قضايا

تقويض البنى الأخلاقية والدينية والثقافية في المجتمعات العربية

ثمة صوت خافت، أشبه بطقطقةٍ مستمرة، لا نكاد نسمعه ولكننا نرى آثاره كل يوم. إنه ليس قنبلة تنفجر، ولا انقلابًا عسكريًا، ولا استعمارًا ناعمًا. بل هو شيء أشد خبثًا، وأكثر صبرًا: نظرية التورمايت، أو النمل الأبيض، كما يسميها علماء النفس والثقافة الحديثة.

هذه النظرية لا تتحدث عن هدمٍ مباشر، بل عن تقويضٍ تدريجي، خفي، صامت. كما يفعل النمل الأبيض حين يدخل إلى عروق الخشب، لا يترك أثراً في الظاهر، لكنه يلتهم العمق، حتى إذا ما انهار السقف فجأة، بدت الكارثة كأنها حدثت في لحظة، بينما كانت في الحقيقة ثمرة تراكمٍ طويلٍ من الهشاشة.

البنية الأخلاقية: التآكل من الداخل

إن الأخلاق في المجتمعات العربية لطالما شكلت السياج الذي يحمي الجماعة من التشتت، والمرآة التي ترى من خلالها نفسها. لكنها اليوم، تحت ضغط الحداثة المشوهة، تشهد تآكلاً بطيئًا.

لم يعد الصدق فضيلة، بل سذاجة. ولم تعد الأمانة واجبًا، بل ضعفًا في “الذكاء الاجتماعي”. يتسلل النمل الأبيض إلى مفاهيم مثل “النية الطيبة”، “الحياء”، “النخوة”، فيحوّلها إلى رموز لعصر بدائي يجب تجاوزه. وفي هذا التغيير، لا يأتي العدو من الخارج، بل من داخل العقول التي باتت ترى القيم عبئًا لا درعًا.

إنها نظرية التورمايت تعمل في صمت: تغيّر المفاهيم لا بالقوة، بل بالاعتياد. تجعل الكذب مقبولاً ما دام "ذكياً"، وتُفرغ مفاهيم الإيثار والتكافل من معناها عبر لغة جديدة تعلي من الفردانية على حساب الجماعة.

الدين: الطقوس دون الروح

الدين، في قلب المجتمعات العربية، لم يكن يومًا مجرد منظومة شعائر، بل كان نسيجاً روحياً ومعرفياً يعيد صياغة الحياة. ولكن، تحت مطارق العولمة، تحول الدين عند البعض إلى ملصقٍ شكلي، وفي أحيان أخرى إلى أداة سياسية، تُستخدم لتبرير المصالح، لا لإحياء الضمائر.

النمل الأبيض هنا ليس هجومًا على الدين من الخارج، بل تزييفًا له من الداخل. تحويل المساجد والكنائس إلى مسارح للخطابة الجوفاء، واستبدال التأمل في معنى الصلاة بالحرص على نقل صورها. الدين الذي يُفترض أن يكون ثورة على الظلم، يُعاد تشكيله ليصبح مخدّرًا لوعي الناس، أو قيدًا على حريتهم في التفكير.

إنها ليست حربًا على الله، بل على صورة الإنسان الذي يعبده. على ضوء الرحمة والعدالة الذي حمله الدين، يتم التهام روحه قطعةً قطعة.

الثقافة: من المأثور إلى المستورد

الثقافة، في معناها الأصيل، ليست ترفاً، بل هي بنية تحتية للوجدان. لكنها أصبحت اليوم، تحت تأثير نظرية التورمايت، مجرد استهلاك لصور الآخرين. لم نعد نروي حكايات الجدات، بل نتلقى سرديات "نيتفلكس". لم نعد نحتفل بإنشاد الموشحات، بل نرقص على أنغام مقاطع "الترند".

نعم، التورمايت الثقافي لا يحرق الكتب، بل يجعلها غير مقروءة. لا يهدم المسارح، بل يحوّلها إلى صالات عرض للسطحية. وبدلاً من أن تكون الثقافة مرآة للنفس، تصبح قناعًا يخفي الفراغ.

أسوأ ما في هذا النمل أنه لا يُرى، لأنه يتسلل من خلال اللغة، ومن خلال القيم الجديدة التي تأتي مموّهة بلون التقدم والانفتاح، لكنها في الحقيقة لا تحمل إلا التكرار، والذوبان، وفقدان الهوية.

بين الوقاية والانهيار: هل من سبيل؟

ما العمل؟ كيف نمنع هذا النمل من ابتلاع جدران الروح؟ هل نعيد بناء الحصون؟ أم علينا أن نصنع مضادات جديدة تناسب الزمن؟

الجواب ليس في الرفض الأعمى للحداثة، ولا في الانغلاق داخل قوقعة الماضي. بل في التمييز بين ما هو خشب حي وما هو خشب مسموم. في إعادة إحياء منظومة القيم بروح جديدة، لا تكرارًا لشكلها القديم، بل ترجمة عصرية لمعانيها الأصلية.

نحتاج إلى إعلام لا يغذي الاستهلاك بل يوقظ الوعي. إلى تعليم لا يلقّن بل يحرر. إلى فكر ديني يعيد للروح بوصلة التوازن، لا خطاب التهديد. إلى ثقافة تحفر في الذاكرة وتبني في المستقبل.

خاتمة: صوت النمل لا يُسمع، لكن أثره لا يُنكر

ما أصعب أن تنهار مدينة دون قصف. أن تذبل شجرة دون أن تُقطف أوراقها. أن يختفي المعنى دون أن يُسرق. ولكن هذا بالضبط ما يفعله النمل الأبيض حين يسرق الأخلاق والدين والثقافة من الداخل.

ربما آن لنا أن ننصت جيداً، لا لأصوات الهتاف والضجيج، بل لذاك الصوت الخافت في الزوايا المنسية: طقطقة التحلل البطيء.

فإن أردنا أن ننهض، لا بد أن نحفر عميقًا، نزيل النمل، ونعيد للخشب صلابته... وللروح ضياءها.

***

مجيدة محمدي - باحثة تونسية

سبق للمخرج المصري صلاح أبو سيف أن أثار مسألة الأصالة بالنسبة للسينما، وهل يتعلق الأمر بفن يخاطب الميل الإنساني لرؤية آمال البشر وآلامهم، وبالتالي يمكن "تذوقه"، أم لا يعدو الأمر كونها صناعة، تلبي مطالب التسلية، وإغراق الجمهور في عوالم هروبية تُنسيه واقعه المثقل بالملل؟

ربما كانت البداية المحرجة للسينما كوسيلة تسلية رخيصة، سببا في إثارة الاشمئزاز. إلا أن الاختراع الجديد سرعان ما تغلغل في جوانب الحياة الإنسانية، ونافس رواد قاعاته عشاق المكتبات والمسارح. لا يمكن بالتالي إنكار التأثير العميق للسينما في العصر الحديث، فقد ينسى المرء أول كتاب قرأه، لكنه لا ينسى أبدا أول فيلم شاهده. (1)

يولد الفيلم ثمرة تكامل عناصر متعددة: الممثل، والحوار، والمنظر، والموسيقى؛ بالإضافة إلى ما استحدثته الكاميرا من حركة، وزوايا تصوير، ومؤثرات بصرية. كل هذه العناصر يديرها المخرج بأسلوب تناسب وتوازن وإيقاع، يجعل من الفرجة مصدر متعة، وتوليفة حاسمة لتحقق الفهم وتلقي الرسالة. بهذا المعنى يكون للسينما دور في مخاطبة المُشاهد برؤية فنية ورسالة جمالية، يتخطى بفضلها حدود ذاتيته الشخصية إلى قضايا العالم، وهموم الإنسانية من حوله.

هل يُعزى إذن نجاح أغلب الأعمال السينمائية إلى تحقق الرؤية الفنية والرسالة الجمالية اللتين استشعرهما جمهور متذوق؟

ترتبط الإجابة عن السؤال بكيفية تذوق الجمهور للعمل السينمائي، واستكشاف أبعاده الجمالية. والمسألة هنا لا علاقة لها بنوعية الأفلام، يقول صلاح أبو سيف، إذ يمكن للأفلام الهروبية أو أفلام التسلية المجردة أن تكون مثقفة جدا إذا روعي في صناعتها الذوق الرفيع. إن الأمر يتعلق بإشاعة معايير جمالية، تغذي المزاج الثقافي العام، وتتيح تبسيط مفردات العمل الفني بشكل يسمح للجمهور بتحديد نقاط القوة أو الضعف، ومدى جمالية أو تدني مستوى الجمالية فيما يتلقاه داخل قاعات السينما. 

عموما يمكن تصنيف المشتغلين داخل الحقل السينمائي إلى فريقين:

فريق يراعي الذوق العام، ويتحرك بكاميرته داخل المعايير والأنماط السائدة في مجتمعه. وحتى إن تمتع برؤيا ابتكارية متجددة فهو يعمل على إرضاء جمهوره. وتكون سمة هذه الأعمال في الغالب هي التكرار والمشابهة، مما يدفع الناس للعزوف عنها لما في النفس من ميل إلى التجديد والمغايرة.

أما الفريق الثاني فغير مهتم بإرضاء الجمهور، بل هدفه هم تطعيم الذوق العام بإنتاجات مبتكرة وجريئة، تحرك الوهم السائد، وتنفض عن الحياة الفنية مظاهر الجمود والنمطية. لذا عبّر بعض المخرجين صراحة عن رفضهم لقيود السينما التقليدية التي تنحاز بشكل سافر للمتفرج "الكسول". يقول المخرج المصري محمد خان: عامة أنا لا أفكر في المتفرج، هل الرسام يفكر فيمن ستعجبهم لوحته؟

إلى جانب الآلة الدعائية، التي يمكن أن تكون مضللة في بعض الأحيان، يعتمد تذوق العمل السينمائي على المعايير الجمالية التي يُرسيها النقد المبسط؛ أعني النقد الذي يتلقاه عموم الناس في الصحف والمجلات الأسبوعية. تساعد الآراء التي تطرحها أقلام نقدية وصحفية متخصصة في تدريب الجمهور على التقاط عناصر محددة داخل العمل الفني، لكشف غموضه، وإضاءته من الداخل. وفي حالة التدريب المتكرر يحقق المتفرج ما يسميه يوري لوتمان (الانفعال المزدوج)، بمعنى أن ينسى المرء أن ما يراه هو محض خيال، وفي نفس الوقت ألا ينسى ذلك. ففي عالم الفن وحده، يقول لوتمان، يستطيع الإنسان أن يحس بالذعر أمام جريمة ما، متذوقا في نفس الوقت مهارة أداء الممثلين. (2)

يشكل الانطباع جوهر التذوق في بدايته، حيث يُعبّر المتلقي عن رفضه للعمل أو قبوله من خلال تفاعل ذاتي تحكمه المزاجية، والبيئة الاجتماعية، ورواسب الذوق القديم التي شكلت مخزونه الثقافي. إن تلقيه للعمل السينمائي قائم على الإعجاب، والاندماج اللاشعوري في بيئة العمل الزمانية والمكانية، وتقدير المعاناة الإبداعية للإخراج المبذول في هذا العمل وفق رؤيا شمولية لا تراعي الأجزاء والمفردات.

حين يحقق العمل الفني إحساسا بالرضا المشترك بين الفنان والجمهور المتذوق، تحدث حالة من الرغبة في تكرار المشاهدة، أو التجربة الجمالية إن صح التعبير. يعيد المتلقي مشاهدة العمل مرة أخرى، فيجرب أحاسيس، ويكتشف أطرا وعلاقات فنية لم يقف عندها في المرة الأولى. يبلغ المتلقي في هذه الحالة مرحلة الاستمتاع بالعمل الفني، وهي حالة راقية تشحذ إدراكه الجمالي، وتحرره من الأذواق القديمة والمتعارف عليها، وبالتالي تسهم في تغيير مزاجه الثقافي.

وتؤدي معاودة التفاعل مع نفس العمل الفني مرات عديدة إلى امتلاك رأي خاص، والوقوف على عتبة النقد الذي يصدر الأحكام الجمالية، لكن ليس وفق معايير وأدوات منهجية ونقدية، وإنما بالعودة مرة أخرى إلى قناعات ومعتقدات جرى تشكليها سلفا. يقول آلان كاسبيار:" وجود السمات الجمالية في أي فيلم مرتبط إلى حد ما بمعتقداتنا. فحيوية بعض الأفلام مرتبطة بالمعتقدات السائدة التي تشمل أفكارا من قبيل: الخير ينتصر في النهاية، والجيل الأصغر يستطيع أن يعيش عيشة أفضل لو نبذ أخلاق الجيل الكبير، ومفتاح النجاح هو التعليم الجامعي، والزواج لا بد منه لإقامة حياة متكاملة."(3)

يستلزم تذوق السينما برأي آلان كاسبيار، فهما خاصا للمادة الأساسية للفيلم، أي العناصر السمعية والبصرية التي تؤثر في قدرات المتفرج الإدراكية والانفعالية. ذلك أن الأثر الجمالي لا يتحقق إلا بتقييم تلك العناصر، كالمنظر وحركة الكاميرا والمؤثرات البصرية، في تفاعلها مع بعضها، باعتبارها المسؤولة عن إخراج الفيلم إلى حيز الوجود.

من بين المؤثرات التي يُنبه كاسبيار إلى جماليتها العالية: إضفاء شخصية مميزة على الكاميرا نفسها في أفلام الرعب. لقد استُخدِم المكان خلف الكاميرا لجذب انتباهنا للمنطقة التي وراءها عبر إكسابها حضورا شخصيا. تبدو الكاميرا كأنها شخص حقيقي، يتابع الأحداث الجارية في الفيلم وهو في خفية عن الأنظار. لذا فجو الغموض والرهبة في أفلام الرعب ينتج عن شخصية الكاميرا.

 جمالية أخرى يكشفها الحوار الذي ينقل الممثلون من خلاله نوايا شخصياتهم ومشاعرها ورغباتها وأفكارها بطرق متنوعة.  هذا الحوار يلعب دورا أساسيا في كشف الموقف أو دفع الحبكة إلى الأمام أو تطوير الفكرة. غير أن له وجها آخر من الناحية الجمالية، وهو الحوار كخاصية صوتية منعزلة عن المعنى. فالممثل يمكنه توصيل الكثير عن شخصيته وموقفه في الفيلم بخصائص للصوت من قبيل: الشدة، والطبقة، والنسيج، والإيقاع. كما أن لغة الجسد وسيلة أخرى للتوصيل، حيث المشية، والإيماءات، والمسافة التي يحددها الممثل بينه وبين سائر الشخصيات، تعبر عن المشاعر والعلاقات والمواقف السلوكية.

وتمنح زاوية التصوير أبعادا جمالية، و"رسائل" تتنوع وفق الهدف الفني للمخرج.  حيث أن زاوية التصوير القياسية التي تقترب من رؤيتنا اليومية للأشياء لها وظيفة أخرى هي تقديم وجهات النظر المختلفة، إذ تقدم كثير من الأفلام وجهة نظر المتفرج الخارجي فقط بوضع الكاميرا، وبالتالي المتفرج، موضع المتصنت خفية على الحدث، كي نرى كيف يبدو العالم في عين امرئ ما وفق مزاجه أو حالة وعيه.

بالإضافة إلى المؤثرات البصرية، يسهم المكان الفيلمي، والزمان الفيلمي بأصنافه الثلاثة (درامي وطبيعي وتأثيري) في تنسيق الأحداث للتأثير على إحساس المتفرج، وانتزاع التجاوب مع الرؤية الفنية التي يتعمدها المؤلف منذ البداية. ومجموع هذه القدرات هو ما يتيح للمتلقي تحديد السمات الجمالية للفيلم، وقراءته بشكل أكثر نضجا وواقعية.

يحيلنا تذوق العمل السينمائي على سؤال أكثر أهمية، خاصة في واقعنا الثقافي العربي المعولم بشكل غير مسبوق، ألا وهو المتعلق بمدى توفر ثقافة سينمائية، تشرح أصول الفن وقواعده، وآثاره على المستويين الفردي والجماعي. فقد أثبتت التجارب ما تمتاز به المؤثرات البصرية من قدرة على الاستهواء، وصعوبة تعديل التأثيرات الناتجة عن المشاهدة السينمائية، وما يترتب عن نقلها إلى الواقع من أحداث ومآس اجتماعية. نستحضر هنا على سبيل المثال حادثة إطلاق النار في مدرسة ثانوية بولاية كولورادو الأمريكية سنة 1999، والتي أدت إلى مصرع ثلاثة عشر شخصا وإصابة عشرين آخرين بجروح. كان القاتلان يعيدان مشهد إطلاق النار الهستيري في فيلم "ماتريكس" الذي قدمته الرؤية الإخراجية ضمن مشاهد أخاذة تشبه رقصات الباليه!

تحفز المآسي المماثلة التي تتكرر بين الفينة والأخرى، وعينا بضرورة التحكم في مسارات التذوق السينمائي، والفني بشكل عام، لدى الصغار والشباب، وضبط التأثير الذي تمارسه الأفلام، خارج نطاق وعينا وبأساليب ماكرة، على عالم الواقع.

إن الارتقاء بالذوق السينمائي يحقق ما يمكن أن نعتبره استخداما واعيا للأفلام في الحياة المهنية واليومية، من خلال إعطاء الأولوية للتجربة الإنسانية، وتشكيل هوية متوازنة بين الواقع وعالم السرديات المرئية.  ولعل ذلك ما رمى إليه المخرج الإيطالي فيديريكو فيلليني بقوله: إن الحياة قصيرة، وأملي هو أن يكون بين تلك الأفلام صور. رؤيا خالدة للعالم بما أنني لن أكون كذلك. وهذا شعور يشقُّ عليّ وصفه. وهو إمكان أن تشارك العالم في رؤياك للعالم.

***

حميد بن خيبش

.....................

المصادر:

1- صلاح أبوسيف: السينما فن.

2- يوري لوتمان: مدخل إلى سيمائية الفيلم. ص28

3- آلان كاسبيار: التذوق السينمائي. ص88

عندما يسألنا أحد "منْ أنت؟"، نجيب بتسميات متعددة مثل أسيوي، ذكر، نباتي، طالب. هذه التسميات يسهل فهمها وتساعد الآخرين لتوصيفنا بسرعة. لكن هذه الوصفات تلامس السطح فقط. انها تخبرنا عن سمات مادية عامة او أدوار اجتماعية او خيارات فردية، لكنها حقا لا تغوص في أعماق السؤال: ماذا يعني أنت؟ او بشكل عام، ماذا يعني حقا ان تكون انسانا؟ هل نحن فقط كائنات حية، ام ان هناك ما هو أكثر – مثل روح او هناك أساس آخر عميق لوجودنا؟ هل نحن نُعرّف بالعلاقات التي نبنيها، بأفعالنا، او بإمكاناتنا؟ ادراك ما يعنيه ان نكون اناسا يؤثر في الكيفية التي نتعامل بها مع أنفسنا ومع الآخرين، وكيف نبني المجتمع، وكيف نتفاعل مع التكنلوجيات الناشئة مثل الذكاء الصناعي. هذه المقالة تنظر في أبرز مظاهر كينونة الانسان عبر طرح حجج أساسية مستقاة من مختلف الفلاسفة.

هل نحن أكثر من مجرد أجسام؟

أحد أكبر الأسئلة حول طبيعة الانسان هو ما اذا كنا كائنات مادية خالصة ام ان هناك شيء غير مادي يحدد هويتنا. لو انت تتصور تناولك لمانجو ناضجة. انت سوف تتصور لونها الأصفر وتتذوق حلاوتها من خلال التجارب الذاتية "لرؤية الاصفر" و "تذوق الحلاوة". هذه التجارب وغيرها توفر الاساس لما يسميه الفلاسفة منذ ديفد شالمر بـ "مشكلة الوعي الصعبة". هذه المشكلة تسأل، "كيف ولماذا تنتج عمليات الدماغ تجارب ذاتية؟" بدلا من مجرد ردود أفعال لحوافز جسدية/ ميكانيكية غير مجربة.

اولئك الفلاسفة الذين يجادلون لتأييد التوضيح المادي الخالص – اُطلق عليهم الماديون – يشيرون الى ارتباط قوي بين حالة الدماغ والحالات الذهنية. لنتخيّل في كيفية وقوعنا في حالة إغماء تام بسبب التخدير، او كيف نتأثر بشدة بسبب إصابات الدماغ، او المخدرات. هذه الأمثلة تشير بقوة الى ان حياتنا العقلية هي نتاج بايولوجي، وعلم الأعصاب يؤكد هذا ببيان ان أفكارنا وعواطفنا وتصوراتنا ترتبط بفعاليات معينة للدماغ في مناطق محددة منه. البعض يرى هذا دليلا مقنعا بان عملياتنا الذهنية هي ببساطة أحداث مادية معقدة. لكن الناس لا يتفقون كلهم على هذا. النقاد يجادلون ان محاولة اختزال الوعي بفعالية الدماغ وحده يتجاهل شيئا هاما جدا – التجارب التي تشكل أذهاننا. هذه لا تشبه فعالية الدماغ  التي هي مرتبطة به، فكيف يمكن ان يكون هذا النشاط؟ كذلك، لا توجد صفات مادية للمحتويات الذهنية، لذا بأي معنى هادف يمكن ان يقال بانها مادية؟

لمعالجة الاختلاف، يتخذ البعض موقفا ثنائيا، فيه عدة أشكال. تؤكد ثنائية الخواص بانه مع ان كل شيء مصنوع من مادة، لكن الدماغ يمكنه امتلاك كلا الصفتين الذهنية والمادية. ومن جهة اخرى، هناك ثنائية الجوهر التي تؤمن بان الانسان يتألف من جوهرين اثنين متميزين: الجسم المادي، والذهن غير المادي. بعض ثنائيي الجوهر، مثل ديكارت (1596-1650)، يذهب أبعد من ذلك ويضع الذهن في روح خالدة مستقلة عن الجسد بحيث تكون الروح هي مقر التجربة الذاتية.

ان مفهوم الروح ارتبط بعدة مفاهيم ميتافيزيقية وأخلاقية. في الهندوسية، مثلا، يرتبط مفهوم الروح  بمفهوم الكارما وإعادة الميلاد. هنا يُنظر الى الروح كوجود مستمر ينتقل من جسم الى آخر. يعتمد نوع الجسم الذي يذهب اليه سواء كان انسانا او شيء آخر، على تراكم الكارما. هذه العقيدة توفر ارشاداً أخلاقيا للعديد من الناس، لأن الافعال الفاضلة ستؤدي الى نتائج جيدة في حياة المستقبل، بينما الافعال السلبية ستقود لمعاناة في المستقبل. العملية تشبه إستعمال الآخرين لمفهوم الروح .

الانسان ككائن عقلاني

احدى الأفكار الشائعة حول ماهية الانسان المتفرد هي ان ما يميز الانسان بعيدا عن الحيوانات الاخرى هو قدرته على التفكير العقلاني. طبقا لهذا المنظور، الخصائص المحدِدة للانسانية هي القدرة على التفكير العقلاني المجرد وما ينتج عنه من فعاليات مثل اللغة والثقافة والايديولوجيات والرؤى العالمية.

هذه الرؤية لها جذور تاريخية عميقة، وتُنسب الى فلاسفة بارزين مثل ارسطو وديكارت وعمانوئيل كانط.

ارسطو مثلا، ميّز الانسان عن الكائنات الاخرى بمقدرته على اللوغوس "العقل". طبقا لارسطو، نحن نمتلك قدرة عقلانية متفردة لا تمتلكها الحيوانات الاخرى. الحيوانات تمتلك ارواحا حساسة تسمح لها بممارسة الاحساس، وبالتالي المشاركة في العالم: لكن الانسان لديه كل من التصورات الحسية والفكرية التي تسمح له بفهم ما هو جيد أخلاقيا من خلال استعمال العقل. الحيوانات لا يمكنها ان تكون جيدة او سيئة أخلاقيا لانها تفتقر الى المظهر العقلاني للتفكير الذي يجعلها واعية أخلاقيا.

هذه الرؤية "العقلانية" تدعم الاستثنائية الانسانية وهي الفكرة بان الانسان مختلف جوهريا، وعادة متفوق على الأشكال الاخرى للحياة. ديكارت فصل الانسانية عن الكينونات الاخرى، مجادلا انه من بين كل المخلوقات الارضية فقط الكائن البشري لديه الوعي. حسب رؤيته، الحيوانات "الدنيا" ليست الاّ مكائن طبيعية خالية من التجربة. انها تفتقر الى أي امكانية للفعل الاخلاقي لأنها تفتقر الى اللغة وبالتالي للقدرة على التفكير – لأنه حسب ديكارت انت تحتاج اللغة لتمتلك العقل،وتحتاج العقل لتمتلك الروح، والروح لتمتلك ذهنا مدرِك.

تاريخيا، نُظر الى العقلانية ايضا باعتبارها مقتصرة على جماعات معينة من البشر، استبعدت المرأة والرجال ذوي المنزلة المتدنية. فمثلا، ارسطو الذي كان ارستقراطيا، اعتقد ان بعض الناس ليست لديهم قدرات او ان قدراتهم محدودة دائما في تحقيق العقلانية التامة، خاصة المرأة و "العبيد الطبيعيين". هو جادل بانه رغم ان هاتين الجماعتين يمكنهما التصرف في قرارات عقلانية، لكنهما تفتقران الى عنصر التفكير المنظم الكامل ويمكنهما فقط اتّباع الأوامر، ولا يمكنهما ايضا فهم الخير الأخلاقي. فلاسفة النسوية جادلوا ان هذا النوع من التفكير لا يتصل بالبحث عن الحقيقة، وانما هو حول تركيز هياكل السلطة الأبوية وتعزيز الانحياز الذكوري. هم يجادلون بان هذه العقيدة النمطية تقيّد الإمكانيات والفرص المتوفرة للافراد بالارتكاز على جنسهم. الاستثنائية البشرية هي ذاتها مرتبطة بمركزية الانسان وبالنزعة النوعية التي ترى ان الانسان ذو أهمية كبيرة ومتفوق على أشكال الحياة الاخرى. هذه الرؤية الهيراركية بدورها تبرّر الهيمنة والإخضاع لاولئك الذين اعتُبروا "أقل من الانسان".

هذا ليس فقط وصف مفترض لطبيعة الانسان، انه يحمل باستمرار مضامين معيارية تعزز الامتيازات و هياكل السلطة القائمة . الادّعاء بانه "لتكون انسانا هو ان تكون عقلانيا" هو مثير للإشكالية، لأنه يفضل جنس معين او عرق او طبقة، ويستبعد جماعات معينة مثل الاطفال والمتخلفين ذهنيا، بالاضافة الى استبعاد الحيوانات من الإعتبارات الاخلاقية.

الانسان كجزء من الطبيعة

هناك فكرة مضادة، وهي ان الانسان ليس خاصا ابدا – على الاقل ليس بالطريقة التي نتصوره بها. التوضيحات الطبيعية تعيد تكامل الفرد الانساني الى العالم الطبيعي، اما كنظام مادي معقد، او كجزء من الكون الشامل. الشمولية panpsychism هي العقيدة بان أي مادة لها شكل من الوعي . هذا لا يعني ان الصخور والذرات لها أذهان مثلنا وانما ان هناك مستوى أساسي من الوعي او التجربة حاضرة في كل الأشياء. هذا المنظور وغيره من المنظورات الطبيعية يؤكد على الاستمرارية بين الانسان والانواع الحية الاخرى ويرفض فكرة الإنقسام الأساسي بينهما. وهكذا خلافا لديكارت نجد ديفد هيوم (1711-76)، في عمله (رسالة في طبيعة الانسان،1739)،يؤكد ان كل من الانسان والحيوان قادران على التفكير والفهم ، هما يختلفان فقط في الدرجة وليس في النوع. باروخ سبينوزا(1632-77) يذهب أبعد من ذلك ويجادل ان الانسان وبقية العالم هما جزء من مادة واحدة – سواء أسميتموها "الله" او "طبيعة" – وان كل شيء في الكون محكوم بنفس القوانين. هو ايضا ينتقد النزعة لإسقاط  الحوافز الشبيهة بالانسان على الطبيعة – مثل القول ان الحيوانات تتصرف بدافع "الانتقام" – مجادلا ان هذه الرؤية البشرية المركزية تشوّه فهمنا.

نحن حتى عندما نقوم بشيء فريد كبشر، مثل قدرتنا على التفكير المجرد، ذلك لا يعني بالضرورة تفوقنا الأخلاقي او اننا يجب ان نمتلك تعاملا أخلاقيا مختلفا. الفيلسوف النفعي جيرمي بنثام (1748-1832) جادل بان الاعتبارات الأخلاقية يجب ان لا ترتكز على المقدرة على التفكير وانما على المقدرة على المعاناة. هو كتب : "السؤال ليس "هل يستطيعون التفكير؟" ولا "هل يستطيعون التحدث؟" وانما "هل يمكنهم المعاناة؟"(مدخل لمبادئ الأخلاق والتشريع،1789). مثل هكذا منظور يوسّع نطاق الاعتبارات الاخلاقية لتضم جميع الكائنات الحية وليس فقط الانسان. مع ذلك، تمديد الاعتبارات الاخلاقية لكل الكائنات الحية يثير ايضا معضلات أخلاقية معقدة . فمثلا، الصناعة الزراعية واجهت اعتبارات أخلاقية في قضايا تربية وتحسين الحيوان بالاضافة الى وجوب التعامل مع استدامة البيئة وتأمين الغذاء.

الانسان كجزء من المجتمع

في كتابه (السياسة) وصف ارسطو الانسان بـ "الحيوان الاجتماعي". في هذه الرؤية، التفاعل الاجتماعي هو الخاصية المحدِدة لنوعنا. نحن في الحقيقة لدينا ميل فطري لتطوير جماعات معقدة تتضمن أنظمة القوانين وتقسيم العمل. فلاسفة آخرون قدموا رؤى لاتزال مستمرة في تحديد فهمنا لطبيعة الانسان والمجتمع. توماس هوبز (1588-1649) كانت لديه نظرة متشائمة معتقدا ان الناس يندفعون ليشكلوا أنظمة اجتماعية طبقا للمصلحة الذاتية والخوف والرغبة بالسلطة.

في ليفياثان (1651) وصف هوبز الحياة في دولة الطبيعة (ما قبل الدولة السياسية) بـ "المنعزلة والفقيرة والسيئة والوحشية والقصيرة" بدلا من إنطلاقها من الإيثار الفطري. وفي نفس الخط من التفكير، عالم نفس الاطفال بورتن وايت يؤكد ان صفة "الأناني" موجودة في الاطفال منذ الولادة، والتي تتجسد من خلال أفعال هو يصفها كـ "انانية صارخة".

وعلى الجانب الآخر لهوبز، جين جاك روسو (1712-78) اعتقد ان الانسان بطبيعته خيّر ورحيم، لكن المجتمع يفسده. تصوّر روسو دولة الطبيعة كدولة مسالمة يعيش فيها افراد منعزلون، جاؤوا مجتمعين فقط عندما تطوّر المجتمع، وهو الشيء الذي اعتبره أصل اللامساواة والشر.

كارل ماركس (1818-83)، ركز على الكيفية التي تصوغ بها العلاقات الاجتماعية طبيعة الانسان، مجادلا ان الناس يُعرّفون بنشاطاتهم الانتاجية وعملهم، وان طبيعتنا تتشكل بالانظمة الاقتصادية والاجتماعية التي نعيش فيها وليس بسبب اننا نمتلك جوهرا ثابتا.

فكرة هوبز في الانسان المدفوع بمصلحته الذاتية قادت الى دفاعه عن الملكية المطلقة، روسو في فكرته عن خيريتنا المتأصلة حفز أفكار الديمقراطية والحرية الفردية، ماركس في العمل قدم نقدا للرأسمالية. كل واحدة من هذه الرؤى تسلط الضوء على مظاهر مختلفة لما نعنيه بالانسان ودور المجتمع في تحديد سلوكه .

خلق انسان جديد

التكنلوجيات الجديدة تدفعنا للتفكير بمعنى الانسان. الهندسة الوراثية والذكاء الصناعي يتحديان الافكار التقليدية. فمثلا، التعديل الجيني يمكن ان يعزز سمات مادية او فكرية في الانسان – لكنه ايضا يطمس الحدود التي تفصل بين ما يشكل الانسان "الطبيعي" وغيره. مثل هذا التعديل الوراثي قد يقود الى تمييز ولامساواة ان لم يُنظم بشكل جيد.

رواية فرنكشتاين لماري شيلي (1818) تسلط الضوء على هذا المأزق – إهمال مخلوق فرانكشتاين من جانب خالقه، حين نُبذ بسبب مظهره وجيناته غير الطبيعية. هذا يُظهر تحيزا محتملا ضد الاطفال المعدلين وراثيا. اذا تم تعريف الناس طبقا لإمتلاكهم وصفة بايولوجية طبيعية، فهذا ربما يؤدي الى استبعاد مثل هؤلاء الاطفال المعدلين وراثيا وحرمانهم من حقوقهم.

قلق آخر يتعلق بخلق ذكاء صناعي بوعي مشابه للانسان او حتى يتفوق على قدرات الانسان الادراكية. اذا كانت أنظمة الذكاء الصناعي تطور وعيا ذاتيا، كيف وأين نرسم الخط الاخلاقي بين الانسان والماكنة؟

ما بعد الانسانية التي تستكشف اتحاد الانسان مع التكنلوجيا، تفترض اننا ربما في يوم ما نحمّل وعينا الى منصات رقمية، وبذلك نتغلب على نواقصنا البايولوجية وربما حتى على الموت. تجربة فكرية قام بها الفيلسوف الامريكي سيدني شوميكر تقدم منظورا حول استمرارية الهوية في مثل هذا التحميل. في هذا السيناريو، ماكنة تمسح المعلومات الشخصية من دماغ شخص وتنقلها الى دماغ آخر. اذا كانت الاستمرارية السايكولوجية تمنح هوية شخصية عندئذ فان الفرد الناتج عن هذا التحويل سيُعتبر الشخص من الدماغ الأصلي. لكن هذه هي المشكلة الرئيسية: افرض انه بينما يتم مسح دماغك ويتم خلق نسخة رقمية منك لكي تُنقل الى دماغ جديد، هناك لحظة عندما لم تكن خصائصك العقلية – افكارك، مشاعرك، وتجاربك –  نشطة ابدا. لذا، هل انت مجرد ميت؟ وهل انت فقط على وشك ان تُبعث فيك الحياة  – ام انهم فقط يعملون نسخة منك؟ الموقف يسلط الضوء على مضامين ميتافيزيقية وأخلاقية معقدة لتحميل الأذهان.

نظرا لهذا النوع من المشاكل، والعديد من المشاكل الاخرى، يستبعد العديد من مؤيدي الاستمرارية السايكولوجية للهوية الشخصية انتقالنا الى الكومبيوتر او من خلاله. هم يزعمون ايضا لكي تكون الهوية الشخصية مستمرة حقا، فان هناك حاجة لأساس مادي لا يتوقف لخصائصنا الذهنية. ان فكرة تحميل أذهاننا الى مركز رقمي ايضا يمثل العديد من التحديات الاخلاقية حول اسئلة مثل، لو نجحت العملية، كيف سيكون دماغنا وجسمنا المادي الأصلي؟ سيبرز هنا سؤال الحقوق والمسؤوليات لهذه الكائنات الرقمية. وكيف نتعامل مع خلق الحياة الرقمية او انهائها؟

هذه أسئلة أخلاقية عميقة تحتاج الى تفكير دقيق من كل من الفلاسفة وعلماء الكومبيوتر. في عالم حيث تتطور التكنلوجيا بسرعة، يمكننا ان نرى ان التحقيق المستمر في طبيعة الانسان اكثر أهمية من أي وقت مضى. وعندما نبحر في التحديات الاخلاقية والسياسية للمستقبل، فهي ليست فقط حول ايجاد أجوبة وانما ايضا حول طرح الأسئلة الصحيحة.

***

حاتم حميد محسن

........................

What does it mean to be human? Philosophy Now, Apr/May2025

على الرغم من الوصف الإشكالي لعنوان المقالة في صدرها الأول، وذلك في أن الدين ليس له رجال؛ ذلك أنه جاء لسعادة البشر كلهم، ولهدايتهم، ولكن يُطلق ذلك الوصف عُرفًا، على من يدعو إلى اعتناقه، ويعرِّف الآخرين بمضامينه وأفكاره، ويبصِّر قليلي المعرفة بذلك الدين عمّا خفِيَ عنهم، ويكشف لهم أبعاد ذلك الدين وسماته الإنسانية التي تنسجم والفطرة السليمة، ويحذّرهم من شرور ما يقومون به من ممارسات اجتماعية يتزيّى بعضها بلبوس الدين، وهي ليست كذلك،..الخ من مهام إنسانية المحتوى تنفع الصالح العام؛ لأنه في الإسلام لا يوجد رجال دين بالمعنى المعروف في بعض الأديان الأخرى، "أي أنّ لهم الحق في أنْ يُحلِّلوا ويُحرِّموا ويفعلوا ما يشاؤون باسم الدين، ولا يُسألون عما يفعلون، ويعتبرون أنفسهم وكلاء عن الله، ويبيعون للناس صكوك الغفران. لا يوجد في الإسلام رجال دين بهذا المعنى، وإنما الذي يوجد في الإسلام علماء دين بمعنى أنهم تخصصوا بدراسة العلوم الشرعية وما يتعلق بها وقضوا جلّ شبابهم في هذه الدراسة حتى نالوا الإجازات العالية فما فوقها بالشريعة الإسلامية، فهم علماء الدين، أو رجال الدين، أو المتخصصون في دراسة علوم الشريعة"[1]

ومن وجهة نظر كثير من العقلاء أيًّا كان انتماؤهم العقدي أو الفكري، ينبغي أن يكون ذلك الداعي على قدرٍ عالٍ من الضبط والالتزام الأخلاقي بتلك الإرشادات والتوجيهات التي يدعو الناس إليها، وهذا ما أشار إليه صراحةً القرآنُ الكريم في قوله: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) [سورة البقرة:44] والظاهر في الآية دلالة التوبيخ لأولئك الذين تصدّوا للدعوة إلى عبادة الله، ولم يلتفتوا إلى أنفسهم بنهيها عمّا نهى الله عنه من سلوكيات وأفعال خاطئة تودي بصاحبها إلى الوقوع فيما حرّمه المُشرِّع، يؤكّد ذلك ما كان لرموز الإسلام الأوائل من التزام بهذا النهج الأخلاقي، فيما ينبغي أنْ يكون عليه الداعي إلى سبيل الخير، من تحلٍّ عمليٍّ بفعل المعروف قبل الحثِّ عليه، وانتهاءٍ عن المنكر قبل نهي الآخرين عنه، ومن الشواهد على ذلك، قول الإمام علي (ع): (إِنِّي وَاَللَّهِ مَا أَحُثُّكُمْ عَلَى طَاعَةٍ إِلاَّ وَأَسْبِقُكُمْ إِلَيْهَا وَلاَ أَنْهَاكُمْ عَنْ مَعْصِيَةٍ إِلاَّ وَأَتَنَاهَى قَبْلَكُمْ عَنْهَا)[2]، أو قوله: (مَنْ نَصَبَ نَفْسَهُ لِلنَّاسِ إِمَاماً فَعَلَيْهِ أَنْ يَبْدَأَ بِتَعْلِيمِ نَفْسِهِ قَبْلَ تَعْلِيمِ غَيْرِهِ وَلْيَكُنْ تَأْدِيبُهُ بِسِيرَتِهِ قَبْلَ تَأْدِيبِهِ بِلِسَانِهِ وَمُعَلِّمُ نَفْسِهِ وَمُؤَدِّبُهَا أَحَقُّ بِالْإِجْلاَلِ مِنْ مُعَلِّمِ اَلنَّاسِ وَمُؤَدِّبِهِمْ)[3]، وبذلك يضمن الداعي تأثيرَ خطابه في الآخرين.. وبخلافه يكون كلامُهُ هواءً في شبك..!! وليس الأمر يقف عند هذا الحد، بل سيكون ثمة تداعيات لهذه الظاهرة، حين يستولي اليأس وخيبة الأمل عند كثيرٍ من الناس ذوي التفكير السطحيِّ المحدود، بزيف تلك المبادئ التي يدعو إليها رجل الدين، فلا يتلمّسون واقع تلك المبادئ السمحاء في تمظهرات خطابه الذي يجلدهم به صباحا ومساءً، فحين يُشيع فكرة أنَّ الدين يدعو إلى التسامح والتعايش السلمي، ويجدونه في بعض المواقف لا يُظهِر سوى التعصّب الديني أو المذهبي، أو تشي عباراته عن نزعة عنصريةٍ أو ذكوريّةٍ، سيفهم هؤلاء المتلقّون لخطابه – عن طريق التعميم في التفكير، أو عن طريق التقصّد في الفهم السطحي لخطابه- أنَّ الدينَ في حقيقته هو ما يظهر في سلوكيات أولئك الدعاة.. فلا تسامح ولا تعايش ولا هم يحزنون..!! أو حين يتحدّث رجل الدين عن ظلامة الدين في تعامل الغرب مع مفاهيمه بتسطيح وانتقائية لأجل غايات تُسوّغ لهم ما يقومون به من استنزاف لموارده أو سياسة إذلال وتركيع لدوله رضوخًا عند مشاريعهم، وفي الوقت نفسه حين تُتاح له الفرصة، يُمارس سياسة الانتقاء التي أدانها عند الغرب، في نسف كل ما لديهم من منجز فكري أو فلسفي أو علمي، وتجريدهم من كل تلك المنجزات المعرفية التي يظهر أثرُها على ملبسه ونظارته أو أبسط الأدوات التي لا يستطيع الاستغناء عنها يوميًّا، فهذا أيضًا يترك الأثر السلبي عند متلقّي هذا الخطاب، ممن كان يظنّ أنَّ رجل الدين يضع قوله تعالى: (اعدلوا هو أقرب للتقوى) نصب عينيه، وهو نتيجةً لذلك سيفصل بين منجزهم الفكري في مجالات المعرفة، وبين الموقف السياسي البراغماتي لقادة تلك الدول، وقد يجهل أساسًا أمثال هذا الداعية من رجال الدين، أنَّ هنالك من مفكّري الغرب ممّن ينتقد سياسة دولهم، وأنَّ شرائح كبيرة من مجتمعهم لا يرضون عن مواقف زعمائهم السياسيين؛ لأنَّ هؤلاء يتوقّعون أنْ لا يوجد ثمّة تفكيك بين المجتمع الغربي وبين قادته وزعمائه، أو بين المنجز الفكري الغربي في مختلف حقول المعرفة وبين سياسة زعماء أو قادة تلك الدول، فالكلُّ عنده سواء..!

وهكذا الأمثلة كثيرة بالإمكان أنْ نجِدَ لها مصاديق مريرة في حياتنا اليوميَّةِ؛ ولذلك نال هؤلاء المُدَّعون من الذمِّ والتقريع من ممثِّلي الإسلام الذين تمثَّلوا الدينَ وعيًا وسلوكًا في حياتهم، وأمثال هؤلاء ليسوا وليد هذا العصر، بل هم في كلِّ عصرٍ ومِصر، ولم ينحصر وجودهم في طائفة من طوائف المسلمين، بل تجدهم في مختلف المذاهب الإسلامية، بل لا يقتصر وجودهم على الدين الإسلامي، بل في كل الأديان، فالآية (أتأمرون الناس...) التي ذكرناها آنفًا، قيل إنها نَزَلَتْ فِي عُلَمَاءِ الْيَهُودِ، وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَقُولُ لِقَرِيبِهِ وَحَلِيفِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِذَا سَأَلَهُ عَنْ أَمْرِ النبي الخاتم: اثْبُتْ عَلَى دِينِهِ فَإِنَّ أَمْرَهُ حَقٌّ وَقَوْلَهُ صِدْقٌ، وفي قبال ذلك لا يتنازلون عن دينهم السابق، بما يدلل على مخالفتهم الفعل للقول[4]..! وتؤكِّد مروياتٌ أخر أنَّ الآية يتّسع مضمونها لينطبق على من تعلّق بعُرى الدين الإسلامي، ولم تُخرِجهم أو تُسوِّغ لهم هذا السلوك المنحرف عن جادّة الصواب، فقد ورد عن النبي (ص وآله) أنه قال: "رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي رِجَالًا تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ قُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ خُطَبَاءٌ مِنْ أُمَّتِّكَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبَرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ وَهُمْ يَتْلُونَ الكتاب[5]، وفي روايةٍ أخرى عن أُسَامَةُ أنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ (أَيْ تَنْقَطِعُ أَمْعَاؤُهُ) فِي النَّارِ فَيَدُورُ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ، فَيَجْتَمِعُ أَهْلُ النَّارِ عَلَيْهِ فَيَقُولُونَ: أَيْ فُلَانُ مَا شَأْنُكَ أَلَيْسَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنِ الْمُنْكَرِ؟ قَالَ: كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ، وَأَنْهَاكُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ[6].

ويحفظُ لنا (نهج البلاغة) نصًّا للإمام علي (ع) يُخاطب أولئك الأدعياء بقوله: (فَلاَ أَمْوَالَ بَذَلْتُمُوهَا لِلَّذِي رَزَقَهَا وَلاَ أَنْفُسَ خَاطَرْتُمْ بِهَا لِلَّذِي خَلَقَهَا تَكْرُمُونَ بِاللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ وَلاَ تُكْرِمُونَ اَللَّهَ فِي عِبَادِهِ)[7] ولقد أحسن العلّامة الشيخ محمد جواد مغنية في التعقيب على هذا النص، بقوله: (وأعجب من ذا وذاك أنَّ فئةً من خلق اللّه يلبسون ثوب العلم والدين، ويطلبون من الناس التكريم والتعظيم باسم الدين، وما حقَّقوا هدفًا حسنا، ولا تركوا أثرا طيبا، بل البعض منهم عدوٌّ مُبينٌ، وأشدُّ ضررًا ممن أشركَ وألحدَ.. إنه يُحرِّفُ تعاليم الإسلام، ويتاجر به، ويدعم البدع والخرافات، ويعمل على زيادة الهُوّةِ بين المسلمين، ويناصر الغزاة من أعدائه، ثم يقول للناس: قَبِّلوا يدي، وأجلسوني في صدر المجالس والمحافل، وادفعوا إليّ أموالكم باسم الدين والقرآن الكريم. واعطف على هذا الضالِّ المُضِلِّ معظمَ الزعماء الزمنيين، ينادي أحدهم بما يريدُهُ الناس، ويقسم أنه يُضحِّي بكلِّ عزيزٍ مِن أجلِهِم، حتى إذا أَدلَوا إليه بأصواتهم، وصار قويا بها وقف مع أعدائهم يفسد عليهم حياتهم، وينهب ثرواتهم.. ومن استمد قوته من الدين ولا يضحي في سبيله فهو منافق دجال، ومن يقوى بالناس وثقتهم، ولا يهتمُّ بمصالِحِهم فهو لصٌّ وخائنٌ.. ولكن يستحيل عليه أن يستمرَّ في هذه الطريق حتى النهاية، فسرعان ما تتضح الرؤية، و يُفتضحُ المبطلون وتذهب الشعارات مع الريح)[8]. والأمر الآخر أنَّ أمثال هؤلاء الأدعياء يقدِّمون الحججَ الجاهزة، لكلِّ من يقف من الدين بصفة عامة موقفًا سلبيًّا، بأنَّ الأديان – ومنها الدين الإسلامي- لا تدعو إلا إلى الكراهية، وإلى تكريس العبودية، والجهل والتجهيل، وإشاعة التعصّب والجمود، عبر هذه النماذج التي تدّعي انتماءها للمؤسسة الدينية لا غير، وبهذا تكون حُجَّتُهم أقوى من باب: (وشهدَ شاهدٌ من أهلها..)

وإذا رجعنا إلى العصر الحاضر، لوجدنا شواهد أُخَر تؤكِّد لنا رفض رجال الدين الذين يرون ضرورة التجديد في الخطاب الديني، سلوكيات أولئك الأدعياء المحسوبين على الدين، ونقف عند خطابات أحد كبار رجال الدين في القرن العشرين – وهو السيد الخميني - في وصفه الانتقاديِّ لسلوك أولئك الأدعياء، بما يكشف نزعة انتقادية لكل من يُسيء للدين عبر ممارسات مغطّاة بالدين، وهي أبعد ما تمتُّ للدين بصلة، وفي الوقت نفسه يوفِّرون على أعداء الدين الجُهدَ في تكوين صورةٍ ظلاميةٍ عن الدين، ولعل واحدةً من نقداته اللاذعة لهم، حين شخّص انغلاقهم الديني على التراث الفقهي دون سواه، وبحسب قوله إنهم (كانوا يعدُّون دراسة اللغة الأجنبية كفرا! ودراسة الفلسفة والعرفان ذنبا وشركا!... لا شك عندي أنّ الأمور لو سارت على هذا المنوال فان وضع علماء الدين والحوزات كان سيؤول إلى حال الكنائس في القرون الوسطى)[9]، ولا يخفى لأحد ما كان لكنائس القرون الوسطى – أو ما يُسمى بمحاكم التفتيش – من أثرٍ مقيت تركته في أذهان ذلك المجتمع إلى يومنا هذا، بما قاد "مارتن لوثر" إلى ثورةٍ في القرن السادس عشر معارضا سلطة الكنيسة الكاثوليكية التي كانت تستخدم سلطتها الروحية لتقويض حرية الفكر والدين، وكشف انحرافها عن تعاليم السيد المسيح، وأن صكوك الغفران والعمليات المالية التي تقوم بها الكنيسة كانت فاسدة وغير عادلة.

وهذه التشخيص النقدي لهذه الفئة من رجال الدين من قبل السيد الخميني لم يكن إلا واحدًا من مواقف كثيرة لكبار العلماء والمفكرين من فقهاء وفلاسفة سبق لهم أنْ مارسوا نقدهم لمن تمظهر بلبوس الدين، وقد حفظ لنا التراث صورًا قريبة من هذا الموقف، منها ما جرى بين الفيلسوف الكندي (ت: 260 هـ) الذي ذكر في كتابه إلى الخليفة المعتصم إشارة طويلة تعرب عن موقفه الانتقادي من رجال الدين، نستخلص منها ثلاثة أمور: الأول أنّ رجال الدين يُسيئون تأويل الفلسفة، والثاني أنّهم يتّجرون بالدين، والثالث التوفيق بين الفلسفة والدين. أما سوء التأويل فيرجع إلى "ضيق فطنتهم عن أساليب الحق، وقلة معرفتهم بما يستحقّ ذوو الجلالة في الرأي والاجتهاد في الأنفاع العامة الشاملة، ولدرانة الحسد المتمكن من أنفسهم" أما التجارة بالدين فلأنهم يُعادون ذوي الفضائل "ذبًّا عن كراسيهم المزوّرة التي نصبوها من غير استحقاق، بل للترؤس والتجارة بالدين، وهم عُدماء الدين. لأنّ من تجِرَ بشيءٍ باعه، ومن باعَ شيئًا لم يكن له، فمن تجِرَ بالدين لم يكن له دين"[10] وهو في كلامه لا يريد سوى أنْ يدفع عن نفسه هجوم رجال الدين، واتهامهم له بالإلحاد، وهي تهمةٌ إنْ ثبتت كان مصير صاحبها الإعدام، وما أكثر الذين سيقوا إلى الإعدام بسبب غلوّ أو تطرّف أو فهمٍ متشنّجٍ للنص الديني يحتكره بعض من يدّعي انتسابه للدين..!

وبهذا يكون الخطأ الذي يرتكبه رجل الدين، ليس مثل الخطأ الذي يرتكبه سواه، فعليه تترتّبُ كثيرٌ من التداعيات التي لا يُحمَدُ عُقباها فيما لو تراكمت، ولم يتصدَّ لها الغيورون ممّن يستشعرون تلك الظلامة التي ستقع على الدين من أفعال أولئك المحسوبين عليه، وفيما يلي نصٌّ آخر للسيد الخميني في ضمن وصيته لطلبة العلم من رجال الدين: (إن مسؤوليتكم جسيمة للغاية.. وواجباتكم غير واجبات عامة الناس. فكم من الأمور مباحة لعامة الناس إلا أنها لا تجوز لكم، وربما تكون محرمة عليكم. فالناس لا تتوقع منكم أداء الكثير من الأمور المباحة، فكيف إذا ما صدرت عنكم ـ لا سمح الله ـ الأعمال القبيحة غير المشروعة، فإنها ستعطي صورة سيئة عن الإسلام وفئة علماء الدين. وهنا يكمن الداء. فإذا شاهد الناس عملاً أو سلوكاً من أحدكم خلافاً لما يتوقع منكم، فإنهم سينحرفون عن الدين ويبتعدون عن علماء الدين، وليس عن ذلك الشخص. وليتهم ابتعدوا عن هذا الشخص وأساءوا الظن به فحسب. إذا ما رأى الناس تصرفاً منحرفاً أو سلوكاً لا يليق من أحد المعممين، فإنهم لا ينظرون إلى ذلك بأنه من الممكن أن يوجد بين المعممين أشخاص غير صالحين، مثلما يوجد بين الكسبة والموظفين أفراد منحرفون وفاسدون. لذا فإذا ما ارتكب بقال مخالفة، فإنهم يقولون إن البقال الفلاني منحرف. ولو ارتكب عطار عملاً قبيحاً، فإنهم يقولون: إن العطار الفلاني شخص منحرف. ولكن إذا ما قام أحد المعممين بعمل لا يليق، فإنهم لا يقولون: إن المعمم الفلاني منحرف، بل يقولون إن المعممين سيئون)[11]. وهو قولٌ يُنبئ عن رؤية له لا تقدّس رجل الدين أو تُبرِّر ما يصدر عنه من سلوكيات أو مواقف لا يجوز القبول بها بحالٍ من الأحوال؛ لأنّها ستكون سببًا لتنفير الناس من الدين، والدين براءٌ ممّا يُراد له أنْ يكون غطاءً لتلك الممارسات. ووفقًا لذلك فقد يكون قائل هذا القول أيضًا مشمولاً بما رصَدهُ من ملاحظات، إذا آمنّا بحرّية الفكر، وأنّه لا توجد خطوط حمراء لكل إنسان غير معصوم من الخطأ، فمن الطبيعي أنْ يقع فيها كل شخص له مداركه المحدودة في فهم النصِّ الديني، وله قراءته الخاصة للتراث الديني، بما يجعل الجميع على محكِّ النقد العلمي والأخلاقي، وإنْ ترفَّع بعضهم الاعتذار عمّا صدر عنهم، فلم نجد ممّن يُحسب على هذه الفئة من مختلف الفرق الإسلامية - إلا القليل - مَن يعتذر لجمهوره فيما قاله أو فعله، بما فيه من إثارة طائفية أو اصطفاف حزبي، أو تصريحات غير موزونة تشي بنزعة وثوقية خارج نطاق العصر، ونظرة يقينية مُطلقة في مسائل ليست من اختصاصه، بما يكشف عن عقدة نرجسية مُزمنة تجعل بعضهم يلوذ بالمدوّنة الشرعية يستلُّ منها ما يُلبّي ذلك النسق المتماهي في سلوكياته مع الآخر المختلف، وهنا يُعاب على هذا الإصرار وعلى هذا التسويغ، وإلا فـ"كلُّ بني آدم خطّاء، وخير الخطّائين التوابون".. والسلام..

***

د. وسام حسين العبيدي

...................

الهوامش..

القرآن الكريم..

[1] إسلام ضد الإسلام، الصادق النيهوم، منشورات رياض الريس، ط3، 2000م: 70 . والكلام المقتبس هو لعبد الله أبو سيف البشاري في رده على مقال للنيهوم بعنوان (الفقهاء ضد الأنبياء) نشرها في مجلة الناقد.

[2] نهج البلاغة: 2/ 111 خطبة رقم 170 .

[3] المصدر نفسه: 3/ 169 (رقم 73 من باب المختار من حكم أمير المؤمنين ع) .

[4] تفسير البغوي: 1/ 88 .

[5] المصدر نفسه: 1/ 88 .

[6] المصدر نفسه: 1/ 89 .

[7] نهج البلاغة، للشريف الرضي، شرح الشيخ محمد عبدو، تصحيح: إبراهيم الزين، منشورات دار الفكر، بيروت – لبنان، 1965م: 1/ 288

[8] في ظلال نهج البلاغة: 2/ 205

[9] صحيفة إمام 21: 278 - 279.

[10] كتاب الكندي إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى، تحقيق: د. أحمد فؤاد الأهواني، 1948م: 23 .

[11] الجهاد الأكبر، الخميني: 8 .

 

التجلي الباطني في السرديات التاريخية يشير إلى العوامل والدوافع الخفية التي تؤثر على الأحداث والشخصيات، والتي قد لا تكون واضحة في السرد الظاهر، الأحداث التاريخية تعكس قلقًا جماعيًا، مثل الهجرة أو الحروب، الذي يتجلى في السرديات عبر رموز معينة، تعكس السرديات القيم والمعتقدات السائدة في مجتمع ما، مثل مفهوم الشرف أو العدالة، وكيف تؤثر هذه القيم على السلوكيات. ان تحليل الرموز المستخدمة في السرديات التاريخية لفهم المعاني العميقة يساهم في تشكيل الذاكرة الجماعية وتعزيز الهوية الثقافية، التجلي الباطني في السرديات التاريخية يوفر فهماً أعمق للتاريخ من خلال استكشاف العوامل النفسية والاجتماعية والثقافية التي تشكل الأحداث والشخصيات يساعد ذلك على تكوين صورة شاملة رغم تعقيد التاريخ البشري. دراسة الرمزية يلعب دورًا محوريًا في فهم التجلي الباطني، حيث تساعد في الكشف عن المعاني الخفية والدلالات العميقة التي تعكسها السرديات التاريخية، الرموز تحمل معاني متعددة وتعكس قيم ومعتقدات  قد لا تكون واضحة في السرد الظاهر، مما يساعد على فهم السياقات الثقافية والنفسية وتعكس الصراعات الاجتماعية والتغيرات الثقافية، و تساعد أيضا في فهم كيف تفاعل الأفراد والمجتمعات مع الظروف المحيطة بهم، الرمزية يمكن أن تعكس المخاوف والرغبات اللاواعية، مما يساهم في فهم الدوافع النفسية وراء سلوك الأشخاص استجابة للأحداث،الرموز تلعب دورًا في تشكيل الهوية الجماعية وتعزيز الشعور بالانتماء، مما يساعد على فهم كيف تتكون الذاكرة الجماعية، الرموز تسهم في تسهيل التواصل بين الأجيال، حيث تحمل دلالات مشتركة يمكن أن تُفهم بسهولة من قبل الأفراد في سياقات ثقافية معينة، الرمزية تعتبر أداة قوية لفهم التجلي الباطني، حيث تساعد في  كشف الطبقات العميقة  للمعنى والدلالة، مما يعطي رؤى أعمق حول الثقافة والمجتمع والتاريخ، تساهم مدارس فكرية عديدة في تقديم مناهج حول كيفية تحليل الرمزية وفهم التجلي الباطني في النصوص والسرديات، مما يعزز الفهم الشامل للثقافة والتاريخ.

اللاوعي الجمعي والسرديات التاريخية

 يمكن تطبيق هذا المفهوم على السرديات التاريخية  لتوضيح كيف تتجلى الرموز المشتركة عبر الثقافات،يمكن لمفهوم اللاوعي الجمعي أن يوفر إطارًا غنيًا لفهم الرموز في السرديات التاريخية، مما يساعد في كشف المعاني العميقة التي تعكس التجارب الإنسانية المشتركة، ويُظهر كيف تتفاعل الثقافات المختلفة مع قضايا وجودية مماثلة،ان تطبيق مفهوم التجلي الوجودي على السرديات التاريخية يساعد في فهم الأنماط الرمزية التي تتكرر عبر الثقافات، ويعكس التجارب الإنسانية المشتركة، يمكن أن تكشف هذه الأنماط عن القيم والمعتقدات التي تشكلت عبر الزمن وساعدت الأفراد على التعرف على أنفسهم في سياقات تاريخية وثقافية متنوعة بينما تتشارك الثقافات في العديد من التجليات الوجودية، فإن التفسيرات والتجسيدات الرمزية تختلف بناءً على السياقات الثقافية والتاريخية، هذا التنوع يعكس التجارب الإنسانية المعقدة ويعزز فهمنا للعالم من خلال عدسة الرموز.

الغنوصيات ومبدأ الظاهر والباطن

تركز الغنوصيات على فكرة المعرفة الداخلية كوسيلة لفهم العالم والخلاص، هذا المفهوم أثر في سرديات أسطورية تعبر عن الصراع بين المعرفة والجهل، تُستخدم الرموز في الغنوصيات لتجسيد الصراعات الروحية، مما يتيح للسلطات السياسية استغلال هذه الرموز لتعزيز شرعيتها أو توجيه الرأي العام، أثر هذاعلى سرديات السلطة السياسية عبر العصور كما استلهمت العديد من الأنظمة السياسية من الأفكار الغنوصية  لبناء سرديات تُعزز من سلطتها، على سبيل المثال، استخدام الرموز الغنوصية لترسيخ فكرة النخبة الحاكمة كحاملة للمعرفة، استُخدمت الأساطير لتبرير السلطة السياسية،حيث تم تصوير الحكام كأشخاص ذوي معرفة باطنية أو كأبطال في سرديات تعكس الصراع بين الخير والشر، تستمد بعض الأنظمة الشرعية السياسية من سرديات مستندة إلى الغنوصيات والهرمسية، حيث يتم تصوير القادة كحماة للمعرفة والحكمة، تأثرت الحركات الاجتماعية والسياسية بالأفكار الغنوصية في سعيها لتحقيق التحرر والمعرفة حيث استخدمت الرموز والمعرفة الباطنية لتعزيز الشرعية وتوجيه الرأي العام. هذا التأثير يمتد إلى العصر الحديث، و لا تزال هذه الأفكار تلعب دورًا في تشكيل الهويات السياسية والاجتماعية.

استخدام الرموز الغنوصية

تُستخدم الرموز الغنوصية لتجسيد فكرة أن المعرفة الحقيقية مخفية عن العامة، مما يعزز من مكانة النخب الحاكمة كحملة للمعرفة، رموز مثل (النور) و(الظلام) تمثل الصراع بين المعرفة والجهل، حيث يُعتبر البحث عن الحقيقة طريقًا للخلاص، تُستخدم الرموز لتصوير الصراع بين القوى الروحية والوجود الفاني، مما يساعد على تشكيل سرديات تعكس التوترات بين السلطة الروحية والسياسية، تُستفيد الغنوصية من الرموز الهرمسية لتجسيد الحكمة الكونية والعلاقة بين الإنسان والكون، مما يعزز من قيمة المعرفة كوسيلة للسلطة رموز مثل "الكأس" و"الأهرامات" تعبر عن القوة الروحية والمعرفة المخبأة، لتصوير النظام الكوني والترابط بين جميع الأشياء، مما يساعد على بناء سرديات تعبر عن القوة والسيطرة استخدام رموز مثل "النجوم" و"الدوائر" لتجسيد التوازن بين القوى وتركز على الكشف عن الحقيقة والبحث عن المعرفة الباطنية، مما يعزز من مفهوم النخبة كحماة للمعرفة والحكمة الكونية والنظام، مما يعزز من الفهم الشامل للعالم ودور السلطة في تحقيق هذا النظام.

استخدامات الرموز

تختلف استخدامات الرموز الغنوصية في بناء سرديات السلطة،  تركز الغنوصية على المعرفة الباطنية والصراعات الروحية، هذه الاستخدامات تؤثر على كيفية تشكيل السلطة وتبريرها في مختلف السياقات الثقافية، تُستخدم الرموز الرئيسية في الغنوصية لتجسيد الأفكار والمفاهيم الأساسية التي تعبر عن الصراعات الروحية والمعرفة، الرموز تلعب دورًا حاسمًا في تشكيل السرديات الفلسفية والدينية والسياسية لذا تُعتبر الغنوصية حركة فكرية تركز على المعرفة كوسيلة للخلاص، هذا التأكيد على المعرفة الباطنية أثر في السرديات الأسطورية للأديان، حيث تم تصوير الأنبياء والحكماء كحاملي المعرفة الحقيقية، تتضمن السرديات الغنوصية صراعات روحية تعكس التوتر بين القوى النورانية والظلامية، هذه السرديات ساهمت في تشكيل مفاهيم محددة حول الشر، حيث يُعتبر الشر نتيجة للجهل في الحقائق الروحية، العديد من الأديان تأثرت بالغنوصيات في تطوير عقائد حول الخلاص والمعرفة، مما ساعد على تشكيل سرديات تعزز من شرعية السلطة الدينية، هذه الفكرة ساهمت في تشكيل سرديات أسطورية تعكس أهمية الحكمة والمعرفة في تحقيق التوازن الاجتماعي والسياسي،وبذلك ساهمت الغنوصيات بشكل كبير في تطور السرديات الأسطورية للأديان والسلطة.

الغنوصية والهرمسية

 الغنوصيات رسخت فكرة المعرفة الباطنية كوسيلة للخلاص، بينما ركزت الهرمسية على الحكمة والتوازن الكوني هذه التأثيرات ساهمت في تشكيل مفاهيم حول الشرعية والسلطة، مما أثر على كيفية فهم الأديان والعلاقات السياسية عبر العصور، أثرت الأفكار الغنوصية والهرمسية بشكل كبير على تطور المفاهيم السياسية في الإمبراطوريات القديمة، الغنوصيات رسخت فكرة الشرعية من خلال المعرفة، بينما عززت الهرمسية من دور الحكام ذوي المعرفة الكلية، هذه التأثيرات ساهمت في تشكيل أنظمة سياسية وأسس اجتماعية، ما أثر على كيفية إدارة السلطة والعلاقات بين المجتمعات، تختلف تأثيرات الغنوصية والهرمسية على المفاهيم السياسية بين الإمبراطوريات من حيث كيفية تقديم السلطة الشرعية وفهم الحكمة، بينما ركزت الغنوصية على المعرفة كوسيلة للخلاص، استخدمت الهرمسية الحكمة والنظام الكوني لتعزيز شرعية الحكام،هذه الاختلافات أثرت على كيفية تشكيل الأنظمة السياسية والعلاقات الاجتماعية عبر التاريخ، أثرت الأفكار الغنوصية والهرمسية بشكل عميق على تطور مفاهيم الدولة، الغنوصية ساعدت في تعزيز التحدي للسلطة التقليدية، بينما أسهمت الهرمسية في تطوير مفهوم الحكمة في والعلاقات الدولية، هذه التأثيرات لا تزال تؤثر على كيفية فهمنا للدولة والسلطة اليوم.

***

غالب المسعودي

سؤال المصطلح وسياقه

في ظل التحوّلات الاجتماعية والديموغرافية المتسارعة التي تشهدها المدن العربية، برز مصطلح "ترييف المدينة" باعتباره توصيفاً شائعاً للتغيّرات التي تطال البنية الحضرية والقيم السائدة فيها. لكن السؤال الذي يفرض نفسه هو: هل يُعد هذا المصطلح توصيفاً علمياً محايداً لظاهرة عمرانية واجتماعية فعلية، أم أنه يعكس تحاملاً طبقياً ضمنياً ونزعة إقصائية تجاه الريف وسكانه وثقافته؟ تهدف هذه المقالة إلى مناقشة المصطلح من زوايا معرفية متعددة، واستكشاف مدى دقّته وحياده في قراءة الواقع الحضري.

إشكالية المفهوم: انحياز لغوي وتحامل خفي

يُستخدم تعبير "ترييف المدينة" في الخطاب العام كثيراً للإشارة إلى تغيرات تُصوَّر على أنها انتكاسة حضرية، وغالباً ما يُحمّل الوافدون من الريف مسؤولية هذا "الانحدار" المفترض في الطابع المدني للمدينة، سواء من حيث العمران، أو القيم الاجتماعية، أو السلوك العام. غير أن هذا الاستخدام ينطوي على حكم قيمي مسبق، يفترض ضمناً وجود جوهر مديني نقي يُفسَد عند اختلاطه بالريف، وهو تصوّر اختزالي يفتقر إلى الدقة العلمية.

من منظور أكاديمي، المدينة ليست كياناً ثابتاً، بل فضاء متحوّل دائم التأثر بعوامل الهجرة، والتفاعلات الاقتصادية، والتحولات الثقافية. ما يُطلق عليه أحياناً "ترييف" قد لا يكون سوى نتيجة طبيعية لعوامل بنيوية مثل غياب التخطيط الحضري الشامل، أو تفاقم الفجوة الطبقية، أو ضعف دور الدولة في إدارة التحوّلات الحضرية. وبالتالي، فإن توجيه اللوم إلى الفئات الاجتماعية القادمة من الريف يُعدّ نوعاً من الإزاحة الرمزية للمسؤولية الحقيقية عن تلك التحوّلات.

قد يكون من الأجدر، إذن، استبدال المصطلح بمفاهيم أكثر حيادية وتخصصاً، مثل: "تحوّلات المدينة"، أو "إعادة تشكُّل الفضاء الحضري"، وهي تعبيرات تحلّل الظاهرة ضمن سياقها البنيوي والاقتصادي والثقافي دون إلقاء أحكام مسبقة.

المصطلحات المقارنة في الأدبيات الغربية

وعلى صعيد المقارنة المفهومية، لا يوجد في اللغة الإنجليزية مصطلح يطابق "ترييف المدينة" من حيث الحمولة القيمية الطبقية. إلا أن هناك مصطلحات تقترب من توصيف بعض أوجه الظاهرة من زوايا مختلفة، مثل:

1- التوسع الحضري غير الرسمي (Urban Informalization): يشير إلى نمو العشوائيات والاقتصاد غير المنظم، دون تحميل هذا التوسع دلالات ثقافية أو طبقية.

2- التحضّر التابع أو الهامشي (Subaltern Urbanization): يصف عمليات تمدّن تقودها فئات مهمشة، وغالباً ما تكون خارج التخطيط الرسمي.

3- التدهور الحضري (Urban Degradation): يركّز على التدهور الفيزيائي والبيئي في المدينة، دون ربطه بالضرورة بهجرات ريفية.

4- التحضّر المعكوس (Counter-Urbanization): يُستخدم لوصف عودة بعض المناطق الحضرية إلى نمط معيشي أقرب للريف، لكنه لا يحمل نفس الدلالات الطبقية أو الثقافية.

"ترييف المدينة" في السياق العربي: مصطلح اجتماعي أكثر منه عمراني

ما يميز المصطلح العربي عن نظائره الأجنبية هو البعد الثقافي والاجتماعي الذي يحمله، حيث يُستخدم في كثير من الأحيان لانتقاد دخول "قيم ريفية" إلى الفضاء المديني، مثل العصبية، أو بنى القرابة، أو أنماط استهلاك وسلوك تُعدّ "غير حضرية". كما يمتد استخدام المصطلح إلى السياقات السياسية، فيُقال مثلاً "ترييف الدولة" أو "ترييف المؤسسات"، في إشارة إلى وصول عناصر ريفية غير مؤهلة ـ بحسب الرؤية النخبوية ـ إلى مواقع القرار، ضمن منطق يقوم على الولاء أو القرابة.

دلالات بديلة: الترييف في سياقات تنموية وبيئية

في المقابل، يمكن أن يحمل مصطلح "الترييف" دلالة محايدة أو إيجابية في سياقات أخرى، خصوصاً في أدبيات التنمية. ففي هذه السياقات، يُستخدم المفهوم للإشارة إلى دعم المجتمعات الريفية من خلال تحسين البنية التحتية، أو توسيع نطاق الخدمات الأساسية كالصحة والتعليم، أو تعزيز فرص العمل في الريف للحد من الهجرة إلى المدن. كما يُشجَّع أحياناً على العودة إلى أنماط معيشية بسيطة وأكثر انسجاماً مع البيئة، كجزء من سياسات التنمية المستدامة أو التخفيف من الضغط على المدن. كذلك يُنظر إلى نقل بعض المؤسسات أو المشاريع التنموية إلى الأرياف كخطوة نحو تحقيق التوازن السكاني والتنموي، بما يحدّ من التركز الحضري المفرط ويعزّز العدالة المجالية.

نحو مفردات أكثر عدلاً وحياداً

إن الحديث عن "ترييف المدينة" يكشف في طياته أكثر من مجرد توصيف عمراني؛ إنه خطاب طبقي وثقافي يعكس توتراً بين أنماط الحياة المختلفة، كما يكشف عن تصورات معيارية حول "المدني" و"الريفي". لذلك، فإن من الأجدر تجاوز هذا المصطلح إلى لغة أكثر علمية وموضوعية، تفسّر التغيرات الحضرية لا بوصفها تشوهات طارئة، بل بوصفها تحوّلات مركّبة تستدعي فهماً أعمق للبنية الاجتماعية والاقتصادية. إن الفضاء المديني ليس كياناً مغلقاً بل نسيجاً متجدّداً تتقاطع فيه الهويات، وتتنازع فيه المصالح، وتتفاعل فيه الثقافات. وهذا ما ينبغي أن يتعامل معه الخطاب الأكاديمي والسياسي على حد سواء، بحسٍّ نقدي مسؤول، لا بنزعة إقصائية أو اختزالية.

***

همام طه

في نص «أول التكوين[1] »

عذُبت العبارات وتآلفت جواهرَ ثمينةً ضمن جمل رصينة شكّلت بنيانَ شذراتٍ تطفح بالمعاني الراقية، الحسناء بحسن لفظها، لينتسج منها نصٌّ عبقُه عربية صِرْف دُقّت أوتادها على التخوم بين النظم والنثر. مضمونها حكي ينبعث من الأعماق مُتحرجلاً بين الإفصاح والإضمار، أمام ذاكرة مزاجية الهوى عنيدة لا تنْصاع من دون إرادتها؛ تنتقي ما ترغب في الإفراج عنه مما تكتزنه لصاحبها، وتختار بعناية شديدة الزمان والمكان الذي تفرج فيه عمّا ترغب فيه من مكنوناتها.

يحيل عنوان النص «أول التكوين» إلى فهم أولي يوجّه انتباه القارئ إلى دلالات عدّة؛ منها عبارة «أول»، التي توحي بأنّ هناك بعدَ أول التكوين، وسطٌ وآخِر وربّما أكثر حسب ما يصدر عن الكاتب وأناه من تباوُح حول المشترك بينهما؛ ناهيك أن الكاتب قد تعرض لمحطات من حياته في نصوص ثلاثة سابقة: رائحة المكان وليليات ثم على صهوة الكلام. وأما عبارة «التكوين» فتتجّه دلالتها إلى بدء الخليقة كما في أسفار التكوين، أو في كتب التاريخ التي تأتي على ذكر البدايات الأولى لتشكّل الكون والخلق، أو قصة «حي بن يقظان» التي تقف على نشأة وتكوين «أسال» البطل. والواقع، إنْ كان عبد الإله بلقزيز ينأى بنفسه أن يكون من كُتّاب السيرة أو أن تكون السيرة الذاتية من صميم اهتماماته؛ فإنّ «أول التكوين» عبارة عن مجتزأ من سيرته الذاتية؛ يعرض بعضاً من حياته منذ البدايات الأولى إلى المرحلة الجامعية.

جميل أن يعود المرء إلى ماضيه الغابر يقلب بين ثناياه ربما يساعده على فهم حاضره واستشرافه مستقبله. كم هو جميل أن يحاور الإنسان ذاته؛ حوارَ مكاشفة وبوْح صريح ينتابه أخذٌ وردٌّ في قول كل شيء عاشه الشخص من دون زيادة أو نقصان. يستنِدُ في ذلك إلى قوة الذاكرة ومدى استجابتها وطواعيتها كلما استدعتها أناه، ويعمل الخيال على ترتيب الوقائع والأحداث بالصورة والشكل الذي ترتضيه النفس/الأنا. إذ «ثمة مسافة بين ما يتخيّل المرء وما يحقّقه، لا يقطعها غير شوقه»[2] إلى هذا الماضي الخصيب. إنّ الأنا تنزع أحياناً إلى إخبار الأصدقاء عن ذكرياتها؛ لكن لها من الذكريات ما تخشى أن تخبر به ذاتها نفسها، فبالأحرى الآخر. من هنا حُقَّ للأنا أن تحتفظ لها بخصوصية البوح أو الإحجام عن الكلام، فالمعيش الإنساني لا يُقال كلّه. لكن سؤالاً مشروعاً ورد على لسان الكاتب: «ماذا تريد من إيقاظ ماضيك؟»[3] يعطي القارئ مشروعية طرح تساؤلاتٍ من قبيل؛ هل «أول التكوين» هو محاولة من عبد الإله بلقزيز ليجيب عن أسئلة عالقة في ذهن القارئ لم يستطع أن يفكّ شفرتها؟ أم أنه حوارٌ داخليٌّ تستنطق الأنا أناها الأخرى التي عاشت فيها وصاحبتها الرحلة في هذا الوجود؟ أم أنّ ما يكتب هو «حيلة لخروج النِّرجِسية من شرنقتها، ورؤية «محاسنها» في مرآة صقيل؟»[4] ، وهنا نكون أمام رغبة الكاتب في الكشف عن الكامن والمتواري في شخصيته؟ أم تراه اعتذار وتفسير من جانبه إلى القارئ يُسلِس القلم ليقول له هو ذا أنا كما درجتُ من أول تكويني حتى يومي هذا الذي دخلت فيه عليك بكتاباتي إلى مكتبتك؟ وقد يكون له غرضٌ آخر كالذي خاطب به أناه وهو يعدُّ لهذا الماضي ما يليق به من مواراة بين طيات الكتب والرفوف: «أن تصنع له متحفاً أو أن تنظم له حتفاً يليق؛ أو تراك تلبس جُبّة المؤرّخ لتجمع أمشاجاً بعثرتها ريح الزمان على قارعة الطريق؟»[5] .

يحيلني الحديث الشجي بين الأنا والذات، والذي حرْجَل بين البوح الحذر بما جادت به الذاكرة وما أحجمت عن التصريح به، إن عمداً أو غفلاً، إلى ترويسة لطيفة وردت ب«كتاب الحكمة العربية» نقلاً عن «روضة العقلاء» الذي ذكر قصةً عن ابن السمّاك حول بحّار رمى الشباك والأغلال لعل الحظ يبتسم له، فأخرجَتْ شباكه جمجمة راح يسائلها عمّا كان منها وبها. ذلك هو عبد الإله بلقزيز؛ وهو يستغور الماضي يستحضر أناه ويبث شكواه إليها وشجونه علّها تسعفه في كتابة سيرة ذاتية تقارب مسار حياته بكل موضوعية وشفافية؛ وهل يسهل على المرء أن يقرّ ويصدح بكل ما عاشه فيشركه مع القارئ/ الآخر؟ ليس من وسيلة موثوقة توصل إلى محاورة الأنا لذاتها سوى الذاكرة إن طاوعت، وسمحت لك بما فاء عن الحاجة فهي «إذ تصنع الأسباب لكي ترى ما تُريكَه، تنتقي لك من مخزونها نزراً لا يكفي لشفاء الغليل»[6] ؛فتستدعي الخيال لقدرته على استغوار الخبايا الدفينة قصد رتق الشريط المخروم الذي بين يديك؛ لإنّه إذا كان الخيال «بساط الريح الحقيقي [...] الذي يسبح بك حيث شاء وشئت؛ يرحل بك إلى الماضي القديم، ومنه إلى المستقبل البعيد بله إلى عالم الغيب»، فهو الأداة التي تسعفك في تركيب الصور الماضية ويعرضها عليك في حُلّة قشيبة.

السيرة لغة ذاكرة وخيال:

إنْ أنت عكفت على كتابة سيرتك الذاتية فأنت تتهيأ لتتعرى أمام قارئ تكشف له عن ماضيك القريب أو البعيد. وهذه الكتابة تمر عبر قناة الذاكرة، الذاكرة الفردية أو الذاكرة الجماعية. على التحقيق، أنّ «مصير الذاكرة هي ألا تبقى خاصة بواحد فقط»[7] ؛ لأنّها مشتركة مع الأغيار الذين عاشواْ معنا اللحظة أو صنعوا بمعيتنا أحداثها. يبقى أن تستحضر الزمان والمكان وشهود الأحداث التي طبعت حياتك وشكّلت محطات فارقة في مسارك لأنّك «أنت الأمكنة التي عمرتها ومررت بها ومرّت بك... وأنت الأزمنة وقد تعاقبت على جسد أنت هو»[8] . كذلك تتشكّل قصة الحياة التي ننمو ونكبر معها. وكم يتلكأ المرء وهو يغمس الريشة في دواة الحياة الماضية ليسائل نفسه عن الهدف من هذه الأوبة إلى الماضي، يسرّ القول في نفسه: «ماذا تريد من بقايا ماض قديم أو أثيل دثر في الذاكرة، أو استودع فيها رميماً يعصى على استعادة قافرة»[9] . ومع هذا التردّد يأبى عبد الإله بلقزيز إلّا أن يخوض غمار مساءلة ذاكرته متوخياً ما استطاع سبيلا إلى الموضوعية والشفافية؛ إذ يُفصح بصريح العبارة عن ذلك: «كن في أوْبِك إلى أوّلِك شهم القلب والنحيزة، لئلا يلتاع الماضي من زورتك ويتقبض مزاجه»[10] .

لم يتغاض عن الإشارة إلى أعطاب الذاكرة التي حصرها في رهافتها ورقة عودها إذ يخشى عليها من الشدة فلا تنقاد لصاحبها كما يريد، ومن هناك يوصي بعدم الاشتداد عليها ومعاملتها برفق ولين؛ فقد تحرف وتلقي بك في المتاهة أو تضنّ عليك لضجرها من سؤالك أو لعلَّها انخرمت وضاع منها المخزون فأنّى لها أن تجيب طلبك. الذاكرة سيدة في مملكتها، وهي صاحبة السيادة على الماضي تعطي منه بمقدار؛ لهذا وجب عليك أن تأخذ «ماضيك كما تأخذ الأنثى بين يديك، وقدِّم له طقوس الحبّ ما تلين به العرائك، وضع أشياءه أمامك، بكل هدوء، وتصفحها بقلبك وصل رحمك بها وبك حين كنتها وكانتك»[11] . قد يتحقق لك المراد من الذاكرة، فتُقدّم لك صوراً أو بقايا صور من الأيام الماضية، وبين تردّدك في البوح أو الإحجام عن قول كل شيء؛ فإنّك في حاجة إلى الخيال لأنّ «الذاكرة مقاطعة تابعة للخيال»[12] .

على التحقيق إنّ الخيال هو استحضار لغائب كان ماثلاً أمام أعيننا ثم توارى إلى الذاكرة تخزنه وترعاه ما بقيت قوية؛ لكنْ ما إن نحاول القبض على عنانه حتى ينطلق جامحاً سابحاً بنا في آفاق دروب قد تكون مجهلة لدينا. هكذا يقول عنه بلقزيز، وهو يسترجع لحظة من اللحظات التي يطرق طيف الخيال بابه، حين «أضع خاطري على وسادة، وأدعه يتقلب في حديقة الخيال حراً طليقاً. وحين ينهك في التحليق، أُسلمه إلى الكتاب كي يترجّل الخيال ويستريح، قليلاً، من شقوة الإصابة بالمستحيل»[13] . لا يكفي أن يحضرنا الخيال ونسرح معه في عوالمه التي مَثّلْنا دوراً رئيساً فيها فنقوم بتقييدها، إذ لا بد من إجادة تقييده وتنضيده على أحسن حال. إنّ الخيال يتفلّت كما الماء يتفلت من بين فروج الأصابع، ومع ذلك فإنّه خير مساعد لإطباق القبض على المحال، يقول بلقزيز عن دوره: «كلما غرفت من سلسبيل الخيال، تخفّفت من قيود المرئي، ليتّسع المدى أمامي وينداح عن دمي غبش المحال»[14] . ويصاب بقلق الرتق والتصفيف إلى درجة العزوف عن تدوينه بالحبر على الورق، ف«كلما جرّبتُ ترقيع فتوق الخيال، أصابني دوار الفراغ المطلق وانهدّ بالي واضطرب...وأتعبُ كلما شرعتُ في ربط خيوط الخيالات، ويصيبني من فشلي القنوط»[15] . إنّ فعل الرتق فعل تخييل، وله من التأثير في عملية الرتق الأثر القوي؛ يقول بلقزيز: «يذهب بي التخييل إلى مناطق نائية لم تطأها قدم. هكذا يخيل إليَّ وأنا أمسحها بناظري. أترجّل عن صهوة الخيال، لكنّي أمسك بعنانه لئلّا يزايلني ظلّه فينقطع عني الزاد»[16] . لم يشغل الكاتب نفسه بالسؤال هل ما يجمع من بقايا ماضيه أحداثاً عاشها حقّاً أم هي من خُدع الخيال ومكره المتساوق مع الذاكرة؟

عبد الإله بلقزيز ليس كاتب سيرة كما يخبر بذلك عن نفسه «لستَ كاتب سيرة، ولن تكون، ولكنّك من دون أولك مأفون. لستَ كاتب سيرة، لكنك تتلصّص على بعض ما جاد به الزمان عليك واستنقذته من آفة النسيان»[17] ؛ لكنّه يملك لغة متينة قلّ نظيرها في الكتابات المعاصرة. فهو يكتب في مجالات متباينة من حيث موضوعاتُها، يكتب في السياسة والفكر والرأي والرواية وغيرها. وعنده، لكل مجال أسلوبه ولغته؛ كأنّي به يسكن اللغة وتسكنه، بها يشعر ويحس، وبها يتذوق ويشتم، وبها يسمع ويرى. يملك زمامها، فلا يدعها تهرب به حيث تشاء، مع علمه بأنّ اللغة وهم ساحر آسرٌ وخطير يسكنها السحر والخيال كما يسكنها البيان والبديع. اقتناعاً منه أن طريق الإبداع يتعدى القواعد التي تتأسّس عليها اللغة؛ لكنه أعمق وأبعد يشمل عناصر شتى تنوء عن الحصر والإحاطة.

***

د. محمد رزيق مبارك - باحث من المغرب

.......................

[1] عبد الإله بلقزيز، أول التكوين. (الدار البيضاء: المركز الثقافي للكتاب، 2023). يتكون النص من ثلاثة أقسام جاءت كالتالي: (فاتحة الذاكرة ص 7؛ من هناك ص 11؛ هنا والآن ص 97)، فصولها عشرون وصفحاتها 158.

[2] جبران خليل جبران. رمل وزبد. ترجمة ثروت عكاشة. (القاهرة: دار الشروق، ط6، 1999) ص 17.

[3] عبد الإله بلقزيز، أول التكوين. ص 7.

[4] عبد الإله بلقزيز، أول التكوين. ص 8.

[5] عبد الإله بلقزيز، أول التكوين. ص 7.

[6] عبد الإله بلقزيز، أول التكوين. ص 8.

[7] بول ريكور، الذاكرة، التاريخ، النسيان. ترجمة جورج زيناني. (بيروت: دار الكتاب الجديد المتحدة، 2009)، ص 16.

[8] عبد الإله بلقزيز، أول التكوين. ص 7.

[9] عبد الإله بلقزيز، أول التكوين. ص 8.

[10] عبد الإله بلقزيز، أول التكوين. ص 8.

[11] عبد الإله بلقزيز، أول التكوين. ص 9.

[12] بول ريكور، الذاكرة، التاريخ، النسيان. ص3.

[13] عبد الإله بلقزيز، أول التكوين. ص 16.

[14] عبد الإله بلقزيز، أول التكوين. ص 57.

[15] عبد الإله بلقزيز، أول التكوين. ص 21.

[16] عبد الإله بلقزيز، أول التكوين. ص 59.

[17] عبد الإله بلقزيز، أول التكوين. ص 10.

يعتاد المجتمع أي مجتمع على مجموعة أمور، تشكل في نهاية المطاف نمطا سلوكيا جماعيا يعمل به أفراد المجتمع عملا دائميا لا يكاد ينفك عنهم، فيكون من سلوكيات المجتمع وطقوسها المعتمدة، وثقافة البيئة التي رسخ فيها وركز رمحه الصلب فيها، في حين يكون سلوك المجتمعات سلوكا جاذبا للخرافات والأساطير، بوصفها حكايات جميلة وممتعة، فلا تكاد تجد بيئة معروفة أو مجتمعا هنا أو هناك إلا واهتم بمثل هذه الأمور. وقد أفهم أمرا مهما أن هذه الرغبة العارمة التي تكتنف أفراد المجتمع لتقبل هذه الخرافات والأساطير إنما تأتت من حاجة المجتمع لها، لا بوصفها الدواء لمشاكل المجتمع الفكرية أو الصحية أو الاقتصادية وإنما بوصفها الداء المحبب لفكرها المتعطش لمثل هذه الأمور. بل أرى أن المجتمع يتقبل هذه الخرافات والأساطير على أنها تعويذة هدوء لفكرها، أو صدمة انعاش لعقلها، أو ترنيمة إيحاء لخيالاتها التي لا تنقطع تفكر بمثل هذه الأشياء.

في حين ترى مجتمعات كثيرة أن وجودها وكيانها قائم على مثل هذه الأشياء، ومن دونها لا قيمة لهذا المجتمع بالمرة، ولا أريد أن اسمي هذه المجتمعات فهي واضحة. ويمكن تقصي مهمة الخرافات والأساطير في بعض المجتمعات على انها طابع ثقافة هذا المجتمع أو ذاك، أو أنها صور رمزية ظلهرية لحقائق باطنية تكللت عقول أفراد المجتمع بنتاجها وهيكلتها على مستوى ما يؤمن به أفراد هذا المجتمع.

ولا يفوتني هنا أن أذكر أن المجتمعات كلها بلا استثناء عملت على بلورة هذه الخرافات والأساطير وجعلها قابلة للتصديق والتمثيل، وبالتالي الإيمان بها على أنها رمزية هذا المجتمع بوصفها صورة جميلة معبرة عن شكل المجتمع وندرته وقدرته على التأثير والبرود بوصفه مجتمعا حضاريا مميزا.

وعليه فإن حاجة المجتمع للأساطير جعلها تنمي هذه الخرافات والأساطير وتظهرها على أنها من كمالات المجتمع وسلوكياته الجميلة الأخاذة.

***

أ. م. د. محمد إسماعيل القاسم بابل

كان افلاطون قد شغل نفسه بمشكلات المدنية، الجمالية، التكنيكية والقانونية، في وقت غدت المدينة اليونانية مشكلة لاحل لها، المهم في الامر كلما اتسعت المدينة انتشر الخوف من التكنولوجيا وتطوراتها المخيفة، هذا سبب ارباكا للعقل البدائي والانسان مشروط بمتطلباته اللامتناهية وهو ينظر الى المستقبل وكانه بيروقراطيات تسود، لا يستوعبها زمن وهي لعبة سياسية لا تستبصر حاجة الانسان، هيكليتها شخصانية بدائية و لمسة مشتركة بين الطبيعة والانسان، لذا تمت كتابة التاريخ من خلال تقنيات متعددة ووجهات نظر مختلفة وسرديات موجهة، مما أدى إلى روايات متناقضة، تؤثر الخلفيات الثقافية والسياسية للمجتمعات و تفسير الأحداث التاريخية، لكن حضور الأخطاء يساعدنا على تشخيص دورها في تكرار الفشل من خلال اعتماد التفكير النقدي في قراءة السرديات التاريخية وعدم قبولها كحقائق مطلقة، الحوار المعرفي بين الثقافات يساعد على تقديم صورة أكثر شمولية للتاريخ، من خلال تطبيق هذا الرؤية يمكن اعتبار بعض الروايات التاريخية "بروباغندا" مقصودة، تُستخدم فيها الروايات التاريخية لتشكيل هوية وطنية و تعزيز الانتماء القومي، وكذلك تُستخدم كأداة لتبرير السياسات أو الأفعال العسكرية، اذ يتم اختيار أحداث معينة وتجاهل أخرى لتقديم صورة منحازة لصالح السلطة في اكثر الأحيان، قد يتم تعديل الحقائق أو تقديمها بشكل مضلل لدعم رواية معينة. الروايات التاريخية التي تهدف إلى توجيه الرأي العام نحو قضايا معينة، تؤثر في كيفية فهم الناس لتاريخهم ويمكن أن تؤدي إلى خلق أعداء تاريخيين أو أبطال قوميين بطريقة تخدم أهداف السلطة الأيديولوجية المستقبلية، هذا الاستخدام هو استخدام النبوءات في السرد التاريخي، بالتالي يظهر كيف يمكن أن يستخدم السرد في تشكيل الروايات التاريخية السياسية، مما يؤثر في فهم الصراع ويساهم في تعقيداته، بذلك يمكن اعتبار ما تم سرده في بعض الروايات التاريخية جزءا من بروباغندا سياسية، استخدمت فيه السرديات لتعزيز الرسائل والأهداف السياسية، رغم ذلك، من المهم أن نفهم ان هذه السرديات تلعب أيضا كأدوات للحوار والتفاهم إذا تم استخدامها بشكل مسؤول .

تمييز السرد التاريخي الدقيق من البروباغندا

 التمييزيتطلب تحليلًا نقديًا وفهمًا عميقًا للسياقات واستخدام مصادر موثوقة ومتنوعة، مثل الوثائق الاركيولوجية، والأبحاث الأكاديمية في فهم الهدف من السرد هل هو إعلامي أم سياسي؟ هل يسعى لتوجيه الرأي العام أو لتقديم معلومات موضوعية؟ السرد الدقيق يتضمن آراء وتجارب متنوعة، بينما تركز البروباغندا على وجهة نظر واحدة، التعمق في كيفية تقديم الأحداث، هل هناك تركيز مفرط على جانب واحد دون الآخر؟، السرد الدقيق يعتمد على الأدلة الموثوقة، بينما تفتقر البروباغندا إلى الأدلة القوية أو تستخدم معلومات مضللة، السرد التاريخي الدقيق يتجنب التعميم المبالغ فيه عن مجموعات أو أحداث، بينما تُستخدم البروباغندا التعميمات غير دقيقة في فهم الظروف الاجتماعية والسياسية التي أثرت على الأحداث، مما يساعد في توضيح كيف تشكل السرد، ان تحليل المعلومات بشكل نقدي والتساؤل عن الدوافع وراء سرد معين إذا كان السرد يُكرر في وسائل الإعلام أو الخطابات السياسية، قد يكون مؤشرًا على بروباغندا، تلعب اللغة العاطفية أو المحملة بالتحريض و تكون مؤشرًا على البروباغندا، بينما اللغة الموضوعية تُظهر السرد الدقيق، تمييز السرد التاريخي الدقيق عن البروباغندا يتطلب فحصًا دقيقًا للمصادر، وتحليل النوايا، وفهم السياقات، واستخدام مهارات التفكير النقدي. يجب أن نكون واعين للرسائل التي تُقدم وأن نتساءل عن دقتها وموضوعيتها.

التحيز المعرفي

يميل الأفراد إلى البحث عن المعلومات التي تدعم معتقداتهم السابقة وتجاهل ما يتعارض معها، مما يسهل قبول الرسائل البروباغندية التي تتماشى مع هذه المعتقدات، البروباغندا غالبًا ما تستخدم رسائل بسيطة وسهلة الفهم، مما يجعلها أكثر قبولًا للأفراد الذين يفضلون التفسير المبسط للواقع، البروباغندا تستخدم مشاعر قوية مثل الخوف أو الغضب لجذب الانتباه، مما يؤدي إلى قبول الرسائل بشكل أسرع دون تحليل نقدي، الأفراد يميلون لقبول المعلومات التي تتوافق مع آراء مجموعاتهم، مما يعزز من انتشارها داخل تلك المجموعات، وسائل الإعلام تكرّس رسائل معينة، مما يزيد من قبولها، حيث يؤثر التكرار على التصورات الذهنية، القيم والمعتقدات الثقافية تساهم في قبول بعض الرسائل البروباغندية، حيث تتماشى مع الهوية الجماعية، الأفراد يميلون لاختيار مصادر المعلومات التي تعزز من تحيزاتهم، مما يقلل من تعرضهم لأفكار متعارضة، الخوف من المجهول أو من التهديدات الخارجية يؤدي إلى قبول الرسائل التي تدعو إلى العمل بناءً على تحذيرات معينة، الأفراد لايسيئون فهم المعلومات التي تتماشى مع تحيزاتهم، مما يسهل قبول البروباغندا، في ظل الضغوط النفسية أو الاجتماعية، يتجنب الأفراد التفكير النقدي، مما يسهل قبول الرسائل البروباغندية، التحيز المعرفي يسهم في قبول البروباغندا من خلال تعزيز المعتقدات السابقة، وتيسير فهم الرسائل، واستغلال العواطف. ولفهم هذا التأثير، من المهم تطوير مهارات التفكير النقدي لتعزيز الوعي بالمعلومات التي نتقبلها.

آليات قبول البروباغندا

الثقافات التي تركز على القيم الجماعية قد تكون أكثر قبولًا للبروباغندا التي تعزز الهوية الجماعية، بينما الثقافات الفردية تكون أكثر انتقادًا، في الثقافات التي تعزز الاحترام للسلطة، تكون البروباغندا أكثر قبولًا، حيث يُنظر إلى الرسائل التي تأتي من الحكومات أو القادة بشكل إيجابي، المجتمعات التي عانت من أنظمة قمعية قد تكون أكثر حساسية تجاه البروباغندا، مما يجعل الأفراد أكثر وعيًا وحرصًا على تحليل المعلومات، الثقافات ذات مستويات التعليم المرتفعة تكون أكثر قدرة على تمييز البروباغندا، بينما تكون الثقافات ذات مستويات التعليم المنخفضة أكثر عرضة لقبول الرسائل دون تمحيص، المجتمعات التي تتمتع بتنوع وسائل الإعلام تكون أقل عرضة لقبول البروباغندا، بينما المجتمعات التي تسيطر عليها وسائل إعلام محددة تكتسب رسائل معينة بشكل أسرع، اللغة المستخدمة في الرسائل البروباغندية يمكن أن تؤثر على فهمها وقبولها، حيث تختلف معاني الكلمات والعبارات بين الثقافات، الثقافات التي تُعلي من قيمة الدين قد تستجيب للبروباغندا التي تستخدم الإشارات الدينية بشكل أقوى، في الثقافات التي تركز على الهوية الوطنية، قد تكون الرسائل البروباغندية التي تعزز من روح الوطنية أكثر قبولًا، في المجتمعات التي تعاني من أزمات اقتصادية، قد تكون البروباغندا التي تعد بتحسين الأوضاع أكثر جذبًا، تختلف آليات قبول البروباغندا باختلاف الثقافات من خلال التأثيرات المتعددة. لفهم هذه الظواهر بشكل أعمق، تحليل السياقات الثقافية والاجتماعية التي تؤثر على كيفية استقبال المعلومات.

دورالثقافة

الثقافة تعزز من التفكير النقدي وتساعد الأفراد على تحليل المعلومات بشكل أعمق، مما يقلل من قبول الرسائل البروباغندية دون تمحيص، الثقافة تشجع على تبادل الآراء ووجهات النظر المختلفة وتُساعد في تقويض الرسائل البروباغندية، حيث يمكن أن يتعرض الأفراد لوجهات نظر متنوعة، يمكن للثقافة أن تلعب دورًا حاسمًا في تقليل فعالية البروباغندا من خلال تعزيز التفكير النقدي، وفتح الحوار، ودعم القيم الإنسانية. من المهم أن نكون واعين لهذه الديناميكيات لتطوير استراتيجيات فعالة لمواجهة البروباغندا. تساهم هذه العوامل الثقافية في تعزيز مقاومة البروباغندا من خلال تعزيز التفكير النقدي، وتعزيز الحوار، وبناء الثقة، تعزيز المرونة الفكرية يتطلب جهدًا جماعيًا من المؤسسات التعليمية، والمجتمعات والأفراد من خلال تطبيق هذه الاستراتيجيات، يمكن بناء ثقافة تشجع على التفكير النقدي والتفاعل الإيجابي مع الأفكار الجديدة.

المقاومة الثقافية

بعض المجتمعات قد تكون متجذرة فيها تقاليد أو معتقدات معينة، مما يجعلها مترددة في قبول أفكار جديدة أو تغيير طرق التفكير، الوعي بأهمية المرونة الفكرية يؤدي إلى تقليل الجهود المبذولة لتعزيز مقاومة البروباغندا، في بعض المجتمعات يشعر الأفراد بالضغط للامتثال لآراء الأغلبية، مما يقلل من رغبتهم في التعبير عن أفكارهم الخاصة، نقص الشخصيات العامة أو القادة الذين يمثلون قيم المرونة الفكرية يمكن أن يقلل من الإلهام لدى الأفراد، الخوف من الرفض أو النقد يمكن أن يمنع الأفراد من التعبير عن آرائهم أو الانفتاح على أفكار جديدة، تتطلب مواجهة هذه التحديات جهودًا متكاملة تشمل التوعية وتدعم التفكير النقدي. تتطلب مواجهة مقاومة البروباغاندا في المجتمعات المحافظة جهداً مشتركاً يتضمن التعليم، والمشاركة، والدعم، مع التركيز على القيم المحلية. من خلال تطبيق هذه الاستراتيجيات، يمكن تعزيز مقاومة البروبكندا السردية وتحقيق نتائج إيجابية. على الرغم من ان بعض المجتمعات متجذرة فيها تقاليد ومعتقدات معينة، مما يجعلها مترددة في قبول أي توجيه، لكن استراتيجيات مدروسة تشمل التثقيف، وبناء الثقة، وإشراك الطليعة الثقافية وفهم هذه السرديات التي تحمل اجندات سياسية ملغمة، يمكن تعزيز الجهود لتحقيق التغيير الإيجابي في المجتمعات.

***

غالب المسعودي

"الحكايات تُحَف الجنة"... مالك بن دينار

مثلما يقف الشعب باعتزاز على الأرض التي حررها بدماء أسلافه وبطولاتهم، فإنه يستلهم كيانه وهويته، ومُثُله وقيمه من ثقافته الشعبية التي تشكلت على مدار أزمان غابرة، لتصبح ذخيرته الحية، وعملته الحقيقية المتداولة في حاضره وغده.

ولأن الحكاية الشعبية جزء أصيل من تلك الثقافة، ووسيلة كل شعب لحفظ ذاكرته وخياله المشترك، فإنها لقيت عناية كبيرة لما تعكسه من تجارب حياتية، وأحلام ومخاوف، وآمال تلتمس التعويض في عالم مثالي. كذلك كانت الحكاية الشعبية حتى وقت قريب، قبل أن تداهمها التكنولوجيا بترسانة هائلة من وسائل الترفيه والتسلية، وتنزع عن الجدّات ثياب الحكواتي!

إن وظيفة حفظ التاريخ والذاكرة لا تمنع الحكاية الشعبية من أن تظل إنتاجا حيا ومتواصلا، ينسج من خلالها العقل البشري عالما مثاليا يطمح لتجسيده في واقعه، ويستدرك من خلاله نقائص المجتمع وخطاياه. تلك الاستمرارية رهينة إلى حد كبير باستثمارها كمدخل بيداغوجي، واعتمادها أداة ناجعة للتعلم، وتمرير القيم الأخلاقية، وتأسيس جمالية الحكي داخل فضاء تعلمي تفاعلي.

لهذا الفن القديم خصائصه ومرتكزاته التي تميزه عن سائر الأجناس الأدبية؛ حيث تتمتع الحكاية الشعبية ببساطة البناء والأسلوب، وبلغة خاصة ومتميزة تحقق الإيحاء والإثارة الفنية المطلوبة. للحبكة فيها دلائل نفسية وقيمية يصل دويها إلى أعماق المستمع. متحررة من خصوصيات الزمان والمكان والشخوص، مما أتاح لبنائها وتركيبها أن يكتسب سمات العالمية. هكذا تنقلت حكاية "سندريلا" من خلال ثلاثمئة وخمسة وأربعين نصا مختلفا، عبر رقعة تمتد بين روسيا وإيرلندا، فهي في إيطاليا "سينيرنتولا"، وفي فرنسا" سندريلون"، وفي ألمانيا" اشينبويل"، وفي المجر "بوبلوث"، وفي روسيا" جيرنوشكا"، بينما يرقى تاريخها في الصين إلى ما قبل سنة 800 ميلادية تحت اسم" يه هسين"، قبل أن تأخذ في الشرق لقب "ست الحسن".

تقوم الحكاية الشعبية على سرد مباشر يروم الإقناع والتأثير، ويتخذ من المغامرات الخيالية والأحداث الغريبة موضوعا له. وقد تكون الأحداث حقيقية، غير أنها مُزجت بآمال الناس وأحلامهم وخلاصات تجاربهم، فحررتها من صلتها المباشرة بالواقع لتعتمد على الخوارق والعجائب، وتضفي على الطبيعة الإنسانية المتشابهة في كل مكان وزمان، أزياء محلية متنوعة. ولذلك التشابه العالمي تفسيراته، من بينها الترجمة، والنشاط التجاري بين البلدان، بالإضافة إلى تحركات الجموع البشرية الموسومة بالهجرة.

داخل هذا العالم الوهمي والعجائبي الذي شيدته عقول البشر، تجد الطفولة تعبيراتها الأولية للارتباط بالواقع الاجتماعي، وتستمد ثروات لغوية وتربوية ونفسية. وما إن يستأنس الطفل بالحكي الذي يثير الغرابة ويستحث فضول الاطلاع، حتى يبدأ في التقمص اللاشعوري لآداب مجتمعه وقيمه الأصيلة؛ وبذلك يتحقق نمو شخصيته وإحساسه بهويته وانتمائه.

ينتقل الطفل من المرحلة الواقعية (ثلاث إلى ست سنوات)، حيث يكون قد استوفى مطلوبه من الخبرات المكتسبة في بيئته المحدودة، إلى مرحلة توصف بالخيال المنطلق أو الحر. وهنا يُبدي الطفل استعدادا ذهنيا لتأليف صور تحاكي واقعه أو ترتفع عنه بما يتناسب مع أحلامه وآماله. وتتم تغذية خياله عبر الحكاية الشعبية، باعتبارها أقرب نص أدبي يتيح له الولوج إلى دائرة معارف الجماعة أو العشيرة.

تفسح الحكاية مجالا رحبا لخياله كي يتطلع إلى عالم جديد، ويستوعب قيما وخبرات ومواقف، عن طريق حكي يعتمد التبسيط ويتحاشى الخوض في التفاصيل. ولأنه يتلقاها شفهيا، فإن الإلقاء غالبا ما يكون مصحوبا بقدر من التمثيل وتلوين الصوت، بشكل يتناسب مع الشخصيات والأحداث. وقد يعمد الراوي أو الحكواتي إلى إشراكه في أحداث الحكاية، فيُسند إليه دورا، أو يوجد شبها بينه وبين إحدى الشخصيات، ليصبح الحكي فضاء لتجريب ميوله ومواهبه.

تتنوع الحكاية الشعبية بتنوع مضامينها، مما يسمح للطفل بتعزيز كفاءته في التعامل مع الصور والرموز، ويُنمي خبراته ومعارفه. فالحكاية العجيبة التي تهيمن عليها الظواهر الخارقة، من سحرة وجن وعفاريت، تحقق بُعدا تنفيسيا حين ينتصر الأخيار على الأشرار.

وأما الحكاية الخرافية فتعرض حادثة مجسدة لمغزى أخلاقي، ويكون أبطالها في الغالب إما حيوانات أو جمادات أو ظواهر طبيعية، ويتم أنسنتهم بإضفاء الخصائص البشرية عليهم، مع التركيز على الموقف الأخلاقي المباشر.

بينما تهدف الحكاية الدينية إلى تعزيز انتماء الطفل لدينه والقيم الحارسة لمجتمعه، من خلال أحداث بعضها جرى في تاريخ واقعي فعلي، والبعض الآخر تم تعديله وإضفاء هالة من القداسة عليه للتأثير في النفوس، وتمرير صيغ وعظية ورسائل تعليمية أخلاقية.

وتتسم الحكاية المرحة بالقصر الشديد والتركيز على حدث واحد مفرد. وهي لا تحمل درسا تعليميا أو وعظيا، لأن هدفها هو النقد الاجتماعي من منظور ساخر، والثورة على الإشكالات التي تواجه الإنسان في واقعه المعيش.

بفضل اللجوء إلى المتخيل يتحرر الطفل من الضغوط والتناقضات التي يراها في الواقع. بل تذهب الدراسات حول القوة الشفائية للحكاية إلى أن دورها العلاجي يتحقق كلما انسجمت مضامينها مع نفسية الطفل ومميزات شخصيته، وغمرت الفراغ العاطفي الذي قد تُخلّفه اللحظات القاسية. لذا يتم تسخيرها في مدارس كيبك بكندا كوسيلة علاجية للأطفال الذين يشكون من عاهات لسانية، مترتبة عن أضرار نفسية وذهنية، وذلك باعتماد ترسانة من المهارات التواصلية التي تحفزهم للإفصاح عن مشاعرهم وضبط انفعالاتهم.

تستبق الحكاية خطوات الطفل نحو المستقبل، حين تمنحه قدرات فكرية واستراتيجيات محكمة، يوظفها عند الحاجة كأداة توقع أو مخطط للتصرف. ويمكن إجمالها على النحو الآتي:

- التمسك بالقيم الاجتماعية.

- الوقوف على فكرة انقسام العالم إلى خير وشر، وثواب وعقاب.

- بناء المفاهيم الأساسية حول الزمن والفضاء.

- تشكيل اختياراته وأذواقه الجمالية والفنية، وقدرته على الإفصاح والتعبير عنها.

- إذكاء قدراته على الانتقال من دنيا المحسوس إلى فضاء التجريد.

- التشبع بالمشاهد والسيناريوهات المتخيلة التي تُقربه بشكل مسبق من واقعه، وتهيئه للاحتكاك والتفاعل معه. (1)

كما تنماز الحكاية الشعبية بسلطة تأويل العلاقات الاجتماعية، واختراق لاوعي الطفل لتمرير القيم والمثل التي تحدد علاقته بالراشد والجماعة بشكل عام، وذلك من خلال:

- التعامل مع قيمتي الخير والشر بطريقة نفعية لأنها تجسد له سيرورة الكينونة والوجود، وتبعده عن التجريد. فالقيم لا وجود لها في حد ذاتها، ولكن بنتائجها على الإنسان.

- تمجيد البطولة المبنية على فعل الخير لصالح الجماعة، وهذا هو أساس تمجيد الجماعة للبطل ومنحه السلطة.

- انعدام المجانية، فلابد للحصول على الرزق من سبب، ولابد للإنسان أن يشقى ويتعب ليحصل على ما يريد. وهذا رد على ادعاء أن الحكاية الشعبية تنشر التواكل والاستسلام للقدر بين الناشئة.

- المهمات الصعبة التي ينجزها البطل دليل على نجاحه في الترشيد الذي تمارسه الجماعة على أفرادها، لتختار منهم أبطالا يرتقون بالجماعة ويضحون في سبيلها.

- الحكاية التي تحفل بالحيلة تعمل الطفل أن الذكاء ضرورة حياتية وليس ترفا فكريا.

- تقويم حياة الجماعة، وإعادة النظر في العادات والمظاهر السلبية المنتشرة بين الناس. (2)

تتصدى الحكاية الشعبية لواقع تآكلت فيه النظم التربوية والاجتماعية، فتحاول معالجته من خلال إظهار سلبياته والتحذير منها. وتعبر عن رغبة ملحة لاستعادة التوازن الاجتماعي، وتحقيق عالم تسوده العدالة والحب والتسامح. أما على المستوى النفسي فهي تقدم أجوبة شافية عن الوجود والمصير، وتفكك انشغالات الإنسان التي تُعطّل حركته بدفعه لتحقيق رغباته وطموحاته.

ولعل السر وراء انجذاب الطفل للحكاية الشعبية يكمن في أنها تتحدث "إلى" وليس "عن" الأطفال. فهي لا تمارس وصاية كالتي تنتهجها باقي الأجناس الأدبية الموجهة للطفل، ولا تعتبر هذا الأخير مجرد خطاب جاهز ومفتوح لتلقي الوصايا، وإنما هي استثارة جمالية لمشاعرهم ووعيهم الخاص.

يتبين إذن أن الحكاية الشعبية أنسب مدخل تعليمي تتكامل داخله عدة وظائف: أخلاقية، وتربوية، ونفسية، وجمالية، وترفيهية. وهي مقومات تؤهلها للحضور بشكل فاعل في البرامج الدراسية، وإكساب المدرسين منهجية واضحة لتيسير التعامل مع الحكايات، والاشتغال على عناصرها، لإكساب الطفل مهارات لغوية وتعبيرية، وحل المشاكل القرائية والتواصلية التي تعترض مساره التعلمي.

تسهم الحكاية في ترسيخ ثقافة الاستماع والتعبير الشفهي، مما يعزز قدرة المتعلم على التعامل مع النصوص القرائية. وأما الاشتغال داخل الفصل بوتيرة يومية على تفكيكها إلى وحدات وظيفية، من خلال اعتماد تصنيف فلاديمير بروب للحكاية الخرافية، وتعرف بنيتها وعناصرها، فيحقق الاستضمار الذي يُنمي مهاراته الإبداعية، للنسج على منوال الحكايات وإنتاج أخرى على غرارها.

وتؤدي الحكاية الشعبية وظيفة سيكولوجية إزاء بعض الاضطرابات اللغوية التي تُولّد فتورا في بناء تراكيب لغوية صحيحة، أو تعبير الطفل عن أفكاره ومشاعره. وفي تجربة كندية رائدة، تمكنت خبيرة النطق كلير مونيي Claire Meunier، أثناء معايشتها لأطفال يعانون من حالات نفسية معقدة، من تأسيس محترف للحكاية الشعبية، يتضمن تخصيص حصص داخل البرامج الدراسية، تدور حلقاته في فضاء خارج القسم. وعلى ضوء التحليلات النفسية لتصرفات الأطفال وتعبيراتهم عن مظاهر حياتهم اليومية (ركض، صراخ، بكاء، همس..) تمت صياغة حكايات على شكل مسرحيات قصيرة، يؤدي فيها الأطفال أدوارا تنسجم مع شخصياتهم. وركزت المقاربة العلاجية ليس على حبكة الحكاية، وإنما ما تُولّده الأحداث من قناعة بمشروعية تعبير الصغار عن أحاسيسهم العميقة.

ولتسهيل التعلم والاكتساب داخل المدرسة المغربية، طورت مجموعة بحث في الموروث الشفاهي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بأكادير سنة 1992، مشروعا تربويا يحمل اسم "سبك الحكاية". وكان الهدف هو توليد آليات ممارسة إبداعية لدى الطفل في مجال الحكي، بحيث ينتقل من مجرد مستهلك سلبي للثقافات إلى منتج نشط، يعبر من خلال الحكاية الشعبية عن تعددية ثقافته، وعن همومه وطموحاته.

وما ميز هذه التجربة هو انتباهها إلى ضرورة تدريب المدرسين، الذين سيتولون بدورهم الإشراف على تدريب الأطفال؛ إضافة إلى متابعة التلاميذ المبدعين في الحكي حتى تخرجهم من الجامعة، لتكوين رواة محترفين، يشاركون في تظاهرات خارج الوطن.

تتبنى المدرسة المغربية مبدأ الانفتاح على محيط محلي تمثل الحكاية الشعبية إحدى أهم ثمار مخيلته، وعاداته وانشغالاته. هذا المحيط الذي قد يتخرج فيه المهندس والمحامي والطبيب ليؤدي مهامه كتقني، بمعزل عن وعيه ونضجه الثقافي. هذا الوعي الذي تنبري الحكاية الشعبية لتخصيب نظرته لذاته وللآخر، ولتكون صمام أمان ضد كل أشكال التمييز والعنف والتطرف.

إن الحكاية الشعبية التي يجري تهذيبها لتتلاءم مع عقيدة المجتمع وقيمه، ومع ميول الطفل ورغباته وآماله، لهي مكون جوهري من مكونات هويتنا، وتأكيد على خصوصيتنا أمام تجليات غزو ثقافي يهددها بالاندثار.

***

حميد بن خيبش

....................

1- الحاج بن مومن. الحكاية الشعبية في التراث المغربي. ندوة لجنة التراث. الرباط 2005

2- د.محمد فخر الدين. الحكايات الشعبية: بنيات السرد والمتخيل. ص27 وما بعدها.

كثيرةٌ هى مزايا التصوف، البديل الفعلي للإرهاب، غير أنها تتفرَّق بين الأولياء والعارفين والصوفيّة، ويتفرَّق النزوع إليها والإعجاب بها، مشاربَ وأذواقاً، بين الدارسين والباحثين.

وقد يحرم الصوفي إحداها أو أكثرها وهو من بعدُ صوفيُّ لا شك في صوفيته؛ لأنه يُحسن ضرباً من الصوفية تصحُّ بها صوفيته ولا يشك فيها أحد.

فقد يُعجبنا من كل متصوف خصوصية فيه ومزيّة ينزع إليها، ويصنف بين الصوفية وفق تملكه إيّاها واتصافه بها؛ فالذي يتميز به أبو طالب المكي غير الذي يتميز به الغزالي، والذي يتميز به هذين غير الذي يتفرد به الجنيد والحكيم الترمذي أو البسطامي أو الحلاج أو ابن عربي أو الجيلي أو السّهروردي أو ابن سبعين.

والذي يستحق به كل واحد منهم صفة الروحانيّة غير الذي يستحقها به البقيّة، فيما لو أخذنا بتصنيفات "الباحثين" - لا تجارب "العارفين" - بين تصوف سُنيّ أو سلفي أو إشراقي أو فلسفي أو شبه فلسفي على اختلاف الضروب واختلاف التقسيمات.

غير أن المزيّة التي لا غنى عنها والتي لا يكون الصوفي صوفياً إلا بنصيب منها وافر هى مزيّة واحدة لا خلاف في الرأي عليها : "التجربة الصوفيّة"، وطلب المعرفة الإلهيّة من طريق الذوق والتبتل، وهو مطلبٌ عادل للذات المؤمنة لا شك فيه ولا غبار عليه.

فكما تكون "الطبيعة الفنية" مزيّة الشاعر المطبوع لا غنى عنها ولا يكون الشاعرُ شاعراً إلا بنصيب موفور منها، كما يقول الأستاذ "العقاد" في مقدّمة كتابه عن "ابن الرومي حياته من شعره"؛ كذلك تكون "التجربة الصوفيّة" التي هى حياة الأولياء والعارفين، مزيّة الصوفي الأصيل، ولا يكون الصوفيُّ صوفياً على الحقيقة إلا بنصيب منها.

تعمدتُ حقيقةً أن أستخدم نفس الألفاظ والكلمات التي استخدمها الأستاذ العقاد عند الحديث عن ابن الرومي في مقدمة كتابه وهو بالمناسبة من الكتب التي يعتز بها مؤلفها، وتعمدت أن أسلخها من هناك لألبسها ثوب اللغة الصوفية هنا؛ للمقاربة البادهة بين الطبيعة الفنية لدى الشعراء والتجربة الصوفية لدى كبار صوفية الإسلام، وبما أنها مقاربة عجيبة فعلاً فيها امتياز واختصاص، فتكاد تنطبق الأوصاف التي تطلق على الشعراء من أصحاب التجارب الفنية على الأوصاف التي تنطبق على الصوفية من أصحاب التجارب الروحيّة.

فقد أراد العقاد أن يستخرج من أقوال ابن الرومي حياته التي تدل عليها من الوهلة الأولى أشعاره، لكأنه يريد أن يقول إنه ما من بيت من قصيد الشاعر إلا وعليه من قيم الحياة الحيّة الفاعلة ما يوافقه ويدل عليه ويسمح باستخلاصه في مصدر الشعور ومنبت الضمير من حياة الشاعر نفسها، إذ الطبيعة الفنية هى الحاكمة الفاصلة فيما يصدر عن شاعرية الفنان، وليس يقدح شئ في شاعريته من بعدُ إلا أن يكون خلواً منها.

وبنفس المقاييس، تجئ التجارب الصوفية هى الفواصل الفارقة العاملة في معطيات الإشارة الصوفية التي تستقى من عين التجربة، فالمقول يتحد مع الحالة بلا ريب في بطن التجربة الصوفية، فلا تسمح التجربة الصوفية عند الصوفي بمعطياتها إلا بما تسمح به الطبيعة الفنية لدى الشاعر بمقوماتها، كلتاهما حياة تظهر أسرارها مع الشاعر المطبوع والصوفي الكبير تحت ظلال التجارب والطبائع.

فإذا كانت الطبيعة الفنية من الضرورة بمكان بالنسبة للشاعر، فالتجربة الصوفية من الأهمية بمكان بالنسبة كذلك للصوفي الكبير، كلتاهما اتحاد في المبدأ يقوم على منبت الشعور ويتغذى من قرارة الوجدان ويصدر عن الصدق فيما يقال عنهما من شعر الشاعر أو عبارات الصوفي واشاراته.

وليس هناك من عجب أن يتلاقى الشاعر المطبوع مع الصوفي الأصيل؛ فما أقرب الصلة الوثيقة بين الشعر والتصوف، أو بين التجربة الصوفية والطبيعة الفنية، وما أبعد الخلاف بينهما في غور التجربة ويقظة الإحساس بجوانب الحياة المختلفة، مع الوضع في الاعتبار فارق "التوجه" وفارق "التعلق"، ومع الاحتفاظ بالمصدر الشعوري واليقظة الروحية في كلتا التجربتين. فإذا كان الصوفي يتوجه مباشرة بوحدة قصده إلى الله ويتعلق بالوسائل التي توصّله إليه، فالشاعر يتوجه إلى فكرة أو معنى يعيشه ويحسه كما تعاش الحياة الحيّة وتُحس، ويتعلق في الغالب بمحبوبة في عالم الحسن ينزع بها وجدانه من المحسوس إلى المعقول، ويروم قصداً من وراء ذلك غير الذي يرومه صاحب القصد الأول ويتوخّاه.

وربما توصّل الشاعر بقصده المحسوس إلى ما يعلو على الحس ويرتفع في المثال؛ لينشد الحقيقة التي ينشدها الصوفي من أقرب طريق، فقد يتوصّل إليها إذ ذاك بشعوره الخالص المُجرد؛ ليجيء مصدر الشعور ها هنا توحيداً بين تجربة الصوفي وتجربة الشاعر رغم فوارق التوجه والتعلق، فالذي يتعلق بالله ويتوجّه إليه ليس كالذي يتعلق بمحبوبة عشقها وتبتل إليها في عالم الحس، ويتوجه إليها من بعدُ ويكنى عنها بالشعر أو بالنثر أو بما شاءت له قريحته أن يكنى.

ويبقى بعد ذلك ما لا خلاف عليه من تجارب المحبين وصبابة العشاق، وهو أن الطبيعة الفنية لدى الشاعر المطبوع تكاد تقترب من التجربة الصوفية عند الصوفي الكبير، تأخذ عنها وتتوحد بها حتى لا تكاد تفرق بينهما، يظهر هذا في العلاقة بين الحب والموت.

إنما الأمرُ هنا لا يتوقّف عند حدّ العلاقة بين الحب والموت وكفى، بل يتعدّاه إلى ما بعده، وهو بقاء القصائد الشامخة في الوجدان الراقي، الصافي النقي، لتشرح العلاقة بين الحبّ والموت، وتجلو الصلة القويّة بين الحبّ الحسّي والحبّ الروحي، إذ كان الأول مقدّمة للثاني. ولا يفهم من الثاني (الحب الإلهي) إلا ما يستقر عليه الفهم حقيقةً من الحب الأولىّ، (الحبّ الحسيّ)، فلم تبدع رابعة العدوية في ميدان الحبّ الإلهي إلا بعد تجربة ممضّة مع الحبّ الحسيّ، ولم تكن الصبابة التي يعانيها المحبون في الأودية الحسية إلا مذقاً إنسانياً صادقاً من ظلال التجربة الروحيّة.

واهمٌ من يتصوّر أن هذه القصائد أو تلك تخاطب محبوبة وكفى، لتكون مجرّد علاقة حبّ بين طرفين ليس أكثر .. كلا بل في القصيدة التي يقولها الشاعر الممتاز ظلال صوفية خالصة، ليس أيسر من نقلها على الفور من الأودية الحسيّة إلى الأودية الروحيّة في لحظة تجرّد صادقة، الأمر الذي يتأكّد معه أنّ المحبين في المحسوس هم أنفسهم المحبُّون في المعقول، في عالم الروح. وأنّ معاناة التجربة في المحبّة الحسيّة هى نفسها معاناة التجربة في المحبّة الروحيّة، وأنّ القادرين على تذوق الحبّ الحسّي هم أنفسهم القادرون على تذوق الحبّ الإلهي من وراء الأشباح والظلال.

فارقُ التجربة الشعوريّة هو التوجُّه، ولكن نهايات التجربة في الحبّ الحسّي تكون في الغالب بدايات التجربة في الحبّ الروحي الخالص، وربما يختلط الأول بالثاني وليس من ريب، وتكون التجربة واحدة، وتزول الفوارق الشعوريّة بين التوجُّهات وتذوب، فلا يعرف المُحب في أي واد من الأودية يتوجّه فيُسلم قياده؛ لأنه لا يلمس فارقاً باطناً في أصل المحبّة ولا يكاد يقف عليه.

وشعراء بني عُذرة كجميل بثينة، وقيس لبنى، وغيرهما من شعراء التبتُّل والعفّة كانوا أكثر الناس دلالة على هذا النوع بالحبّ إلى الموت؛ لوجود علاقة رُوحيّة صافية بين الحبّ في الأودية الحسيّة والحبّ في الأودية الروحيّة. وصبابة العشّاق لوعة مُخامرة هى نفسها تكاد تكون الصبابة التي يعيشها أصحاب الأذواق والمواجيد.

الحُبّ الإلهي أصلُه في الانسان محبّة جزئية محدودة بوقوف الهوى على المُحبّ، تفاصيلها نزوع الوجدان إلى الأصل، وكلما اقتربنا من الأصل زالت الفوارق وذابت الحواجز والمحاجيب، وحلّت من ثمّ الوحدة محلّ التعدُّد والكثرة، فليس يبقى إلّا الواحد على الدوام.

(إنّ الغرام هو الحياة، فمُت به صبّاً، فحقّك أن تموت وتعذرا)

هكذا كان ابن الفارض يقول. هذا ظل ثابت في وجدان العشاق من ظلال التجربة الصوفية لا يمكن تغافله أو صرف النظر عنه بحال.

وعليه، فلا يوجد صوفي واحد له رأي أو مذهب أو أثر من آثار الكتابة والتدوين ولا تكون له تجربة روحيّة ينطلق منها ويعتمد عليها ويتذوق آثارها فيما يرى أو يقول؛ فلئن فاتته التجربة فلم يستطع خوضها وركوب متاعبها؛ فلا يخلو من شرط التعاطف معها على أقل تقدير.

ولأجل هذا تجئ التجربة الصوفية دائماً أسبق لدى الأولياء والعارفين من الفكرة الفلسفية. وما الفكرة الفلسفية في ظلال التجربة الحيّة المعاشة إلا بمثابة شرح العقل النظري لتجارب العمل والإنشاء في إطارها. ولولا وجود التجربة الصوفيّة معتمد الأولياء والعارفين ما صَحَّتْ على الإطلاق أذواقهم ولا مشاربهم ولا أحوالهم، وما صَحَّ لهم حال ولا سرُّ ولا معرفة ولا علم ولا نظر، بل ولا مذهب ولا نظرية ولا رؤية ولا استقام لهم طريق؛ إذْ التجربة الصوفية نشاط الثورة الروحيّة في الإسلام ومستندها الفاعل بغير شك، وأساس الثمرة المرتقبة من وراء المذاهب والآراء.

وعلى هذا الأساس، لا على أساس غيره، ينبغي أن تُفَسَّرَ كل الآراء الصادرة عن المتصوفة في إطارها ولا تُفَسَّرُ في إطار سواها. وعلى هذا الأساس، لا على أساس غيره كذلك، تجيء مطالب الذات المؤمنة خاضعة خضوعاً تاماً لمعطيات تلك التجربة الصوفية، تُفَسَّرُ من خلالها، تأخذ منها وتعطي من عساه يشعر بها ويحس معها شعور التعاطف وشعور الترقي في مدارج المعرفة ومعارج الاتصال بالحقيقة الإلهية.

***

بقلم: د. مجدي إبراهيم

أستاذ الفلسفة الإسلامية - جامعة أسوان

غالبًا ما تُستخدم هذه السردية لتشكيل الهوية الوطنية أو لتعزيز الروح الجماعية، حيث يُعتبر البطل المظلوم رمزًا للنضال من أجل الحرية والعدالة، نشأت سردية البطل المظلوم في سياقات تاريخية متعددة، حيث كانت تُستخدم لتبرير الصراعات والنضال ضد الاحتلال أو القمع. كان يُنظر إلى هؤلاء الأبطال كرموز للعدالة في مواجهة الظلم، تأثرت هذه السردية بالقصص الشعبية والأساطير التي تروى عن أبطال تاريخيين واقعيين او وهميين خاضوا تحديات في تاريخ الشرق الأوسط، واجهوا قوى متكبرة ونجوا من الظلم، استخدمت الحكومات والأحزاب السياسية هذه السردية لتعزيز الدعم الشعبي، من خلال تصوير أنفسهم معنيين و أنهم مظلومين، من خلال ذلك يمكن حشد التأييد وتعزيز الالتزام بالقضايا الأيديولوجية التي يحملها الطامحون بالسلطة كما ساهمت وسائل الإعلام، في تعزيز سرديات الأبطال المظلومين من خلال تقديمهم كرموز للمعاناة والبطولة، مما عزز مكانتهم في الذاكرة الجمعية. في السنوات الأخيرة استخدمت الحركات الاجتماعية هذه السردية لتسليط الضوء على قضايا معينة، مثل حقوق الإنسان أو العدالة الاجتماعية، مما جعل من البطل المظلوم رمزًا للنضال ضد الظلم، سردية البطل المظلوم تمثل أداة قوية في تشكيل الهوية الجماعية وتجسيد القيم النضالية، على الرغم من فوائدها في حشد الدعم، إلا أنها تحمل أيضًا سلبيات، مثل تعزيز الانقسام أو تبرير العنف.

السلبيات المحتملة

استخدام سردية البطل المظلوم يمكن أن تحمل عدة سلبيات محتملة، منها يمكن أن تؤدي هذه السردية إلى تقسيم المجتمع إلى "أبطال" و"أعداء"، مما يعزز من المشاعر العداونية ويزيد من التوترات بين الفئات المختلفة، قد تُستخدم سردية البطل المظلوم لتبرير استخدام العنف، مما يؤدي إلى تصعيد النزاعات بدلاً من البحث عن حلول سلمية، يمكن أن تُستخدم هذه السردية لتفسير الفشل في تحقيق الأهداف الوطنية، حيث تُعتبر الهزائم نتيجة للظلم الخارجي بدلاً من الاعتراف بالأخطاء الداخلية، التركيز على مظلومية البطل قد يمنع النقاش حول المسؤوليات المشتركة أو الحلول الممكنة، مما يعرقل أي جهود للتوصل إلى توافق، قد تؤدي هذه السردية إلى تعزيز مشاعر الحقد والغضب، مما يؤثر سلبًا على الصحة النفسية للأفراد والمجتمعات، يمكن أن تُستخدم سرديات البطل المظلوم لتبرير تحريف التاريخ، مما يجعل الروايات التاريخية أحادية الجانب وتغفل الحقائق المعقدة، التركيز على دور البطل المظلوم يمكن أن يقلل من أهمية المسؤولية الفردية، حيث يمكن أن يُنظر إلى الأفراد على أنهم ضحايا فقط دون النظر إلى قدرتهم على التغيير، قد تؤدي هذه السردية إلى تغافل تجارب وآراء متنوعة داخل المجتمع، مما يُقلل من فرص التفاهم والتسامح، بينما تُعتبر سردية البطل المظلوم وسيلة فعّالة لتشكيل الهوية الجماعية، من المهم تحليل تأثيراتها السلبية على المجتمع والسياسة والسعي لتحقيق توازن في الخطاب الذي يشمل أصوات وتجارب متنوعة، وضع المعتنقين سردية البطل المظلوم يتسم بالتعقيد، حيث يمكن أن تكون لهم مشاعر قوية من الانتماء والولاء، ولكن أيضًا يواجهون تحديات مثل الإحباط والشعور بالتهميش.

الحاجة إلى سردية البطل المظلوم

سردية البطل المظلوم كانت تلبي احتياجات مهمة في تاريخ صراعات المنطقة، منها تعزيز الهوية والانتماء وتحفيز العمل الاجتماعي والسياسي. في السياق الحالي يجب استخدامها بحذر لتجنب تعزيز الانقسام أو تبرير العنف، تلجأ شعوب المنطقة إلى استخدام سردية البطل المظلوم في الأزمات الوجودية لعدة أسباب، قد تساعد هذه السردية في تفسير المعاناة والصراعات، مما يوفر إطارًا لفهم الأحداث الصعبة والتعامل معها، تسهم السردية في تعزيز الهوية الجماعية، حيث يشعر الأفراد بأنهم جزء من قصة أكبر تتعلق بالنضال والمقاومة، تمنح سردية البطل المظلوم الأمل في تحقيق العدالة والانتصار على الظلم، مما يساعد الأفراد على الصمود في وجه التحديات، لكنها تُستخدم أيضا في تفسير الفشل في تحقيق الأهداف، حيث يُنظر إلى الهزائم كنتيجة للظلم بدلاً من الأخطاء الداخلية، استخدام سردية البطل المظلوم في الأزمات الوجودية يرجع الى حاجة شعوب المنطقة، للفهم، والانتماء، مما يساعدها على التعامل مع التحديات والصراعات التي تواجهها لكنها أيضا تمثل الفشل في التصدي للتحديات الكبيرة.

السردية والسياقات التاريخية

تختلف سردية البطل المظلوم باختلاف السياقات التاريخية والثقافية. تتأثر السردية بالأحداث التاريخية التي تمر بها المجتمعات، على سبيل المثال، في فترات الاستعمار، تركز السردية على مقاومة الاحتلال، بينما في فترات الاستقرار يفترض انها تركز على التنمية والتقدم، في الثقافة الشرق اوسطية، تُستخدم الرموز الدينية والتاريخية بناءً على الانتماءات السياسية ويمكن أن تُستخدم السرديات لتعزيز الهوية الوطنية في سياقات معينة، بينما تُستغل في سياقات أخرى لتبرير الصراعات السياسية، تتغير السرديات مع التحولات الاجتماعية. تختلف تجارب الأفراد والجماعات، مما يؤدي إلى تنوع السرديات، يمكن أن تكون هناك سرديات متعددة لنفس الحدث بناءً على منظور الأفراد، تتأثر سردية البطل المظلوم بالسياقات التاريخية والثقافية المختلفة، مما يؤدي إلى تنوع في كيفية تشكيلها واستخدامها، تؤثر الاختلافات في سردية البطل المظلوم على فهمنا للتاريخ من خلال تشكيل الروايات، تفسير الأحداث، وتوجيه السياسات والقيم.

دور الدين

يلعب الدين دورًا محوريًا في تشكيل سردية البطل المظلوم في التاريخ الشرق اوسطي. من خلال توفير إطار أخلاقي، تعزيز الهوية الجماعية، وتحفيز المقاومة، مما يؤثر بشكل عميق على الوعي الجماعي والتاريخ الثقافي لشعوب المنطقة، يختلف دور الدين في تشكيل سردية البطل المظلوم عبر مختلف الطوائف الدينية في المنطقة بطرق متعددة، اذ تختلف الطوائف في تفسير القيم الدينية والنصوص المقدسة، مما يؤثر على كيفية فهمهم لسردية البطل المظلوم، في بعض الأحيان تُستخدم السرديات لتعزيز الانتماء الطائفي، مما يؤدي إلى انقسامات في المجتمعات، يتباين دور الدين في تشكيل سرديات البطل المظلوم عبر الطوائف الدينية المختلفة، مما يعكس تنوع الفهم والتفسير الثقافي والسياسي. هذه الاختلافات تؤثر على الهويات الجماعية وتوجهات الاحتجاج والنضال في المجتمعات. أثرت الاختلافات الطائفية على الصراعات السياسية في المنطقة بعدة طرق،  ساهمت في تأجيج الانقسامات داخل المجتمعات، مما أدى إلى تعزيز النزاعات المحلية والإقليمية، غالبًا ما تتشكل التحالفات السياسية على أساس طائفي، حيث تسعى كل طائفة إلى دعم مصالحها الخاصة، مما يعزز من الانقسام ويقلل من فرص الحوار، تأخذ بعض الصراعات شكلًا مسلحًا بسبب التوترات الطائفية، حيث تحول الاختلافات الطائفية إلى قتال بين الجماعات تستغلها قوى خارجية لتحقيق مصالحها، مما يؤدي إلى تفاقم الأوضاع وزيادة التعقيد في الصراعات السياسية، يمكن أن تؤدي السياسات الطائفية إلى إقصاء بعض الجماعات من المشاركة السياسية، مما يزيد من مشاعر الإحباط والغضب، ويسهم في نشوء حركات احتجاجية تُستخدم السردية الدينية لتبرير السياسات أو الحروب، مما يعزز من حالة الاستقطاب ويؤثر على مسارات الصراع، تساهم الاختلافات الطائفية في تعزيز الهويات الجماعية، مما يؤدي إلى تصاعد النزعة الوطنية الطائفية على حساب الهوية الوطنية الشاملة، تؤثر النزاعات الطائفية على التحولات الاجتماعية، حيث تتعرض المجتمعات للتفكك، مما يؤدي إلى تراجع الثقة بين الأفراد والجماعات المختلفة، و يعزز الانقسامات ويزيد من تعقيد الأوضاع. تتطلب معالجة هذه الصراعات جهودًا شاملة لتعزيز الحوار والتفاهم بين الطوائف المختلفة وتجاوز السردية التاريخية الوهمية، في ظل الانقسامات الطائفية لم يتبق لسردية البطل المظلوم أي صلة، حيث لا تعكس التحديات الحالية ولاتساعد في تطوير فهم أعمق للتحديات الإنسانية والاجتماعية الكبرى.

***

غالب المسعودي

 

ليس من السهل أن تستقر الذات في مكان لم يُصغَ لها فيه خطاب أول. لا لأن العالم الجديد معادٍ بالضرورة، بل لأن الداخل نفسه بات هشًّا من فرط التحولات المستمرة، مقطوعًا عن جذره الأول، ومنساقًا في الوقت ذاته نحو فضاء لا يرى فيه سوى انعكاس متشظٍ لصورته.

فالهوية لا تُختبر في صدام الحضارات، كما يُروَّج، بل في التفاصيل اليومية: نبرة الصوت، الطريقة التي تُقال بها الحقيقة، والمسافة الدقيقة بين ما يُقال فعلًا وما يُفهم. تتسرب الهيمنة من الأبنية الكبرى إلى العلاقات الصغيرة، وتعيد تشكيل موقع الفرد لا باعتباره مجرد مهاجر، بل كذات يتم تكييفها داخل بنية رمزية كاملة، تُعيد قولبة طموحاته، لغته، وحتى طريقته في التفكير.

حين يكون المرء من خلفية تحمل أسئلة عن العدالة، والطبقية، والمقاومة، يجد نفسه أمام معضلة دقيقة: كيف يعبّر عن نفسه في بيئة لغتها مشبعة بشروط لم يصنعها؟ كيف يكتب دون أن يكون ملزماً بتعريف نفسه أولًا، وتفسير سياقه ثانيًا، وتبرير موقعه ثالثًا؟ لا تُطرح هذه الأسئلة علنًا، لكنها تعيش في المفاصل: داخل الحوارات الثقافية، داخل المقالات، داخل قاعات المؤتمرات التي لا تطلب منك أن تُفكّر بقدر ما تطلب منك أن تُبرهن على قدرتك على “الاندماج” السلس.

ثم يأتي الثمن الباهظ: أن تقول الحقيقة، لكن بلغة الآخر. أن تمرر أفكارك عبر وسائط غير محايدة، عبر قنوات مشروطة بمقاييس تمثيل مسبقة. لا يُطلب منك أن تكون ذاتًا حرّة، بل أن تكون ناطقًا باسم غيابٍ دائم. حتى حين تُعبّر عن قضاياك، يُفترض بك أن تفعل ذلك بلهجة لا تُربك المستمع، بل تُقنعه، تُعلي من شأن حسّه الإنساني، دون أن تُهدد موقعه الرمزي.

ورغم كل هذا التوتر الكامن، لا يمكن إغفال المفارقة المُرّة: فالمثقف الذي يُفترض فيه أن يكون منتجًا للمعنى وناقدًا للمنظومات، يتحول أحيانًا إلى كائن أدائي يُستحضر عند الطلب، ليلعب دورًا مرسومًا مسبقًا في عروض تمثيلية حول “الآخر” و”الشرق” و”الإسلام” و”المرأة” و”الاستعمار”. يُسمَح له بالكلام فقط ما دام صوته متناغمًا مع الإيقاع المُعدّ سلفًا، ثم يُسحب الميكروفون فور انتهاء دوره.

وما هو أكثر خفاءً من هذا الاستبعاد الصريح هو تلك اللحظة التي يبدأ فيها، من دون وعي منه، بإعادة تقديم نفسه على مقاس التوقعات الخارجية، كأن وجوده لا يكتمل إلا من خلال مرآة الغير. وفي هذا التماهي الناعم مع شروط اللعبة، تُطمس الحدود بين المقاومة والتواطؤ، ويبدأ المحو الرمزي في ارتداء قناع التمثيل والاحتفاء.

لننظر إلى بعض النماذج الحية: المفكر اللبناني فواز طرابلسي، والأكاديمية المصرية الراحلة فريدة النقاش، والكاتبة العراقية هناء أدور، وغيرهم من المثقفين الذين رغم اشتغالهم في بيئات غربية، ظلوا يقاومون بذكاءٍ ناعمٍ هيمنة السردية المركزية الغربية، دون أن يسقطوا في فخ الضحية الدائمة.

لكنهم في المقابل ظلوا تحت مطرقة “التمثيل”: هل هم ممثلون لثقافة عربية؟ أم ناشطون أم أفرادٌ كونيون؟ ولماذا يُفترض بهم دائمًا أن يكونوا صوتًا لغيرهم؟ هذه أسئلة تُسائل البنية الأخلاقية والمعرفية للمؤسسة الأكاديمية الغربية ذاتها، وتكشف كيف أنها، رغم انفتاحها الظاهري، لا تزال تحكمها بنية سلطة ناعمة تتطلب الخضوع، ولو في صورة اللباقة والتكيف.

الأديب السوداني الطيب صالح، حين كتب “موسم الهجرة إلى الشمال”، لم يكن يعرض تجربة مصطفى سعيد فقط، بل كان يرسم فداحة هذا الاغتراب المزدوج: مغترب عن وطنٍ يكاد ينساه، ومغترب داخل وطنٍ جديد لا يعترف به إلا ككائن غريب، مسلٍّ أحيانًا، خطيرٍ أحيانًا، لكنه نادرًا ما يُنظر إليه كذاتٍ فاعلة.

قال الطيب صالح: “إنني أُفكر في ذلك الرجل الذي ذهب إلى أوروبا، ثم عاد، وكان في عينيه شيء لا أعرفه”، وهذا “الشيء” هو بالضبط ما نحاول أن نحلله هنا: تلك الشروخ الدقيقة في الوعي، التي تتسلل من تماس الثقافات، وتنتج فردًا ممزقًا بين مرجعيتين، لا يستطيع الانتماء الكامل لأيٍّ منهما دون أن يخون الأخرى.

لم يكن الطيب صالح مجرد مراقب للأزمة التي تتولد من الاغتراب بين الثقافات، بل كان جزءًا من هذه المعادلة. فقد عاش في لندن ودرس فيها، وتزوج من إنجليزية، ليختبر بشكل مباشر تلك المسافة النفسية والجغرافية بين الشرق والغرب. كانت تجربته الشخصية، كما جسدها في مصطفى سعيد، تتجاوز مجرد سرد قصة فردية، بل كانت تتعلق بمفارقة عميقة: كيف يتماهى الفرد مع ثقافة جديدة في حين يظل ملزمًا بتفكيك هويته الأصلية.

مع إقامته في الغرب، عاش صالح ذاته كما لو كانت في حالة تفاعل دائم مع بيئة أخرى، ولكنّه لم يسلّم بسهولة لمفهوم الاندماج المريح الذي يروج له الغرب. فكان في كل خطوة من خطواته يحاول التوفيق بين كونين لا يلتقيان دائمًا.

في هذا السياق، نجد أننا أمام ذات مُراقَبة، ذات تُعِدّ خطابها باستمرار، تخشى الزلل، تخشى التأويل المغلوط، تعاني من فرط الانتباه لذاتها. إنها ذات “منقسمة على نفسها”، كما يسميها لاكان، تتحدث ولكنها تسمع نفسها أيضًا كأنها تتقمص دور المراقِب والمراقَب في آن.

في جلسات النقاش، يلاحظ بعضهم كيف يضبط المثقف العربي نبرته، وكيف يُراجع ألفاظه وهو يتحدث، كأن اللغة أصبحت فخًا، أو كأنها تَجُرُّه إلى طرف من أطراف الصراع الذي يحاول أن يتجاوزه.

تُسائلنا هذه الظاهرة أيضًا عن فداحة المسافة بين الحرية والاعتراف، بين أن تكون ما أنت عليه، وأن يُسمح لك بأن تكونه. الاغتراب هنا ليس ماديًا فحسب، بل هو اغتراب رمزي، هوياتي، نفسي.

لذلك فإن كثيرًا من أبناء هذا المثقف، الذين وُلدوا ونشأوا في الغرب، يتعثرون بدورهم في شبكة من التناقضات: فهم لا ينتمون تمامًا إلى أوطان آبائهم، ولا يشعرون بالطمأنينة الكاملة في أوطان نشأتهم. إنهم يرثون الهشاشة في أقسى صورها: هشاشة لا تُرى، لكنها تدمغ الوعي بقلقٍ دفين، يصعب تشخيصه، ويصعب التعايش معه.

إن هذا كله لا يدعو إلى الرثاء، بل إلى التفكير الجاد. على المثقف أن يستعيد زمام خطابه، لا بردّة فعلٍ هوياتية متشنجة، بل بخلق سرديات جديدة، تمتلك القدرة على مساءلة الهيمنة لا بإنكار الآخر، بل بتعرية شروط ظهوره. المثقف ليس “ترجمانًا” للشرق، ولا “عارضًا” للخصوصية، بل فاعلٌ فكري يعبر السياقات بشروطه، دون أن يتحول إلى مرآة لأحد.

إن أعظم ما يفعله هذا المثقف، هو أن يصوغ من شتاته هويةً مرنة، صلبة، قادرة على قول “لا” دون صراخ، وعلى أن تُسائل دون أن تستجدي الاعتراف. أن يكون شاهقًا في حضوره، لا لأن الغرب اعترف به، بل لأنه اختار أن يكون هو، وسط هذا الركام من الصور المقولبة والمواقف المؤدلجة.

في النهاية، كل اغترابٍ يحمل نداءً داخليًا: أن تبحث عن ذاتك لا بين الجغرافيا واللغة فقط، بل بين المعنى والموقف. أن تظل مخلصًا لما تراه عدلاً، حتى لو تغير السياق، لأن الأصل في الهوية ليس الانتماء، بل الموقف من العالم.

***

إبراهيم برسي

بقلم: ناتالي لورانس

ترجمة: د. محمد غنيم

***

ناتالي لورانس تستكشف هوسنا الدائم بالوحوش، الداخلية والخارجية

" المينوتور يبرر وجود المتاهة أكثر من أي شيء آخر."

– خورخي لويس بورخيس

***

من أروع ما رأيتُ في حياتي كان خلال عطلة عائلية في جنوب فرنسا عندما كنتُ في الثانية عشرة من عمري تقريبًا. بعد أيام قضيناها في السباحة ولعب مباريات تنس عائلية صاخبة، قررنا استكشاف بعض الثقافة المحلية. كانت رحلة قصيرة بالسيارة لمشاهدة مصارعة ثيران في مدينة آرل القريبة. جلسنا في مقاعد المدرج الخشبية، وشعرنا بحماس متزايد بينما كان مصارعو الثيران يتبخترون حول الحلبة بملابسهم المطرزة الزاهية. كان المعلق يثير حماسة الجمهور باللغة الإسبانية.

ثم بدأ أول قتال - انفتح باب القفص وانطلق الثور مهرولاً عبر الرمال. لسبب ما، كنت أتوقع أن يكون أكبر حجماً بكثير. بالكاد وصل كتفه إلى صدر المصارع، بأرجله النحيلة التي تنتهي بحوافر مشقوقة أنيقة.لكن قرونه كانت تبدو قاتلة بلا شك .

تلا ذلك لعبة قط وفأر، أرادها مصارع الثيران، بينما لم يرغب الثور في ذلك. في كل مرة يحاول فيها الثور الميل إلى جانب الحلبة ليُكمل جولته، كان مصارع الثيران يُلاحقه برشاقة. كانت الرمح الأول صدمةً قوية، وُجهت ببراعة إلى مؤخرة رقبة الثور، مُلقيةً تصفيقًا حارًا من الجمهور. كانت الزخارف الزرقاء والوردية على رمح المصارع ترتفع وتنخفض بينما قفز الثور بانفعال، وبدأ الدم يتسرب على جانبيه.

مصارعة الثيران صراع بين الإنسان ووحشيته. إنها انفجار للعنف، وصمام ضغط للمشكلة الأبدية المتمثلة في كيفية التعامل مع الحيوان الكامن في داخلنا.

بعد حوالي عشر دقائق، كان الحيوان مثقوبًا بالرمح، وترك أثرًا من الدماء على الرمل. كل ما كنت أفكر فيه هو ألم تلك الرماح وهي تدور في جسده وهو يتحرك. المصارِع، المدعوم بتشجيع الجمهور، زاد من شدة هجومه وهو يدور حول الثور. بين حماس المحليين والسياح الذين كانوا يتحركون في مقاعدهم غير مرتاحين، بدأت أشعر أن هذا شيء لا أريد رؤيته. غادرنا قبل انتهاء المشهد المميت الأخير.

وليس من المستغرب أن تواجه مصارعة الثيران الإسبانية - حيث يُقتل الثور في النهاية - انتقادات متزايدة مع مرور الوقت. فرياضات الدماء هذه لا تتناسب مع القيم الحديثة. وتظل آرل واحدة من الأماكن القليلة التي ما زالت تشهد عروض مصارعة الثيران القاتلة، لتمثل بذلك الطرف الأخير من خيط ثقافي طويل ممتد. يحمل ذبح الثور الطقسي معنىً عميقًا يصعب محوه، لذا يُبدي السكان المحليون مقاومة شديدة عند اقتراح حظره. بعد أن شاهد إرنست همنجواي أول مصارعة ثيران له عام ١٩٢٣، علق قائلاً: "مصارعة الثيران ليست رياضة. إنها مأساة، وترمز إلى الصراع بين الإنسان والوحوش". إنها تُجسد علاقتنا المتوترة مع الحيوانات الأخرى، ومع الوحوش التي في داخلنا.

ولإبراز روعة هذا الصراع، تُربى الثيران بعناية فائقة. فقد وصف همنجواي أحد الثيران الذي رآه قائلاً: " مذهل تمامًا. بدا كأنه حيوان ما قبل التاريخ، قاتلاً بلا رحمة وشرساً للغاية". وأضاف في عالم مصارعة الثيران: "الثور المقاتل الجيد هو ببساطة ثور شرير لا يمكن إصلاحه". أما مصارعو الثيران، فيسعون جاهدين لتحقيق الكمال، ليقاتلوا بلا عيب. وعلق همنجواي قائلاً: "أسوأ انتقاد يوجهه الإسبان لمصارع الثيران هو وصفه لعمله بأنه "مبتذل". يجب أن يكون الرقص بين "الوحش" و"البطل" أنيقًا ليكون فنًا ذا معنى.

قد تكون مصارعة الثيران مواجهة بين الإنسان والحيوان، لكنها تختلف تمامًا عن الصيد، الذي هو حالة أبسط من مواجهة الإنسان للطبيعة وقهرها. مصارعة الثيران معركة مُصممة، قصة أخلاقية تُعرض لجمهور لا تتطلب الموت. كان أسلوب مصارعة الثيران الذي أراد والداي اصطحاب ابنتيهما إليه هو الأسلوب المحلي في آرل، حيث يقفز المصارعون فوق الثور ويرقصون حوله، متفادين إياه دون أن يُلحقوا به أذىً حقيقيًا. وفي أماكن أبعد، تؤدي مسابقات الروديو في الولايات المتحدة الغرض نفسه تقريبًا، حيث يمتطي رعاة البقر الثيران الجامحة لأطول فترة ممكنة، معرضين أنفسهم للدهس. حتى الأطفال الصغار يستطيعون تحدي قوة الحيوانات.

ذات مرة، في كولورادو، رأيتُ فقرة "مُصارعة الضأن" المخصصة للصغار في الروديو.     كان الصغار الشجعان يتشبثون بكل قوتهم بظهور الأغنام المذعورة ، التي أُطلقت لتعدو مسرعة عبر الحلبة الرملية، قبل أن ترمي راكبيها الصغار مثل أكياس البطاطس المتهالكة. وكان الفائز بلقب "بطل ركوب الخِراف" ذلك الطفل الذي يصمد أطول فترة على ظهر خروفه الصوفي الجامح.

لماذا يحتاج الناس إلى قتال الثيران؟ لماذا الصراع بين الإنسان والحيوان الذي وصفه همنجواي؟ لطالما عشنا مع الوحوش وعلى الوحوش، لذا أظهرنا ببراعة هيمنتنا على المخلوقات القريبة منا. القتال الماهر أمرٌ حميميٌّ للغاية، ولكنه أكثر من ذلك. نحن وحوش. مصارعة الثيران صراع بين الإنسان ووحشيته. إنها انفجار للعنف، وصمام ضغط للمشكلة الأبدية المتمثلة في كيفية التعامل مع الحيوان في داخلنا، وهو حبيس عالم متحضر. يقوم المصارِع البطولي بذبح ثور قرباني، ممثلاً لهذا الوحش الداخلي، والجمهور يحصل على تطهير عاطفي.  لقد خلق هذا العرض أسطورةً قويةً في مدن مصارعة الثيران في جنوب أوروبا. حتى بالنسبة لمن لا يعيشون بالقرب من ساحات مصارعة الثيران، لا تزال وحوش الثيران تطارد خيالنا.

بينما كانت أوروبا تعاني من ويلات الحرب في أوائل القرن العشرين، أنتج بيكاسو سلسلة من الأعمال التي تربط بين ثقافة مصارعة الثيران و"مينوتور" من العالم القديم، ممزوجة بأسطورته الشخصية.تم استكشاف هذا الموضوع في معرض "بيكاسو: مينوتوروس ومصارعو الثيران" (2017) في صالة جاجوسيان للفنون بلندن. من أشهر صوره، لوحة "مينوتوروماكي" (1935) المهيبة، مينوتورًا مفتول العضلات يلوح في الأفق بتهديد فوق امرأة عارية مستلقية. تُمسك به فتاة صغيرة تحمل شمعة. في بعض لوحات بيكاسو الأخرى، يُجسّد المينوتور قوة ذكورية حامية، يرفع فتاة مترهلة برقة إلى قارب؛ أو فتاة بائسة، ملتفة في وضعية الجنين، مثقوبة بسهم، تراقبها حوريات البحر.

كان الناقد الفني الكبير جون ريتشاردسون - وهو من عاصر بيكاسو وتوفي بعد أشهر من إشرافه على معرض غاغوسيان - قد كشف النقاب عام 2008 عن الجانب المظلم في شخصية الفنان. فبعد أن ذاق مرارة النقد اللاذع في بداياته، صار بيكاسو يتلذذ بإيقاع العذاب بالنقاد. كان ينقش لوحات بالغة التعقيد على رمال الشاطئ، ثم يقف متلذذاً وهو يرى علامات الذهول على وجوههم حين تأتي الأمواج فتمحو تلك التحف الفنية التي لا تُقدّر بثمن.

كان بيكاسو مفعماً بطاقة جارفة: كان يُريد استنباط مشاعرَ من حوله، "كأنه مصاص دماء". اشتهر بإثارة الفوضى في حياة النساء اللاتي عرفهن، عبر سلسلة من العلاقات العاطفية الحادة والخيانات المتكررة. لكنه، مثل بعض مينوتورات بيكاسو المبكية التي رسمها، كان أيضاً - كما أشار ريتشاردسون -   "ضحيةً للمصائب والمأساة" .

لقد كانت مينوتورات بيكاسو بمثابة قاعة مرايا من الصور ينظر من خلالها إلى ذاته. أما دوريان جراي لأوسكار وايلد فكانت له لوحة في علّيته تشيخ نيابة عنه بينما هو يستسلم لغرائزه الدنيا. أما بيكاسو فكان لديه مجموعة من المخلوقات الثوريّة الضخمة لتجسيد تلك الصفات القوية التي لم يستطع جسده الصغير احتضانها. في بعض الأحيان، كان يرتدي أحد رؤوس الثور التي يرتديها مصارعو الثيران أثناء التدريب ليُصور بها - ليصبح حرفيًا مينوتورًا. قال بيكاسو نفسه عام 1960: "لو وُسمت جميع الطرق التي سلكتها على خريطة ووُصلت بخط، لربما مثلت مينوتورًا". لقد ترك رحلة بيكاسو كإنسان أثرًا لوحش.

قليل من الناس يفكرون في أنفسهم ككائنات نصف-وحش محاصرة في قوالب بشرية، لكن هناك صدى للحيوان في كل واحد منا. وحش نكافح معه، كبيرًا كان أم صغيرًا، محاصرًا ومقيدًا في متاهة الحياة الحديثة. يبحث هذا الفصل في كيفية تعاملنا مع المينوتور، المحاصرين بعناية في متاهات عقولنا، وتكلفة إبعادهم.

قبل وقت قصير من رسم بيكاسو لوحاته لرجال-الثيران، كانت أنقاض قصر قديم تُكتشف في كنوسوس، على مشارف هيراكليون في كريت. لم يكن عالم الآثار الشاب آرثر إيفانز أول من نقب هناك، بل سار على خطى عدد من الآثاريين اليونانيين. لكن أصولهم لم تتناسب مع الروايات البطولية لاكتشافات القرن العشرين الأثرية كما فعلت قصة إيفانز، فظل هو من يحظى بأضواء الشهرة بأثر رجعي.

كان إيفانز مُلِمًّا بفكرة أن كنوسوس قد تكون موقع قصر الملك مينوس ومتاهته. كانت هذه صلةً ابتكرها الكُتّاب الرومان القدماء، وأُعيد إحياؤها مرارًا على مر القرون، وافترضها الكثيرون في أوروبا في أوائل القرن العشرين. كان إيفانز مُتشكِّكًا في البداية في هذه الصلة، إذ كان يعلم أنها لم تُذكر حتى في النصوص اليونانية الكلاسيكية. ولكن عندما اكتشف مجموعةً من الممرات والغرف المُتعرِّجة في كنوسوس، لم يستطع منع نفسه. ففي مُخيَّلته، استحضرت الآثار المتاهة وقصر الملك مينوس. وقد أطلق على الحضارة المُكتشفة حديثًا اسم "المينوية"، تيمُّنًا بالملك الأسطوري.

سيصبح هذا الارتباط هوسًا لإيفانز ويأسر عقول علماء الآثار من بعده. ولكن زيارة كينوسوس بحثًا عن آثار المتاهة هي مهمة عبثية. رغم أن هذه الفكرة تعتبر مصدرًا رئيسيًا للإيرادات لصناعة السياحة في كريت، لم يتم العثور على أي أثر فعلي للمتاهة في كينوسوس. كنت أعرف هذا عندما زرت الموقع. كان الموقع الذي يقع على قمة التل يبرز في السماء، محاطًا بقِمم جبلية شاحبة محفوفة بالأشجار الداكنة. كان يبدو وكأنه مكان أسطوري. في أعماقي، كنت آمل سرا أن أواجه آثارًا لخطوات المينوتور وأثره لتلهمني هذا الفصل. لكن كان من الممكن أن أكون قد تجولت في شوارع كابري السياحية المبالغ في أسعارها بحثًا عن صفارات أو حوريات بحرية.

لا شك أن روح كريت القديمة كانت متشابكة مع الثيران، تمامًا كما هي الحال في آراس اليوم.

كان القصر مزخرفًا بالرسوم الجدارية والتماثيل التي تظهر ثيرانًا وأشكالًا بشرية راقصة، تقفز فوق أجسادها المتلوية والمليئة بالعضلات. أشعلت هذه الرموز حماس إيفانز في رحلة البحث عن المتاهة. بدأ بسرد قصة إحدى أقدم الحضارات الأوروبية، التي ازدهرت حتى حوالي عام 1450 قبل الميلاد. كانت كريت قد قامت بالتجارة عبر بحر إيجة، وبلاد ما بين النهرين—حتى أنها وصلت إلى شمال أوروبا—وأصبحت غنية لدرجة أنها هيمنت على جميع الجزر المتوسطية المجاورة. في النصوص المبكرة، كانت هذه القوة المتزايدة تُنسب إلى طموح وقوة الملك مينوس،  لكن سواء كان شخصية تاريخية حقيقية أم مجرد رمز، فهذا أمر لن نعرفه أبدًا.

تذكر هذه الأساطير القديمة سراً مظلماً يكمن تحت قصر الملك. متاهة : مجموعة من الممرات الصخرية المتعرجة التي تلتف حول نفسها، تتشابك وتتداخل في تعقيد لا ينفك. من مدخل واحد، كانت تقود إلى قلب هذه المتاهة الغامضة. بناها الصانع الماكر دايدالوس، الرجل الوحيد القادر على صنع متاهة حقيقية لا مهرب منها.في أعماق هذا التيه، كان يسكن مخلوق لم يرغب الملك مينوس أبداً أن يرى نور النهار، ولا حتى أن يُذكر اسمه في أروقة القصر: ابن زوجته.

كان اسم الصبي أستيريون (Asterion)، ويعني "النجم المتلألئ" - ويا لسخرية القدر، فقد نادرًا ما رأى السماء. وُلد من زوجة مينوس، باسيفاي، نتيجة رغبتها العارمة في ثور أبيض لامع. كان هذا الثور قد خرج من زبد البحر، هدية من إله البحر بوسيدون ليُضحَّى به تكريمًا له. لكن مينوس، الذي أعماه الجشع، احتفظ بالثور ضمن قطعانه، وقدم بدلًا منه حيوانًا آخر، معتقدًا أن بوسيدون لن يلاحظ الخدعة.

كعقاب، ملأ بوسيدون زوجة مينوس برغبة جامحة لا تُروى تجاه الثور الأبيض. بقيت عند حظيرته، تراقب خاصرته البيضاء اللامعة، وتتنهد شوقًا. وإذ أرهقتها استحالة العلاقة بين نوعين مختلفين، توسلت إلى المثال دايدالوس لمساعدتها. فصنع لها نموذجًا واقعيًا لبقرة—مجوفًا ومكسوًا بجلد بقري. حمله إلى وسط الحقل، وساعدها على الدخول إليه، ثم تركها لمتعتها المشبوهة مع عاشقها البقري.

قلة من الناس يرون أنفسهم كأنصاف وحوش محاصرين في هيئة بشرية، لكن هناك صدى للحيوان في داخل كل واحد منا.

كان الطفل الذي أنجبته من هذا الزواج وحشًا، طفلًا برأس ثور. لكنه كبر بسرعة، مختبئًا، وأصبح عنيفًا وقويًا بشكل لا يُصدق. لذا، زجّ مينوس الشاب الوحشي في ظلمة المتاهة. لم يُسمع في أرض القصر سوى صدى زئيره الخافت. مع ذلك، كان لا بد من إطعام المخلوق.

كل تسع سنوات، كانت تصل سفينةٌ من أثينا تُرسل جزيةً مؤلفة من أربعة عشر شابًا وفتاة، وهي ضريبةٌ فرضتها جيوش مينوس. كانت تُقام لهم وليمةٌ فاخرة ويزيّنون بأكاليل الزهور، ويغمرون بترف ليلةً واحدة. في اليوم التالي، لكن في صباح اليوم التالي، كانت ترتجف أجسادهم وهم يواجهون لوح باب المتاهة الحجري. لن يروه إلا مرةً واحدة، قبل أن يبتلعهم الظلام إلى الأبد.

أتخيل أن أستيريون كان يشعر بدخول القرابين عبر الممرات المتعرجة. سنوات الانتظار في الظلام الدامس شحذت حواسه لكل تغيير طفيف: النمو البطيء والمؤلم للشقوق في الحجر، أو أعمدة الغبار الصغيرة التي تثيرها أقدام الجرذان الهاربة. لم تكن عيناه مهيأتين للظلام، لكن أذنيه السوداوين الناعمتين التقطتا أصداء رعبهم الخافتة. أنفه الرطب التقط كل رائحة باهتة. مع دخول الشبان والشابات، اشتعل الهواء الراكد برائحة عرق الخوف النفاذة. لم يكن بحاجة إلى مطاردتهم—فهم سيأتون إليه بأنفسهم. كل مسار في المتاهة قادهم إلى مركزها، حيث تاهت خطواتهم في دوامة من الرعب، دافعةً إياهم نحو ما كانوا يفرون منه.

بعد واحد وعشرين عامًا من سجنه، سمع المينوتور للمرة الثالثة صدى ارتطام باب المتاهة وهو يُغلق بعنف. التقط أنفه رائحة الخوف المعتادة، لكن وسط هذا الذعر كان هناك شيء مختلف: تصميم. لأول مرة، شعر بغضب مشوب بنذير شؤم. كان هناك شيء قادم نحوه.

كان ثيسيوس، ابن بوسيدون، وربيب ملك أثينا، عازمًا على تحرير شعبه من طغيان مينوس. كان يحمل جائزةً ستنقذه من المتاهة - خيطًا أحمرَ قانيًا أهدته إياه أخت أستيريون غير الشقيقة الجميلة، أريادن. كانت قد وقعت في حب الأمير الشاب وهو يرقص في الوليمة الليلة السابقة، وقررت إنقاذ ثيسيوس من مصيره المظلم. حاصرته، بينما كان المحتفلون السكارى يمرحون حولهما، لفّته بعطرها الدافئ، وأغلقت أصابعه حول الكرة الخيطية. كانت وعدًا بالحرية — بشرط أن يأخذها ثيسيوس معه بعيدًا.

في صباح اليوم التالي، بينما كان سائر الأثينيين يتراجعون مرتعدين بجوار الباب، منكمشين من ظلال المتاهة، ربط ثيسيوس طرف الخيط بإحكام وأخذ يفكك الكرة الخيطية بجانبه متقدماً في الظلام. رسم الخيط اللامع خطواته نحو عرين الوحش ثم—بعد أن غُمر بالدماء وخَرَجَ منتصراً—قاده مرة أخرى إلى النور. فتح الشباب الباب ببطء ، وانسلّت الشخصيات الأربع عشرة ليلاً نحو الميناء. في ظلمة المتاهة، ظلت كومة سوداء ساكنة على الأرض الرملية في مركز التيه. غمضت عينا أستيريون وتغيرت نظرتهما تدريجيًا.

***

..............................

* من كتاب "مخلوقات مسحورة: وحوشنا ومعانيها" لناتالي لورانس.

الكاتبة: ناتالي لورانس/ Natalie Lawrence: ناتالي لورانس كاتبة ورسامة وباحثة. حاصلة على شهادة في العلوم الطبيعية، وحصلت على شهادة الدكتوراه في تاريخ وفلسفة العلوم من جامعة كامبريدج عن عملها على الوحوش الغريبة في العصر الحديث المبكر. نشرت كتاب "الإنسان العاقل" مع باكو كالفو عام ٢٠٢٢، وأول كتاب منفرد لها بعنوان "ريش وقشور بيض" عندما كانت مراهقة. نُشرت كتاباتها في مجلات "نيو ساينتست"، و"مجلة أيون"، و"أطلس أوبسكورا"، و"بي بي سي للحياة البرية"، وغيرها، كما ألقت محاضرات في مؤتمرات تيدكس، وراديو بي بي سي، وبرامج بودكاست. تعيش في لندن مع خزانة فضولها، وأحيانًا مع عثة الأطلس.

 

تَأْثِيرُ بِيئَةِ الْمَدْرَسَةِ عَلَى سُلُوكِ الْأَطْفَالِ وَمَيْلِهِمْ لِلْجَرِيمَةِ

الْمَدْرَسَةُ هِيَ مُؤَسَّسَةٌ تَعْلِيمِيَّةٌ يَتَعَلَّمُ فِيهَا الطُّلَّابُ مُخْتَلِفَ الْعُلُومِ. تَمُرُّ الدِّرَاسَةُ بِعِدَّةِ مَرَاحِلَ: الِابْتِدَائِيَّةِ، الْإِعْدَادِيَّةِ، وَالثَّانَوِيَّةِ. كَمَا تَنْقَسِمُ الْمَدَارِسُ إِلَى مَدَارِسَ خَاصَّةٍ وَحُكُومِيَّةٍ. يَبْدَأُ التَّعْلِيمُ الْإِجْبَارِيُّ عِنْدَ سِنِّ السَّادِسَةِ مِنْ الْعُمْرِ، بِهَدَفِ تَعْلِيمِ الطِّفْلِ أُسُسَ الْقِرَاءَةِ وَالْكِتَابَةِ وَالْحِسَابِ. وَتُعَدُّ الْمَرْحَلَةُ الِابْتِدَائِيَّةُ مِنْ أَبْرَزِ الْمَرَاحِلِ فِي تَشْكِيلِ شَخْصِيَّةِ الطِّفْلِ وَتَوْجِيهِهِ.

تَتَمَثَّلُ أَهَمِّيَّةُ الْمَدْرَسَةِ لِلطَّالِبِ وَأُسْرَتِهِ فِي التَّعَاوُنِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا فِي تَرْبِيَةِ الطَّالِبِ، حَيْثُ يَقْضِي وَقْتًا طَوِيلًا يَوْمِيًّا دَاخِلَهَا. لِلْمَدْرَسَةِ دَوْرٌ فِي تَنْمِيَةِ شَخْصِيَّةِ الطَّالِبِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، فَهِيَ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ مَكَانٍ لِلتَّعَلُّمِ، بَلْ بِيئَةٌ اجْتِمَاعِيَّةٌ تُتِيحُ لَهُ التَّفَاعُلَ مَعَ زُمَلَائِهِ وَمُعَلِّمِيهِ. كَمَا تُسَاهِمُ الْمَدْرَسَةُ فِي مُسَاعَدَةِ الْأُسْرَةِ عَلَى اكْتِشَافِ مَوَاهِبِ الطِّفْلِ وَتَطْوِيرِهَا.

إِنَّ مُجْتَمَعَ الْمَدْرَسَةِ يُعَدُّ أَوَّلَ بِيئَةٍ خَارِجِيَّةٍ يَتَعَرَّضُ لَهَا الطِّفْلُ بَعْدَ فَتْرَةٍ مِنْ الْعُمْرِ قَضَاهُ مَعَ أُسْرَتِهِ. هِيَ بِيئَةٌ مُؤَقَّتَةٌ لِلطِّفْلِ، حَيْثُ يَمُرُّ بِهَا حَتَّى نِهَايَةِ سَنَوَاتِ الدِّرَاسَةِ أَوْ فِي حَالِ فَشَلِهِ الْأَكَادِيمِيِّ، فَيَنْتَقِلُ إِلَى بِيئَةٍ أُخْرَى مِثْلِ مُجْتَمَعِ التَّدْرِيبِ الْمِهْنِيِّ. تَلْعَبُ الْمَدْرَسَةُ دَوْرًا تَهْذِيبِيًّا مُهِمًّا، فَهِيَ تَمْنَحُ الطِّفْلَ الْمَعْرِفَةَ، وَتُعَلِّمُهُ الْقِيَمَ الدِّينِيَّةَ وَالْأَخْلَاقِيَّةَ، وَتَعُدُّهُ لِلْحَيَاةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ عِنْدَ انْدِمَاجِهِ فِي الْمُجْتَمَعِ الْأَوْسَعِ. لَا يُعْتَبَرُ مُجْتَمَعُ الْمَدْرَسَةِ مِنْ عَوَامِلِ الْإِجْرَامِ، بَلْ هُوَ بِيئَةٌ تَعْلِيمِيَّةٌ وَتَرْبَوِيَّةٌ تُسَاهِمُ فِي تَهْذِيبِ الطِّفْلِ خِلَالَ السَّاعَاتِ الَّتِي يَقْضِيهَا بَعِيدًا عَنْ أُسْرَتِهِ. يَلْعَبُ دَوْرُ الْمَدْرَسَةِ التَّعْلِيمِيُّ أَهَمِّيَّةً كَبِيرَةً فِي تَحْدِيدِ مُسْتَقْبَلِ الطِّفْلِ، وَيَتَطَلَّبُ نَجَاحُهُ تَأْهِيلَ الْمُعَلِّمِينَ وَالتَّعَاوُنَ بَيْنَ الْأُسْرَةِ وَالْمَدْرَسَةِ. أَمَّا الدَّوْرُ التَّرْبَوِيُّ وَالتَّهْذِيبِيُّ لِلْمَدْرَسَةِ، فَيَتَمَثَّلُ فِي تَعْلِيمِ الْقِيَمِ وَالْمُثُلِ الْعُلْيَا، بِالْإِضَافَةِ إِلَى أَنَّ الْمُعَلِّمَ يُعَدُّ نَمُوذَجًا يُحْتَذَى بِهِ بِالنِّسْبَةِ لِتَلَامِيذِهِ، مِمَّا يَزِيدُ الْمَسْؤُولِيَّةَ عَلَى عَاتِقِهِ، وَيَدْفَعُهُ لِلْعَمَلِ بِجِدٍّ لِيَكُونَ قُدْوَةً حَسَنَةً لِطُلَّابِهِ.

لِذَلِكَ، تُعَدُّ الْمَدْرَسَةُ عَامِلًا وِقَائِيًّا مِنْ الِانْحِرَافِ وَالْإِجْرَامِ إِذَا أَدَّتْ دَوْرَهَا التَّعْلِيمِيَّ وَالتَّرْبَوِيَّ بِشَكْلٍ صَحِيحٍ، بَيْنَمَا قَدْ يُسْهِمُ غِيَابُ هَذَا الدَّوْرِ فِي انْحِرَافِ الطِّفْلِ. وَيُؤَثِّرُ الْفَشَلُ الدِّرَاسِيُّ سَلْبًا عَلَى نَفْسِيَّةِ الطِّفْلِ وَسُلُوكِهِ، حَيْثُ يُؤَدِّي عَدَمُ التَّكَيُّفِ مَعَ بِيئَةِ الْمَدْرَسَةِ إِلَى مُحَاوَلَةِ الْهُرُوبِ مِنْهَا. وَيَعْنِي الْهُرُوبُ عَدَمَ الْتِزَامِ التِّلْمِيذِ بِوَقْتِهِ دَاخِلَ قَاعَاتِ الدِّرَاسَةِ، مِمَّا قَدْ يَدْفَعُهُ إِلَى الْبَحْثِ عَنْ بَدَائِلَ، كَقَضَاءِ الْوَقْتِ فِي الشَّوَارِعِ، حَيْثُ يَكُونُ عُرْضَةً لِلتَّأَثُّرِ بِرِفَاقِ السُّوءِ وَاكْتِسَابِ سُلُوكِيَّاتٍ مُنْحَرِفَةٍ. 

الْفَشَلُ الدِّرَاسِيُّ يَحْمِلُ دَلَالَةً اجْتِمَاعِيَّةً، إِذْ يَعْكِسُ ضَعْفَ شَخْصِيَّةِ الطِّفْلِ وَعَجْزَهُ عَنْ التَّكَيُّفِ مَعَ الضَّوَابِطِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ. كَمَا قَدْ يُشِيرُ إِلَى وُجُودِ مَشَاكِلَ دَاخِلِيَّةٍ قَدْ تُؤَدِّي، إِذَا لَمْ تُعَالَجْ سَرِيعًا، إِلَى الِانْحِرَافِ وَالْإِجْرَامِ مُسْتَقْبَلًا. بِالْإِضَافَةِ إِلَى ذَلِكَ، يُمْكِنُ أَنْ يُوَلِّدَ الْفَشَلُ الدِّرَاسِيُّ لَدَى الطِّفْلِ عُقَدًا نَفْسِيَّةً خَطِيرَةً، حَيْثُ يَشْعُرُ بِالظُّلْمِ وَالْحِقْدِ تُجَاهَ الْمُجْتَمَعِ الَّذِي يَعْتَبِرُهُ مَسْؤُولًا عَنْ فَشَلِهِ. هَذِهِ الْعُقَدُ تَتَطَوَّرُ إِلَى عَدَاءٍ لِلْمُجْتَمَعِ وَقَدْ تَقُودُ الطِّفْلَ إِلَى سُلُوكِيَّاتٍ لَا اجْتِمَاعِيَّةٍ.

إِذَا اقْتَرَنَ الْفَشَلُ الدِّرَاسِيُّ بِفَشَلِ الطِّفْلِ فِي تَعَلُّمِ حِرْفَةٍ مُعَيَّنَةٍ، فَهَذَا يَعْنِي انْغِلَاقَ فُرَصِ الْعَمَلِ أَمَامَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، مِمَّا يُؤَدِّي إِلَى شُعُورِهِ بِالْيَأْسِ وَالْإِحْبَاطِ وَالتَّمَرُّدِ عَلَى النِّظَامِ الِاجْتِمَاعِيِّ. كَمَا أَنَّ الْفَاشِلَ فِي الدِّرَاسَةِ وَفِي التَّدْرِيبِ الْمِهْنِيِّ يَكُونُ أَكْثَرَ عُرْضَةً لِلْبِطَالَةِ وَالْعَوَامِلِ الِاقْتِصَادِيَّةِ الَّتِي قَدْ تَدْفَعُهُ نَحْوَ الِانْحِرَافِ. وَبِالتَّالِي، يَتَعَلَّمُ التِّلْمِيذُ الْفَاشِلُ مُنْذُ الْبِدَايَةِ الْعَيْشَ عَلَى هَامِشِ الْقَوَاعِدِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، مُحَاوِلًا التَّمَلُّصَ مِنْ السُّلُوكِ السَّوِيِّ. وَهَذَا يَعْكِسُ فِي النِّهَايَةِ أَنَّ فَشَلَ التَّعْلِيمِ وَالتَّرْبِيَةِ يَتَرَافَقُ مَعَ تَدْرِيبٍ عَلَى السُّلُوكِيَّاتِ اللَّااجْتِمَاعِيَّةِ، الَّتِي تُمَهِّدُ الطَّرِيقَ نَحْوَ الْإِجْرَامِ.

الْفَشَلُ الدِّرَاسِيُّ، كَمَا أَشَرْنَا، قَدْ يُؤَدِّي إِلَى انْتِقَالِ الْحَدَثِ إِلَى مَرْحَلَةِ الْإِعْدَادِ الْمِهْنِيِّ، أَوْ قَدْ يَلْتَحِقُ بِهَا بَعْدَ إِتْمَامِ الْمَرْحَلَةِ الْأَسَاسِيَّةِ مِنْ التَّعْلِيمِ لِلتَّدَرُّبِ عَلَى حِرْفَةٍ. وَيَخْتَلِفُ مُجْتَمَعُ الْإِعْدَادِ الْمِهْنِيِّ عَنْ الْأُسْرَةِ وَالْمَدْرَسَةِ، نَظَرًا لِضَعْفِ أَوْ غِيَابِ الدَّوْرِ التَّهْذِيبِيِّ وَالتَّرْبَوِيِّ، إِذْ تَقْتَصِرُ هَذِهِ الْمَرْحَلَةُ عَلَى التَّدْرِيبِ الْعَمَلِيِّ. وَخِلَالَهَا، يَتَمَتَّعُ الْحَدَثُ بِقَدْرٍ مِنْ الْحُرِّيَّةِ قَدْ يُسِيءُ اسْتِغْلَالَهُ، بِالْإِضَافَةِ إِلَى حُصُولِهِ عَلَى أَجْرٍ قَدْ يُسَهِّلُ بَعْضَ السُّلُوكِيَّاتِ غَيْرِ السَّوِيَّةِ. وَمَعَ اعْتِيَادِهِ عَلَى الْإِنْفَاقِ مِنْ دَخْلِهِ، قَدْ لَا يَكْفِيهِ لِسَدِّ احْتِيَاجَاتِهِ، مِمَّا قَدْ يَدْفَعُهُ إِلَى السَّرِقَةِ، الَّتِي غَالِبًا مَا تَكُونُ مِنْ مَكَانِ التَّدْرِيبِ أَوْ الزُّمَلَاءِ. كَمَا قَدْ يَنْجَذِبُ، تَحْتَ إِغْرَاءِ الْمَالِ، إِلَى تَقْلِيدِ زُمَلَائِهِ الْمُدَخِّنِينَ، مِمَّا قَدْ يَقُودُهُ لَاحِقًا إِلَى تَعَاطِي الْمُخَدِّرَاتِ.

يُعَدُّ فَهْمُ أُسْلُوبِ الْحَيَاةِ الْمَدْرَسِيَّةِ شَرْطًا أَسَاسِيًّا لِكُلِّ مُرَبٍّ فَاضِلٍ يَسْعَى لِأَدَاءِ دَوْرِهِ بِفَاعِلِيَّةٍ دَاخِلَ هَذِهِ الْمُؤَسَّسَاتِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ الْمُهِمَّةِ، الَّتِي أَنْشَأَهَا الْمُجْتَمَعُ لِتَزْوِيدِ أَبْنَائِهِ بِالْمَهَارَاتِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ الْمُنَاسِبَةِ، مِمَّا يُمَكِّنُهُمْ مِنْ التَّفَاعُلِ الْإِيجَابِيِّ وَالْمُنْتِجِ مَعَ بِيئَتِهِمْ.

فِي هَذَا السِّيَاقِ، تُشِيرُ دِرَاسَةٌ حَدِيثَةٌ أَجْرَتْهَا مُؤَسَّسَةُ رَانِدْ الْأَمْرِيكِيَّةُ لِلْأَبْحَاثِ وَالتَّطْوِيرِ إِلَى أَنَّ تَأْثِيرَ الْمُعَلِّمِ عَلَى تَحْصِيلِ الطَّالِبِ يَتَفَوَّقُ عَلَى تَأْثِيرِ الْعَوَامِلِ الْمَدْرَسِيَّةِ الْأُخْرَى مِثْلِ الْمَرَافِقِ الْحَدِيثَةِ وَخِدْمَاتِ الدَّعْمِ الْمُخْتَلِفَةِ. فَالْمُعَلِّمُ الْمُمَيَّزُ يَمْتَلِكُ قُدْرَةً كَبِيرَةً عَلَى تَحْسِينِ مُخْرَجَاتِ الْعَمَلِيَّةِ التَّعْلِيمِيَّةِ، وَتَحْقِيقُ مَا يَفُوقُ الْأَدَاءَ الْمُتَوَقَّعَ لِلطَّالِبِ. حَيْثُ لَا يَقْتَصِرُ دَوْرُهُ عَلَى تَحْقِيقِ نَتَائِجَ جَيِّدَةٍ فِي الِاخْتِبَارَاتِ الْمُوَحَّدَةِ فَحَسْبُ، بَلْ يَتَجَاوَزُ ذَلِكَ إِلَى تَحَدِّي الطُّلَّابِ وَمُكَافَأَتِهِمْ عَلَى مَهَارَاتِ التَّفْكِيرِ النَّقْدِيِّ.

يَقُومُ الْمُعَلِّمُ فِي نِهَايَةِ الْعَامِ الدِّرَاسِيِّ بِتَقْيِيمِ مَجْمُوعَةِ الْمَهَارَاتِ وَالْمَعَارِفِ الَّتِي اكْتَسَبَهَا الطَّالِبُ خِلَالَ الْعَامِ، وَكَذَلِكَ التَّحَدِّيَاتِ الَّتِي وَاجَهَهَا وَكَيْفِيَّةُ تَجَاوُزِهَا فِي الْمَرْحَلَةِ الدِّرَاسِيَّةِ الْمُقْبِلَةِ. وَبِالتَّالِي، يَلْعَبُ الْمُعَلِّمُ دَوْرًا رَئِيسِيًّا فِي إِرْشَادِ الطُّلَّابِ وَتَشْجِيعِهِمْ عَلَى اسْتِكْمَالِ تَعْلِيمِهِمْ، وَالْمُشَارَكَةِ فِي الْأَنْشِطَةِ وَالْفَعَالِيَّاتِ الَّتِي تُسْهِمُ فِي صَقْلِ شَخْصِيَّاتِهِمْ وَتَحْسِينِ أَدَائِهِمْ.

يَلْعَبُ الْمُعَلِّمُ دَوْرٌ هَامٌّ فِي التَّأْثِيرِ عَلَي شَخْصِيَّةِ طِفْلِكَ وَفِي تَشْكِيلِ مُسْتَقْبَلِهِ. حَيْثُ يُوَفِّرُ الْمُعَلِّمُ لِلْأَطْفَالِ أَسَاسًا تَعْلِيمِيًّا مَتِينًا وَمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْ تَشْجِيعٍ وَدَعْمٍ لِلْمُثَابَرَةِ وَالنَّجَاحِ فِي مَسَاعِيهِمْ. فَدَوْرُ الْمُعَلِّمِ الْجَيِّدِ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودٌ دَائِمًا لِتَوْجِيهِ طُلَّابِهِ إِلَي الِاتِّجَاهِ الصَّحِيحِ. وَيَدْفَعُهُمْ دَائِمًا أَنْ يُصْبِحُوا أَفْرَادٌ صَالِحِينَ وَمُنْتِجِينَ فِي الْمُجْتَمَعِ.

تُعَدُّ الْقُدْرَةُ عَلَى تَمْيِيزِ السُّلُوكِيَّاتِ دَاخِلَ الْمَدَارِسِ مِنْ أَهَمِّ خَصَائِصِ الْمُرَبِّي الْفَاضِلِ، الَّذِي يَتَأَكَّدُ مِنْ أَنَّ وُجُودَ بَعْضِ السُّلُوكِيَّاتِ لَدَى الطُّلَّابِ، مِثْلَ الْغِيَابِ الْمُتَكَرِّرِ، وَالتَّسَرُّبِ، وَعَدَمِ الِاهْتِمَامِ بِالْوَاجِبَاتِ الْمَنْزِلِيَّةِ، وَمُخَالَفَةِ الْأَنْظِمَةِ الْمَدْرَسِيَّةِ، قَدْ يَكُونُ مُؤَشِّرًا عَلَى انْحِرَافٍ مُحْتَمَلٍ. لِذَا يَجِبُ عَلَيْهِ دِرَاسَةُ هَذِهِ السُّلُوكِيَّاتِ وَالتَّعَاوُنُ الْبَنَّاءُ مَعَ الْأُسْرَةِ لِلْقَضَاءِ عَلَى الْأَسْبَابِ الَّتِي قَدْ تَجْعَلُ الطَّالِبَ مُهَيَّأً لِلِانْحِرَافِ.

مِنْ هُنَا، يَأْتِي دَوْرُ الْمَدَارِسِ فِي دِرَاسَةِ السُّلُوكِيَّاتِ ذَاتِ الْمُؤَشِّرِ الِانْحِرَافِيِّ، مِنْ خِلَالِ تَحْلِيلِ هَذِهِ الْمَظَاهِرِ سَوَاءٌ عَلَى مُسْتَوَى الْفَرْدِ أَوْ الْمَجْمُوعَةِ، بِالتَّعَاوُنِ بَيْنَ الْمُعَلِّمِ وَالْمُرْشِدِ الطُّلَّابِيِّ. ثُمَّ يَتِمُّ التَّوَاصُلُ مَعَ الْأُسْرَةِ لِتَنْظِيمِ التَّعَاوُنِ بَيْنَ الْمَدْرَسَةِ وَالْبَيْتِ بِهَدَفِ مَعْرِفَةِ أَسْبَابِ هَذِهِ السُّلُوكِيَّاتِ، وَاتِّخَاذِ الْإِجْرَاءَاتِ اللَّازِمَةِ لِعِلَاجِهَا قَبْلَ أَنْ تُصْبِحَ سِمَةً ثَابِتَةً مِنْ سِمَاتِ الِانْحِرَافِ.

مِنْ الْجَدِيرِ بِالذِّكْرِ أَنَّ الْعَلَاقَةَ بَيْنَ الْمُعَلِّمِ وَالْمُتَعَلِّمِ كَانَتْ قَائِمَةً عَلَى الْحُبِّ وَالِاحْتِرَامِ وَالْإِخْلَاصِ، حَيْثُ كَانَ الْمُعَلِّمُ بِمَثَابَةِ الْوَالِدِ الَّذِي يُرْشِدُ أَبْنَاءَهُ وَيَسْعَى لِخَيْرِهِمْ، وَكَانَ التِّلْمِيذُ فِي مَقَامِ الِابْنِ الْمُطِيعِ، يُعَبِّرُ عَنْ بِرِّهِ وَإِجْلَالِهِ لِمُعَلِّمِهِ الَّذِي يَرَى فِيهِ سَبِيلَ صَلَاحِهِ وَنَجَاحِهِ. كَانَ اَلتِّلْمِيذُ يَخْضَعُ لِأُسْتَاذِهِ بِالْأَدَبِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ طَلَبًا لِلْعِلْمِ النَّافِعِ وَالْأَدَبِ الرَّفِيعِ، وَهَذَا مَا شَهِدَتْ بِهِ الْمَوَاقِفُ الْمُشْرِقَةُ فِي تَارِيخِنَا التَّرْبَوِيِّ.

لَكِنْ لِلْأَسَفِ الشَّدِيدِ، أَصْبَحَتْ الْعَلَاقَةُ بَيْنَ الْمُعَلِّمِ وَالْمُتَعَلِّمِ فِي عَصْرِنَا الْحَالِيِّ مَلِيئَةً بِالْجَفَاءِ وَالتَّوَتُّرِ، وَاتَّسَعَتْ الْهُوَّةُ بَيْنَهُمَا بِشَكْلٍ مَلْحُوظٍ. فَقَدْ غَابَ الْوَعْيُ لَدَى الطَّرَفَيْنِ، مِمَّا أَدَّى إِلَى مَا نَرَاهُ مِنْ عُقُوقٍ وَعِصْيَانٍ بَعِيدٍ عَنْ مَبَادِئِ الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ. هَذَا الْوَضْعُ الْمُتَأَزِّمُ أَلْحَقَ بِالْعَمَلِيَّةِ التَّرْبَوِيَّةِ ضَعْفًا كَبِيرًا، جَعَلَ التَّعْلِيمَ أَشْبَهَ بِجَسَدٍ بِلَا رُوحٍ، بَعْدَ أَنْ غَابَتْ عَنْهُ الْمَبَادِئُ الْإِنْسَانِيَّةُ السَّامِيَةُ. وَمَعَ التَّحَوُّلَاتِ الَّتِي يَشْهَدُهَا الْمُجْتَمَعُ، أَصْبَحَ الْعُنْفُ اللَّفْظِيُّ يَتَّخِذُ أَشْكَالًا مُتَعَدِّدَةً، حَيْثُ بَاتَ بَعْضُ الْمُعَلِّمِينَ لَا يَتَوَرَّعُونَ عَنْ اسْتِخْدَامِ أَلْفَاظٍ نَابِيَةٍ مُسْتَوْحَاةٍ مِنْ قَامُوسٍ هَابِطٍ، فَيَشْتُمُّونَ التَّلَامِيذَ بِأَبْشَعِ الْعِبَارَاتِ.

كَمَا يَصِلُ الْأَمْرُ أَحْيَانًا إِلَى الْعُنْفِ الْجَسَدِيِّ، مِثْلَ الضَّرْبِ وَالصَّفْعِ وَالْقُرْصِ وَالدَّفْعِ وَشَدِّ الشَّعْرِ وَالطَّرْدِ. وَرَغْمَ مُرُورِ الزَّمَنِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَسَالِيبَ الْبَالِيَةَ مَا زَالَتْ رَاسِخَةً فِي الْأَذْهَانِ، وَيَلْجَأُ إِلَيْهَا بَعْضُ الْمُرَبِّينَ لِفَرْضِ هَيْبَتِهِمْ، مِمَّا يُؤَدِّي إِلَى إِنْتَاجِ أَجْيَالٍ مُنْحَرِفَةٍ وَمَرِيضَةٍ. وَالْكَارِثَةُ أَنَّ الْعَدِيدَ مِنْ أَوْلِيَاءِ الْأُمُورِ يُشَجِّعُونَ عَلَى هَذِهِ الْأَسَالِيبِ تَحْتَ حُجَّةِ التَّرْبِيَةِ وَدَفْعِ الْأَبْنَاءِ لِلتَّفَوُّقِ الْعِلْمِيِّ. وَهَذَا مَا دَفَعَ بَعْضَ الْأَسَاتِذَةِ إِلَى اسْتِخْدَامِ سُلْطَةِ النِّقَاطِ، فَيُوَزِّعُونَهَا بِشَكْلٍ انْتِقَائِيٍّ عَلَى التَّلَامِيذِ وَفْقًا لِمَعَايِيرِ النُّفُوذِ وَالْمَظْهَرِ، دُونَ أَدْنَى اعْتِبَارٍ لِلْكَفَاءَةِ أَوْ الْقُدُرَاتِ.

يَزْدَادُ الْأَمْرُ خُطُورَةً مَعَ انْتِشَارِ ظَاهِرَةِ التَّحَرُّشِ الْجِنْسِيِّ، فَقَدْ أَصْبَحْنَا نَسْمَعُ يَوْمِيًّا عَنْ اتِّهَامَاتٍ بِالتَّحَرُّشِ الْجِنْسِيِّ ضِدَّ أَسَاتِذَةٍ أَوْ مُؤَطَّرِينَ مِنْ قِبَلِ التَّلَامِيذِ. كَمَا نُلَاحِظُ بَعْضَ الْأَسَاتِذَةِ الَّذِينَ يَفْتَخِرُونَ بِرَبْطِهِمْ بِعَلَاقَاتٍ حَمِيمِيَّةٍ مَعَ التِّلْمِيذَاتِ، دُونَ أَيِّ اعْتِبَارٍ "لِلدَّوْرِ الرِّسَالِيِّ" اَلَّذِي مِنْ الْمُفْتَرَضِ أَنْ يُؤَدِّيَهُ الْأُسْتَاذُ، بِاعْتِبَارِهِ حَامِلًا لِمَشْرُوعٍ تَرْبَوِيٍّ وَأَخْلَاقِيٍّ وَثَقَافِيٍّ.

قَدْ يَصِلُ الْأَمْرُ أَحْيَانًا بِبَعْضِ الْأَسَاتِذَةِ إِلَى الِانْشِغَالِ بِأُمُورِ التِّجَارَةِ وَمُرَاكَمَةِ الثَّرَوَاتِ، وَبِالْحَيَاةِ الْحِزْبِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ عَلَى حِسَابِ مَهَامِّهِمْ التَّرْبَوِيَّةِ، مِمَّا يُسَاهِمُ فِي تَدَهْوُرِ دَوْرِهِمْ فِي الْعَمَلِيَّةِ التَّعْلِيمِيَّةِ. نَاهِيكَ عَنْ غِيَابِ التَّوَاصُلِ الْفَعَّالِ بَيْنَ الْمُتَعَلِّمِ وَالْأُسْتَاذِ، اَلَّذِي يَتَعَدَّى إِلَى غِيَابِ التَّوَاصُلِ بَيْنَ الْمَدْرَسَةِ وَمُحِيطِهَا السُّوسْيُو- اقْتِصَادِيٍّ وَالِاجْتِمَاعِيِّ، وَسِيَاقِهَا الْحَضَارِيِّ.

لِأَجْلِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ، تَرَاجَعَتْ الْقُدْسِيَّةُ الَّتِي كَانَ التِّلْمِيذُ يَنْظُرُ بِهَا إِلَى مُعَلِّمِهِ، وَأَصْبَحَ بَعْضُ التَّلَامِيذِ يَتَصَيَّدُونَ جَوَانِبَ ضَعْفِ الْأُسْتَاذِ لِيُعْرِضُوهُ لِلْمَقَالِبِ وَالسُّخْرِيَةِ وَالتَّهَكُّمِ. وَصَلَتْ الْأُمُورُ إِلَى دَرَجَةِ التَّجْرِيحِ وَالِاسْتِهْزَاءِ، فَمَا إِنْ تُكْتَبُ الْكَلِمَاتُ الْأُولَى فِي مُحَرِّكَاتِ الْبَحْثِ عَنْ الْبَيْتِ الشِّعْرِيِّ الشَّهِيرِ لِأَمِيرِ الشُّعَرَاءِ "كَادَ الْمُعَلِّمُ أَنْ يَكُونَ..." حَتَّى تَظْهَرَ عَشَرَاتُ الْأَلْقَابِ الَّتِي يُطْلِقُهَا التَّلَامِيذُ عَلَيْهِ وَيَصِفُونَهُ بِهَا. بِالْإِضَافَةِ إِلَى ذَلِكَ، يُعَانُونَ مِنْ الْإِزْعَاجِ النَّاتِجِ عَنْ الشَّغَبِ الَّذِي يُمَارِسُونَهُ فِي الْفَصْلِ، وُصُولًا إِلَى الْعُنْفِ الْجَسَدِيِّ مِثْلِ الضَّرْبِ وَالْجَرْحِ، الَّذِي قَدْ يُؤَدِّي إِلَى إِعَاقَاتٍ بَدَنِيَّةٍ أَوْ حَتَّى اضْطِرَابَاتٍ نَفْسِيَّةٍ وَعَقْلِيَّةٍ.

قَدْ تَطَوَّرَ الْأَمْرُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْيَانِ إِلَى الْقَتْلِ الْعَمْدِ، مِمَّا يُعَدُّ مُؤَشِّرًا قَوِيًّا عَلَى انْقِطَاعِ الْعَلَاقَةِ بَيْنَ الْمُعَلِّمِ وَالتِّلْمِيذِ، خَاصَّةً مَعَ اسْتِفْحَالِ ظَاهِرَةِ تَنَاوُلِ الْمُخَدِّرَاتِ وَالتَّدْخِينِ وَتَعَاطِي الْحَشِيشِ، وَغَيْرِهَا مِنْ السُّمُومِ الْمُهَلْوَسَةِ. كَمَا تَزَايَدَتْ ظَاهِرَةُ الْمُتَسَكِّعِينَ خَارِجَ الْمُؤَسَّسَاتِ التَّعْلِيمِيَّةِ، الَّذِينَ يَهْدِفُونَ إِلَى التَّحَرُّشِ بِالتِّلْمِيذَاتِ وَالْأُسْتَاذَاتِ أَوْ بَيْعِ الْمُخَدِّرَاتِ. هَؤُلَاءِ الْأَفْرَادُ أَصْبَحُوا يُسَاهِمُونَ بِشَكْلٍ كَبِيرٍ فِي اخْتِلَالِ الْمُعَادَلَةِ التَّرْبَوِيَّةِ، وَفَسَادِ الْهَدَفِ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ فُتِحَتْ الْمَدَارِسُ، لِيَتَحَوَّلُوا بِذَلِكَ إِلَى مُؤَسَّسَاتٍ لِتَعْلِيمِ الْإِجْرَامِ وَأَشْكَالِ الِانْحِرَافِ الْمُخْتَلِفَةِ، خَاصَّةً مَعَ انْتِشَارِ الْعَلَاقَاتِ الْعَاطِفِيَّةِ الَّتِي أَصْبَحَتْ مُوضَةً، وَمَا يَنْتُجُ عَنْهَا مِنْ تَبِعَاتٍ سَلْبِيَّةٍ.

حَاصِلُ الْقَوْلِ، الْمَدْرَسَةُ هِيَ الْبِنَاءُ الْمُؤَسَّسِيُّ وَالتَّرْبَوِيُّ وَالِاجْتِمَاعِيُّ الَّذِي يَتَلَقَّى فِيهِ الطُّلَّابُ عِلْمَهُمْ، وَيَتِمُّ الْكَشْفُ عَنْ قُدُرَاتِهِمْ وَمَهَارَاتِهِمْ الَّتِي تَتَنَاسَبُ مَعَ مُيُولِهِمْ وَاحْتِيَاجَاتِهِمْ. إِذْ تَعْمَلُ الْمَدْرَسَةُ جَنْبًا إِلَى جَنْبٍ مَعَ الْأُسْرَةِ لِتَنْشِئَةِ الْأَجْيَالِ، وَزَرْعِ الْقِيَمِ وَالْأَخْلَاقِ، وَتَنْمِيَةِ إِمْكَانِيَّاتِهِمْ وَصَقْلِ شَخْصِيَّاتِهِمْ. كَمَا تَعْمَلُ الْمَدْرَسَةُ عَلَى حَثِّ الطُّلَّابِ وَتَشْجِيعِهِمْ لِلْحِفَاظِ عَلَى قِيَمِ مُجْتَمَعِهِمْ وَعَادَاتِهِ، وَتَعْزِيزِ قِيَمِ الِانْتِمَاءِ وَالْمُوَاطَنَةِ. كَمَا تَلْعَبُ الْمَدْرَسَةُ دَوْرًا مُهِمًّا فِي تَطْوِيرِ وَبِنَاءِ الْمُجْتَمَعِ عَبْرَ رَفْدِهِ بِأَفْرَادٍ قَادِرِينَ وَذَوِي كَفَاءَةٍ لِتَحْقِيقِ تَقَدُّمِهِ وَازْدِهَارِهِ. وَرَغْمَ أَهَمِّيَّةِ دَوْرِ الْمَدْرَسَةِ فِي التَّنْشِئَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالتَّرْبَوِيَّةِ، إِلَّا أَنَّ هُنَاكَ قُصُورًا فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ فِي أَدَاءِ هَذَا الدَّوْرِ، مِمَّا يُؤَدِّي إِلَى نَتَائِجَ سَلْبِيَّةٍ عَلَى الطَّلَبَةِ. فَعَدَمُ تَوْفِيرِ بِيئَةٍ تَعْلِيمِيَّةٍ مُلَائِمَةٍ أَوْ غِيَابُ الْمُتَابَعَةِ وَالتَّوْجِيهِ الْفَعَّالِ قَدْ يُسْهِمُ فِي تَفَشِّي مُشْكِلَاتٍ مِثْلِ التَّسَرُّبِ الدِّرَاسِيِّ أَوْ الْعُنْفِ الْمَدْرَسِيِّ. وَهَذَا الْقُصُورُ قَدْ يُؤَدِّي إِلَى تَأْثِيرَاتٍ سَلْبِيَّةٍ عَلَى سُلُوكِيَّاتِ الطُّلَّابِ، وَيَزِيدُ مِنْ احْتِمَالِيَّةِ انْحِرَافِهِمْ وَارْتِكَابِهِمْ لِلْجَرِيمَةِ، خَاصَّةً إِذَا كَانَتْ الْمَدْرَسَةُ عَاجِزَةً عَنْ اكْتِشَافِ احْتِيَاجَاتِهِمْ النَّفْسِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ وَتَوْجِيهِهِمْ بِالطَّرِيقَةِ الصَّحِيحَةِ.

***

الْأُسْتَاذ الدُّكْتور هَانِي جِرْجِسْ يَكْتُبُ

عندما تكون البداية هي نفض الغبار عن المشهد علينا ان لا نلعب لعبة المجتمع الشرقي ونتقبل النهاية الخاصة والمرغوبة في الصراع من اجل استقلال فكري في ظل أنظمة النفاق المعرفي التي تتمثل في فن التظاهر المعرفي للحق اننا لا نملك الا أسلحة نبيلة وقليلة، ونحن تحت حكم مجتمعي يعاني من الكتمان القسري من اجل حماية العقيدة الذي يؤدي الى تصدع جدران المعرفة الإنسانية في اطارها الزماني، السرد الشفهي له دورٌ كبيرٌ قبل ظهور الكتابة في نقل التاريخ حيث اعتمدت  المجتمعات القديمة على الذاكرة والسرد الشفهي كوسيلة رئيسية لتوثيق الأحداث ونقل المعرفة، كان السرد الشفهي وسيلة لحفظ القصص والحكايات التي تعكس قيم المجتمع وتاريخه، اعتمدت القبائل والمجتمعات على الرواة لنقل المعلومات المتعلقة بالأحداث الهامة، مثل الحروب، الانتقالات والثقافات، ساهم السرد الشفهي في تعليم الأجيال الجديدة العبر والدروس من تاريخ أسلافهم، كان الرواة يضيفون لمساتهم الشخصية، مما يسمح بتنوع الروايات وتفسير الأحداث بطرق مختلفة،  للسرد الشفهي وظيفة أخرى، يجمع الناس حول القصص والأحداث، مما يعزز الروابط الاجتماعية بالتالي، يمكن القول إن السرد الشفهي كان عنصراً أساسياً في نقل التاريخ قبل أن تصبح الكتابة وسيلة التوثيق السائدة، وقد ساهم في تشكيل الذاكرة الجماعية .

تقنيات السرد الشفهي

كانت هناك تقنيات خاصة لحفظ القصص الشفهية وتسهيل نقلها عبر الأجيال. كان الراوي يعيد بعض الجمل أو العبارات لتسهيل تذكرها وتعزيز تأثيرها كذلك استخدام الوزن الشعري والقافية في السرد يساعد على حفظ القصص بشكل أسهل، مثل الشعر الملحمي الاعتماد على الصور والتشبيهات لتكوين مشاهد حية في ذهن المستمعين، مما يساعد في تذكر الأحداث، استخدام شخصيات تجسد صفات معينة (مثل الحكيم، البطل، الشرير) لجعل القصص أكثر قابلية للتذكر كما ان سرد القصص بأسلوب يمزج بين الحوار والوصف، مما يجعلها أكثر جذباً وسهولة في التذكر، ربط القصص بالعادات والتقاليد والمناسبات الثقافية،  يعزز من أهمية القصة في حياة المجتمع، كان الرواة يمارسون فن السرد بانتظام، مما يساعدهم على تحسين مهاراتهم وذاكرتهم، تلك التقنيات ساهمت في الحفاظ على القصص الشفهية كجزء من التراث الثقافي، وضمنت انتقالها من جيل إلى آخر بفاعلية.

دقة المعلومات والنقل الشفهي

تأثرت دقة المعلومات بنقلها شفهياً بعدة عوامل، مما أثر على كيفية الحفاظ عليها عبر الأجيال. تعتمد الدقة على قدرة الذاكرة البشرية، التي يمكن أن تكون عرضة للنسيان أو التشويش. قد ينسى الراوي بعض التفاصيل أو يخلط بين الأحداث، يؤثر التفسير الشخصي للراوي على كيفية سرد القصة، يضيف الراوي لمسته الخاصة، مما قد يؤدي إلى تغييرات في المعاني الأصلية، تكرار المعلومات يمكن أن يساعد في تعزيز الذاكرة، ولكنه يؤدي أيضاً إلى تكرار الأخطاء. كلما تم نقل القصة،  تتغير بعض التفاصيل ويمكن أن تتأثر المعلومات بالتحيزات الثقافية أو الشخصية للراوي، مما يؤدي إلى سرد غير موضوعي مع مرور الوقت. قد تتغير المعاني والسياقات الثقافية، مما يؤثر على كيفية فهم الأحداث وتختلف مصداقية الرواة. الرواة المعروفون بالموثوقية قد ينقلون معلومات أكثر دقة، بينما قد يكون الآخرون أقل موثوقية بالتالي، يمكن القول إن النقل الشفهي يحمل في طياته مزايا وعيوب، حيث يمكن أن يؤثر على دقة المعلومات بشكل كبير، لذا، كان من الضروري وجود آليات للتحقق والتأكيد لضمان نقل التاريخ بشكل أدق.

الأمثلة التاريخية

خلال الحروب، كان يتم نقل الأخبار والمعلومات بشكل شفهي، مما أدى في كثير من الأحيان إلى تضخيم الأحداث أو تشويه الحقائق. على سبيل المثال، خلال الحروب الصليبية، تم تداول الكثير من المعلومات المغلوطة حول معارك معينة، مما أثر على تصورات الناس حول الأحداث، العديد من المدن القديمة لديها أساطير تتعلق بتأسيسها، وغالبًا ما تم تضخيم هذه الأساطير عبر السرد الشفوي. مثلًا، أسطورة تأسيس روما بواسطة رومولوس ورموس التي تحمل الكثير من العناصر الخيالية التي تم نقلها شفهيًا، العديد من الشخصيات التاريخية، مثل الإسكندر الأكبر، تم تصويرها بطرق مختلفة عبر السرد الشفوي. بعض الروايات قد تضخم إنجازاتهم أو تشويه صفاتهم، مما يؤثر على كيفية فهم الناس لهم في الثقافات التالية، يتم نقل القصص التي تحتوي على عناصر من الواقع مع إضافة خيالية، مثلًا، قصص "روبن هود" وصورته كبطل شعبي قد تركز على جوانب معينة بينما تتجاهل الحقائق التاريخية .الأكثر تعقيدًا هو ان العديد من الأحداث السياسية، مثل الثورات، يتم نقلها عبر السرد الشفوي، مما يؤدي إلى تشويه بعض الحقائق. روايات حول الثورة الفرنسية، على سبيل المثال، قد تختلف بشكل كبير بناءً على من يرويها، يتم تشويه المعلومات الثقافية من خلال نقلها شفهيًا، حيث يتم إضافة عناصر جديدة أو حذف أخرى، هذا يمكن أن يؤدي إلى فقدان بعض الجوانب الهامة من التراث الثقافي، هذه الأمثلة توضح كيف يمكن أن يتسبب النقل الشفهي في تشويه المعلومات، مما يؤثر على فهم الناس لتاريخهم وثقافتهم مع عدم وجود آليات دقيقة للتحقق من صحة المعلومات المنقولة شفهيًا.

دقة السرد التاريخي الشفهي

الاختلافات في الروايات التاريخية قد تؤدي إلى تباين الآراء حول الأحداث، مما يجعل المتابعين يترددون في اتخاذ مواقف واضحة بناءً على روايات مشوشة، بالأخص إذا كانت المناهج التعليمية تعتمد على روايات تاريخية مشوهة، قد يتلقى المتابعون مفاهيم مغلوطة، مما يؤثر على فهمهم للأحداث التاريخية ويعيق تمثلهم لها بشكل سليم، قد تؤثر التغيرات الاجتماعية والثقافية في المجتمع في كيفية استيعاب المتابعين للسرد التاريخي، مما يجعلهم يتبنون وجهات نظر جديدة تختلف عن الروايات التقليدية، التجارب الشخصية للمتابعين تؤثر على كيفية فهمهم للسرد التاريخي، قد يفضلون روايات تتماشى مع تجاربهم بدلاً من اعتماد روايات مشوهة، وسائل الإعلام المعاصرة قد تقدم روايات بديلة أو معاصرة، مما يمكّن المتابعين من الحصول على معلومات جديدة قد تتعارض مع السرد التقليدي، التركيز على التجارب الحية والقصص الشخصية قد يجعل المتابعين يميلون إلى استيعاب الرسائل الأخلاقية والقيم بدلاً من التمسك بالتفاصيل التاريخية المشوشة، بذلك يمكن القول إن التحديات في السرد التاريخي المبني على شفوية النقل قد تؤدي إلى عدم تمثل التابعين له بشكل مباشر وعملي، مما يستدعي ضرورة تقديم روايات دقيقة وموثوقة لتعزيز الفهم التاريخي وتعميق الوعي، تعزيز الفهم الصحيح يمثل خطوة مهمة في عملية تطوير الذات يتمثل في نقل السرد التاريخي الشفهي دون تشويه، على المدى البعيد، يمكن أن يؤدي ذلك إلى تأثيرات عميقة ودائمة على الوعي الثقافي والهوية الجماعية.

فقدان الذاكرة التاريخية

في غياب التوثيق الدقيق، يمكن أن تُنسى أو تُشوه أحداث هامة، مما يؤدي إلى فقدان الذاكرة الجماعية حول تجارب معينة إذا تم تقديم رؤى مشوهة عن الأحداث التاريخية، فقد تتكرر الأخطاء في المستقبل، حيث تفتقر الأجيال القادمة إلى الفهم الصحيح للدروس المستفادة يمكن أن تؤدي الروايات غير الدقيقة إلى تعزيز تحيزات معينة، سواء كانت عرقية أو ثقافية، مما يزيد من الانقسامات الاجتماعية، تتغير تفسيرات التاريخ مع مرور الوقت، وإذا كانت الأسس غير دقيقة، قد تؤدي إلى إعادة تفسير الأحداث بشكل غير صحيح، يمكن أن تؤثر الروايات التاريخية المشوهة على المناهج التعليمية، مما يؤدي إلى تعليم أجيال جديدة معلومات غير دقيقة، بالتالي فإن تأثير التشويه التاريخي على المدى البعيد يمكن أن يكون عميقًا ومعقدًا. من المهم أن يُعزز الفهم الدقيق والتاريخي من خلال البحث النقدي والتعليم، حتى يتمكن الأفراد والمجتمعات من التعلم من الماضي بشكل صحيح، تناقضات العالم اليوم تسير وفق سرديات تاريخيّة منقولة شفاهيا لتبرير الحروب مع الإصرار على هذه السرديات، تُظهر هذه التأثيرات ليست مجرد أدوات لتبرير الحروب، بل تلعب دورًا حاسمًا في عدم استبصار حاجات الانسان وهي لعبة سياسية تتشكل نتائجها وتأثيراتها على المجتمعات على المدى الطويل وكأننا وريثي حضارات غير قابلة للإصلاح.

***

غالب المسعودي

بقلم: سو كاري جانسن

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

كانت سوزان ك. لانجر تدرك القوة التي لا غنى عنها للاستعارات، تلك التي تتيح لنا قول أشياء جديدة بكلمات قديمة.

"الاستعارة هي قانون النمو لكل دلالة لغوية. إنها ليست تطورًا، بل مبدأ."

– من كتاب "الفلسفة من منظور جديد" (1941) لسوزان ك. لانجر

"   الكلمات زواحف مراوغة لا تُروَّض؛ لا يمكن الإمساك بمعانيها على الورق بالحبر."

– من العقل: مقالة في الإحساس الإنساني، المجلد الثالث (1982) لسوزان ك. لانجر

الاستعارات عملاء مزدوجون؛ تقول شيئًا وتقصد شيئا آخر. غايتها ضمن النظام الرمزي ليست الخداع، بل التوسيع – أي توسيع الرصيد المشترك من المعاني. حين نستخدم استعارة، نُزحزح الكلمات عن معانيها الحرفية. تصبح كلماتنا ذات أياد، ممتدة بالمجاز. ونستطيع بها أن نقول أشياء جديدة.

كان هذا من بين أهم الطروحات التي قدمتها سوزان ك. لانجر (1895–1985)، وهي فيلسوفة أمريكية أُهملت طويلاً لكنها تشهد الآن نوعًا من البعث. بدأت لانجر مسيرتها الفلسفية في مرحلة كان فيها المنهج التحليلي لا يزال في طور التشكُّل. وكانت النساء الفلاسفة نادرات، أما النساء المتخصصات في المنطق فكنّ أشبه بالشذوذ. غير أن طرحها في كتابها الأكثر مبيعًا الفلسفة من منظور جديد (1941) – القائل بأن الموسيقى والفنون الأخرى تنطوي على رؤى منطقية تعجز اللغة والعلم والرياضيات عن التعبير عنها – أدى إلى تهميشها داخل وسط فلسفي بات آنذاك معاديًا للنساء. وقد شرح أحد تلامذتها، آرثر دانتو، سبب نادر ذكره لها لاحقًا: فقد التقط خلال دراسته العليا أن اسمها كان يُعد "سامًّا" لمسار الفيلسوف المهني.

وحين كثر الاهتمام بالاستعارة في أواخر القرن العشرين، أُغفلت إسهامات لانجر. ففي كتاب الاستعارات التي نحيا بها (1980)، العمل الأشهر لجورج لاكوف ومارك جونسون، لا يُذكر اسمها مطلقًا. وكذلك في كتابهما الضخم الفلسفة في الجسد (1999) الذي يقع في 600 صفحة. كما نادرًا ما تُذكر في دراسات جادة أخرى عن الاستعارة. فطروحاتها دُفنت في الأرفف، محجوبة عن طلاب هذا المجال.

لكنها تستحق أن يُعاد إخراجها من الظل، وأن تحظى بجمهور جديد، لما قدمته من شرح ناصع لقوة الاستعارة الخلّاقة.

بالنسبة لسوزان لانجر، ليست الاستعارات مجرد حرارة عاطفية في مداد الشاعر. إنها القوة الديناميكية التي تحرّك التواصل اليومي، سواء كان عاديًا أو فنيًا. وبطريقتها الخاصة، فإن الاستعارة مهمة لي ولك بقدر ما كانت مهمة لشكسبير ووردزورث. بعض الأمثلة، من السامي إلى العادي: في عام 1942، استدعى الوجودي ألبير كامو محنة سيزيف الأسطورية كاستعارة لتصوير عبثية الحياة الحديثة. و يفعل الفيلم الأمريكى الكوميدى الرومانسي "يوم شاق في الحياة" (Groundhog Day، 1993) شيئًا مشابهًا. كما أن امتداد الاستعارة المجازي يفسّر لماذا لا نزال نقيس وحدات طاقة الزوارق الآلية وأدوات الحدائق والسيارات بـ"قوة الحصان" حتى في القرن الحادي والعشرين.وكما شرح رالف والدو إمرسون في مقالته "الشاعر" (1844): «اللغة شعر متحجر.» فعندما تدخل الاستعارات إلى حيّز الاستخدام العام، تفقد أجنحتها. تُنسى أصولها شيئًا فشيئًا: فنحن اليوم نركز على قوة آلاتنا، بالكاد نلاحظ أن الخيول لا تزال هناك.

المعنى الحرفي هو رمز للمعنى المجازي، "ذلك الشيء الذي لا اسم له".

يرجع أصل كلمة "استعارة" (metaphor) إلى اليونانية، ومعناها "النقل"، أما السابقة "ميتا" (meta) فتعني "ما بعد" أو "ما وراء"، كما في كلمتي "تحول الشكل" (metamorphosis) أو "ما وراء الطبيعة" (metaphysics). بالنسبة لسوزان لانجر، فإن الاستعارة هي "المفتاح" لفهم تطور الإنسان ونشوء الحضارة: الدين، والعلم، والأدب، والموسيقى، والفن. لم تكن لانجر أول من ادّعى أن الاستعارة أكثر من مجرد صورة بلاغية؛ فقد أدرك فقهاء اللغة الألمان في القرن التاسع عشر الدور الجوهري الذي لعبته الاستعارة في تطور اللغة. واستلهم فريدريش نيتشه من شعرية إيمرسون ليصوغ نظرية في المعرفة يرى فيها أن الحقيقة هي اتفاق اجتماعي يتكوّن من استعارات بالية.

ترى لانجر أن "المبدأ" التناظري الذي تدعمه الاستعارة هو ما يتيح لنا فهم تجربتنا الخاصة، وتمثيل هذا الفهم في رموز قادرة على تجاوز حدود الزمان والمكان. كما شرحت في كتابها الفلسفة من منظورجديد  (Philosophy in a New Key):

" نلعب بالكلمات، نستكشف دلالاتها، نستحضر أو نتجنب إيحاءاتها؛ نُطابق العلامات مع رموزنا ونُشيّد "العالم المفهوم"؛ نحلم باحتياجاتنا وأوهامنا ونُكوّن "العالم الداخلي" من الرموز غير المطبقة. ونؤثر في بعضنا بعضًا، ونبني هيكلًا اجتماعيًا، عالمًا من الصواب والخطأ، من المطالب والعقوبات."

ومن ثم فإن الاستعارة، في نظر لانجر، هي قانون نمو اللغة. فعندما لا نجد كلمة للتعبير عن فكرة جديدة، نلجأ إلى القياس – إلى لغة مألوفة تدل على شيء مشابه – ونُسقِطها على الفكرة الجديدة. قد نطلق الكلمة كما هي، أو نُعدّلها بإضافة بادئة أو لاحقة، مثلاً. ويفهم السامعون أن الكلمة لا تُستخدم هنا على نحو حرفي، بل تُؤدّي دورًا تمثيليًا لفكرة أو شيء لا اسم له بعد. فالمعنى الحرفي يصير رمزًا للمعنى المجازي، لذاك "الشيء الذي لا اسم له". وإذا ما استُخدمت هذه الاستعارة كثيرًا، فإن الكلمة تميل إلى التحول نحو المعنى الحرفي، كما هو الحال مع كلمة "قوة حصانية" (horsepower) التي فقدت دلالتها المجازية لدى معظمنا. ومع تلاشي طابعها الاستعاري، تُضاف الكلمة إلى رصيد اللغة الدلالي – فتصبح متاحة لتُستخدم لاحقًا في التعبير عن فكرة جديدة أخرى.

توضح لانجر هذا المسار التطوّري من خلال استعارة شعرية: جدول «يضحك في ضوء الشمس». تُثير هذه العبارة فكرة الضحك لتُلمّح إلى عفوية مجرى الجدول وعدم انتظامه. إنها استعارة حيّة، على النقيض من الجملة: «الجدول يجري بسرعة». فكلمة «يجري» هنا كانت في الأصل استعارة، لكنها منذ زمن طويل استقرّت على معنى حرفي، يُقارب «تدفّق ضحل متموّج». وكما تُلاحظ لانجر، حين نسمع عبارة «شائعة تجري في المدينة»، فإننا لا نفكّر لا في حركة الأرجل ولا في التموجات. لقد غدت الكلمة تدل على «اجتياح» أو «مرور سريع»، واكتسبت بذلك طابعًا عامًا مرنًا. فكلمة «يجري» أصبحت استعارة خاملة، ضمن آلاف غيرها. وتخلص لانجر إلى القول: "إن لغتنا الحرفية ليست سوى مستودعٍ للاستعارات الخاملة".

في غياب اسم للتعبير عن أفكار جديدة، نبحث عن بديل، كلمة أو عبارة ذات دلالة مشتركة.

بهذه الطريقة، تتشكّل اللغة وتترسخ تدريجيًا، كلمةً بعد أخرى، عبر تراكم مجازي بطيء ومستمر. وقد رأت سوزان لانجر أن المحرّك التشبيهي – (أو ينبوع) الاستعارة– كان فاعلًا منذ لحظة البداية، بل منذ ما قبل اللحظة التي ظهر فيها ما يمكن تسميته بالبداية التاريخية للغة. صحيح أن هذا تصور تأمّلي، لكنها سندته بمرجعيات من الأدبيات المبكرة في الأنثروبولوجيا التطورية. كانت لانغر تحثّ قارئها على تخيّل حالة من الفوران الرمزي، «فيض مترف من الرموز»، صنعها الإنسان الأول وهو يحاول التعامل مع سيل الإحساسات الخام التي اجتاحته. وكما هو الحال معنا اليوم، لم تكن عملية الإدراك الحسي لديهم تلقّيًا سلبيًا، بل كانت فعلَ فرزٍ وتمييزٍ وسط دوامة من الفوضى المتفجّرة والمربكة.لقد كان الإنسان العاقل يسعى منذ البدء إلى تنظيم هذا الطوفان الحسي عبر التعرف على الأشكال – الأنماط الأولية والبُنى المتكررة – داخل التيار المتدفق للمثيرات. وهكذا، كان الإدراك لديهم يعني التصوّر: أن يرى المرء شيئًا (التدفّق الحسي) من خلال شيء آخر (الشكل الإدراكي الذي أعطاه العقل والثقافات البدائية). بكلمات أخرى، كان أسلافنا يمارسون فعل التجريد منذ اللحظة الأولى.

قد تكون كلمة "التجريد" هي الأكثر اهتماما في فكر لانجر، وكذلك المفهوم الذي تمثله. وهي تقصد بالتجريد عملية تمييز عنصر مشترك بين أكثر من شيء. والإدراك بهذا المعنى يكون تلقائياً وطبيعياً، كما كان حتى لأسلافنا الذين لم يكن لديهم لغة – وقد يكون أيضاً ضمن القدرات المعرفية في مرحلة الطفولة المبكرة ما قبل النطق. من خلال التعرف على أشكال أو أنماط في زحام الانطباعات التي تملأ العقل، استطاع أسلافنا تمييز عناصر مشتركة – مجهولة الأسماء آنذاك، لكنها حُفظت في صور ذهنية. وما إن تنفصل هذه الصور عن التجربة الحسية الأصلية، أي تصبح مجردة، حتى يصبح بإمكانها أن ترمز لأشياء وحالات أخرى. فجوانب من العالم المادي مثل النار، التي تُسجل في الصور الذهنية، يمكن أن تدل بدورها – أو تعبر عن – مفاهيم مثل الشغف والنشاط. وتذكرنا لانجر بأن الحلم يحمل هذه السمة: فهو "خيال مجازي جامح" مليء برموز "متدفقة" وغالباً ما تكون صورية.

الفكرة هي أن الاستعارة، بوصفها "رؤية تجريدية"، سبقت اللغة. فكل تجربة جديدة أو فكرة مبتكرة تُستوعب من خلال الاستعارة — أي بمقارنتها بشيء آخر. وما إن تترسخ اللغة — باعتبارها مخزونًا من المعاني المشتركة — حتى يبدأ انتشارها ونموها مدفوعًا بالاستعارة (وكانت لانجر قد قدمت نظرياتها حول هذا أيضًا). فبدون كلمة تعبر عن الأفكار الجديدة، نلجأ إلى بديل — كلمة أو عبارة تحمل دلالة مشتركة. وتكتسب الكلمة نفسها، بفضل هذا الامتداد، صبغة أكثر عمومية في هذه العملية — أي تصبح أكثر تجريدًا وأوسع استخدامًا. وبهذه الطريقة، وفقًا للانجر، "نواصل دائمًا تكوين رصيد متراكم من المفاهيم القديمة المجردة، مما يثري كنزًا متزايدًا من الكلمات العامة."

وهكذا، فإن القدرة على رؤية شيء في شيء آخر هي ما يُمكِّن اللغة من مواكبة التجربة الإنسانية والفكر البشري. فـ"الطبيعة الحقيقية" للاستعارة، كما كتبت لانجر، تكمن في أنها تجعلنا "ندرك الأشياء إدراكًا مجردًا"، وهذا بدوره يُعدّ "أعظم إنجازاتنا الذهنية". فكلما فاضت معاني الشعور عن ضفاف التعبير المشترك، جاءت الاستعارة للإنقاذ: نقول شيئًا، ونقصد غيره، ونتوقع أن يُفهَم المعنى المقصود.

من نتائج ما أسمته لانجر "التمدد الاستعاري" أن كل كلمة في لغة حية تحمل أثرًا من كل معنى اكتسبته (مثل نغمة توافقية) وكل ارتباط اكتسبته (مثل هالة). فحتى مع تثبيت الأعراف الاجتماعية للاستخدام العام للكلمة مع مرور الزمن، تبقى المعاني القديمة كامنة، مما قد يجعل بعض الكلمات أكثر قدرةً على التعبير عن هذه البصيرة أو تلك "التي تعجز الكلمات عن وصفها"

واحدة من أهم من إسهامات لانجر الفكرية أنها ساعدتنا على إدراك أن اللغة — لكي تظل نابضة بالحياة، ومواكبة للتجربة — تحتاج إلى كلمات تكون بمثابة "نمور مراوغة لا تُروَّض"، عملاء مزدوجين. فالكلمات تعني أكثر مما نستطيع قوله، وهذا ما يتيح لنا أن نولد المعاني الجديدة من رحم الكلمات القديمة. كما تذكّرنا لانجر بأن الاستعارة هي ما يجعل من "الحياة البشرية مغامرة في الفهم"

(تمت)

***

...................

الكاتبة: سو كاري جانسن/ Sue Curry Jansen: أستاذة فخرية للإعلام والاتصال في كلية مولينبيرج في ألينتاون، بنسلفانيا. من مؤلفاتها: "والتر ليبمان" (2012) و"الاتصالات الخفية" (2016).

 

منذ شهر ماي1897 إيزابيل إيبرهاردت ووالدتها تقيمان في بونا (عنابة) على الساحل الجزائري. وبوفاة والدتها في نوفمبر 1897 ودفنها وفقًا للطقوس الإسلامية في المقبرة "الأصلية" في بونا. انجذبت ايبرهارت إلى سحر الجنوب الأسطوري - الشرق - والى نداء الروح.

نظرت إبرهاردت إلى العالم الذي تحركت فيه بعين ناقدة، ومن خلال انتمائها إلى الطريقة القادرية الصوفية، دعمت المحتاجين ودافعت عن المظاهرات ضد النظام الاستعماري الفرنسي، ونقلت استيائها من النظرة الذكورية التي تحتقر المرأة من خلال كتاباتها الأدبية ذات البعد الفلسفي كانت تدرك بحدسها ان الطريق الى الحرية مشروط بتحرير الانسان ففي رسالة إلى زوجها سليمان هني كتبت قائلة "نعم، أنا امرأة أمام الله والإسلام. لكنني لست فاطمة نموذجية أو عائشة عادية. أنا أيضا أخوك محمود، جيلاني بارز (من الطريقة الصوفية)، وخادم لله، أكثر بكثير من كوني خادمة لزوجي، كما هي كل امرأة عربية وفقا للشريعة الإسلامية".

ذكاء حاد وخيال خصب وإرادة حرة خصائص ميزت ايزابيل ابرهارت في عام 1895، عندما كانت تبلغ من العمر 18 عاما فقط، نشرت "الجحيم"، وهي أول قصة قصيرة لها، تحت الاسم المستعار نيكولاس بودولينسكي. تحدث عنها الدكتور أبو القاسم سعد الله في كتابه تاريخ الجزائر الثقافي:” لقد ادعى الفرنسيون أنها كانت جاسوسة عليهم، وأنها كانت تعمل لحساب ألمانيا، فاهتموا بها، من وزارة الخارجية إلى الحاكم العام بالجزائر إلى قائد المناطق العسكرية، إلى آخر (بيرو عرب) - مكتب عربي - في أقصى الجنوب، ودارت بينهم المراسلات السرية بشأنها، وهي المراسلات التي لا يعرف المواطنون ولا حتى السياسيون عنها شيئا والتي ما تزال في الأرشيف تنتظر النشر والتحليل، ماذا قالوا؟ إن هذه الآنسة التي كانت تتكلم عدة لغات، ومنها العربية، وتعتنق الإسلام وتعشق الأصل العربي، وتؤلف الكتب والرسائل، وتلبس لباس الشاب العربي، وتتمنطق بالسلاح، وتمارس الفروسية، هذه الآنسة كانت غير عادية طبعا، وها هي في وادي سوف، تدخل الطريقة القادرية عن طريق المدعو عبد العزيز عثمان، صديق محمد الطيب، مقدم زاوية الرويسات، وقد أعطيت ذكر الطريقة، والسبحة، واللباس الخاص، وصامت هناك رمضان" وذكر مالك بن نبي أنه أعجب بكتابها (في ظل الإسلام الدافئ) - وقد ترجم هذا الكتاب إلى الإنكليزية

كتبت إيزابيل كثيرا من الرسائل والمقالات. وصادقت فيكتور باروكان مدير جريدة (الأخبار) الفرنسية الذي نشر أخبارها وأعجب بها. وذكرت في كتاباتها أنها كانت تجتمع بالمتعلمين (الطلبة) والمرابطين في الجزائر، وأنها خرجت إلى الصيد مع إخوان القادرية بالوادي، وأنها كانت صديقة لزينب بنت الشيخ محمد بن بلقاسم شيخ زاوية الهامل الرحمانية. وقد نشرت كتابها عن الإسلام مسلسلا في جريدة (الأخبار) .. قلمها وأدبها لا غبار عليهما، وأثر الجزائر فيها لا يختلف فيه اثنان، سيما الأجواء الدينية والاجتماعية في الواحات، وظاهرة الاضطهاد تحت النير الفرنسي.

رحلتها الى المسيلة

طبيعة ايزابيل ايبرهارت المتمردة الرافضة للقيم المادية للحضارة الغربية وشوقها الى الحرية وحياة الهدوء والسكينة دفعتها الى الترحال لا تكاد تستقر في مكان محدد فهي ترفض كل اشكال العبودية وسفرها الى المسيلة وبوسعادة والهامل على غرار باقي المناطق التي ارتحلت اليها يمنحها ماء الحياة ويفتح امامها افاق وسعة للتحرر “ بسرعة كبيرة، وبشكل سري تقريبا، ذهبت إلى المسيلة، وأنا نائمة على ضفاف واديها الهادئ، وسط الخضرة في حدائقها. كانت سلسلة قصيرة وسريعة من الرؤى، وكأن حجاباً ارتفع فجأة وسقط على الفور على زوايا مختلفة جداً من البلاد، تحت سماء سوداء ملبدة بالغيوم بفعل الرياح الموسمية، تظهر صورة برج بوعريريج، بقلعتها الحمراء القديمة، وهي بلدة صغيرة، ضاعت في اتساع السهل الذي جردته الحصادات بالفعل من كل شيء....رفيق سفري ومرشدي هو سي أبو بكر، رجل في الأربعين من عمره تقريباً، نحيف ومريض المظهر، ذو وجه مدبوغ وزاهد، ونظرة منطوية وحزينة وقاتمة تقريباً. هذا الرجل، المفوض من قبل المرابط الموقر في بوسعادة، والذي لديه سيطرة على ثروة هائلة، يرتدي قندورة بيضاء للغاية وبرنوس، ولكنها مهترئة وبسيطة للغاية. إن أسلوب حياته هو أسلوب حياة الرجل الفقير، لكنه يتمتع براحة بال كبيرة.

نجلس معًا في المقعد الخلفي للسيارة، وأقدامنا تتدلى في الهواء، ونتحدث بلا مبالاة عن الأمور في الجنوب، ونتطرق إلى الإيمان والفقه الإسلامي.إذا كان أبو بكر يعرفني جيدًا: فهو يعرف تاريخي، وبعد أن درس حالتي بعناية شديدة، فهو يوافق على طريقة حياتي...

ولكنني لا أستطيع أن أكبح فرحتي عندما أرى السماء صافية والمناظر الطبيعية تتغير تدريجيا، كلما اتجهنا نحو الجنوب... تصبح البلاد أكثر قسوة وأكثر مهجورة. نرى عددًا قليلاً من قرى الطوب النادرة، الواقعة على جانب التلال القاحلة. في منتصف الطريق، على ضفاف وادي المسيلة، توجد محطة بين متاهة من نباتات الدفلى والقصب، التوقف في مجاز يمنحنا جوًا رائعا لقافلة صحراوية.

بشرتي تجعلني أبدو كقبيلية، وأحد سكان مجاز يصر على التحدث معي بهذه اللغة، مؤكدا أنه رآني في تيزي وزو، حيث لم أذهب قط... تركته يتحدث، بينما كنت أنتظر الرحيل، وبعض الحوادث الصغيرة من هذا النوع تجعلني أضحك في فرحي الجديد....وأخيرا  قبل الفجر، وصلنا إلى المسيلة. نتبع، سيرًا على الأقدام، طريقًا طويلًا من أشجار التوت، ونصل إلى ساحة كبيرة تتقاطع فيها الجداول الصغيرة حيث تغني الضفادع. وفي الخلفية، هناك مباني من الطوب، وأمام مقهى مغربي كبير، ينام سكان البلدة على الحصير، هربًا من حرارة منازلهم.... لا أزال أسمع، كما لو كان من بعيد، صوت رجل قوي، ولكنه قريب للغاية، على عتبة المقهى، يوقظ النائمين: "الصلاة خير من النوم!”» الأشكال البيضاء تتحرك، وتمتد، وترتفع. تصدر علب الصفيح أصواتًا عند حواف النوافير. ثم يغرق كل شيء في العدم من النوم المثقل...

مع الظهيرة تخترق جدران الطوب الرمادية السماء بخطوطها المستقيمة الرتيبة، ذات اللون الشحوب المتوهج.

في الأزقة المليئة بالغبار، بالقرب من الجدران المتشققة التي لا تتأثر بالعمر، وفي الظل القصير الأزرق، ينام الرجال في برانس ترابية مع الماعز السوداء. لا شيء سوى الذباب يتجول فوق القذارة الجافة، فوق الوجوه المتعرقة، فوق الخرق البنية.

كل شيء ينام ويلهث في الحرارة الشديدة. في فراشه من الحجارة البيضاء، يتدفق الوادي بصوت خافت وواضح، وفي المسافة، تمتد حدائق بوجملين، ذات اللون الأخضر الناري، بشكل مثير.

على الجسر الحديدي، الجسر الرمادي البشع، متسول أعمى عجوز، يجلس القرفصاء، يهز البندير الرنان ببطء، وفي النوم الهائل المحيط به، تقطع هذه الضربات الخافتة رثاء الرجل العجوز الذي لم تعد له ساعات: "باسم سيدي عبد القادر الجيلاني، سيد بغداد وسيد المرتفعات، أعطوا الصدقات، أيها المسلمون!"

يظل الأعمى يردد ترنيمته بلا نهاية، والتي لا يسمعها أحد، ولا يستجيب لها أحد...

في فجوة بين الجدران الخشنة، على حصيرة، يرقد رجلان ويبدو أنهما يتبادلان أطراف الحديث بطريقة غامضة...

ربما كانت هناك قضية خطيرة، أو السياسة المعقدة في الجنوب، أو حتى قد تكون مؤامرة... ولكن لا. ببساطة، واحد منهم، وهو طالب نحيف ذو لحية سوداء وغطاء رأس أبيض، يشرح لرفيقه أصل الحلم.

قال: "الروح هي ما يُحيي الجسد. يسلبها الخالق أحيانًا، إما مؤقتًا، كما في النوم، أو نهائيًا، كما في الموت. الروح جوهرٌ مُنير يُطلق أشعةً حالما يتحرر من قيود الجسد. ثم، وحسب سقوط هذه الأشعة في العالم المرئي، على الأرض، أو توجهها نحو الماوراء، يرى النائم المدن والبلدان والأشجار والزهور والرجال والأنبياء والجيوش التي تسكن الأرض... في الماوراء، يُدرك أحيانًا شظايا من المجهول بعد الموت... ثم تنطفئ الأشعة وتعود الروح إلى سجنها الجسدي المُظلم..."

وفي حزن المسيلة النائمة، يواصل السفسطائيان السرد بهدوء شديد، مع هالات الغموض، وعقائدهما القديمة، وسط ديكور ثابت من الأرض والشمس...

بعد غروب الشمس وفي غرفة متداعية مصنوعة من الخشب القديم البالي المدخن، تحت عوارض السقف السوداء، خمسة جذوع أشجار مربعة الشكل بالكاد بفأس، لا تزال تحمل عروق الأشجار الهزيلة في الجنوب، مجمعة معًا في عائلة غريبة. مصباح فقير دخاني ينير ثلاثة رجال مقنعين يطرقون على بنادير متشققة ويتمايلون في الوقت المناسب، ويرددون ببطء ترانيم القديس العظيم في بغداد، سيدي عبد القادر... ويلقي الضوء الأحمر للمصباح بظلاله المشوهة بلطف على الجدران الخشنة حيث تتحرك أحيانًا عقارب صفراء صغيرة خفية أو عناكب رمادية.

في كل مكان، على الحصر، تتراكم الأجساد المكدسة، وتلتوي حول بعضها البعض في أوضاع كسولة؛ تمتد ملامح النسر نحو المغنيين؛ عيون طويلة من الظل الأسود أو الذهبي المحمر نصف مغلقة ...

فتاتان صغيرتان جميلتان مدبوغتان، ترتديان فساتين خضراء مبهرة، مع مشابك فضية وأوشحة حريرية حمراء مطرزة بالذهب على شعرهما الأسود، تستمعان، بانتباه، بجدية، واقفين في منتصف المقهى المغربي...في زقاق مظلل، يفتح باب على فناء مضاء بشكل خافت. يجلسون القرفصاء على طول الجدار، في أردية خفيفة، مزينة مثل الأصنام، تقطر بالعملات الذهبية، يحافظون على ثبات طويل يشبه التماثيل، عيونهم غامضة في دخان السجائر... في بعض الأحيان يمر برنوس، ينزلق بعيدًا، ويختفي في الفناء، برنوس أبيض من مسيلي، وبرنوس أزرق من ديرة... ثم يرتفع أحد الأصنام مع رنين كبير من الجواهر، ويتبع الزائر إلى الظل الدافئ للزنزانات الفقيرة.

وتنام مسيلة هكذا، مرابطة وزانية، نعسانة ومشتعلة، في حر الليل الثقيل. تهزها البنادير والترانيم الدينية القديمة وأجراس أساور أولاد نائل بهدوء. تعتبر مدينة المسيلة ساحرة مثل القصور الصحراوية.

الوادي الذي يحمل اسمها يقطعها إلى نصفين، يتدفق في أسفل واد واسع وعميق، فوق الحصى. جسر حديدي يربط بين المسيلة والمسيلة.

نحن في المدينة الجديدة المبنية حديثًا، حيث الشوارع واسعة، حيث لا توجد زوايا مظلمة ولا غموض، وحيث يتم التضحية بكل شيء - حتى الراحة - من أجل ذوق الرومي للخطوط المستقيمة.

على الضفة الأخرى تقع البلدة القديمة، مكتظة، فوضوية، مع كل منازلها المبنية من الطوب الأسود وشوارعها التي لا أسماء لها، بدون محاذاة وبدون أحجار مرصوفة، غير متوقعة بشكل مبهج ومع ذلك كلها متشابهة.

تهب رياح السيروكو طوال اليوم؛ لم تتركنا الرياح الحارقة المفترسة منذ الجحيم الناري للبوابات الحديدية. المسافات ملتهبة ومشوهة، والغبار يرتفع في دوامات رمادية تطير فوق الطرق. تطير الذبابات بقوة وتعض، متحمسة بسبب الحرارة.

فقط المسجد الذي يقع على حافة الوادي، والذي تفتح نوافذه على الماء، لا يزال يحتفظ بقليل من النضارة، وهو الذي نلجأ إليه طوال اليوم.

...مع حلول المساء، تغير اتجاه الريح فجأة، وبينما ذهب سي أبو بكر لإحضار بعض الدواب وإجراء بعض الزيارات، ذهبت وجلست وحدي على الضفة المرتفعة للوادي.

السماء الآن صافية تمامًا تقريبًا، والهواء أصبح باردًا. تغرب الشمس في ضباب خفيف، لا يزال مصفرًا إلى حد ما، فوق السهل العاري الكبير الذي يشكل المدخل الغربي لمدينة هدنا.

أمامي، في ظلال بنية دافئة على خلفية أرجوانية شفافة في الأفق، تقف مدينة مسيلة القديمة، محاطة بحدائق خضراء كثيفة للغاية، بينما خلفي تبرز منازل المدينة الجديدة، ذهبية اللون تقريبًا، على خلفية درجات اللون الوردي الذهبي لغروب الشمس.

تنزل النساء إلى قاع الوادي، مرتديات أقمشة زرقاء أو حمراء، يحملن جلود الماعز أو أمفورات ثقيلة مصنوعة من التراب المسامي... يمشين حافيات الأقدام على الحصى والرمال، فيرون بريق الأشباح ويضيفون لمسة خاصة إلى هذا المشهد من السحر الهادئ والحزين.

وهنا مرة أخرى، يضاف إلى التسمم الحقيقي للمكان والزمان، بالنسبة لي، تسمم الذاكرة، واستحضار أماكن أخرى، لتلك المناطق التي يبدو أن تلك التي أعبرها الآن ليست سوى انعكاس شاحب لها. لا تتمتع المسيلية بالنعمة الغريبة والجاذبية الغامضة التي تتمتع بها الفتيات الصغيرات اللواتي يذهبن عند الغسق للبحث عن الماء العذب من الآبار في حدائق سوف الساحرة...

اه! لو أن شفق الصيف في أفريقيا استمر إلى ما لا نهاية، ولو أن الغباء الاستبدادي للرجال الذين يعشقون التفاهة لم يزعج أحلام الشاعر!

لكن الخيول موجودة هناك، أمام المسجد، وعلينا أن نغادر. أعطوني فرسًا بيضاء جميلة، مسرجة بخيوط حمراء، ونزلنا إلى قاع الوادي. هناك أولاد صغار عراة مدبوغون يستحمون الجياد، ووحوشهم النارية تفتح أنوفها وتنهض، وتستقبل فرسي المرتعشة بصهيل عالٍ.

وعلى النقيض من ذلك، في المساحات الخضراء المخملية للحدائق حيث تقف بضعة رؤوس من أشجار النخيل المبعثرة، توجد كُبّات مخفية، صغيرة وغريبة الشكل، مبنية من الطوب.

يبدو أحدها مثل معبد صيني، بأسقفه المتداخلة ونقطته الغريبة، وأنا أحب أن أرى فيه بقايا فن أصلي، سبق الإسلام، بري للغاية ومزعج بشكل غريب للغاية.

طالب، راكبًا على بغل حكيم يحمل أمتعتنا. نترك الوادي ونلقي نظرة أخيرة على مسيلة قبل الدخول إلى السهل الكبير.

إنها تشبه الصحراء، هذه السهول في حضنة التي تبدو في ظلام المساء لا نهائية... الجبال البعيدة، ذات اللون الأزرق اللامع، تتلاشى وتمتزج في شحوب السماء، ويبدو أن المساحة المفتوحة ليس لها حدود.

الطريق نحو بوسعادة

نحن نغادر مرة أخرى. على جوادنا ننام وكأننا مخدرون. من وقت لآخر، في الصمت العميق، يصدر أحد الخيول صوت شخير أو يتخذ خطوة خاطئة. لذا يحاول الطلبة غناء إحدى تلك الأغاني البطيئة من الجنوب التي تساعدك على عبور المساحات الرتيبة الكبيرة:

"آ-يا-آ-يا-آ-آ!... ناديت ولم يُجب أحد... آ-يا-آ-يا-آ-آ-آ!... توسلت، ولم يُعطني أحد صدقة..."

ثم يصمت صوت الحلم مرة أخرى، ونستمر في مسيرتنا بين الأشباح في صمت.

لكننا ندخل منطقة حيث تتقدم الخيول على مضض، خائفة: هناك عدد لا نهائي من الشجيرات المستديرة، سوداء من الأسفل وفضية من الأعلى، والتي تبدو من مسافة بعيدة مثل الرجال المستلقين أو الأشباح. لذلك نضطر إلى الاستيقاظ بشكل كامل، خوفًا من السقوط.

...النهار يشرق. يأتي إلينا نضارة لذيذة من المسافات الزرقاء، ويفسح طول الليل المجال لذلك التجدد في الشباب والمرح الذي تجلبه هذه الساعة الأولى من اليوم دائمًا، في المناطق الشاسعة والمهجورة في الجنوب...

بيتاً من بيوت الطوب النائمة، حيث لا تراقبنا إلا الكلاب الشرسة، التي تستقبلنا بنباحها الأجش... إنها قرية صيدا: ليست شجرة، وليست شفرة عشب.

بعد ذلك نعود إلى الأراضي القاحلة الفضية التي ترتفع منها الشكوى الغريبة والحزينة، مثل نداء بلا صدى، من "الكُروان"، طائر الصحراء، الذي يعيش على الأرض ويخرج في الليل مفضلاً أن يغني.

كان النهار قد حلّ عندما وصلنا إلى الخليج الغربي من حضنة: سبخة صفراء بنية اللون، مترامية الأطراف، ناعمة، مستوية، بدون نتوء، بدون شفرة من العشب. ثم يترجل الطلبة عن خيولهم ليصلوا صلاة الفجر.

لقد فقدت منذ ما يقرب من عام عادة صلابة السروج والركاب العربية، وشعرت بالكسر، وساقاي لينتان ومؤلمتان.

علي الطالب الذي كان معنا تركنا عائدا إلى المسيلة. إذا ركب أبو بكر البغل دخلنا السبخة.

تشرق الشمس، حمراء اللون، مشتعلة بالفعل. تبدأ الحرارة على الفور تقريبًا...

بانيو. - برج عسكري، أبيض رمادي اللون، على ارتفاع. يؤدي طريق من أشجار الحور إلى الآبار التي تكون مياهها الساخنة عكرة وعفنة. حول بعض الإنشاءات في الطوب. في الأسفل يوجد رمل، رمل حقيقي، أحمر قليلاً، هذا صحيح، لكنه ناعم وجاف. هنا وهناك، شجيرات الطرفاء، التي تشكل جذورها الرملية تلالاً، مثل تلك التي تنمو في كل أشجار الصحراء. في ظل أحدهم نستريح، لنشرب بشراهة طينًا سائلًا وقهوة فظيعة مليئة بالذباب.

يصبح الطقس حارًا جدًا وسنغادر مرة أخرى.

تمر الساعتان ونصل إلى بئر خالي. هناك منازل مبنية من الطوب، مهجورة في الصيف، وبئر ماء نقي جدًا وعذب تقريبًا. نشرب بغضب... لا أعرف ما هو المصطلح الآخر الذي يمكنني استخدامه.

ثم تأتي ساعات الظهيرة الثقيلة، على السهل العاري المحروق. ولكن أمامنا الجبال التي تغلق الأفق، وبين قمتين عاليتين تقع قرية بوسعادة على تلها المنخفض. يمكننا أن نرى بوضوح القصبة التي تهيمن على المدينة وظلام الحدائق.

ويبدأ الوهم الأبدي للجنوب من جديد: تبدو المدينة قريبة منا ومع ذلك نستمر في التحرك للأمام، دون أن يبدو أن المسافة تتضاءل. وتصبح هذه الرؤية لمدينة مسحورة تتلاشى في الأفق، على المدى الطويل، مؤلمة. الحرارة حارقة. تصبح شفاهنا جافة ومتشققة. السيروكو يحرقنا.

يمنحنا سائق الجمال الذي نمر به شرابًا، ثم سرعان ما يتشوه الرجل وحيوانه الضخم البطيء، ويندمجان مع التموجات التي بالكاد يمكن إدراكها، في غموض السهل.

بوسعادة، رؤية رشيقة ظهرت لي، محاطة بهالة من الشمس، ذهبية اللون ومغطاة بالزمرد الحي في حدائقها!يتدفق وادي بوسعادة، عبر دائرة كبيرة، عند سفح المدينة، فوق الحصى البيضاء. على اليسار، وعلى طول الجدران الصفراء، تبدو الحدائق خصبة مثل الغابة البكر، وتتوجها ريشة ملكية من أشجار النخيل. على اليمين، تبرز من حزام من أشجار التين وأشجار الدفلى والرمان، منازل طينية طويلة، مرتبة في فوضى صحراوية لطيفة للغاية.

أثناء سيرنا في الماء الذي تتجه إليه حيواناتنا العطشى، نتبع مجرى الوادي، إلى نافورة عذبة للغاية، تنبع من صخرة، عند سفح المدينة: "عين بسام" - النافورة المبتسمة. هناك نشرب مرة أخرى.

... وتنقسم مدينة بوسعادة أيضًا إلى مدينتين، يفصل بينهما واد عميق، ويربط بينهما جسر.

وفي أحدها، هناك المباني الأوروبية، والمكتب العربي، وقاضي الصلح. وفي الأخرى، كومة التراب القديمة التي تشكل بوسعادة الحقيقية.

تقع المدينة المزدوجة بين تلال حمراء عالية تهيمن عليها الجبال، وهي الجبال الغريبة في هذه السلسلة الجنوبية، والمتعددة الطبقات، وتعلوها مدرجات مائلة، بعضها بارز.

يشبه شعب بوسعادة أولئك الناس في الصحراء، المرتبطين بشدة بالعادات القديمة، وطرق الماضي... هؤلاء الناس الذين كلما ابتعدنا عن المدن الكبرى الكوزموبوليتانية والفاسدة، يبدو أنهم يعودون إلى الوراء في الزمن، إلى القرون القديمة الملغاة.

وجوه مدبوغة تحت العمامة البيضاء أو الحجاب المربوط بحبل من شعر الجمل البيج، وجوه ذكورية أو زاهدة، عيون بنية غائرة، تلمع بلهب داكن تحت مظلة الجلمونة (غطاء البرنوس)، مسبحة حول الرقبة، مواقف من عصر آخر، من عالم آخر تقريبا.

الزي الأنثوي أصعب في الارتداء: الشاش ملفوف في سترة يونانية، مربوط بحزام منخفض للغاية، وتسريحة شعر ضخمة ممتدة في العرض، كل هذا يناسب فقط النساء طويلات القامة ونحيفات، وخاصة النساء ذوات البنية المرنة للغاية. وهذه ليست تلك التي تراها في الشارع، بل مومياوات قديمة مسكينة، مهترئة، مثيرة للشفقة.

... لقد قمنا بإعداد أسرّتنا - الحصير والسجاد - تحت أروقة منزل كبير تابع للزاوية، ويقع في ركن منعزل من المدينة الجديدة، بالقرب من قاضي الصلح، والذي يفصله عنه مستنقع عميق حيث توجد حديقة جميلة للغاية، فوضى من الخضرة القوية.

وعلى النقيض من ذلك، توجد أمامنا حديقة أوروبية، وهي عبارة عن مزرعة جائعة من أشجار الميموزا وأشجار التوت النحيلة غير المرغوب فيها، وكلها محاطة بشكل حزين بشجيرة العليق الاصطناعية. - كم تبدو هذه الحدائق ذات التنسيق المتناسق، الخالية من المفاجآت والسحر، مثيرة للشفقة بجانب الحدائق العربية الرائعة المزروعة عشوائياً في خيال قريب من الطبيعة وغني بها!

إن المدرسين الكئيبين، والسجناء الفقراء الممزقين وحراسهم لا يعرفون، مثل الفلاح الجاهل الشاعري، كيف يزوجون الكرمة الفاتحة بأوراق الشجر الداكنة لأشجار التين، وكيف يرمون اللون الوردي الفاتح لأشجار الغار بين أشجار النخيل القوية واللون الأحمر القرمزي للرمان في الظل المعتم لأشجار التفاح.

... يمر الوقت، وعند الفجر ننطلق مرة أخرى نحو الزاوية التي تقع هناك، على الطريق الجذاب المؤدي إلى الجلفة والصحراء.

بعد أن سلك الطريق على طول وادي بوسعادة، يدخل بين الجبال الزرقاء، في ضوء الفجر الواضح.

لقد جفف الصيف المروج والأراضي القاحلة. كل شيء يأخذ الألوان المحايدة، ولكن المتنوعة بشكل لا نهائي، للأرض. أحمر قرميدي، بني محمر، أصفر مغرة، أخضر مغرة، درجات رمادية مجهولة بالكاد يمكن إدراكها، ظلال من اللون البنفسجي، مجموعة هائلة من درجات اللون الرمادي، الوردي الباهت، والأبيض الشاحب. إن حيادية الألوان هذه، وافتقارها إلى الدقة، يمنح سحرًا كبيرًا للعب الضوء الذي لا يمكن العثور عليه في أي مكان آخر، وهو معجزة هذه المناطق المتحمسة.

في زاوية الهامل

الهامل، اسم شعري يعني "الضائع"، وهو يناسب هذا المكان البري الفخم بشكل جيد، الضائع في الواقع، في واد ضيق من جهة ومفتوح من جهة أخرى، باتجاه الوادي، على أفق واسع وأزرق.

الزاوية على علوها: مبنيان كبيران، أحدهما أبيض جداً، ذو مظهر أوروبي، والآخر من الطوب الفاتح جداً، مع فتحات ضيقة نادرة.

في الأسفل مجموعة من البيوت الطينية، ثم قرية قبيلة الشرفة، وهي مجموعة خلابة من البيوت ذات المظهر المتداعي، مثل كل هذه المباني الطوبية.

أبعد من ذلك، بحر من الخضرة تعلوه، مثل مظلة رائعة، أشجار النخيل.

كل هذا يبرز بوضوح شديد، وبدقة شديدة على خلفية الألوان غير المحددة للتلال، وفي هواء الجبل النقي. هذا المكان له جانب خاص، خاص به، وهو ليس من الصحراء ولا من المناظر الطبيعية العادية للهضاب المرتفعة.

... أغفو على الفور، على سجادة، في غرفة صغيرة، فقيرة جداً وبسيطة جداً في طوب، وهو منزل سي أبو بكر، بينما يستقبلنا ذهاباً وإياباً بفرح.

عندما أستيقظ، أجد هناك هذه المحادثات الهادئة والسرية والمهذبة التي تجعل الساعات الطويلة من الأيام المتشابهة تمر، في كل مكان لم يمسه الإهمال الإسلامي الكبير، سليماً، بسبب الاضطراب الأوروبي المتحلل.

هنا، في هذا المكان المفقود حيث المشهد فخم وبسيط، تتلاشى أصوات نضالاتنا المريرة وغير المجدية في الصمت العظيم الذي لا يتغير، والشؤون الجارية، التي تكاد تكون هي نفسها دائمًا، ليست سوى حوادث.

لكي نعيش مع هؤلاء الرجال المنعزلين والقابلين للتأثر، لا بد من اختراق أفكارهم، وجعلها خاصة بنا، وتطهيرها من خلال تتبعها إلى مصدرها القديم... ثم تصبح الحياة سهلة ومتأرجحة بلطف شديد في هذا العالم من البرانس والعمائم، مغلقة إلى الأبد أمام ملاحظة السائح، مهما كان منتبهًا وذكيًا.

تحدث قليلا، واستمع كثيرا، ولا تنفتح: هذه هي القواعد التي يجب عليك اتباعها لكي تحظى بإعجاب الناس في الدوائر العربية في الجنوب، ولكي تشعر بالارتياح هناك...

بعد المرور عبر العديد من الدهاليز والساحات الواسعة المظلمة، ندخل إلى ساحة داخلية كبيرة، محاطة بجدران طوبية بنية اللون قديمة جدًا وعالية جدًا . في وسطها تنمو شجرة تين صغيرة، والتي سوف تظلل هذا المكان بعد بضع سنوات حيث يسود الصمت العظيم. وفي هذا الفناء رأينا نوعاً من السرير، وهو عبارة عن لوح كبير مصقول، موضوع على أربعة دعامات حجرية: هذا هو المكان الذي كان يقف فيه المرابط المرحوم سيدي محمد بلقاسم.

في زاوية، بالقرب من باب الشقق الداخلية، على نوع من الشرفة الحجرية، تجلس امرأة ترتدي زي بوسعادة، أبيض اللون وبسيط للغاية. وجهها الذي أصبح مدبوغًا بسبب الشمس نتيجة تنقلاتها الكثيرة في المنطقة، أصبح متجعدًا. إنها تقترب من الخمسين. في بؤبؤي العينين المظلمتين، بنظرتهما اللطيفة للغاية، تحترق شعلة الذكاء، وكأنها محجوبة بحزن عظيم. كل شيء في صوتها، وفي أسلوبها، وفي الترحيب الذي تقدمه للحجاج، يدل على البساطة العظمى. هذه هي ليلى زينب، ابنة ووريثة سيدي محمد بلقاسم.

***

علي عمرون - الجزائر

كل شيءٍ يبدأ حين ننسى أن الحياة ليست مجرد رحلة عبور، بل هي مسرحٌ مفتوحٌ على مجهول لا نهائي، حيث لا توجد مسارح ثابتة ولا أضواء ثابتة، ولا حتى ملامح نستطيع أن نأخذها معنا في الزمان.

كنتُ أركض في تلك الشوارع المظلمة التي تتمايل تحت وقع قدمي، كل خطوةٍ على الأرض كانت بمثابة صرخةٍ مكتومة في أذن الزمان، لكنني كنت أركض مع ذلك. كلما تحركت، كنت أشعر كأنني أتقدم في دائرة مغلقة، حيث تتقاطع الأسئلة، وتتصادم الإجابات، وتظل الحقيقة مختفية في نقطة ما خلف الأفق. كانت المدينة تشهد انحدارًا واضحًا نحو العدم، كأنها تدور حول نفسها بلا وجهة، وكأنني أنا الآخر كنت جزءًا من هذا الدوران، جزءًا لا أستطيع الفرار منه. أما السماء، فقد كانت غائمة بشكل غير طبيعي، كأنها كانت على وشك الانفجار.

وفي كل مرة كانت الرياح تعصف بي، شعرت بها تجذبني إلى المجهول، كانت تحمل في طياتها همساتٍ خافتة، همسات كانت تذكرني بأنني أركض، لكن لا أرى الهدف، ولا أعرف إلى أين سأصل.

أنت لست سوى تفصيلٍ في منظومة الكون، رقعة شطرنج تُحركها الأقدار، لكنك تُؤمن طوال الوقت بأنك صاحب القرار.

كانت هذه الكلمات تتردد في عقلي، كأنها إيقاع متسلسل من أصداء متناقضة. فكلما حاولت أن أُمسك زمام الأمور، كلما شعرت بأنني أبتعد عنها أكثر. كنت أركض، لكنني كنت أركض نحو اللاشيء، نحو فخاخٍ نصبها الزمن لي. وفي هذا الصراع الأبدي مع الأيام، كنت أعود إلى نفس النقطة التي بدأت منها: نحن مجرد قطع على رقعة شطرنج. تظن أنها لعبةٌ في يدك، لكن في الحقيقة أنت مجرد لاعب يتنقل وفق قوانين لا تتحكم فيها.

كلما تعثرت في مسار حياتي، تذكرت كيف أن الأقدار تمسك بكل خطوة نخطوها، وكل تفاعلٍ مع العالم حولنا هو مجرد نتيجة لشيء أكبر من إرادتنا. بينما أركض في الشوارع المظلمة، يتسلل شعورٌ غريب إلى داخلي، شعورٌ بأنني مجرد شخصية في رواية كُتبت قبل أن أُولد، وأنني لا أملك سوى الانتظار.

لم أعد أفهم: هل الحياة حقلٌ لزرع الأمل، أم أنها مجرد تربة خصبة للخذلان؟

هل كان هذا هو السؤال الذي كان يطاردني طوال تلك الأيام؟ كانت الأيام تمر وكأنها سنوات، وكل لحظة كانت تزرع بداخلي بذورًا من الأسئلة التي لا تُقابلها إجابات. كنت أظن أنني أبحث عن الأمل، لكنني اكتشفت أنني في الواقع كنت أبحث عن الضوء في نفقٍ مظلم. كنت أزرع في نفسي حلمًا، لكن تربة قلبي كانت قاحلة، لا تنبت فيها سوى الآلام. كنت أؤمن بأن المستقبل يحمل لي الأمل، لكن في كل مرة كنت أرى نفسي أغرق في الفوضى التي صنعتها يداي.

وكلما حاولت أن أبحث عن طريقة للخروج، كلما شعرت بأنني أغرق أعمق وأعمق. كانت تلك اللحظات هي الأسوأ، لأنك تعلم أنه لا مفر، ولا مخرج. كنت أعتقد أن الأمل هو الحبل الذي سيمسك بي، لكن في كل مرة كان الأمل يتساقط، حتى أصبح مجرد سراب.

ربما يكون الحبُّ أعظم الأكاذيب التي أُنعِشُ بها قلبي حتى أصدق أنني سأعيش، بينما في الحقيقة كنت أموت أكثر وأكثر.

وفي هذه اللحظات، كان الحب يتسلل إلى كل زاوية من حياتي، لكن هل كان حبًا حقيقيًا، أم أنه مجرد كذبة أخرى؟ هل كنتُ أحب أم كنتُ أهرب من نفسي؟ كان الصوت الداخلي يصرخ في أعماقي، مذكّرًا إياي بأن كل لحظة حب كانت تدور في فلكٍ من الأوهام. الحب في حياته كان معركة مستمرة، وكان في كل مرة يأتي ليعيدنا إلى تلك النقطة التي كنا نظن أننا هربنا منها.

لكن هل الحب هو ما يمنح الحياة معناها؟ أم أن الحب هو ما يجرنا إلى المزيد من الخذلان؟ كنت أرى كل حبٍ بدأ ينطفئ في عينيّ، كل عاطفةٍ تحولت إلى عبءٍ ثقيلٍ على قلبي. وكلما كنت أظن أنني وجدت الشخص الذي سيحملني إلى أفقٍ جديد، اكتشفت أنني كنت أكتشف المزيد من الجراح. الحب كان دائمًا يحمل في طياته الوعود التي لا تتحقق، وكان دائمًا ينتهي بالخذلان. وكان قلبي، الذي كان ينبض بأملٍ لا ينتهي، يتحطم أمام الحقيقة القاسية.

الخذلان، هو الحقيقة الوحيدة التي لا يمكن إنكارها

ولكن في وسط كل هذا، هل كان هناك أملٌ حقيقي؟ كنت أركض في الشوارع، محاولًا الهروب من هذا الشعور، لكنني لم أتمكن من الهروب من نفسي. كان الخذلان يلاحقني في كل زاوية، في كل خطوة، حتى أصبح جزءًا مني. كنت أعلم أنني لا أستطيع الهروب منه، لأنني كنت أعيش وسطه، وكان يتسلل إلى عقلي كلما تذكرت كل لحظة من الألم الذي مررت به.

في تلك اللحظات العاصفة، كنت أشعر وكأنني فقدت كل شيء: الأمل، الحب، وحتى السلام الداخلي. كنت أركض، لكنني لم أكن أركض لأهرب من شيءٍ، بل كنت أركض لأواجه الخذلان الذي كان يتراكم في قلبي. وكنت أشعر أنني، في نهاية المطاف، لن أتمكن من الهروب.

وفي النهاية، نستمر في الحياة...

نستمر ليس لأننا نملك الإجابات، بل لأننا لا نملك خيارًا آخر. نستمر، لأن الحياة ليست مكانًا للوقوف، ولكنها مسار طويل، وإن كان مليئًا بالألم. نستمر، لكننا نكتشف في كل خطوة أن حياتنا لا تزال مليئة بالغموض، ولا مفر من مواجهة ما هو مقدر لنا. وكلما اجتزنا مرحلة، نتعلم شيئًا جديدًا، شيء يجعلنا أقوى. ورغم أنني كنت أظن أنني أهرب، فإنني في الحقيقة كنت أكتشف نفسي أكثر. كنت أركض نحو المستقبل، لكنني في النهاية كنت أركض نحو ما كتب لي.

***

الكاتب سجاد مصطفى حمود

 

في البدء كان السفر

الأسفار تعلم الانسان تدفعه الى الارتحال في الطبيعة والتفاعل مع الاخر انها تحرر الأنا من سطحيته وقيوده وتبث فيه مشاعر وانفعالات مفعمة بالحياة مشاعر يمتزج فيها الجميل بالجليل ويخضع فيها منطق العقل الى سحر الروح ففي كل واحد منا يسكن الاخر المختلف عنا عرقيا وثقافيا والمماثل لنا انسانيا وبالنسبة لأولئك الذين يعرفون قيمة الحرية فإن فعل المغادرة والمغامرة هو الأكثر شجاعة والأجمل. فهناك في الأفق البعيد صوت يتردد صداه يدعونا الى الترحال " عندما أتأمل… في الحيّز الصغير الذي أشغله، الحيّز الذي أراه ضائعًا في فضاءات شاسعة لا أعرف عنها شيئًا ولا تعرف عني شيئًا يصيبني الذعر وأحار لرؤية نفسي هنا" في رسالة كتبها وليام ووردزوورث في صيف سنة 1802 وأرسلها إلى طالب شاب، تحدّث فيها عن مهمة الشعر خاطبه قائلا: «إن على الشاعر العظيم… بشكل من الأشكال، أن يصحِّح أهواء البشر ومشاعرهم… وأن يجعلها أكثر تعقّلًا ونقاء ودوامًا"

حقا ففي عصرنا هذا عصر الاغتراب الروحي عصر التفاهة والبلادة حيث مساحة الكذب ازدادت اتساعا وشهوة الامتلاك أضحت أكثر عنفا تحولنا الى كائنات مدنسة بالخطيئة هنا تظهر الحاجة ولا شك الى معرفة ورؤية ما هو موجود هناك...الحاجة إلى الفرار والهجرة الى عوالم أخرى.. الى رحلات تسافر من خلالها الروح فالرحلة كما يقول عالم النفس كارل يونج تعبير لاشعوري عن رغبة عميقة في التغيير الداخلي تنشأ متوازية مع الحاجة إلى تجارب جديدة أكثر من تعبيرها، في الواقع، عن تغيير المكان انها ضرب من الهروب من الذات الى الذات ومن الانا الى الغير هذا هو قدر كل كائن حر وبهذا المعنى يمكن فهم وقراءة رحلات ايزابيل ابيرهاردت.

لقد عاشت إيزابيل في فقر(1) دون أن تتوقف عن الكتابة مطلقًا، امرأة غير شرعية، ابنة منفي، لديها الرغبة في الانتقام من اللعنات التي تغمرها. في أحد أيام شهر مايو 1897، انطلقت السفينة من مرسيليا باتجاه الساحل الجزائري، مدفوعة بقوة لا يمكن كبتها. في العشرين من عمرها، أدارت ظهرها منذ فترة طويلة للتقاليد، ولكن في بحثها عن نفسها، ستضطر إلى تجاوز حدود أخرى.

الرحيل الأول، رحلة لن يقطعها إلا الموت بعد سبع سنوات. إنها تتحول من نفسها بالتحدي ومن خلال الميل. تحت زي واسم المسافر العربي محمود السعدي، تستنفد مصيرها. لتجربة كل شيء، لمعرفة كل شيء: الأماكن السيئة والملذات. تنتقل من بيوت الدعارة إلى المساجد، ومن الأحياء الفقيرة في المدن الاستعمارية إلى المخيمات البدوية في الصحراء. وبدورها ستكون مغامرة، ومتجولة، وتلميذة لجماعة إخوانية مسلمة، ومرابطة، ومراسلة حرب، وصوفية ملهمة...

وعلى طول الطريق، كتبت إيزابيل إيبرهارت مئات الصفحات من المذكرات والقصص والقصص القصيرة ورواية غير مكتملة كشفت عنها كواحدة من هؤلاء الكاتبات اللواتي كانت حياتهم على قدر متطلبات عملها. إن وصف ما هو غريب عليك جذريا، الشرق، الإسلام في هذه الحالة، والتعبير عنه، وتجربته من أجل إعادة اكتشاف حقيقته الأساسية في النهاية، هو نهج مطلق، خال من الغرابة دائما، وأوسع من نهج كاتب الرحلة. إن الانفصال والرحيل هو هدف في حد ذاته، كما هو الحال مع الانجذاب إلى مكان آخر والبحث عن وطن.

تغادر على أمل عدم العودة أبدًا. روسية ولدت في جنيف، منشقة، عنيدة، تريد أن تقطع مع قرن، وحضارة، وبالطبع عائلة، والتي لا تستجيب لتعطشها للمطلق. لا شك أن الرواية العائلية، وخاصة تلك المليئة بالأحداث والمأساوية، تشكل عاملاً رئيسياً في الاختيارات المتزامنة وغير المنفصلة بين الأدب والأماكن الأخرى.

إن قصة ولادتها أصبحت رواية بالفعل. يبدو أن إيزابيل إيبرهارت لم تخرج أبدًا من هذا الخيال الذي تخلطه بالمتعة: لا يذكر سجل الحالة المدنية لمنطقة جنيف اسم والد "إيزابيل فيلهيلمين ماري، المولودة في السابع عشر من فبراير عام ألف وثمانمائة وسبعة وسبعين، ابنة إيبرهارت ناتالي شارلوت دوروثي، أصلها من موسكو"... هل كانت تعرف من هو والدها؟ هل اخترعت واحدة لنفسها من خلال إنكار والدها؟ وفي مراسلات حميمة تم الكشف عنها مؤخرًا، تذهب إلى حد الادعاء بأنها ولدت نتيجة اغتصاب. الغموض لم يتبدد أبدًا.

ولكن سيكون من السذاجة بمكان أن نختصر مهنته ككاتب متجول في البحث عن الأبوة. وهذا من شأنه أن ينكر قوة الخيال الذي يتغذى على جاذبية المجهول ويجعله يسلك الطريق الذي يندمج مع خيط الكتابة.

كان بإمكان إيزابيل إيبرهارت أن تصبح ثورية مثل صديقتها الأناركية فيرا؛ وعندما كانت في العشرين من عمرها، كان بإمكانها أن تتزوج من خوجة بن عبد الله، عشيقها الأول، أو في العام التالي، من رشيد أحمد، الدبلوماسي التركي الشاب والجذاب الذي التقته في جنيف. لقد اختارت الكتابة التي ألهمتها بشكل طبيعي منذ البداية. إنها تتعامل مع الأدب، فيُفرض عليها ويصبح مطلباً من مطالب الحرية. أن نعيش أحرارًا، بلا قيود، مثل المتشرد ولكن أيضًا مثل الكاتب الحر في اختراع عالم.

إنها تأخذ هذه الحرية بالكامل، بشكل اندفاعي، دون الرغبة في التوقف عند قياس العواقب. الحاجة للتجوال تقودها نحو هدف غير محدد: "كما هو الحال دائمًا، غادرت دون خطة ثابتة، قررت الذهاب إلى الصحراء الجزائرية، للتجوال هناك لأطول فترة ممكنة..." مسار متقلب: البقاء في بونا، والعودة إلى جنيف، ثم تونس، قبل طرق الجنوب، والرحلات عبر الصحراء، إلى الوادي، جوهرة العرق الشرقي الكبير. إن انجرافها ، وهو شكل كسول ولكن استفزازي من أشكال الاحتجاج في نهاية القرن الاستعماري، يعرضها لجميع المخاطر. إن الشخص الذي جعل "الموثقين والمندرين من كل الأطياف يقفزون" سوف يتم الاشتباه به على التوالي، ويتم حظره، وتشويه سمعته، ثم التسامح معه، واستخدامه والاحتفال به بعد وفاتها.

وعندما انقطعت أقوى رابطة عاطفية لها، بوفاة والدتها في نوفمبر/تشرين الثاني 1897، تمكنت إيزابيل إيبرهارت من أن تنجرف بالكامل في انجرافها، منجذبة إلى الجنوب الأسطوري - الشرق - الذي غذى دعوتها الأدبية.

الانجراف هو رفض الغرب والهروب منه دون اللجوء إلى العنف. كما حاول الكاتب بيير لوتي أن يفعل من قبل، ولكن بمزيد من الغموض. كما فعل بعض مؤسسي حركة الهيبيز في الآونة الأخيرة. في فضاء رغبتها، شرق يزيد أثره القديم من بعده، صحراء ثابتة أكبر من سهوب روسيا التي نشأت فيها، تجد بلدًا يرسل إليها لأول مرة صورة غير مجزأة عن نفسها، ويبدو أنها في المقابل تستوعب الحقيقة. "أعتقد أن هناك ساعاتٍ مُقدّرة، لحظاتٍ غامضةٍ للغاية، تُكشف فيها لنا مناطق ومواقعٌ عن روحها في حدسٍ مفاجئ، فنُدرك فجأةً الرؤيةَ الصحيحةَ والفريدةَ التي لا تُمحى. لذا، كانت رؤيتي الأولى للوادي..."، تكتب في إحدى قصصها القصيرة، " في أرض الرمال".

الصحراء، المشهد الذي تنظر إليه بنفسها، حيث تدمج نفسها فيه، لتكون جزءًا من الصورة التي تصفها. وهكذا فإن ميلها إلى ارتداء ملابس الجنس الآخر، أو ما يسمى بـ"التحول الجنسي"، والذي جعله يوقع على كتاباته الأولى باسم رجل، نيكولاس بودولينسكي، سوف يعاد استثماره بالكامل في رغبته في التكامل. في رواية "الواد" تتحول إلى محمود سعدي، "الباحث المسلم الشاب الذي يسافر طلبا للعلم"، ومن المفارقات أنها هناك تظهر على طبيعتها لأول مرة: إيزابيل إيبرهارت. فهو ليس استبدالاً بل مضاعفة للهوية المقبولة والمعبر عنها.

بالنسبة لها، لا يقتصر كونها جزءًا من اللوحة على إسقاط أحلامها عليها فحسب، بل على الوجود بكثافة: "... سينطق المسحوق، وستركض الخيول عبر سهل تكسبيت. الفارس، مرتديًا القندورة البيضاء والبرنس، بعمامة بيضاء عالية مع حجاب، مرتديًا مسبحة القادرية السوداء حول عنقه، ويده اليمنى ملفوفة بمنديل أحمر لإحكام قبضته على اللجام، سيكون محمود سعدي، الابن المتبنى للشيخ الحسيني الكبير..." لحظات عاشتها، من النشوة الكاملة، من السعادة النادرة، في تحقيق الرغبة. رحلة صاخبة، ولكن أيضًا نصوص محمومة، رسالة إلى أخيها أوغسطين، شريك مراهقتها المعذبة، وقصة قصيرة بعنوان "فانتازيا". هكذا تقيس إيزابيل إيبرهارت مساحة الأرض التي وعدت نفسها بها، الوطن، أرض الآباء. لكي تنال حق العيش هناك، تهرب من سيف متعصب، وتنجح في... لإحباط أمر الطرد، والتغلب على افتراءات المستوطنين، ومقاومة حمى الملاريا. إن قوة الانجراف تسمح لهذا الكائن "المضاعف" بعبور ألف خطر دون أن يصاب بأذى تقريبًا، سواء في حياته أو في عمله.

بعد ثمانين عامًا، يعود العمل إلينا. وكما هو الحال مع مؤلفها، كان من الممكن أن تختفي في 21 أكتوبر/تشرين الأول 1904، أثناء فيضان وادي الصفرا، لكن المخطوطات تم العثور عليها سليمة بأعجوبة في الطين، تحت أنقاض منزلها.

ولم تنجُ كتاباته من "شهوة الذئاب التي تتغذى على الأعمال المنشورة بعد وفاتها"، كما قيل بشكل مبالغ فيه في ذلك الوقت. وقد نشرت بعض النصوص أو القصص أو القصص القصيرة في حياته، خاصة في صحافة الجزائر. وقد تم جمعها ونشرها في المكتبات مع الأعمال غير المنشورة التي وجدت في عين الصفراء. تم إنقاذه من التشتت ولكن تم تعديله من خلال التصحيحات أو الإضافات أو الحذف من قبل المحررين الأوائل وحتى تم انتحاله من قبل كاتب يفتقر إلى الإلهام. ولكن من خلال هذه التقلبات، تم الحفاظ على العمل من أعظم المخاطر: النسيان. ربما بفضل ثبات الموضوع الذي ألهمه، وهو المواجهة بين الشرق والغرب، ولكن أيضًا لأنه يشكل شهادة فريدة من نوعها على الاستعمار؛ أو لأنه يظل دعوة جذابة للسفر.

إن كثافة وجودة انجراف إيزابيل إيبرهارت، المتناغم مع المكان والزمان، يعطي عملها بعده الحقيقي: هادئة ومتماسكة في تونس قبل مغادرتها إلى الجنوب، مفتونة بالوادي في لحظة الاكتشاف، ميلودرامية في مرسيليا أثناء المنفى، شاعرية في قلب الصحراء، قتالية في المدن الاستعمارية في الشمال، مرتفعة خلف أسوار مزار إسلامي... ولهذا السبب، يمكننا أن نعتقد أنه لا توجد سيرة ذاتية أفضل لإيزابيل إيبرهارت من عملها نفسه.

ابتداءً من عام 1899، بعد محاولة كتابة Rêves azurés، التي أرادت كتابتها مع شقيقها أوغستين ولكنها لم تترك أي أثر، وبعد المنشورات الأولية، ولا سيما في Athénée، فإن كل مجموعة متماسكة من النصوص تمثل نقطة عالية في حياتها.

تونس تايمز. حزن الأم. تعلم الوحدة والتحرر من المصير الذي حل بسلالة النساء التي جاءت منها. إيزابيل إيبرهارت لن تنجب ابنة طبيعية مثل أمها وجدتها، فكيف لها أن تفعل ذلك باختيارها أن تكون محمود؟

في أرض الرمال والساحل التونسي. "كشف الواد" وتأكيد دعوته: "الكتابة عن بلد جديد تماما" و"ربما إيجاد الشهرة في الأدب".

بداية العمال اليوميين. ياسمينة الرائد أول خبر جزائري. العودة التي طال انتظارها إلى الوادي بعد عام، في عام 1900. الرغبة في التكامل واللقاء بالحب، في صورة سليمان إهني، ولكن أيضًا الشك - من يستطيع إذن أن يفهم أصالة نهج إيزابيل إيبرهارت؟ - والرفض المزدوج وهجوم بهيما والطرد الذي أعلنته الإدارة الاستعمارية.

الجزء الثاني من "الصحفيون"، دفاتر الواد، الربيع في الصحراء، النسخة الأولى من "تريماردور". المنفى، بالنسبة لهذه الابنة المنفية، في مرسيليا في عام 1901. تركت لأجهزتها الخاصة، ويبدو أن طبيعتها القدرية حفزتها الصعوبات. إنها تختلق مصيرًا مارابوتيًا لنفسها، معتقدة أن الله اختارها لها: الاستشهاد في خدمة القضية الإسلامية. لكن الأهم من ذلك كله أنها تستمد من ذكرياتها قوة جديدة للإلهام والكتابة وتتأمل في روايتها الأولى.

عودة إلى الجنوب، استمرارا للأخبار الجزائرية. عند عودتها إلى الجزائر في ربيع عام 1902، وجدت إيزابيل إيبرهارت، الفرنسية من خلال زواجها من سليمان إهني، سباحي الوادي، صديقًا لها، فيكتور باروكاند، المدافع عن المساواة في الحقوق بين "السكان الأصليين" والمستعمرين؛ عمود في صحيفته " أخبار"؛ سبب ثورة فلاح متيجة . ترد على افتراءات "المتطرفين" بالأدب: بعض قصصها القصيرة تتحول بعد ذلك إلى اتهامات.

جنوب وهران الجزء الأول. بلاد البارود. كان مراسلاً حربياً على الحدود الجزائرية المغربية في عام 1903، وقد دفعه إعجابه بشخصية الجنرال ليوطي إلى الدفاع عن أطروحة "الحماية". ولكن باعتبارها من محبي الجمال، فإنها تتأثر بسهولة بالتشرد، وحياة الفيلق، والغومي، والقبائل المتمردة، وهي في نهاية المطاف تتأثر بها أكثر.

جنوب وهران الجزء الثاني. بعد العمل، التأمل. العودة إلى جنوب وهران في عام 1904 لنستسلم في نهاية الرحلة إلى سحر قلعة دينية في الصحراء: قنادسة. وتتسم الكتابات في بعض الأحيان ببعد أشبه بالحلم، يحمله التصوف.

وبطبيعة الحال، احترمنا هذا الترتيب الزمني للإلهام لبناء هذا المجلد الأول من الملاحظات والقصص. وسوف نجد نفس التسلسل الزمني في المجلد الثاني، وهو انعكاس خيالي لسيرة إيزابيل إيبرهارت من خلال القصص القصيرة وروايتها تريماردور.

ومن بين النصوص التي تم استخراجها من طين عين الصفراء، النصوص الأخيرة المكتوبة بالقنادسة، والتي تحمل طابعا تنبؤيا غريبا. إنهم يستحضرون أحلام الفناء النشواني في "جنة الماء". هل سئمت إيزابيل إيبرهارت من الاستمداد الكثير من مصادر الحياة، ومن تحدي الخطر في كثير من الأحيان؟ عندما توفيت في فيضان الوادي، كانت تبلغ من العمر سبعة وعشرين عامًا فقط، لكن الكثير من التجارب تراكمت...

كانت مريضة وضعيفة بسبب الحمى، فاضطرت إلى مقاطعة رحلتها الطويلة نحو الجنوب. ومع ذلك، في خريف عام 1904، كانت لا تزال تخطط للمغادرة إلى واحات توات، لقضاء الشتاء والكتابة في تيميمون، لتحكي قصة حياة النساء، العاهرات ذوات القلوب الكبيرة، عاملات المقاصف اللواتي يلعبن دور راهبات المحبة، اللواتي تبعن القوافل العسكرية لغزو الصحراء. وهو موضوع تناولته الأدبيات والسينما مراراً وتكراراً منذ ذلك الحين، والذي ربما كان ليشكل بالنسبة لإيزابيل إيبرهارت موضوع الرواية الناضجة.

لا تزال هناك مجموعة من النصوص، وهي عمل من شبابه، تتميز بقوتها الاستثارية التي تتناقض بشكل فريد مع رتابة معظم المؤلفين الاستشراقيين في ذلك الوقت، وتعلن عن موهبة حقيقية ككاتب. ماذا كتب أساتذة القرن التاسع عشر في سن السابعة والعشرين ؟ كان فلوبير قد انتهى للتو من إكمال روايته الأولى "التربية العاطفية"، والتي اعتبرها غير جديرة بالنشر...

لم تحقق إيزابيل إيبرهارت أي شهرة أدبية خلال حياتها. وفي أقصى تقدير، بدأ الناس يتحدثون في الصالونات الباريسية عن سر صورته الظلية الأنيقة كفارس عربي. ولم نتأثر حقًا بقوة وأصالة مصيره إلا بعد وفاته؛ العاطفة التي تسمح بنشر أعماله ونجاحها. عمل صدر بعد وفاته في عام 1906، دون أن يترك المؤلف أي تعليمات دقيقة بشأن هذا.

ويساهم ناشروه ومدحوه بدرجات متفاوتة في هذا النجاح، الذي أصبح غامضاً بسبب الإفراط في الثناء والرحلات الشعرية الخيالية من جانب الشعراء المتوسطين الذين يأتون لإلقاء كلماتهم على قبره، عند سفح الكثبان الرملية الصحراوية.

وكان أول من جمع نصوصها هو فيكتور باروكاند، الذي جمع كل الأخبار المنشورة في الصحافة الجزائرية، وجمع من يدي ليوطي، الذي بحث عنها بين الأنقاض، المخطوطات التي وجدت في عين الصفراء. يعتقد المدافع، والصديق المقرب، ورئيس التحرير أنه مخول بتنظيم الإصدار وفقًا لاستراتيجية شخصية للغاية. ينقسم الكتاب إلى قسمين جنوب وهران، وقد قامت إيزابيل إيبرهارت بنسخهما في دفتر ملاحظات واحد. وسيصدر منه كتابين: في ظل الإسلام الدافئ، ومذكرات من الطريق، ويضيف إليهما نصوصاً أخرى من دون كثير من المنطق.

وبفضل شرعيته كوصي، شارك في التوقيع على أول هذه الأعمال. لا شك أنه احتفظ بقدر معين من الحنين إلى علاقته الحميمة بإيزابيل إيبرهارت - ربما كان، لفترة من الوقت، عشيقها - وإلى تعاونهما. هل يسمح له هذا بخلط كتاباته مع كتاباتها؟ وباستخدام تدهور مخطوطة الجزء الثاني من Sud oranais كذريعة، يقدم، كما يحدد، "شيئًا جديدًا". في الواقع، يقوم النظام برقابة الكلمات والعبارات والمواقف التي تشير إلى قدر كبير من الحرية الأخلاقية. إنه في بعض الأحيان يثقل الأسلوب الرصين لمؤلفه الراحل بزخارف من كتاباته ذات "رقبة البجعة". وبذريعة الترابط، يضيف تأملات جمالية وأخلاقية خاصة به، ويحل محل المؤلفة بطريقة زائدة في النص حيث تكون حاضرة دائمًا من خلال حدة نظرتها. إنه ينثر الجمال في القصص حيث لا ينبغي لأي شيء أن يكون غريبًا، وربما تكون هذه هي الخيانة الأسوأ.

وللتوضيح، دعونا نشير إلى أنه في أعقاب الصرخة التي أثارها هذا التعاون بعد وفاته، اضطر باروكاند إلى أن يقرر الحد من تدخلاته لتقتصر على تصحيح التفاصيل. وبعد التدقيق، فإن النصوص المنشورة منذ عام 1908 فصاعدا، وهي Notes de route وPages d'Islam وTrimardeur، هي، مع بعض الاستثناءات، مطابقة للمخطوطات.

ومع ذلك، في هذا الوقت من الاستعمار، لم يكن من أقل مزايا فيكتور باروكاند الدفاع عن عمل إيزابيل إيبرهارت ونشره من خلال نشره في باريس بواسطة يوجين فاسكويل. كان باروكاند صحفيًا مؤيدًا للنظريات "التقدمية" للحكومة الراديكالية، وقاد هذا النضال حتى وفاته في الجزائر عام 1934. وقد عارضه عدد كبير من الشخصيات الأدبية بشدة على حصريته لموضوعه، ورفعوا أصواتهم، وفرضوا أصواتهم وأسلوبهم. في بعض الأحيان تتحول الخلافات إلى عنيفة حول شخصية إيزابيل إيبرهارت. كل واحد منهم يطرز نسخته الخاصة ويشارك الكثيرون: أولئك الذين عرفوها، والمسؤول الاستعماري والكاتب روبرت رانداو وزميله القاضي ماريفال، والرسام ماكسيم نوار، والكاتب في جريدة لوماتان جان رودس، وعلي عبد الوهاب، وهو صديق تونسي من شبابه... وأولئك الذين حلموا بها، والشاعرة لوسي ديلارو ماردروس، والناشطة النسوية سيفيرين، والسارقة فيني دوكتون... على سبيل المثال لا الحصر.

ثم يأتي الحارس. بدأ رينيه لويس دويون، الشخصية القوية، محرر ومدير مجلة "لا كونايسانس" والمعلم الأول لأندريه مالرو، في نشر المخطوطات منذ عشرينيات القرن العشرين فصاعدًا والتي ظلت غير منشورة وتم استعادتها بشكل غير متوقع في عام 1913 من قبل كلوي بوليود، المعجبة بإيزابيل إيبرهاردت. يقدم دويون كتابي My Day Laborers (1923) و In the Land of Sands (1944) بشكل خاطئ على أنهما أول كتابات أصلية. من خلال تقديم نفسه ككاتب سيرة ذاتية، فإنه يظهر نفسه طائفيًا تمامًا مثل أسلافه. يريد فك الصنم للعثور على المرأة، فيصنع أسطورة جديدة.

ولإعادة العمل إلى تماسكه، كان من الضروري محاولة فهم تماسك المؤلف ـ أو عدم تماسكه. إن اتباع خطواته وكتاباته منذ مغادرة جنيف يتطلب العديد من الطرق البديلة. لقد شرعنا في رحلة طويلة لإعادة اكتشاف هذا الباحث عن المطلق. أولاً، استكشف رفوف بائعي الكتب المستعملة لجمع مجلدات الطبعات الأولى التي كانت منذ فترة طويلة غير متوفرة في المكتبات. راجع الصحف والمجلات في ذلك الوقت الموجودة في الأرشيفات والمكتبات، وخاصة تلك التي ساهمت فيها: الأثيني، والأخبار الجزائرية، والديبيش الجزائرية، والأخبار الصغيرة، والمجلة البيضاء، على وجه الخصوص. وبعد ثمانين عامًا، اتخذت من كتاباتها دليلاً لها، وسافرت عبر بلد ما، والتقت بأناس يشبهون إلى حد كبير أولئك الذين تمكنت من الكشف عن أرواحهم: وفهمتهم في تغيراتهم ودوامهم.

عندما وجدنا في هذا الجنوب الذي أحبته كثيرًا، المناظر الطبيعية، والوجوه، والمشاهد التي وصفتها إيزابيل إيبرهارت، فهمنا حقيقة الشخصية بشكل أفضل مما كنا نقرأه من النصوص التي لا تعد ولا تحصى والتي نشرت عنها منذ وفاتها. لم يتبقَّ سوى اكتشاف ودراسة المراسلات والملاحظات غير المعروفة لدى أغلب كتاب السير الذاتية، لمحاولة إحباط فخاخ أسطورة إيزابيل. ومن ثم أصبح من الممكن إعادة إثبات حقيقة العمل من خلال مقارنته لأول مرة بالمخطوطات المحفوظة والنصوص المنشورة في حياة المؤلف.

تتحدث إيزابيل إيبرهارت عن نفسها بلا مبالاة، سواء أكان ذلك ذكوريًا أم أنثويًا، وتكتب كما عاشت: ببساطة ولكن تحت إشراف تدفق العواطف، دون تجميل، ودون مكر. بلا مبالاة، ولكن مدفوعًا بشغفه. قبل وفاتها بفترة وجيزة دخلت تلك المرحلة من النضج الأدبي حيث يبدأ المرء بمعرفة كيفية إعادة تكوين الواقع في الخيال. وتشكل بعض المقاطع من روايته "تريماردور" دليلاً على ذلك.

يأتيه الإلهام على طول الطريق. تلاحظ المناظر الطبيعية أو اللقاءات، ولكن ليس في مكانها، بشكل موجز، بضعة أسطر، نقاط مرجعية، في دفاترها المدرسية ذات الأغلفة الرخامية، أو إذا فشلت في ذلك على ورق رسائل الفندق، على ظهر الفاتورة وحتى على ظهر ورقة الاقتراع. وفي وقت لاحق، وأحيانا بعد ذلك بكثير، استلهمت من ملاحظاتها وذكرياتها كتابة القصص والقصص القصيرة التي كانت تعيد كتابتها في كثير من الأحيان في إصدارات متتالية، ثم تنسخها دون شطب بالحبر الأسود أو الأرجواني بخط يدها المتعمد والرفيع.

وقد أتاحت لنا المخطوطات من مجموعة إيزابيل إيبرهارت، المحفوظة في الأرشيف الخارجي في آكس أون بروفانس، العودة إلى النص الأصلي وتصحيح المنشورات الأولى. نجد، لا تزال ملطخة بالطين الأحمر الناجم عن الفيضان، جزأين من جنوب وهران؛ عدة إصدارات غير مكتملة من رواية تريماردور، معظم دفاتر الواد، تلك من الساحل التونسي، دفاتر، بعض القصص القصيرة والعديد من المقاطع والمتغيرات، أعمال غير منشورة أيضًا، راحيل والمقاديرة، مسودات رواية مهجورة. وقد احتفظت عائلة باروكاند بهذه المخطوطات، التي جمعها وقام في بعض الأحيان بشرحها بغرض النشر، حتى عام 1956، ثم سلمتها إلى أرشيف الحكومة العامة للجزائر قبل نقلها إلى آكس أون بروفانس.

لقد تمكنا بفضل ذلك من استعادة الكلمات والجمل والعناوين والفقرات، وحتى القصص بأكملها التي حذفها باروكاند. لقد قمنا أيضًا بإزالة إضافاته وإعادة تقديم بعض المتغيرات وبدايات القصص القصيرة والنصوص الجدلية المستبعدة سابقًا، لتشكيل هذه المجموعة من الملاحظات والقصص، وهي المجلد الأول من مجلدين من الأعمال الكاملة لإيزابيل إيبرهاردت.

أردنا أن نقوم بعملية التحرير، وأن نقدم النصوص الأصلية للقراءة لأول مرة، دون تعديلات أو تصحيحات، مع أخطائها واكتشافاتها. بالنسبة لنا، هذا هو أفضل تكريم للشخصية والكاتب الذي "أسعدنا" لفترة طويلة.

ينبغي أن يسمح هذا النشر الأول للأعمال الكاملة بإجراء أعمال أخرى حول إيزابيل إيبرهاردت، والمذكرات، والأطروحات، والدراسات النقدية، والتي لا تزال قيد التنفيذ.

في بداية المجلد نجد نصًا كتب في نهاية عام 1902، والذي بدا لنا وكأنه يفرض نفسه كمقدمة. تشيد إيزابيل إيبرهارت بـ "التجوال"، وهو العنوان الذي اختارته لجمع قصصها الأولى.

تلك التي رحلت في العشرين من عمرها دون رغبة في العودة، حققت أخيرًا أمنيتها: "... تحت أي سماء وفي أي أرض سأرتاح يوم قدري؟ لغز... ومع ذلك، أودّ أن يُدفن رفاتي في تراب مقبرة عنابة البيضاء الحمراء، حيث ترقد... أو في أي مكان آخر، في رمال الصحراء المحروقة، بعيدًا عن تفاهات الغرب الغازي..."

***

عمرون علي - الجزائر

............................

ملاحظة

في أغلب أجزاء هذا المقال تمت العودة الى كتابات على الرمال، المجلد 1. تم إنشاء الطبعة وشرحها وتقديمها بواسطة ماري أوديل ديلاكور وجان رينيه هوليو، جراسيت، 1990.

كان فيثاغوروس من أكبر الفلاسفة في تاريخ اليونان. هو أضاف مساهمات عميقة للمعرفة في مختلف الحقول. احدى الحقائق الملفتة حول معتقدات فيثاغوروس هي انه اعتبر الرقم ثلاثة ذا طابع خاص. فما هو تبرير فيثاغوروس لهذا؟

سحر فيثاغوروس في الأرقام

لم يكن فيثاغوروس مهتما فقط بالرقم ثلاثة. هو كان مندهشا بالارقام عموما. هو نظر لها كمفتاح لفهم الكون ككل. تحقيقاته في طبيعة الأعداد كان لها تأثيرا مستمرا على المصطلحات الرياضية الى يومنا هذا . فمثلا، كانت لدى فيثاغوروس طريقة النظر الى الارقام هندسيا بدلا من كتابتها بالرموز. هو يستعمل النقاط لترتيب الرقم في أشكال مثل المربعات او المثلثات. الرقم 6 مثلا، هو رقم مثلثي لأن رقم 6 المعروض بالنقاط يشكل مثلثا. بكلمة اخرى، هناك قاعدة مكونة من ثلاث نقاط وقسم وسط مكون من نقطتين، ونقطة واحدة تشكل الذروة.

نحن لانزال نستعمل مصطلحات "ارقام مربعة" و "ارقام مثلثة" حتى اليوم. هذا يبيّن مدى أهمية افكار فيثاغوروس.

لماذا اكتسب الرقم 3 خصوصية لدى فيثاغوروس؟

من بين جميع الأرقام، اعتبر فيثاغوروس الرقم 3 فريدا من نوعه. هنا عدة اسباب لهذا:

1- لاحظ فيثاغوروس ان الرقم 3 هو الرقم الوحيد الذي يساوي مجموع جميع الارقام التي دونه. بكلمة اخرى، عندما نضيف 1 و 2 (الارقام التي دون 3) سنحصل على رقم 3، بينما لن يحصل هذا مع أي من الارقام الاخرى.

فمثلا، اذا كنت تضيف جميع الارقام التي دون الرقم 4، فان المجموع الكلي سيكون 6 بدلا من 4. لذلك، لاحظ فيثاغوروس ان هذا يجعل الرقم 3 فريدا من نوعه.

2- السبب الثاني لخصوصية الرقم 3 هو عندما نأخذ الارقام السابقة للرقم 3 (1،2) ونجمعهما مع الرقم 3 سنحصل على الرقم 6. ونفس الشيء، عندما نضرب جميع تلك الارقام مجتمعة (1،2،3) سنحصل على رقم 6. هذا الانسجام لا يوجد في أي من الارقام الاخرى.

3- فيثاغوروس اعتبر الرقم 3 خاصا لسبب أخلاقي. طبقا لفيثاغوروس، فضيلة الفرد تتألف من ثلاثة أجزاء متميزة وهي الفهم تتبعه القوة ثم اخيرا الفرصة.

الرقم 3 والكون

بالاضافة الى خصائص الرقم 3 على المستوى الرياضي، فيثاغوروس ايضا اعتبره خاصا لعدة اسباب اخرى. ولاسيما،انه يبدو يعكس العالم في المستوى المفاهيمي. في تجربتنا الانسانية، نحن على اطلاع بمفهوم البداية، الوسط، والنهاية. هذه الأجزاء الثلاثة تلخص مجمل أي شيء في الكون. ونفس الشيء، بالنسبة لتجربة الانسان في الميلاد، الحياة، الموت.

 أحد الفلاسفة الذي اتّبع تعاليم فيثاغوروس كان أيون Ion من جزيرة خيوس Chios. كتب:

"كل الأشياء هي 3، ولاشيء هناك أكثر او أقل من 3".

من هنا يتضح ان الرقم 3 كان هاما جدا لفيثاغوروس وأتباعه نظرا لعدة اسباب رياضية وأخلاقية كما رأينا.   

***

حاتم حميد محسن

 

قراءة انثروبولوجية

كثيرا ما نسمع آراء من داخل الأوساط العشائرية، حول طبيعة تحول العشيرة نحو توجاهات مخالفة للأصول العشائرية وتقاليدها، ويعزا هذا التحول إلى طبيعة التنافس العشائري حول الوجاهة والمشيخة والتصدي للظهور العشائري والبروز فيه. وإن كان هذا جزء من جملة أسباب، ممكن أن نشخصها في طبيعة العشيرة وتكوينها وحضورها، وتأثير شكل النظام السياسي عليها، وهوية الدولة، وطبيعة الحكم. بالتأكيد ما تقدم له مؤشراته في كل نشاط عشائري ممكن أن يكون جزء من هوية النظام السياسي وهوية نظام الدولة.

اذا تحدثنا عن هذه الطبيعة العشائرية من داخل مؤثرات النظام السياسي فيمكن أن نبتدأ ذلك مع بداية تكوين الدولة العراقية عبر سلطة الأحتلال البريطاني الذي جلب للعراق عائلة تحت مسمى (الأسرة الهاشمية) او العشيرة الهاشمية، وهذه أول مرحلة من مراحل تركيز الحكم العشائري في النظام السياسي العراقي، وما تبع ذلك من تصاعد للخطاب العشائري داخل الدولة والنظام السياسي، حيث قرب الهاشميين من الحكم والأصهار والأقارب الى سدة الحكم وإدارة الدولة فيما بعد، حتى فيصل الثاني، ووصيه عبد الأله الذي هو خال الملك. وهذا يعني أن الملوكية كظام سياسي قائم على فكرة العشيرة فهي تتشكل بها وتتغير بمتغيرات العائلة والاسرة الحاكمة فيما لو لم تنجب أولاد ذكور، وأشكالية الوصاية وغيرها من التبعات السلبية للنظام الملكي وعلاقته بالحكم وديمومته وعلاقته بالشعب على اساس هذا الاعتبار، والنظام الملكي هو وجه من وجوه الأنظمة الشمولية.

اما العشيرة في النظام الجمهوري، وبما يمكن أن نسميه بالجمهورية الأولى، وهي جمهورية عبد الكريم قاسم، كانت قد تعاملت مع العشيرة على أساس اعتبارات جديدة، اضعفت نسبيا الهيمنة العشائرية تحت نظامي الاقطاع، والوصاية العشائرية، حيث منحت القيمة للوظائف، والتمليك، والأعمال الحرة، وبدأت تفقد العشيرة أو بالأحرى بدأ يفقد الشيخ كثير من جمهوره، لا سيما جمهور من العبيد، والخدم، والتابعين، تحت سلطة الشيخ وحمايته او حماية عشيرته، فالشيخ كان في هذه المرحلة ليس شيخ على عشيرته فقط، بل شيخ على جميع منطتقه الجغرافية التي له حضور عشائري فيها. اذا ما تجاوز بتأثيره العشائري هوية انتماء أكبر تحت عنوان الإمارة أو السمعة الوطنية التي يكتسبها الشيخ.

اما وضع العشيرة في ظل الجمهورية البعثية الديكتاتورية الشمولية، في ظل وحدة الدولة، ووحدة النظام، ووحدة الحزب، ووحدة الجيش، ظهرت بشكل قوي وحدة العشيرة، واستمر هذا الحال الى ما بعد 1991 وما بعدها أحدث صدام حسين تغييرات في التكوين العشائري المسكوت عنه تحت عنوان وحدة العشيرة ووحدة الإنتماء والتألف العشائري الى وحدة الولاء السياسي للعشيرة تحت هذه الوحدة العشائرية، وهذا ما عمل عليه صدام حسين حين بدأ يصنف العشيرة من حيث ولائها ويفكك العشيرة التي لا تدين له بالولاء في مقابل إبراز مشايخ جديدة تنافس مشايخ آخرين من العشيرة ذاتها. فبقي داخل العشيرة ما هو مسكوت عنه، مثلما بقي داخل النظام السياسي ما هو مسكوت عنه، حتى تكشف كثير منه بعد الأنتفاضة الشعبانية، أو قل قبلها حيث عمل صدام على ترحيل التبعية الأيرانية أو الكردية الفيلية من العراق وكان اغلبهم كان قد إندمج عشائريا مع عشائر عراقية وعربية كثيرة حتى بعضهم حمل لقبها.

وكان صدام تحت شموليته المقيته عمل على تنقية العشائر العراقية من انتماءات كان هو يصفها بشكل عنصري، مثل العجمية، والأجنبية، والدخيلة. ولا ننسى صدام هو أيضا يحمل نزعة وحدة العشيرة ودمجها مع وحدة النظام السياسي، حيث كان حكمه مثقل بثقافة القرية والعشيرة، حيث إدارة حكمه كانت مقتصره على قرية العوجة وما يحيط بها، وما ينتمي له من عشيرة آل بوناصر وبقي هذه الشمولية تتضخم في الثقافة المجتمعية العشائرية حتى أصيب شيوخ عشار كثر بهذه النزعة، فكانوا يرفضون الاستقلال العشائري داخل القبيلة أو الأستقلال القبلي داخل الأمارة أو حتى الأنفصال والتحول الى عشيرة أخرى أو أمارة أخرى. ومازالت هذه النزعة موجودة عند كثير من الشيوخ حتى سقوط نظام البعث، واستمرت حتى في ظل النظام التعددي الديمقراطي في عراق ما بعد 2003 ومن مظاهر هذه الشمولية ، هو الطموح السياسي الذي دفع كثير من الشيوخ للترشح أو تولي مناصب عليا أو التقرب من السلطة أو التخادم بينها وبين النظام السياسي القائم، وهذا الأمر يتجاوز به الشيخ مهمته العشارية الا انه تكتنفه فكرة أحتواء العشيرة من خلال ما يتمتع به من نفوذ وسيطرة وبذل أموال وبذل طعام.

فإنثروبولوجية العشيرة في ظل النظام الشمولي تختلف عن أنثروبولوجية العشيرة في ظل النظام التعددي الذي انتج لنا شموليات ايديولوجية بدل الشموليات السياسية وتأثر العشيرة بهذا التغير، فجاء انتمائهم للفصائل المسلحة هو نوع من الحماية وتقوية شوكة العشيرة ازاء التهديد العشائري المجاور وغير المجاور، وانتمائهم للنظام السياسي ليكسبوا ويعززوا عامل الوجاهة وقوة خدمة العشيرة وأهل المصلحة، فأصبح للعشيرة توصيف سياسي وايديولوجي بارز أثر ايجابا وسلبا على التكوين العشائري المحايد للعشيرة، فهناك عشائر توصف على انهاء صدرية لأن شيخها وجزء كبيرة من اتباعها تحت رعاية التيار وحمايته وولائهم لرمز التيار، وهناك عشائر ذات ولاء حكيمي اي لعائلة الحكيم، وهناك عشائر مقربة من العتبات او ما يعرف بحشد العتبات وهناك عشائر ذات انتماءات متعددة متذبذبة ومتفاوته وعابره حتى للقومية والمناطقية والدينية او الطائفية، هناك ولاءات عشائرية اتاح لها النظام التعددي الديمقراطية حرية الولاءات العشائرية العابرة للحدود. فكثر من الشيوخ يعد نفسه مسؤولة إمارة في داخل العراق وخارجه، وهناك من يفرض أمارته على أجزاء من الوطن العربي، وهذا يعني التوسع خارج أقليمية الدولة وهو ما لم يشر اليه القانون دستوريا او ما لم يتم معالجته قانونيا، وهذا يعني إن إمارة العشيرة او القبلية او الإمارة هي أوسع تأثير من حدود سلطة الدولة المعترف بها، فهي خارج سياكس بيكو الحدود، وما يقابله ويعاب عليه عند كثيرين مفهوم سلطة الأمة على وفق الحكم الإسلامي.

فالعشيرة هي تكوين اجتماعي تتأثر بالتأكيد بكل متغيرات انظمة الحكم، ولو اطلع القارئ الكريم على وثائق في النظام الملكي والجمهوري الأول وحكم البعث، وحكومات ما بعد 2003 توضح طبيعة توظيف العشيرة لخدمة الأنظمة السياسية وعلاقة العشيرة بالسلطة، فكان فرصة كبيرة لإعادة النظر بالعشيرة إنثروبولوجيا عسى ان يصحح من مسار المواقف، واعادة توازن المصالح الإجتماعية والوطنية على اساسها.

***

د. رائد عبيس

أقصد بمفهوم (النخبة) هنا، ليس مثقفي السلطة، وتجار الكلمة، ومهاتري وأدعياء الثقافة. وإنما المقصود بها هنا هي كل تلك القوى الاجتماعية الممثلة للثقافة العالمة ممثلة بالانتلجنيسيا المختصة بأنساق واسعة من المعرفة الايجابيّة. أي المهتمون بشؤون المعرفة العلميّة من أطباء ومحامين ورجال قانون ومهندسين وإداريون وكل من يقع نشاطه المعرفي في مضمار البحث المتخصص والمتعلق في تنمية الدولة والمجتمع. ويأتي في مقدمة هذه النخب الإيجابيّة أيضاً، من يشتغل على قضايا الأدب والفن والفكر بأنساقها السياسيّة والسيسيولوجية، (الاجتماعية) والابستمولوجيّة، (المعرفيّة) والفلسفيّة، وغير ذلك من قضايا الثقافة الإبداعيّة التي تختص في تنمية الوعي الفردي والمجتمعي والارتقاء بهذا الوعي بما يخدم الفرد والمجتمع، ومحاربة الظلم والاستبداد والتخلف والفساد بكل أشكاله، وعلى رأس كل هؤلاء يأتي المثقف (الطليعي) أو ما يسمى بالمثقف (العضوي) على حد تعبير "غرامشي"

علاقة النخب الثقافية الشموليّة، أو السلطات الحاكمة المستبدة:

لقد ظل تعاضد السيف والسلطة في عالمنا العربي، قائماً في الدولة العربيّة منذ بداية الخلافة الإسلاميّة حتى اليوم. هذا التعاضد الذي عبر عنه الخليفة عبد الملك بن مروان بعد توليه الخلافة خير تعبير، عندما مسك القرآن بيده وراح يخاطبه بعد أن قبله قائلاً: (هذا فراق بيني وبينك)، ثم ذهب ليخطب بالناس في الكعبة بعد استيلاء عامله الحجاج على مكة ومقتل عبد الله بن الزبير قائلاً عبارته المشهورة: (إنكم تكلفونا أعمال الأوائل ولا تسيرون سيرتهم، والله لا أسمع رجلاً يقول لي بعد اليوم "اتقي الله" لقطعت رأسه بحد السيف). (1).

أما الحجاج فيقول عن المعارضة ومنها حتماً أصحاب الرأي، أي المثقفين السياسيين ممن عارض السلطة أو الخلافة الأمويّة في سياستها آنذاك قائلاً: (من تكلم قتلناه، ومن سكت مات بدائه غماً.). هذه المقولة التاريخيّة المعبرة عن استبداد السلطات الحاكمة الشموليّة وقهرها لمعارضيها أو منتقديها بشكل عام وللمثقفين العقلانيين التنويريين بشكل خاص، لم تزل سارية المفعول حتى تاريخه في عالمنا العربي.

وفي تاريخنا الحديث: يقول الكاتب السوري النهضوي شبلي شميل:

(ومن الأسباب القاضية على نبوغ الكتاب في المشرق هو وقوف حكوماتهم ضدهم، فقد تعودت الحكومة أن تنظر إلى هذه الطائفة كأنها من الآفات التي ينبغي مقاومتها أكثر من تنشيطها، وذلك لعدم معرفة الكثير من الحكام مالها من الأهميّة وما لكبارها من النفع في رفع شأن هذه الأمّة، إذ لا يعرف قدر الشيء إلا أهله، فمهما أجاد الكتاب في حكومة هذا شأنها، ومهما أظهروا الاستعداد لأن يكونوا من النوابغ فلا يصادفون إلا إعراضاً منها يحملهم على أحد أمور ثلاث  هي: إما كسر القلم، وإما تحييدها وعدم الوقوف ضدها، وإما إذلاله لها. وأبلغ من ذلك هو الإساءة إلى تخريب ذمم الكتاب وشرائهم بالمال ليكتبوا غير ما يفكروا به، أو يصمتوا عما يعتقدون، حتى ينحط مقام الكتابة بهم والنتيجة من ذلك في كلا الأمرين قتل الأفكار، وإفساد الأخلاق، وموت الْكُتَابِ الذين يُفتخر بهم، وما وجِدَتْ الحكومات لمثل هذا.).

من طرائف السلطات المستبدة في وطننا العربي في بداية القرن التاسع عشر، أن "محمد علي باشا" والي مصر أرسل الطهطاوي والعديد من النخب المصريّة إلى فرنسا للتخصص بالعلوم الحديثة أو ما سمي بـ (العلوم البرانية) كعلوم السباكة والحدادة والعسكريّة والأيلجة – أي الدبلومسية – وكانت يومها خمسة عشر علماً على حد تعبير ذلك الزمان، وعند عودتهم سأل الباشا كلاً منهم عن تخصصه العلمي الذي درسه في فرنسا، ووضع كلاً منهم في مجال تخصصه، إلا رجلاً واحداً عندما سأله عن اختصاصه قال له (علوم إداريّة). فاستفسر منه الباشا عن طبيعة هذا الاختصاص، فقال له: هو علم إدارة البلاد ومؤسساتها. فنظر إليه الباشا بشذر وقال له: أما  أنت فاذهب إلى الاسكندريّة وترجم الكتب العسكريّة للجنود هنا. فأنا الحاكم هنا.(2).

هكذا يفكر الحاكم المستبد في الدولة الشموليّة، فهو يتوجس شراً من كل مثقف أو متعلم يمكن أن ينافسه في الحكم أو يساهم في كشف المستبد وسياساته أما الشعب.

**

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سوريّة

..................

الهوامش:

1- (الدكتور عبد الوهاب أحمد أفندي - الإسلام والدولة الحديثة – دار الحكمة لندن – ص 70. ).

2- (د. عدنان عويّد – بحث "النهضة وأزمة الطبقة" – من كتابنا: اشكالية النهضة في الوطن العربي من التوابل إلى النفط – إصدار دار المدى – دمشق – 1997- ص202).

 

هل نحن حقًا أحياء؟

في هذا الكون اللامتناهي، حيث كل شيء يبدأ وينتهي، هل تساءلت يومًا ما إذا كان وجودك ذاته مجرد لحظة عابرة في بحر لا نهاية له من الزمن؟ هل نحن أحياء حقًا، أم أننا مجرد تفكير، لحظة خاطفة في الكون، تحاكي حركة الأشياء من حولنا؟ في ظل هذه الفوضى، هل يمكن أن يكون الوجود البشري مجرد وهم؟ وإذا كان كذلك، ما الذي يبقى لنا من يقين في عالم تحكمه أسئلة لا نهائية؟

هل نحن أحرار فعلاً؟

إن السؤال عن الحرية ليس مجرد تساؤل فلسفي، بل هو قضية وجودية تتناول جوهر تجربتنا الإنسانية. كان الفلاسفة، من سقراط إلى سارتر، يسألون هذا السؤال: هل نملك حقًا حرية الإرادة؟ هل يمكننا اتخاذ قراراتنا دون أن تؤثر فينا القوى الخارجية، سواء كانت بيولوجية، اجتماعية، أو نفسية؟ أم أننا نعيش في وهم كبير، نخدع أنفسنا بالاعتقاد أننا أحرار، بينما في الواقع نحن مجرد كائنات تحت تأثير محيطنا الذي يعيد تشكيلنا في كل لحظة؟

خذ هذا المثال البسيط: أنت تقف أمام خيار حياتي مهم، ولكن كيف تضمن أن هذا الخيار هو نتيجة لإرادتك الحرة؟ هل هناك شيء في داخلك يحدد هذا الخيار، أم أنك متأثر بما قاله لك المجتمع، بما توقعته منك العائلة، بما قرأته في الكتب؟ هل رغباتك فعلاً تخصك، أم هي مجرد نتائج لما مررت به من تجارب سابقة؟ هل هناك تأثيرات خفية تمارس ضغطًا عليك دون أن تدركها؟

إذاً، هل أنت أنت حقًا في كل قرار تتخذه، أم أن تلك الأنت التي تعتقد أنك تعرفها هي محض تمثيل آخر في مسرح الحياة، تقوم فيه بدورٍ لم تكتب نصه؟

هل هويتك هي حقيقتك؟

وماذا عن الهوية؟ هل هي ثابتة كما نراها، أم أنها مجرد تمثيل ذهني يتغير بتغير السياق؟ هل نحن حقًا نحن، أم أن صورتنا الذاتية مجرد صورة تم صبها في قالب اجتماعي يفرض علينا تحديد من نكون؟ هل صورتك في مرآة المجتمع هي تلك التي تعكس حقيقتك؟ أم أن هذه الصورة هي مجرد قناع ترتديه لتنجو من العجز والفوضى الداخلية؟

إذا كنت تؤمن أن هويتك ثابتة، فهل فكرت في اللحظة التي تلاشى فيها ذلك الثبات؟ هل فكرت يومًا في لحظة تحولك، حين تصبح شخصًا آخر رغم أن كل شيء فيك بقي كما هو؟ من الذي يحدد هويتك حقًا؟ هل هو المجتمع؟ هل هي أفكارك؟ أم هو ذلك الفراغ اللامتناهي الذي يراهن على تقديمك كشخص ثابت رغم أنك مجرد انعكاس لمتغيرات لا تنتهي؟

الوعي واللاوعي: الفجوة بين المعرفة والفهم

الوعي هو أداة الفهم التي نملكها، لكن ماذا لو كان العقل الباطن هو الذي يمسك بالخيوط ويصنع الواقع الذي نعيشه؟ هناك شيء غريب وعميق في العقل الباطن: نحن نعتقد أننا من نقرر، لكن الحقيقة قد تكون أننا لا نقرر شيئًا في الواقع. وفقًا للعلم العصبي، العقل الباطن يتحكم في أكثر من 90% من قراراتنا. هذا يشير إلى أن معظم ما نعتبره قرارات في حياتنا هو في الواقع ردود فعل غير واعية تتأثر بذكرياتنا، تجاربنا السابقة، والنظام البيئي الذي نعيش فيه. إذًا، من هو الذي يتخذ القرار هنا؟

لو تمعنت أكثر، ستجد أن التفسير الذي تقدمه لنفسك حول حياتك قد لا يكون سوى تفسير منطقي أضفته بعد وقوع الحدث. قد تكون قراراتك ليست سوى مجرد تفاعل مع محفزات لا واعية تُشكّل اتجاهاتك ورغباتك. لكن هل يمكنك حقًا أن تكون أنت في هذا العالم إذا كنت مجرد رد فعل لبيئة غير مرئية تتحكم بك؟ ماذا عن تلك اللحظات التي تشعر فيها أنك اتخذت القرار بشكل حر، كيف تفسرها الآن؟ هل يمكنك أن تكون متأكدًا من أن تلك اللحظة كانت إرادة حرة أم مجرد تعبير عن ضغط غير مرئي كان يلوح في الأفق طوال الوقت؟

الوجود في ظل الضبابية: الفكرة والواقع

تتساءل الفلسفة الحديثة عن حدود الوجود الذي نعيشه. يقول إيمانويل كانط: لا نعرف الواقع كما هو، بل كما هو مرشح من خلال العقل. لكن، إذا كان العقل هو من يحدد كيف نرى الأشياء، فما الذي نراه حقًا؟ هل لدينا أي اتصال مباشر بالواقع كما هو؟ أم أن كل ما نراه وندركه هو مجرد صورة زائفة تنبع من تركيب ذهننا الذي يفتقر إلى القدرة على رؤية الحقيقة المطلقة؟

وإذا كانت الصورة التي نراها عن الواقع هي مجرد انعكاس لعقولنا، فماذا عن الحقيقة التي تتجاوز هذه الصور؟ هل يمكن أن يكون الواقع ذاته وهمًا نقوم بإنشائه عبر خوارزميات أدمغتنا، ليبدو كما نريد أن نراه، وليس كما هو في جوهره؟ هل يمكن أن نعيش في وهم كبير حول وجودنا في هذا العالم؟

الخطوة الأخيرة: عناق العدم

في نهاية المطاف، ماذا تبقى؟ إذا كان كل شيء الذي تعتقد أنك تعرفه عن نفسك والعالم هو مجرد وهم، فما الذي تبقى لك من يقين؟ ماذا لو اكتشفت أن الحقيقة الوحيدة التي يمكنك أن تحملها هي أنك في الأساس لا تعرف شيئًا؟ ماذا لو كانت الحقيقة الوحيدة التي تجدها هي العدم؟ وإذا كانت الحياة نفسها محض سراب لا أكثر؟ هل نحن في صراع مع أنفسنا، أم أن هذا الصراع هو جزء من الطبيعة البشرية التي تجعلنا نركض خلف شيء لا وجود له؟

وربما، في اللحظة التي تتوقف فيها عن البحث، ستجد أن العدم هو الحقيقة الوحيدة الثابتة في هذا الكون. في تلك اللحظة، قد يكون كل شيء قد تلاشى، بما في ذلك كل أفكارك، رغباتك، وهويتك. قد تجد أن الصمت هو الذي يتبقى بعد أن تسكت كل الأصوات، وأنك، ربما، كنت دائمًا في عناق مع العدم.

السؤال الذي يظل بلا إجابة

إذا كانت حياتنا مجرد وهم مستمر، وإن كانت أفكارنا رغباتنا ومعتقداتنا مجرد ردود فعل لواقع لا نعيه، فهل يمكننا أن نعتبر أنفسنا أحياء حقًا؟ وإذا كان الوجود نفسه مهددًا من قبل شكوكنا العميقة، فكيف لنا أن نعيش حياة ذات معنى؟ وهل نملك فعلاً الحق في أن نكون أحرارًا في اختياراتنا، أم أن كل شيء، من لحظات الوعي إلى أصغر قراراتنا، هو مجرد سيرة تمليها قوى غير مرئية؟

***

الكاتب سجاد مصطفى حمود

تؤرقني الأسماء التي يسكنها وسواس السلطة، تسري فيهم مثل الروح هو مخيف لأنه يعيد ترتيب الأولويات معياريا، يعبدون السلطة مثل الالهة ويدعونها بأسماء رمزية، هي لا تفقه صدى ادعيتهم، يتمرغون في الصحراء على سراب وجدانهم، السقوط الحقيقي هو السقوط نحو هاوية الروح، مع مرور الزمن تترسخ تقاليد ليس لها تقاليد، تجعل المدينة وحدات متفاوتة من القناعات تتلاعب بها ذاكرة غفى على سطحها تراب زمن النزاعات والحروب، النتيجة تحلل أجساد وخامات نفط ورماد داخل نبوءات الخير والشر، تنز فيها المجموعات الرعوية الراغبة في هز العروش يعاضدهم حلم السلطة البدائية، دون دعم حقيقي من الميتافيزيقيا. في المدينة الحديثة تلعب السرديات الوهمية دورا مهمًا في تشكيل مفهوم اقتصاد القوة، الدول التي مرت بتجارب استعمارية من عصر الاستعمار الاول، تُستخدم السرديات حول المقاومة الوطنية لتوحيد الشعب تحت مظلة استعمار جديد. في الولايات المتحدة مثلا، تُستخدم السرديات حول الاستثنائية الأمريكية لتبرير التدخلات العسكرية والاقتصادية في الخارج وتُستخدم أيضا لتبرير الصراعات الاقتصادية، مثل النزاعات حول الموارد الطبيعية، في إفريقيا غالبًا ما يرتبط الاستغلال بسرديات تاريخية حول الاستعمار، بعض الدول تستخدم السرديات لتعزيز قوتها الناعمة، من خلال الثقافة والسياسة تزيد بذلك تأثيرها الدولي وتسوق صورة إيجابية للدول المستعمرة في الساحة الدولية، احيانا تُستخدم السرديات لتوجيه فهم التاريخ، مما يؤثر على كيفية تقييم القوة في العلاقات الدولية. العديد من الدول تعيد كتابة أو تعديل مناهجها وتعزز سرديات تعكس قوتها وتأثيرها التاريخي، الإعلام يلعب دورًا حاسمًا في ترويج السرديات، ما يؤثر على الرأي العام والسياسات الاقتصادية وتغطية الأحداث التاريخية بطريقة خاصة. تظهر العلاقة بين السرديات التاريخية واقتصاد القوة، أن الفهم التاريخي لدور السرديات يمكن أن يؤثر على السياسات والعلاقات الدولية من خلال توجيه السياسات نحو تعزيز القوة والتفوق العالمي.

إعادة تدوير دور السرديات

الدين يمكن أن يُستخدم كذريعة للقيام بالحروب أو الصراعات، مما يؤثر على توزيع القوة والموارد، الحروب الصليبية كانت مدفوعة بسرديات دينية، حيث تم تصويرها ملحمة لاستعادة الأراضي المقدسة السرديات الدينية يمكن أن تؤثر على العلاقات بين الدول، حيث تُستخدم لتبرير التحالفات، النزاعات بين الدول ذات الأغلبية المسلمة والدول الغربية تُعززت بفعل السرديات الدينية التي تُصوّر الصراع الاقتصادي، حرب بين الإسلام والغرب، الدين يمكن أن يُستخدم لتبرير استغلال الموارد أو السيطرة على الأراضي، تُستخدم السرديات الدينية لتبرير الاستعمار أو السيطرة الاقتصادية على مناطق معينة العالم،  تستخدم الدين كجزء من قوتها الناعمة، من خلال نشر قيمها الثقافية والدينية، بعض الدول تسعى لنشر الدين كوسيلة لتعزيز علاقاتها الدولية وزيادة نفوذها، مما يؤثر على توزيع الموارد، السلطة في بعض الدول تُستخدم السرديات الدينية لتبرير السياسات الاقتصادية التي تعزز من قوة مجموعة معينة على حساب أخرى، يظهر هذا أن الدين يلعب دورًا مركزيًا في تشكيل السرديات التاريخية التي تؤثر على اقتصاد القوة من خلال تقديم مبررات للحروب، و توجيه السياسات، وتغيير الهوية الجماعية.

الاستعمار واقتصاد القوة

تظهر العلاقة بين الاستعمار، واقتصاد القوة، والسرديات التاريخية كقوة وهمية في سياقات متعددة استخدمتها القوى الاستعمارية للسيطرة على الموارد والأراضي كوسيلة لتعزيز قوتها الاقتصادية والسياسية، ساهم الاستعمار في خلق اقتصاد عالمي غير متكافئ، حيث استغلت الدول الاستعمارية موارد الدول المستعمَرة لزيادة ثرواتها ونفوذها، غالبًا ما كانت تُستخدم السرديات التاريخية لتبرير الاستعمار، مثل فكرة (العبء الأبيض أو تحضير الشعوب)، هذه السرديات تُعزز من صورة الاستعمار كعمل نبيل، مما يخفي الواقع المعقد للاستغلال والظلم الذي أسهم في تشكيل هويات جديدة في المستعمرات، غالبًا ما كان ذلك على حساب الثقافات الأصلية مما جعل من الصعب على المجتمعات المحلية استعادة هويتها الحقيقية، السلطات الاستعمارية لها القدرة على السيطرة على الروايات التاريخية من خلال التاثير في ثقافة البرجوازية مما أعطى شرعية لأفعالها، هذه السيطرة على السرديات أدت إلى تشكيل تاريخ مشوه، حيث يتم تجاهل أو تهميش تجارب الشعوب الأصلية وترك آثارًا دائمة على الاقتصاد والسياسة والثقافة في الدول المستعمَرة، هذه الآثار تُستخدم كأدوات لتفسير الصراعات الحالية، حيث تُعزز السرديات التاريخية الفكرة بأن الاستعمار لا يزال له تأثير على العلاقات الدولية مما يُعطي الانطباع بأن هذه العمليات كانت ضرورية لتقدم البشرية بعد الاستقلال. من خلال تقديم السرديات كقوة وهمية، يتم تعزيز صورة الاستعمار كعمل نبيل، مما يخفي الآثار الحقيقية للاستغلال والظلم، فهم هذه الديناميات يساعد في كشف الحقيقة التاريخية والسعي نحو العدالة.

تفكيك السرديات

تفكيك السرديات التاريخية الوهمية يتطلب مجموعة من الإجراءات النقدية والمناهج البحثية. منها دراسة المصادر التاريخية بعناية، بما في ذلك الوثائق الأولية والثانوية، لتحديد انحيازاتها ووجهات نظرها، مقارنة عدة روايات تاريخية حول نفس الحدث للكشف عن التناقضات، دراسة السياق الذي كُتبت فيه السرديات، لفهم العوامل التي تؤثر عليها، تحليل العوامل التي قد تكون دفعت إلى تشكيل سرد معين، تعزيز مهارات التفكير النقدي، مما يساعد الأفراد على تحليل المعلومات بشكل مستقل، تشجيع الأفراد على طرح أسئلة حول الروايات التاريخية، الاستفادة من قواعد البيانات الرقمية والأدوات التكنولوجية لتحليل المعلومات بشكل أكثر دقة، الاطلاع على الدراسات الأكاديمية التي تتناول الموضوعات التاريخية من زوايا متعددة، العمل مع المؤرخين والباحثين لفهم الأساليب المختلفة في معالجة السرديات وتعزيز المناهج التعليمية التي تشمل وجهات نظر متعددة، بما في ذلك تلك التي تم تهميشها، إعادة كتابة التاريخ ليعكس تجارب الشعوب الأصلية والمهمشة، توثيق السرديات التاريخية ومراجعتها بشكل دوري لتصحيح الأخطاء وتعزيز الفهم الجماعي، نشر المعلومات المحدثة عبر منصات متعددة للوصول إلى جمهور أوسع، دعم الجهود المبذولة لاستعادة الحقوق التاريخية للأقليات والشعوب المتضررة، تفكيك السرديات التاريخية الوهمية يتطلب التفاعل و المعرفة والنظر من  زوايا جديدة، تمكن من تحقيق رؤية أكثر دقة وشمولية.

دور وسائل الاعلام

 وسائل الإعلام تلعب دورًا محوريًا في نشر السرديات التاريخية الوهمية، وهي تساهم في تشكيل الرأي العام من خلال تقديم روايات معينة، مما يؤثر على كيفية فهم الناس للأحداث التاريخية، ان تغطية الأحداث التاريخية بشكل يركز على جوانب معينة يعزز من سرديات معينة بينما يتجاهل جوانب أخرى ويحدد الروايات التي تُبرز وتلك التي تُغفل،  يؤثر هذا على الوعي العام بالتاريخ، وقد تُعطى الأولوية لروايات القوى العظمى على حساب التجارب المحلية، مما يؤدي إلى تشويه الصورة الكاملة، اللغة العاطفية أو التحريضية قد تعزز من السرديات الوهمية في وصف الصراعات كـ(حروب مقدسة) أو (معارك من أجل الحرية) يؤثر على كيفية تفاعل الجمهور مع تلك الأحداث، وسائل الإعلام قد تعزز من السرديات التي تُشدد على القوالب النمطية، مما يؤدي إلى تقوية الأفكار المسبقة، قد تتجاهل وسائل الإعلام الحقائق التاريخية أو تبرزها بشكل محدود، مما يؤدي إلى تكوين صورة غير دقيقة عن الأحداث مثل تجاهل الأحداث السلبية المرتبطة بالاستعمار أو التدخلات العسكرية، قد تُستخدم وسائل الإعلام كأداة لتحقيق أجندات سياسية معينة، مما يؤثر على السرديات التاريخية المقدمة. إذا كانت السرديات الوهمية شائعة في وسائل الإعلام، قد تُدرج في الكتب المدرسية، إعادة سرد الأحداث التاريخية بشكل متكرر يؤدي إلى قبولها كحقائق لذا وسائل الإعلام تلعب دورًا حاسمًا في نشر وتشكيل السرديات التاريخية الوهمية. من خلال فهم كيفية تأثير وسائل الإعلام على الروايات التاريخية، يمكننا العمل نحو تعزيز الوعي النقدي وتحفيز التحقق من المعلومات. فلسفة القوة والسرديات التاريخية الوهمية مترابطة بشكل عميق، حيث تؤثر السرديات في كيفية فهمنا للسلطة، بينما تستخدم السلطة السرديات لتأكيد وجودها، هذه العلاقة يمكن أن تساعد في تعزيز وعي نقدي يمكن من خلاله التصدي للسلطويات المدعومة استعماريا وتعزيز العدالة الاجتماعية.

***

غالب المسعودي – باحث عراقي

إن بعض النظريات العلمية، التي تكون ناجحة إلى حدٍّ كبير، تصبح قادرة على التأثير في التفكير الإنساني خارج إطارها المعهود. فيحاول العلماء والفلاسفة إسقاط هذه النظرية على أي مجال يمكن إسقاط مفاهيمها عليه. أحد أبرز الأمثلة التي تخطر سريعًا على البال هي نظرية التطور عبر الانتقاء الطبيعي لتشارلز داروين. وُضعت هذه النظرية لتفسير التنوع البيولوجي، إلا أن الكثيرين حاولوا توسيعها لتفسير مجالات أخرى كعلم الاقتصاد، وعلم النفس، والثقافة. لكن هذا التوسيع في التطبيق ليس بالضرورة أمرًا مفيدًا. في الواقع، فإن هذه الإسقاطات تخلق مشكلة دقيقة وخطيرة وهي ما يُعرف بـتجاوز المفاهيم.

تجاوز المفاهيم يحصل عندما تنجح فكرة في إطار أو حالة معيّنة وتدفع التفكير نحو استعمالها في أطر أخرى دون وجود أدلة كافية. وقد يحدث ذلك بسبب مقارنات وتشابهات بين حقيقة علمية ونماذج معرفية أخرى. فكرة "الميم"، التي تمثل تطبيق التطور الدارويني على الثقافة، تمثل مثالًا واضحًا على هذا الموضوع.

الجين الثقافي: الميم

مصطلح "الميم" صاغه لأول مرة عالم الأحياء التطوري ريتشارد دوكنز في كتابه الجين الأناني. اعتبر دوكنز أن الانتقاء الطبيعي يعمل على المكرّرات، وأن أي مكرّرات فهي خاضعة لنفس الانتقاء الطبيعي. فبينما يتعامل داروين مع الجين كوحدة للتطور، اقترح دوكنز أن الأفكار والتصرفات والمنتجات الفكرية والثقافية تنتقل من شخص إلى آخر ومن جيل إلى جيل مثل الجينات، واعتبر أن وحدة التطور الثقافي هي ما سمّاه بـ"الميم". هذا الميم، تمامًا كالجينات، يخضع للانتقاء الطبيعي.

الفكرة في ظاهرها رائعة. فلماذا لا نعتبر الأفكار المتناقلة بين الناس كالجينات التي تحاول البقاء في المحيط الثقافي؟ من هذا المنطلق، تصبح العقائد الدينية، وصيحات الموضة، والأيديولوجيات السياسية تتصرف كالكائنات الحية: تتغير مع الزمن، وتنتقل من بيئة إلى أخرى، ومنها ما يتمدد ومنها ما ينقرض.

هذه المقاربة أدت إلى نشوء ما سُمّي بـ"علم الميمات"، الذي حاول وضع التطور الثقافي ضمن إطار الانتقاء الطبيعي. إلا أن هذا العلم واجه سريعًا أسئلة وانتقادات عديدة تقع ضمن مفهوم تجاوز المفاهيم.

لماذا لا تتصرف الثقافة كعلم الأحياء؟

المشكلة الأساسية في هذا الإسقاط أن الثقافة ليست كعلم الأحياء. فالتطور البيولوجي يخضع لقوانين الفيزياء والكيمياء التي ترسم إطارًا لما هو ممكن. وهو يعتمد على العشوائية والتجريب، حيث تنجح بعض التغيّرات وتفشل أخرى، دون وعي أو اختيار.

أما في الثقافة، فالمسألة مختلفة تمامًا: الإنسان يقرأ الفكرة، يحللها، يتبناها أو يرفضها بناءً على معارفه وخبراته. بل إن كل شخص يفهم الفكرة ذاتها بشكل مختلف. وهذا لا يحدث في عالم الجينات.

كذلك، فإن انتقال الأفكار يحصل غالبًا أفقيًا بين أفراد المجتمع، بينما انتقال الجينات يكون عموديًا من جيل إلى جيل. وعليه، فإن التطور البيولوجي غالبًا ما يكون تراكميًا وبطيئًا، في حين أن التطور الثقافي يتم أحيانًا عبر قفزات ثورية، حين تصل فكرة إلى من ينتقدها ويعيد بناءها بشكل جديد تمامًا.

هذا الاختلاف الجوهري يؤكد أن إسقاط التطور الدارويني على الميمات أمر إشكالي، بسبب اختلاف المنهج والضوابط.

ما هو "الميم" أصلًا؟

رغم أني لا أحب التعريفات الجامدة، إلا أن مشكلة إضافية تكمن في عدم وضوح تعريف الميم. هل هو فكرة؟ جملة؟ لحن؟ طقس؟ لا توجد وحدة قياس دقيقة، ولا وسيلة علمية ثابتة لقياس انتشاره أو تحوّره. وعلى عكس الجينات، التي يمكن تحديدها وتحليلها مخبريًا، فالميمات غامضة وغير قابلة للقياس المباشر. فكيف لنا أن نجزم بأن فكرة معينة تطورت من أخرى؟

رغم الحماس الكبير في تسعينيات القرن الماضي، فشل علم الميمات في ترسيخ نفسه كتخصص علمي. لم ينتج نماذج تنبؤية أو دراسات كمية، وظل أقرب إلى خطاب تأملي واستعاري من كونه علمًا تجريبيًا.

جاذبية القوة المفاهيمية

لماذا انتشرت فكرة الميمات بهذه السرعة؟ السبب أن نظرية التطور حققت نجاحًا باهرًا وتمتلك قوة تفسيرية هائلة. حين نُدرك هذه القوة في تفسير الحياة، نميل إلى إسقاطها على ميادين أخرى. فنبدأ برؤية أنماط "تطورية" تتجاوز مفهوم الانتقاء الطبيعي كما طرحه داروين، بل ولا علاقة لها بمبادئه الأساسية.

والجدير بالذكر أن دوكنز لم يزعم أنه أسّس نظرية متكاملة للثقافة، بل قدّم الميمات كتجربة فكرية. لكنها تحوّلت لاحقًا إلى إطار يُستخدم على نطاق واسع في تفسير الظواهر الثقافية، رغم أن انتشار الميمات في الواقع يخضع لعوامل معقدة مثل الخوارزميات، وسائل الإعلام، والتفاعل البشري الواعي - وليس "انتقاءً طبيعيًا" بالمعنى الدقيق.

في الختام: الدرس الأوسع

تعطينا قصة الميمات درسًا مهمًا: ليس كل نظرية ناجحة صالحة للتعميم. تجاوز المفاهيم يضعف النظرية الأصلية ويفسد فهمنا للمجال الجديد. ما يبدو كتشابه بسيط قد يخفي اختلافات عميقة في المنهج والآليات.

الاستعارات مفيدة، والتفكير بين التخصصات ضروري. لكن عندما نستخدم نظرية قوية لتفسير كل شيء، فإننا نقع في فخ التبسيط المفرط. في النهاية، النظرية الجيدة تُستخدم بحذر، لا كعدسة موحّدة تُسقط على جميع الظواهر.

***

فضل فقيه

............

قراءات اضافية:

Dawkins, R. The Selfish Gene. (Oxford Univ. Press, 1976).

الكلمات يمكن أن تكون أدوات للشفاء عند الشامان، تحمل القدرة على تغيير الحالة وقد تصل او لا تصل الى الشفاء التام، لأنها تشير إلى أزمة وجودية،  تساؤلات عميقة حول الذات والوجود تسهم في نبش جراح شديدة النزف حول الطريقة التي نفكر ونعيش بها،  لحظات هاربة، وتجارب توصلنا إلى الإحباط وفقدان المعنى عندما تصبح هذه الجراح شعائر تمثل تجربة وشقاء  الالم الإنساني، مما يدفع الإنسان إلى مزيد من البحث عن المعنى كي ينتج مفاهيم جديدة في الفلسفة ومزيدا من الكلمات، اللجوء الى الفكر  في معالجة هذه الجراح يتمثل في تأملها ووسيلة الشفاء هي الإصرار على إعادة الترميم، انه سؤال ملغم حول معنى الحياة بعد الأزمات، هل يمكن أن يؤدي الخراب إلى ولادة أفكار جديدة  أكثر فعالية...؟هل ادى السرد التاريخي  دورًا مهمًا في فهم الممارسات المعاصرة، خاصة في سياق الخيبة أو الإحباط...؟هل  يساعد السرد التاريخي في توضيح كيف تشكلت الشعائر والممارسات عبر الزمن...؟ ما يعزز الفهم العميق للأسباب وراء الخيبة هو سرد الأحداث التاريخية وكيف يمكن فهم القيم التي ترسخت في المجتمع وكيف تؤثر على ردود الفعل تجاه الخيبات...؟ يمكن أن يوفر السرد التاريخي دروسًا حول كيفية التعامل مع الأزمات، مما يساعد المجتمعات على تطوير استراتيجيات للتكيف، السرد التاريخي ليس مجرد استرجاع للماضي، بل هو أداة فعالة تساعد الأفراد والمجتمعات على فهم أنفسهم وتحدياتهم بشكل أفضل، ويعزز من قدرتهم على مواجهة الخيبات الحالية.

حدود فعالية السرد التاريخي

لا يستطيع السرد التاريخي أن يغطي جميع التجارِب الفردية، حيث تختلف ردود الفعل على الخيبة بشكل كبير من شخص لآخر، يمكن أن تكون بعض السرديات التاريخية متحيزة أو غير شاملة، مما يؤدي إلى إغفال بعض الأصوات أو التجارِب المهمة ،تتغير السياقات الثقافية والاجتماعية بسرعة، مما  يجعل بعض الدروس التاريخية غير ملائمة أو غير قابلة للتطبيق في السياقات المعاصرة،  يؤدي استخدام السرد التاريخي إلى تعميمات مبالغ فيها، حيث يتم إسقاط تجارِب معينة على سياقات مختلفة دون اعتبار للخصوصيات، بعض القضايا المعاصرة  تكون جديدة تمامًا ولا يوجد لها مثيل في التاريخ، مما يجعل السرد التاريخي غير كافٍ لمواجهتها، العوامل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية المعاصرة  تؤثر بشكل كبير على الخيبة، وهي عوامل قد لا تكون مذكورة أو مفهومة بشكل كافٍ في السرد التاريخي، على الرغْم أن السرد التاريخي يمكن أن يساهم في الفهم، إنه لا يقترح حلولا سريعة أو فعالة لمعالجة الخيبة في اللحظة الحالية ، يمكن أن يكون للسرد التاريخي دور مهم في فهم الخيبة المعاصرة، إلا أن له حدودًا تتعلق بتنوع التجارِب، والتحيز، والتغيرات الثقافية، لذلك، من المهم موازنة السرد التاريخي مع أساليب أخرى لفهم ومعالجة التحديات الحالية.

السرديات المتحيزة والخيبة المعاصرة

السرديات المتحيزة  تساهم في تعزيز الانقسامات بين الفئات الاجتماعية المختلفة، مما يؤدي إلى تفاقم مشاعر الخيبة والإحباط، يمكن أن تؤدي السرديات المتحيزة إلى تشكيل هُوِيَّة جماعية قائمة على تجربتها الخاصة، مما يعزز الشعور بالضحية ويعوق التقدم نحو الحلول، تُستخدم السرديات المتحيزة لتوجيه المشاعر نحو مجموعة معينة، مما يعزز الاستياء والخيبة تجاه الآخرين بدلًا من التركيز على الحلول البناءة، تتجاهل السرديات المتحيزة الحقائق المعقدة أو السياقات التاريخية، مما يؤدي إلى فهم مشوّه للخيبة، وهذا يعزز من الإحساس بالظلم. يُلعب الإعلام دورا مهما في تعزيز السرديات المتحيزة، بالتركيز على قصص معينة دون أخرى، مما يؤثر على كيفية إدراك المجتمع للخيبة، تساهم السرديات المتحيزة في تأجيج المشاعر السلبية مثل الاستياء والقلق، مما يؤدي إلى سلوكيات سلبية أو مدمرّة، لفهم الخيبة المعاصرة بشكل أفضل، من الضروري التفكير في السرديات بشكل نقدي والتعرف على الأصوات المختلفة والتجارب المتنوعة.

السرديات في سياق الخيبة المعاصرة

تاريخ هذه السرديات يركز على تجرِبة مجموعة معينة تمثل شريحة ضحية، مما يعزز الإحساس بالخيبة ويعوق البحث عن حلول، تبرز هذه السرديات التمييز والمعاناة التي تعرضت لها جماعات معينة، و تعزز مشاعر الخيبة تجاه المجتمع الأوسع لأنها تركز على قصص الفشل والأزمات الاقتصادية، مما يمكن أن يؤدي إلى نَظْرَة قاتمة تجاه المستقبل ويعزز مشاعر الإحباط، تُستخدم هذه السرديات في بعض الأحيان لتصوير الأجيال الشابة على أنها خائبة الأمل أو غير قادرة على تحقيق النجاح، مما يعزز الإحساس بالخيبة بين الشباب، تُستخدم السرديات المرتبطة بالصراعات السياسية لتصوير طرف واحد على أنه دائمًا مخطئ، مما يعزز الانقسام ويزيد من مشاعر الخيبة لدى أنصار الطرف الآخر، تسهم هذه السرديات المتحيزة في تعميق مشاعر الخيبة وتعزيز الانقسامات، مما يجعل من الصعب العمل على حلول فعّالة، من المهم التعرف على هذه السرديات والبحث عن سرديات بديلة تعزز الوحدة والفهم المتبادل.

التصدي والتعامل مع الخيبة

تطبيق الأفكار المتعلقة بالتصدّي للسرديات المتحيّزة والتعامل مع الخيبة في سياق الصراعات الحالية يواجه عدة تحديات رئيسية، ومنها  من الصعب إيجاد أرضية مشتركة بين الأطراف ذات الآراء المتباينة، مما يجعل الحُوَار المفتوح تحديًا، يؤدي الاستقطاب السياسي إلى تعميق الخلافات، مما يجعل من الصعب التعامل مع السرديات المتحيّزة، قد يكون هناك مستوى عالٍ من عدم الثقة بين الأطراف المختلفة، مما يعوق جهود الحُوَار والتعاون، قد تكون هناك تجارِب سابقة من الخيانة أو الفشل تجعل الأطراف متحفظة، في عصر المعلومات، يمكن أن تنتشر المعلومات المضللة بسرعة،  تعوق الفهم الصحيح، قد تتعرض القيادات لضغوط من قواعدها الجماهيرية التي تفضل السرديات المتحيّزة، الأزمات الاقتصادية تجعل الأفراد أكثر تركيزًا على القضايا المباشرة، مما يقلل من اهتمامهم بالحوار حول السرديات، بعض الأفراد والجماعات تسعى لتعزيز مصالحها الخاصة على حساب الحُوَار البنّاء، قد يتم استغلال الصراع من قبل بعض الأطراف لتعزيز سلطتها أو مكانتها. تطبيق الأفكار المتعلقة بالتصدّي للسرديات المتحيّزة في الصراعات يتطلب مواجهة عدة تحديات، منها الانقسامات وعدم الثقة، وكذلك التأثيرات الإعلامية يتطلب ذلك استراتيجيات مدروسة وموارد كافية لتعزيز الحُوَار والتفاهم بين الأطراف المختلفة.

الإعلام المتحيّز

 الإعلام المتحيز يلعب دورا مهما في ترسيخ السرديات المتحيزة، لذا يتطلب مجموعة من الاستراتيجيات الفعالة منها تطوير مناهج تعليمية تركز على مهارات التفكير النقدي، ما يمكّن الأفراد من تحليل المعلومات بشكل أفضل، تشجيع وسائل الإعلام الذي تقدم وجهات نظر متنوعة وغير متحيّزة،  تمويل و الدعم نشر محتوى إعلامي يقدّم سرديات متنوعة، مما يساعد على تقديم وجهات نظر مختلفة، تشجيع وسائل الإعلام على الالتزام بمبادئ النزاهة والموضوعية في التقارير، تنظيم مناقشات عامة حول تأثير الإعلام على المجتمع وكيفية التعامل مع المعلومات المضللة، نشر معلومات حول كيفية التعرف على الأخبار الزائفة والمعلومات الخاطئة على وسائل التواصل الاجتماعي، استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لنشر معلومات موثوقة من مصادر موثوقة، تشجيع الأفراد على التحقق من المعلومات قبل مشاركتها، مما يساعد في تقليل انتشار الأخبار الكاذبة، زيادة الوعي حول تأثير الإعلام المتحيز على المجتمع وكيفية مواجهته. معالجة الإعلام المتحيز تتطلب جهودًا جماعية من الأفراد ووسائل الإعلام .طقوس الخيبة تشير إلى مفهوم الفشل ، وغالبًا ما يكون لها تأثير عميق على الشخصيات والأحداث، السرد التاريخي يمكن أن يظهر كيف تؤثر الخيبات على نفسية الشخصيات، مما يساهم في بناء تعقيدها لذا يمكن أن يستخدم السرد الماضي لاستكشاف آثار الخيبات، وكيف تؤثر على الشخصيات ومصائرهم، ويمكن أن تشمل طقوس الخيبة عناصر رمزية تعكس الفشل، مثل الأحداث المأساوية، مما يضيف بعدًا تجريديًا للسرد، باختصار فعالية السرد في طقوس الخيبة تعتمد على كيفية تجسيد الفشل وتأثيره على الشخصيات، استخدام الرمزية في طقوس الخيبة يلعب دورًا مهمًا في تعزيز التأثير العاطفي والفكري.

***

غالب المسعودي – باحث عراقي

 

(بين اللَّفظ والسَّبب)

كان (ذو القُروح) قد عرَّج بنا في المساقات السابقة على القراءات في التراث العَرَبي، وما يعتورها من أوهام ومبالغات. حتى قال:

ـ وفي مقابل ما حدَّثتك عنه من مغالاة، قديمة ومعاصرة، في شأن «نَهْج البلاغة»، يمكن أن تقف على مبالغات أخرى في تمحُّل الإعجاز اللُّغوي في «القرآن الكريم». 

ـ مثل ماذا؟

ـ سمعتُ مرَّةً حلقة من برنامج تلفازي على إحدى القنوات الفضائيَّة، فعَجِبْتُ بعد أن كنتُ أُعجَب بما يطرحه الرجل المستضاف.

ـ وما ذاك؟

ـ كان يزعم أن كلمة «عِبادي» إذا كُتِبت في المصحف بالياء، دلَّت على الكثرة، وإذا كتبت بدون ياء، دلَّت على القِلَّة، وأنَّ تلك ظاهرةٌ قرآنيَّةٌ مطَّردةٌ في المصحف كلِّه، وأنها خاصيَّة لا نظير لها في غيره.  واستشهد بآيات منها: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي، فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ.﴾ (البقرة، 186). [كثرة]. ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَحْمَةِ اللهِ.﴾ (سورة الزمر، ٥٣). [كثرة]. ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ.﴾ (سورة الإسراء، ٥٣).  [كثرة]. ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ.  الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ.﴾ (سورة الزمر، 17- 18).  [قِلَّة]. ﴿قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ .﴾ (سورة الزمر، 10).  [قِلَّة].  ﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ.﴾ (سورة العنكبوت، 56). [كثرة].  هكذا قال. 

ـ لكن ماذا عن الآية: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُم مُتَّبَعُونَ.﴾ (سورة الشعراء، 52)؟

ـ هنا السؤال!

ـ وإنَّما الحديث هنا عن قوم (مُوسَى) فقط، لا عن كلِّ العباد.  فهل قوم مُوسَى كانوا بالكثرة التي تُسوِّغ ذلك؟ 

ـ حسب «التوراة»، أو بالأصح «العهد القديم»، هم كثرة جِدًّا؛ وذلك لمآرب سياسيَّة معروفة.  أمَّا بحسب «القرآن»، فـ«شِرذمة قليلون».  وبذلك وصفهم (فرعون)، في السورة نفسها: ﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ.﴾ (سورة الشعراء، 54). 

ـ فلماذا استعمل هنا «عبادي» بإثبات الياء؟! 

ـ اسأل عمَّك، صاحب نظريَّة أنَّ كلمة «عبادي» إذا كُتبت في المصحف بالياء، دلَّت على الكثرة، وإذا كتبت بدون ياء، دلَّت على القِلَّة!

ـ لقد توفي، رحمه الله!

ـ رحمه الله! أعني اسأل من يأخذ بمثل هذا. وكذا في الآية الأخرى من (سورة الدخان، 23): ﴿فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُم مُتَّبَعُونَ.﴾  على أنَّ قوم (مُوسَى)، مهما بلغوا كثرة، ليسوا كعباد الله المؤمنين جميعًا، الذين يدخلون الجنَّة، في قوله تعالى: ﴿يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ اليَوْمَ ولَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ.  الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ.﴾ (سورة الزخرف، 68- 96). 

ـ ومع ذلك حُذفت الياء من كلمة «عبادي» هاهنا.  إذن، لا يمكن تقعيد قاعدة مطَّردة في هذا يُبنَى عليها الزعم بدلالة بيانيَّة، بل بمعجزة لُغويَّة. 

ـ أضف إلى هذا أمور، منها: أنَّ التقاء الساكنين يقتضي حذف أحدهما، في مثل: ﴿قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ.﴾  وهذا أظهر سبب لحذف الياء من كلمة «عبادي».  فإذا أُثبِتت لَزِم تحريكها، في مثل: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ...﴾. والأمر الآخَر، أنَّ حذف ياء المتكلِّم مألوف في لسان العَرَب.  وقد جاء من «القرآن» في آيات، مثل: ﴿رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءْ.﴾ (سورة إبراهيم، 40). أي «دعائي».  ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينْ.﴾ (سورة الكافرون، 6).  أي «ديني».  ومثل هذا في الآية: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادْ.﴾ (سورة الزمر، 17). ثُمَّ إنَّ في «القرآن» مراعاة لجوانب من الجرس الموسيقي، ولاسيما في فواصل الآيات.  ويُلحَظ ذلك بين الآيتين: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادْ﴾، ﴿وَعْدَ اللهِ لَا يُخْلِفُ اللهُ المِيعَادْ.﴾ (سورة الزمر، 17، 20).

ـ وهذه في النهاية قضيَّة إملائيَّة.

ـ نعم، وإملاء المصحف معلومٌ أنه لا دلالة فيه، ولا قياس عليه، وإنَّما يمثِّل مرحلة بدائيَّة من تطوُّر الكتابة العَرَبيَّة، ولا علاقة له ببلاغيَّة النصِّ؛ و«القرآن» لم ينزل مكتوبًا.

ـ إذن، ثمَّة أسبابٌ لُغويَّة، تتعلَّق بأعراف العَرَب في كلامهم، وإنَّما نزل «القرآن» بلسانهم، وإلَّا لأنكروه. 

ـ صحيح. وثمَّة كذلك أسبابٌ صوتيَّة، تتعلق بالأداء وضرورات الترتيل، كما كانت في الشِّعر ضرورات أدائيَّة موسيقيَّة تخرق مألوف الكلام في غير الشِّعر.  أمَّا تكلُّف غير ذلك، فإسرافٌ في التماس ما «القرآن» عنه في غِنًى، وهو فاتح أبواب على الطَّعن، وإظهار المسلمين بمظاهر من الادِّعاء غير العِلمي، هم في غِنًى عنها كذلك.

ـ على أن غُلُوَّ المسلمين في الرجال لا يقلُّ عن غُلُوِّهم في النصوص.

ـ بل يوشك أن يوقعهم هذا في مثل ما وقع فيه (النَّصارى) من غُلُوٍّ وتناقضٍ في (يسوع)، حتى ألَّهوه، ثمَّ زعموا صَلْبه، مع أنه لم يَعرف له أحدٌ قبرًا طوال التاريخ. 

ـ بل المسلمون واقعون في ذلك بالفعل كثيرًا، وإنْ أنكروا لفظًا ما هم فيه مؤلِّهة رجالٍ واقعًا وسلوكًا. 

ـ ولولا أنَّ دينهم يرفض جذريًّا تأليه غير الله، لنطقوا بما في صدورهم جهرةً لا مجازًا.  فمن غُلُوِّ الشِّيعة غُلُوُّهم الأسطوري المتوارث في آل البيت.  ومن غُلُوِّ المتصوِّفة غُلُوُّهم الفكاهي في الأولياء والصالحين.  ومن غُلُوِّ السلفيِّين من أهل السنَّة والجماعة غُلُوُّ بعضهم في أئمتهم وشيوخهم، وقبل ذلك غُلُوُّهم في (محمَّد، عليه الصلاة والسلام)؛ حتى لقد يُخضِعون كلام الله للحديث المروي، وإنْ لم يكن صحيحًا بالضرورة، وقد يتأوَّلون أحيانًا بعض «القرآن» لرفع الرسول وحديثه إلى مقام الله وقرآنه.  فمزَّق هؤلاء وأولئك جميعًا الأُمَّة تمزيقًا بسبب هذا الغُلُوِّ وذاك، وقبل ذلك مَزَّقوا العقل، بعد أن ألغوا عمله. 

ـ مثال ذلك، يا (ذا القُروح)؟

ـ ما أكثر الأمثلة! خُذ، مثلًا، قول بعضهم إنَّ كلام الرسول كلَّه وَحْيٌ يُوحَى، مستشهدين استشهادًا، مبتور السياقَين الداخلي والخارجي، ولا يُقرُّه عقل ولا نقل ولا قرآن، بالآيتين من (سورة النجم): ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾.  وتحت شعار الأخذ بعموم اللفظ لا بخصوص السَّبب- الغالطة المغالِطة- لا يتورَّعون عن أن يُسقِطوا سياق الآية الداخلي، وسياقها الخارجي. بل هم يُسقِطون العقل، والسيرة النبويَّة، ليتسوَّروا إلى القول، إذن: كلُّ ما جاء عن الرسول، أو نطق به، وَحْيٌ يُوْحَى من السماء! 

ـ وإذن، هو وَحْيٌ آخر؟

ـ نعم، هو كذلك لدَى الآخذين بهذا الفهم؛ ولذا ابتكروا مصطلح «الوحيَين». يقصدون «القرآن» و«الحديث». إنَّ قاعدة «الأخذ بعموم اللَّفظ لا بخصوص السَّبب» لا تستقيم بها قراءةٌ لأيِّ نصٍّ ولا فهمٌ لإشاراته. 

ـ لستُ أدري في أي عقلٍ اختمرت؟! 

ـ والصواب أن يُقال بقاعدة «الأخذ بخصوص السَّبب لا بعموم اللَّفظ».  وإلَّا فكم من الضلالات يمكن أن يُؤسَّس لها بقاعدة «الأخذ بعموم اللَّفظ لا بخصوص السَّبب»؛ بحيث تُسقَط أيُّ كلمةٍ وردت في سياقٍ خاصٍّ على كلِّ ما يمكن أن ينصرف إليه ظاهر معناها.  وهذا منافٍ لطبيعة اللُّغة أصلًا ووظيفتها ومدار دلالاتها.  وعليه:

1- ففي شاهدنا نجد «القرآن» ناطقٌ بنقيض الفهم الاجتزائي الأعور الدجَّال: «وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى،  مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى، وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى، عَلَّمَهُ شَدِيدُ القُوَى، ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى، وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى،  ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى، فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى، فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى.» 

2- إنَّنا أمام استدلال أولئك الغُلاة أمام منهاج «ويل للمصلين»، وإلَّا فالكلام في الآيات واضح كلَّ الوضوح عن نُطق الرسول بما أوحاه إليه جبريل من «القرآن» نفسه، لا عن كلام الرسول في ما خلا ذلك، ولو كان القصد كلام الرسول بعامَّة، لجاء النصُّ بصيغة: «وما يتكلَّم عن الهوى». 

3- لقد أراد القوم أن يرفعوا الرسول عن مقامه البَشَري المعلوم، وأن يَغْلُو فيه غُلُوًّا، ليزعموا أنَّه لا يَصدر إلَّا عن الوَحي في كلِّ كلامه. وإنَّما تلك سبيل الأوَّلين، ممَّن خلا من الغُلاة، التي بلغت- لا إلى القول إنَّ كلام الرسول كلَّه وَحْيٌ يُوْحَى فحسب- بل إلى القول بعدئذٍ: إنَّ الرسول هو الله نفسه! ومعظم النَّار من مستصغر الشَّرَر!   

4- هو استدلالٌ مخالفٌ كذلك لنصِّ «القرآن»، في مثل قوله: «قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ. فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ، فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا.»  فالرسول بَشَرٌ مثل غيره، في ما خلا ما يُوْحَى إليه من «القرآن».

5- ذلك الفهم مخالفٌ أيضًا لنصوص «القرآن» المعاتبة للرسول في بعض أقواله وأفعاله، ولو كانت وحيًا، فلِمَ العتاب؟!

6- هو مخالفٌ لسيرة النبي، الذي كان يتبرَّأ من بعض أقواله حين يتَّضح له عدم صوابها، كما في قِصَّة تأبير النخل، وكما في خطَّته في موقعة (بَدْر)، أو اتخاذ الأسرى قبل الإثخان في الأرض [سُورة الأنفال، 67]. وكما في قوله إنه إنما ينطق بالحكم بين المتخاصمين بناء على ما سمعه من حُجََّة، فمن حكم له بغير حقِّه، فإنما حكمَ له بقطعةٍ من النار.  إلى غير ذلك.  فهل كان هاهنا يتبرَّأ من وَحْيٍ أُوْحِي إليه؟  لو كان كلُّ كلامه وَحْيًا يُوْحَى، كما يذهب هؤلاء الغُلاة، لكان، إذن، يتبرَّأ من بعض ما أُوْحِي إليه، بتبرُّئه من بعض أقواله أو نسبتها إلى طبيعته البَشَريَّة! ولو كان لا ينطق إلَّا عن وَحْيٍ يُوْحَى، لما كان لمثل هذه الأمثلة، من أقواله وأفعاله، من معنى ولا مساغ. 

7- نعم، هو لا ينطق عن الهوى في أقواله، لكنه لا ينطق عن وَحْيٍ في كُلِّ أقواله، وذلك بوصفه بَشَرًا، وبوصفه إنسانًا، ابن لُغةٍ وثقافة، وليس بالإله ولا بابن الإله.  ولولا الغُلُو، لما ساغ في عقلٍ تصوُّر الحديثيِّين وزعمهم، بحيث يوشكون بدَورهم أن يجعلوا من (محمِّدٍ) (يسوعًا) آخَر، على طريقتهم. 

لا خلاف، إذن، في أنَّ محمَّدًا لا ينطق عن الهوى، لكنَّ كثيرًا من المسلمين ينطقون عن الهوى.  أعياهم تحريف الكلم عن مواضعه، على نهج (بني إسرائيل)، فانسربوا إلى تحريفه من خلال التأويل. هما أُمَّتان، أُمَّة حرَّفت اللفظ، وأُمَّة حرَّفت المعنى، ولا فرق.  هي اللُّعبة الطفوليَّة نفسها التي مَرَّ بها الإنسان في كلِّ زمانٍ ومكان: طفلٌ يلعب باللَّفظ، وطفلٌ يلعب بالمعنى.  طفلان لا يرضيهما النصُّ كما هو، ولا يجدان أنَّه يخدم أهواءهما، فماذا يفعلان؟: الأوَّل يحرِّف الكلمات عن مواضعها، والثاني يحرِّف الدلالات عن مواقعها.  والأخير أخطر؛ لأنه يُفسِد اللُّغة كلَّها، لا النصَّ المحدَّد وحده.

ولقد كان (أبو بكرٍ الصِّدِّيق) قد أدركَ هذا النزوع المبكِّر إلى تقديس (محمَّد)، لمَّا قال: «مَن كان يعبُد محمَّدًا، فإنَّ محمَّدًا قد مات، ومَن كان يعبُد الله، فإنَّ الله حيٌّ لا يموت.» وفي هذا السياق تصدُق مقولة أبي بكر؛ فمَن كان يعبُد محمَّدًا، فإنَّما محمَّدٌ بَشَرٌ مِثْلُكُم، يُوحَى إِلَيه، ومَن كان يعبُد الله، فإنَّ الله هو الذي أَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى.

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

 

تأملات في موقف موسى عليه السلام

كيف تكون مشاعر الإنسان حين ينتظر مواجهة مصيرية؟ كيف يستعد للقاء قد يغيّر مجرى التاريخ؟ وكيف يمكن للثقة بالله أن تحوّل القلق إلى يقين؟ والخوف إلى شجاعة؟

موسى عليه السلام، شاب نشأ في ظروف استثنائية خرجت عن القاعدة، ثم وجد نفسه هاربًا من مصر بعد حادثة قتل غير مقصودة. لاحقًا، تم اصطفاؤه من قبل الله سبحانه وتعالى لحمل رسالة عظيمة. لقد كُلف بمواجهة أعتى الطغاة (فرعون)، وتقديم الأدلة والبراهين التي تُثبت صدق رسالته. ظروف صعبة وعهد قريب بالله. في الطرف الآخر، كان فرعون جبّارً طاغيًا، متمردًا على الحق، لم يتردد في استخدام كل وسائل القهر والبطش لترسيخ سلطانه.

في قصة موسى مع فرعون موقف عظيم يختبر حقيقة الإيمان والصبر. ورد في سورة الشعراء، عندما أرجأ فرعون المواجهة مع موسى ريثما يتم جمع السّحَرة لمنازلته، في قوله تعالى:

(قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَـٰذَا لَسَٰحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِۦ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ۝ قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَٱبْعَثْ في ٱلْمَدَآئِنِ حَـٰشِرِينَ ۝ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ). (سورة الشعراء: 34-37).

يكاد يكون المحور الأول في المشهد هو الانتظار. إذ أجّل فرعون المواجهة مع موسى ريثما يتم جمع أكبر عدد من السحرة، فكيف تتشكل معاني الانتظار في هذا الموقف الجلل؟ وكيف نقرأ موقف موسى في تلك اللحظات المصيرية من منظور أعمق؟

 أول ما يتراءى للذهن لحظات الصراع الداخلي لموسى بين المشاعر الإنسانية وما يترتب عليها من قلق وترقب، وبين لحظات اختبار تبين الإيمان الراسخ وكيف يدفع صاحبه نحو الطمأنينة والتوكل. فكيف تعامل موسى مع هذا الاختبار وهو يستعد لمواجهة السّحرة.

إن موسى، بوصفه نبيًا مُرسلًا، كان على يقين تام بأن الله سبحانه وتعالى لن يخذله. ومع ذلك النفس البشرية لا تختبر مشاعر الترقب والانتظار دائمًا. برغم وجود الآيات البينات التي أيده الله بها، كالعصا التي تتحول إلى ثعبان مبين، ويده التي تخرج بيضاء للناظرين. كان يدرك أنه سيواجه أعظم طاغية في تاريخ البشرية، ذلك الذي لم يتورع عن قول " فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ الأَعْلَى" سورة النازعات: 24، وليست المواجهة شخصية، إنما هي صراع بين الحق والباطل، وبين الإيمان والكفر.

هذه اللحظات الصعبة لم تكن فراغًا زمنيًا، أو توقّفًا عن الحركة؛ إنما جزء من التدبير الإلهي لإظهار الحق. الانتظار يحمل معانٍ عميقة تتجاوز كونه مجرد حالة زمنية أو عملية نفسية، ويعبر عن علاقة الإنسان بالمستقبل المجهول وما يحمله من احتمالات.

الانتظار يُخرج الزمن من كونه محايدًا، إذ يفرض حالة من الترقب ويصبح ممتلئًا بالقلق. في هذا المنظر يرى الفيلسوف (مارتن هايدجر 1989- 1976) في مُجمل حديثه عن الزمن والوجود، أن الانتظار يعكس علاقة الإنسان بالزمن، فيُظهر وعيه بالمستقبل باعتباره بُعدًا جوهريًا للوجود الإنساني. فيتوقف الحاضر عن كونه محور التجربة ويُسيطر المستقبل على الوعي، فنرى أن الانتظار من هذا المنظور يصبح حالة وجودية.

بينما يعزو الفيلسوف الفرنسي (جاك دريدا 1930- 2004) الانتظار إلى التأجيل، بوصفه حالة مستمرة للرغبة، يبقى فيها الإنسان في علاقة مع شيء غير مكتمل (غير حاضر)، فيكون بهذا الوصف تجربة إنسانية تبين الافتقار إلى الكمال.

الانتظار، في أجلّ معانيه ليس فقط اختبارًا للصبر، بل هو التسليم والرجاء المرتبطان بالثقة الإلهية. والصبر في الانتظار فضيلة تُظهر قدرة الإنسان على مواجهة الزمن بثقة وتواضع.

لكن كل ذلك لا ينفي كون الانتظار تجربة مؤلمة، تكشف عن البعد التراجيدي للوجود حسب الفيلسوفة الفرنسية سيمون فايل( 1909-1943) التي عرفت بأفكارها العميقة حول الأخلاق والدين والعدالة، وقد يكون لحظة لإعادة التفكير والتأمل في كل شيء.

المواجهة الكبرى مع الزمن هو الحالة التي تصف علاقة الإنسان بالانتظار. من الممكن أن تكون قيدًا يكبل وعيه ويغرقه في القلق والاضطراب إذا استسلم لذلك، ومن الممكن أن يتحول إلى فعل إرادي للتعبير عن الحرية ويختار طريقة العيش في زمن الانتظار. في موقف موسى تتبين المسؤولية العظيمة والتوكل الكامل على الله برغم صعوبة الموقف.

الفيلسوف سورين كيركغارد (1813- 1855) يرى أن الانتظار جزءًا من العلاقة بين الإنسان والله، ليس بوصفه حالة من الترقب، إنما فعل إيماني عميق يعكس الثقة بالله. ويشير في كتاباته أن الإيمان الحقيقي يتجلى في القدرة على الانتظار دون تذمر، لأن المؤمن الحق يعلم أن الله قادر على تحقيق وعده، في الوقت المناسب. فليس الانتظار حلًا مفروضًا لعدم توفر البدائل، إنما جزء من العلاقة بالله.

في القرآن الكريم، يُعد الانتظار حالة إيمانية تتطلب الصبر والثقة بوعد الله. كصيغة اختبار للإيمان واليقين، تتمثل في قوله تعالى: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) سورة الروم: 60

الانتظار كذلك جزء من الحكمة الإلهية لتحقيق غايات أعظم. فيكون الزمن هنا عاملًا مهمًا في تحقيقها، كما في سورة " يوسف" حين كان الزمن جزءًا من اختبار يعقوب عليه السلام الذي تحقق فيه الانتظار لعودة ابنه يوسف، تتمثل في قوله تعالى:(فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) سورة يوسف:18، إذ يؤكد القرآن أن الانتظار ليس حالة من الفراغ، بل فرصة للإيمان والعمل واليقين بأن الله يدبر الأمور بحكمة إلهية.

الانتظار حالة إنسانية مشتركة بين الثقافات والفلسفات والديانات. لا يعتبر مجرد مرور للزمن، ولكن موقف وجودي يحرر تساؤلات الإنسان حول الصبر والحياة والمعنى.

تتقاطع السياقات بين القرآن والفلسفة حول مفهوم الانتظار، فهو اختبار وحالة إيجابية تتجلى في القرآن، ترتبط بالصبر والإيمان بوعد الله، وجزء من حكمة الله في ترتيب الأمور.

أما في الفلسفة، فهو يعكس الثقة في القوة الإلهية خاصة عند كيركغارد. وتجربة تعيد فهم الإنسان لوجوده عند هايدجر. فيكون اختبارًا للوجود الإنساني نفسه، يكشف عن عمق العلاقة بين الإنسان والكون.

الانتظار، سواء في القرآن أو في الفلسفة، موقف وجودي يعبّر عن الإيمان، الصبر، والوعي بالزمن. في لحظات الانتظار يُختبر الإنسان في أعماق نفسه، وفي موقف موسى: هل كان يثق بوعد الله؟ هل يظل ثابتًا على يقينه رغم التأجيل الذي فرضه فرعون؟

يمكننا القول إن موسى عليه السلام كان نموذجًا في الثبات والصبر. إذ لم يهتز أو يتراجع، أما تأجيل المواجهة مع السّحرة كانت فرصة لتعميق ثقته بالله، وتأكيدًا على استعداده للمواجهة الكبرى التي ستظهر الحق أمام الجميع.

كان الانتظار يحمل عدة معانٍ:

- التسليم لحكمة الله، وأن هذا الإرجاء لم يكن تأخيرًا عشوائيًا، بل كان جزءًا من التدبير الإلهي، ووسيلة لزيادة الصبر واليقين والثقة.

- الزمن في يد الله، يذكرنا الانتظار بأن الزمن ملك لله وحده، وأنه يدبر الأمور وفق رحمته وحكمته.

لحظات انتظار موسى توصف بأنها جسر عبر فيه إلى النصر، سلاحه الثقة بالله، ومفتاحه الصبر للعبور. الانتظار في موقف موسى يمثل موقفًا خالدًا، لتعميق الإيمان ونفي فكرة أن الانتظار فراغ زمني. والإيمان بأن النصر يتحقق مع الصبر: (إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ الصَّابرِين) سورة البقرة: 153. فالانتظار حالة يقررها الإنسان كفرصة عظيمة للتأمل والتقرب إلى الله، ولحظات تساهم في بناء اليقين.

***

ريما آل كلزلي

للأسف الشديد، رغم رحيل فاضل الربيعي، رحمه الله تعالى، لن يغلق ملفه الذي اشتعل بالتناقضات كالنار في الهشيم.. أسئلته التي حولها إلى حقائق مطلقة تذكرنا بخطاب الديماغوجيين الذين يصنعون اليقين من فراغ.. فكيف يختزل تاريخ الأنبياء وحضارات الشرق إلى مجرد خرائط يمنية متخيلة؟

فخ التلفيق..

ليس الخلط بين صموئيل النبي والسموءل الشاعر سقطة عابرة.. بل هو تعبير عن منهج يطحن الوقائع لينتج منها مسحوقًا لأسطورة يمنية تبتلع كل شيء.. ألف وخمسمائة عام تلغى بنفس واحد.. وكأن الزمن كرة طينية يشكلها الربيعي كيفما شاء.. ثم يأتي إنكار السبي البابلي والصراعات الآشورية ليكتمل المشهد.. فهل كل المؤرخين والأركيولوجيين الذين أثبتوا هذه الأحداث عبر قرون من البحث مجرد خونة للحقيقة؟

عندما يصر الربيعي على أن اليمن هي الهند القديمة.. وأن الرومان غزوا اليمن بدل فلسطين.. وأن رسائل تل العمارنة مزورة.. فإنه لا يقلب الجغرافيا فحسب.. بل يمحو الهويات.. كيف لليمين أن تكون مهد اليهودية بينما آثارهم وقصصهم منقوشة في كل حجر فلسطيني؟.. وكيف ينكر وجود الهيكل في القدس بينما قبور الأنبياء في الخليل تشهد على عمق التاريخ الفلسطيني؟.. أليس في هذا إعادة إنتاج للرواية الصهيونية التي تبحث عن جذور وهمية خارج فلسطين؟

لا يكفي أن ننقد الربيعي.. بل يجب فضح آلية تلاعبه.. فهو يستند إلى الهمداني كما لو أن كتاباته قرآن نزل من السماء.. ويتجاهل أن الهمداني نفسه كان يؤرخ لليمن لا لسرقة تاريخ الشعوب الأخرى.. فلماذا لا نسأل الربيعي عن السر في غياب أي دليل أثري يمني يدعم نظريته؟.. أين آثار هيكل سليمان المزعوم في السراة؟.. وأين شواهد غزو الإسكندر لليمن؟.. لماذا لا نرى إلا كلامًا مرسَلًا يتحوَّل إلى "حقيقة" بمجرد تكراره على الشاشات؟

من يحمي التاريخ من التشويه؟

مدرسة الربيعي وديب وأحمد الداوود ليست امتدادًا لكمال الصليبي.. بل هي نسخة مشوهة.. فالصليبي كان يملك منهجًا يقترب من العلم رغم اختلافنا معه.. أما هؤلاء فيحولون التاريخ إلى لعبة بلا قواعد.. يرفضون علم الآثار حين يعارضهم.. ويستدعون التوراة حين يحتاجون إليها.. وينتقي الربيعي من الباحثين الغربين ما يعزز روايته.. ويتناسى أن هؤلاء أنفسهم لم يجرؤوا على نقل أحداث التوراة إلى اليمن.. فلماذا يسبقهم هو إلى هذه المغامرة المجنونة؟

أسئلة حائرة.. تنتظر إجابات

لو وقف الربيعي أمام مرآة النقد الحقيقي.. لسقطت كل أقنعته.. كيف تتعامل مع نفي وجود الكنعانيين في فلسطين رغم أن أسماء مدنهم مذكورة في رسائل تل العمارنة؟.. وكيف تفسر وجود لغة كنعانية في النقوش الفلسطينية؟.. ولماذا ترفض أن يكون فرعون مصريًا بينما أهرامات الجيزة شاهدة على عظمة حضارته؟.. أليس إنكارك للكنعانيين إلغاء لتاريخ فلسطين نفسه؟

كاتب لا مؤرخ!

لا ينكر أحد على الربيعي براعته السردية.. لكن الرواية الأدبية غير البحث التاريخي.. فالأولى تلهو بالخيال.. والثاني يقيده الدليل.. خطورته تكمن في تزييف الوعي عبر خلط الأوراق.. فالشاب الذي يسمع أن الهيكل في اليمن.. وأن فلسطين ليست أرض الأنبياء.. سينسلخ عن تاريخه دون أن يدري.. وكأن الربيعي يكتب رواية بوليسية.. يمحو فيها الجريمة وينقلها إلى مكان آخر..

الفلسطينيون ليسوا بحاجة إلى منقذ يخترع لهم تاريخًا بديلًا.. فترابهم ينطق بالكنعانيين.. وحجارة مدنهم تحكي قصص الأنبياء.. الربيعي ومن على شاكلته يحاولون إنقاذنا بوهم.. لكن الأمة التي تهزم ذاكرتها تهزم حاضرها.. التاريخ ليس ساحة لتصفية الحسابات.. بل هو جذور ننتمي إليها.. أو نندثر بلا هوية.

تحريف روايات التاريخ..

اليوم رحل الدكتور فاضل الربيعي تاركا وراءه إرثا فكريا يثقل كاهل النقاش التاريخي بأسئلة ملحة: هل يمكن اختزال جغرافيا التوراة وقصص الأنبياء في رقعة ضيقة من الأرض؟ وهل يصح أن نعيد كتابة التاريخ عبر تخيل يلغي آلاف السنين من التراكم الحضاري؟

لم يكن الربيعي مجرد باحث يطرح فرضيات قابلة للنقاش، بل تحول إلى ظاهرة ثقافية ترفض العمل تحت سقف الشك العلمي. أخطاؤه الفادحة، مثل خلطه بين النبي صموئيل (القرن العاشر ق.م) والشاعر السموءل (القرن السادس ميلادي)، ليست مجرد هفوات، بل مؤشر على منهجية تتعامل مع التاريخ كـ"بازل" يفكك ويعاد تركيبه وفق هوى النظرية. فكيف يعقل أن تختزل 1500 سنة من الزمن في شخصية واحدة؟!

تتسع فجوات الربيعي عندما ينفي وقائع تاريخية مجمعا عليها، كالسبي البابلي أو الصراع الآشوري-المصري، مصرا على أن كل الأحداث التوراتية جرت في اليمن، والتي يسميها "الهند القديمة"! هنا، لا يكتفي برفض الآثار الكنعانية المنتشرة في فلسطين، بل يمحو دور حضارات الشرق الأدنى لصالح سردية يمنية ضيقة. فهل يعقل أن تكون رسائل تل العمارنة – التي تتحدث عن ممالك كنعانية – "مُزورة" أو "يمنية الأصل" دون دليل؟

الأخطر في أطروحات الربيعي هو نزع القداسة عن فلسطين كأرض الأنبياء، وإعادة تركيز كل شيء في اليمن، ما يخدم – ولو غير مقصود – روايات تهمش البُعد العربي الفلسطيني. فقوله إن اليمن هي مهد اليهودية، وأن هيكل سليمان بني في سراها، ليس مجرد تحريف جغرافي، بل إنكار لتاريخ فلسطيني متجذر.

بين كمال الصليبي وفاضل الربيعي: أيهما نصدق؟!

إذا كان كمال الصليبي نقل أحداث التوراة إلى عسير، فإن الربيعي حولها إلى اليمن، معتمدًا على المصدر نفسه: الهمداني. لكن هل تكفي إشارات الهمداني – رغم أهميتها – لإعادة تشكيل تاريخ ضارب في القدم؟ أليس في إغفال التنقيبات الأثرية، واستبعاد علماء مثل: إسرائيل فنكلشتين الذي يشكك في التطابق التوراتي-الفلسطيني، تناقض منهجي؟ فحتى المشككون في التوراة لا ينقلون أحداثها إلى اليمن!

أسئلة تبحث عن إجابات

لو أجري حوار جاد مع الربيعي، لكانت هذه الأسئلة جمرًا تحت الرماد:

- كيف تفسر وجود قبور الأنبياء إبراهيم وإسحاق ويعقوب في الخليل إن كانت قصصهم حدثت في اليمن؟

- إذا كان جالوت هو "جاليوس الروماني"، فكيف نوفق بين زمن داود (1000 ق.م) والوجود الروماني (القرن الأول ق.م)؟

- أين الدليل الأثري اليمني على غزو الإسكندر أو الحملة الرومانية عام 70م؟

لا ننكر على الربيعي جرأته في تحدي السرديات، لكن الفرق بين التحدي العلمي والانزياح التخيلي هو الدليل. التاريخ يبنى باللقى الأثرية، والنصوص الموثقة، والقراءة النقدية، لا باليقين المطلق الذي يلوي عنق الحقائق. قد يكون الربيعي كاتبًا ملهِمًا، لكن الباحثين الحقيقيين مطالبون بحماية التاريخ من أن يصير أسير نظريات تختزله إلى خرائط وهمية.

في النهاية، لا تصلح قراءة الماضي إلا بالاعتراف بتعقيده، فالحضارات لا تنبع من بئر واحدة، ولا تختزل في قرية ضائعة.

***

د. عبد السلام فاروق

المعارف درجات من حيث قيمتها، وعلاقتها بالإنسان وكيف تطورت جدليًا عبر التاريخ الطويل للبشر. ذكر الفلاسفة قديمًا نوعان من المعارف التي يكتسبها الإنسان:

١- العلم الحصولي: أي العلم الذي نتعلمه من خلال المطالعة والتحدث مع الآخرين، أي من خلال الاكتساب.

٢- العلم الحضوري: وهو العلم الكشفي/العرفاني أو بلغة فلاسفة الإسلام؛ العلم اللدني.. اي العلم الذي ينكشف من لدن الله إلى العبد.

العلم الحصولي أوسع من حيث هو متوفر ومتداول في الموروث الإنساني عمومًا؛ إذ يمكن التعاطي معه وفهمه من خلال التعلم والصبر والمرونة. وبعض العلم الحصولي لا يكون علماً حصوليًا بحتًا، بل قد يكون مبعثه علمًا كشفيًا حضوريًا، ولكن بصورة اختزالية، بحسب قدرة اللغة على توصيف التجربة وقدرة خيال الملتقي وانشراح عقله على المعلومة.

هذه المعرفة هي المتعارف عليها والمتداولة بين أغلب الناس، بما في ذلك أكبر العلماء والفلاسفة، فهم يشتغلون عقلياً داخل أُطر جاهزة في التفكير، سواءً من خلال المنطق القديم أم الحديث، الفلسفي أم العقلي، إلى آخره. ومع ذلك، يظل جوهر المعرفة ليس بحضوري، إنما من خلال تجارب الآخرين أو فهمهم لتجارب أناس سبقوهم.

الأنبياء وأهل العرفان مثلًا، هم أصحاب المعارف الحضورية، أي أنهم حصلوا على تجارب من غير اكتسابها من الآخرين، عبر التجربة الصرفة وتأملها، ثم إيصالها للمجتمع. وغالبًا ما تُبتر هذه التجارب أو على الأقل يساء فهمها، لأن نورها قد يكون أقوى من أن يدركه من لم يسلك طريق الحضور.

ودائماً ما تتصارع هذه العقول المختلفة في مسائل الدين والسياسية وغيرها، لا سيما في قضية التأويل وكيفية فهم النصوص التاريخية.

أهل الكشف لهم طريقتهم الخاصة في فهم العالم، وهي طريقة تتجاوز كل التجارب الأخرى، بينما يثير هذا الأمر استياء الفئة الأخرى، ذوي المعرفة الحصولية، لأن في ذلك إهانة لعدم قدرتهم على فهم هذه التجارب إلا من خلال ما نُصّ به لهم، وكيف توارثوه عبر الأجيال، حتى أصبحت التجربة ملعونة في ذاتها، التي كانت إبتداءً هي البنية واللبنة الأولى لبناء المجتمعات.

العلم الحضوري يتجلى لفئتين:

الأولى: الفلاسفة والمتأملين الذين يتمردون بشكل كامل ويحققون استقلالية عقلية لفترات ممتدة، وعليه ينكشف لهم ما لا تعيه العامة.

والثانية: أصحاب التجارب الروحية الحقيقة، التي تشكل بالنسبة لهم قفزة في التجربة الوجودية، وبعدها تنعدم لديهم القدرة على التعبير بطريقة منطقية، أو يبدو كلامهم غير عقلاني لذوي العقول المُقلِّدة التي تدور حول ذات مقولات أجدادهم.

هذا النوع من العلم محظور في كل زمان ومكان، ويشكل خطرًا على صاحب التجربة اذا باح بها. ولهذا السبب، أعتزل الكثير من المتصوفة الناس، وقالوا كلامًا بدا وكأنه صادر من أشخاص فقدوا صوابهم، لكن واقع الأمر أنهم توسعوا في منطقهم فأصبح أوسع وأعمق مما يستوعبه الإنسان العادي؛ رغم أن الوصول ليس مستحيلًا لمن أراد، عبر التأمل الصادق.

ولهذا، فإن كل علم حضوري هو علم محظور ومحاصر، بينما العلم الحصولي المتراكم الذي اعتاد عليه الناس، هو الذي تستكن له المخيلة الإنسانية، والعقلية العلمية، لأنه لا يشكل اختراقًا للعادة، والإنسان بتكوينه يميل إلى العادة، والخوف من المجهول يحركه أكثر من أي شيء آخر.

وعليه نعي أن العادة تنحو نحو العلم الحصولي، بينما الخروج عن العادة، والعيش في خطر والمجازفة، وطرح الأسئلة الأكثر جرأة وغباءً – هي التي تكسر هذه العادة وتفتح إمكان الوصول إلى عقل وروح العلم الحضوري.

***

خالد اليماني

 

هناك نوعان من السرديات التاريخية، التبشيرية والمغلقة تختلف في طبيعتها وأهدافها، السرديات التبشيرية تهدف إلى الإقناع، السرديات المغلقة تقدم معلومات بشكل محدد، العلاقة بينهما وتأثيرهما في تاريخ وعي الإنسان يعكس تفاعلاً معقدًا بين الفكر، القيم، والمعتقدات، السرديات التبشيرية تسعى إلى نشر أفكار جديدة أو تعزيز معتقدات قائمة، مما يؤثر بشكل كبير على وعي الأفراد والمجتمعات وتلعب دورًا في تحديد المفاهيم والمصطلحات التي تُستخدم في النقاشات، مما يسهم في بناء أساس معرفي. المعلومات المستندة إلى سرديات مغلقة تُستخدم في النصوص التبشيرية لتعزيز الحجج والأفكار، السرديات التبشيرية قد تواجه تحديات من السرديات المغلقة، حيث تسعى الأخيرة لتقديم معلومات موضوعية  تتعارض مع الآراء أو المعتقدات التبشيرية .عبر الزمن تتطور السرديات التبشيرية إلى نصوص تحليلية ، مما يعكس نضوج الوعي الجماعي والقدرة على التفكير النقدي، كلا  النوعين يمكن أن يؤثر على السياقات الاجتماعية والسياسية، حيث يمكن للسرديات التبشيرية أن تحفز حركة اجتماعية، بينما توفر السرديات المغلقة الإطار القانوني أو العلمي . السرديات التبشيرية والسرديات المغلقة يعملان معًا في تشكيل وعي الإنسان، حيث تؤثر كل منهما على الأخرى وتساهم في تطوير الفكر والمعتقدات .

دور السياق الاجتماعي والثقافي

ان تفسير العلاقة بين السرديات التبشيرية والسرديات المغلقة مهم جدًا، حيث يؤثر على كيفية إنتاج هذه النصوص وتلقيها، في مجتمعات معينة تُعتبر قيم مثل الكرم أو التعاون مركزية، مما ينعكس في السرديات التبشيرية، الأحداث التاريخية والاجتماعية تلعب دورًا في تحديد السياق الذي يُنتج فيه النص، السرديات التبشيرية قد تكون استجابة لتغيرات اجتماعية معينة أو أزمات وتكون استجابة لاحتياجات اجتماعية معينة، مثل الدعوة للعدل أو التصدي للظلم، مما يجعلها مرتبطة بشكل وثيق بالسياق الاجتماعي ،السرديات المغلقة تقدم معلومات مستندة إلى الحقائق، قد تعمل احياناعلى تحدي أو تقويض النصوص التبشيرية إذا كانت تتعارض مع الحقائق الموضوعية ،السياق يؤثر على الكتابة والإنتاج الثقافي، حيث يمكن أن تؤدي الأزمات الاقتصادية إلى إنتاج سرديات تبشيرية تدعو إلى التغيير أو الإصلاح، يمكن أن تلعب دورًا في التحريض السياسي أو التعبئة الاجتماعية، بينما قد توفر السرديات المغلقة إطارًا للسياسات العامة أو الإجراءات القانونية، السياق الاجتماعي والثقافي يلعبان دورًا حاسمًا في تشكيلهما ، حيث يؤثران على المحتوى، الإنتاج، والتلقي. العلاقة بين النوعين تتسم بالتعقيد والتفاعل، مما يعكس ديناميات المجتمع والثقافة في كل زمن.

المغالطات المنطقية في السرد التاريخي

التعرف على المغالطات المنطقية في السرد التاريخي تتطلب فهم الأنواع الشائعة من المغالطات، تحليل الحجج المقدمة، ومراقبة التناقضات، باستخدام هذه الأدوات النقدية، يمكنك تقييم السرد بشكل أفضل واكتشاف أي مغالطات قد تؤثر على مصداقيته، المغالطات التاريخية في السرد تمثل مشكلة تتعلق بدقة المعلومات وموضوعيتها، ويمكن اعتبارها (أسطرة) للنص بشكل مباشرحيث تشير إلى الأخطاء أو التفسيرات غير الدقيقة في السرد التاريخي، والتي قد تنجم عن تحريف الحقائق أو التفسير الخاطئ للأحداث، قد تنشأ المغالطات من التحيز، نقص المعلومات، أو محاولات لتوجيه الرأي العام ،خصوصا ما يتعلق بالنص المقدس الذي يُعتبر نصًا ذو قيمة دينية أو روحية عميقة، وغالبًا ما يُعتبر منزها من الخطأ ويحتوي على حقائق مطلقة من قبل مؤمنيه، ويُشكل جزءًا من الهوية الثقافية والدينية للأفراد والجماعات. يتناول السرد التاريخي النصوص المقدسة كجزء من التراث الثقافي والديني، ويبرز تأثيره على تشكيل الوعي الجماعي، مع ذلك، يُلاحظ أن بعض الروايات التاريخية قد تحتوي على مغالطات منطقية تؤثر على فهم الأحداث،مما يتطلب دراسة النصوص المقدسة من خلال السرد التاريخي تحليلًا نقديًا لفهم كيف يمكن أن تؤثر المغالطات المنطقية على الروايات. العلاقة بين المغالطات والنص المقدس في بعض الأحيان، يمكن أن تؤدي إلى تفسيرات مشوهة للنصوص المقدسة، مما يؤثر على كيفية فهمها وتفسيرها، قد تستخدم بعض الجماعات النصوص المقدسة لتبرير مواقف أو أفعال معينة، مما يتضمن مغالطات تاريخية أو تفسيرات غير دقيقة، لذا يجب أن يُؤخذ في الاعتبار وجود روايات أو تفسيرات متعددة للنصوص التاريخية والدينية، مما يعكس تنوع الآراء والتوجهات، بينما تؤثر المغالطات التاريخية على كيفية تفسير النصوص المقدسة، يجب التعامل مع كل من السرد التاريخي والنصوص المقدسة بطريقة نقدية لفهم السياقات والتفسيرات المختلفة.

الاركيولوجيا والمغالطات التاريخية

عندما تغيب الأدلة الأركيولوجية، يصبح التفكير النقدي أكثر أهمية في تقييم المغالطات التاريخية، في حالة عدم وجود توثيق أركيولوجي، يمكن أن تظهر المغالطات التاريخية بشكل أكبر، قد يعتمد السرد التاريخي على فرضيات أو تفسيرات غير مدعومة اويتم استخدام حالات فردية أو روايات غير موثوقة لتعميم استنتاجات غير دقيقة حول أحداث تاريخية ،استخدام التفكير النقدي لفهم السياقات الاجتماعية والثقافية يساعد في تقليل تأثير المغالطات في غياب الأدلة الأركيولوجية،كما يمكن الاستفادة من المصادر المكتوبة (مثل الوثائق التاريخية، الرسائل، أو الروايات) كأدلة، ولكن يجب تقييمها بعناية،ان استخدام الدراسات المقارنة مع ثقافات أو مجتمعات أخرى لفهم السياقات بشكل أفضل وتجنب المغالطات تشجع النقاشات المفتوحة حول المواضيع التاريخية ويمكن أن تساعد في كشف المغالطات، غياب التوثيق الأركيولوجي يزيد من أهمية التفكير النقدي في تقييم المغالطات التاريخية وتقييم المصادر، وفهم السياقات الثقافية والاجتماعية لتفادي الوقوع في المغالطات ،عند غياب الأدلة الأثرية يمكن أن تظهر عدة أنواع من المغالطات التاريخية. المغالطات التاريخية وغياب الأدلة الأثرية يمكن أن يؤدي إلى ظهور العديد من الاخطاء، مثل التعميم المتسرع، الاستدلال بالجهل، والهجوم الشخصي، من المهم أن يتم التعامل مع المعلومات التاريخية بعناية وموضوعية لتجنب هذه المغالطات، الأسس المنطقية للاستدلال في التفكير النقدي تشمل التحقق من الأدلة، التحليل المنطقي، التعرف على المغالطات، والمقارنة بين المعلومات، هذه الأسس تساعد الأفراد في تقييم السرد التاريخي بشكل موضوعي وكشف أي أخطاء قد تؤثر على الفهم الصحيح للأحداث، من المهم تطبيق التفكير النقدي لتفادي هذه المغالطات والحصول على فهم أعمق وأكثر دقة للتاريخ وكذلك تجنب استخدام الأساطير بشكل مبتذل أو غير مناسب علينا فهم السياق الثقافي، تجنب التعميمات، استخدام الأسطورة بدقة، الابتعاد عن الصور النمطية، تجنب الاستغلال التجاري، وتقديم تفسيرات غير واضحة. هذه تساهم في الحفاظ على قيمة السرد وتقديمه بشكل يحترم الثقافة ومعناها.

السرد أداة الفلسفة في التحليل

يمكن اعتبار السرد نفسه كأداة فلسفية، حيث يُستخدم في تحليل وتفكيك الأفكار. يُمكن للفلاسفة استخدام السرد كوسيلة للتعبير عن أفكارهم بطريقة إبداعية من خلال تحليل السرديات السائدة، يمكن للفلاسفة نقد المفاهيم والأفكار المترسخة، مما يفتح المجال أمام تفكير جديد، يمكن استخدام السرد في الفلسفة المعاصرة كأداة قوية لتقديم الأفكار، تحفيز التفكير النقدي، استكشاف التجربة الإنسانية، وتعزيز الوعي الثقافي. من خلال دمج السرد مع الفلسفة، يمكن خلق حوارات غنية ومؤثرة حول قضايا معقدة، مما يسهم في توسيع الفهم الفلسفي، رغم أن السرد يمكن أن يكون أداة قوية في الفلسفة، إلا أن له حدودًا تتعلق بفقدان الدقة، التأويل الشخصي، الاعتماد على العناصر الخيالية، تحديات التركيز، الفهم الفلسفي، التأثيرات الثقافية، وفصل الأفكار عن التطبيقات العملية. من المهم أن يُستخدم السرد بشكل مدروس ومتوازن لضمان عدم تجاوز هذه الحدود.

***

غالب المسعودي

العقل العربي، كمنتج تاريخي وسياسي، ظلّ خاضعًا لبنية سلطوية معقدة تتجاوز الأنظمة السياسية إلى أنماط التفكير والسرديات المهيمنة التي تمأسست عبر قرون من الاستلاب. إن هذا العقل لم يتشكل في فضاء حر، بل صيغ عبر أجهزة أيديولوجية متشابكة، تضافرت فيها السلطة السياسية، والدين المُمنهج، والمؤسسة العسكرية، والاقتصاد الريعي، لتخلق ذاتًا عربية هشّة، مستلبة، محاصرة بسرديات قسرية تمنعها من الانخراط في مشروع نقدي جذري.

هذه الهيمنة لم تقتصر على الجماهير، بل امتدت إلى المثقف الذي كان من المفترض أن يكون القادر على تفكيكها، لكنه في الغالب استحال إلى كائن مُذعن، خاضع، يكرر ما تنتجه المؤسسة بدل أن يكون قاطعًا معها. لكن هذا الاستلاب لا يمكن قراءته فقط من خلال المنظور السياسي، بل يجب فهمه أيضًا كنظام نفسي معقد، حيث يتحول القمع الخارجي إلى جزء من بنية اللاوعي، فتتم عملية ضبط الذات ليس فقط عبر القوة المباشرة، بل عبر آليات داخلية تجعل الفرد يتماهى مع القامع إلى حدّ الدفاع عنه.

وهنا يمكن استدعاء تحليل فرويد حول “الأنا الأعلى” بوصفه سلطة داخلية تتولى تأديب الذات، أو ما يسميه ألتوسير بـ “الاستدعاء الأيديولوجي”، حيث يُعاد إنتاج القمع داخل الفرد ذاته، لا عبر العنف فحسب، بل عبر منظومة القيم التي تفرض نفسها بوصفها طبيعية وغير قابلة للنقاش.

هذا الاستلاب يبدأ منذ اللحظة الأولى التي يُوضع فيها الفرد داخل منظومة تعليمية مُصممة لإعادة إنتاج التراتبية، لا لتحديها. المدرسة ليست فضاءً للشك، بل مصنعًا لإنتاج الامتثال، والجامعة ليست ساحةً للسؤال، بل مسرحًا لاستعراض الهيمنة وإعادة توزيعها.

هذه السيرورة تجعل العقل العربي غير قادر على إنتاج نقد ذاتي، لأنه غارق في تصديق السرديات الكبرى التي تصنع له وهم التفوق أو الاستثناء، رغم أنه في جوهره يعاني من هشاشة بنيوية تجعله غير قادر على مجابهة الأسئلة الوجودية للحداثة وما بعدها.

هنا يمكن الاستفادة من تحليل جان بودريار لفكرة “المحاكاة”، حيث لا يعود العقل العربي يعيش في واقع حقيقي، بل في محاكاة لواقع مصطنع تخلقه الدولة ووسائل الإعلام والمؤسسة الدينية، بحيث يبدو كل شيء طبيعيًا، حتى لو كان قائمًا على التزييف.

في هذا السياق، يصبح الخطاب الديني أداة حيوية لاستمرار الإذعان، ليس بوصفه دينًا قائمًا على تجربة روحية فردية، بل باعتباره جهازًا سلطويًا يُستخدم لإعادة إنتاج الطاعة، بحيث يُختزل الدين في سردية رسمية تُعادي النقد وتُعيد إنتاج المقدس في قالب يخدم البنية السلطوية.

وهنا لا يمكن الحديث عن العقل العربي دون استحضار مفهوم الهيمنة لدى غرامشي، حيث تصبح الأيديولوجيا وسيلة لضبط الجماهير عبر الاستيلاء على وعيها، لا عبر القمع المباشر فقط، بل عبر خلق منظومة تجعل الاستلاب يبدو طبيعيًا، بل مرغوبًا.

فالفرد العربي، وقد تشبّع بهذه البنية، يمارس نوعًا من الطاعة الطوعية، ليس خوفًا فقط، بل لأن أي محاولة للخروج على هذه السرديات تجعله في مواجهة الفراغ، حيث لا بديل جاهز سوى إعادة التفكير في كل شيء، وهذه مهمة مرعبة لمن نشأ على تقديس الموروث بوصفه يقينًا لا يُمسّ.

هذا ما يجعل السلطة أكثر فاعلية، حيث لا تحتاج دائمًا إلى ممارسة العنف المباشر، بل يكفي أن تجعل الجماهير ترى في الخضوع شكلًا من أشكال الهوية والانتماء.

هنا يظهر دور الجيش، ليس فقط كقوة قمعية، بل كمُنتج للسردية القومية التي تبرر وجوده كفاعل مقدس لا يخضع للمساءلة. فالأنظمة العربية لم تكن مجرد ديكتاتوريات عسكرية، بل كانت آلات ضخمة لإنتاج سرديات الاستثناء، حيث يصبح الجيش هو الحامي، والقائد هو الرمز، والمثقف هو المُبرر، والعدو هو الآخر المتخيل الذي يُعاد تشكيله حسب الحاجة السياسية.

وبهذا يصبح نقد السلطة ضربًا من الخيانة، حتى عند أولئك الذين يُفترض أنهم امتلكوا أدوات تفكيكها. من هنا يمكن استدعاء تحليل دولوز وغوتاري حول “آليات السيطرة”، حيث لم تعد السلطة في العالم الحديث مجرد قمع مباشر، بل تحولت إلى شبكات متداخلة من الضبط والإنتاج، حيث يصبح المثقف ذاته جزءًا من هذه المنظومة، إما عبر التواطؤ، أو عبر استدراجه إلى دوائر أكاديمية معزولة عن الفعل السياسي الحقيقي.

المثقف العربي، الذي كان من المفترض أن يكون في موقع المواجهة، ظل في الغالب عالقًا بين التواطؤ الصريح أو الصمت المُطبق. ربما لأنه، كما يرى فوكو، ليس كائنًا خارج السلطة، بل هو جزء من نظام إنتاج المعرفة الذي يحدد ما يُقال وما لا يُقال.

هذا يفسر لماذا ظل أغلب المثقفين يمارسون خطابًا دوغمائيًا، حتى عندما يرتدون قناع التقدمية. فهم إما موظفون لدى السلطة بشكل مباشر، أو خائفون من أن يُسحب الامتياز الرمزي الذي تمنحه لهم الدولة بوصفهم “مثقفين معترف بهم”، أو غارقون في ترف التحليل الأكاديمي المعزول عن الفعل السياسي.

وهنا تظهر المفارقة التي أشار إليها بيير بورديو حول “رأس المال الرمزي”، حيث يصبح المثقف خاضعًا لمنظومة السلطة لأنه يسعى إلى الحفاظ على مكانته، مما يجعله يعيد إنتاج الخطاب السائد حتى وهو يتظاهر بنقده.

لكن، وسط هذه العتمة، كانت هناك استثناءات. قلة من المثقفين حاولوا اختراق الجدار، من مهدي عامل إلى هشام جعيط، ومن صادق جلال العظم إلى نصر حامد أبو زيد، وغيرهم ممن دفعوا الثمن باهظًا لأنهم تجرأوا على خلخلة السرديات المهيمنة.

هؤلاء لم يكونوا فقط ضد السلطة السياسية، بل أيضًا ضد الذهنية القبلية والعشائرية التي تجعل المجتمع ذاته جزءًا من ماكينة القمع. فالثائر الحقيقي في العالم العربي لا يواجه فقط النظام، بل يواجه الجماهير التي تماهت مع القامع حدّ الدفاع عنه، كما رأينا في كل لحظة ثورية قُمعت بالهتاف نفسه الذي استخدمه القاتل.

إن هذه البنية المعقدة تجعل التحرر صعبًا، لكنه ليس مستحيلًا. ما يحتاجه العقل العربي اليوم ليس إعادة إنتاج ذات النخب الفاشلة التي صنعتها الدولة العميقة، بل ولادة مشروع ما بعد حداثي قادر على تفكيك كل شيء: الدولة، الدين السياسي، الجيش، المؤسسات الثقافية الرسمية، والأهم، نقد الذات بوصفها أيضًا جزءًا من المشكلة.

فالهروب إلى نظرية المؤامرة، أو تعليق كل شيء على شماعة “الخارج”، هو في ذاته شكل من أشكال إعادة إنتاج الهيمنة، حيث يتم إلغاء الفاعلية الذاتية لصالح خطاب الضحية.

لكن هذا المشروع لا يجب أن يكون مجرد هدم للسرديات القديمة، بل يجب أن يكون قادرًا على تقديم بديل، بديل لا يعيد إنتاج الشمولية في شكل آخر، بل يقوم على تحرير الفرد من كل وصاية، بحيث يكون قادرًا على إنتاج حقيقته الخاصة، بلا خوف، وبلا أوهام كبرى.

هذا البديل يجب أن يذهب إلى ما هو أبعد من المطالبة بإصلاح سياسي، ليصل إلى تفكيك عميق لكل البُنى السلطوية التي صاغت وعي الإنسان العربي منذ قرون، بحيث لا يكون التحرر مجرد شعار، بل تجربة وجودية كاملة تُعيد تعريف الذات والعالم.

***

إبراهيم برسي – باحث سوداني

عزيزي القارئ

في مقالي هذا اتناول موضوعًا بالغ الاهمية لـدى الناس على اختلاف دياناتهم السماوية والوثنية يتعلق ذلك بالمُخلّص أو المُنقذ أو المهدي وكل هذه الاسماء لها دلالة واحدة تُشير الى شخص واحد لكنه يختلف من ديانةٍ الى ديانةٍ أخرى.

المنقذ في الديانة الهندوسية

وأبدأ بالديانات الوضعية أو الوثنية حيث جاء في الهندوسية وهي أقدم الديانات وموطنها الهند أن فيها ثلاثة آلهة يُعبدون توحدوا في تشكيل الاهٍ له قوى ثلاث وهم براهما وهو الخالق وفيشنو وهو الحافظ وشيفا وهو المدمّر وحسب معتقدهم أنّ فيشنو هو الذي سيظهر لإنقاذ المعذبين والمظلومين والمُستضعفين في الأرض وفي ظهوره وهو العاشر والأخير سيعم الخير والرخاء للبشرية.

المنقذ في الديانة البوذية

تمخضت البوذية من رحِم الهندوسية وهي حركة إصلاحية لحلِّ مشاكل ومعوقات في النظام الاجتماعي للديانة الهندوسية والذي تبنى عملية الإصلاح رجل من سلالة الملوك اسمه بوذا اما الهندوسية فلا يُعرف عنها شيء ولا يُعلمُ مصدرها.

ومولد بوذا ويُدعى بالمُستنير في مدينة كابيلا فاستو الهندية وهو من قبيلة ساكيا وقد توفيت امه في اسبوعه الأول وقد اعتنى به أبوه ووفر له كل وسائل الترف إلاّ انه ترك كل هذا في التاسعة والعشرين من عمره بما فيها زوجته وأولاده وهام في الخلوات والغابات طلبًا لاكتشاف الحقيقة المطلقة والاستنارة.

أخذ بوذا المستنير بنشر تعاليمه التي أسماها بعجلة النظام وكان يوصي أتباعَه بالتواضع والرحمة وحُسن الخُلُق واتباع تعاليمه التي تنقسم الى ثلاثة اقسام:

1/ أحاديث سوترا بيتاكا وهي تنقسم الى خمسة أبواب

2/ فينابا بيتاكا وهو قانون الدخول للوصول الى مرتبة الرهبنة

3/ ابهي دراما بيتاكما وهي تعاليم لأعمال تنقسم لأربعة اقسام وهي / المعاناة / واصل المعاناة / وإيقاف المعاناة / وإزالة المعاناة

وقد وضع بوذا وصايا عشرًا اسماها بالقيود العشرة وتُوفي في عمر تجاوز الثمانين عامًا وتقول الرواية عنه انه مات مسمومًا ورواية أخرى تقول بأنّه تعافى من السم وحسب التقاليد تم حرق جثمانه واخذ رماده وتوزيعه على ثماني ولايات وبعد موته انقسم جماعته الى مدرستين الأولى هي المركبة الصغيرة والأخرى المركبة الكبيرة.

والذي يعنينا هو موضوع المنقذ او المُخَلّص فمدرسة المركبة الصغيرة تَبَنّتْ إله نايانا وهي تقوم على الفكر القديم الذي يعتمد على قيام الانسان نفسه بتطهير نفسه وبلوغ درجة النيرفانا ولا يصل لهذه الدرجة الا القليل من الرُهبان لذلك تَسَمّت بالمركبة الصغيرة وفي تصورهم تحول بوذا من معلم الى روحٍ سماويةٍ وقدرات سامية تتجلى لهم على شكل انسان لينقذ البشر من الكارما أي الطريق المظلم الذي سلكته نفوسهم في شهواتها الدنيوية التي اضلتهم.

وللمركبة الكبيرة مدرستهم التي تبنوها وتُسمّى الماهيانا وفي هذه المدرسة ارتفع بوذا لمصاف الاله ويُسمّى بالأفتار ومعناها التجسد والظهور على هيئة انسان له قوى وقدرة لا تُوصف فهو قادر على فعل كل ما يُريدُ إصلاحه.

المنقذ في الديانة الزرادشتية

تؤمن الزرادشتيه بالإله الواحد اسمه / أوهرامزاده / وهذا الاله أراد ان يجعل له الهين للخروج من وحدته واحد للخير وآخر للشر وبهذا هم يختلفون عن الهندوسية بتعدد الالهة كما يؤمنون بأن الحياة قائمةٌ على الصراع بين الخير والشر والنور والظلام وان النفس الإنسانية تحمل الصفتين وهم يعتبرون العلاقة بين الاله والانسان علاقة شراكة ولهم خمسُ صلواتٍ في اليوم ويتطهرون قبل الصلاة بالماء وإذا تعذر وجودهُ فالتيمم بالتراب او الرمل.

ولد زرادشت في النصف الأول من الالفية الأولى قبل الميلاد في منطقةٍ ريفيةٍ قريبةٍ من بحر قزوين.

أرسله ابوه ليتعلم في السابعة من عمره فأظهر نباهةً وذكاءً متميزًا وكانت له تأمّلات في مسائل الخلق والكون كما أنّ له موقفًا رافضًا للظلم واستغلال الناس البسطاء من قِبَلِ السحرة كما كان رفضه لعبادة الكواكب.

واختلف القول فيه فمنهم مَنْ اعتبره نبيّا ومنهم من اعتبره حكيمًا.

وتَذكرُ كتبهم روايةً ان أحد الكهنةِ أخبر الملك بولادة مولود يُقوض مُلكه وقد عرف الملك هذا المولود هو زرادشت فحاول قتله عِدّة محاولات إلاّ أنّها لم تنجح محاولات قتله ومن هذه محاولة القاء زرادشت في النار.

وعندما بلغ أشُدّهُ عزم الخروج وبلا عودة الى البراري والجبال حتى يجد الأجوبة الكبيرة التي تدور في رأسه عن الخَلقِ والخالقِ وعن أسباب هذه المعاناة والمشاكل في هذه الحياة.

وفي اثناء مسيرته وهو بجانب نهر دايني في أذربيجان هبط عليه كما تقول الرواية سيد الملائكة وهو / فاهومانا / بكتاب الايستاق / وهو من الاله / اوهرامزداه/ فيه مفاهيم عن الحياة وما يتعلق بالكون وفيه عن الحياة الاخرة التي فيها الجنة والنار وبين الجنة والنار موضع ثالث للأرواح التي فعلت الخير والشر وفيه تبقى حتى تتطهر.

لم تجد دعوة زرادشت اهتمامًا، ولكن بعد اعتناق ابن عمه/ سينوتاء/لأفكار زرادشت بدأ انتشارها ثم أُوحي له بالذهاب الى بلخ ويعرض دينه على حاكمها / كشتاسب / فما كان من حاكمها الاّ اعتناقه لديانة زرادشت بعد ان استمع اليه وقد قرّبه اليه الاّ ان بعض حاشية

الحاكم أخذت بالتحريض عليه حتى قام الحاكم بسجنه وبقي فيه الى أن مرض حصان الحاكم فقام زرادشت بالدعاء له وتم شفاءُهُ وعلى هذا العمل اخرجه الحاكم وقد طلب زرادشت منه معاقبة المحرضين على سجنه ثم عَمِلَ على توثيق علاقته بالوزير الأول جماسب فزوّجه اختَهُ وتزوج هو اخت الوزير.

كانت الحروب دائرةً بين الملك كشتاسب والطورانيين لأسباب دينية وقد قُتِلَ زرادشت

في إحدى هذه المعارك عن عُمُرٍ ناهز السابعة والسبعين داخل المعبد مع مجموعةٍ كبيرةٍ من الكهنةِ اثناء قيامه بالطقوس الخاصة بعبادة النار المقدّسة.

وطقوسهم تدور حول الطبيعة واعيادهم عيد الماء في الربيع او الصيف وعيد النار في الشتاء ويُقدّسُ الزرادشتييون النار والهواء والماء والتراب وللأموات طقوس فهم لا يحرقون الجسد ولا يدفنونه ولا يتركونه في العراء ولا رميه في الماء لكون الميت نجس ولا تسمح عقيدتهم في ذلك حتى يُحافظوا على طهارة هذه العناصر فصنعوا ابراجًا تُسَمّى بأبراج الصمت حتى تبلى وتُجمع العظام ثم تُلقى في بئر خاص بها ولهم كتب يدرسونها هي/ الافستا / وتسميه العرب الابستاق وهو أهم كتبهم ويأتي بعده بالاهمية / اليسنا / وللزواج طقوس خاصة وللمرأة مكانة وتقدير كبيران.

وتُؤمن الزرادشتية بمراحل ظهور المنقذ على رأس كلِّ الفية وفي الالفية الأخيرة يظهر المنقذ / سوشيانس / وعلى يده تتطهر الأرض وينتهي الظلم ويعم الخير على الأرض وتغمر البشرية السعادة.

وقفة تحليلية للديانات الوثنية او الوضعية

وهنا اودُّ القول ان هذه الأديان الوضعية لم تأتِ من فراغ فلها جذور دينية جرى عليها تحريف وتغيير حسب الظروف الاجتماعية والحياتية لتلك المجتمعات فأبونا آدم كان أوّل نبيٍّ اصطفاه الله تعالى ومن بعده ابنه النبي نوح عليهما السلام وكان صاحب رسالة تأمر العباد بعبادة الله الواحد الاحد وهذا ما جاء ذكره في القران المجيد الا انّه لم يذكر تفاصيلاً عنها سوى الطوفان وهي أول رسالة سماوية للبشر تدعو لعبادة الله وتوحيده وجاءت من بعده رُسلٌ كما نوّه عنهم القران المجيد [ ولقد ارسلنا رُسُلاً من قبلك منهم مَنْ قصصنا عليك ومنهم مَنْ لم نقصص ] سورة غافر الآية 78 وكذلك الآية 36 من سورة النحل أكدت أن الله سبحانه وتعالى قد أرسل رُسلاً الى أممٍ في قوله [ ولقد بعثنا في كلِّ أمّةٍ رسولاً ان اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ] صدق الله العلي العظيم ومن تلك العبادات أخذت العبادات الوثنية مفاهيمها العامّة وبنت عليها دياناتها الوضعية بعد تحريفها وهذا هو القول الراجح عندي.

المنقذ في الديانات السماوية

 1/ الديانة اليهودية تبلورت في زمن النبي موسى عليه السلام وهي امتداد لرسالة الأنبياء السابقين إبراهيم واسحاق ويعقوب ويوسف عليهم السلام وتكلم عنهم القران المجيد فصولاً كثيرةً ولهذه الديانة ايمانٌ بخروج المشيح أو المسيا والذي يعني عندهم الممسوح بزيت الزيتون المبارك وهو من سلالة النبي داود عليه السلام وقد تغيّر عندهم المعتقد في زمن الملك كورش الفارسي الذي اسقط مملكة بابل واطلق سراح اليهود من الاسر واعادتهم الى اورشليم القدس والسماح لهم ببناء الهيكل فقد اعتبروه المنقذ وقالوا يجوز أن يكون من سُلالة الملوك وتتقلب الشخصيات عند اليهود حسب ظروفهم وأوقات الشدة و الرخاء.

2/ المنقذ في الديانة المسيحية فالكل مجمعون على انه النبي عيسى ابن مريم عليه السلام الا انهم يختلفون في كينونته الان أهو يعيش بدمه ولحمه الادمي بعد ما صُلب أم هو الان يعيش بروحه النورانية وهذا الاختلاف لا يتعلق ببحثنا الا ان القران المجيد يقول شُبّه لهم أي انه لم يصلب ورفعه الله عز وجل وهو القادر على كلِّ شيء بهيئته الأدمية، وهذا ما اعتقدُهُ وقرينتي بذلك عروج نبينا محمد عليه واله أفضل الصلاة وأتم التسليم حيث كان عروجه في ملكوت الله وبلوغه سدرة المنتهى بهيأته الادمية ولا أتفقُ مع القول الاخر بعروج الروح.

3/ المُخَلّص أو المهدي عند المسلمين

وللمسلمين بمدارسهم الاجتهادية تأكيدٌ على ظهور المهدي الـمُنقذ المنتظر  وقولي بالمدارس وليس بالمذاهب لأن الاجتهاد هو مدرسة يبقى ضمن دائرة الإسلام الموّحَد وأمّا المذهب فهو طريق يفترق عن الدائرة الجامعة الـمُوَحِدة للمسلمين وعلى هذا ابني رأيي على انّها مدارس وليست مذاهبًا فمدرسة اهل السُنّة على اختلاف اجتهاداتها تقول: بحتمية ظهور المهدي في اخر الزمان ومن شجرة الامام علي عليه السلام ويُظهره الله العلي القدير في اخر الزمان وهذا يُخالف رأي الشيعة الاثني عشرية.

واعلق هنا على هذا الرأي لأقول متسائلاً كيف لنا أن نعرف هذا المهدي بعد أحقاب قد مضت واحقاب ستأتي لا نعلم ما يجري فيها والله العالِم وله المشيئة والامر بشأن هذا الظهور بأنّ هذا المنقذ أو المهدي هو من الشجرة العلوية وقد تتابعت الذراري وتداخلت الانساب ولم تَعدْ للشجرة تلك الحاضنة أقول كيف لنا التحقق من شجرته ونسبه العلوي؟؟ وكان الأفضل ان يقولوا بظهور رجل مُصلح يختاره العزيز الحكيم.

أما مدرسة الشيعة الاثني عشرية فإنها تقول أنّ المهدي عليه السلام من الشجرة العلوية الفاطمية الحسينية التي تبدأ بالإمام علي وابنه الحسين عليهما السلام وتنتهي بالإمام محمد بن الحسن العسكري عليه وعلى ابائه صلوات الله وسلامه وهو الامام الغائب الحاضر حيث يخرج هو والمسيح والرجل الصالح المسمى بالخَضِر عليهم سلام الله وصلواته يخرج لقتال المسيح الدجال والسفياني واعوانهما وإقامة دولة العدل والمساواة.

وعلى هذا بَنَتْ الأديان السماوية والوضعية فكرة الظهور على هذه الأرض في اخر الزمان الذي لا يعلمه الا الله سبحانه وتعالى.

وهذا ما حداني لأكتب مقالتي لاختلاف رؤيتي التي بنيتُها وذلك باستدلالي ببعض الآيات ومُبيّنًا أسبابَ هذا الاجماع على هذا الغلط.

فإذا رجعنا الى ما يُسمّى بالديانات الوثنية أو الوضعية وتساءلنا من أين استمدت هذه الأديان فكرة ظهور المُنقذ فأقول وبلا ريب أنها مستمدّةٌ من الأديان السماوية المحرفة وقد نوهتُ عنها آنفًا وجاء في سورة غافر الآية 78 التي تقول[ ولقد أرسلنا رُسلاً من قبلك منهم مَنْ قصصنا عليكَ ومنهم مَنْ لم نقصص عليك] وابونا ادم عليه السلام اول نبي موحد ومن بعده ابنه نوح عليه السلام وفي هذا ما يُغني وتطمئنُ اليه النفوس من أنّ الديانات الوثنية أو الوضعية هي ديانات سماوية بالأصل حُرفتْ وانحرفتْ عن نهج التوحيد و الآية الشريفة رقم 74 في سورة الشعراء تبين هذا القصد حيث تقول [قالوا بل وجدنا اباءنا كذلك يفعلون] اذن فالعملية هي تقليد اعمى فيه للحُكّام مصالح ولأصحاب النفوذ منافع في ترسيخ هذه الوثنية.        وقد بقيت من تلك الأديان السماوية ظِلالها كظهور الـمُنقذ وبعض النفحات الإنسانية التي تغلغلتْ بأعماق مفاهيمها بعد تحريفها، فالأديان الوثنية أو وهي بالأصل اديان سماوية.

وكل هذه الروايات والأحاديث المنقولة عن الاديان الوثنية والسماوية أراها

تتقاطع مع ما جاء في القران المجيد عن ظهور المهدي والمسيح والرجل الصالح الخَضِر عليهم وعلى نبينا واله الصلاة والسلام.

ومن خلال التفسير لبعض الآيات المباركات غرّب المفسرون وتعسفوا في تفسيرها ليكون التوافق بشواهد الآيات على ظهور الامام المهدي عليه السلام في آخر الزمان على هذه الأرض التي نحن عليها اليوم وبظهوره تقوم دولة العدل ويعود السبب في هذا الاعتقاد الغلط الى أنّهم أخذوا اعتقاد السابقين  وبنوا على رواياتهم وكأنها كلام مُنزّلٌ فصارت من الـمُسَلّمات لا بل من المُقدسات فلا يُمكننا النقاش فيها وهم يعلمون أن أكثرها من المدسوس أو المُحرّف أو المزيّف والى الآن يدأبُ أهل المدرستين على التمسك بالاحاديث والروايات في حين ذكَرَ القران المجيد هذا التحريف في قوله تعالى الآية 46 في سورة النساء/من الذين هادوا يُحرفون الكَلِمَ عن مواضعه/وفي سورة المائدة الآية 41/يُحرفون الكَلِمَ من بعد مواضعه/صدق الله العلي العظيم

ونوه نبينا محمد عليه وآله افضل الصلاة والسلام في حديث له بعرض كل حديثٍ يُنسبُ له على القران المجيد فما توافق مضمونه مع القران المجيد فالحديث صحيحٌ واذا اختلف فعلينا ان نضرب به عرض الجدار وعلى هذا ابني أن كلّ حديث يتكلم عن أمور غيبية لا قيمة له.

وإذا كانت النصوص السماوية تُحرّف فما بالنا بالأحاديث والروايات التي نقلتها لنا كُتُبُ المدرستين السنية والشيعية وفيها ما فيها من سرد قصصي عن ظهور الامام المهدي وإنّ القارئ لها يجد نفسه يقرأ في رواية ابي زيد الهلالي فتحكي عن أمورٍ هي من علم الغيب ما انزل الله بها من سلطان.

وأنّ الله سبحانه وتعالى يؤكد لنا بحجب الغيب عن أحبّ خلقه اليه وهو الرسولُ عليه واله أفضل الصلاة والسلام ذكرها في قرانه المجيد ومنها ما جاء في علم عدد اصحاب الكهف الذين أووا اليه لكنه ذكر ما قاله الناس  في ذِكْرِ العدد فقال سبحانه/ سيقولون ثلاثةٌ رابعهم كلبهم ويقولون خمسةٌ سادسهم كلبهم ويقولون سبعة و ثامنهم كلبهم رجمًا بالغيبِ قُلْ ربي أعلمُ بعِدتهم / وأوصى سبحانه رسوله في قوله/ فلا تُمارِ فيهم الا مراءً ظاهرًا ولا تستفتِ فيهم منهم أحدا /صدق الله العلي العظيم/ الآية 22.

وكذلك لم يذكر القران المجيد للنبي عليه واله أفضل الصلاة والسلام أسماء المنافقين في قوله تعالى/إذا جاءك المنافقون قالوا الى آخرها/ المنافقون الآية 8

وكذلك جاء في سورة التحريم والخطاب عن كلام كان دائرًا بين النبي عليه واله أفضل الصلاة والسلام وبين إحدى زوجاته فلما نبأت به عرّف الله تعالى نبيّه بافشاء ذلك السر ولم يذكر اسم تلك الزوجة.

والذي جاء في قوله تعالى [قل لا أدري ما يُفعل بي ولابكم] صدق الله العلي العظيم/ الاحقاف الآية 9 وفي قوله تعالى [قل لو كنتُ أعلم الغيبَ لاستكثرتُ من الخير وما مسني السوء] صدق الله العلي العظيم/ الأعراف الآية 188 وفي قوله تعالى / وإمّا نُرينّك بعض الذي نعدهم أو نتوفينكَ فالينا مرجعهم/ صدق الله العلي العظيم ففي هذه الآيات هو القول الفصل بعدم العلم بالغيبيات وموضوع ظهور المهدي مع المسيح والخَضِر عليهم السلام هو من جملة الغيبيات لا يعلمها الا الله سبحانه وتعالى.

وتأتينا الروايات والاحاديث عن النبي وعن اهل بيته عليهم افضل الصلاة والسلام وعن بعض الصحابة رضوان الله تعالى عنهم تأتينا الروايات منقولة بعد عقود من الزمن لتكلمنا عن ظهور المهدي عليه السلام وعن الاحداث التي ستسبق الظهور لتكون الروايات الحجة القاطعة ويتغافلون أو يَتركون ما جاء في كتاب الله الذي أوضح بما لا جدال فيه أنّ ظهور الامام المهدي والمسيح والرجل الصالح عليهم السلام هو مرتبط بقوله تعالى/ يوم تُبدّل الارضُ غير الارضِ والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار/ صدق الله العلي العظيم سورة إبراهيم الآية 48 وسأتناول الموضوع بالتفصيل بعد استشهادي بالحجج التي استند إليها الشيعة من الآيات القرآنية فهم يُفسرون الآية الكريمة/ ونُريدُ أنّ نَمُنَّ على الذين استُضعِفوا في الأرض ونجعلهم أئمّةً ونجعلهم الوارثين/ الآية 5 سورة القصص بظهور المهدي عليه السلام ولو رجعنا الى الآية التي بعدها لوجدنا انها تتحدث عن بني إسرائيل في الآية 6 من نفس السورة وبه يتوضح لنا القصد حيث تقول الآية / ونُمَكنَ لهم في الأرض ونُري فرعونَ وهامانَ وجنودَهما منهم ما كانوا يحذرون/ لكن مَنْ كتب عن الامام المهدي أخذ بما يتناسب وقناعته التي بناها وعليها استند كي يُجاري ما قالت به الديانات التي سبقت الإسلام ويُجاري الروايات والاحاديث التي تحدثت لنا عن ظهور المهدي وكذلك استشهادهم بالآية 33 من سورة التوبة وهي/ هو الذي ارسل رسوله بالهُدى ودين الحقِّ ليُظهرَهُ على الدين كلّه ولو كره المُشركون / والآية 55 من سورة النور / وَعَدَ الله الذين امنوا منكم وعملوا الصالحات لَيَسْتَخلِفِنّهمْ في الأرضِ كما استخلف الذين من قبلهم ولَيُمَكِننّ لهم دينهم الذي ارتضى لهم ولَيُبدِلَنهم من بعد خوفهم أمنًا يعبدونني لا يُشركون بي شيءً ومَنْ كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون / صدق الله العلي العظيم.

كل هذه الآيات المباركات كانت عن وعدٍ مستَقْبلي من الله للمؤمنين وقد تحقق لهم في الدنيا ولو انتبهوا الى اخر الآية / ومَنْ كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون/ ففي هذه الجملة نتبين انها تتحقق في زمن الرسول عليه واله افضل الصلاة والسلام ولو كانت تتكلم عن ظهور المهدي عليه السلام ما استوجب ذِكْر / ومَنْ كفَر بعد ذلك / وهذه إشارة الى ان الاستخلاف في زمن الرسالة ولا علاقة له بزمن المهدي عليه السلام إلاّ أنّ الذين تأثروا بالروايات والأحاديث لووا معانيها وأوّلوها وغالطوا القران المجيد ليقولوا جاءت هذه الآيات المباركات لتُخبرَ عن ظهور المهدي عليه السلام في آخر الزمان وعلى الأرض التي نحن عليها.

والذي توصلتُ اليه من خلال قراءتي أن المهدي والمسيح والخَضِر عليهم السلام سيظهرون ولكن في أرضٍ ومكانٍ غير هذه الأرض مستندًا الى قوله تعالى / يوم تُبدلُ الأرض غير الأرض والسماواتُ وبرزوا لله الواحد القهّار / وقوله تعالى في سورة الطلاق الآية 65 / الله الذي خلق سبع سماواتٍ ومن الأرض مثلهنّ يتنزلُ الامر بينهنّ لتعلموا أنّ الله على كلّ شيءٍ قدير / صدق الله العلي العظيم.

وللقارئ انقل ما جاء في تفسير الميزان لهذه الآية وهو من التفاسير المعتبرة لدى الشيعة أقول والقول للمفسر الطباطبائي (واختلاف الروايات في تفسير التبديل لا تخلو عن دلالة على انّها أمثال مضروبة للتقريب والـمُسَلّم من معنى التبدل أنّ حقيقة الأرض والسماء وما فيهما يومئذ هي من اديم الأرض غير أن النظام الجاري فيهما غير النظام الجاري فيهما بالدنيا وينقل لنا صاحب الميزان في روايةٍ عن العياشي في تفسيره منقولاً عن تفسير القُمي ان الأرض تُبدل الى خبزة بيضاء في الموقف يأكل منها المؤمنون) انتهى 

أقولُ لو رجعنا الى سورة الزمر الآية 67 التي جاء فيها وصف الأرض في قوله تعالى / وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعًا قبضتُهُ يومَ القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يُشركون / صدق الله العلي العظيم فهنا يتبين لنا أن الأرض في قبضة الله العلي القدير لتصفية الحساب مع البشر وبعدها تكون النقلة الثانية بعد فرز العباد ففي هذا اليوم قيامة العدل الهي ويقول الباري عز وجل في اخر السورة / وسيق الذين اتقوا ربّهم الى الجنة زمرا حتى اذا جاؤوها وفُتِحت أبوابُها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده واورثنا الارضَ نتبوأُ من الجنة حيث نشاء فنعم اجر العاملين وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق وقِيلَ الحمد لله رب العالمين / الآية 75 صدق الله العلي العظيم.

وهنا اقولُ متسائلاً أي أرض هذه التي أورثهم الله؟؟ والجواب يقينًا أنّها في سماء أخرى كما قال رب العزة / ولقد خلقنا سبع سماوات ومن الأرض مثلهن / صدق الله العلي العظيم.

وجاء في تفسير الميزان للطباطبائي قوله: وعليه فالمعنى خلق من الأرض سبعًا كما خلق من السماء سبعًا فهل الارضون السبع سبع كرات من نوع الأرض التي نحن عليها والتي نحن على احداها؟ أو الأرض التي نحن عليها سبع طبقات محيطة بعضها ببعض والطبقة العليا بسيطها الذي نحن عليه؟ أو الاقاليمُ السبعة التي قسموا المعمور من سطح الكرة؟ الى آخر تساؤلاته الى أن يقول في تفسير سورة حم السجدة محتمل آخر في غيرها.

وربما قيل أن المراد بقوله / من الأرض مثلهن / أنه خلق من الأرض شيئًا هو مثل السماوات السبع وهو الانسان المركب من المادة الأرضية والروح السماوية التي فيها نماذج سماوية ملكوتية / انتهى تفسير الطباطبائي.

ويقول الطباطبائي في تفسيره للآية 105 من سورة الأنبياء / ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون / صدق الله العلي العظيم والمرادُ من وراثة الأرض التسلط على منافعها إليهم واستقرار بركات الحياة بها فيهم وهذه البركات امّا دنيوية راجعة الى الحياة الدنيا واما أُخروية وهي مقامات القرب التي اكتسبوها في حياتهم الدنيا ويقول أيضًا ومن هنا يظهر أن الآية مطلقة ولا موجب لتخصيصها بإحدى الوراثتين/ انتهى تفسير الطباطبائي للآية.

ومن هذه الخُلاصةِ استخلص أن يوم الحساب يكون على ارضٍ لها خصوصية لذلك اليوم مثلما قال الباري يوم تُبدل الأرض غير الأرض وفيها يختلط الصالحون من العباد مع الطالحين ويدور بينهم حديث وطلب من الطالحين بان يلتمسوا نورًا من نور الصالحين ويكون الجواب لهم ارجعوا وراءكم والتمسوا نورًا ويُضرب بينهم سورٌ له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قِبَله العذاب ويُساق الذين آمنوا الى الجنة زمرًا فتتلقاهم الملائكة بالسلام وبالترحيب ويكون قول المؤمنين/ الحمد لله الذي صدقنا وعده واورثنا الأرض نتبوّأُ الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين / صدق الله العلي العظيم وعلى هذه الأرض يكون ظهور المهدي والمسيح والخَضِر عليهم السلام حيث تقوم دولة العدل الالهي والسلام الابدي الى ما شاء الله سبحانه وتعالى.

وقد يعترض عليّ المعترضون ممن يؤمن بظهور المهدي عليه السلام على ارضنا التي نحن عليها اليوم فجوابي على اعتراضه هو ان ارضنا هي دار امتحان لفرز الناس وغربلتهم وبعد الفراغ من حساب البشرية على ارض قد تبدلت كما جاء في سورة الزُمُر ومنها ستكون النقلة الى احدى الارضين التي أنشأها الله العلي القدير في السماوات الأخرى والتي جاء ذكرها في سورة الطلاق الآية 12 وهذا هو استنتاجي وإلاّ ما الغاية من وراء خلق هذه الارضين التي ذكرها الباري عز وجلّ في القران المجيد ولم يثبت تفسيرها عند المفسرين؟

وآخر قولي قوله تعالى / هو الذي أنزل عليك الكتابَ منه آياتٌ محكماتٌ هُنّ أمُّ الكتابِِ وأخَرُ مُتشابهاتٌ فأمّا الذين في قلوبه زيغٌ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاءَ الفتنةِ وابتغاءَ تأويلهِ ولا يعلمُ تأويلَهُ إلاّ اللهُ والراسخون في العلم يقولون آمنا به كلٌّ من عند ربِّنا/ صدق الله العلي العظيم الآية 7 آل عمران.

***

الحاج عطا الحاح يوسف منصور – الدنمارك / كوبنهاجن

الخميس 27 آذار 2025 / المصادف 26 رمضان 1446

 

تمهيد: أكثر ما يخشاه الإنسان دائمًا هو التغيير، تغير مناخ البيئة، الأحوال، ونمط الحياة، رغم قدرته على التكيف والتأقلم التي تُميّزه عن سائر الكائنات الحية. مع ذلك، يظل الإنسان يهاب المجهول والتغييرات المفروضة عليه التي تنتزع منه سلامه الاجتماعي والثقافي المتعارف عليه، ويجد صعوبة بالغة في قبول واقع الحياة كونها صيرورة - تتصير من شيء إلى آخر، من حالة إلى أخرى.
التهجين الثقافي وإمكان الاستقلالية:
تدفق المعلومات وتداخل الثقافات اليوم يبعث لدى الكثيرين القلق الهُوَوِيّ؛ قلق الهوية والانتماء. وهذا القلق الذي يحاول أن يبقى راسخًا على ما اعتاد عليه من رؤية للوجود، ونمط التفكير، يصعب عليه المران على طرق تفكير مغايرة، حديثة، متجاوزة؛ فما بالك إذا كانت مناقضة ومعارضة للرؤية الوجودية والفلسفية السابقة؟
ومع ذلك، يثبت لنا التاريخ، من خلال تراكم الأحداث والتقلبات السياسية والتداخلات الثقافية على مر العصور: أن الإنسان قادر على الحفاظ على ما هو عليه، على فلسفته في الحياة، وعلى نمط جوهري من التفكير رغم هذه التداخلات المتواصلة. على سبيل المثال – والأمثلة بالمئات – المسلمون في الهند، رغم احتكاكهم مع غير المسلمين من ناحية، واختلاف ثقافة وانماط الحياة والمعيشة تمامًا من ناحية أخرى، لم يخسر الفرد والعائلة المسلمة جوهر الإسلام.
وعليه وجب التفريق بين: الجوهري والعارض؛ الجوهري هو ما نؤمن به بالأعماق ويعطي لحياتنا معنى، ولها أثر أو حمولة ثقافية متجذرة فينا؛ بينما العارض: هو كل التغيرات المؤقتة التي لا تغير في جوهر الإنسان، بما في ذلك الثقافة ذاتها، إذ أن الجزء الأكبر من الثقافة غير معني فقط بالدين، وعليه يبقى تأثيرًا عارضًا، وقبوله والتماشي معاه لا يتعارض بالضرورة الجوهر؛ وهذا التمييز الدقيق يسهم في تقبل التغييرات في العالم دون الشعور بالخوف والذعر لأن ما يمثل هويتنا الثقافية والدينية جوهرياً لن يتغير بتغير العوارض.
حتميّة التهجين الثقافي:
وعلى الجانب الآخر، هناك جوانب الأصل فيها التغيير والصيرورة، بسبب التداخل الثقافي والحوار والتوليف، وهذا يحصل على المدى القريب في عالمنا اليوم، لا المدى البعيد. كل العالم يتشكل من كل شيء آخر في الوقت نفسه، وهذه الانصهارات تشمل: العلم وطبيعة التعلم وبناء المعارف والفنون وغيرها.
كل هذه الجوانب قائمة على التأثر والتأثير والتهجين، خصوصًا في عصرنا هذا سريع التداخل والتأثر.. وأي محاولة لإجهاض هذه الظاهرة تعد تحديًا لطبيعة سير التاريخ والعالم، وهو سلوك مجتمعي غير مجدٍ وقد أثبت فشله في عصور الظلام. إن الانفتاح الواعي على الثقافات، مع فهم الديناميكية الحتمية الحاصلة، يشكل اليوم الضمانة الوحيدة للبقاء.
خاتمة وتأمل:
وعند إدراكنا أن الهوية والجوهر يتطوران بتطور وعي الإنسان عبر الزمن والتجربة وتراكم المعارف، ندرك أن أدوات المعرفة تطور أدوات الفهم، وعليه فإن الحفاظ على الجوهر لا يكون بتجميده في قالب محدد، إنما يتحقق من خلال مسؤولية جماعية وتاريخية تستوعب الهوية والدين والحقيقة والثقافة كمشروعات مستمرة من الكشف المتجدد عبر المعرفة والتجربة والزمان.
***
خالد اليماني

 

هذا النص مستعار من مقولة سوف نعرفها في نهاية المقال، يقول " البير كامو " الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي يرفض أن يكون على حقيقته، وأي منا يسقط ما بداخله على الآخر في أحسن الأوضاع وفي أسوئها، هو الإنسان عَينهُ لو قلنا أنه حكيم ومتزن، أو حقير محتقن بالحقد، لابد أنه يلجأ إلى إسقاط ما بداخله على الآخرين، بشكل فردي، أو جمعي، أفراد أو شعوب، هذا الاسقاط من المشاعر والانفعالات هي سمات في أي منا نحن معشر الأسوياء إذا ما سلمنا جدلًا نحن فعلا نمتلك هذه الصفة وهي (السوية) ولو هي مثلٌ أعلى نحاول أن نقترب منه بدرجة أو بأخرى كما يراها "صلاح مخيمر"، رغم أن الأسوياء لا يبرأون أيضًا من بعض سمات المرضى، أو من لديهم إنحرافات متنوعة ومختلفة، وأقصد الانحرافات في الشخصية مثل النرجسية، الشخصيات المضادة للمجتمع " السيكوباث" أو حتى ممن يحملون انحرافات في الحرية الجنسية " عذرًا الشذوذ الجنسي مع أحترامي لمن يعتنق ايديولوجية الانحرافات كمعنى وكمبنى في البنية والتكوين "، نطلق هذه التسمية عليهم تمشيًا مع تغيير قوانين الطبيعة البشرية لأغراض سياسية فرضت على الشعوب سمات الانحرافات بأنها الحرية الجنسية .
آلية " ميكانيزم " الاسقط وهي أحد الآليات التي يلجأ إليها الفرد في مواقف الحياة اليومية، وهي بالتأكيد آلية لاشعورية – لاواعية وعرفها التحليل النفسي بأنها حيلة من حيل دفاع الأنا بمقتضاها ينسب الشخص إلى غيره ميولًا وأفكارًا مستمدة من خبرته الذاتية، يرفض الاعتراف بها لما تسببه من ألم وما تثيره من مشاعر الذنب، فالإسقاط بهذه المثابة وسيلة للكبت أي أسلوب لاستبعاد العناصر النفسية المؤلمة عن حيز الشعور، والعناصر التي يتناولها الإسقاط يدركها الشخص ثانية بوصفها موضوعات خارجية منقطعة الصلة بالخبرة الذاتية الصادرة عنها أصلا، وهناك تعريف آخر للإسقاط بأنه حيلة نفسسية ينسب فيها الشخص سماته الذاتية وعواطفه وميوله لموضوعات بيئية من أشخاص وأشياء، كما دون هذه المعلومات سامي محمود علي في كتاب ثلاث مقالات في انظرية الجنسية لسيجموند فرويد .
تساؤلنا ماذا فينا؟ ولكن نراه في الآخرين، هو البخل، الانانية، حب الذات أولا، المكيدة وأختلاق التبرير لكل فعل، الغدر، الخيانة، الإلتواء في الحديث واللف والدوران، الوصول إلى تحقيق الهدف بأية وسيلة ممكنة حتى وإن كانت لا أخلاقية، هي فينا فعلا ولكن نراها في الآخرين، نسقطها كفكرة في دواخلنا على الأخرين، ولو عدنا إلى أصل المقولة في عنوان هذه المقالة، هي مقولة سيجموند فرويد مؤسس التحليل النفسي، حينما سئل عن الشخصية اليهودية، لماذا هي هكذا؟ فأجاب اليهودي فينا ولكن نراه في الآخرين .
هي إذن سمات وليست صفات، والسمة أكثر ثباتًا في الشخصية، ومن الصعب تغييرها وهي التي تقود صاحبها لأن يطلب العون من المحلل النفسي بعد ان طغت في تفكير الشخص وأخذت تضايقه وتعيق نشاطه العقلي والفكري وسلوكه اليومي وتعامله وربما حتى أنفعالاته، إذا ربما أصبحت ثقيلة في النفس، إن أدركها وأقتنع في وجودها، وأنا أشك في ذلك . فالبخل، أو اللاوفاء، واللا إلتزام بالمواثيق والعهود، هي التي لا يستطيع صاحبها أن يقاومها، فتصرعه أما مريضًا، أو حقودًا على نقيضه الذي لا يحمل هذه السمات، فالذي يتكلم عنك بالسوء، كان يتمنى أن يكون مثلك ولكنه لم يستطع، والذي يغتاب الناس في عرضهم وشرفهم، فهو فاقد هذا الشرف، أو العرض، او الكرامة، ومن أجاز لنفسه أن يكون عبدًا، لم ولن يستطيع أن يكون غير ذلك وربما ذليل ولو تبوأ أعلى المناصب والمكانات الاجتماعية، تنضح منه بقايا الخسة والشعور بالدونية، فالرئيس الامريكي ترامب يشعر بإن ادارة أكبر دولة في العالم وهي الولايات المتحدة الامريكية هي مؤسسته التجارية، لم يحدث لديه الإعلاء والتسامي بهذا المنصب، وخطابه أوضح دليل على ذلك، لغة التجارة هي السائدة، الخطاب الواضح في كلماته وبعض هفواته، كما هو الحال في بعض الدول التي تم تنصيب رؤساء وزعماء من الجيش في ادارة الدولة، فالسمة الطاغية هي السلوك العسكري، وعندما يتهذبب سلوكه يحيل من يخالفه وباسرع وقت لمحكمة عسكرية خاصة بدون أي حقوق للدفاع . لذلك يمكننا القول بأن الإسقاط هو وسيلة تكيف، فهذا الشخص إذا ما واجه صعوبة في حياته اليومية فإنه يسقط ما في داخله على الآخرين كوسيلة لحماية نفسه، وبدلًا من مجابهة واقعه النفسي يقوم بإسقاط مشاعره ويمارس وجودة بشكل بدائي. يقودنا قول تولستوي الجبناء هم أكثر الناس حديثًا عن الشجاعة، ونحن نقول بأن البخلاء هم أكثر الناس حديثًا عن الناس واتهامهم بالبخل، وفي حياتنا اليومية المعاشة الكثير من الأمثلة.
***
د. اسعد الامارة

لماذا يقرر شخص غني أن ينهي حياته، إما بالانتحار وإما بالانسحاب من واجهة الشهرة والمكانة؟
قد يبدو مفهوما أن يقرر شخص عادي وضع حد لحياته بحبل أو طلقة مسدس. فتعب الحياة وشقاؤها، وتحطم الآمال على صخرة الواقع المرير، أضف إلى ذلك عدم الرضى عن توزيع المعايش بين الناس، والعجز عن احتمال وطأة الفقر أمام مظاهر الغطرسة والثراء اللذين تنعم فيهما فئة قليلة؛ كل هذه أسباب توعز للمرء بالانسحاب من مشهد لا يطاق. أما رحيل الأثرياء والمشاهير فيثير الحيرة والدهشة، خاصة من لدن المؤمنين بأن سعادة المرء تكمن في رصيده، وساعة يده، ويخته الذي يطوف به أنحاء العالم.
لم يكن ليو تولستوي من أعظم أدباء روسيا ومفكريها فحسب، بل كان أيضا أحد أثريائها الذين وفرت لهم الحياة كل الملذات المتاحة في عصره. وبالرغم من ذلك لم يخف قلقه وعذابه المتواصل من كون الحياة مجرد خدعة كبيرة. وظل سؤال " وماذا بعد؟" يثير في نفسه أسباب الحيرة والقلق، ويدفعه للاكتئاب والرغبة في الانعزال، فكان يردد:" حسن، سيكون عندك ستة آلاف فدان في أرقى منطقة،وثلاثمئة حصان. وماذا بعد؟ حسن، ستكون أكثر شهرة من غوغول وبوشكين وشكسبير وموليير، بل وكل كتاب العالم. وماذا بعد؟"
بحث تولستوي عن الجواب لفترة طويلة في الكتب وطرق عيش الناس، فاهتدى إلى أن الراحة الحقيقية هي في العيش وسط البسطاء من فلاحي روسيا آنذاك، مع نوع من المعرفة لا يوجد إلا في العقيدة: معرفة توّحد الإنسان مع الله، لا بمعنى وحدة الوجود التي ينادي بها غلاة الصوفية، وإنما بمعنى التوحد مع أوامر الله وتعاليمه ووحيه وأوليائه.
تكشف سيرة تولستوي أن ثورته على الحياة المترفة سببها التصنع والتعقيد الذي يُفقدها جمالها، ناهيك عن تنصلها من القيم والأخلاق التي ينبغي أن تحكم العلاقات داخلها. ومسألة التصنع هاته تقف اليوم سببا وجيها وراء إقدام عدد من مشاهير الفن والسينما على الانتحار، حيث تندس خلف الصورة المشرقة لهؤلاء تجليات هشاشة نفسية، وخوف مستمر من العجز عن مواصلة الظهور بالمثالية التي ترسمها الكاميرات ووسائل الإعلام.
في صيف 2012 أصدر نجم السينما الأمريكي روبن وليامز كتابا بعنوان "12 خطوة"، ووضع على غلافه ملحوظة تؤشر على ما سيؤول إليه الوضع بعد سنتين فقط: " أريد أن أساعد الناس على أن يكونوا أقل خوفا"، لكن يبدو أنه لم يحتمل هذا الخوف فوضع حدا لحياة تضج بالشهرة والثروة، والإنجاز السينمائي الضخم. وفي حديث زوجته لوسائل الإعلام تظهر شخصية مختلفة تماما عن الممثل المرح الذي ظل لسنوات يرسم الابتسامة على وجوه الناس، حتى أن الصحف العالمية لقبته ب" أطرف رجل عاش على الإطلاق".
كانت سنواته الأخيرة مستنزفة بفعل نوبات القلق والارتياب، وتأثرت حياته المهنية حين بدأ يفقد قدراته كممثل بارع، خاصة في آخر أعماله" ليلة في المتحف". ويبدو حسب مخرج الشريط الوثائقي "رغبة روبن" أن هذا الأخير لاحت عليه بوادر مرض "خرف أجسام ليوي" الذي يصيب خلايا الدماغ، فكان يتجنب اللقاءات العامة وحتى مقابلة الأصدقاء، لكن المحطة الأخيرة من حياته لم تخل من مبادرات تبعث رسائل وجيهة عن معنى الحياة، منها تبرعه بمبلغ 50 ألف دولار سرا لبنك الطعام في مدينة سياتل الأمريكية.
ينتحر الأغنياء ممن يعتبرون الحياة صفقة، حين لا يتحملون تبعات تلك الصفقة على حياتهم ومسيرتهم في عالم المال والأعمال. ورغم اليقين المسبق بأن مغامرات من هذا القبيل تنطوي على الربح والخسارة، إلا أن لذة تحقيق الثروة وتحصيل المكانة الاجتماعية اللائقة لا ينفي كون شبح الخسارة حاضرا ومتربصا، وأن على المرء أن يرتب نفسه على كل الاحتمالات ليمكنه مواصلة العيش والنهوض مجددا بعد كل كبوة.
كان رجل الأعمال الألماني أدولف ميركل يعيش حياة وصفها البعض بأنها طريقة حياة علم الأخلاق البروتستانتي. فالرجل متقشف في عيشه، يركب دراجة هوائية حين يذهب للعمل، ويسافر في الدرجة الثانية من القطار لإيمانه بأنك لن تصل أسرع إذا ركبت في الدرجة الأولى. وهكذا تمكن ميركل، بما يملكه من إصرار ورؤية واضحة وحكيمة عن مجال الأعمال، أن يحول النشاط التجاري في مجال الأدوية الذي ورثه عن عائلته، إلى ثاني أكبر شركة لبيع الأدوية في أوروبا.
على مدار أربعة عقود بنى أدولف امبراطورية تضم 120 شركة، بإيراد سنوي يبلغ نحو 38 مليار أورو. لكن حين حدثت الأزمة الائتمانية كان ميركل ثريا في الأصول، وفقيرا في التدفق النقدي كما صرح بذلك مستشار العائلة. لذا أمام انهيار أسعار الأسهم طالبته البنوك بضمانات إضافية، وصار الرجل الذي وُصف بالمفاوض العنيد، يأخذ جرعات من الدواء خلال محادثاته مع أزيد من 30 دائنا.
فقد ميركل موقعه ضمن المائة أغنى رجل في العالم، فكان عليه أن يهرب من نظرات الشماتة مثلما يهرب من ملاحقة البنوك التي تطالبه بسداد قروضها. وتحرك شبح الخسارة من مكانه ليدفع بالرجل إلى الانتحار ممددا على قضبان السكة الحديدية، في إحدى قصص السقوط المؤلمة التي تعلن أن السعادة ليست فقط مجرد صفقة.
إن كنت بسيطا في عيشك فهذا أمر جيد، وإن لم تكن كذلك فعليك أن تحاول. وهذه البساطة هي ليست دعوة لتجريب الفقر والحرمان، ولا عودة إلى البداوة وشظف العيش، لأن التحضر درجة طبيعية في الرقي الإنساني. ولكن، يتساءل أحمد أمين، ألا يمكن أن نتحضر وأن نتبسط معا؟
يبدو الأمر ممكنا برأي الكاتب المصري، مادامت البساطة لا تتعارض مع الانتفاع بنواتج العلم والتقنية. فما يحتاجه الإنسان المعاصر هو التخفف من أعباء الحياة المادية، والإيمان بأن هناك حياة روحية سامية وجميلة، تستحق أن يوفر لها المرء نصيبا من وقته وتفكيره.
ليس الأمر طبعا بتلك السهولة، فهناك من يعتبر الدعوة للبساطة خطرا يهدد الاقتصاد والمجتمع الاستهلاكي. لذا فإن ثقافتنا التي تجد صعوبة في تقبل البساطة، بحاجة للمراجعة واتخاذ القرار لتحديد ما هو مفيد وما هو غير مفيد. وبرأي دومينيك لورو فإن البساطة لا تتحقق إلا عبر التحرر من الأفكار المسبقة، والمخاوف والضغوط التي تثقل كاهلنا. إن البساطة التي تعني اقتناء القليل، تفسح المجال لما هو جوهري وأساسي، مثل القيم الإنسانية، والراحة النفسية، والجمال والحرية؛ بمعنى آخر: لكل ما هو حي.
***
حميد بن خيبش

في المقام الأول نستطيع أن نؤكّد أن البطالة في العالم تُعتبر من أخطر ما يُواجه الإنسان، والتي تترك بصمات سلبية تؤثّر على حياة الفرد واستقرار المجتمع.
ولا تزال هذه الظاهرة رغم محاولات القضاء عليها تترك آثارها السلبية على الفرد وعلى المجتمع. آخذين بعين الإعتبار أن الحروب وعدم تقديم الدعم لقطاع الأعمال من قِبل الحكومات، وإهمال جانب التنمية البشرية، وتلاشى دورها على الوضع الاقتصادي وبشكلٍ مباشر في المجتمعات التي تُحاول التطور والتقدم والسير في ركب المجتمعات الأخرى، إلاّ أنها وباعتبارها من المجتمعات النامية، فإن المطبات أمامها، وكثيرٌ من الأمور تحتاج إلى بترٍ وإلى إصلاح، ومراجعة مجمل الخطوات المعمول بها.
وهناك أسباب أخرى للبطالة واستفحالها منها: غياب دور التنمية الاجتماعية، وإهمال جانب التعليم والتوعية، والتزايد المتسارع في عدد السكان، وفشل الشباب في الحصول على فرصة عملٍ مناسبة، وهذا ما يُسبب اليأس والإحباط بين صفوف هذه الشريحة من المجتمع على الأقل، وغياب الإهتمام بالدراسات الاستثمارية، التي تهدف إلى استيعاب أعدادٍ كبيرة من المستخدمين والعمال والموظفين، وتخفيف فجوة البطالة السائدة.
ومن أجل تجاوز هذه الحالة المأساوية لا بُدّ من تخصيص معاهد مهنية متطورة تفتح المجال أمام الشباب فرص العمل وفق اختصاصهم.
كما لا بُدّ من بتر الإعتماد على العمالة الأجنبية، والاعتماد على العمالة الوطنية المحلية فقط، من أجل الحدّ من البطالة المسيطرة على الواقع المُعاش.
كما لا بُدّ من تشجيع المبادرات الفردية، وحالات الإبداع في مجال العمل الحر، ودعم كافة عمليات التعليم للقوى العاملة، وتسليط الأضواء على التعليم المهني، والذي من خلاله تتم المشاركة الفعلية والفاعلة بين القطاعين العام والخاص.
إن التنمية البشرية قولاً واحداً لا تستطيع أن تأخذ دورها في ظلّ نظامٍ سياسي متخلف وقمعي وفاسد.
حيث أن التنمية البشرية تُمثّل بصريح العبارة العملية التي تعتمد على " الإنسان " بهدفِ تطوير قدراته، كي يصلَ من خلال مجهوده الفردي إلى مستوى معيشي يضمن يضمن كرامته وعزّة نفسه ، والمتعة في إحترام الذات، وضمان حقوق الإنسان.
كما تؤكّد التنمية البشرية أن البشر هم الضمانة الحقيقية للأمم وثروتها.
أمّا المطبات التي تُعيق أو تواجه مسيرة التنمية البشرية يُمكن اختزالها، وتؤكّد أن المشاكل التعليمية والإعلامية والثقافية والاجتماعية، والمشاكل السياسية، والوضع الاقتصادي، والحالة النفسية والصحية للأفراد، تُعتبر جميعها من أبرز معوقات التنمية البشرية.
إنها التنمية التي تساهم في التقدم والنمو المتصاعد، وتحسين المعيشة الإنسانية، وتنمية حالات الإبداع والمهارات التي تلعب دوراً فاعلا ً في تحسين حياة المجتمعات، إضافةً إلى ذلك نأخذ بعين الإعتبار أن التنمية البشرية ساهمت في إفادة عشرات الآلاف من الأُسر من خلالِ تمويلها واعتبارها أُسر منتجة.
إن التنمية البشرية تلعب دوراً فاعلاً في تحسين حيثيات الحياة من كل جوانبها، من خلالِ التنمية الاقتصادية والاجتماعية والبشرية والتي بدورها تُحقق تقدماً شاملاً في شرائح المجتمع.
1 - ونرى في الجانب الآخر، أن هناك كثيرٌ من الكتّاب يتلاعبون بمصير الفرد من خلالِ ترويجهم لكتبٍ كثيرةٍ وتكتظ بها المكتبات، مليئة بالنصائح وضروب الأمثال، وتحمل مفاتيح النجاح والفوز في الحياة.
ومثل هذه الكتب تجعل المرء يشعر بوقتٍ طريفٍ مليء بساعات الاستغراق في التفكير في صومعة الخيال، والتحليق في عالمِ الأمل والخيال المليء بالأحلام.
بنفس الوقت نؤكّد أن الأوهام تلعب دوراً كبيراً في حياة البشر، على الأقل تبعدهم عن الحقيقة التي قد يكون لها تأثيراً سلبياً على الإنسان، لذلك نراهم ومن خلالِ الأوهام يستطيع الفرد أن يُجسّد حقيقةً خاصّة به.
الوهم والاعتقاد به يبعثُ أحياناً الثقة عند الإنسان، ويُوحي له أيضاً بالنجاح، لكن حياته تبقى غير واقعية، وبالتالي يميل إلى التمسّك بالسخافات والأوهام، بعيداً عن مواجهة الحياة بحقيقتها.
2 - إنّ الساحة العربية مليئةٌ بالكتب التي تبيع الأوهام والأباطيل، وبكلِ تأكيد الهدف الرئيسي لانتشار مثل هذه الكتب في بلادنا هو لإبعاد الأجيال عن الحقيقة، وعن النمو الإيجابي، وعن الإبداع والتألق والتقدم، كي نبقى على الدوام في حالةٍ من التخلّف والجهل الذي لا يُفارقنا.
وبكلِ تأكيد إن التبعية والفساد حتّى التواطؤ، هو الذي فتح بلادنا وجعلها أراضٍ خصبةٍ لتلقي هكذا هراء، وهكذا معرفةٍ مُزيّفة.
حتّى هذا الزيف وصل إلى إبداعنا الفني بكلِ مجالاته، بهدفِ الهروب إلى الوراء، وبذلك أصبح الفن في كلِ مجالاته فنّاً هابطاً بإمتياز.
كما أصبحت مشاعرنا هابطة ومُزيّفة، حتّى مشاعر العشق والمحبة، تماماً كما الأداء السياسي والاقتصادي، وكأننا أصبحنا في عالمٍ يعجّ بتخمةٍ بكلِ ماهو باطلٍ وغير حقيقي، وكلّ الأمور أصبحت تصبّ في الهراء والخيال الخاص بنا.
3 - هناك ركائز أساسية لتحقيق التنمية البشرية، ولعلها وفي المقام الأول: النظام السياسي الديمقراطي، ومقدرة المؤسسات على التنظيم والتخطيط الراقي بعيداً عن الفساد والمكاسب والمحسوبيات، والنظام الذي ينطلق من أساسيات حقوق الإنسان والعدل والعدالة والمساواة، والنظام الذي يُراعي الواقع الصحي ضمن حدود الرعاية الكافية، ومقدرة مؤسسات الدولة على التعامل مع التقنيات المتطورة والحديثة، والتي ستكون رديفةٌ أساسية لمقوّمات التنمية البشرية.
إن التنمية البشرية تهدف إلى تنمية مهارات الفرد وإبداعه وقدراته، وبالتالي تتم تنمية واقع المجتمع، وواقع الدولة، إن كان على الصعيد السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي أو الثقافي والفكري، وجعل أي إنسان ممتلكاً مقدرته وتطوير ذاته، وتغيير حياته ومعيشته نحو الأفضل على كافة الأصعدة، المالية والنفسية والفكرية والاجتماعية والثقافية، إضافة إلى الإرتقاء بنفسه وسط محيطه وفي مجتمعه.
مع الأسف إن معظم الأنظمة العربية تُحارب الإنسان، وتضع العديد من المطبات أمام فكره وثقافته ومهاراته، حتّى أمام وضعه النفسي والمعيشي والصحي.
لذا نرى أن الواقع العربي المُعاش لا يتناسب فعلاً مع عوامل وأساسيّات التنمية البشرية، التي يجب أن تأخذ دورها في مُكوّنات المجتمع العربي.
المنطقة العربية تفتقد إلى العدل والأمان، والعدالة الاجتماعية، والمساواة بين الجنسين، ومبادئ حقوق الإنسان، وحقوق الطفل وحقوق المرأة.
في البلاد العربية تنتشر بشكلٍ واضح البطالة المُقنّعة، وتنتشر سياسة الإقصاء والتهميش وسياسة الرأي الأوحد.
وإذا فعلاً أردنا أن نلج فعلاً درب التطور العملي علينا أن نفسح المجال الإيجابي للتنمية البشرية لتأخذ دورها الفاعل في مجتمعنا، من خلال إجراءاتٍ فعلية لا بُدّ منها، وفي المقام الأول مراجعة كافة خطاباتنا السياسية والدينية والاقتصادية والثقافية والإعلامية والفكرية والتربوية، واستبدالها بخطابٍ يتلاءم مع الواقع الدولي المُعاش، ومع التطور والرقي والتقدم لمعظم دول العالم.
و بدون هكذا خطوات يبقى إعلامنا وواقعنا، وتبقى خطاباتنا وشعاراتنا مجرّد أحلامٍ وأوهامٍ ليس إلاّ.
4 - من خلالِ المجال السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والتربوي، وواقع هذه المجالات، تُقاس التنمية البشرية، حيث أنها أي التنمية البشرية هي كُلٌ متكامل، وشاملة ومتكاملة، ومترابطة فيما بينها، وهي التي تستحضر الإمكانيات البشرية والمادية من أجلِ تحقيق التحوّل الجدّي في المجال الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي والفكري.
لأن التنمية البشرية بحاجةٍ ماسّةٍ إلى مُشاركةِ أبناء المجتمع لإكمال مسيرتها حتّى نهايتها.
وفي هذه المسيرة البنّاءة يتطلّب من الدولة إجراء تحوّلٍ جاد، بعد مراجعةٍ نقديةٍ وموضوعيّةٍ لواقعها، وتأسيس هيئة بحوثٍ علمية فاعلة، تُشارك في مجريات أمورها الجامعات ومؤسسات التعليم العالي والدراسات العليا، ومراكز الأبحاث بمختلف توجّهاتها واختصاصاتها، بهدفِ استقطاب الكفاءات العلمية.
ومن ثُمّ الاعتماد على قاعدةٍ علميةٍ متكاملة متوافقة، لتشجيع الأبحاث العلمية وحلّ مشاكل المجتمع المختلفة من كل جوانبها، إن كانت اقتصادية أم سياسية، وإيجاد آليات نشطة لحلّ هذه المشاكل وبترها.
التنمية البشرية لا تستطيع النشاط في بلدٍ يُعاني ولم تنتهي مشاكله بعد، إن كانت داخلية أو مشاكل كبرى يُعاني منها.
الوطن لا يستطيع أن ينهض كما المجتمع، من دون توفّر آلية سياسية وإرادةٍ سياسية تتحمّل مسؤولياتها، من أجلِ الدعم المعنوي والمادي وتوجيه مقدرات الدولة، من خلالِ عمليةٍ مدروسة، تضع الأمور في نصابها السليم. في مجال التعايش الإيجابي في المجتمع، وبتر الإقصاء، وتفعيل دور المشاركة، وتأمين العدالة والإنصاف،ة وتحقيق مبادىء حقوق الإنسان، ومنحه أسباب معيشته وكرامته، وتأمين مستوى معيشي لائق لأفراد المجتمع، وعدم التمييز بين كافة مكوّنات المجتمع.
لأن الإنسان هو الفاعل الأساسي في مجال التنمية البشرية وخاصّة في المجال الاقتصادي، وبالتالي تأمين وتوفير الرخاء للفرد وللمجتمع وللدولة، حيث أن التنمية البشرية تهتم بشكلٍ مباشر بمستوى النمو الإنساني، وتنمية قدرات الإنسان إن كانت بدنية أو عقلية أو نفسية أو اجتماعية.
كما تعني التنمية البشرية كعملية باستثمار الموارد والمدخلات والمخرجات، وبأي نشاطٍ اقتصادي يُوفّر الثروة والإنتاج الهادف، لتنمية قدرات الإنسان من خلالِ كامل الاهتمام ببنية المؤسسات وتطويرها والانتفاع بقدراتها لدى أفراد المجتمع.
مع كامل إيماننا بأن المواطن العربي موهوبٌ ومبدع وباستطاعته الإبداع في تحقيق إنجازاتٍ علمية رائعة، ومن أجل هكذا تنمية لا بُدّ من إجراء المزيد من الإصلاحات لكافة مؤسسات الدولة، وخاصّة الجانب الإداري، بهدفِ تهيئة جيلٍ جديد مبدع ومهني، وفرز العناصر الشابة المتميّزة فنّياً كي تكون في المقدمة، في المواقع الانتاجية في المجال الصناعي والقطاعات الاقتصادية ومجالات الثروة الباطنية الحيوية في علاقتها مع مجال الاقتصاد، الذي هو في حاجةٍ ماسّة إلى تهيئة مستلزمات التنمية البشرية الشاملة في البلد، وفق خطةٍ علمية وبسقفٍ زمني مُحدد.
كما لا بُدّ من الإشارة إلى أن أحد أهم حقوق الإنسان هو الحق في تقرير المصير، وهو واحدٌ من قواعد القانون الدولي الأساسية من أجلِ إقامة العلاقات الوديّة بين الدول والتعاون فيما بينها.
وحق تقرير المصير هو حقٌ مؤكّد للسكان في الأقاليم غير المتمتعة بالحكم الذاتي.
علماً أن مفهوم حق تقرير المصير يعود تاريخ ظهوره إلى فترة الثورة الأمريكية عام 1776، ومن ثُمّ الثورة الفرنسية 1789، والهدف الأساسي منه، تمكين الشعوب من التخلّص من الأنظمة السياسية التي تنتهج القمع والإستبداد.
كما لا بُدّ من حق تقرير مصير الفرد، وكمال ذاته، واحترام استقلاليتها، إن كان في المجال الفكري أو الجسدي، وضمان الحريات الفردية، ونشر الحريات السياسية والعمل الحر، والمواطنة المتساوية بين كل مكونات المجتمع وتحقيق الضمان الاجتماعي بشكلٍ عادلٍ وإنساني.
وأحياناً كثيرة نرى أن حق تقرير المصير بشكلٍ عام أو الفردي، مع الأسف مرتبط بالموافقة الخارجية مؤسسات ودول، وتدخلات الدول الكبرى في هذا المجال، وبذلك نرى أن حق تقرير المصير مرتهن برأي الجهات الخارجية التي تنشط وفق أجنداتها ومصالحها بعيداً عن القومية والدولة والسيادة والجغرافية.
إن عملية التنمية البشرية ستبقى شبه فاشلة في بلادنا العربية لسببٍ رئيسي هو الفساد المتفشّي المستشري في كل مؤسسات الدول، وسيطرة حيتان الفساد على مراكز القرار، وفقدان الحريات والحقوق، وانتشار الحقد والكراهية.
ولكي نخطو الخطوة الأولى في الدرب السليم نحو التنمية البشرية لا بُدّ من مراجعة كافة خطاباتنا السابقة وفي كافة المجالات، والإعتماد على برنامجٍ وطني سليم، وبتر الفساد وحيتانه، وإطلاق الحريات، وفسح المجال أمام المجتمع المدني، والعمل على ترسيخ مبادىء حقوق الإنسان وحقوق المواطن، وتطهير إدارات مؤسسات الدولة، وفسح المجال أمام المواطن ليكون بعيداً عن الإقصاء أو التهميش وليكون فاعلاً في المشاركة في صناعة القرار السياسي والاقتصادي البلاد، والعمل الجاد والجريء في ترسيخ سياسة التداول السلمي للسلطة.
***
د. أنور ساطع أصفري

مقدمة: النظرة إلى الفوضى كما لو كانت مصدرًا للإبداع هي وجهة نظر قد تبدو مثيرة على سطحها، لكنها في الحقيقة تسعى لتجميل هزالٍ فكريٍ كبيرٍ في محاولة لتفسير الواقع المحير. بينما يحاول بعض المفكرين وضع الفوضى في سياقٍ يعكس أفقًا جديدًا للمعرفة، نلاحظ أن هذه التصورات تنبني على أسس غامضة وغير واضحة، تمامًا كما يفعل وعاظ السلاطين الذين يتحدثون عن الحقائق في قوالب مفخمة فارغة، ليستمروا في إيهامنا بأن الفوضى ليست سوى جسرًا نحو الإبداع والحرية الفكرية. هذه الأيديولوجية لا تطرح أي تساؤل حقيقي حول قدرتنا على تحديد هذه الفوضى من عدمها، بل تجعل منها ذريعة لتبرير التناقضات الفكرية السطحية.
التهويل الفلسفي: الفوضى كأداة لتحرير الفكر
يدّعي الكاتب أن الفوضى قد تكون أداة لتحرير الفكر، لكن هذا الادعاء يشوبه إغراق في التأويلات الفلسفية دون ربطها بواقع ملموس. يرى الكاتب أن الفوضى تفتح آفاقًا جديدة للمعرفة، لكن ماذا عن التساؤل الأساسي: هل الفوضى، من حيث هي، قادرة على توليد أي إبداع حقيقي؟ أم أنها مجرد غطاء للضياع الفكري؟ الفوضى، في الكثير من الحالات، ليست أكثر من تكرار للمشاعر المزعجة التي يصعب التوافق معها، ولا تساهم بأي حال في تحفيز الفهم العميق للمجتمع أو للوجود. النقد الحقيقي لا يأتي من التفكير في الفوضى كحالة مزاجية، بل من فهم الأطر المعرفية التي تُمكِّننا من تجاوز التشتت وتحقيق التماسك المعرفي. ولكن، كما في كثير من الأحيان مع وعاظ السلاطين، نرى أن الكاتب يقفز من مفهوم إلى آخر دون أن يتيح للقارئ فرصة التأمل أو التدقيق في أبعاد هذه الفوضى المزعومة.
فوضوية إبداعية أم عبث فكري؟
المقارنة بين الفوضى والإبداع في المقال تبدو سطحية، حيث يتم تصوير الفوضى وكأنها التربة الخصبة للإبداع. لكن هذا التصور لا يعكس الواقع بشكل حقيقي. الفوضى التي يتحدث عنها الكاتب ليست إلا نوعًا من العبث الفكري الذي لا يقدّم أي حلول جذرية أو تأثيرات على الثقافة أو الفكر المعاصر. المبدعون الذين استخدموا الفوضى في أعمالهم، مثل هيرمان هيسه أو سارتر، لم يتخذوا من الفوضى قيمة مطلقة، بل كانوا يدركون حدودها في سعيهم لإعادة النظر في المسلمات الاجتماعية. في حين أن الكاتب هنا يعمم ويدعو لتبني الفوضى كمنهج للإبداع دون أن يوضح كيف يمكن ترجمة هذه الفوضى إلى نتائج حقيقية.
الفلسفة والفوضى: هراء أم نقد حقيقي؟
في الفصل المخصص للفلسفة، يحاول الكاتب ربط الفوضى بنظريات فوكو وهايدغر وسارتر، لكن يبدو أنه يستخدم هذه الأسماء الكبيرة لتعزيز حجته دون أن يقدم فحصًا حقيقيًا للفكر الفلسفي وراء هذه النظريات. فوكو، على سبيل المثال، لا يتحدث عن الفوضى كأداة للخلق بقدر ما يتحدث عن العلاقة بين المعرفة والسلطة. بالمثل، هايدغر لا يُشجع على الفوضى الخلاقه، بل يركّز على الكائن بوصفه موجودًا في العالم. لم يقدم الكاتب هنا أي إشارة جادة إلى هذه السياقات الفلسفية العميقة، بل اقتصر على استخدام هذه الأسماء كأدوات لتمرير فكرة أيديولوجية غير متماسكة فكريًا.
الفوضى كمصطلح سطحي: فقدان المعنى والاتجاه
حين ينظر الكاتب إلى الفوضى على أنها حالة ضرورية للنقد الاجتماعي، فإنه يغفل عن حقيقة أن الفوضى ليست بالضرورة حلاً للتحديات المعرفية. الفوضى قد تكون، في واقع الأمر، نوعًا من الهروب من الإجابات الصعبة والتحديات الفكرية الحقيقية. بإغراق القارئ في مفاهيم غير محددة حول الفوضى، يعزز الكاتب نوعًا من الهروب الفكري الذي لا يساهم في فهم أعمق للواقع الاجتماعي والسياسي.
خاتمة والنتائج: إبداع بلا أساس
ما يقدمه الكاتب هو تأويل فلسفي قد يبدو مبتكرًا في ظاهره، لكنه في حقيقة الأمر إعادة تدوير لأفكار قديمة تحت قشرة جديدة. الفوضى التي يروج لها ليست في الحقيقة أكثر من نوع من العبث الفكري الذي لا يحقق أي غاية حقيقية سوى الاستمرار في تهويل الفضاء الفكري. كالعادة، مثل وعاظ السلاطين الذين يزينون الأفكار بالألفاظ الجذابة دون أن يعمقوا في جوهرها، يبقى الكاتب في دائرة من التفكير السطحي الذي لا يتجاوز الجمل الفضفاضة والشعارات الفكرية دون أن يقدم رؤية حقيقية للكيفية التي يمكن أن تتحقق بها الفوضى كأداة للإبداع.
***
الكاتب: سجاد مصطفى حمود
...................
المراجع:
1. فوكو، ميشيل. أركيولوجيا المعرفة. 1972.
2. سارتر، جان بول. الوجود والعدم. 1943.
3. هيسه، هيرمان. سارق اللؤلؤ. 1927.

 

كعادته، أقحم إبن خلدون نفسه في مسألة " الصنعة " أي تحويل المعادن الرخيصة إلى ذهب وبيّن رأيه في هذه المسألة وهو ليس كيميائياً أصلاً وأكثر.. تكلّم في موضوعات هي أقرب للخرافات والدجل ولَعَمري كيف ورّط نفسه فانكفاَ ثم سقط في وحل الهلوسات التي لا تليق به كمؤرِّخ معروف وعالم إجتماع كما دأبَ البعضُ على نعته؟ إليكم نماذج من هذه الخزعبلات والترّهات التي كتبها إبن خلدون في مقدمته:
أنهى إبن خلدون كتابة مقدمته في العام 779 الهجري (أي حوالي العام 1358 الميلادي).
كتبها في المغرب وأهداها إلى (…أتحفتُ بهذه النسخة منه خزانة مولانا السلطان الإمام المُجاهد الفاتح الماهد…، أمير المؤمنين أبو فارس عبد العزيز إبن مولانا السلطان الكبير المُجاهد المُقدّس أمير المؤمنين أبي الحسن إبن السادة الأعلام من بني مرين) / (الصفحات 5 و6 من المصدر 25). في حين نشطت أغلب وأشهر حركات الإستشراق وترجمات آثار العرب ومخطوطاتهم خلال القرنين التاسع عشر والعشرين. لقد سبق إبنُ خلدون هذا النشاط بأكثر من خمسة قرون من الزمن. معه عذر ولكن، لِمَ أغفل ذكر إبن النديم وفهرسته الأشهر؟ أفَلمْ يسمعْ به أو أن يطَّلعَ عليه؟ لقد ذكر إبن خلدون في مقدمته
(الصفحة 3) مشاهير المؤرخين من العرب المسلمين أمثال إبن إسحق والطبري وإبن الكلبي ومحمد بن عمر الواقدي وسيف بن عمر الأسدي والمسعودي وغيرهم من الفلاسفة كالغزالي وإبن رشد والكندي والفارابي وإبن سينا والكيميائيين والمشتغلين بصنعة الكيمياء كالمجريطي والمٌغيربي والطغرائي وجابر بن حيان وسواهم. كما ذكر الكثير من مصادر علماء الفقه والشريعة خاصة على الصفحات 261 – 246 من مقدمته. وقد إنتقد غامزاً دقّة المسعودي والواقدي بالقول (… وإن كان في كتب المسعودي والواقدي من المطعن والمغمز ما هو معروف عند الأثبات / المقدمة ص 3). كيف يعرف إبن خلدون المسعودي ويجهل مُعاصره إبن النديم؟؟ لو كان إبن خلدون، كما أحسب، قد إطَّلع على فهرست إبن النديم لكان غيّرَ الكثير من مواقفه وآرائه. أو أن الرجل قد عرفه وإطّلع عليه بالفعل لكنه لسبب ما أهمله ولم يأخذ به.
سأرجع إليه ثانيةً حين أتعرض لموضوعة إبن خلدون وكيمياء الذهب.
يبدو لي أنَّ الرجل مستودع هائل ونادر للمتناقضات. فقد جمع في رأسه الصرامة الموضوعية التي سبقت زمانها من جانب، والإعتقاد بالخوارق والمعجزات والسحر (المُقدمة: علوم السحر والطلّسمات/ الصفحات 393 - 399) والخزعبلات من جانب آخر. نقرأ نموذجاً من هذه التخريفات التي لا تليق برجل كإبن خلدون على الصفحة 73 من مقدمته ما يلي (… ومن تأثير الأغذية في الأبدان ما ذكره أهل الفلاحة وشاهده أهلُ التجربة أنَّ الدجاج إذا غُذيت بالحبوب المطبوخة في بعر الأبل وأُتُخِذ بيضُها ثم حُضِنتْ عليه جاء الدجاج منها أعظم ما يكون. وقد يستغنون عن تغذيتها وطبخ الحبوب بطرح ذلك البعر مع البيض المُحضّن فيجيء دجاجها في غاية العِظَم وأمثال ذلك كثير…). هل نُصدّق أن قائل هذا الكلام هو نفسه إبن خلدون صاحب نظريات البداوة والحضارة والعمارة والفساد؟؟
هل سمع الناس بسخافات كهذه وهل يليق ب (مؤسس علم الإجتماع) أن يتورط بخوض مثل هذه الخرافات؟ أريد تفسيراً من المعجبين به جداً جداً علماً أني سبق وأنْ بيّنتُ في بعض كتاباتي أنَّ كل ما قاله من أفكار [سمّاها البعض نظريات !؟] موجوده قبله بعدة قرون منها ما هو مذكور في القرآن (وإذا أردنا أنْ نُهلِكَ قريةً أمرنا مُترفيها ففسقوا فيها فحَقَّ عليها القولُ فدمرّناها تدميرا سورة الإسراء الآية 16) وفي سورة النمل ألآية 34 (قالت إنَّ الملوكَ إذا دخلوا قريةً أفسدوها وجعلوا أعِزّةَ أهلها أذِلّةً وكذلك يفعلون) أليسَ هذا الكلام في عمران الدول وفسادها الذي أطال إبن خلدون الكلام عنه في مقدمته؟ وبعضها مذكور في القرن الهجري الثاني على لسان بعض خلفاء بني العبّاس ولا سيّما أبو جعفر المنصور. يبقى موضوع تعاونه مع الغازي المغولي (تيمورلنك) واستخذائه له في المقابلة التي تمت بينهما خارج أسوار دمشق المحاصرة وتقديمه له معلومات عن أحوال وجغرافية الشمال الإفريقي في عدّة كراسات، حسب اعترافه، وهذا بالطبع عمل إستخباراتي خطير تورّط فيه إبن خلدون لكي ينجو بنفسه ويدع دمشق وأهل دمشق لسيوف المغول الغُزاة قتلاً ونهباً وسبياً وحرائقَ ودماراً. هذا هو {عالم الإجتماع !؟ }.
***
د. عدنان الظاهر
آذار 2025

في المثقف اليوم