الجنسية، بل هو عملية منتجة لقوى اجتماعية وثقافية تعمل على استمرارية الهيمنة وتثبيت الفوارق بين الجنسين. كما أن هذا التكرار للممارسات القمعية لا يقتصر على الأفراد، بل يمتد إلى المؤسسات والأنظمة التي تعزز هذه الفوارق وتعزز من منطق “الآخرية” لدى النساء، مما يعيد إنتاج السياسات الاجتماعية التي تساهم في تفشي التحرش على المستوى المجتمعي.
وعليه، فإن التقليل من أهمية هذه الظاهرة أو محاولة تقليصها إلى مجرد “أفعال فردية” هو تهرب من المسؤولية الاجتماعية التي تتحملها المؤسسات الثقافية والنفسية في إعادة تشكيل هذه الهويات. لا يمكن أن تكون الحلول للقضاء على التحرش محدودة بالقوانين التي تُعاقب الفعل فقط، بل يجب أن تشمل أيضًا إعادة بناء ثقافة كاملة تُعيد التفكير في مسألة الجسد، السلطة، والهوية. لذلك، يجب أن تكون المعالجة أكثر شمولًا بحيث تتضمن تغييرًا بنيويًا في طريقة فهمنا للجسد والعلاقات بين الجنسين. وهذا يتطلب جهدًا جماعيًا يشمل المجتمع المدني، والمؤسسات التعليمية، ووسائل الإعلام، التي تستطيع إعادة تشكيل الفكر الجماعي تجاه الجنس والسلطة.
هذه الثورة الثقافية والمعرفية، إن تمت، ستكون مدخلًا للتحرر الحقيقي من التسلط، وسيبدأ المجتمع في فهم التحرش ليس فقط كحالة تضر بالنساء، بل كجزء من جرح أعمق في بنية السلطة الاجتماعية التي تستمر في تكريس هيمنة الذكور على الفضاءات العامة والخاصة.
إن التحليل العميق للتحرش باعتباره بنية ثقافية واجتماعية يُبرز ضرورة مواجهة هذه الظاهرة من جذورها، وليس فقط معالجة أفعالها الظاهرة. فالتصدي للتحرش يتطلب أكثر من مجرد تطبيق قوانين ردعية، بل يستدعي تغييرًا ثقافيًا حقيقيًا يعيد تشكيل فهمنا للجسد والسلطة. علينا أن نعيد التفكير في طريقة تربية الأجيال القادمة، في كيفية بناء هوياتهم الجنسانية والاجتماعية بعيدًا عن الأنماط التقليدية التي تساهم في تعزيز الهيمنة الذكورية.
فإذا كانت السلطة المجتمعية قد عملت على تكريس هذه الهياكل القمعية على مدار عقود، فإن الطريق إلى التحرر يتطلب جهدًا جماعيًا يشمل التغيير في بنية الفكر الاجتماعي والنفسي. الثورة الثقافية والمعرفية التي نتحدث عنها ليست مجرد رفاهية فكرية، بل هي شرط أساسي لإرساء مجتمع أكثر عدلاً، حيث يُحترم الجسد البشري، ويُعاد تحديد العلاقات بين الأفراد وفقًا لقيم الحرية والمساواة.
عندها فقط، ستتمكن الأجيال القادمة من العيش في بيئة لا تحكمها قوة هيمنة أو ثقافة قمعية، بل بيئة تشجع على احترام الآخر وتقديره بعيدًا عن التصنيفات الجندرية الجامدة.
***
إبراهيم برسي – باحث سوداني

 

مدخل إلى شخصية ابن طفيل وتكوينه الفكري

حين نقترب من سيرة ابن طفيل، لا نرى مجرد فيلسوف من فلاسفة الأندلس، بل نواجه مشروعًا متكاملًا لشخص نذر نفسه لفهم الوجود وإضاءة طريق العقل. وُلد أبو بكر محمد بن عبد الملك بن طفيل في وادي آش بالأندلس مطلع القرن الثاني عشر الميلادي، وامتدت حياته بين غرناطة ومراكش، في فضاء ثقافي شهد تلاقح العلوم، وتصارع الرؤى، وخصوبة التجربة الروحية. جمع في تكوينه بين الطب والفلك، وبين القضاء والشعر، لكنه اختار أن يعبّر عن أعمق أفكاره من خلال الفلسفة، مستلهمًا روح القصة الرمزية التي مهّد لها من قبله ابن سينا، ومكمّلًا مسارها برؤية أكثر اكتمالًا واتساعًا.
ما ميّز ابن طفيل لم يكن مجرد اطلاعه على الفلسفة الإسلامية واليونانية، بل قدرته على تطويعها ضمن سياق يزاوج بين التجربة العقلية والتأمل الوجودي. لم يكن معنيًّا ببناء نسق نظري مغلق، بقدر ما كان مهتمًّا بتجسيد إمكانيات المعرفة الذاتية، وبناء جسر بين الإنسان والعالم من خلال العقل الحر، لا عبر التلقين أو التبعية. هذه الرؤية لم تكن حبيسة المقولات المجردة، بل اختار لها ابن طفيل قالبًا سرديًّا فريدًا، جسّده في عمله الأشهر: حي بن يقظان.
قصة “حي بن يقظان” بوصفها تجربة وجودية
ليست قصة “حي بن يقظان” مجرد سرد لحياة شخص نشأ في عزلة، بل هي إعادة تمثيل فلسفية لميلاد الوعي. تبدأ الحكاية من جزيرة خالية من البشر، حيث يظهر طفل مجهول الأصل، يتربى بين أحضان الطبيعة، فيتعلّم كل شيء من خلال ملاحظته الحسية وتجاربه اليومية. شيئًا فشيئًا، يبدأ الطفل “حي” في إدراك الظواهر من حوله، ثم يتأمل في الحياة والموت، ويتوصل بنفسه إلى وجود مبدأ أول خالق ومنظم.
لا يعتمد حي في اكتشافه على معلم أو نصوص، بل يرقى في مدارج الفهم عبر مزيج من الحدس والتجريب. هذا المسار الرمزي يرسم صورة حية لمسيرة العقل البشري حين يكون متحررًا من القيود. وحين يلتقي حي لاحقًا بالعابد “أبسال”، تتضح مفارقة عميقة: فـ”حي” الذي لم يتلقَ أي تعليم ديني، توصّل إلى نفس جوهر الحقيقة التي عرفها أبسال عن طريق الوحي. إلا أن حي، بفطرته الحرة، سرعان ما يصطدم بالمجتمع، حين يقرر الذهاب مع أبسال إلى الناس، فلا يستطيعون تحمّل رؤيته الفلسفية العميقة، ويفضّلان عليه الشكل الظاهري للدين.
القصة إذن ليست مجرد مغامرة فكرية، بل دعوة إلى تأمل العلاقة بين الإنسان والمعرفة، بين الروح واللغة، وبين الفرد والمجتمع. ابن طفيل يصوغ في هذا النص أطروحة عن قدرة العقل البشري على إدراك الحقيقة، لكنه في الوقت نفسه يعترف بحاجات العامة إلى الرموز والشعائر، ما يفتح مجالًا لفهم الدين كمنظومة تربوية لا كإجبار معرفي.
تأثير القصة ورمزيتها في تاريخ الفلسفة
لم يلبث أثر “حي بن يقظان” أن تجاوز حدود الثقافة الإسلامية، فحين تُرجمت القصة إلى اللاتينية عام 1671، استوقفت العديد من فلاسفة أوروبا في عصر النهضة والتنوير. رأى فيها جون لوك مثالًا حيًا على مفهومه في أن العقل يولد كصفحة بيضاء تُشكّلها التجربة، وهو ما يشكل صدى مباشرًا لما فعله حي في الجزيرة. كما أُعجب بها دانييل ديفو، الذي بنى في روايته “روبنسون كروزو” صورة قريبة لشخصية الفرد المعزول الذي يكتشف ذاته في مواجهة الطبيعة.
أما في السياق الإسلامي، فقد أثارت القصة تفاعلات مختلفة، أبرزها رد ابن النفيس في “الرسالة الكاملية”، حيث اقترح مسارًا مختلفًا لنشوء المعرفة، أكثر ارتباطًا بالمجتمع واللغة. غير أن ابن طفيل ظل مميزًا في اختياره للعزلة طريقًا للتطهر المعرفي، وفي جعله من التأمل طريقًا للترقي الروحي. القصة لم تكن دفاعًا عن الفلسفة ضد الدين، بل كانت سعيًا لتجاوز هذا التعارض، عبر تقديم نموذج إنساني يُجسّد المعرفة لا كمجموعة مفاهيم، بل كرحلة وجدانية عقلية تصل في نهايتها إلى الصمت المملوء باليقين.
خاتمة
“حي بن يقظان” ليس مجرد نص أدبي أو فلسفي، بل علامة بارزة في تاريخ الفكر الإنساني، تجسّد كيف يمكن أن تتجسد الفلسفة في صورة سرد حي. عبر شخصية ابن طفيل، نلمس اتساعًا في الأفق العقلي، وعمقًا في الرؤية الوجودية، وتجسيدًا نادرًا لتحالف العقل مع الروح. من خلال القصة، نُعيد التفكير في علاقتنا بالمعرفة، في جدوى العزلة، وفي حتمية البحث عن المعنى. وربما يكمن سحر هذا العمل في قدرته على أن يظل حيًا، يقظًا، كلما أعدنا قراءته.
***
خالد اليماني - باحث

أول الأسئلة، هل هناك من ازمة...؟ وماهي تداعياتها على الواقع الحضاري...؟ وهل هناك مفهوم حقيقي لسلطة الأسطورة في الثقافة ...؟ يبدو ان هناك خارطة دهليزية تعمل في الخفاء، مهيمنة ومرتكزة على تفتيت المكان والزمان وتعمل كحاضنة اجتماعية، تبلور استراتيجيات الهيمنة وتحاول بكل جهد البرهنة على صحة المقولات بعد ان يوصم الاخر بالمدنس وارتداء عباءة المقدس للوصول الى الأهداف تستغلها خفافيش الثقافة المعترشة على موائد التخلف، هذا يعكس كيف يمكن أن تستفيد بعض الأفكار من الانقسامات في مجتمعات تتطارح فيها الأيديولوجيات و السياسات التي تروج للجهل، تكتسب قوة ونفوذًا من خلال ضعف الوعي الثقافي للموروث الأسطوري الذي له دور كبير في هيمنة خراب الثقافة. رغم ان الأساطير تساهم في تشكيل الهوية الثقافية والجماعية، ما يمكن أن يؤدي إلى تعزيز الانتماء، ولكن يمكن ان تؤدي أيضًا إلى الانغلاق، الأساطير تحمل قيماً وعبرًا يمكن أن تؤثر في سلوك الأفراد والمجتمعات، مما يدعم أنماط التفكير التقليدية ويمكن أن تُصبح الأساطير أدوات للحفاظ على الوضع الراهن، مما يعوق التغيير الثقافي والاجتماعي، سرديات الأساطير تُستخدم في الفنون والأدب، مما يعزز من استمرارية الأفكار والمعتقدات القديمة، بالتالي يمكن أن يعزز الموروث الأسطوري من هيمنة بعض الثقافات أو الأفكار على حساب الأخرى، و يسهم في التخلف الثقافي.
الصراع بين التقليد والحداثة
يمكن أن يحدث صراع بين القيم التقليدية المستمدة من الموروث الأسطوري والرؤى الحديثة. بينما يسعى البعض للحفاظ على الهوية الثقافية، يسعى آخرون لتبني قيم جديدة، تساهم وسائل الإعلام والتكنولوجيا في نشر الأفكار والتوجهات الجديدة، مما يؤدي إلى تفكيك بعض المعتقدات التقليدية، ولكن يمكنها أيضًا تعزيز الأساطير من خلال إعادة تقديمها في سياقات جديدة، مع زيادة الوعي النقدي يبدأ الأفراد في إعادة تقييم الأساطير والتقاليد، ما يؤدي إلى تفكيك بعض الأفكار القديمة وإعادة تفسيرها لتتناسب مع القيم المعاصرة، الحركات التي تسعى للعدالة الاجتماعية والمساواة قد تتحدى الأساطير التقليدية وتعزز من سرديات جديدة تتماشى مع التغيرات الاجتماعية مع تزايد التنوع الثقافي، يمكن أن تتداخل الأساطير من ثقافات مختلفة، مما يؤدي إلى تشكيل هويات جديدة تعكس مزيجًا من الموروثات القديمة والحديثة. بعض المجتمعات تسعى للحفاظ على الموروث الثقافي في ظل التغيرات الاجتماعية، مما يؤدي إلى جهود لإعادة إحياء الأساطير والتقاليد، ولكن بطريقة تتناسب مع السياقات الحديثة، بشكل عام تتفاعل هذه العوامل بشكل ديناميكي تؤدي إلى تأثيرات متبادلة بين الموروث الثقافي والتغيرات الاجتماعية الحديثة.
هل نحن بحاجة الى اساطير جديدة؟
السؤال عن الحاجة إلى الأساطير في العصر الحالي، خاصة بعد الثورة التكنولوجية، هو موضوع مثير للتفكير. الأساطير تقدم تفسيرات للوجود، وتعطي معنى للأحداث والتجارب، مما يساعد الأفراد على فهم العالم من حولهم، تلعب الأساطير دورًا في تشكيل الهوية الثقافية، مما يسهم في تعزيز الانتماء إلى مجتمع معين خاصة في أوقات التغيير تستخدم الأساطير كوسيلة للتواصل بين الأجيال، مما يعزز من الروابط الاجتماعية ويساهم في نقل الحكمة الجماعية تلهم الأساطير الفنون والأدب، مما يساهم في الإبداع ويعزز من التجارب الإنسانية في ظل التغيرات السريعة، يشعر الأفراد بالقلق وعدم اليقين، هنا تأتي الأساطير لتوفير شعور بالأمان والاستقرار التكيف مع التغيرات، يمكن أن تساعد الأساطير في تفسير التغيرات الجديدة، مما يسمح للمجتمعات بالتكيف معها بشكل أفضل على الرغم من التقدم التكنولوجي، تظل الأساطير تلعب دورًا مهمًا في الحياة الإنسانية، حيث توفر إطارًا لفهم التجارب والمشاعر، وتعزز من الروابط الثقافية والاجتماعية.
تتغير الأساطير مع التطور التكنولوجي
تتغير الأساطير بشكل ملحوظ مع التطور التكنولوجي، وهذا التغيير يمكن أن يُفهم من خلال عدة جوانب، يتم إعادة تفسير الأساطير التقليدية لتتناسب مع السياقات الحديثة، مما يؤدي إلى ظهور سرديات جديدة تعكس التحديات المعاصرة تساهم وسائل الإعلام والتكنولوجيا في نشر الأساطير بشكل أوسع، مما يمنحها أشكالًا جديدة، مثل الأفلام، الألعاب، والمحتوى الرقمي، مع تزايد التواصل العالمي، تتداخل الأساطير من ثقافات مختلفة، مما يؤدي إلى ظهور أساطير جديدة تمزج بين العناصر التقليدية والتكنولوجية. في عالم سريع التغير، تسعى المجتمعات للاحتفاظ بهويتها الثقافية من خلال الأساطير، مما يؤدي إلى تجديدها لتظل ذات صلة تعيد التكنولوجيا تشكيل كيفية سرد القصص، حيث يمكن أن تتضمن الأساطير عناصر تفاعلية، مع تطور التكنولوجيا، تتغير القيم والمعتقدات، مما يؤثر على كيفية فهم الأساطير وتفسيرها بالتالي تتفاعل الأساطير مع التطور التكنولوجي بشكل ديناميكي، مما يؤدي إلى تجديدها وتكييفها لتظل ذات صلة في عالم متغير.
دور الذكاء الاصطناعي في خلق أساطير جديدة
يلعب الذكاء الاصطناعي دورًا متزايد الأهمية في خلق أساطير جديدة بطرق متعددة. يمكن للذكاء الاصطناعي توليد سرديات جديدة من خلال تحليل الأنماط في الأساطير القديمة ودمجها بأساليب حديثة، مما يؤدي إلى خلق أساطير جديدة يمكن للذكاء الاصطناعي تحليل اهتمامات الأفراد وتقديم قصص وأساطير تتناسب مع تفضيلاتهم، مما يجعل الأساطير أكثر تفاعلية وشخصية من خلال تطبيقات الذكاء الاصطناعي، يمكن للجمهور التفاعل مع الأساطير بشكل جديد، مثل الأساطير التي تعتمد على الخيالات المتعددة، مما يعزز من تجربة السرد، يساعد الذكاء الاصطناعي في إنشاء شخصيات جديدة تحمل سمات وأساطير تتناسب مع العصور الحديثة، مما يضيف عمقًا للسرد يمكن للأساطير التي يُنتجها الذكاء الاصطناعي أن تعالج قضايا معاصرة مثل التغير المناخي، الهوية الرقمية، والأخلاقيات التكنولوجية، مما يجعلها ذات صلة بالواقع الحالي يمكن للذكاء الاصطناعي دراسة وتحليل مجموعة واسعة من الأساطير القديمة، مما يساعد في فهم الأنماط الثقافية والتاريخية التي يمكن استخدامها لخلق أساطير جديدة، يفتح الذكاء الاصطناعي المجال أمام كتّاب وفنانين جدد لتجربة أفكار وأساليب سرد جديدة، مما يعزز من الإبداع الفني. من خلال هذه الأبعاد، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يسهم بشكل كبير في خلق أساطير جديدة تعكس التغيرات الثقافية والتكنولوجية في العصر الحالي ويمكن للذكاء الاصطناعي أن يخلق أساطير فريدة تتناسب مع خصائص كل ثقافة، مما يساعد في التعرف على الأنماط الرمزية والموضوعات الشائعة، يمكن للذكاء الاصطناعي إنشاء قصص جديدة بناءً على العناصر الثقافية المحددة، مثل القيم، التقاليد، والرموز، مما يجعل كل أسطورة تعكس خصوصيات ثقافة معينة، يمكن إنشاء أنظمة ذكاء اصطناعي تفاعلية تسمح للجمهور بالمشاركة في خلق الأساطير، مما يعزز من الإبداع الجماعي ويجعل الأساطير أكثر ارتباطًا بتجارب الأفراد، يمكن للذكاء الاصطناعي دمج عناصر من الفولكلور المحلي، مثل الشخصيات الأسطورية، الأحداث التاريخية، والمعتقدات، مما يؤدي إلى إنشاء أساطير فريدة تتناسب مع الثقافة المستهدفة .استجابة للتغيرات الاجتماعية، يمكن للذكاء الاصطناعي تصميم أساطير تعكس التحديات والقضايا الحالية التي تواجه الثقافة، مما يجعلها ذات صلة ومعاصرة، يمكن للذكاء الاصطناعي العمل بعدة لغات، مما يسمح بخلق أساطير في لغات مختلفة، وبالتالي تعزيز التنوع الثقافي، يمكن للذكاء الاصطناعي أيضًا تسهيل تبادل الأفكار بين الثقافات المختلفة، مما قد يؤدي إلى خلق أساطير جديدة تمزج بين العناصر الثقافية المختلفة، بهذه الطرق يمكن للذكاء الاصطناعي أن يساهم في خلق أساطير فريدة تعكس التنوع الثقافي وتلبي احتياجات المجتمعات المعاصرة.
الأسطورة عبر التاريخ
عبر التاريخ استخدمت الأنظمة الحاكمة الثقافة والاساطير لتعزيز سلطتها، مما أدى إلى تهميش الثقافات الأخرى وتدمير الهويات .بعض الفلاسفة استخدموا أفكارهم واساطيرهم لتعزيز أنظمة اجتماعية أو سياسية معينة، مما قد يؤدي إلى تبرير الظلم أو الاستبداد، عندما تُفرض أفكار أو معتقدات ثقافية معينة على الشعوب، يُمكن أن تؤدي إلى فقدان الهوية الثقافية وتدمير التراث، استخدم المستعمرون الثقافة والتعليم كوسائل لتبرير الاستعمار، مما أدى إلى تدمير الثقافات المحلية، يمكن أن تؤدي الفلسفات أو المعتقدات الضيقة إلى الصراعات والحروب، حيث يُستخدم الاسطورة كأداة لتبرير العنف. استخدمت الأسطورة تاريخياً كوسيلة لتبرير العنف والاستعمار حيث استخدم المستعمرون أساطير تتعلق بتفوقهم الثقافي أو العرقي لتبرير احتلال أراضٍ جديدة. اعتبروا أن غزوهم للأراضي الجديدة هو جزء من خطة إلهية لنشر الدين، مما أدى إلى تبرير العنف ضد من لا يعتنقون ديانتهم، تظل الأساطير أداة قوية في تشكيل الرأي العام وتبرير الأفعال، وقد استخدمت عبر التاريخ كوسيلة لتبرير العنف بشكل فعّال.
***
غالب المسعودي

تلقيت رسالة من أحد الأصدقاء، وهو أكاديمي في إحدى الجامعات العربية متسائلًا وناقدًا:" ألم يقتضب التشيع في إيقاعات احتفالية تستعاد دوريًا؟ ألم يتحول التشيع في الوعي المعاصر إلى طقوس ومأتم وزيارة الأربعين وو؟
ثم طلب مني التعليق، أقول: إن هذا الاختزال الذي يمارسه بعضهم هو استلاب مزدوج، يتجلى أولًا في تجريد التشيع من حمولته الفكرية العميقة، وثانيًا في إعادة صياغته كظاهرة احتفالية جوفاء، لا تمتد جذورها إلى الحراك النقدي والاجتماعي الذي ميزه في التاريخ. هذه الرؤية، التي تسجن التشيع في إطار الشعيرة وحدها، ليست مجرد سوء فهم بريء، بل هي عدسة تشويهية تُسقط من الحساب التحولات الفكرية التي أسهمت في هندسته كقوة حضارية فاعلة.
ولست هنا في مقام تحليل معمق للخطاب الشيعي وطقوسه وتحقيبه، ولا في سياق تفكيك التصورات السائدة فيه عبر تراكماته فذلك له مجاله وأدواته من الانثروبولوجيا التاريخية ومنهجياتها النقدية التي قد تستدعي قلب المفاهيم رأسًا على عقب. ما يعنيني هنا هو الإلماح إلى رفض اختزال المنظومات بطريقة متسرعة، متجاهلة التداخلات المعقدة بين الممارسة والفكر، بين الرمزي والسياسي.
إن التاريخ لا يُوثق بسطحية العناوين ولا بتحليل الاستهلاك العاطفي، بل هو انبثاقٌ لحركة الفعل الإنسانيَّ في صراعه مع الوجود، إذ يتخطى التشيعُ بُعدَه الطقوسي ليتجلى كدينامية حضارية، يتقاطع فيها الجهاد بالمعرفة، والبذل بالتأمل. فليس التشيع محض انتماء مذهبي، بل هو مدرسة معرفية أنجبت العباقرة، وناضلت، انطلاقًا من رؤية كونية تدرك أن المواجهة ليست ضد الآخر الديني أو المذهبي أو السياسي بقدر ما هي صراع مع القوى المهيمنة والأنظمة القامعة التي عملت على تدجين الفكر وسلب الإرادة الفاعلة.
إن التشيع، في جوهره، لم يكن يومًا مجرد ممارسة طقوسية، بل كان دائمًا رؤية نقدية للحكم والمعرفة والتاريخ، واستمرارًا لمسار من المراجعة والنظر والتحدي لمراكز السلطة والهيمنة. لذا، فإن أي محاولة لاختزاله في الشعائر وحدها ليست سوى تفريغ ناعم لمضامينه الكبرى، وجعل الفكر حبيس الأداء، في تجاهل صارخ لأثره في بنية الدولة والمجتمع والفكر الإسلاميَّ ككل.
لا يمكن إنكار أن التكرار المفرط للطقوس والممارسة الشعائرية المكثفة لا تبقى مغلقة داخل فضائه الداخلي، بل تُعيد تشكيل صورة التشيع في وعي الآخر، إذ تتقلص التجربة إلى بعد نمطي واحد، فتُقرأ من خلال مرآة الطقس لا من خلال عمقها الفكري وتضاريس التاريخي فيها. من ثَّم، نرى أن المؤسسات الدينيَّة أمام مسؤولية تاريخية ومعرفية تقتضي إعادة النظر في حجم هذه الممارسات وتوجيهها نحو وعي أكثر اتزانًا، يضمن ألا يُختزل التشيع في مظهره الاحتفالي وحده.
إن العالم اليوم أشبه بقرية كونية صغيرة، تخضع للمراقبة المستمرة عبر عدسة مكبرة، إذ لا يمكن لأي تجربة أن تعيش في عزلة عن أعين المراقبين والمتأملين، سواء بحسن نية أو بسوء تأويل. لذا، فإن مسؤولية إنتاج وعي حضاري متجاوز لثغرات الطقس تقع على عاتق الفاعلين في المشهد الدينيَّ،" ومديري شؤون التقديس فيه"، ليس من باب الانفصال عن الموروث، بل من باب إعادة هندسة حضوره، ليكون جسرًا نحو فهم أعمق للتشيع، لا حاجزًا يحصره في أفق ضيق من الشعائر وحدها.
إن التجربة التاريخية للمجتمعات والملل الكبرى تكشف أن إعادة النظر في الموروث، بممارساته وصوره، لم تكن يومًا فعلًا ترفيًا، بل ضرورة وجودية فرضتها ديناميكيات التحول الحضاري. فالأمم التي امتلكت الجرأة على تحليل ذاتها ونقد موروثها، لم تفقد هويتها، بل وسّعت أفقها، وأعادت إنتاج صورتها بوعي أكثر عمقًا ومسؤولية.
هذا يعني أنّ الطقس الديني لا بد أن يخضع لميزان النقد والمعايرة، لا من منطلق الرفض، بل من منطلق إعادة تعريف وظيفته داخل المنظومة الفكرية والاجتماعية. إذ إن الطقوس التي لا تثمر استقطابًا معرفيًا، ولا تحرك حراكًا فكريًا، تظل ممارسات خاملة، تستدعي الغربلة والزحزحة من خلال قراءة علمية متأنية، تعيد ضبط العلاقة بين الشكل والمضمون، بين الممارسة والمعنى.
وتاريخ التشيع، بامتداداته العميقة، ليس غريبًا عن هذه الحركة النقدية؛ فهو تاريخ متحرك، لا ساكن، تاريخ مراجعة وتحدٍّ، لا جمود واستكانة. وكل لحظة فارقة فيه كانت وليدة نقد الذات قبل نقد الآخر، ما يجعل من النقد ونقد النقد في الطقوس امتدادًا طبيعيًا لمنهجه التاريخي، لا خروجًا عنه.
***
أ. م. د. حيدر شوكان سعيد
جامعة بابل/ قسم الفقه وأصوله

يمكن تعريف الثقافة على انها سلوك اجتماعي ومعيار موجود في المجتمعات البشرية، وتعد مفهوماً مركزياً في حقل الدراسات الانثروبولوجية... ويقول الدكتور قاسم جمعة في بحثه عن (ثقافة الجمهور): إن الثقافة لا تنحصر دلالتها وفق القاموس العنصري، بل هناك تعدد هوياتي وفقاً للرؤية الانثروبولوجية. من ذلك نفهم تعريف (ريموند وليم)، الذي اعتبر مصطلح الثقافة من أكثر المفردات تعقيداً في اللغة الانكليزية، فهي تنطبق على عدة معان وترتبط بأكثر من ميدان، حيث ترتبط بالحضارة، وهل الحضارة من تؤسس الثقافة؟ أم أن الحضارة هي مجموعة من الثقافات؟. وبما أنها مرتبطة بالحضارة، فهي ترتبط من وجوه أخرى بالفرد والمجتمعات واحساسهم الفني ووعيهم.
ويشير المؤلف البريطاني (تيري إيغلتن) إلى مدى التعقيد والالتباس الذي يطرأ مفردة الثقافة، وينتهي إلى أربعة معانٍ رئيسة للثقافة، فقد تعني تراكماً من العمل الفني والذهني، وقد تعني: الصيرورة التي يحصل بها الإرتقاء الروحاني والذهني، وقد يعني بها، القيم والعادات والمعتقدات والممارسات الرمزية التي يوظفها الرجال والنساء في الحياة، أو هي الطريقة الكلية المعتمدة في الحياة... ويؤكد (إيغلتن) إلى أن الثقافة بالمعنى الفني والذهني للمفردة، قد تشمل على أوجه الإبتكار السائدة، في حين أن الثقافة كطريقة في الحياة هي في العموم مسألة عادات، فتصبح الثقافة في هذا السياق: هي ما فعلته أنت مراراً من قبل؛ بل وحتى ما فعله أسلافك لملايين المرات، ولكي تكون أفعالك صالحة للإنضمام في هذا السياق الثقافي، يلزمها أن تكون متساوية ومتناغمة مع أفعال الأسلاف... فالثقافة في السياق الفني يمكن أن تكون حالة طليعية؛ أما كطريقة للحياة فهي في مجملها مسألة عادات وحسب؛ ولما كانت الثقافة الفنية نخبوية، فهي تختلف عن الثقافة باعتبارها صيرورة تطورية والتي قد يراها المرء موضوعة أكثر ارتباطاً بمتطلبات المساواة والعدالة البشرية. على أن (إيغلتن) يذهب إلى إن اعتبار الثقافة الطريقة الكلية في عيش الحياة قد تكون أكثر صواباً عند تطبيقها على المجتمعات القبائلية أو ما قبل الحديثة بأكثر مما هو الحال مع المجتمعات الحديثة.
وفي الوقت الذي يشير فيه (هوركهايمر) و(أدورنو) في كتاب (جدل التنوير) إلى ما يسموه بقطاع الثقافة، ويقصد بهذا المصطلح: استخدام الأفلام والإعلانات والبرامج والمجلات، كأدوات لإنتاج ثقافة شعبية. نستخدم نحن مصطلح قطّاع الثقافة، وهي تسمية قرينة بتسمية قطّاع الطرق، ونقصد به: تلك النخبة المسيطرة على بعض المعارف، والتي تسعى من خلالها إلى تدجين الذوات الاجتماعية تحت طوعهم وسطوتهم، وتعمل على إقصاء ونبذ كل من تجرأ على الخوض في بحار تلك المعارف، لأنها حكر على النخبة وليست متاحة للجميع. هكذا تضمن النخبة أن لا يمس أطرافها بأدنى أذى، ما دامت تحتمي بالسلطة، ودعنا نسميها بسلطة الزور.
ومما تجدر الإشارة إليه، أن مصطلح النخبة قد يدل على مثقفٍ واحد أو مجموعة من المثقفين ينتمون إلى توجهات أيديولوجية محددة، فمن هو المثقف؟ وهل له أنواع؟ نستطيع الإجابة عن هذا التساؤل من خلال منجزين كبيرين ورائدين في مجال الدراسات المهمومة بإشكالية المثقف، وهما (انطونيو غرامشي) و(ميشيل فوكو).
يستخدم غرامشي مصطلح المثقف بشكلٍ عريض، ليشير إلى كل أولئك الذين لديهم دور تنظيمي، ثقافي أو ايديولوجي في المجتمع... وهو هنا يؤمن بوجود نوعين متمايزين من المثقف، المثقف العضوي والمثقف التقليدي، ويتضح مفهوم الأخير بتعريف الأول، يعرف غرامشي المثقف العضوي بأنه المثقف الذي ينتمي إلى طبقته ويمنحها وعياً بمهامها، ويصوغ تصوراتها النظرية عن العالم، ويفرضه على الطبقات الأخرى من خلال الهيمنة، ويدافع عن مصالحها، ويقوم بالوظائف التنظيمية والأداتية لضمان تقسيم لعمل الاجتماعي داخل الطبقة، ومن ثم استمرارها... ومن خلال هذا التعريف تتبين النوايا الماركسية.
أما (فوكو)، فيستفيد من تفرقة (غرامشي)، ليؤسس لثنائية المثقف الكوني والمثقف المتخصص، على أن الكوني عند (فوكو) يقابل التقليدي عند (غرامشي)، والعضوي عند الأخير يقابل المتخصص عن (فوكو)، إلا أن (فوكو) يعزو المثقف الكوني إلى الماركسية والوجودية، فينطلق فوكو من قول: انتهاء عصر المثقف المالك للحقيقة، فيقول: لقد مرت تلك الحقبة الكبرى من الفلسفة المعاصرة، حقبة (سارتر ) و(ميرلوبونتي)، حيث كان على نص فلسفي، أو نص نظري ما، أن يعطيك معنى الحياة والموت، ومعنى الحياة الجنسية، ويقول لك هل الله موجود أم غير موجود، وما هي الحرية، وما ينبغي عمله في الحياة... من هنا يتضح أن المثقف الكوني عند (فوكو) هو المثقف النسقي، أما المتخصص فهو الذي يقطع نهائياً مع دعوى الشمولية والكونية والفلسفات النسقية، ليهتم بتقويم أدوات للعمل ومناهج للتحليل، على أنه غير مرتبط بجهاز الانتاج، بل مرتبط بجهاز المعلومات.
***
د. حيدر عبد السادة جودة

منذ زمنٍ بعيد، والإنسان يحاول أن يقول ما يشعر، أن يُخرج من داخله ما يفيض به، أن يجعل ما في قلبه مرئيًا للآخرين. هذا الميل قديم، عميق، فطري ربما. وكلما عظُمت التجربة، زادت الحاجة للقول، للبوح، للعثور على الكلمات التي تُشبه ما عايشه في الداخل. لكنّ هذا المسعى لم يكن سهلًا أبدًا. هنالك دومًا شيء يتفلت من العبارة، شيء يبقى على الحافة، لا يُقال، ولا يستقر في لفظٍ أو جملة.
ذلك أن اللغة، رغم عظمتها، ليست بابًا مفتوحًا إلى الأعماق، بل نافذة تطلّ منها الرؤية من جهة واحدة. ليست مرآة صافية تعكس التجربة كما هي، بل سطحًا يلتقط ما يمكن الإمساك به، ويترك خلفه كل ما لا يُطابق الشكل أو النظام أو القالب. فما نقوله ليس دائمًا ما نعيشه، وما نصفه ليس أبدًا ما شعرنا به تمامًا. والكلمات، مهما اقتربت، تبقى إشارات.. لا مساكن.
فاللغة لا تُمسك جوهر الأشياء، بل تدور حوله، تُلامس أطرافه، تنسج صورًا من خارجه. نحن لا نُسمّي الشيء كما هو، بل كما بدا لنا، كما عرفناه ضمن تصورٍ سابق، أو كما وافقَ ذائقتنا وخيالنا. وهي، في هذا الدور، تؤدي مهمتها النبيلة: تجعل التواصل ممكنًا، تُقرّب الفهم، تضع علاماتٍ في الطريق. لكنها لا تهبط إلى عمق الكينونة. لا تُقيم هناك، ولا تنقل لنا النبض الخفيّ الذي لا يُوصَف.
وحين نُدرك هذا، يتغيّر موقفنا من اللغة. لا نُعاديها، ولا نعبدها. بل نصغي لها بصبر، ونعرف أنها تضيء زوايا وتترك أخرى في الظل، وأنها تُفسّر أحيانًا، لكنها تُربك أحيانًا أكثر. لأن في التجربة الحية ما لا يُضبط، وما لا يقبل التكرار، ولا يُعاد بنفس اللفظ، ولا يُحكى بنفس الطريق. إنها أوسع من القول، وأعمق من التعريف، وأصدق من الترجمة.
ولهذا، حين نبحث عن معنى الوجود، عن الحب، عن الفقد، عن الحضور، ونظن أن اللغة ستُعطينا إياها جاهزة في جملٍ منمقة أو تعريفاتٍ دقيقة، نُصاب بخيبة. لأن اللغة لا تُعطي، بل تلمّح. لا تُفصح، بل تُشير. وحتى إشاراتها محكومة بمنطقها، لا بمنطق الشعور. فما نعيشه في لحظة صدق، لحظة تأمل، لحظة دهشة أو حزن أو حضور، لا يُعاد بالكلمات، بل يُبتلع في الداخل، ويُكتفى بتأمله دون محاولة نقله إلى العبارة.
ثمّ إننا حين نُراكم في حياتنا مئات الكلمات، ونحفظ آلاف العبارات، لا نكون بالضرورة قد اقتربنا أكثر من الحقيقة. بل قد نكون قد ابتعدنا عنها، واستبدلنا الحضور بالفهم، والصمت بالشرح، والتجربة بالقاموس. كأننا استبدلنا الموسيقى بالنوتة، والغابة بالخريطة، والحياة نفسها بوصفها فقط.
وفي النهاية، لا يُلام الإنسان على حبّه للكلمات، ولا على محاولته المستمرة للقول، لكنه يُلام إن ظنّ أن ما قاله هو كل ما في الأمر. لأنّ الحياة، كما هي، لا تُختصر، ولا تُودَع في لغةٍ مهما بَلغت فصاحتها.
***
خالد اليماني - باحث

أسطورة الحرية وعبودية النظام

في وعي المجتمعات العربية، يظل المثقف ذلك الكائن الذي يُفترض به أن يتجاوز حدود الأفق الضيق، ليحمل راية التغيير والتجديد في وجه السلطة. لكن ماذا يحدث حينما يتحول هذا المثقف، الذي كان ينبغي أن يكون أداة نقد وعقلٍ يقظ، إلى جزء من النظام نفسه؟ ماذا يحدث حينما يصبح التفكير ذاته خاضعًا لمنطق الاستهلاك والريعية؟ هذا التساؤل يُشَكِّل محكًّا فلسفيًا يتطلب إعادة النظر في دور المثقف العربي المعاصر وكيفية تفاعله مع منظومة السلطة، حيث تبدو الفكرة النقدية شبه معدومة، ويغيب الفكر المستقل، ليحل محله فكر يستهلك الأفكار بدلًا من إنتاجها.
المثقف العربي في مشهدنا المعاصر لم يعد مجرد شاهد على تطور الواقع أو منفصلًا عن الهياكل التي تحكمه، بل أصبح جزءًا لا يتجزأ من هذه الهياكل. تحول المثقف إلى “منتج فكري”، يستهلك ما توفره له السلطة السياسية أو الاقتصادية من أفكار مريحة، يعيد إنتاجها وتكرارها في سياقات موجهة. في هذه الحالة، يصبح الفكر ذاته سلعًا تجارية، لا تخلق تغييرًا حقيقيًا، بل تكرس الواقع القائم. وهذا ما يمكن تسميته بـ “التفكير الريعي”.
الفكر الريعي لا يقتصر على اقتصادات المواد الخام أو الثروات المادية فقط، بل يمتد ليشمل الفكر نفسه. الفكرة في هذا السياق هي كما الثروة الريعية: شيء يمكن استهلاكه دون أن يُنتج من جهد حقيقي أو إرادة مستمرة لتغيير الواقع. يتحول المثقف العربي هنا إلى مجرد مستهلك للأفكار، أو بالأحرى إلى وسيط بين السلطة والجماهير. بدلاً من أن يتحدى هذه السلطة من خلال طرح أسئلة نقدية جدية، يعمل على تجميل الواقع وتبرير الوضع الراهن. يتحول إلى أداة في يد الأنظمة، لا لانتقادها، بل لاستمرارها. “الفكر الريعي” هو استهلاك للأفكار دون إعادة صوغها أو اختبارها في صراع حقيقي، وهو تكرار لما تم قبوله دون تفكير نقدي.
هذه الظاهرة ليست ظاهرة عربية بحتة، فهي تُظهر نمطًا عالميًا معاصرًا في مجتمعات العولمة، حيث يتم تحويل كل شيء إلى سلعة، بما في ذلك المعرفة. يزعم المثقف الريعي، في كل بيئة ثقافية أو سياسية، أنه يعبر عن تفكير حر ومستقل، بينما هو في الواقع يعيد إنتاج الأفكار التي تروج لها السلطة أو السوق الفكرية. وهذا يتماشى مع ما ذكره الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو في قوله: “السلطة لا تتمثل فقط في القمع، بل أيضًا في تحديد معايير المعرفة”. إن المثقف الذي يعيش في الفكر الريعي لا يسعى لتحرير الفكر، بل يخضعه لنظام مستمر من الاستهلاك دون أي تفكير نقدي حقيقي.
ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن هذه الأزمة الفكرية لا تقتصر على المثقف وحده. فالدور الريعي الذي يلعبه المثقف ينعكس بشكل مباشر على المجتمع ككل. مع غياب الفكر النقدي، يتوقف الحوار المجتمعي الجاد ويتراجع الإنتاج الثقافي الفاعل. يتعرض المجتمع لاحتكار الفكر من قبل سلطات تأمل في الحفاظ على الوضع الراهن، مما يؤدي إلى تعميق الأزمة الثقافية والسياسية. إن المثقف الذي لا يتعامل مع الفكر كأداة لتحدي الواقع، بل كأداة لتجميله، يكون في الواقع أداة لتعزيز الاستهلاك الفكري، الذي لا يعيد تشكيل المجتمع، بل يعيد تدوير ذات الأفكار البالية التي لا تشبع حاجة الحرية والتغيير.
في هذا السياق، يظهر الدور الذي يمكن أن يلعبه المثقف في العمل على خلق فضاء ثقافي مستقل بعيد عن تأثيرات السلطة. كان من الممكن أن يكون المثقف العربي حجر الزاوية في بناء هذه المساحة، لكن الواقع يختلف. أصبح هذا الفضاء محاصرًا، والمثقف محاصرًا أيضًا في دائرة الفكر الريعي التي تستهلكه أكثر مما تتيح له الفرصة لإنتاج أفكار جديدة ومتجددة. ومن هنا، يصبح السؤال: هل يمكن للمثقف العربي أن يتحرر من هذا الفكر الريعي؟ وهل يمكنه أن يستعيد مكانه كمنارة فكرية حقيقية في وقت يحتاج فيه المجتمع إلى نقد بنّاء وإلى فكر قادر على أن يواجه التحديات بكل جرأة؟
التحرر من الفكر الريعي يتطلب جهدًا جماعيًا يعيد النظر في الأسس التي يقوم عليها الفكر العربي المعاصر. يجب أن تتحقق العودة إلى عقلية فكرية قادرة على خوض معركة حقيقية ضد الأفكار الجاهزة التي تحاول فرض نفسها على الوعي الجمعي. إن الفكر النقدي الحقيقي يمكن أن يولد من هذا التحدي. يجب أن يرتبط المثقف العربي اليوم بتفكيك الأيديولوجيات التي تروج لها الأنظمة، ويُفترض به أن يكون قادرًا على إبداع فضاءات حرة تُنتج الفكر بعيدًا عن قيود السلطة أو المال.
المثقف الذي لا يجرؤ على طرح الأسئلة الجذرية، الذي لا يفكر خارج الأطر المرسومة له، يصبح مجرد آلة لإعادة إنتاج النظام. لا يقتصر هذا على مسألة استهلاك الأفكار بل يشمل العقل ذاته الذي أصبح يستوعب المفاهيم التي تروج لها الأنظمة السياسية أو الاقتصادية من دون التحقق منها. إن التغيير الذي يحتاجه المثقف العربي يجب أن يبدأ من الداخل، من فكر جديد يقاوم الجمود ويعيد تعريف الحرية. كما قال إرنست بلوخ: “من لا يحلم لا يبدع، ومن لا يبدع لا يتحرر”. إذا كان المثقف العربي عاجزًا عن الحلم في ظل هذا النظام الفكري، فإنه سيفقد قدرته على الإبداع والتغيير.
في نهاية المطاف، يبقى السؤال مفتوحًا: هل يستطيع المثقف العربي أن يتجاوز هذا الفكر الريعي، ويستعيد دوره كأداة تحرر وإلهام؟ إن الإجابة على هذا السؤال لا تتوقف على المثقف وحده، بل تتعلق بالمجتمع الذي يقرع الأبواب لتغيير ما هو سائد. التحول الفكري لا يمكن أن يحدث إلا من خلال التفكير النقدي، الذي ينقض الأفكار الجاهزة ويعيد صياغتها بما يتوافق مع متطلبات الحرية والعدالة.
***
إبراهيم برسي – باحث سوداني

 

صوت الفناء يجلجل في عالمنا وتهوي الاطياف والاحلام ولا خيار لنا عندما تكون الافاق مسدودة الا ان نؤمن بان الماضي لم يكن ذهبيا في ظل تردي الواقع المعاش ان الانسان المعاصر تعطلت فيه جميع مغريات الوجود لان هناك اشباحا تتراقص في اللاوعي وهي أصل المحنة، اللاوعي هو مساحة افتراضية من العقل يحوي الأفكار والمشاعر والذكريات التي لا تكون في متناول الوعي، ولكنها تؤثر على سلوك الفرد، و يمكن اعتبار (الحضيرة) مساحة رمزية تضم كلا من الوعي واللاوعي، يتفاعل هذان العنصران بشكل دائم، حيث الوعي يحاول فهم وتنظيم ما هو موجود في اللاوعي. سيغموند فرويد اعتبر أن اللاوعي يلعب دوراً مهماً في تشكيل الشخصية والسلوك، وبالتالي فإن فهم هذا التفاعل يمكن أن يُعزز من الوعي الذاتي. يُعد الوصول إلى حالة من التوازن بين الوعي واللاوعي أمراً مهماً لتحقيق النمو الشخصي، باستخدام مقاربة هيرمينوطيقية لفهم كيفية تشكل الوعي من خلال التجارب والمواقف، يمكن دراسة التأثيرات الثقافية والاجتماعية على تكوين الوعي واللاوعي، تعد مساحة الحضيرة التي تتسع للوعي واللاوعي مجالاً غنياً للتأمل الفلسفي، حيث يُمكن من خلاله فهم الذات الإنسانية بعمق أكبر.
التفاعلات في الحضيرة
يمكن اعتبار الحضيرة كمساحة رمزية تؤثر في العديد من سلوكياتنا في العلاقات والعواطف والأفكار اللاواقعية، فهم هذه الجوانب يمكن أن يساعد على تحسين التفاعلات في الحضيرة ،يجب أن يكون هناك توازن بين الاحتياجات المختلفة والصراعات والتفاهمات المتبادلة ،القدرة على التكيف مع التغيرات تعكس مرونة الحضيرة، مما يسمح للأفراد بالتعامل مع التحديات بشكل فعال. يمكن أن تُعتبر الحضيرة كرمز للوعي الذاتي، والتوازن، مما يعزز من فهمنا للعلاقات ويساعد على تحسينها. من خلال استكشاف هذا المفهوم، يمكن للأفراد بناء علاقات أكثر صحة واستدامة، مفهوم التوازن في الحضيرة يعد أساسياً لفهم العلاقات الإنسانية، مما يساهم في بناء علاقات صحية ومستدامة، من خلال العمل على تحقيق هذا التوازن، يمكن للأفراد أن يخلقوا بيئة تعزز من النمو الشخصي والعاطفي. توسع مساحة الحضيرة دون تكثيف تقنيات الفهم دلالة رمزية على بقاء الانسان يرعى في حضيرة اللاوعي من خلال الموروث بامتداد تأثير الافكار البالية المتراكمة فيه، الأفكار الموروثة والبالية، تشكل في الحضيرة مساحة افتراضية داخل عقل الانسان تحتويه في إطار من الأمان، لكن هذا الأمان يصبح مقيدًا إذا كانت الأفكار والمعتقدات غير متجددة.
الاحتواء والامان
الاحتواء والأمان يشيران إلى كيفية تأثير هذه المفاهيم على الأفراد أو المجتمعات عبر الأجيال الجديدة، حيث تُنقل الأفكار والقيم عبر الزمن وكيفية تمثُل تلك المعتقدات والتصورات التقليدية التي قد لا تكون مفيدة أو ملائمة للعصر الحديث، والتي يمكن أن تشمل التحيزات الاجتماعية، والمعتقدات الثقافية، والمعايير الأخلاقية التي تتجاوز السياق الحالي. تعمل هذه الأفكار في خلفية الحضيرة، مما يؤثر على سلوك الأفراد وقراراتهم دون وعي تام، هذا يؤدي إلى إعادة إنتاج الأنماط القديمة في العلاقات والسلوكيات. ان تجاوز الأفكار البالية يتطلب وعيًا ذاتيًا ورغبة في التغيير، الأنسان في حالة تساؤل دائم عن المعتقدات السائدة ويحاول فحص مدى توافقها مع القيم الحالية لذا تمثل مساحة الحضيرة رمزًا مهمًا يعكس تأثير الأفكار الموروثة على سلوك الأفراد، من خلال الوعي النقدي والرغبة في التغيير، يمكن للأفراد تجاوز هذه القيود وبناء هويات جديدة تعكس قيمهم الحقيقية، تؤثر المعتقدات المسبقة على كيفية تفسير المعلومات وتقييمها، الأفراد يميلون إلى البحث عن المعلومات التي تؤكد معتقداتهم الحالية، الضغط الاجتماعي والتوقعات الثقافية يمكن أن تعزز من الأفكار المسبقة وتمنع التفكير النقدي، انتشار المعلومات المضللة أو الأخبار الكاذبة يمكن أن يعيق قدرة الأفراد على تقييم المعلومات بموضوعية، إن اتساع مساحة الحضيرة بالزبد يعد رمزًا للتراجع في التفكير النقدي، مما يؤدي إلى الغرق في هوة التخلف. يتطلب التغلب على هذه العقبة وعيًا جماعيًا ورغبة في التغيير، بالإضافة إلى تعزيز التعليم والتفكير النقدي كقيم أساسية في المجتمع .ان تعبير (الحضيرة) يمكن ان يحمل رمزا لفكرة الانغلاق الفكري ويمكن ان يحمل معاني عميقة تتعلق بكيفية تأثير التفكير التقليدي على الأفراد والمجتمعات، على الرغم من أن الحضيرة قد تتسع، مما يوحي بزيادة المعرفة أو المعلومات، إلا أنها تظل في نطاق معين لا يتجاوز الأفكار الموروثة أو التقليدية ،هذه المساحة تعكس حدودًا فكرية تمنع الأفراد من استكشاف أفكار جديدة أو تحدي المعتقدات القائمة رغم اتساع الحضيرة رمزياً، وتظل حضيرة فكرية تعكس قيود التفكير التقليدي. يتطلب التغلب على هذه القيود وعيًا ذاتيًا ورغبة في استكشاف آفاق جديدة، مما يسهم في تطوير الفكر الشخصي والاجتماعي.
فقاعات المعلومات
فقاعات المعلومات هي ظاهرة تحدث عندما يتعرض الأفراد لمعلومات وآراء تتماشى مع معتقداتهم الحالية والسائدة، مما يؤدي إلى انغلاق فكري. على صعيد المحتوى الرقمي، يتم تصميم خوارزميات لعرض محتوى يتناسب مع اهتمامات المستخدمين وتفضيلاتهم، مما يؤدي إلى عدم رؤية آراء أو معلومات تتعارض مع وجهات نظرهم، الانضمام إلى مجموعات أو منتديات عبر الإنترنت تركز على موضوعات محددة يؤدي إلى التعرض لوجهات نظر أحادية، مما يعزز الانغلاق الفكري، الاعتماد على مصادر إخبارية تميل إلى تغطية الأحداث بشكل يتماشى مع آراء معينة، يمنع الحصول على معلومات موضوعية، تاثير فقاعات المعلومات في المجموعات الإثنية المغلقة تشير إلى المجتمعات التي تتكون من أفراد يشاركون خلفيات ثقافية أو عرقية مشابهة، وغالبًا ما يتجنبون التفاعل مع مجموعات أخرى، فقاعات المعلومات هي بيئات معرفية تعزز المعلومات التي تتماشى مع معتقدات الأفراد الحالية، مما يمنعهم من التعرض لوجهات نظر أو معلومات تتعارض معها، مع ظهور الصحافة في القرن التاسع عشر، بدأت بعض الصحف في تبني مواقف سياسية معينة، مما أدى إلى تشكيل فقاعات معلومات مبكرة، مع انتشار الإنترنت، أصبحت فقاعات المعلومات أكثر وضوحًا، الخوارزميات المستخدمة في وسائل التواصل الاجتماعي تعزز المحتوى الذي يتماشى مع اهتمامات المستخدمين، مما يزيد من الانغلاق الفكري، المجموعات الإثنية المغلقة تعزز فقاعات المعلومات، حيث يميل الأفراد في هذه المجتمعات إلى استهلاك المعلومات التي تتوافق مع ثقافاتهم ومعتقداتهم مع مرور الوقت، يمكن أن تؤدي فقاعات المعلومات إلى تعزيز الانغلاق الثقافي، حيث يزداد الأفراد تعلقًا بمعتقداتهم دون التعرض لوجهات نظر جديدة، تاريخ المجموعات الإثنية المغلقة وفقاعات المعلومات يعكس كيف يمكن أن تؤثر العوامل الاجتماعية والثقافية على التفكير واللاوعي.
المجموعات الاثنية والهوية الوطنية
تأثير فقاعات المعلومات على المجموعات الإثنية المغلقة وعلى تطور الهويات الوطنية كان له دور كبير في تشكيل المجتمعات على مر الزمن، العزلة التي تعيشها المجموعات الإثنية المغلقة تعزز من الشعور بالانتماء إلى مجموعة معينة، مما يؤدي إلى تعزيز الهويات الإثنية على حساب الهوية الوطنية الأوسع هذه المجموعات غالبًا ما تسعى للحفاظ على تقاليدها وثقافتها، مما يؤدي إلى تشكيل هويات قوية تعكس تاريخها وقيمها، فقاعات المعلومات تمنع الأفراد من التعرض لوجهات نظر متنوعة، مما يؤدي إلى تشكل هويات وطنية ضيقة تقتصر على مجموعة معينة من المعتقدات والأفكار، عندما تستهلك المجتمعات معلومات تتماشى مع معتقداتها فقط، فإنها قد تتجاهل أو ترفض الهويات الوطنية الأخرى، مما يزيد من الانقسامات داخل المجتمع .
مقاربة هيرمونوطيقية
كما لم يجد البدائي تفسيرا لوضعه في العالم فان صورة الوعي الثقافي تخندقت في لحظة بلورتها داخل نسق لا زماني امتد الى التربة المكانية داخل نسق ميثولوجي غير متعين بجغرافية الجسد الفاني، لذا تعتبر المقاربة الهيرمونوطيقية بين (حضيرة اللاوعي) و(فقاعات المعلومات) موضوعًا مثيرًا للاهتمام ويمس عدة مجالات تعنى بتفسير المعاني والسياقات، وتعتبر وسيلة لفهم كيف تتشكل الأفكار والعواطف بالتفاعل مع المعلومات المحيطة ، قد تؤثر العوامل اللاوعية على كيفية استجابة الأفراد للمعلومات الجديدة، مما يؤدي إلى مقاومة التغيير أو الانفتاح على وجهات نظر مغايرة من خلال هذا التحليل، يمكن استنتاج أن العلاقة بين حضيرة اللاوعي وفقاعات المعلومات هي علاقة معقدة تتطلب دراسة متعمقة لفهم تأثيرها على الأفراد والمجتمعات.
***
غالب المسعودي

 

لا يمكن الإقرار بوجود صورةٍ مُنفردةٍ من الثقافة، ويكاد أن يكون الحديث عن ثقافة منعزلة عن ثقافات الدول الأخرى مستحيلاً، على اعتبار أن الثقافة تكمن في التفاعل الإيجابي والتواصل الخلاق مع المحيط الداخلي والخارجي بآنٍ واحد، فهي تدخل نفق الانحلال والاندثار إذا ما قررت بقائها بمعزلٍ عن باقي الثقافات…
وللتفاعلِ والتواصل صور كثيرة، هاملين أكبرها، والمتمثلة بالتواصل الاجتماعي، لما انتجه من نتائج مدمرة للمجتمع، كونه قد تصدّر بيدِ مجموعة من المراهقين والمنفلتين أدباً وأخلاقاً وفكرا…
أما الصورة الأولى من صور التواصل بين الثقافات، فدائماً ما نقرأ ونسمع بأهمية التبادل التجاري في توشيج أواصر الحوار بين الثقافات، وقد يعود ذلك إلى أن البضائع لا تنفكُ عن ثقافة البلد المُنشأ لها، فالأمم المُستهلكة قد تشتري البضاعة وثقافة مُنتِجها معاً، مما يعني أن حُسن الثقافة ومدى تطورها وازدهارها يعكس بصورة ضرورية جودة البضائع وتفردها عن غيرها، والعكس صحيح تماماً…
أما الصورة الأخرى، فهي وإن كانت ذات مقدمات سلبية، إلا أن الشواهد التاريخية تشهد بثمرتها، وتتمثل بخلق استجابات ناجحة لمجمل التحديات المتأتية عن طريق الاحتلال والاستعمار الاستيطاني، فالتاريخ يشهد أن من وراء الاحتلال الفرنسي لمصر سنة ١٧٩٨، سبباً رئيساً لنشوءِ ما يُعرف بالنهضة العربية، والتي كانت مصر منبتها الرئيس، ولم تكاد أن تحقق النهضة ما حققته، وإن لم يكن بحجم الطموح، لو لا الرحلات الاستكشافية التي أمر بها (محمد علي) إلى فرنسا، فعاد المُستكشفون وهم يحملون بوادر الثقافة الفرنسية، ورفاعة رافع الطهطاوي على رأسهم، فكتب على إثر ذلك كتابه الشهير (تلخيص الإبريز في تلخيص باريز)… ولما تقدم شاهدٌ آخر على أهمية تحقيق الاستجابة الناجحة للتحدي الراهن، والمتمثل في احتلال فرنسا للجزائر سنة (١٨٣٠)، والذي من ثمراته أن الفكر المغاربي إلى اليوم يُنتج عقولاً سابقة على كثيرٍ من عقول وأفكار دول المنطقة، ويعود ذلك إلى أثر الثقافة الفرنسية التي نجح الجزائريون والمغاربة في فكِ شفراتها عن طريق تمكنهم من اتقان اللغة الفرنسية، أدى ذلك إلى اتساع دائرة التلقي عن الفكر الغربي بشكلٍ مباشر، دون وساطات المترجمين…
هذا الأمر يقودنا إلى صورة أخرى، تتمثل في أثر اللغة في كشف ثقافة البلد الناطقين بها، فلا زال العراق، أكثر الدول العربية، يحتفي بحرف الضاد، ويتباهى بالإرث اللغوي لكبار النحويين وعلماء اللغة، غافلين عن كون اللغة المحلية اليوم، لا ترقى لان تكون سبباً في ايجاد الحلول لمجمل المشكلات التي يعاني منها الواقع، بقدر ما تحاول أن تصفه بمجموعة من المفردات المتلونة والاستهلاكية التي تستخدم اليوم في مختلف انواع الشعر والأدبيات الصبيانية…
أما فيما يتعلق بموقف واقعنا العراقي من جميع ما تقدم، فهو يفتقر إلى عملية تصدير الثقافة، لكونه يفتقر بالأساس الى عمليات تصدير البضائع المحلية، وكلنا نعلم بان العراق في ذيل الدول الصناعية…
ومن جهةٍ أخرى، نجده من أكثر الشعوب إهمالاً لصناعة الاستجابات الناجحة للتحديات التي طرحها الاحتلال الأمريكي، فلا نفع سوى الخراب والتدمير، في احتلال دولة ما لدولة اخرى، إلا باقتباس الدولة التي وقع عليها فعل الاحتلال من ثقافات الدولة التي قامت بالاحتلال… وخير طريقٍ إلى ذلك يكمن في السيطرة على اللغة الانگليزية، والتي عن طريقها يجدر بنا الدخول الى انواع الثقافات المتاحة في الغرب، فضلاً عن المباحث العلمية الهائلة والمواكبة للتطور الكوني…
وبالأخير نقول:
يتفق الجميع على ان المفتقر للغة الانگليزية، في المجتمعات العربية تحديداً، لا يمكنه مقاومة التغيرات الاجتماعية والبيئية المحيطة، وبالتالي فهو اعمى يسير في مجتمع لا يعيش به سوى من له القدرة على النظر… وبصورةٍ أخرى، ان الافتقار الى اللغة الانگليزية ينتج عنه مجتمع لا يملك ادنى مسالك التطور، خصوصاً ونحن نعيش في عصر العولمة والثورات الفكرية الكبرى.
***
د. حيدر عبد السادة جودة

 

من فيلم ماتريكس إلى الواقع

القرن الحادي والعشرون، بعد 6000 عام من الحضارة، أصبح الوعي البشري يسافر عبر الزمن ويتجاوز المادة، بحيث أصبح قادراً على صناعتها وتطويرها كما يشاء. من العصر الحجري القديم إلى العالم الحديث، يتغير الوعي ويتطور ليظل على قيد الحياة في جميع الظروف.
يظل تعريف هذا الوعي لغزاً، بين كيان بدائي مندمج في الإنسان وبين تطور العقل البشري الذي لم نفهم حتى الآن من أين جاء، من إنسان عادي شبيه بالحيوان إلى بشر واعٍ ومفكر. حتى اليوم، لم يتمكن العلم من تقديم تعريف مادي حقيقي لهذا الكيان المسؤول عن تفوق الإنسان على باقي المخلوقات منذ آلاف السنين. الفلاسفة والعلماء يحاولون باستمرار العثور على أدلة ملموسة، ولكن النتيجة دائماً سلبية. فما السبب وراء هذا البحث المستمر؟ لماذا هذا السعي الدائم؟
الإجابة الأقرب للمنطق هي الرغبة في العثور على جوهر الحياة التي نعيش فيها. لكن هل سيصل الإنسان إلى هذه الإجابة يوماً ما؟
الفيلم الشهير "ماتريكس" من إخراج الأخوين واتشوفسكي قدّم لنا تصوراً حول هذا الموضوع عبر طرح الذكاء الاصطناعي والروبوتات كجواب غير مباشر على هذا التطور غير العقلاني للعقل البشري الذي قد يؤدي إلى هلاكه. لكن هذه تبقى مجرد نظرية مستقبلية. الجوهر الذي حاول الفيلم توصيله يعتمد على الفلسفة العدمية لشوبنهاور ونيتشه، حيث ترى هذه الفلسفات أن الحقيقة هي مجرد وهم، وأن كل ما نعيشه هو مجرد مزيج من الأحاسيس المبرمجة التي لا معنى لها.
في هذا السياق، يأتي اقتباس فيلم "ماتريكس" 1999 الذي يلخص تقريباً مفهوم الوعي البشري الحالي: "كيف يمكنك أن تعرف الواقع؟ ما تشعر به أو تراه أو تتذوقه أو تتنفسه ليس سوى نبضات كهربائية يفسرها دماغك كما يحلو له." هذا الاقتباس يعكس فكرة أننا نعيش في واقع يمكن أن يكون مجرد بُعد من أبعاد أخرى، لكن وعينا يقيدنا ويجعلنا نعتقد أننا في البُعد المطلق. هذا يخلق لنا خوفا من الموت ورغبة مستمرة في التمسك بالحياة، رغم أننا في النهاية نعيش حياة محدودة، تحت سيطرة غرائزنا التي لا نفهم حقيقتها.
أما في الجزء الثاني من فلسفة أفلام "ماتريكس"، نرى التقنية والمكننة في خدمة الوعي الغير المتكامل.
في هذا السياق، نتذكر أطروحة ديكارت حول سيادة الإنسان على الطبيعة، وكذلك معضلة "السيد والعبد" عند هيغل. هنا يظهر التداخل بين البشر والآلات كعبيد وأسياد لبعضهم البعض. الآلات التي صنعها الإنسان يمكن أن تستحوذ عليه وتتفوق عليه، بحيث تتحول إلى جزء من الحضارة الجديدة التي قد تهيمن على الأرض، مثل الحضارة الثانية في مقياس كارداشيف.
ومع ذلك، هل ستكون الآلات قادرة على تطوير نفسها بما يكفي لتصبح مستقلة عن الإنسان؟ هل يمكن أن يكون ذلك نهاية الإنسانية كما نعرفها اليوم؟ إذا تخلّصنا من الإنسان، هل ستستمر الآلات في العمل؟ في فيلم "ماتريكس"، يظهر ذلك بوضوح عندما يواجه مستشار مدينة زيّون الحقيقة القاسية: لا يمكن للآلات أن تعمل دون الإنسان. لكن مع مرور الوقت، قد تتطور الآلات لتسيطر على الأمور، في مسار مشابه للديالكتيك الهيغلي: من خلال العمل، يهيمن العبد على السيد، لأنه بدون العمل لا يمكن للسيد أن يصل إلى ما يريد.
في النهاية، تبين لنا أفلام "ماتريكس" العلاقة التكاملية بين البشر والآلات، حيث لا يمكن لأي منهما الوجود دون الآخر. عندما تصبح الآلات أكثر تقدماً، قد يفقد البشر سيطرتهم، لتتحول الآلات إلى الكائنات المسيطرة. لكن في الوقت نفسه، إذا تطور البشر إلى نقطة يتمكنون فيها من التحكم في الآلات، فقد يعود البشر ليكونوا الأسياد. وهكذا، تستمر الدورة الأبدية بين العبيد والأسياد، وتظل حقيقة جوهر الحياة غائبة.
خلاصة
لا تطور للإنسان دون آلات، ولا وجود للآلات دون إنسان.
***
الكاتب: حبيب مرگة

 

مشبَّع بالسببية
بقلم: مارييل جودو
ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم
***
لدى البشر قوة خارقة تجعلنا قادرين بشكل فريد على التحكم في العالم: وهي قدرتنا على فهم العلاقة بين السبب والنتيجة.
***

الفهم السببي هو القدرة الإدراكية التي تمكّنك من التفكير في كيفية تأثير الأشياء على بعضها البعض وتأثرها ببعضها. إنه مفهومك عن الصنع، والفعل، والتوليد، والإنتاج — أي التسبب — الذي يتيح لك إدراك كيف أن القمر يسبب المد والجزر، وكيف يُمرضك الفيروس، ولماذا تؤثر التعريفات الجمركية على التجارة الدولية، وما هي العواقب الاجتماعية لزلة لسان، وكيف يقود كل حدث في قصة إلى ما يحدث بعده.
الفهم السببي هو أساس كل الأفكار التي تبدأ بـ "لماذا"، و"كيف"، و"لأن"، و"ماذا لو".
عندما تخطط للغد، أو تتساءل كيف كان من الممكن أن تسير الأمور بشكل مختلف، أو تتخيل شيئًا مستحيلًا (مثل: كيف سيكون الشعور بالطيران؟)، فإن فهمك السببي يكون في حالة عمل.
في الحياة اليومية، يضفي الفهم السببي على ملاحظاتك للتغيرات في العالم نوعًا من التوليد والضرورة. إذا سمعت صوتًا، تفترض أن شيئًا ما قد أحدثه. إذا وجدت انبعاجًا في السيارة، تعلم أن شيئًا — أو شخصًا — لا بد أنه تسبب فيه. أنت تعرف أن هطول المطر سيبللك، لذا تضغط على مقبض المظلة لتفتحها وتتجنب البلل. تراقب بلوطة تسقط من شجرة وتحدث تموجات في بركة ماء.
إن قدرة البشر على رؤية العلاقة بين السبب والنتيجة كجزء من "الواقع الموضوعي" (فكرة مثقلة بالإشكالات الفلسفية، لكن لنقل مؤقتًا: العالم الخارجي المستقل عن الذهن) هي قدرة أساسية وتلقائية لدرجة يصعب معها تخيل تجربتنا من دونها. تمامًا كما أنه من شبه المستحيل رؤية الحروف والكلمات كأشكال مجردة على صفحة أو شاشة (جرّب ذلك!)، فإنه من الصعب للغاية ملاحظة التغيرات في العالم دون أن ننسبها إلى أسباب. نحن لا نرى مفتاحًا يختفي في ثقب المفتاح، أو يدًا تتحرك، أو بابًا يتأرجح ليفتح. بل نرى شخصًا يفتح الباب. لا نرى البركة، ثم البركة مع تموجات وبلوطة؛ بل نرى البلوطة تُحدث رشقة ماء.
معظم الناس لا يدركون أن كل هذا إنجاز إدراكي. لكنه في الواقع أمر غير اعتيادي على الإطلاق. لا يوجد أي حيوان آخر يفكر في السببية بذلك الشكل فائق الموضوعية والتعميم كما نفعل نحن. وحدنا — نحن البشر البالغون — من يرى العالم مشبّعًا بالسببية. ونتيجة لذلك، لدينا قدرة لا مثيل لها على تغييره والتحكم فيه.ومن ثم فإن فهمنا السببي بمثابة قوة خارقة.
القصة العلمية لكيفية تطوّر عقولنا السببية تكشف عن قوة خارقة أخرى: الطبيعة الاجتماعية للبشر. فحساسيتنا الفريدة تجاه الآخرين هي ما يسمح لنا باكتساب هذا الفهم السببي المميز. وهذه القصة تطرح أيضًا أسئلة عن "العقول الأخرى": إذا كان فهمنا السببي هو الاستثناء وليس القاعدة، فكيف يبدو العالم للكائنات الأخرى؟ وإذا حاولنا تعليق الضرورة السببية التي تنظّم جزءًا كبيرًا من تجربتنا، فماذا يتبقى؟
سأقترح أن ما يتبقى هو تجربتنا في الفعل — منظور شخصي، تقييمي، وتفاعلي بطبيعته.ففي هذا "موضع الفعل" المنخرط والمشارك — في مقابل وجهة النظر الموضوعية المنفصلة — تبدأ بذور الإدراك الأعلى في التكوّن. إن تقدير أن منظورنا الأصلي موجّه نحو الفعل والهدف يمكن أن يساعدنا أيضًا في فهم أوجه القصور فينا — وكيف يمكننا تغييرها.
يُوجَّه البحث النفسي في الفهم السببي إلى حدٍّ كبير من خلال إطار يُعرف باسم "التدخّلية" (Interventionism). فكّر في حالتين تحدثان معًا: تشرق الشمس، ويصيح الديك.هل تسبّب شروق الشمس في صياح الديك؟ أم أن الديك هو من تسبّب في شروق الشمس؟
ليس من الصعب اتخاذ قرار في هذه المسألة.
لكن، كما هو الحال في كثير من المساعي الفلسفية، فإن الحقيقة التي تبدو بسيطة للوهلة الأولى تصبح صعبة التعبير عندما نحاول شرحها بدقة.
(ماذا تقصد حين تقول إن شروق الشمس "يُسبّب" صياح الديك؟ "أعتقد أن ضوء الشمس ينشّط الساعة البيولوجية للديك، أو شيء من هذا القبيل."
ماذا تقصد بـ"ينشّط"؟ "أم… لا أعلم بالضبط… ربما يؤثّر على الهرمونات؟"
ماذا تعني بـ"يؤثّر على"؟ "آه… يطلق؟ يُحفّز؟ يُولّد؟"
لكن ما المقصود بـ"إطلاق"، أو "تحفيز"، أو "توليد"؟…)
تقدم التدخّلية طريقة أنيقة لتعريف "السبب" تُسهم في تنظيم المفهوم. هناك خطوتان:
أولًا، يُنظر إلى الأسباب والنتائج على أنها متغيّرات ذات قيم يمكن أن تتغير.فموقع الشمس يمكن أن يكون "طالعة" أو "غير طالعة"، وصوت الديك يمكن أن يكون "صياح" أو "لا صياح".
ثانيًا، تُعرَّف العلاقة السببية من خلال التدخلات — أي التغييرات المُوجَّهة. تخيّل أننا نبقي كل شيء كما هو، ونغيّر فقط ما إذا كانت الشمس ستشرق أم لا. إذا لم تشرق الشمس، فهل سيصيح الديك؟ والآن جرّب العكس: إذا بقي الديك صامتًا، فهل ستشرق الشمس؟
إذا كان تغيير حالة الشمس يؤدي إلى تغيير في سلوك الديك، لكن تغيير سلوك الديك لا يؤثر في شروق الشمس، فهذا يعني أن الشمس هي السبب، وأن الصياح هو النتيجة.
تُعرف هذه الطريقة التدخّلية في تعريف السببية غالبًا باسم "إحداث الفرق" (difference-making). وذلك لأن "السبب" هو شيء يُحدِث فرقًا في شيء آخر: إذا حركت السبب، فإن النتيجة تتحرك أيضًا.هذا التعريف لا يُرضي المتشككين تمامًا — (ماذا تعني بـ"إحداث الفرق"؟) — لكنه يقدّم لنا طريقة أكثر دقة للحديث عن العلاقات السببية. كما يوضح مثال الشمس والديك، فإن التدخلات لا يجب أن تكون ممكنة فعليًا. الفكرة الأساسية هي ببساطة: إذا غيّرنا السبب، فإن ذلك سيُحدث فرقًا في النتيجة.
التعلم التدخلي هو التعلم بالممارسة. ينتج عنه معرفة سببية، ويمنحنا القدرة على التحكم.
طريقة أخرى للتفكير في الفهم السببي هي تقدير الفرق بين التنبؤ والسيطرة — أو الفرق بين التعلُّم الإحصائي والتعلُّم التدخلي.
فكّر في التسلسل التالي:
#@mb!#@mb!#@mb!#@mb!
ما الذي يأتي بعده؟
وماذا عن هذا:
أحمر أحمر، أخضر أخضر، بنفسجي بنفسجي، أزرق…
ما هي الكلمة التالية؟
إن البشر والحيوانات الأخرى بارعون في التقاط الأنماط. هذا يُسمى التعلُّم الإحصائي (أو الترابطي)، وهو يؤدي إلى معرفة إحصائية — أي معرفة بالارتباطات. نحن نمارس هذا النوع من التعلُّم بشكل سلبي وتلقائي، وهو يمنحنا القدرة على التنبؤ. فكّر في المعرفة الإحصائية كما لو كنت تستمع إلى أغنية مألوفة على الراديو: أنت تعرف ما المقطع التالي دون أن تبذل جهدًا.أما التعلُّم التدخلي، فعلى العكس، هو تعلُّم نشط — تعلُّم من خلال الفعل.وهو يؤدي إلى معرفة سببية، ويمنحنا القدرة على التحكم.
إليك السيناريو التالي لتوضيح الفكرة:
تخيّل أنك واقف عند مدخل متجر للأدوات، تتكئ على الباب بينما تنتظرني لأدفع. (للمساعدة في التصور: أنا امرأة بيضاء في منتصف الثلاثينيات من عمري، بشعر وردي).
تشاهد السيارات تمر في الشارع. خلفك، يتحدث الناس مع بعضهم البعض أثناء وقوفهم في الطابور. بين الحين والآخر، يرنّ جرس.
تتراجع قليلًا بينما يمرّ أحدهم مسرعًا ومعه منصة مليئة بالنباتات.
ثم أقول وأنا آتي إليك:
" مهلًا، لماذا تدق هذا الجرس؟"
فترد: "ماذا تقصدين؟ أنا فقط واقف هنا."
أقول وأنا أشير إلى أعلى رأسك.
"ذلك الجرس!"
وبالفعل، هناك جرس صغير مثبت على الباب الذي كنت تتكئ عليه.
فتقول: "لم أكن أعلم أنني أُرنّ الجرس!"
لكنّك تحاول تحريك الباب ذهابًا وإيابًا، ويتضح أن الأمر صحيح: تحريك الباب يجعل الجرس يرنّ، وكان الباب يتحرك قليلًا أثناء اتكائك عليه.
المشهد الذي تخيّلناه للتو مأخوذ من مشهد قصير في كتاب "النية" (Intention، 1957) للفيلسوفة جي. إي. إم. آنسكومب.في تحليلها، تُعدّ "الأفعال" من نوع الأشياء التي ينطبق عليها معنى خاص لسؤال "لماذا؟" — وبالتحديد، ذلك النوع من "لماذا؟" الذي نوجّهه للناس عندما نسأل عن غايتهم أو هدفهم أو نيتهم (مثل: "لماذا تُرنّ هذا الجرس؟").
عندما رننت الجرس من دون أن تدري، تقول آنسكومب، لم يكن ذلك فعلًا.
أما عندما حرّكت الباب عمداً لتُصدر رنين الجرس — عندما كنت تعرف ما الذي تفعله — فحينها أصبح فعلاً.
يعتمد تطوّر الفهم السببي على هذا "المنظور الداخلي" لأفعالك — أي معرفتك لهدفك، ولما تسعى إلى تحقيقه من خلال الفعل.
سأسمي هذا المنظور: موضع الفعل (your point of do).
كثير من الحيوانات تمتلك موضع فعل (point of do). فهي تتعلّم بسهولة العلاقات السببية بين الأفعال (مثل ضغط رافعة) والنتائج المرغوبة (مثل الحصول على طعام).لكن تعلّمها السببي غالبًا ما يكون محدودًا بسياقات معينة وبفترات زمنية قصيرة. فإذا تعلّمت حمامة أن نقر الرافعة يُنتج طعامًا من الموزّع، فعلى الأرجح أنها ستحتاج إلى إعادة التعلّم في بيئة جديدة. وإذا تم إدخال تأخير زمني بين النقر والحصول على الطعام، فلن تدرك العلاقة كذلك.
الفهم السببي لدى الحيوانات غير البشرية هو في الغالب أناني التمركز (egocentric).
إنه سببية من نوع "أنا" أو "لي" — أي مقتصر على التغيرات التي تُنتجها أفعالها الخاصة، ويعتمد على أهداف تُركّز الانتباه على متغيرات بعينها.حتى الحيوانات الذكية غير البشرية، مثل القِرَدة والجرذان والغربان، لا تتعلّم العلاقات السببية عادةً إلا إذا كانت تسعى بنشاط للحصول على مكافأة (مثل الطعام) أو تجنّب عقوبة (مثل صدمة كهربائية).وعندما يكون السبب شيئًا جامدًا، أو نشاط حيوان آخر، أو حتى حركة غير مقصودة من الحيوان نفسه، فإنها غالبًا لا تتعلّم العلاقة السببية.
ومع ذلك، هناك بعض الأدلة على أن القِرَدة يمكنها تعلُّم بعض العلاقات السببية من خلال مشاهدة الآخرين. لكن البشر يُشكّلون حالة استثنائية تمامًا. ففي عمر ثلاثة أشهر فقط، يبدو أن الرُضَّع لا يمتلكون فهمًا سببيًا من منظور شخصي ("أنا أُسبّب") فحسب،
بل أيضًا فهمًا سببيًا من منظور الغير ("هم يُسبّبون").
ولأننا نفسّر باستمرار حركات الآخرين على أنها أفعال موجهة بهدف، فإننا نرى الأسباب التي يتحكم بها الآخرون، والنتائج التي يسعون لإنتاجها، على أنها قابلة للتحكم والإنتاج بالنسبة لنا أيضًا.في الأسابيع الثمانية إلى الاثني عشر الأولى من الحياة، يسمح الفهم السببي "الذاتي" للرضيع بأن:
- يبكي بطريقة موجهة لجذب الانتباه،
- ويتعلم تحريك الألعاب المعلّقة عن طريق الركل برجليه.
كما يتعلم أن الهمهمة وإصدار تعابير الوجه تُولّد استجابات من مقدّمي الرعاية — وهو شيء لا يبدو أن الرئيسيات الأخرى تفعله.
وبحلول عمر تسعة أشهر، يظهر الفهم السببي "الغيري" بقوة:
- يمكن للرضع تقليد أفعال الآخرين على لعبة، مثل الضغط على زر لإصدار صوت.
- وعند بلوغهم أربعة عشر شهرًا، يستطيعون تكرار أفعال غير مألوفة لم يسبق لهم القيام بها، مثل استخدام رؤوسهم لتشغيل ضوء.
يؤدي التفاعل والملاحظة والتصنيف باستمرار إلى جلب متغيرات وعلاقات سببية جديدة إلى وعي الأطفال.
عند الوصول إلى سن الطفولة المبكرة، يبدأ الأطفال بتعميم العلاقات السببية انطلاقًا من أفعال الآخرين. فإذا رأوا شخصًا يضع مكعبًا أحمر مثلث الشكل على آلة ما فيؤدي ذلك إلى تشغيل الموسيقى، بينما لا يؤدي وضع مكعب أزرق مثلث إلى نفس النتيجة، فإنهم سيختارون بأنفسهم مكعبًا أحمر مربعًا (جديدًا) لتفعيل الآلة.
كما أنهم يلتقطون كلمات سببية تُستخدم في مواقف متعددة. فقد يستخدم الطفل الصغير كلمة "خلاص" (allgone) للإشارة إلى آثار أفعال مختلفة — مثل فرقعة فقاعة، أو الانتهاء من زجاجة الحليب، أو البحث عن لعبة غير موجودة.
هذه الأنشطة الاجتماعية — التفاعل، الملاحظة، والتسمية — تُدخل باستمرار متغيرات وعلاقات سببية جديدة إلى وعي الطفل. والنتيجة هي نوع من التنشيط المستمر للانتباه — كما لو أن أحدهم يشير إلى الجرس على الباب: ("هل ترى هذا الشيء هناك؟ انظر، يمكنك التحكّم به!").
وفي بعض الثقافات، يقدم البالغون أيضًا تفسيرات سببية عفوية، مثل:
- "أكل البروكلي يجعلك كبيرًا وقويًا."
- "دعنا نضع الكعكة في الفرن كي تصبح منفوشة!"
- "هل تذكر لماذا لا نركض على الزلاقة؟ ماذا حدث في المرة السابقة؟"
هذا التنوع والعمومية والعدد الهائل من العلاقات السببية التي يستطيع حتى الطفل بعمر السنتين أن يفهمها يفوق بكثير ما يمكن للحيوانات غير البشرية تعلّمه — سواء من حيث عدد المجالات أو امتداد الزمن. والتفاعل مع الأدوات — من الخشخيشات إلى مفاتيح الإضاءة إلى أجهزة الآيباد — يساهم على الأرجح في بناء إحساس بأن هناك "أسبابًا محتملة في كل مكان"، وبأن العالم مفتوح للإنتاج والتحكّم. وكأن البيئة الاجتماعية تبرمج الطفل على أن يفكر باستمرار: ماذا يمكنني أن أفعل؟ ماذا يمكنني أن أفعل؟ ماذا يمكنني أن أفعل؟
لكن هناك قيدًا مثيرًا للاهتمام: فحتى سن الرابعة تقريبًا، يظل الفهم السببي لدى الأطفال مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالأفعال الموجهة نحو هدف، سواء أفعالهم أو أفعال الآخرين. في إحدى الدراسات، شاهد أطفال في عمر سنتين وثلاث وأربع سنوات لعبة سيارة تتحرك نحو جدار، وعندما تصل إليه، تبدأ دوّارة (مروحة صغيرة) بالدوران على مسافة منها. أظهر الأطفال من جميع الأعمار نوعًا من التعلّم الإحصائي (التنبؤي): فبعد فترة من المشاهدة، أصبحوا ينظرون نحو الدوّارة عندما تقترب السيارة.
ظهر الاكتشاف اللافت عندما قام الباحثون بتغيير عاملين: أولًا، كيف تحركت السيارة، وثانيًا، كيف تصرف الأطفال عندما طُلب منهم إحداث نفس التأثير بأنفسهم.
رأى بعض الأطفال شخصًا يدفع السيارة نحو الحائط. في هذه الحالة، عندما قيل لهم إن "دورهم" قد حان لجعل المروحة تدور، قام الأطفال من جميع الأعمار بتكرار الفعل. ولكن كانت الأمور مختلفة إذا رأوا السيارة تتحرك من تلقاء نفسها. في هذه الحالة، فقط الأطفال الذين يبلغون أربع سنوات قاموا بشكل منتظم بأخذ السيارة ولمس الحائط لجعل المروحة تدور.
ليس من الواضح تمامًا ما الذي يدفع تطوير الفهم غير الشخصي و"السببي" - التحول من فهم سببي قائم على الأفعال إلى فهم موضوعي حيث يُنظر إلى السببية كجزء من العالم نفسه. (هذا هو الفهم السببي الذي يجعلك تنظر إلى الشجرة فوق سيارتك للتحقق مما إذا كان بإمكان البلوط أن يسبب الانبعاج). ومع ذلك، في سن الرابعة تقريبًا، يطور الأطفال أيضًا "نظرية العقل" (تقدير أن معتقدات الناس قد تفشل في مطابقة الواقع)، واتخاذ المنظور البصري (فهم أن شيئًا أزرق بالنسبة لي سيبدو أخضر لك وأنت ترتدي نظارات صفراء)، ويتسامحون مع "التسمية المزدوجة" (أنت تقول شجرة، أقول شجيرة؛ يمكن أن نكون على حق كلانا). والجدير بالذكر أن كل هذا يتضمن الاحتفاظ بفكرتين حول نفس الشيء في الاعتبار في وقت واحد. ربما تتطلب فكرة "الإمكانات السببية" التي تستمر حتى عندما لا يغير أحد الأشياء "تمثيلًا مزدوجًا" أيضًا.
مهما كان السبب النهائي وراء الفهم السببي البشري الفريد من نوعه في عموميته ولا شخصانيته، فمن الواضح أن الحيوانات الأخرى تعيش باستمرار ضمن منظور "أنا-السببي" — نقطة الفعل (point of do). إنها لا تصل أبدًا إلى وجهة النظر الموضوعية التي تُعد فيها السببية جزءًا من كل شيء.
كيف يبدو العالم لهم؟ هكذا أفكر فيه. عندما تشاهد فيلمًا ثلاثي الأبعاد، فإن ارتداء نظارات ثلاثية الأبعاد يجعل الأشياء "تبرز". من خلال عدسة "السببية الذاتية"، أتخيل نوعًا من لوحة تحكم ريفية - ما يعادل في البرية الرافعات والمفاتيح والأقراص. قد تبرز عصا كوسيلة لاستعادة فاكهة بعيدة المنال. قد تبرز شفرة عشب طويلة كأداة لاستخراج وجبة من كومة نمل أبيض.
لكن هذه الدعائم "القابلة للتدخل" من أجل الفعل ستكون قليلة. وستظهر بشكل رئيسي في مواقف تشبه إلى حد كبير مواقف أخرى سبق أن تصرفت فيها. كل شيء آخر سيكون مجرد تباين – مثل الأشكال المتغيرة في شاشة توقف الكمبيوتر المحمول. بعض التغييرات ستكون غير ضارة (مثل العشب المتمايل في حقل عاصف). وقد يرتبط البعض الآخر بدلالات عاطفية – مثل حفيف مفاجئ في الأدغال ("أوه!")، أو نداءات أفراد من نفس النوع من بعيد ("أصدقاء!")، أو رائحة شريك محتمل ("واو!"). لكن هذه الإدراكات والأنماط والإيقاعات ستكون نوعًا من الموسيقى الهيومية: مألوفة، متوقعة، وموثوقة، ولكنها ليست مسببة أو قابلة للتحكم أو قابلة للتفسير.
إليك طريقة أخرى للتفكير في الأمر. كوليد جديد، قبل أن يتحول عقلك من خلال التعلم الاجتماعي واللغة، كنت محاطًا ببيئات ذات معنى، لكل منها ميولها الخاصة ذات الدلالة. في سريرك، كانت الهزازة (الجذابة) فوقك تميل إلى التمايل. في حوض الاستحمام، كان الصنبور يميل إلى إصدار صوت "ششش". كان هناك رطوبة سميكة حولك ونعومة أسفلك. الوالدان – اللذان كانا غير واضحين بسبب عينيك غير المكتملتين – كانا يميلان إلى التحرك في اتجاهات عديدة، ووضع أشياء جيدة في فمك، والهمس، وهزك، واحتضانك عن قرب.
يتّسم الفعل لدى غير البشر بقدر أقل من السيطرة، وبقدر أكبر بشيء أشبه بالتعاون.
في الوقت نفسه – وبإرشاد من الأحداث التي أوليتها قيمة – اكتشفتَ قدرتك على الفعل. فالابتسامات تحدث أكثر عندما أبتسم أنا أيضًا (مذهل!). الإمساك بالبطانية وتحريك ذراعي يجعلني أشعر بالبرد (فظيع!). سحق البازلاء يغيّر شكلها (رائع! دعونا نعيد التجربة). من خلال التفاعل، انفتح لك العالم، وبدأ يتّضح كحقل من الإمكانيات للفعل.
وهناك أمر آخر جدير بالانتباه: البيئات البشرية مُصمّمة – بأيدينا – لتدعم التلاعب والسيطرة بسلاسة. فأنت تعيش في عالم من الأسطح المستوية، ومقابض الأبواب، وغيرها من "المعدّات" (لنستخدم هنا مصطلح مارتن هايدغر). أما الحيوانات الأخرى، فليست لها هذه الرفاهية. تقضي إناث إنسان الغاب معظم وقتها في الغابات الكثيفة، تفاوض الأغصان؛ بعضها يمكن دفعه جانبًا، وبعضها يرتدّ، وبعضها الآخر لا يتحرّك إطلاقًا – لا بدّ من الالتفاف حوله. فقمة القطب الشمالي تكابد بأسنانها ومخالبها لصنع ثقوب في الجليد القاسي الذي لا يرحم. وطائر القطرس يضبط جسمه بمهارة مع تيارات الرياح التي تسرّع انزلاقه، لكنه لا يستطيع التحكم بها.
إن الفعل لدى غير البشر يتّسم بقدر أقل من السيطرة، وبقدر أكبر بما يشبه التعاون. إنه نمط من الوجود يكون فيه "الفعل" مرادفًا للعمل مع البيئة، لا السيطرة عليها. الفعل أشبه بدعاء السكينة: امنحني السكينة لتقبّل ما لا يمكن تغييره؛ والشجاعة لتغيير ما يمكن تغييره؛ والحكمة لتمييز الفرق بينهما. تخيّل نفسك تسبح في المحيط حين تقترب منك موجة كبيرة؛ يمكنك أن تختار أن تعبر من فوقها أو أن تغوص تحتها، لكنك لا تستطيع أن توقفها – عليك أن تسير مع التيار.
لقد كان هذا التصوّر للعالم يومًا ما تصوّرنا نحن أيضًا. قبل أن يظهر لنا العالم كشيء قابل للتلاعب والسيطرة، مهيّأ ليُطوّع لإرادتنا، كان حاضرًا بطريقة ديناميكية. كان هناك كدَفعة – أحيانًا تساند، وأحيانًا تعارض. كان قوة لا بد من أخذها بالحسبان، تفرض نفسها على أفعالنا وتستدعي انتباهنا.
وهذا ما تُمكننا "قوّتنا الخارقة" من تجاوزه – ومن نسيانه.
عندما أفكّر في الفهم السببي لدى البشر، كثيرًا ما أتذكّر فيلم "تلميذ الساحر" (The Sorcerer’s Apprentice). إنه فيلم قصير من إنتاج ديزني، ضمن الأنطولوجيا الموسيقية "فانتازيا" (1940)، ويستند إلى قصيدة تحمل الاسم نفسه من تأليف غوته. في هذا الفيلم، يظهر ميكي ماوس – مرتديًا قبعة الساحر الزرقاء ورداءً أحمر – كتلميذ مشاغب في مدرسة السحر. يسرق كتاب التعويذات الخاص بمعلمه، ويسحر مكنسة لتؤدي عمله: ملء قدر كبير بالماء. تنبت للمكنسة ذراعان، وتحمل دلاء ميكي، وتبدأ في التحرك جيئة وذهابًا. تجلب الماء وتسكبه في القدر. ثم تعيد الكرّة… مرة بعد مرة بعد مرة. يمتلئ القدر ويفيض، ويبدأ ميكي في الذعر. فيقطع المكنسة بفأس – لكن كل شظية سحرية تتحوّل إلى مكنسة جديدة! وسرعان ما يظهر جيش كامل من المكانس، يواصل ملء القدر دون توقف. وعندما يأتي الساحر أخيرًا لإنقاذه، يكون ميكي متشبثًا بكتاب التعويذات، يطفو على طوف وسط فيضان عارم.
إن فهمنا السببي هو الأساس الذي قامت عليه العلوم والهندسة. لقد منحنا أنظمة الصرف الصحي، والكهرباء، والتعقيم؛ والدراجات، والأنفاق، والصواريخ؛ واللقاحات والعلاج الكيميائي. وهو أيضًا الأساس للتقنيات الاجتماعية مثل المساءلة الأخلاقية، والاتفاقيات التجارية، وقوانين المرور. إنه ما يتيح لنا التخطيط، وسرد القصص، وتخيّل إمكانيات جديدة. لكن هذا الفهم يمكن أن يكون سحرًا مظلمًا أيضًا. فقوّتنا الهائلة في التلاعب ببيئاتنا المادية والاجتماعية أنتجت ملوّثات صناعية تغيّر المناخ؛ وميكروبلاستيك يتسرّب إلى أدمغتنا، وخصانا، وحليب ثدى الأم؛ والمزارع الصناعية والمبيدات السامة؛ وأطعمة معالجة مُسببة للإدمان؛ ومخدّرات مُدمّرة؛ وأسلحة دمار شامل؛ وخوارزميات صُمِّمت عمدًا لتوجيه قراراتنا وسرقة انتباهنا.
بوسعنا أن نوظّف فهمنا للسببية للتأثير الواعي في سلوكنا وتوجيهه وفق ما نريد.
قدرتنا الجماعية على اتخاذ قرارات جديدة بشأن كيفية استخدام هذه القوة الهائلة التي نملكها هي ما سيُحدّد مصير نوعنا البشري. وما يجعل الأمر مخيفًا ومحبطًا وصعبًا هو أنه يبدو خارج نطاق سيطرتنا؛ إنه أكبر من أي فردٍ منا، وأبعد من المدى الذي تطوّرنا عليه لتوجيه أفعالنا نحو أهداف محددة.
لكن إليك ما يجعلني متفائلًا: أعتقد أننا نستطيع استخدام فهمنا للسببية للتدخّل في سلوكنا وتغييره. أولًا، نحن نعلم أن هذا الفهم يتميّز بمرونة عالية. فحتى الأطفال في المرحلة الابتدائية يمكنهم أن يتعلّموا العلاقات السببية المعقّدة في النظم البيئية، وسلاسل الغذاء، وعدم المساواة البنيوية – وهذا يفتح المجال لتوظيفه في التعليم، وكتب القصص، ووسائل الإعلام الموجّهة للأطفال.
كما نعرف قوة الجانب الاجتماعي – قوة لفت الانتباه إلى المتغيرات لبعضنا البعض. فالأصدقاء والعائلة يشكّلون مصدرًا مؤثرًا في ترسيخ العادات المتعلّقة بالعوامل السببية التي تؤثّر في صحتنا (مثل التمارين، والنظام الغذائي، والملوّثات الدقيقة)، وفي صحة كوكبنا (مثل تناول اللحوم، والتسميد، والممارسات الاستهلاكية المستدامة). وكلما زاد الحديث بيننا عن هذه العوامل الفارقة، زادت فرص تكرار هذه الأفعال وانتشارها على نطاق النوع البشري بأكمله.
وأخيرًا، فإن فهمنا للسببية متجذّر – في الأصل – في القيم التي نؤمن بها، وفي الأشياء التي نرغب بتحقيقها. فالتعلّم السببي الأكثر بدائية يحدث عندما نسعى وراء ما نريد حدوثه. وهذا يعني أن الاقتراحات المتفائلة والموجّهة نحو الفعل من المحتمل أن تكون أكثر تأثيرًا من الخطاب المتشائم واليائس.
من الأمثلة المفضّلة لديّ في خيالنا السببي الإنساني كتاب ماذا لو نجحنا؟ (2024) لعالمة الأحياء البحرية والناشطة المناخية أيانا إليزابيث جونسون. تدعونا جونسون في هذا الكتاب إلى تخيّل المستقبل الذي نريد أن نعيش فيه، والسعي نحوه – كلٌ منا بطريقته، وفي مجتمعه الخاص. تقول: لدينا بالفعل الكثير من الحلول، وما نحتاجه هو التوسيع والانتشار والتطبيق. بهذا المنظور، أعتقد أن هناك أملًا. فبين "ماذا لو نجحنا؟" و"ماذا يمكنني أن أفعل؟" مجرد خطوة صغيرة.
هيا بنا نبدأ في العمل!
(انتهت)
***
........................
الكاتبة: مارييل جودو/ Mariel Goddu: طالبة دكتوراه في الفلسفة بجامعة ستانفورد، كاليفورنيا. عملت كعالمة معرفية ممارسة بين عامي ٢٠١٢ و٢٠٢٢، حيث تركز أبحاثها على التفكير السببي في مرحلة الطفولة المبكرة. حصلت على أول درجة دكتوراه لها في علم النفس التنموي من جامعة كاليفورنيا، بيركلي، عام ٢٠٢٠. يتقاطع عملها الفلسفي مع فلسفة الفعل، وعلم الأحياء، والعقل.

يُمكنُ عدُّ الهوية بأنها عبارة عن مجموعة من السمات التي تسمح لنا بتعريف موضوعٍ معين، فهوية المركب الكيميائي تتحدد بالعناصر الأولية المكونة له، والعلاقة الأساسية التي تقوم بين هذه العناصر، وبالنسبة التنظيمية الخاصة بالمركب. ويعرف (كارديني) الهوية على أنها: نظام من الفعل وعمليات التكيّف مع الوسط الذي يحيط بالفرد، وهو الذي يشكل المصدر الأساسي للقلق الذي يجب على الفرد أن يتجنبه ويدفه عن نفسه، فالفرد كما هو الحال بالنسبة للجماعة الثقافية يبذل جهوداً للتكيّف مع المخاطر التي تواجهه وذلك لخفض درجة قلقه وتوتره.
وتكمن هوية فرد أو جماعة أو ثقافة في رسم الإجابة عن السؤال التالي: من ذلك الفرد، أو هذه الجماعة، أو هذه الثقافة؟ ويمكن للإنسان المعني نفسه بالسؤال أن يجيب، إذ يمكن للإنسان أن يحدد لنفسه صورة هويته وذلك هو نمط الهوية المعلنة ذاتياً، كما يمكن للإجابة أن تعلن بوساطة أحد الشركاء وتلك هي الهوية المعلنة بواسطة الآخر.
وبذلك تتألف الهوية الاجتماعية من مجموعة المعايير التي تسمح بتعريف فرد ما أو جماعة ما على نحو اجتماعي، وهي بالتالي المعايير التي تسمح للفرد باستحواذ وضعيته الخاصة في إطار مجتمعه، وبعبارة أخرى تعني الهوية الاجتماعية السمات والخصائص التي تضفي على الفرد من قبل عدد كبير من الأفراد الآخرين والجماعات الأخرى في المجتمع، ويمثل ذلك إحدى مؤشرات تماسك الهوية الثقافية، وهي هوية اجتماعية معروفة من قبل ممثلها الذي يوافق ويشارك في الحياة الاجتماعية عبر انتماءاته الاجتماعية المتنوعة.
ويتحدث إليكس شيللي في كتابه (الهوية: ترجمة: علي وظفة) عن الهوية المظهرية الشكلية، ويؤكد على أنها عبارة عن هوية يقترحها الفرد أو الجماعة من أجل الآخرين، وهي صورة للهوية تعد بطريقة أكثر أو أقل تطابقاً مع الهوية الحقيقية... وتعد هذه الهوية هوية اجتماعية، أي أنها معدة من أجل الأعضاء المشاركين في إطار الحياة الاجتماعية، ووفقاً لهذه الصيغة يمكن امتلاك عدة أنواع من الهويات المظهرية، صورة منها تعد لجماعات الانتماء، وعندما تعرض هذه الهوية على الآخرين فإنها (كما هو حال أية هوية)، تقتضي نوعاً من السلوك الذي يناسب صورتها، وعندما تكون صورة الهوية المظهرية قائمة على تضمنات الاحترام عموماً فإنها تتطلب سلوكاً يقوم على أساس الاحترام والتقدير والذي يجعل صورة هذه الهوية في مأمن من المفاجآت الممكنة.
فإن السمات التي تحدد الهوية المظهرية هي في أغلب الأحيان سمات عادية متوافقة ونموذجية، وتكمن مهمة الهوية المظهرية واقعياً، في إخفاء الصورة الحقيقية أو الحد من النظرة النقدية للآخرين، ومن أجل ذلك لا يوجد ما هو أفضل من التوفق المبتذل مع المعايير الثقافية الجارية.
***
د. حيدر عبد السادة جودة

(النقطة أصل كل خط، والخط كله نقط مجتمعة. فلا غنى للخط عن النقطة، ولا للنقطة عن الخط. وكل خط مستقيم أو منحرف فهو متحرك عن النقطة بعينها. وكل ما يقع عليه بصر أحد فهو نقطة بين نقطتين. وهذا دليل على تجلي (الحق) من كل ما يشاهد وترائيه عن كل ما يعاين..).. الحلاج
يُسام الفقر بالحاجة. ولولا عفاف الناس وكرامتهم، لما أوعزت إليهم ذات اليد وقلة الحيلة، الوقوع في محظور الشر أو الاقتراب من المعصية الدنية.
ولو كان لخلق الفاقة من دليل، لكفاها أن قيمة النفس الكافية بأخلاقها والصامدة في وجه الملمات والنوازع الشهوانية والغريزية، تعبر كل شديدة وكربة، فوق ما تستطيع وتستوحش. وقد قال الحكماء، "أن الفقير إذا بات في عقارب تلدغه خير له من أن يبيت ومعه المعلوم". كناية على المقدور مما تدبره إرادة العيش، على منحى الموجود والواجد. فهو أبقى لنفسه ولنفسه، من كل لادغة أو فاجعة.
وأعود لتجربة الحلاج مرة أخرى، عند تقاطع طريق الحق مع الصبر على الفقر. وفيه أن الشيخ الرائي كان يوتر الاستبانة بالحق على كل ما يظهر للمخلوق، فيبصر الكفاية بالله والاصغاء إليه بالمحبة والتعبد، ارتقاء بميسم الحق ونبوغه البصيري. ولعله في قوله: " إذا استولى الحق على قلب أخلاه عن غيره، وإذا لازم أحدا أفناه عمن سواه، وإذا أحب عبدا حث عباده بالعداوة عليه، حتى يتقرب العبد مقبلا عليه"، يحدد بالتدقيق مرامي الاحساس بالأمان عند الابتلاء. فالحق قوة خفية مستلهمة، والعقل اقتدار على تحقيق نبل الحقيقة. والاستيلاء لا يتجرد من الهيمنة ولا يبلغها مهما وطأته العداوة، ليتلمس بذلك وعاء الحق قيمته في السعادة الخلقية قبل الخلقية.
ويتساءل الرائي قائلا:" فكيف لي ولم أجد من الله شمة، ولا قربا منه لمحة، وقد ظل الناس يعادونني."، فمهما جرت الوسيلة، زاد التقرب، ومهما بلغت الحيلة اغضى البين أو الشك في الاعتبار وكاشفه الحيز المحذور عتمة المصير والعاقبة.
فحتى معاداة الناس مهما برحت أو طالت، فإننا هي من سعة الحق ونفاذ الحيلة وانقطاع الرجاء. والقيمة المثلى لهذه الدائرة الغامضة، التكشف للحق بالحق، والتقرب لله بالحق، والتشبث بالاقتدار عند باب الخالق.
أما همة المرء عند مجابهة الفقر، فهي الأولى بأسا والاوفر إقبالا عند الصابرين القابضين على الجمر، إذ لو إن مسلك السقم والعلة لا ينثني سوى بالمكابدة والترفع عن الجهل ومغالبة النفس والاقرار بالموجود. يقول الامام علي:" ... وقد أصبحتم في زمن لا يزداد الخير فيه إلا إدباراً، والشر فيه إلاّ إقبالاً، والشيطان في هلاك الناس إلا طمعاً.. اضرب بطرفك حيث شئت من الناس: هل تبصر إلا فقيراً يكابد فقراً؟ أو غنياً بدل نعمة الله كفراً؟ أو بخيلاً اتخذ البخل بحق الله وفراً؟ أو متمرداً كأن بأذنه عن سمع المواعظ وقرأ ..".
فهل تكون للفقر أوبة لمنازلة البدل والعطاء بالإخلاء والتمرد؟ أم تشفع للمكبودين الذين شق عليهم الحال وضيق، آثام التحول المجدور بين من يستبصر بنعمة المآل وتجسد القناعة، ومن يؤاخذ الزمن ويداهنه، ويستعير صفات البخل وأورامه؟.
وعلى هذا المنحى، يصير السؤال مجازا للتوارد بين الناس، فلا يعاب على من يمد اليد لسد الجوع أو يكسر الفاقة، وإن بذل غير راض أو فداحة عيب يعيبها المجتمع ويرفضها. وفي ذلك يقول سيد الخلق: "إن المسألة لا تحل إلا لثلاثة: لذي فقرٍ مُدْقِعٍ، أو لذي غُرمٍ مفظعٍ، أو لذي دمٍ مُوجعٍ".
بل إن أكبر من الوازع المجتمعي وبنية الأخلاق فيه، يوجد الإكراه المؤثر على الإرادة، والإذعان القاطع لدورة القدر، حتى إن الرسول الكريم قرن الكفر بالفقر؛ بل إنه قد يسبب الكفر، إذا لم يقترن بإيمان قوي. وهذا الإيمان القوي هو ما عبر عنه الحلاج سابقا "بالحق الذي يجلب الأنس والوحشة" عوض "القبض والحبس"، يقول في ذلك:


أقلب قلبي في سواك فلا أرى
سوى وحشتي منه وأنت به أنسي
*
فها أنا في حبس الحياة ممنع
عن الأنس فاقبضي إليك من الحبس
***

د مصـطـــفَى غَـــلْمَــان

 

هي توطئة لجدل ينعقد بسبب شعور بالكبت وانشطار وعي الازمة، هناك من يعيد الصفة الأسطورية للكلام وتجريد المرموز من ثوبه الكلاسيكي الخادع وإعادة تأهيله في عصر اسلمت السياسة فيه مكانها للاهوت باعتباره مركز اهتمام بشري وجوهر الصراعات، التوسع في التأويل يمثل انسجاما بين العتبة الموضوعية والعتبة الذاتية، لان الماضي هو عتمة في منافذ الفهم، وبهذا يكون العقل المسيطر وبمشيئته هو الذي يضع الانسان في ساحة الاختبار باعتبارها احدى ضرورات الحياة، الامر سيكون متشابكا و لغة التأويل تتجسس على طيفه، في حالة من التشبث والبعثرة في الهويات المتأرجحة، تثير مسارات النقصان في الفهم، والشذرات المتعلقة بالقلق الوجودي والهم الميتافيزيقي تبقى موضوعات متداخلة تتناول الأسئلة العميقة حول الوجود والمعنى، هو شعور بالخوف أو القلق المرتبط بالوجود نفسه، وغالبًا ما ينشأ من التفكير في الموت، العزلة، والحرية ويمكن أن يظهر في البحث عن الهوية أو الهدف في الحياة، مما يدفع الفرد للتساؤل عن معنى وجوده، هذا يتعلق بالمسائل الفلسفية التي تتجاوز التجربة الحسية، مثل طبيعة الواقع، الوجود، والزمن، نستكشف من خلال الأسئلة ما إذا كان هناك واقع مستقل عن وعينا، وكيفية فهمنا للكون وقد يشير إلى تراجع أو فقدان الدلائل أو المفاهيم التي تساعد في فهم هذه الأبعاد. في عالم سريع التغير، يشعر الأفراد بفقدان الإرشادات التقليدية التي توجههم، هذا الاسترجاع يمكن أن يؤدي إلى شعور بالضياع أو عدم اليقين، حيث يصبح من الصعب إيجاد إجابات عن الأسئلة الوجودية والميتافيزيقية، وتتداخل هذه المفاهيم لتشكل تجربة إنسانية معقدة، حيث يمكن أن يؤدي القلق الوجودي إلى تساؤلات تؤدي إلى غموض أكبر في الفهم.
التطور البيولوجي
ساعد التطور البيولوجي الإنسان على التكيف مع بيئات مختلفة من خلال تطوير صفات وراثية ملائمة، مثل القدرة على تحمل درجات حرارة متباينة أو العيش في ظروف قاسية، تطورت بعض الصفات الجسدية مثل القدرة على المشي على قدمين، مما ساعد في تحسين القدرة على التنقل والبحث عن الغذاء، تطور الدماغ البشري وزيادة حجم القشرة الدماغية ساعدا في تحسين القدرة على التفكير، حل المشكلات لكن ليس كل المشكلات...!، والتخطيط، مما ساهم في تطوير أدوات وتقنيات جديدة تطورت القدرات اللغوية والاجتماعية، مما ساعد في تعزيز التعاون والتفاعل بين الأفراد، وهو ما يعد أساساً لبناء المجتمعات وساهم التطور في تعزيز قدرة الإنسان، التنوع الجيني يوفر مجموعة واسعة من الصفات التي يمكن أن تساعد في البقاء في ظل الظروف البيئية المتغيرة، مما يزيد من فرص النجاة بشكل عام، ساهم التطور البيولوجي في تحسين قدرة الإنسان على التكيف مع التحديات البيئية والاجتماعية، مما كان له تأثير كبير على استمرارية النوع البشري، أثر التطور على حجم دماغ الإنسان مقارنة بالحيوانات الأخرى بطرق عدة، يتمتع الإنسان بحجم دماغ أكبر نسبيًا مقارنة بحجمه الجسماني وفيما يتعلق بالتعلم، والتخطيط تطورت مناطق معينة في دماغ الإنسان، مثل القشرة الدماغية، التي تلعب دورًا حاسمًا في الوظائف المعرفية العليا مثل اللغة، الذاكرة والإبداع التفاعل الاجتماعي المعقد الذي يمارسه الإنسان تطلب تطوير أدمغة أكبر وأكثر تعقيدًا، حيث يساعد ذلك في فهم العلاقات الاجتماعية والتواصل مع الآخرين، زيادة حجم الدماغ وتعقيده ساعدا الإنسان على تطوير قدرات فريدة في حل المشكلات، والتكيف مع البيئات المتغيرة بشكل أفضل من معظم الحيوانات التغيرات في النظام الغذائي، ساهمت في دعم نمو الدماغ وتطوره بشكل عام، ساهمت هذه العوامل في جعل دماغ الإنسان واحدًا من أكثر الأنظمة العصبية تطورًا، مما أعطى الإنسان ميزة في التكيف والتفاعل مع البيئة المحيطة به ومواجهة تحدياتها. قدرة الإنسان على التفكير المجرد، التخطيط، وحل المشكلات المعقدة تتجاوز بكثير ما هو موجود لدى معظم الرئيسيات الأخرى، مما يدل على تطور أعلى في الوظائف المعرفية، التطور الاجتماعي المعقد لدى الإنسان يتطلب دماغًا قادرًا على فهم العلاقات الاجتماعية والتواصل، وهو ما يختلف عن الأنماط الاجتماعية الموجودة لدى الرئيسيات الأخرى، تطور دماغ الإنسان ساعده على التكيف مع بيئات اجتماعية بشكل أفضل، مما أدى إلى تطوير أدوات وتقنيات جديدة، وبقيت تحديات الطبيعة هي الشاهد على التكيف الاسطوري مع بيئته.
الدماغ البشري مقارنة بالرئيسيات
اختلافات تطور دماغ الإنسان مقارنة بالرئيسيات الأخرى أثرت بشكل كبير على تطور اللغة والكلام وتعزز القدرة على تكوين الجمل وفهم المعاني .التعقيد المعرفي في الدماغ البشري يمكن الأفراد من التفكير في مفاهيم مجردة، مما يساعد على طرح أسئلة استباقية عن الوجود والمعنى و تطوير لغات تحتوي على معاني معقدة ومجردة، زيادة سعة الذاكرة والتعلم في دماغ الإنسان تعزز القدرة على استيعاب وتذكر المفردات والقواعد اللغوية، مما يساهم في تطوير مهارات التواصل، تطور القدرات الاجتماعية والقدرة على فهم الإشارات غير اللفظية جعلت التواصل أكثر تعقيدًا وثراءً، مما ساعد على تطور اللغة كوسيلة للتفاعل الاجتماعي وتطوير الهيكل الفريد للجهاز الصوتي لدى الإنسان، بما في ذلك الحنجرة واللسان، الذي يسمح بإنتاج مجموعة متنوعة من الأصوات، مما يسهل تطوير لغات غنية ومختلفة، تطور اللغة كان مرتبطًا بالتطور الثقافي وطرح الأسئلة الوجودية الكبرى، حيث استخدمت اللغة لتبادل المعرفة والخبرات، مما أدى إلى تحسين التعاون والتفاعل بين الأفراد القدرة على نقل المعرفة والخبرات من جيل إلى آخر عبر اللغة، هذه الاختلافات في التطور البيولوجي والعقلي ساهمت في جعل اللغة والكلام جزءًا أساسيًا من الهوية البشرية وساهم في التراكم المعرفي وصياغة التحديات، ساهمت الاختلافات في تطور دماغ الإنسان وقدراته اللغوية والاجتماعية بشكل كبير في عدم انقراض البشر ومن خلال اللغة والتأمل، طرح الانسان أسئلته عن الطبيعة والوجود والغاية والتحديات، وكانت الميتافيزيقيا .
دور الصدفة في بقاء البشر عبر التاريخ
دور الصدفة في بقاء البشر عبر التاريخ يمكن أن يُفهم من خلال عدة جوانب التغيرات المناخية المفاجئة مثل الجفاف أو الفيضانات قد تؤثر على الموارد الغذائية. بعض المجتمعات كانت قادرة على التكيف بشكل أفضل مع هذه التغيرات، مما ساهم في بقائها، العديد من الابتكارات والتقنيات تم اكتشافها عن طريق الصدفة، مثل استخدام النار أو الزراعة، مما أثر بشكل كبير على تطور البشرية، انتشار الأمراض قد يكون له تأثيرات غير متوقعة على السكان، بعض المجتمعات كانت قادرة على تطوير مناعة أو طرق علاج، مما ساعدها على البقاء، بعض الهجرات كانت نتيجة للصدفة، مثل البحث عن موارد جديدة، مما أدى إلى استكشاف مناطق جديدة وتحقيق فرص جديدة للبقاء، الصدفة في اللقاءات بين الثقافات المختلفة أدت إلى تبادل الأفكار والتقنيات، مما ساعد في تحسين فرص البقاء والتكيف اكتشاف موارد جديدة، مثل المياه أو الأراضي الخصبة، قد يحدث بشكل غير متوقع، ويؤدي إلى نجاح مجتمعات معينة، بعض التغيرات الجينية التي حدثت بالصدفة ساهمت في تطوير صفات جديدة، مثل القدرة على تحمل ظروف معينة، مما زاد من فرص البقاء بشكل عام، تفاعل الصدفة مع العوامل البيئية والاجتماعية والثقافية ساهم في تشكيل مسار تاريخ البشرية، مما جعلها أكثر تعقيدًا وتأثيرًا على بقاء الإنسان.
التدجين ومنع انقراض الانسان
التدجين هو عملية تم خلالها ترويض الحيوانات والنباتات لتلبية احتياجات البشر. هذا ساعد في تأمين مصادر غذائية مستقرة، مما ساهم في استقرار المجتمعات البشرية وزيادة عدد السكان من خلال تدجين الحيوانات مثل الأغنام والماعز والأبقار، وتطوير الزراعة، استطاع البشر تأمين الغذاء بشكل أفضل، مما ساعد على تعزيز البقاء وتجنب المجاعات، التدجين ساهم في تحسين قدرة البشر على التكيف مع بيئاتهم، مما زاد من فرص البقاء في مواجهة التغيرات البيئية. التطور البشري يعود إلى تفاعلات طبيعية مع البيئة، والتكيف مع التحديات، وليس إلى تدخل كائنات خارجية، البشر استخدموا قدراتهم العقلية والاجتماعية لتطوير الزراعة والتدجين بأنفسهم، مما يعكس قدرة الإنسان على الابتكار والتكيف بشكل مستقل. تشجيع التأمل والفهم الداخلي في المعتقدات التي تعكس الهوية الفردية يمكن أن يساهم في استعادة الإحساس بالدهشة والارتباط بالعالم التأمل يمكن أن يثير تساؤلات وجودية جديدة تمكن الأفراد والمجتمعات مواجهة المعنى بالزهد الفردي واستعادة فهم أعمق للوجود والمعنى.
***
غالب المسعودي

لا يولد الإنسان في عزلة عن محيطه، بل يفتح عينيه على عالم مشبع بمعانٍ مسبقة، وأفكار جاهزة، ومفاهيم مغروسة في اللغة والسلوك والعلاقات. منذ لحظاته الأولى، يدخل في نسيج من القيم والتصورات التي لا يختارها، بل يرثها كما يرث الاسم والجسد. هذه الشبكة التي تحيط به وتوجه إدراكه وتكوّن مشاعره، ليست شيئًا منفصلًا عنه، بل تشكّل جزءًا من تكوينه الداخلي.
إنها الثقافة، الحاضرة بصمت، كاللاوعي الجمعيّ، وروح الجماعة التي تؤثر فينا أكثر مما نتصور.
الثقافة لا تسكن في الكتب ولا في الشعارات فقط، بل في ترتيب الأولويات، في نوع الخوف الذي نشعر به، في شكل الطموح الذي نركض إليه. لهذا يصعب الخروج منها، لا لأنها تقيدنا بالسلاسل، بل لأنها متغلغلة فينا بعمق لا نراه. قد يظن المرء أنه تحرر من ثقافته، لكنه لا يدرك أنه فقط بدّل ترتيب قناعاته ضمن السياق نفسه. حين تقول “أنا مختلف”، فأنت في معظم الحالات تقولها بلغة ثقافتك، لا بلغة آخر.
ومع ذلك، هنالك من يجرّب الخروج. يعلن انفصاله عن الدين، أو عن التقاليد، أو عن مفاهيم ترسخت في مجتمعه منذ قرون. لكن حتى هذا الفعل نفسه، لا يتجاوز ثقافته تمامًا. فالإلحاد - مثلًا - لا يولد من لا شيء، بل غالبًا ما ينشأ كردّ فعل. وغالبًا ما لا يكون موجّهًا إلى “الإيمان” كحالة وجودية، بل إلى النسخة التي عاشها المرء في بيئته: نسخة قاسية، أو متحجرة، أو مثقلة بالتناقضات. فيتخذ موقفًا منها، لا من الإيمان ذاته، ويرفع صوته في وجهها، دون أن ينتبه أن صراخه ذاته يستمد لغته منها. الموقف إذًا، قائم داخل الدائرة، لا خارجها.
هذا لا يعني أن لا أحد يمكنه التفكير خارج الصندوق، لكن الصندوق أحيانًا يكون شفافًا. نتحرك، نظن أننا أحرار، لكن الخطوط ما تزال ترسم حدود رؤيتنا. وعليه، فالحكمة ليست في ادعاء التحرر الكامل، بل في فهم محدوديتنا: في أن نعي أن الانتقال من قناعة إلى أخرى، لا يُخرجنا من الحاجة إلى الإيمان بشيء، بل فقط يغير اسم الشيء الذي نؤمن به.
ليس العيب في أن نتبنى أيديولوجيا، بل في أن نظن أنها الخلاص. الإنسان بطبعه كائن يبحث عن معنى، عن بنية، عن طريق يضع فيه نفسه. وكل أيديولوجيا، مهما بدت شاملة، لا تحيط بالحقيقة كلها. فكل منظومة فكرية تحمل في داخلها نقصًا ما، أو زاوية ظل لا تصلها الكلمات. وهذا لا يقلل من قيمتها، بل يجعلها أداة جزئية في فهم العالم، لا مرآة كاملة له.
لذلك، فإن كثيرًا من محاولات “التحرر الجذري” التي نشهدها ليست سوى تعبير آخر عن رغبة دفينة في التمركز. فالخروج من دين، أو من تقليد، لا يعني الخروج من الحاجة إلى الانتماء. وبدلًا من البدء من العدم، من المجازفة بصنع فكر من الصفر، يمكن للمرء أن يبدأ مما لديه. من الثقافة التي نشأ فيها، من اللغة التي شكلت وعيه، من المفاهيم التي شبّ عليها، وأن يعمل على تنقيتها، تهذيبها، رفعها إلى مستوى يرضي عقله ويطمئن قلبه.
أن تحافظ على ثقافتك لا يعني أن تستسلم لها، بل أن تنضج معها. أن تنظر إليها بعين ناقدة، لا أن تخلعها كما يُخلع الرداء. فالثقافة ليست لباسًا خارجيًا، بل نسيجًا من الداخل. وإن جاز القول: الحكيم لا يترك ماضيه، بل يفهمه، ويصالحه، ويعيد صياغته بما يليق بكرامته العقلية والوجدانية.
وفي النهاية، فإن المرء لا يخسر حين يبقى في ثقافته، بل يخسر حين يظن أن الخلاص في النفي وحده. إذ ليس كل ما يُهدَم يستحق الهدم، ولا كل ما يُبنى من الصفر يكون أفضل. البعض ينشغل طوال عمره في محو ما تلقّاه، وينسى أن يضيف عليه ما يُضيئه.
***
خالد اليماني

في عالمٍ تتشابك فيه الخيوط الخفية بين الثقافة والسلطة، حيث تلتقي الأيديولوجيا بالمنظومات الاجتماعية، تظهر المنابر الثقافية كأمواج بحرٍ هادئ. تسرّب في أعماقها التوجهات التي تخلق واقعًا موازياً. هي ليست فقط مساحات تعبير أو فرص للمبدعين، بل هي أيضًا مسارح للتدجين الفكري واللغوي. تأخذ هذه المنابر شكلها في الكلمة المكتوبة والصوت المسموع، وفي الأفكار التي تُعلن وتلك التي يُتجاهل وجودها تحت مسميات التنوير والتطوير. هي في الحقيقة رقعة شطرنج، يلعب فيها المثقفون كقطعٍ معدّة مسبقًا، ما بين حركات مؤثرة وضغوط هائلة. هذا الواقع لا يُختصر في المجال الأدبي والفني فقط، بل يمتد ليشمل المجال الاجتماعي والسياسي، مما يجعل المنابر الثقافية بوابات تمهد للقبول أو الرفض بناءً على مفاهيم فكرية وأيديولوجية قد تُحكم بأطر ضيقة، ساعية لتشكيل الوعي الجمعي بما يخدم المؤسسات التي تقف وراءها.
تبدو هذه الهيمنة الناعمة، التي تظهر كالشمس المشرقة، وكأنها منارة للحرية الفكرية. ولكن تحت هذه الأنوار الزائفة، تسكن الأسلاك المشدودة التي تقيد الأرواح المبدعة. إنها الفخ الهادئ الذي يتسلل عبر البوابات التي اعتقدنا أنها مفتوحة للمغامرة الفكرية، لكننا نكتشف أن كل نافذة محاطة بجدران غير مرئية، تمارس العنف على الفكر قبل أن تجرؤ كلماتنا على الخروج. بل إن هذه الجدران تتسلل إلى أعماق الوعي، لتزرع فينا الخوف من تجاوزها.
يُفرض على المثقف أن يتقيد بالحدود المفروضة، مما يجعله يُشجع على الانغماس في رتابة الفكر السائد الذي يتم تبجيله. وهكذا، تصبح الحرية الفكرية نفسها عنصرًا مائعًا، غير قابل للتحقق. يتخللها شعور دائم بالمراقبة والرقابة الذاتية، مما يعطل قدرة المثقف على التعبير بصدق أو على التحرر من القيود التي فرضتها المؤسسات الثقافية.
المثقف العضوي، الذي لا يرضى أن يكون مجرد تابع لمؤسسة أو منبر، يصطدم دائمًا بهذه الحقيقة المرة. فهو يسعى دائمًا للهروب من أسر هذه المنابر التي تبدو وكأنها مشغولة بتشكيل العقل الجمعي ليتناسب مع الأيديولوجيات السائدة. يقول غرامشي، الذي عاش هذا الصراع عن كثب: “إن المثقف العضوي هو الذي يرتبط مباشرةً بجماهيره، لا بكتابة أو أفكار محفوظة، بل بمعركة الفكر ضد الهيمنة”. إن هذا المثقف ليس مجرد فردٍ مبدع، بل هو محور تحدٍ جوهري في مواجهة الهياكل التي تفرض علينا خطابات مستهلكة وخططًا تهدف لتصفية الأصوات التي تحمل فكرًا نقديًا حقيقيًا. المثقف العضوي هنا لا يعكس فقط فكره الشخصي، بل هو الرابط الحيوي بين الوعي الفردي والجماعي، رافضًا الانزلاق إلى فخ “المثقف المدجن”، الذي يُقيد حريته في مساحة محدودة ومؤطرة بأطر ثقافية تحجم أفكاره وتوجهاته.
لكن، في صمتٍ بين الجمل والشعارات، يبرز السؤال: هل يمكن لهذا المثقف العضوي أن يبدع في فضاءٍ من هذا النوع؟ أم أن الفضاءات الثقافية المُشتركة في تخليق الرموز تصبح مؤسسات طاردة للحرية؟ وهنا، يلمع من بعيد، مثل شعاع ضوء في الظلام، قول ميشيل فوكو: “السلطة ليست فقط في يد الحكومة، بل تتناثر في شظايا عبر المساحات الاجتماعية والثقافية”. هذا التفتيت للسلطة يظهر كيف أن كل منبر ثقافي هو جزء من شبكة أوسع من الأيديولوجيات التي تعمل على صياغة “الخطاب المقبول”. وهكذا، تجد المحاولات الحقيقية للخلق، تلك التي تزعزع الركائز الهشة للثقافة السائدة، نفسها خارج سياقات القبول العام. في كثير من الأحيان، يُجبر المثقف على الاختيار بين الخضوع للسلطة الثقافية السائدة أو العيش على هامش تلك الثقافة. كأن الانزلاق إلى الفضاء الثقافي السائد يتطلب التنازل عن الأصالة والانحراف عن قيم الإبداع الحر، فتصبح المساحات الممنوحة للمثقف داخل هذه المنابر ثقوبًا ضيقة يصعب التنفس منها.
المثقف العضوي، في هذا السياق، يصبح صوته الداخلي المتعدد، سعيه المستمر للهروب من الدائرة المغلقة التي تفرض عليه كلمات محدودة وأفكار متشابهة. هل يمكن له أن يعيش في هذه المتاهات الثقافية ويظل كما هو؟ لا شك أنه سيواجه معركة دائمة بين فرديته وبين محاولات تطويعه لجعل صوته ينسجم مع اللحن الذي تفرضه المؤسسة الثقافية. الإبداع الحقيقي في هذه المساحات ليس سهلاً، بل هو مواجهة مستمرة مع الزمن والأفكار الجاهزة، إذ يصبح الابتكار صراعًا مريرًا ضد معايير مفروضة. لكن رغم ذلك، يجد المثقف العضوي نفسه مضطرًا أحيانًا، رغم محاولات التحرر، للركض في حلبة تلك المعايير، محاولًا التسلل منها بطرق مبتكرة. هذا النضال المستمر ليس فقط من أجل الظهور في هذه المنابر، بل أيضًا من أجل الحفاظ على كينونته الفكرية من الانحلال أو التذويب في الثقافة الرسمية التي تسعى لقمع الصوت الفردي.
وهكذا، يبقى السؤال قائمًا: هل يستطيع المثقف العضوي أن يستمر في تقديم الإبداع الحُر في فضاءٍ ثقافي مُسطح؟ أم أن الفضاء نفسه هو الذي يقيد إبداعه، محيلًا إياه إلى سجين داخل جدرانٍ غير مرئية؟ ما يطرحه هذا السؤال ليس فقط عن الحرية، بل عن الشكل الذي تتخذه هذه الحرية داخل هيكل ثقافي مترابط، حيث يظل الصوت الفردي همسًا، ضائعًا وسط زمجرة الصخب المؤسسي. في هذا المجال، يظل لسان الفيلسوف الأرجنتيني هوغو غوتيريز حيًا: “الإبداع هو المقاومة؛ والتقيد هو الخضوع”. هذا القول، الذي يربط بين الإبداع والمقاومة، يضع المثقف في موقع دائم التحدي ضد الهياكل الثقافية السائدة. لا يجب أن تكون المقاومة على شكل رد فعل، بل كحركة متجددة نحو التجديد، حيث يظل الصوت المبدع مستمرًا رغم محاولات العرقلة، والحرية تتجسد في هذا التمرد المستمر على الأطر الضيقة التي تصوّب نحو قمع الفكر والتعبير.
من هنا، يتضح أن المثقف العضوي، في معركته الفكرية هذه، لا يعيش في عزلة عن الواقع، بل هو في قلبه. يتنفس من خلاله، يخلق ويمزج بين ما هو فردي وما هو جماعي. لكنه يظل في صراع دائم من أجل تلوين هذه الفضاءات الثقافية بألوانه الخاصة، التي ترفض الانصياع للترتيب الذي يفرضه المجتمع أو الثقافة المؤسسية. وبالتالي، لن تظل هذه المنابر مجرد مساحات لتعبير حر، بل تتحول إلى محيطات هائلة من الدوائر التي تتحكم في مجريات الفكر. وتظل القدرة على الإبداع هي القوة الوحيدة التي ترفع الأصوات خارج الحواجز المرسومة.
***
إبراهيم برسي

الفن ضحية.. والمجتمع شريك!

رمضان لا يأتي فقط بالمسلسلات والضجيج، بل يحمل معه أسئلة تشق جدران الواقع، تُحركها دراما تلامس المسكوت عنه. هذه المرة، عادت فتوى "تجسيد الصحابة" لتُحيي نقاشًا قديمًا أشبه بصراعٍ بين نصٍّ متحجِّر وعقلٍ يحلمُ بالتحليق. ليست هذه المرة الأولى التي تُعلن فيها الهيئات الدينية حربًا على الفن، ففي تسعينات القرن الماضي، أُطلقت فتوى غريبة: "مشاهد الزواج في الدراما زواجٌ شرعي"! وكأن محمود ياسين إن نطق بـ "أوْجبتِ" أمام مأذون وهمي، أصبحت نجلاء فتحي زوجةً شرعيةً تُورَث وتُطلَّق!
العلماء الذين أصدروا هذه الفتاوى ليسوا أشرارًا، بل هم – كما يصفهم البعض – "حراسٌ مخلصون" لمعبد يخشون انهياره. استندوا إلى حديث يُحذِّر من استهانة البشر بثلاثة أمور، أحدها الزواج. لكن هل يعقل أن تتحول الكوميديا بين طالبين في الجامعة إلى عقدٍ شرعي لمجرد تلفظهما بكلمة؟ هنا يتحول الدين إلى لعبة "أحاجي منطقية" تُمارس في الفراغ، بمعزل عن روح النص ومقاصده.
المعضلة ليست في الفتوى ذاتها، بل في العقلية التي تنتجها: عقليةٌ ترفض أن ترى العالم إلا من ثقب المفتي. إنها رؤية تختزل الحياة في حروف النص، وتُلغِي السياق، والنية، والواقع المتغير. هؤلاء "المحافظون المتجمدون" – كما يُسميهم النقاد – يسكنون قلوبًا خائفةً من أن تتحول الشريعة إلى كيانٍ مرنٍ يتنفس مع العصر. هم أبناء مدرسة ابن حنبل التي انتصرت للنقل على حساب العقل، وأغلقت باب الاجتهاد منذ قرون، وكأن الزمن توقف عند لحظة تاريخية قرر فيها "الكيان الغامض" المسمى بـ"الأمة" أن يتحول الدين إلى متحف تُحفظ نصوصه في فورميكا!
المفارقة الساخرة أن هذه الفتاوى تتحدث عن "حماية الشريعة" بينما تترك الشريعة الحقيقية تُداس في واقعٍ يعج بالظلم الاجتماعي والاقتصادي. لماذا لا نسمع صوت هيئة كبار العلماء مرتفعًا حين تُنتهك حقوق النساء في المحاكم، أو حين تُنهب أموال اليتامى، بينما يتحولون إلى "فيلق خارق" لمحاربة مشهد زواجٍ درامي؟
الدراما هنا ليست مجرد مسلسلات، بل مرآةٌ تكشف ازدواجية الخطاب الديني الرسمي. فبينما يُصر الفقهاء على حرفية النص، يعيش العالم في عصرٍ صارت فيه الصورة لغة العصر، والخيالُ جسرًا لفهم الواقع. كيف يمكن لدينٍ أن يبقى حيًا إذا رفض التعبير عنه إلا بلغة القرون الوسطى؟ إن إغلاق باب الاجتهاد يعني تحويل الإسلام إلى دينٍ أحفوري، يُقدس الماضي ويخاف من المستقبل.
نحن أمام معركة وجودية: هل الدين نصٌ يُراد منه التحكم في البشر، أم رسالةٌ تُحررهم؟ حين يتحول الحب في الدراما إلى جريمة، والزواج إلى إشكالية فقهية، فإننا ندفع بجيلٍ كامل إلى الهروب من الخطاب الديني برمته. الفتاوى المتشددة لا تحمي الدين، بل تجعله سجنًا بدلًا من أن يكون حديقةً للروح.
ربما حان الوقت لكي نعيد الاعتبار إلى "المسرح الإلهي" الذي نحن جميعًا ممثلون فيه. مسرحٌ لا يُحركه خوفٌ من الله، بل حبٌ للحياة، وإيمانٌ بأن الفن – كالدين – يمكن أن يكون جسرًا نحو السماء.
لا يكتمل الحديث عن صدام الفتوى مع الفن دون الغوص في أعماق الهُوية الممزقة بين قداسة النص وضرورات العصر. فالصراع ليس مجرد خلاف على مشهد زواج أو تجسيد شخصية تاريخية، بل هو معركة وجودية حول من يملك حق تشكيل وعي الجمهور: هل هو الخيال الحر الذي يلامس الأسئلة المُعقَّدة، أم سلطةٌ ترفض إلا أن ترى العالم من خلال نصوصٍ جامدة؟
رمضان، بوصفه موسمًا ثقافيًّا تتصادم فيه كل التناقضات، يتحول إلى مرآة عاكسة لصراعٍ أعمق. فالمسلسلات التي تُنتقد لـ"خروجها عن المألوف" ليست سوى جزء من سؤالٍ أكبر: مَن يُمسك بمفتاح تفسير "المألوف" ذاته؟ حين تُدان دراما لأنها تجسِّد الصحابة، أو لأنها تقدم الحب كعلاقة إنسانية طبيعية، فإن السؤال الحقيقي هو: هل يُسمح للفن أن يعكس تنوع الحياة، أم يجب أن يتحول إلى خطابٍ وعظي منمط؟
هنا تبرز مفارقةٌ مأساوية: فبينما تُحارب بعض الفتاوى مشهدًا دراميًّا عن حب أو زواج، تُهمَل قضايا اجتماعية حقيقية كزواج القاصرات أو التحرش الجنسي، وكأنَّ "الخطيئة" الوحيدة هي ما يظهر على الشاشة، لا ما يحدث خلف الأبواب المغلقة.
الفتاوى المتشددة ليست نتاج اجتهادٍ ديني بقدر ما هي تعبير عن عقلية حبيسة التاريخ. فإغلاق باب الاجتهاد منذ قرون - تحت ذريعة "حماية الدين" - حوَّل الفقه إلى فقاعةٍ معزولة عن تحولات الواقع. لو كان ابن حنبل أو الشافعي بيننا اليوم، لربما اختلفت تفسيراتهم جذريًّا، لكنَّ الخوف من المرونة جعل "القديم" مقدسًا، و"الجديد" مُشبوهًا.
هذه العقلية لا تُحارب الفن وحده، بل تُحارب الإنسان ذاته. فحين يُختزل الدين في حُكمٍ فقهي، ويُحظر النقاش حول مقاصد الشريعة، تُسرَق الروح الإنسانية من الدين، ويُحوَّل إلى مجموعة أوامر تُنفَّذ بلا وعي.
المأساة الأكبر أن هذه الفتاوى تلقى رواجًا اجتماعيًّا لا يُستهان به. فجزء من الجمهور - بفعل التربية الدينية السطحية -يرى في الفن تهديدًا لأمنه الروحي، لا تعبيرًا عن أسئلته الوجودية. هذا التحالف غير المُعلَن بين "الخطاب الديني المتشدد" و"الوعي الجمعي الخائف" يخلق بيئةً خصبةً لتصوير الفن كعدو، بدلًا من اعتباره حليفًا في معركة بناء إنسانٍ متكامل.
هل هناك مخرج؟
لا يكفي انتقاد الفتاوى؛ فالنقد وحده لا يبني بديلًا. المخرج الحقيقي يبدأ بإعادة الاعتبار إلى "المقاصد" بدلًا من "النصوص"، وإلى "الروح" بدلًا من "الحروف". فالدين لم يُخلَق ليكون سجنًا للخيال، بل نورًا يُضيء طريق الإبداع.
علينا أن نتذكر أن الإسلام العظيم استوعب في تاريخه أقصى درجات التنوع: من تصوف ابن عربي الذي حلَّق في سماوات الخيال، إلى فلسفة ابن رشد التي انصهرت مع العقل اليوناني. فلماذا نسمح اليوم لخطابٍ مُتحجِّر أن يختزل هذا التراث الهائل في فتاوى تُحاصر الفن؟
ربما يكون الفن -بجرأته - هو الدعوة الأقوى لإعادة فتح باب الاجتهاد، ليس عبر مواجهة الدين، بل عبر إحياء جوهره الإنساني الذي يجمع بين الأرض والسماء. فالفنانون - مثل الصوفية --يبحثون عن الحقيقة عبر أسئلةٍ لا تُجيب عنها الفتاوى، لكنها تُحرك الروح نحو آفاقٍ أرحب.
الخوف على الدين لا يحميه، بل يُحنِّطه. أما الخوف على الإنسان — بإنسانيته — فهو الجدار الوحيد الذي يستحق أن نرفعه.
***
د. عبد السلام فاروق

من معوقات تكوين وتمكين أي مشروع ثقافي لإنسنة الوجود البشري في المجتمع العربي المعاصر، هو ان العاطفة في الشخصية العربية هي التي تهيئ للعقل أجواء التفكير، وهي ذاتها التي تكتب القرار العقلي بعد تهدئة الإنفعال ودخول مرحلة الموضوعية.
والموضوعية مادة غير متوفرة بما يكفي في نظام العلاقات الإجتماعية، عدا نفر من العقلاء الذين لا يشكلون سوى نسبة بسيطة في مجتمع تُعرض عليه يومياً أنواع السلع والأفكار والخدمات والثقافات، بحيث لا يسع الإنسان الإعتيادي ان يتعامل مع هذه العروض بغير العاطفة والإعتقاد الذي يتولد عنده جرّاء تعامله مع هذه الفكرة، وإستخدامه لتلك السلعة.
فهل الوعي العاطفي مجرد تجربة ذاتية؟
وفي عصر التقنية الرقمية، هل يهمنا ما إذا كانت المشاعر التي نتبادلها مع بعضنا حقيقية أم هي مجرد محاكاة؟
هل يمكن هندسة الوعي العاطفي رقمياً بطريقة تجعل الناس يتفاعلون معه كما لو كان حقيقياً؟
قد يكون هناك مشروع لأتمتة المشاعر، وقد ينجح هذا المشروع في المستقبل، ليس لأن الآلة لها مشاعر بل لأن الإنسان المعاصر، الواقع تحت ضغوط الحياة اليومية المادية الصعبة، سيكون أكثر إستعداداً لقبول وهم الآلة العاطفية.
في ضوء ذلك، هل ستصبح الآلة الرقمية جزءاً من التجربة العاطفية اليومية للإنسان في زمان يعلو فيه صوت التفاهة؟
يحتاج كل إنسان في علاقته بمحيطه الإجتماعي وفي علاقته بالسلطة الحاكمة الى الشعور بالأمان والشعور بإحترام الذات. في حال عدم إستقرار هذين الشعورين تحديداً لأسباب يرتبط معظمها بسياسة السلطة الحاكمة وبنظامها الإداري، فإن الثقافة تواجه مشكلة كبيرة جداً تتمثل في مدى قدرتها على تهيئة أجواء مناسبة لنمو هذين الشعورين عند كل شخص. يكمن حجم المشكلة الكبير في ان الحكومات لا تنظر الى هذه الحاجة عند المواطن من موقع المسؤولية والحكمة بقدر ما تنظر اليها من موقع السيطرة والتحكم، فهي تفرض العقوبات على من يهدد الأمن، وتعاقب من يسيء إحترام الآخر. في مثل هكذا جو لا تنمو ثقافة طبيعية في المجتمع، لكن قد تنمو طباع جديدة وعادات جديدة وبالتالي تظهر جراء ذلك ثقافة جديدة، يأتي ضررها في إحتمالية أنها لا تحفز على نمو وتكوين الشخصية ومداراتها من الناحية النفسية بقدر ما تحفز على تقبل الوضع الراهن، في هذا الجو من تقبل الواقع تظهر مشاريع تستثمر حاجة المواطن الى تحقيق هذين الشعورين، فنسمع عن أجندات ثقافية لحركات ومنظمات سياسية تروج لنفسها إعلامياً وتركب موجة المشاعر الجماهيرية للوصول الى شواطئها الخاصة التي كثيراً ما تكون بعيدة عن مسار طبيعة المجتمع، فتظهر نتيجة ذلك حالة من عدم الرضا عند الناس ينجم عنها فقدانهم الشعور بالأمان وبالتالي إفتقادهم الى الشعور بإحترام الذات، وهنا تصبح ميول الناس أقرب الى الدين كونه قوة فاعلة تراعي هذين الشعورين، أما الثقافة فإنها لم تفلح لحد الآن في أن تكون قوة بموازاة قوة الدين وقوة السياسة.
لعل ما يفسر عدم ظهور الثقافة كقوة حاضرة الى جانب حضور قوة السياسة وقوة الدين في المجتمع العربي، هو ان الثقافة لم تنجح لحد الآن في إكتشاف الطريقة الأقرب الى تفاعل الجماهير وتحريكهم في إتجاه وعي واقعهم وإثارة حسهم المسؤول في النهوض بهذا الواقع. من ذلك مثلاً ان التظاهرات والإحتجاجات الشعبية كثيراً ما تنطبع بطابع تقليدي مرتبط بالحاجات الخدمية أكثر من إرتباطها بالحاجات الثقافية. بمرور الوقت تمكنت قوة السياسة من إحتواء مضامين تلك الإحتجاجات والتظاهرات، إذ لم تعد التظاهرات قادرة على تغيير الواقع السيء. هذا من الناحية الميدانية في علاقة الناس بالسلطة الحاكمة، أما من ناحية علاقة الناس ببعضهم
فإن منظومة القيم والأخلاق والمثل العليا لم تعد مطلقة كما في السابق. فهي اليوم نسبية في ظل نظام عالمي يسلّع كل شيء. هنا تكمن معاناة المجتمعات العربية المعاصرة، لأنها لا تزال تنظر الى القيم والأخلاق نظرة مطلقة، بينما تضطرهم تفاصيل الحياة اليومية الى إعتماد نسبيتها.
بالنظرة الأفقية للتفكير البشري في عصر الآلة، فإن التسليع ماضٍ، وهو يتطور الى الحد الذي يتدهور فيه الإنسان تماماً. عندها ستصبح الآلة الرقمية صديقة له، بل لعله يستبدل بها أصحابه ومقربيه في جو المعنى الرقمي للصداقة الذي تشيعه المواقع الالكترونية للتواصل الإجتماعي.
وسيستمر النظام العالمي في تسليع كل شيء الى ان يتحول الإنسان الى مستهلك ( بكسر اللام) ومستهلك ( بفتح اللام) في آن واحد، بحيث تتآكل العلاقات الإنسانية النقية ، عندها ستكون الآلة بديلاً أكثر مقبولية. وسيصبح طرد عائلة فقيرة لا تملك سكناً في وطنها بسبب فقرها المدقع، من منزل شيدته على ارض تعود ملكيتها لإحدى مؤسسات الدولة، إجراءً قانونياً سليماً تنفذه قوة عسكرية أمام صراخ وبكاء النساء والأطفال دون تقديم بديلٍ عاجل وآمن لهم.
مما يعرقل دور الثقافة العربية المعاصرة في تنقية الجو الإجتماعي، هو تلوث الجو العام لمناخ العالم العربي سياسياً وإقتصادياً وأمنياً، وهو ما يضطر أبناء المجتمع الواحد الى التأثر بهذا الجو الملوث، هذا يعني ان الجو الثقافي الذي نعيشه اليوم ليس نقياً وصافياً بالقدر الكافي الذي يسمح للناس بأن يتنفسوا ما يملأ صدورهم فهماً وعلماً ووعياً وثقافة. إن أكثر ما يلوث الجو العام لأي مجتمع هو التضارب والتصارع بين أفراده على المكاسب والمناصب وتركهم السعي وراء النضج العقلي والنضج النفسي والعدالة الإجتماعية.
لعلي لا ابدو متشائماً اذا ما ذهبت الى إن تحقيق النضج العقلي والنضج النفسي في أيامنا هذه قد لا يجعل من مهمة الثقافة المعاصرة في تحديث الواقع وتصحيح أخطائه مهمة ميسرة، ذلك لأن قوة المال اليوم تفرض حضورها وقدرتها على إصطناع ثقافة من شأنها أن تبتلع مفهوم الإنسانية بإجراءات قانونية تنفذها قوة المال بغطاء سياسي وبمزاجية رسمية.
تواجه الثقافة العربية المعاصرة محنة شديدة ترتبط بجوهر عملها الإنساني، فماذا تستطيع فعله أمام قوة العصر الجديدة وهي المال المتنفذ الذي بات يشتري كل شيء، ويقدم عروضاً مغرية لمن يبيع إنسانيته وضميره وذمته وأخلاقه ودينه. يبدو من خلال واقع حال المجتمعات العربية ان دور الثقافة المعاصرة دور معقد للغاية، لأن الإيمان بقدرة العقل البشري على التطوير ، بات يرافقه شك في سلامة التفكير في ما يتعلق بتزكية هذه الجهود، هل إنها تصب في صالح إنسانية الإنسان، وانها لا تمضي به الى عالم الأشياء الذي يتساوى فيه الكائن الحي مع الموجودات والأجهزة الآلية والرقمية.
***
د. عدي عدنان البلداوي

انشغل الإنسان عبر العصور بتأمل ظواهر إرادة البقاء لدى الموجودات من أوجه متعددة: علمية، فلسفية، سيكولوجية، بل وحتى دينية ووجودية، ساعيًا لفهم هذا الميل العميق الذي يشترك فيه كل كائن حي. شوبنهَور، الفيلسوفُ الألماني، مثال بارز. كتبَ عن الإرادة، والشهوة، والغريزة، وكذلك فعل الكثير من الفلاسفة والعلماء الذين تناولوا هذه الظاهرة وكيف تؤثر على سلوك الإنسان وطريقة تفكيره، والقيمة التي يُضفيها على ذاته.
رغم كثرة المقاربات التي تناولت إرادة البقاء، يبدو لي أن سؤالًا جوهريًا ظلّ بعيدًا عن مركز الاهتمام: لماذا تميل الموجودات أصلًا إلى البقاء؟ ولماذا تتشكّل هذه الغريزة بهذا النحو دون غيره؟ أو لأطرح السؤال بشكل مختلف: لماذا لا تتشبث الموجودات بالعدم؟ لماذا الإرادة – التي تشمل غريزة البقاء – هي الأصل، والفعل الأكثر ثباتًا في كلّ الوجود؟
تاريخيًا، وجدت حجج أنطولوجية عديدة تثبت وجود مصدرٍ رئيس، وباعث، وواجب لهذا الوجود. لكنها غالبًا ما تجاوزت جوهر المسألة: سؤال الوجود بما هو وجود، وتشبّث الموجودات به.
هذه الأسئلة أفسدت علي سكينتي لسنوات. وفي كل مرة، كان عقلي الفطري يوبّخني: ما هذه الحماقة؟ "لماذا الوجود وإرادته؟'، لكنني وجدتُني أكتب أخيرًا ما كان يعصر ذهني.
أدركت أن السؤال أعمقُ من سائر الأسئلة الفلسفية الأخرى المتعلقة بموضوع الوجود والعدم من حيث كنههما، لا من حيث التجربة الإنسانية فقط، رغم أن التجربة الإنسانية هي أقوى تجلٍّ لهذه الإرادة، وأسطعها: إرادة الخلود!
هنا بدأت تتبلور لديّ فكرة مفادها: أن الميل إلى البقاء لا يُفسِّر من الناحية المادية الغريزية فقط، بل هو تعبير عن جوهر الوجود، الذي نحن انكشافاتٌ له في فضاء العالم.
أي: ما نسمّيه غريزةً بلغة العلم الحديث، إنما هو – في أحد أوجهه – إعلانٌ عن أسبقيّة الوجود على العدم؛ عن أحقية الحضور في أن يكون الأصل. العدم، مهما بدا واقعياً، كونُ كلَّ شيءٍ إلى الفناء، يظل حبيس تجربة الوجود، لأن لا معنى للعدم والموت دون وجود يسبقه.
قولنا إنّ "العدم أصل"، كقولنا إنّ الظلَّ يسبق النور؛ فالعدم، شأنه شأن الظل، لا يظهر فاعلًا في الواقع، بل تصوّرٌ ذهنيّ يُدرك بنقيضه–الوجود.
ويمكن الاصطلاحُ على هذه الفكرة بـ «مبدأ بقاء الوجود»، لكن هنا دلالة الكلمة مختلفة مثلما أشرنا فيما سبق، فهي ليست استدلالًا منطقيًا صرفًا، بل هي حجّة عقلية، أقرب إلى البداهة، تخرج من تجربة الإنسان في العالم وتأملها، والكل متأمل، لكن القليلَ من يتأمّلون في تأمُّلهم!
هذه الحجّة – إن شئتم – لا تدل على أسبقيّة الوجود من الناحية الزمنية، ولا تدل على حدوث العالم، بل هي تذهب أبعد من ذلك، إلى بناء شبكة مفاهيم تعبر وتشير إلى أن الحياة بما هي حياة، شيئًا مثيرًا للدهشة منذ انبثاقها.
ولا نقف عند هذا الحد، بل نذهب إلى أبعد من ذلك، في التأمل في إرادة البقاء والغريزة وإرادة الخلود، التي نعرف أن العلم أخذ شوطًا مُعمَّقًا في فهمها. لكن أؤمن بأن الأسئلة تسبق المعرفة وتوجّهها. وهذا السؤال – بسبب طابعه الفلسفي، والذي لم يُطرق له من الزاوية التي أشرنا إليها – يُعدّ ولادةً لمفهوم دلالي جديد: أن الوجود، بإرادته المتأصّلة، هو الأصل، لا العدم.
وهذه الإرادة ليست خوفاً من الموت، أو الفناء أو العدم، بل هي تعبيرٌ جليٌّ عن انسجام الموجودات مع الأبد!
***
خالد اليماني

قبل بضعة عقود، كنا نقرأ الكتب بتمعن، نخوض نقاشات طويلة دون مقاطعة، ونجد متسعًا للتأمل في صمت. أما اليوم، فقد أصبحت حياتنا سريعة، متشظية، ومُستباحة. في قلب هذا التحول تقف شركات التكنولوجيا العملاقة: غوغل، فيسبوك، وأمازون. هذه الشركات لم تكتفِ بتحويلنا إلى مستخدمين، بل جعلتنا وقودًا لآلة اقتصادية ضخمة، تحوّل كل لحظة من حياتنا إلى بيانات تُباع وتشترى.
لكن الأمر لا يقتصر على مجرد جمع البيانات أو انتهاك الخصوصية، فهذه الشركات تعيد تشكيل وعينا وسلوكنا بطرق أكثر عمقًا مما نتصور، كما أشار المفكر الألماني العميق بيونغ تشول هان، الذي يرى أن هذه العولمة الرقمية تسطّح الفكر، وتقتل التأمل، وتحوّل الإنسان إلى كائن متعب، غارق في بحر من المعلومات المبعثرة، دون قدرة على الغوص في المعنى الحقيقي للحياة.
تجزئة العقل وفقدان العمق
قبل عصر الإنترنت، كان الإنسان قادرًا على التركيز لساعات، سواء في قراءة كتاب، أو في كتابة مقال، أو حتى في تأمل الطبيعة. أما الآن، فنحن نقفز بين عشرات النوافذ والتطبيقات، ننتقل من إشعار إلى آخر، نقرأ الأخبار في عجالة، ونستهلك المحتوى كما لو كان مجرد وجبات سريعة.
غوغل، بفلسفتها القائمة على سرعة الوصول إلى المعلومة بدلًا من فهمها، جعلتنا نبحث عن إجابات جاهزة بدلًا من طرح الأسئلة العميقة. أما فيسبوك، فقد حول حياتنا إلى سلسلة من المنشورات السطحية، تغذي الحاجة إلى الإعجاب أكثر من الحاجة إلى الفهم. وأمازون، فبإغرائها الدائم لنا بالاستهلاك الفوري، جعلت كل شيء متاحًا بكبسة زر، لكنها في المقابل جرّدت الأشياء من قيمتها العاطفية، وأفقدتنا متعة الانتظار والتطلع.
الإنسان المستباح: حين تصبح حياتنا منتجًا
إن كان القرن العشرون قد شهد تحوّل الإنسان إلى ترس في آلة الإنتاج الصناعي، فإن القرن الحادي والعشرين جعله مجرد منتَج رقمي، تُستخرج منه البيانات ليعاد بيعها. فيسبوك لا يقدم لك منصة مجانية للتواصل بقدر ما يحوّلك إلى مُنتَج يبيعه للمعلنين، أما غوغل، فهي تعرف عنك أكثر مما تعرفه عن نفسك، وأمازون، فتراقب عاداتك الشرائية بدقة تجعلك مكشوفًا بالكامل.
كما يحذّر بيونغ تشول هان، فإننا دخلنا مرحلة جديدة من “الرأسمالية الرقمية”، حيث لم نعد نعمل لصالح رؤسائنا فقط، بل أصبحنا نعمل بلا وعي لصالح خوارزميات ضخمة، تستهلك طاقتنا العقلية، وتجعلنا متصلين دائمًا، غير قادرين على الانفصال أو الاستراحة.
مرضى العصر الرقمي: إجهاد مستمر دون راحة
إنسان اليوم ليس فقط متعبًا، بل يعاني من إرهاق لا مرئي. نحن لم نعد نعيش وفق إيقاع الطبيعة، بل وفق إيقاع الإشعارات والتنبيهات والرسائل الفورية. كل لحظة صمت تبدو وكأنها “وقت ضائع”، وكل محاولة للابتعاد عن الشاشة تُشعرنا بالذنب.
منصات التواصل الاجتماعي لا تمنحنا سعادة حقيقية، بل تدفعنا إلى سباق لا ينتهي من المقارنات، حيث نرى حياة الآخرين كأنها أكثر إشراقًا، فيما نشعر بأن حياتنا ناقصة. أما الإدمان على التسوق الإلكتروني، فقد حوّلنا إلى كائنات تلاحق التخفيضات دون حاجة حقيقية، فيما تزداد المخلفات الإلكترونية والتلوث البيئي.
هل يمكن الهروب من هذا الفخ؟
قد يبدو العالم الرقمي قدرًا لا مفر منه، لكن الوعي بهذه المشكلة هو الخطوة الأولى لمقاومتها. لا أحد يطلب منا أن نهجر الإنترنت تمامًا، لكن علينا أن نستعيد العمق المفقود:
1. القراءة ببطء: بدلًا من التهام الأخبار بسرعة، حاول أن تقرأ كتابًا بتمعن، بعيدًا عن التشتيت.
2. تقليل الإشعارات: أعد ضبط هاتفك ليعمل لصالحك، لا لصالح الشركات التي تلاحق انتباهك.
3. التواصل الحقيقي: استبدل بعض محادثاتك الرقمية بلقاءات وجهاً لوجه.
4. التأمل والفراغ: لا تخف من لحظات الصمت، فهي ضرورية لإعادة ترتيب أفكارك.
5. التحكم في استهلاكك: فكر مرتين قبل أن تشتري شيئًا لمجرد أنه ظهر لك في إعلان.
العالم الرقمي ليس شرًا مطلقًا، لكنه مصمم ليسلبنا انتباهنا ووقتنا. وإذا لم ننتبه، فقد نصبح كائنات متعبة، متصلة دائمًا، لكنها فارغة من الداخل.
الآن، السؤال لك: هل ستسمح لهذه الشركات أن تحدد كيف تفكر وتعيش؟ أم أنك ستستعيد السيطرة على حياتك؟
***
ذ. يونس الديدي - كاتب مغربي متخصص في تحليل الخطاب

 

في المثقف اليوم