قضايا

مساجُ العقلِ

إِلَٰهُنا واحد، لكنّ قلوبنا وعقولنا متعددة في الشعور والتفكير والرؤية والتجلي. بعضنا يعبد الله حباً وحمداً وشكراً، وبعضنا خوفاً من عقاب ونار وطمعاً في ثواب وجنة، وبعضنا وفقاً لتصور محدود أو خاطئ، نتشابه أو نختلف في العبادة ومدى رؤية نور الله أو البقاء في الظلمة، وفقاً لإمكاناتنا البشرية ومستويات تفكيرنا المختلفة والمتباينة.

إنّ الله يتجلّى لكل قلبٍ وعقل بمقدار طاقة الإنسان ووعيه ومعرفته وتقواه ورغبته في مزيد من الإدراك، فمن صفت سريرته عرف الله في جماله ورحمته: الرحمن الرحيم، الجميل الودود، الغفور اللطيف، الحليم الكريم. ومن غلب عليه الخوف عرف الله من حسابه وعقابه: الجبار المنتقم، الصمد الحسيب، القهار شديد العقاب.

فإذا كان الله وفقاً للمنظور القرآني الخالق الواحد الذي لا يتغير، ومعرفة الإنسان وإدراكه له بمقدار إيمانه وتقواه وصفاء قلبه وعقله، كما قلنا آنفاً، فإنه وفقاً للمنظور الصوفي يتجلى لكل إنسان بمقدار استعداده الروحي المقترن بالسكينة والنقاء.

فمعرفة الله رحلة قلبية وعقلية ونفسية وروحية ينكشف خلالها النور الإلهي للمرء إذا تهذّب القلب والعقل وترفعا عن صغائر الدنيا وبحثا معاً عن الشعور النقي والمعرفة العميقة، وكما يقول ابن عربي: "ربِّي الذي في قلبي، وربُّك الذي في قلبك، كلاهما واحد، لكنّ الطرق إليه متعددة".

إنّ الطرق إلى الله، كما أرى وأشعر، تستوجب التحلي بالصدق والإخلاص في نية معرفته سبحانه، والحرص على التأمل في آياته المتمثلة بجمال الكون ونظامه العجيب وتوازنه المدهش، وتهذيب القلب والنفس وتطهيرهما من كل شعور سلبي يخدش مرآة النفس الداخلية كالغرور والكره والغيرة والحقد والحسد والنميمة، وتغذية العقل بالأفكار النورانية والإيجابية وتنقيته من الأفكار السلبية، وتحقيق التوازن بين القلب والعقل حتى تلتقي المشاعر والأفكار على طريق النور نفسه، وكذلك مرافقة أهل الحكمة والصلاح والبصيرة.

إنّ الله واحد ثابت، إلّا أنّ قلوبنا وعقولنا ونفوسنا مرايا تعكس جوانب مختلفة من نوره إذا ما أدركت سبل الوصول، ولكلٍّ منا نصيبه من النور الإلهي بمقدار ما في باطن كلٍّ منا من طمأنينة ومحبة وعمق بصيرة ووعي ورغبة بالمعرفة واستعداد للتجلي وتلقي النور.

وإذا كنا ندرك الله بحسب ما في دواخلنا من نور، فإنّ الظلمة يمكن أن تدفعنا له أيضاً، مثلما يفعل اليأس حين نستخرج منه الأمل، إذ إنّ قاع الحياة مليء بالأحزان والآلام التي تغرقنا في الظلمة، فينبثق في لحظة ما من أعماقها ضوء يدلنا على الطريق إلى الله.

وحين يصل قلب الإنسان وعقله ونفسه إلى مستويات عليا من النقاء والوعي، فإنّه يعكس النور الإلهي في مشاعره وأفكاره وتصرفاته وكلماته، ويراه في كلِّ مكان، في كلِّ جميلٍ وحي وخلّاق، في كلّ كلام وتعامل طيبين، في كلِّ شعور صافٍ وفكرة نافعة وحيوية، وفي كلِّ لحظةِ صدقٍ ومحبةٍ وسلام.

***

أسماء محمد مصطفى

 

خصّت مجلّة "إسلاموكريستِيانا" (دراسات إسلامية مسيحية)، الصادرة عن المعهد البابوي للدراسات العربية والإسلامية (بيزاي) بروما، في عددها الأخير، عَلَمين من أعلام الحوار الإسلامي المسيحي، بتناول أثرهما في المجال، وهما راهب تنظيم الآباء البيض الفرنسي موريس بورمانس والمؤرّخ التونسي الأستاذ محمد الطالبي، اللذيْن رحلا عن دنيانا خلال العام 2017، بعد مسيرة حوارية حافلة. فقد شغلت قضايا الحوار الرجلين، على مدى نصف قرن، من الستينيات إلى مطلع الألفية الثالثة، سواء عبر صفحات المجلّة المذكورة، أو عبر المنشورات المشتركة أو الأعمال المنفردة. صاغا خلالها تقليدا حواريا عميقا داخل الثقافتين الكاثوليكية والإسلامية، حتى صار ذكر الواحد مدعاة لاستحضار الآخر.

قضى الراهب بورمانس ردحا طويلا من حياته بين تونس والجزائر، لمّا كان مقرّ معهد الآباء البيض (إبْلا) في تونس وإلى غاية نقله إلى مدينة روما في إيطاليا سنة 1964، ليتّخذ مسمى "بيزاي" ويتولى بورمانس فيه السهر على تكوين الرهبان والراهبات المتخصّصين في الشأن العربي والدين الإسلامي. وأمّا قرينه الطالبي فقد كان اتّصاله بعالم المسيحية يافعا، إبان الحقبة الاستعمارية في تونس، تلت ذلك إقامة في فرنسا أثناء الدراسة الجامعية، ثم انغماس في الشأن المسيحي بوساطة نسج علاقات متشابكة مع طائفة واسعة من اللاهوتيين والمفكرين الغربيين. فقد أُطلق على بورمانس "عالِم الإسلاميات الملتزم" لاشتغاله الدؤوب بقضايا الإسلام الفقهية والعقدية أو كذلك انغماسه في قضايا الحوار؛ ويمكن بالمقابل أن نطلق على الطالبي المؤرّخ المكافح، لِما تميّز به من حسّ نقدي ومنزع تجديدي تجاه الموروث الإسلامي، ردَفَه حرص على تطوير وعي معمَّق بالآخر المسيحي.

والسؤال المطروح لدينا ونحن نستعيد سيرة الرجلين: ماذا تُعلّمنا خمسة عقود من التواصل بين الطالبي وبورمانس رغم ما شابها من جفاء في طورها الأخير؟ وفيمَ تتمثّل تركة الرجلين لجيل الحوار اللاحق؟

لقد مثّل الثنائي طليعة التقارب الإسلامي المسيحي في تمثّلاته الشاملة، حتى خيّم ظلّ الرجلين على تقليد الحوار طيلة عقود. كان بورمانس والطالبي يعبّران عن مشاغل نخبة مستنفَرَة تستحضر قضايا اجتماعية وسياسية ودينية تشغل قطاعات واسعة من الرأي العام، العربي والغربي، فكانا خير مثال للمحاور الحريص على الاهتمام بقضايا العصر. فعلى مدى سنوات أبرز الطالبي حاجة المسلمين إلى وعي علمي بالمسيحية، أي إلى دراية بقضايا اللواهيت المسيحية وبالمثل إلى إحاطة بمؤسسات الغرب الدينية وما لهما من حضور فاعل في ساحة الاجتماع. أيقن فيها الطالبي أنّ الحوار معنيّ بتخطّي المستوى العاطفي إلى التأسيس العلمي، والخروج من محدودية الأفراد إلى رحابة المؤسسات حتى يتحوّل إلى فعل مؤثر. وبالمقابل وجد الأب بورمانس نفسه، منذ صدور قرارات مجمع الفاتيكان الثاني (1962-1965)، معنيّا مباشرة بقضايا الحوار مع المسلمين. وقد بدا مقاله الصادر في "إسلاموكريستيانا" (4، 1978) "ما الذي بوسع المسيحيين والمسلمين قوله أو فعله في عالم اليوم؟" بمثابة المانفستو التأسيسي لمشروع الحوار المنشود.

فقد كان الرجلان -بورمانس والطالبي- على دراية معمَّقة باستراتيجيات بعضهما البعض. يتابع كلاهما عن كثب ما يعتمل في الواقع العربي الإسلامي وفي الأوساط الغربية من طروحات وتيارات ورؤى على صلة بالحوار، وما يحول دون دون تحقيق وعوده.

لا يخفي الطالبي ما كان يحزّ في نفسه من وجود علماء إسلاميات مسيحيين وغياب علماء مسيحيات مسلمين، وساحة الحوار في أمسّ الحاجة إلى تلك الفئة. وتبدو تلك الحسرة متأتّية جراء إدراك أن خطاب الإسلام الواعي مع العالم المسيحي لن ترسى دعائمه إلا عبر إلمام علمي بتلك الديانة. فإن تكن كلّيات اللاهوت والكليات المدنية في الدول الغربية، تولي عناية لتدريس الإسلام وتاريخه وتشريعاته، فضلا عن الاهتمام بتدريس لغة الضاد ولهجاتها، فحريّ بأبناء الثقافة الإسلامية أيضا أن يُولوا الدين والاجتماع المسيحيين العناية اللازمة لرصد التحوّلات والتطوّرات.

إذ في ظلّ موجة الانجذاب المبكرة نحو "حوار الأديان"، من الجانب العربي، جرى خوض العملية بمعزل عن متطلّباتها المعرفية وشروطها العلمية، أي دون التعويل على الشروط اللازمة لبلوغ النتائج المرجوة، وبقاء العملية في حيز الخطابات الدعائية. وسواء تعلّق الأمر بمجال الوعي بالمسيحية أو بمجال الحوار مع المسيحيين، أمام الدارس المسلم حقلٌ رحبٌ ينطلق من البلاد العربية ويمتدّ إلى أصقاع عدّة في العالم، ما عادت الثقافة التقليدية قادرة على استيعابه.

لماذا نقول ذلك؟ نستحضر مدخلا مستعادا يتمثّل في باب الردّ على النصارى وهو بابٌ لا يزال شقٌّ واسع يعوّل عليه في الإحاطة بالمسيحية، والحال أن المسيحية قد أضحت مسيحيات واللاهوت قد أضحى لواهيت شتّى. فنحن أمام مستجدّات تحثّ على تطوير أدوات الوعي، بما يستجيب لتنوّع الطروحات اللاهوتية ويقدّر التحولات التي تسري في المجتمعات في شمال العالم وجنوبه.

وفي واقع الأمر تظلّ الأدوات الموظَّفة في المؤسسات الجامعية العربية هزيلة، ولا تفي بوعي المسيحية في بعديها الداخلي والخارجي. إذ عادة ما تطغى في الدراسة قضايا عقدية (مثل التثليث، والتجسّد، والنظر في كتابة الأناجيل، فضلا عن قضايا أخرى مثل مفاهيم الفداء والخلاص وفي أحسن الأحوال تتسلّط مقارنات ليتورجية باهتة تقنع بترصيف الطقوس من الجانبين) وهي محاور أقرب إلى التناول الردودي منه إلى المواكَبة الحيّة لما يعيشه العالم المسيحي. وتكاد تغيب من تلك المعالَجة جلّ المدارس الفكرية واللاهوتية التي طبعت مسارات المسيحية خلال الفترة الحديثة. وهذا المدخل الحيّ والمستجدّ في المسيحية هو ما نحن في أمسّ الحاجة إليه.

صحيح نحن نقف على ميراث هائل بخصوص المسيحية، سواء في بلاد المشرق أو في بلاد المغرب، ولكن السؤال المطروح هو كيف نستعيد تلك المعارف بشكل يواكب بنية الفكر الحديث ويستفيد من المناهج الحديثة؟ وبوجه عام، في دراساتنا المعاصرة نحن معنيون بالخروج من الطابع الجدلي مع المسيحية، إلى إرساء تقليد فهمي يُقدّر الأمور حقّ قدرها ويبوّئ المتابَعة العلمية المنزلة التي تستحقّها. وبما يعني لدينا، التحول بدراسة المسيحية من الاهتمام العمودي إلى الاهتمام الأفقي، والنظر إلى الدين كمعطى حياتي وليس كمعطى ما فوق تاريخي، أي الانزياح باتجاه الانشغال بالإنساني في مختلف أبعاده السوسيولوجية والفلسفية والتاريخية.

بشكل يُفترض فيه أن تكون الأوساط الأكاديمية، المعنية بالشأن الديني في البلاد العربية، مبادِرة إلى ترسيخ تقاليد علمية جديدة في مقارَبة المسيحية، بما يقلّص من أجواء الانكماش السائدة في الأوساط اللاهوتية المسيحية، ويهفت من حالات الاغتراب في الأوساط الإسلامية في تناولها للمغاير الديني، وإرساء مقاربات علمية وتقاليد حداثية تتناول قضايا فكرية بخصوص المسيحية، تعيد ترتيب العلاقات في الداخل العربي وتتواصل مع العالم برؤى حداثية معنية بالدراسات الدينية عامة.

الملاحظ أن القراءة العربية للمسيحية لا تزال رهينة نظرة قديمة في مجملها، في وقت شهدت فيه المسيحية تبدلات هائلة بدت جلية في الحضور النافذ في السياسة والاجتماع (قوى "التحالف المسيحي" و"الصهيونية المسيحية"، في الأوساط الأمريكية، و"سانت إيجيديو" و"فوكولاري" في أوروبا الغربية، وحركات الإنجيليات الجديدة في شتى أنحاء العالم)، وهو ما يتطلب تنبّها لما يجري في الساحة الدينية العالمية.

صحيح تعكّرَ صفو الحوار بين الطالبي وبورمانس في آخر مطافاته، وبلغ درجة القطيعة بين الرجلين، ولعلّ الأسباب متنوّعة في ذلك، ولكن الحوار الإسلامي المسيحي يظلّ مطلبًا لا غنى عنه.

***

د. عزالدّين عناية - أستاذ تونسي بجامعة روما، إيطاليا

 

ربما حذّر افلاطون قبل 2400 سنة من وسائل التواصل الاجتماعي الحالية؟ رمزية الكهف هي جدال سقراطي كتبه الفيلسوف اليوناني افلاطون - تلميذ سقراط، ومؤلف كتاب الجمهورية سنة 375ق.م، احتوى على حوار بين سقراط وجلوكون (شقيق افلاطون). ان رمزية الكهف هي قصة مجازية تصف عددا من السجناء في كهف كانوا مقيدين بالسلاسل، يواجهون حائطا. خلف السجناء نار مشتعلة، يرون فقط ظلال الأشياء والناس الذين يمرون خلفهم تسقط على الحائط. هذه الظلال هي الواقع الوحيد الذي يعرفونه، الى ان يتمكن احد السجناء من الهروب الى الخارج (العالم الواقعي). يجادل سقراط ان السجين المتحرر سيعود الى الكهف ويحاول تحرير رفاقه السجناء، لأنه يعرف الان ما موجود خارج الكهف وان واقعهم مشوّه.

في نهاية النقاش، يتفق سقراط مع كلاجون على ان السجناء الآخرين من المحتمل ان يقتلوا كل من يحاول تحريرهم، لأنهم لا يريدون مغادرة الراحة والآمان الذي يشعرون به في عالمهم المألوف.

التواصل الاجتماعي social media

بشكل او بآخر، يمكن رؤية التواصل الاجتماعي كنسخة حديثة للكهف. في كل يوم يغمرنا سيل من المعلومات والآراء والصور التي جرى تنظيمها بعناية من خلال الخوارزميات وتُعرض لنا على الشاشة. مثلما في سجناء الكهف، يمكن ان نصبح محاصرين في منظور محدد وخطير نسيء فهم الظلال المعروضة لنا ونحسبها كأشياء واقعية. هذه الظلال تمثل اخبارا كاذبة، نظريات مؤامرة، وبربوغندا تنتشر بوسائل التواصل الاجتماعي. في الحقيقة، الطريقة التي نتصور ونفهم بها الواقع أحدثت تحولا راديكاليا. وهكذا، بينما سهّل لنا الانترنيت الوصول الى كمية غير مسبوقة من المعلومات، فان منصات التواصل الاجتماعي أصبحت هي الوسيط في مشاركة ونشر تلك المعلومات. التواصل الاجتماعي أصبح المصدر الرئيسي للمعرفة للعديد من الناس. مع ذلك، يبقى السؤال : هل سنعرف في يوم ما ماهو الشيء الحقيقي في عصر التواصل الاجتماعي؟

على النطاق الأوسع، بعض المفكرين في مجال الانطولوجي (دراسة ما موجود) يقترحون ان ما نتصوره كواقع هو غير ثابت او موضوعي، وانما متأسس اجتماعيا. هذا يعني ان ما نعتبره واقعيا هو عرضة لتغيير مرتكز على المعتقدات الثقافية والسياق التاريخي. فمثلا، الحصان الخرافي احادي القرن لا يُعتبر واقعيا في مجتمعنا الحالي لكنه جرى الايمان به كشيء واقعي في الثقافات القديمة. لذلك، فان فكرة ما هو واقعي تعتمد على اطارنا الانطولوجي الحالي، ولا يمكن تطبيقها عالميا. وبرؤية مشابهة، الفيلسوف الهندي أدي شانكارا Adi Shankara (700-750م) جادل بان العالم الذي نتعامل معه هو "مايا" – او وهم خُلق بواسطة أذهاننا. طبقا لشانكارا، حواسنا وتفكيرنا يخلق مظهرا لعالم منفصل عن أنفسنا، لكن في الحقيقة، كل شيء هو براهما، او الواقع النهائي، ونحن جزء من ذلك الواقع النهائي. في جوهر هذا التحقيق تكمن مفارقة التصور والمعرفة: كيف نستطيع ان نعرف ما هو واقعي عندما تكون تصوراتنا ذاتية في الأصل وعرضة للخطأ؟ معظم الفلاسفة يعتقدون ان الواقع يوجد بشكل مستقل عن تصوراتنا، واننا نستطيع معرفته من خلال العقل والتحقيق التجريبي. آخرون يزعمون ان الواقع هو ليس اكثر من تجاربنا الذاتية، بينما يؤكد اخرون اننا لن نتمكن ابدا من معرفة ما هو الحقيقي. نعتقد اننا نحتاج للاعتراف بالاعتمادية المتبادلة بين التصور والمعرفة. التصور ليس مجرد تفكير سلبي حول الواقع وانما هو مشاركة نشطة في العالم الذي يتشكل بتجاربنا ومعتقداتنا. ونفس الشيء، المعرفة ليست تجسيد موضوعي او بلا منظور للواقع وانما نتاج لعملياتنا الاجتماعية والادراكية . لذلك، لكي نفهم ما هو حقيقي، يجب علينا الاعتراف بالعلاقات المعقدة والديناميكية بين التصور والمعرفة. نحن يجب علينا أيضا تربية مهارات التفكير النقدي والانخراط في تحقيق صارم لصقل فهمنا للعالم. في النهاية، ان متابعة الحقيقة تتطلب رغبة لإحتضان اللايقين والغموض. نحن قد لا نعرف ابدا ما هو حقيقي بتأكيد مطلق وانما عبر الانخراط في العالم نقديا وبشكل مدروس، نستطيع الوصول لفهم متعمق ودقيق لأنفسنا ومكاننا في العالم.

رغم كل ذلك، يبقى مأزق المعرفة في اننا لا نعرف على وجه التأكيد ان كان هناك واقع خارج تصوراتنا الشخصية له. مع ذلك، كل من رمزية الكهف وما نفترضه الان حول التواصل الاجتماعي، يجعلنا وكأننا ننظر الى عالم داخل عالمنا بدلا من النظر الى الخارج.

التواصل الاجتماعي يصبح عالما ثان، وخطير. الناس يمكنهم صنع ملف شخصي على الانترنت والذي يمكن اعتباره على الأغلب هوية ثانية. في كلتا الحالتين، نحن نتحدث عن عالمين، الأول زائف ومصنّع لكن يقع ضمنه واقع الناس، والثاني حقيقي ويحتوي على الناس الذين يستطيعون أيضا تمييز العالم الأول كعالم غير أصيل. عبر قراءة رمزية افلاطون، نستطيع ان نرى العذاب المطلق للسجناء في الكهف، لكننا نعتقد اننا سلفا دخلنا نسخة التواصل الاجتماعي لتلك الرمزية. في المقارنة، الناس في الكهف يسيئون فهم الظلال على الحائط كواقع. ونفس الشيء، في التواصل الاجتماعي، الناس في الغالب يعرضون أنفسهم بطريقة منظمة ومفلترة للغاية، انهم يعرضون وهماً غير أصيل للواقع. بهذه الطريقة، يمكن للتواصل الاجتماعي ان يخلق معنى مشوّها للواقع، يدفع الافراد ليصبحوا منفصلين عن الواقع الحقيقي. لكن التواصل الاجتماعي لا يقيّد فقط ما نرى وما ينظّم نظرتنا لأنفسنا، هو أيضا يشكل تهديدا للديمقراطية والتنمية المستدامة والحرية والأمن.

ان رمزية الكهف تستكشف فكرة تأكيد الانحياز. السجناء في الكهف يتعرضون فقط لمنظور واحد، ولا يعرفون أي شيء وراء الظلال التي على الحائط. ونفس الشيء، التواصل الاجتماعي يخلق غرف صدى فيها يرى الناس فقط معلومات تؤكد عقائدهم وافكارهم، ويقود الى عدم التعرض لوجهات نظر متنوعة وترسيخ تحيزاتهم القائمة. رمزية الكهف أيضا تسلط الضوء على مفهوم التفكير الجماعي، حيث الناس يتّبعون نفس المعتقدات والأفكار كالأخرين في جماعتهم بدون التحقق من دقتها. هذه الظاهرة باستمرار تُرى في المجتمع الحديث، حيث الناس في الغالب يتبعون آراء زملائهم او جماعة معينة دون فحصها نقديا.

كذلك، بالنسبة الى مقتل السجين الهارب من جانب السجناء الآخرين، الذي تنبأ به سقراط، يشير الى الصعود الحديث لثقافة الإلغاء، حيث نستخدم معتقداتنا الأخلاقية بحماسة ضيقة الأفق ضد أعدائنا الايديولوجيين او كل منْ لا يتفق مع نظرتنا للواقع. ان الإدمان على التواصل الاجتماعي اصبح مشكلة خطيرة، تتمثل في وجود افراد يصبحون معتمدين جدا على الإعجابات والمشاركات والانخراط لدرجة انهم غير قادرين على التخلي عن أجهزتهم. افلاطون أيضا يقترح ان السجناء غير قادرين على تحرير أنفسهم من اسرهم، كونهم مكبلين في أصفاد، ومدمنين على الأوهام.

في رمزية الكهف، السجناء تحت سيطرة قوى خارجية تستغل ما يرون ويسمعون، من خلال التحكم بما يسقط من ظلال وما يرافقها من أصوات. بنفس الطريقة، التواصل الاجتماعي يُستغل عادة من جانب قوى خارجية مثل الخوارزميات وشركات الإعلان والجماعات السياسية التي تؤثر على ما يتعرض له الافراد وكيفية تصورهم للعالم من حولهم. وكما يوضح ايلي باريسر Eli Pariser مؤلف كتاب فقاعة التصفية The filter Bubble(2011)،" في عالم تتحكم فيه خوارزميات معتمة وتقرر ما نرى، نحتاج لنكون حذرين جدا حول ما يتم تقديمه لنا".

رمزية الكهف تستكشف الفرق بين الواقع المتخيل والواقع الحقيقي، وكيف يمكن ان يتشوه فهمنا للواقع بواسطة تجاربنا وتصوراتنا. تماما مثل الظلال على جدار الكهف، المعلومات والاخبار التي نتلقاها عبر مختلف قنوات الاعلام يمكن ان تكون غير تامة ومشوهة، تقودنا الى الاعتقاد بنسخة معينة مشوهة للواقع. صانعو تطبيقات التواصل الاجتماعي هم بالأساس بنوا كهفا لنا، ونحن خضعنا لسلاسلهم. نحن عادة نثق بما نرى في التواصل الاجتماعي او منصات الاخبار بدون التحقق مما يكمن خلفها. لهذا تشير رمزية الكهف الى أهمية استخدام اتجاه نقدي للمعلومات التي نستلمها لكي نمتلك فهما اكثر دقة للواقع.

في الختام، رمزية كهف افلاطون توفر تشبيها مقنعا، وتحذيرا من مخاطر التواصل الاجتماعي. انها تسلط الضوء على الكيفية التي تخلق بها وسائل التواصل الاجتماعي إحساسا مشوها بالواقع، تعزز التحيزات القائمة وتؤثر فينا من خلال القوى الخارجية، مما يقود الى ادمان الافراد وانفصالهم عن الواقع. لذا، بينما يمكن ان تكون وسائل التواصل الاجتماعي أداة مؤثرة وفعالة في الاتصالات والتواصل، من المهم الاطلاع على محدودياتها واحتمالية تشويهها لتصوراتنا.

عبر النظر لكامل الصورة، ومن خلال الاستفادة من دروس رمزية الكهف في وجود شكل مغاير للوجود، يمكننا التعامل مع التعقيدات وحتى مخاطر التواصل الاجتماعي، والعمل نحو فهم اكثر اطلاعا واستنارة للعالم.

***

حاتم حميد محسن

الاستفزاز لا يأتي من الخارج بل يُستثار من الداخل

يخيّل إلينا في لحظات الانفعال أن الناس هم من يستفزّوننا، وأن كلماتهم أو تصرفاتهم هي أصل الغضب الذي يشتعل فينا. غير أن التحليل النفسي الدقيق يكشف أن الاستفزاز ليس فعلًا خارجيًا، بل تفاعل داخلي بين ما نسمعه وما نحمله من جراح غير معالجة. الموقف الخارجي لا يصنع انفعالنا، بل يوقظ ما كان نائمًا في أعماقنا.

الاستفزاز إذن ليس فعلاً خارجيًا، بل مرآة داخلية تعكس ما نخفيه عن أنفسنا. عندما نغضب من كلمة أو موقف، فإننا في الغالب نُعيد تفعيل ذاكرة قديمة: نقدٌ سمعناه في الطفولة، أو إحساسٌ بالرفض لم نتجاوزه. وهكذا يصبح الحاضر ممرًّا للماضي، وتتحرك فينا طبقات دفينة من الانفعال كانت تنتظر فقط من يلامسها لتُعلن حضورها من جديد

حين يلمس أحدهم نقطة ضعف فينا، فهو في الواقع لا يجرحنا من الخارج، بل يُعيدنا إلى جرحٍ قديم لم يُشفَ بعد. تعليق عابر قد يذكّرنا بصوت قاسٍ من الطفولة، أو بنظرة رفض لم ننسها. وهكذا يتحوّل الحاضر إلى مرآةٍ تعكس الماضي، فنغضب من الحدث بينما الجرح الحقيقي في زمنٍ آخر. فالاستفزاز ليس نتيجة الموقف، بل استدعاءٌ للذاكرة الشعورية التي لم تكتمل دورتها.

لكل إنسان خريطة نفسية فريدة تشكلت من تجاربه الأولى، ومن الطريقة التي تعامل بها مع الألم. هذه الخريطة هي التي تحدد كيف نقرأ الواقع ونفهم الآخرين. فالتعليق البسيط الذي يمرّ مرور الكرام على أحدهم، قد يجرح آخر بشدة، لأن رمزيته تمسّ عقدة شخصية لم تُحلّ بعد. حين نُدرك هذا، نبدأ نفهم أن ردود أفعالنا ليست موضوعية دائمًا، بل مشروطة بتاريخنا الداخلي

فهم الخريطة النفسية ومسافة الوعي

لكل إنسان بوصلة نفسية خفية، هي مجموع التجارب والصدمات الصغيرة التي شكّلت طريقة تفاعله مع العالم. هذه الخريطة تعمل بصمت، وتحدد كيف نقرأ الأحداث ونفسّرها. حين نتجاهلها، نصبح أسرى لتكرار الانفعالات القديمة. وعندما نعيها، نبدأ نستعيد حريتنا الداخلية.

إنّ الوعي بهذه الخريطة يخلق ما يسميه علماء النفس المسافة النفسية: قدرة على مراقبة الانفعال بدل التماهي معه. فبدل أن تقول: “أنا غاضب”، تدرك أن هناك “غضبًا يمرّ في داخلي”. هذه اللغة البسيطة تغيّر المعادلة بأكملها؛ لأنك لم تعد تُعرّف نفسك بانفعالك، بل ترى الانفعال كحدثٍ عابرٍ في مجال الوعي.

هنا يتحول الاستفزاز من فعلٍ جارح إلى معلومة وعي؛ يخبرك أن في داخلك منطقة تحتاج إلى النظر والاحتواء، لا إلى القمع أو التبرير. فكل انفعال هو رسالة من عمقك، لا عدوان من الخارج.

العيش في الآن… طريق التحرر من الاستفزاز

التحرر من الاستفزاز لا يتحقق بالتحكّم القسري في المشاعر، بل بالعودة إلى اللحظة الحاضرة؛ إلى الآن الذي لا يحمل ذاكرة ولا خوفًا. فالوعي بالحاضر يقطع سلسلة التفاعل التلقائي بين الموقف والانفعال، ويمنحك فسحة تأمل ترى فيها ما يحدث دون اندماج.

في الحضور الواعي، لا يعود الغضب عدوًّا، بل إشارة إلى موضع الألم. والمشاعر المؤلمة لا تُقاوَم، بل تُفهم. هذا الفهم هو جوهر النضج الشعوري: أن تدرك من فيك هو الذي استُفزّ، وأن تمنح القيادة لذاتك الراصدة لا لذاتك الجريحة.

الاستفزاز لا يحدث لأن الآخرين قساة، بل لأن في داخلنا صوتًا لم يُسمع بعد، وجزءًا ينتظر الاعتراف به. حين ندرك ذلك، يتحول الموقف المزعج من تجربة سلبية إلى فرصة علاجية. كل إحساس بالضيق يحمل في جوهره بابًا نحو معرفة الذات، وكل لحظة استفزاز هي نداء خفي من الجرح القديم ليُرى ويُحتضن أخيرًا

حين تبلغ هذا المستوى من البصيرة، تدرك أن لا أحد يملك القدرة على استفزازك حقًّا؛ لأنك لم تعد تتفاعل من الجرح، بل من الوعي. يصبح الموقف الخارجي مجرّد فرصة للفهم لا للانفعال، وتتحوّل المشاعر المؤلمة من خصمٍ إلى معلم.

إن النضج النفسي لا يعني انعدام الانفعال، بل القدرة على تحويله إلى معرفة. وحين يحدث ذلك، يتبدل معنى الحياة ذاتها: فكل موقف مستفز يصبح درسًا في الشفاء، وكل انفعال مؤلم يصبح مرآة للذات العميقة التي تتوق لأن تُرى بصفاء. في هذا الأفق، لا يعود الآخر عدوًّا، بل شريكًا في عملية الوعي الكبرى التي لا تنتهي.

***

يونس الديدي - كاتب مغربي مختص في الشؤون الاجتماعية والسياسية

من ابرز حالات تطور الفكر في التاريخ العربي، ظهور (المعتزلة) في البصرة بداية القرن التاني الهجري. ومن أجرأ ما فعلته انها غلّبت (العقل على النقل)، وقالوا بالفكر قبل السمع، ورفضوا الأحاديث التى لا يقرّها العقل حسب وصفهم، وقالوا بوجوب معرفة الله بالعقل ولو لم يرد شرع بذلك.. فأثارت اشكالية جدلية في تساؤل:

هل هم مفكرون مجددون أم كفرة وزنادقة؟

ومن اهم واخطر ما امتازت به انها مارست نقد الفكر والعقائد التي تعتمد التقديس والتسليم بما يعدّ تراثا مستخدمة المنطق في نقد قضايا دينية وحياتية يومية. وانفردت في نقد العامة من الناس بل واحتقارها لهم.. وكان من بين ابرز فلاسفة هذه الفرقة الكلامية (ثمامة بن الاشرس) الذي حظي بمكانة كبيرة عند الخليفة المأمون. ويروى عنه قوله للمأمون:وما العامة ؟ والله لو وجهت انسانا على عاتقه سواد ومعه عصا لساق اليك عشرة آلاف منها وقد سواها الله بالانعام فقال: (أم تحسب ان اكثرهم يسمعون او يعقلون، ان هم الا كالانعام بل اظلّ سبيلا).

اشكالية الاسم

يميل المفكر المصري أحمد أمين إلى أن اسم (المعتزلة) جاء من إطلاق بعض اليهود الذين اعتنقوا الإسلام، بسبب الفرقة اليهودية التى ظهرت بعد السبى البابلى والمعروفة بـ"الفروشيم"، وهى كلمة عبرية يردافها بالعربية اسم "المعتزلة". غير ان المستشرق السويدى هنريك صمويل نيبرج اعترض على هذا التفسير التاريخي لاسم المعتزلة، فيما أورد المؤرخ الشهير المسعودى أن أصل كلمة "اعتزال" هو القول بالمنزلة بين المنزلتين، أى باعتزال صاحب الكبيرة عن المؤمنين والكافرين، إذ جاء المصطلح من طبيعة المعتقد نفسه كالمرجّئة الذين بالغوا فى الرجاء أو أرجؤوا العمل، والرافضة الذين قالوا برفض خلافة أبى بكر وعمر.

نشأة الحركة

بحسب دراسة بعنوان "المعتزلة" للدكتور مصطفى حلمى، تكاد تجمع المصادر التاريخية وكتب الفرق على أن نشأة مذهب الاعتزال ترجع إلى اختلاف واصل بن عطاء مع شيخه الحسن البصرى (110هـ) في الحكم على مرتكب الكبيرة، واعتزاله مجلسه لهذا السبب، فيما عدا هذه الرواية الشهيرة فإن الملطى - توفي سنة (377) - يعود بنشأة المعتزلة إلى أيام تنازل الحسن بن على عن الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان، لأنهم كانوا من أصحاب على فاعتزلوا الناس ولزموا البيت والمساجد قائلين "نشتغل بالعلم والعبادة فسموا بذلك المعتزلة".. والأرجح الرواية الأولى.

ومن أشهر الأقوال فى هذا الإطار ما يرويه الشهرستانى أن واصل بن عطاء تلميذ الحسن البصرى اعتزل مجلس الأخير حين اختلف معه فى مسألة مرتكب الكبيرة من المسلمين، وأنه ليس بمؤمن ولا كافر بل هو فى منزلة بين المنزلتين، حيث قال الحسن البصرى تعليقًا على انفصال ابن عطاء عن حلقته "اعتزل عنا واصل"، ومن هنا، بحسب هذا القول، جاء اسم المعتزلة.

خمسة اصول.. شرط الأعتزال

ما يميز المعتزلة انها اعتمدت خمسة اصول او عقائد هي: التوحيد، العدل، الوعد والوعيد، المنزلة بين المنزلتين، والامر بالمعروف والنهي عن المنكر.. واشترطوا على من يريد ان يكون (معتزلا) ان يؤمن بها، وانه لا يستحق اسم الاعتزال حتى يجمع القول بهذه الأصول الخمسة، على حد تعبير ابو الحسين الخياط احد كبار أئمتهم.

ويعني التوحيد عندهم، نفي كلّ الصفات عن الله مثل السمع والبصر بهدف تنزيهه.. ومنها توصلوا الى فكرة خلق القرآن. ويقوم (العدل) عندهم عل فكرة العقل وقياس احكام الله على ما يرضي العقل والمنطق، ولهذا فهم نفوا ان يكون الله هو الذي خلق افعال عباده السيئة ومحاسبا عليها بآن واحد، فلا يمكن ان يخلق الله لعباده الا الصلاح والخير.. وبهذا يكون المعتزلة اول من خالف عقيدة القدر ونفوها.

وتقوم فكرة (المنزلة بين المنزلتين) على وجود منزلة ما بين الكفر والايمان يقع فيها الفاسق، فان تاب ورجع فقد أمن على نفسه وان مات على كفره فهو خالد في عذاب جهنم، فيما يقصد بالوعد والوعيد هو ان يحكم الله بالعدل المطلق في الاخرة، فمن اطاع الله في حياته جزاؤه الثواب ومن ارتكب المعاصي لا يعفو عنه.

وخامس اصولهم هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويقصد بها فكرة الموقف من الحاكم الجائر.. الفاسق هل يجب القيام عليه او السكوت عنه والخضوع له.

ونعيد الرأي بأن اسم المعتزلة جاء بعد الخلاف الذي جرى بين واصل بن عطاء (ت 131هج) وشيخه الحسن البصري (ت 110 هج) فاعتزل شيخه وأنشأ لنفسه مدرسة ومذهبا خاصا به، فقال الحسن البصري (اعتزلنا واصل). ما يعني أن نشأة المعتزلة حدثت من هذه الواقعة، وليست من واقعة تنازل الحسن بن علي عن الخلافة لمعاوية كما تذكر رواية أخرى، مع ان كلا الروايتين تتفقان على ان المعتزلة اختلفوا مع اهل السنّة والجماعة في مسائل تخص العقل في العقيدة الاسلامية كرؤية الله وقصة خلق القرآن. ولهذا وصفهم كثيرون بانهم ظلوا وانحرفوا عن العقيدة الصحيحة التي جاء بها النبي محمد، وانها خالفت في تأويلها افعال الله وابتدعت كلاما باطلا في كلام الله.. و(الأخطر) انها تعتمد المنطق وتقدمه على الوحي.

ويذكر الدكتور علي الوردي في كتابه (وعّاظ السلاطين) أن المعتزلة يعتقدون أن عليّا كان أولى من ابي بكر بالخلافة وافضل منه، ولكنهم يرون مع ذلك جواز تقديم المفضول على الفاضل اذا اقتضت ذلك مصلحة المسلمين. ويستندون في هذا على تصريح ابي بكر في خطبته التي افتتح بها عهد خلافته اذ قال :" اما بعد أيها الناس فاني قد وليت عليكم ولست بخيركم.. " (ص 190).

طه حسين ومعروف الرصافي

في العام 1928، دُعِي عميد الأدب العربي، الدكتور طه حسين، إلى مؤتمر المستشرقين في أكسفورد، فقدّم باللغة الفرنسية ورقتيْن بحثيتيْن؛ إحداهما بعنوان: «استخدام ضمير الغائب فى القرآن كإسم إشارة»، والأخرى كانت بعنوان: «المعتزلة وليبنتز»، تستهدف عقد مقارنة بين المعتزلة، كإحدى أكبر فرق المتكلمين في الفكر الإسلامي، وبين الفيلسوف الألمانى الشهير، ليبنتز(1646- 1716 فيلسوف، وفيزيائي، ومحامي، ومستشار سياسي)، ختمها بهذا التساؤل:

«هل من قبيل المصادفة البحتة وجود هذا التشابه، وأكاد أقول هذا التماثل الكامل بين المذهبين؟. أو أن المعتزلة أثروا على ليبنتز من خلال الفلسفة المدرسية؟. ذلك سؤال لا أسمح لنفسى بأن أجيب عنه، ويكفينى أننى طرحته".

غير ان معروف الرصافي في كتابه (الشخصية المحمدية) يوضح ما هو اكثر بقوله ان الحسن البصري (الذي لا يرتاح له معروف!) وصف بالفصاحة وبالعلم والتقوى، وان له حلقة في مسجد البصرة يرتادها رواد العلم في زمانه.

ونشير الى ان البصرة كانت يومها الحاضرة الثقافية للدولة العربية يتخرج فيها طلاب الفقه والنظر في العقائد وعلوم اللغة والادب والشعر. وكان واصل بن عطاء، الألثغ الذي لا يحسن نطق حرف الراء.. ويستبدل الكلمات التي فيها (راء) بأخرى خالية منه تؤدي نفس المعنى! من بين من يحضرون مجلسه يتذاكرون في المسائل العلمية من اصول الدين وفروعه، فكان واصل من الآخذين عن الحسن البصري. ولما اثبت ابن عطاء (المنزلة بين المنزلتين) أمره الحسن باعتزال مجلسه، فاعتزل هو وبعض اصحابه وألفوا حلقة أخرى في ناحية من نواحي المسجد، فاطلق الناس عليهم اسم المعتزلة (صفحة 749).

ومع أن الرصافي يصف حادثة الأعتزال بأنها تعدّ أول انشقاق مذهبي حدثت في الوحدة الأسلامية، فاننا نرى ان هذا هو اول تفعيل للعقل الاسلامي في حرية التفكير وأول تحد في تناول(الممنوع) لما يعدّ مقدسا وجعله مسموحا في اخضاعه للمنطق. ويحسب لهم انهم تمكنوا من التأثير في السلطة ونظام الحكم يوم استطاعوا جعل الخليفة المأمون يؤمن بافكارهم، لاسيما القول بخلق القرآن الذي ينافي الفكر السائد بان القرآن قديم غير مخلوق فيما هم ارادوا ان يقيموا العقيدة الدينية على اساس العقل والتفكير المنطقي كما يرون.. بل انهم دفعوا المأمون عام 218 هجرية الى ان يجمع القضاة ويمتحنهم في قضية خلق القرآن في واقعة فكرية سميت (المحنة) وصفها الدكتور علي الوردي في كتابه (منطق ابن خلدون) بأنها كانت حدثا مهما في تاريخ الاسلام الفكري استمرت اربعة عشر عاما لقي فيها المعارضون لفكرة خلق القرآن شتى انواع الاضطهاد والبلوى (صفحة219). من جانب آخر، ان المعتزلة الذين استخدموا الخليفة المأمون في نشر مذهبهم بين الناس، مالوا الى اضطهاد كل من يخالفهم الرأي.

وكان الامام احمد بن حنبل من اشد المعارضين لفكرة المعتزلة، مبررا ذلك بأنه لا يصح ان تصل فكرة خلق القرآن الى العامة لأنها ستؤدي الى عدم التقديس وضعف الأيمان، فيما ردّ المعتزلة بالقول ان عقيدة العامة قد فسدت بتأثير الأساطير والخرافات التي راجت بينهم، ولا يمكن اصلاحها الا عن طريق تعويدهم على النظر العقلي في أمورهم الدينية.

رأيان متضادان.. كلاهما صحيح!

ما يعجبك في هذين الرأين المتضادين، ان كليهما صحيح! برغم أن أحدهما ثابت وآخر متحول. وكان يفترض تعميق هذه الممارسة الفكرية في نقد العقل الديني، لكنها انتهت للأسف بخلافة المتوكل(اغتيل في 247هج)، اذ يقول المسعودي:

(لما افضت الخلافة للمتوكل أمر بترك النظر والمباحثة في الجدال، وأمر الناس بالتسليم والتقليد)(ص 199)، وصاروا يضطهدون ويطاردون المعتزلة ويضطهدونهم اضطهادا مزريا  متهمينهم بالزندقة.. ومنها ظهر القول المشهور (من تمنطق فقد تزندق). وقد اقصاهم المتوكل عن مناصبهم التي كانوا فيها على عهد اسلافه الثلاثة. ومن قبيح ما فعل انه امر عامله بمصر ان يحلق لحية قاضي القضاة هنالك اذ كان معتزلا شديدا، وان يضربه ويطوف به على حمار في الاسواق.

ويذكر احمد امين في كتابه ضحى الاسلام ان المتوكل كان من اظلم الخلفاء ومن اكثرهم عربدة ودناءة وسفكا، وقد سماه بعض المستشرقين (نيرون الشرق). ج 3 ص 198

والحقيقة التي يغفلها كثيرون، انه حيثما شاعت فكرة (نقد الدين تحديدا) قابلة للحوار والجدل، وتعرض فلاسفتها الى الأضطهاد فانه، يظهر مفكرون وفلاسفة، يحيونها او يطورونها او يدينونها، وقد ظهر في حينه فلاسفة كبار من بينهم الكندي والفارابي وابن سينا وابن مسكوية، فيما ظهر حديثا مفكرون تأثروا بفكر المعتزلة الى هذا الحد او ذاك مثل جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي.

ولأننا نعيش الآن مرحلة فكرية مشابهة فان اثارة مثل هكذا قضايا فكرية جدلية تؤدي الى ظهور فلاسفة ومفكرين ومثقفين جدد يشيعون نقد العقل الديني بما يجعل العقل الجمعي العربي يتحرر من التسليم بمعتقدات دون ان يعمل عقله فيها، وتمكّنه أن ينتقي منها ما يتلاءم وافكار ومعتقدات العصر الأيجابية التي تحترم كرامة الانسان وتجعل لوجوده معنى.

***

أ. د. قاسم حسين صالح

دور الوثنية السياسية والطاعة المطلقة في إدامة النيوكولونيالية

البيئة الحاضنة للوثنية السياسية

إنّ الوثنية السياسية لا تنشأ أو تزدهر في المجتمعات التي تتبنى آليات ديمقراطية تسمح بتداول السلطة. ففي تلك المجتمعات، يُنظر إلى الحاكم على أنه مجرد مُنفِّذ للسياسات، يُختار وفق نظام موضوع سلفاً، ويمكن استبداله دون تردد إذا انحرف عن المسار أو أخفق.

كما تغيب هذه الظاهرة في المجتمعات المتقدمة علمياً والمتمتعة بوعي نقدي، حيث يدرك الشعب حقوقه وواجباته، ويعي أن الحاكم مسؤول أمام المجتمع عن السهر على مصالحه ورعاية شؤونه. فهذه الشعوب تنصرف إلى متطلبات التقدم العلمي عوضاً عن تقديس أي شخص كان. وفي المقابل، لا يمكن أن تنتشر الوثنية السياسية في المجتمعات التي تُحكم بشريعة الله، لأن الشريعة تشدد على نبذ الوثنية باعتبارها المدخل الصحيح للتوحيد.

نقد مفهوم الاستكانة (صناعة الطاعة المطلقة)

تُعدّ صناعة الطاعة المطلقة ركيزة مكمّلة وضرورية للوثنية السياسية. فالهدف من هذه الصناعة هو إزالة أي إمكانية للمراجعة أو المساءلة، وضمان الإذعان غير المشروط.

إن فرض الطاعة المطلقة يُنشئ "ثقافة الامتثال" بدلاً من "التفكير النقدي"، الأمر الذي يفضي إلى السلطوية الفكرية وقمع النقد. والأهم من ذلك، أن الطاعة المطلقة تمثل جسراً هيكلياً بين الهيمنة الأيديولوجية والاستغلال الاقتصادي؛ فالقوى الاستعمارية الجديدة لا تحتاج فقط إلى حاكم عميل، بل تحتاج إلى مجتمع خاضع لا يثور. الطاعة المطلقة تلغي مبدأ المقاومة (سنة المدافعة)، مما يضمن الاستقرار الداخلي الذي يسمح باستدامة عملية استنزاف الفائض الاقتصادي التي تتحدث عنها نظرية التبعية.

الإطار النظري للسيطرة غير المباشرة (النيوكولونيالية)

تشير النيوكولونيالية إلى ممارسة السيطرة الاقتصادية والسياسية غير المباشرة على الدول التي نالت استقلالها الشكلي بعد الحرب العالمية الثانية. جوهر هذا المفهوم هو أن الدولة التابعة تكون "مستقلة نظرياً ولها جميع مظاهر السيادة الدولية"، لكن في الواقع، يبقى نظامها الاقتصادي، وما يتبعه من تشكيل للوثنية السياسية والاستبداد، شرطاً هيكلياً مسبقاً لاستدامة التبعية للمستعمر. لكي تتمكن قوى النيوكولونيالية من استنزاف الفائض الاقتصادي، فإنها تحتاج إلى نظام داخلي يضمن عدم المقاومة الشعبية لهذا الاستنزاف. لهذا السبب، يُنظر إلى الأنظمة الاستبدادية، التي تعتمد على الوثنية السياسية والطاعة المطلقة لـ “تحصين" نفسها ضد الثورة والمدافعة، كشريك مثالي. فالاستبداد الداخلي هو الضامن الهيكلي للاستقرار السياسي الذي تتطلبه الهيمنة الخارجية.

تكريس التبعية المالية والسلطوية

تمثل المؤسسات المالية الدولية، وعلى رأسها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، أدوات رئيسية في إدامة أنظمة التبعية. تأسست هذه المؤسسات لتعزيز التعاون والتنمية، حيث يركز البنك على التنمية طويلة الأجل، بينما يركز الصندوق على استقرار الاقتصاد الكلي. ومع ذلك، من منظور النقد النيوكولونيالي والتبعية، تُتهم هذه المؤسسات بفرض شروط وسياسات اقتصادية (غالباً ما تكون مؤلمة شعبياً) تخدم في المقام الأول مصالح المراكز الرأسمالية، مما يفاقم التبعية. وهنا يبرز الارتباط الوظيفي بين هذه المؤسسات والأنظمة الاستبدادية.

فالأنظمة المعتمدة على الطاعة المطلقة تكون أكثر قدرة واستعداداً لتطبيق الإصلاحات المؤلمة التي تفرضها المؤسسات المالية الدولية، وذلك بسبب غياب المساءلة الديمقراطية. إن الدعم المالي والاعتراف الدولي الذي تحصل عليه هذه الأنظمة السلطوية يمثل مكافأة على تكريسها للوثنية السياسية. وعندما يقدم الغرب هذا الدعم للأنظمة التي تكرس تقديس الحاكم، فإنه يوفر لها أدوات البقاء، سواء كان ذلك عبر الدعم الاقتصادي، أو عبر التكنولوجيا اللازمة للتعبئة السياسية والرقابة، مما يعزز الاستبداد والوثنية السياسية داخلياً. هذا الدعم يلغي أي ضغط شعبي قد يدفع الحاكم إلى المراجعة، لذا يُحوَّل الدعم الاقتصادي إلى أداة لترسيخ الاستبداد الذي يضمن الوصول السهل إلى الموارد.

هندسة الوعي الجمعي وتجنيد النخب

إن الاستعمار الجديد (النيوكولونيالية) لا يعتمد على العنف المباشر فحسب، بل يرتكز بشكل أساسي على استتباع النخب المحلية. هذه النخب، التي يتم توظيفها برضا منها، تمثل "المفاتيح الطبيعية لأي مجتمع"، وتتميز بنقاط ضعف متعددة مثل الحاجات والرغبات والمطامع.

وظيفة هذه النخب مزدوجة: فهي تخدم المصالح الخارجية، وفي الوقت ذاته، تعزز استدامة الأنظمة الاستبدادية الداخلية التي تتبنى الوثنية السياسية. تُعد النخبة التابعة ضرورية لأنها تمتلك المشروعية والسلطة الثقافية اللازمة لإضفاء الشرعية على الهيمنة الخارجية. تتولى هذه النخب (الأكاديمية، والصحفية، والمشرّعنة) تقديم قراءات تعسفية أو توفير الدعم الشرعي لمشاريع الهيمنة.

كما تقوم النخبة بوظيفة حيوية تتمثل في التخفيف من عبء الهيمنة المباشرة و"امتصاص ردود فعل الجمهور الغاضب من خسارة السيادة والموارد". هذا التوظيف للنخب يمثل الطريق الأقصر للهيمنة، والأقل تكلفة مقارنةً بالتعامل العادل مع الشعوب. غالباً ما تكون العلاقة بين النخب التابعة والقوى الخارجية ليس مجرد ولاء، بل يتم فرضه عبر "إكراه ملطف ومتفق عليه"، حيث يتم ابتزاز النخب من خلال ربطها بالبنى التحتية المالية والاقتصادية والمعلوماتية الخارجية، مما يضمن طاعتهم للنظام الخارجي وإدامتهم للوثنية السياسية محلياً.

النتائج الاستراتيجية

إن صناعة الوثنية السياسية والطاعة المطلقة هي الآلية الأيديولوجية المركزية التي تسمح "بالهيمنة الأكثر فعالية" للنيوكولونيالية. هذه الآليات لا تمثل مجرد ظواهر داخلية، بل هي ترجمة للمصالح الاقتصادية الخارجية في شكل نظام سياسي داخلي مستقر وغير قابل للمساءلة. تتجسد هذه العلاقة في حلقة مفرغة.

فالنيوكولونيالية تحتاج إلى استقرار سلطوي لضمان سحب الفائض الاقتصادي (التبعية). هذا الاستقرار يُصنع عبر الوثنية السياسية (تقديس الحاكم وتأليهه). ويتم تنفيذ وتبرير هذه الوثنية بواسطة النخب التابعة التي توفر الشرعية وامتصاص الغضب، وبواسطة إعلام السلطة الذي يهندس الوعي الجمعي ويُشكِّل مجتمعاً ممتثلاً.

الاستنتاجات والتوصيات الإستراتيجية

تعزيز الاستقلال الفكري والسياسي: يجب إعادة تأطير مفهوم "طاعة الحاكم" ضمن الفكر السياسي والاجتماعي ليصبح طاعة وظيفية ومشروطة بالصالح العام والشريعة، وإلغاء فكرة الطاعة المطلقة أو الاستكانة التي روجت لها أدبيات الاستبداد.

بناء الوعي النقدي والمدافعة: يجب استثمار استراتيجي في إصلاح التعليم والإعلام البديل لتشجيع التفكير النقدي، وترسيخ ثقافة المدافعة ومقاومة الظلم كحق دستوري وشرعي، مما يرفع تكلفة الاستبداد الداخلي ويجبر الحاكم على تلبية مصالح شعبه.

تحدي الهيمنة الاقتصادية عبر التنمية الذاتية: يجب العمل على استراتيجيات تنموية قائمة على التعاون الإقليمي ومواجهة الهيمنة الرأسمالية، وربط المساعدات الدولية (مثل تلك التي يقدمها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي) بشروط الشفافية والحوكمة الديمقراطية، بدلاً من دعم الاستقرار القمعي.

فضح آليات تجنيد النخب: يجب الكشف عن آليات الابتزاز التي تستخدمها القوى الخارجية والأنظمة الاستبدادية لتدجين النخب، والعمل على بناء نخب وطنية مستقلة قادرة على القيادة والتنمية الذاتية بدلاً من أن تكون جسراً للسيطرة الخارجية.

***

غالب المسعودي

.......................

المراجع

Political Idolatry - Shepherd of Hope

الوثنية السياسية وعبادة القصور - رابطة أدباء الشام (odabasham.net)

سجاد مصطفى حمود: تأثير البيئة الثقافية على تشكيل الوعي الجمعي (صحيفة المثقف، almothaqaf.com). (“صحيفة المثقف

... (كونغرا ستار، kongra-star.org)

Neocolonialism | Research Starters (EBSCO)

النيوكولونيالية والتبعية Neocolonialism (Wikipedia)

نظريـة التبعيـة وقضايا البيئة والتنميـة (mail.almerja.com)

آليات الاستبداد الداخلي آليات الاستبداد وإعادة إنتاجه في الواقع العربي

 - https://koha.birzeit.edu/cgi-bin/koha/opac-ISBDdetail.pl?biblionumber=274944

 

توطئة: هذا النص هو امتدادٌ لما طرحته في مقالي السابق “من البروليتاريا إلى الكومنتاريا”. غير أنّه لا يسعى إلى التكرار بقدر ما يحاول تعميق الفكرة، عبر استدعاء أفقٍ فلسفي أوسع يُجاور ما كتبه فوكو وبرودون وبورديو، بوصفهم ثلاثيّ الوعي الذي اشتبك مع مفهوم السلطة من زوايا مختلفة: السلطة كجسدٍ للمعرفة، والملكية كقيدٍ على الحرية، والهيمنة كعنفٍ رمزيّ يتخفّى في اللغة والتعليم. في هذا الامتداد، تتحوّل الكومنتاريا إلى مختبرٍ جديد للمعنى، وتُصبح الثورة فعلًا معرفيًا وليس صدامًا طبقيًا فقط، إذ لم يَعُد الصراع يدور حول من يُنتج الخبز، بل حول من يُسمّي الجوع… من يُعيد تعريف الشبع والمعنى في آنٍ واحد.

لم يكن مفهوم الطبقة يومًا شأنًا اقتصاديًا محضًا، بل طريقة في النظر إلى الإنسان من حيث وعيه بموقعه في العالم. حين تحدّث ماركس عن البروليتاريا، لم يكن يعني فقط أولئك الذين يبيعون جهدهم في سوق العمل، بل أولئك الذين جُرّدوا من أي سلطة على أدوات إنتاج المعنى. كانت البروليتاريا في جوهرها احتجاجًا على النظام الذي يُحوِّل الإنسان إلى وظيفة في ماكينة الرأسمال. غير أنّ ما تغيّر منذ منتصف القرن العشرين، هو أن الماكينة لم تَعُد فقط مادية، بل أصبحت رمزية، وأن أدوات الإنتاج لم تَعُد المطرقة والمصنع، بل الخوارزمية والمنصّة، والمعرفة القابلة للتداول كسلعة. من هنا ولدت طبقة جديدة — ليست اقتصادية بالمعنى الكلاسيكي، بل معرفية — هي ما أسميه “الكومنتاريا”: أولئك الذين يُنتجون التأثير، ويُعيدون صياغة المعنى عبر الكلمة، الصورة، التعليم، والتحليل، في زمنٍ تحوّل فيه الإدراك إلى حقل صراع طبقي جديد… صراعٍ لم يعُد بين العامل وربّ العمل، بل بين المُنتِج للمعنى والمُستهلِك له.

لقد كانت البروليتاريا تصنع الحديد والخبز، أما الكومنتاريا فتصنع اللغة التي يُؤكل بها الخبز، وتُكتب بها الشعارات على الحديد. والسلطة التي كانت تُراقب العامل في المصنع صارت تُراقب المستخدم عبر الشاشة. هكذا انتقلت المعركة من السيطرة على الجسد إلى السيطرة على الوعي، ومن مراقبة الحركة إلى مراقبة الفكرة. في هذا السياق يمكن استدعاء بورديو، الذي رأى أنّ الهيمنة لا تُمارَس فقط بالعنف المادي، بل بالعنف الرمزي الذي يجعل المقهور يقتنع بعدالة القهر. السلطة لا تقول لك “اخضع”، بل تُقنعك بأنّ ما تفعله هو إرادتك، كما لو أنّ الطاعة وُلدت من الحرية نفسها. وهنا تتحوّل التوتاليتارية من نظامٍ سياسي إلى نمط إدراكٍ للعالم، إلى بنية ثقافية تتسلل إلى اللغة، إلى المدرسة، إلى التلفاز، فتجعل الطاعة تبدو شكلًا من أشكال الانتماء… كأنها قدر جميل لا يُناقَش.

التوتاليتارية الحديثة، سواء تجلّت في ثوبٍ عسكري أو ديني أو تقني، لا تسعى إلى تكميم الأفواه بقدر ما تُحاول احتلال اللغة نفسها. فهي تعرف أن “من يملك السيطرة على الحقول الرمزية يملك القدرة على تحديد ما يُعدّ واقعًا”، كما قال بورديو.

لذلك لم تعد السلطة تقتل خصومها، بل تُعيد تعريفهم، وتمنحهم لغةً ناعمة للسكوت. وحين يُصادر المعجم، يصبح التفكير خيانةً لغوية. من هنا، فإن التوتاليتارية تخشىالكومنتاريا أكثر مما خافت يومًا من البروليتاريا، لأنها لا تستطيع تأميم الفكرة كما أمّمت المصنع.

العامل يمكن تسريحه، أما الوعي فلا يُفصل بقرار. ولهذا رأينا الأنظمة الشمولية تطارد الكلمة قبل الرصاصة، وتخاف من القصيدة أكثر مما تخاف من المظاهرة. إنها تدرك أن “المعنى”، لا الرصاص، هو ما يُهدد وجودها.

في المقابل، أظهر فوكو أنّ السلطة ليست هرمًا يُسيطر من الأعلى، بل شبكة من العلاقات تنتج الطاعة عبر المراقبة والانضباط. لم يَعُد القمع فعلًا خارجيًا بل ممارسة داخلية، يسكنها الخوف والرغبة في آنٍ واحد.

حين يراقب الإنسان نفسه، تتحقق التوتاليتارية بأكثر أشكالها نجاحًا. فليست السجون هي التي تصنع الطاعة، بل المدرسة، والمنبر، وشاشة الهاتف. إنّها شبكة من الانضباطات الدقيقة التي تُربّي الجسد على الامتثال، والعقل على التصديق، والخيال على التبرير.

وهكذا، حين يتعب الحديد من المطرقة، يبدأ الوعي في الطَرق… لا ليُعيد تشكيل المعدن، بل ليُعيد تشكيل الإنسان.

أما برودون، الذي قال إنّ “الملكية سرقة”، فقد فهم باكرًا أن المسألة ليست في المال أو الأرض، بل في فكرة الامتلاك نفسها: امتلاك الشيء هو أول خطوة لامتلاك الإنسان. ولذلك دعا إلى مجتمع لا تُدار فيه السلطة من مركز، بل تُبنى على التعاون الأفقي بين الأفراد. إنه ضدّ التوتاليتارية قبل أن تُولد، وضدّ كل سلطة تحتكر القرار والمعنى. فبرودون لا يرفض الملكية بوصفها اقتصادًا فقط، بل بوصفها علاقة هيمنة، كما لو أنّ الأرض حين تُقسَّم، يُقسَّم معها الوعي.

في قلب هذه الجدلية يقف الإنسان، كما تصوّره فوكو وبورديو معًا: إنسان لم يعُد حرًا من الخارج، بل من الداخل أيضًا. الرأسمالية الجديدة لم تَعُد تفرض العمل بالقوة، بل تُحوِّله إلى شغف. لم تَعُد تُرغم على الطاعة، بل تُغريك بها. الكومنتاريا هنا تواجه أصعب مهمة: أن تُعيد المعنى إلى اللغة التي أفرغتها السوق من محتواها، وأن تُعيد الوعي إلى الفرد الذي أُقنع بأنّ الاختيار مجرد شعارٍ على شاشة كومبيوتر، او جوال.

إنها مواجهة لا سلاح فيها إلا الوعي، ولا ميدان لها إلا اللغة. إنّها الثورة التي تُقام داخل الكلمة لا في الشارع، داخل الصورة لا أمامها.

التوتاليتارية في صورتها الحديثة ليست ستالينية فقط، بل قد تكون ليبرالية متخفية، تُخضعك عبر فائض الحرية لا عبر نقصها. فهي تمنحك مساحةً لتتكلم، لكنّها تتحكّم في الخوارزمية التي تُسمعك. تمنحك الكاميرا لتُعبّر، لكنها تملك المنصّة التي تُقرّر من يُشاهد. هنا يصبح “الكولاك” مجازًا جديدًا لضحايا هذا النظام الرقمي، أولئك الذين لا يملكون إلّا حضورهم الهشّ على الشاشة، في مواجهة قلةٍ من الأغنياء الرمزيين الذين يحتكرون الضوء. ما فعله ستالين يومًا بالأرض، تفعله اليوم الشركات بالخوارزمية: تأميمٌ جديد، لا للمزارع بل للمعنى نفسه.

وهنا يلتقي فكر برودون مع بورديو في نقطةٍ حاسمة: أنّ العدالة لا تتحقق بتوزيع الثروة فقط، بل بتوزيع السلطة على المعنى. العدالة الحقيقية ليست في امتلاك الخبز، بل في امتلاك القدرة على تسمية الجوع. من لا يستطيع أن يُسمّي ظلمه لن يقدر على مقاومته. لذلك فإن الكومنتاريا، في بعدها الأعمق، ليست طبقة جديدة بقدر ما هي وعي جديد بالهيمنة، مقاومة رمزية ضدّ استلابٍ مزدوج: مادي ومعرفي. إنها محاولة لإعادة الإنسان إلى موقع الفاعل بعد أن حُوّل إلى متفرّجٍ دائمٍ على حياته.

في زمن الكومنتاريا، لم تَعُد الحرب على العمال فقط، بل على المفاهيم ذاتها: ما هو الوطن؟

من هو المواطن؟

ما هو الجمال؟

 حتى اللغة أصبحت ميدانًا للسيطرة، وكل إعادة تعريفٍ لِكلمةٍ تُعدّ معركة صغيرة في حرب طويلة ضدّ التوتاليتارية الرمزية. اللغة نفسها تحوّلت إلى ميدان للهيمنة: تُصاغ الكلمات كقوانين، وتُدار القواميس كمؤسساتٍ للسلطة. وكما قال فوكو، “كل سلطة تنتج خطابًا، وكل خطابٍ يحمل إمكانية المقاومة”، لكن تلك الإمكانية لا تُدرك إلا حين يستيقظ الوعي من سباته ويبدأ في الطَرق… تمامًا كما يفعل الحديد حين يتعب من المطرقة ويقرّر أن يطرق ذاته.

لهذا فإنّ الوعي هو السلاح الأخير حين تُصادَر البنادق، والمعرفة هي الشكل الأعلى للفعل السياسي حين تُغلق الميادين. الوعي ليس ترفًا فكريًا، بل بوصلة نجاةٍ في عالمٍ تُعاد صياغته كل يوم بواسطة من يمتلكون أدوات الخطاب. إن البروليتاريا كانت تطالب بالخبز، أما الكومنتاريا فتطالب بالمعنى. الأولى أرادت الثورة على الجوع، والثانية تُريد الثورة على التجهيل. وبينهما تمتدّ كل مأساة الحداثة: من المصنع إلى الشاشة، من الدولة إلى الخوارزمية، من الرقيب إلى المتابع… من المطرقة إلى اللايك.

وإذا كان برودون قد حلم بمجتمعٍ بلا سلطة، وفوكو فكّك السلطة إلى شبكة، وبورديوفضحها في المدارس واللغة، فإنّ ما يتبقّى اليوم هو استعادة الإنسان من تحت هذا الركام الرمزي — أن نُعيد للفعل صدقه، وللكلمة خطورتها، وللمعرفة طابعها المتمرّد. ليست المعرفة خلاصًا، لكنها بداية الطريق نحو الخلاص من القهر الناعم الذي يُمارَس باسم الحرية.

في النهاية، التوتاليتارية ليست نظامًا خارجيًا فحسب، بل استعدادًا داخليًا للامتثال، والبروليتاريا ليست طبقة من الفقراء فقط، بل من المقموعين لغويًا ومعرفيًا. أما الكومنتاريافهي محاولة دؤوبة لإعادة توزيع الضوء في العالم، لا الثروة فقط. إنّها طبقة لا تتشكل في الشوارع بل في الوعي، لا تهتف في الميادين بل في النصوص، تُعيد طرح السؤال الذي لم تستطع الأنظمة الشمولية تحمّل سماعه: “من يملك الحقّ في أن يُعرّف الإنسان؟”

وهكذا، من المطرقة إلى الوعي، يكتمل ما بدأناه من “البروليتاريا إلى الكومنتاريا”… من الصراع على العمل إلى الصراع على المعنى، من الثورة على الجوع إلى الثورة على الخداع، من المطرقة التي كانت تطرق الحديد، إلى الوعي الذي بدأ أخيرًا في طرق الوعي ذاته.

***

إبراهيم برسي

وحدود الحكم بالظاهر والعذر بالجهل

لا ريب في أن الحديث عن النية والظاهر والباطن في الفكر الإسلامي يفتح أبوابًا من الجدل الفلسفي والشرعي على مصاريعها، ويثير في الذهن تساؤلات شتى عن حدود العقل في التقدير، وسلطان الشرع في الحكم، ومدى صلاحية الإنسان لأن يكون قاضيًا على ما وقر في القلوب، أو شاهدًا على خفايا الضمائر. وهل يُعقل أن يُترك للعقول المحدودة أن تقتحم ما اختص الله بعلمه؟، أم أن الرحمة الإلهية قد أحاطت الإنسان بحدودٍ تحفظ عليه دينه ودنياه، فلا يضلّ في مسالك التقدير، ولا يتعدّى في ساحات القضاء على القلوب؟.

تتجلّى هذه التساؤلات في الحديث النبوي الشريف الذي خلدته الذاكرة الإسلامية كواحدٍ من مفاتيح الفهم المقاصدي للشريعة: «أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ أَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟!»... «أَشَقَقْتَ عَنْ صَدْرِهِ؟!»، ذاك السؤال الذي لم يكن إنكارًا على فعلٍ بعينه بقدر ما كان تأسيسًا لقاعدة كونية تقطع بأن الحكم في الدنيا إنما هو على الظاهر، وأن السرائر موكولة إلى العليم الخبير. فبهذا التساؤل أرسى النبي صلى الله عليه وسلم معلمًا من معالم الرحمة الإلهية، وسدًّا منيعًا أمام التجرؤ على الغيب، وإعلانًا صريحًا بأنّ العقل لا سلطان له على ما وراء الحس، وأنّ الظنون لا تبني عدلًا ولا تبرّر قتلًا.

ولئن كان الموقف الذي قيل فيه الحديث حادثة عابرة في ميدان قتال، فإنه في جوهره دستورٌ أخلاقيٌّ وفكريٌّ يضبط علاقة الإنسان بغيره، ويقنّن سلطان الحكم بين الناس. ففي لحظةٍ من الغليان الميداني، حين قتل أسامة بن زيد رجلًا نطق بالشهادة، متأولًا أنّها كلمة نجاة لا كلمة إيمان، جاء النبي صلى الله عليه وسلم ليقلب المعادلة، فيُعلِّم البشرية أنّ العبرة بما يظهر لا بما يُضمر، وأنّ الشريعة لا تُبنى على الشكوك، بل على البينات.

وما كان ذلك إلا امتدادًا لقول الحق سبحانه: (وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) حيث قطع القرآن الطريق على كل متأولٍ يزن الإيمان بموازين الهوى أو الشك، وأكد أنّ الأحكام الدنيوية مبناها على الإقرار الظاهر لا على النية الخفية، وأنّ الله وحده يتولى حساب السرائر، إذ هو العليم بذات الصدور.

ذلك هو الفارق الجوهري بين العدل الإلهي المطلق والاجتهاد البشري النسبي؛ فالإنسان مأمور بالحكم وفق ما يشهده من ظاهر القول والفعل، ومنهيٌّ عن اقتحام الغيب الذي لا يبلغه عقل ولا تدركه حواس.

ولئن تأملنا في الفلسفة الكامنة وراء هذا الحديث، لوجدناها تؤسس لثلاث قواعد كبرى:

أولها/أن الحكم في الدنيا على الظاهر هو مقتضى العدل ورحمة الخلق، إذ لو وُكِل الناس إلى الظنون والخواطر لاستُبيحت الدماء وهُتكت الأعراض.

وثانيها/أن الجهل عذر معتبر في ميزان الشريعة، فلا مؤاخذة إلا بعد البيان، ولا تكليف إلا بعد العلم، امتثالًا لقوله تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولًا).

وثالثها/ أنّ العدل لا ينفصل عن الرحمة، وأنّ مقاصد الشريعة لا تتحقق إلا إذا زان الفقيه أحكامه بميزان الظاهر، وخلّى بين الخالق وعباده في حساب الباطن.

وهنا يتجلى سرّ سماحة الإسلام: دينٌ يُربي العقول على التورع عن الحكم على النيات، ويُهذّب النفوس لتزن الأمور بظاهرها، ويؤجل الحساب إلى اليوم الذي تُبلى فيه السرائر.

وقد تجلت تطبيقات هذه القاعدة في مواقف شتى غير حديث أسامة الذي نحن بصدده، منها قصة قتل خالد بن الوليد بعض بني جذيمة، متأولًا عبارتهم «صبأنا»، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: «اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد»، وأمر بدفع دياتهم من بيت مال المسلمين، ولم يقم عليه حدا أو يعاقبه إذ علم أن خطأه ناشئ عن الجهل لا عن العمد.

وحين بال الأعرابي في المسجد، لم يزجره صلى الله عليه وسلم، بل قال: «دعوه ولا تُزرموه» ثم علّمه برفق، فأدّب الأمة على أن التعليم مقدم على التعنيف.

بل إن الله تعالى قد غفر لرجلٍ لم يعمل خيرا قط –بعد أن أمر أبنائه بحرق جسده بعد موته جهلًا بقدرة الله-، لما علم من صدق خوفه وخشيته، فكان جهله مقرونًا بالإخلاص سببًا للمغفرة.

هذه المواقف النبوية التي أوردناها ليست شواهد فقهية فحسب، بل غرابيل فكرية تهذب أحكامنا وتُنقّي عقولنا من أوهام الإطلاق، لتذكرنا أن الحكم على الظاهر رحمة، وأن اقتحام الباطن جرأة على مقام الألوهية.

ولمّا أدرك العلماء والفلاسفة هذا المبدأ، جعلوه ركيزة في بناء الفكر الإسلامي؛ حيث أثبتت المعتزلة وكذا الأشاعرة أنّ السرائر موكولة إلى الله، وأنّ الإيمان لا يُعرف إلا بظاهر القول. وأكد الفلاسفة المسلمون –كابن رشد والفارابي– أن العدالة لا تُبنى على الظنون، وأن العقل مقيد بمدركات الحس. بل تلاقت المدارس الصوفية والفقهية والفلسفية على أنّ العلم بالنيات إلهيّ لا بشري، وأنّ الجهل عذر معتبر، وأن الرحمة أصل في كل حكم.

وما أعظم الخطر حين تُهمل هذه القاعدة الراشدة، فتنبثق من رحم الغفلة عقولٌ مغلقةٌ توهّمت أن لها سلطانًا على القلوب، فجعـلت من الظنّ يقينًا، ومن الغيرة جفاءً، فراح أصحابها يُوزّعون صكوك الإيمان والكفر، ويستبيحون الحرمات باسم الدين الذي ما نزل إلا رحمة للعالمين.

هؤلاء هم خوارج الأمس الذين رفعوا شعار «لا حكم إلا لله» فحكموا على الناس بما لم يأذن به الله، وخوارج اليوم الذين يُعيدون إنتاج الفكر نفسه بلبوسٍ جديد، يوزّعون التهم كما توزّع الغنائم، ويقيمون محاكم التفتيش باسم الشريعة، ناسين أن الرحمة أصل، والعذر فريضة، والنية سرّ لا يملك مفتاحه إلا الله.

ومن هنا تتأكد مسؤولية النخبة الفكرية والعلمية في إعادة الاعتبار لهذا الحديث النبوي؛ لا باعتباره واقعة فقهية، بل كـ ميثاق فلسفي مقاصدي يُعيد التوازن بين العقل والوحي، وبين الحكم الظاهري والسر الإلهي، ويُرسي أسس العدالة في زمن التسرع والاتهام. فـ «أشققت عن صدره؟» ليس سؤالًا لأسامة وحده، بل نداء لكل عقل متعجل وقلب متسرع ولسان متهم: قف عند حدودك، واحكم بما ترى، ودع لله ما يعلم. فما أوتي الإنسان من العلم إلا قليلًا، وما كُلف إلا بما يدركه.

ولعل في استحضار هذا الحديث اليوم طوق نجاةٍ في عصرٍ امتلأ بالفتن، وتصدّر فيه الجاهلون منابر الحكم على الناس، فأصبح الكذب لباسًا للحق، والجهل سيفًا باسم الدين.

فما أحوجنا إلى أن نُعيد صناعة غرابيلنا الفكرية على هدي هذا المبدأ النبوي، الرحمة قبل الحكم، والظاهر ميزان، والباطن لله، والجهل عذر، واليقين شرط، والعدل فريضة. لأن هذا الحديث النبوي الشريف لم يكن مجرّد عتابٍ لصحابيٍّ متأوِّل، بل كان بيانًا إلهيًا على لسان نبيٍّ رحيمٍ، يرسم للعقول حدودها، ويهدي القلوب إلى سواء السبيل، ويضع بين أيدي الأمة غرابيل فكرية نقية تميّز بها بين الحق والهوى، والرحمة والقسوة، واليقين والظن. فمن شاء النجاة فليزن أحكامه بميزان الظاهر، وليدع لله ما استتر في الصدور، فإنّ الرحمة أصل الدين، والجهل عذر، والنية سرٌّ بين العبد وربّه، ومن تجاوز حدّه فقد اعتدى على مقام ربه.

فوجب على من يرفع راية الدين، ألا ينسَ أنَّ العدل لا يقوم على الظنون، وأنّ الرحمة هي مفتاح الهداية، وأنّ الله لم يكلّفه بمحاسبة القلوب، بل أمره أن يصلح الظاهر ويدعو إلى الخير بالتي هي أحسن.

ذلك هو الدرس الخالد الذي خلّده قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أشققت عن صدره؟» سؤالٌ خالدٌ، يُحاكم به الزمان نفسه، ويذكّر الإنسان بأنَّ من لم يرحم، لا يُرحم، ومن لم يعدل، ضلّ، ومن تجرأ على الغيب، فقد خسر خيري الدنيا والآخرة.

***

بقلم: د. بدر الفيومي

 

في عالم يتسارع فيه تطور التكنولوجيا بوتيرة غير مسبوقة، أصبحت الحروب لم تعد تُخاض فقط بالسلاح والجنود على الجبهات، بل باتت تُخاض أيضًا عبر الأسلاك والأقمار الاصطناعية والشبكات العنكبوتية، لتدخل البشرية عصرًا جديدًا من الحروب تُعرف بالحروب السيبرانية. في هذا المشهد المترامي الأطراف والمتشابك الخيوط، برز الإعلام كعنصر مركزي في إدارة هذه المعارك، ليس فقط كوسيلة نقل للأخبار والمعلومات، بل كفاعل مباشر في صياغة الوعي الجماعي وتوجيه الرأي العام، ما جعله سلاحًا ذا حدين، يتأرجح بين مهمته الجوهرية في التوعية وخطر انزلاقه في دوامة التضليل.

السيبرانية وآستهداف العقول

وتعد الحرب السيبرانية من أخطر التحديات التي تواجه المجتمعات والدول اليوم، نظرًا لقدرتها على اختراق الحواجز الجغرافية وتجاوز الأنظمة الدفاعية التقليدية، واستهداف البنى التحتية والمعلوماتية والمؤسسات الحيوية. ومن أبرز أسلحتها ما يُعرف بحروب المعلومات، التي تُخاض فيها المعركة عبر الفضاء الرقمي، حيث تُنشر الأخبار الكاذبة وتُفبرك الحقائق وتُبث الإشاعات بشكل مكثف وموجه، بهدف زرع الشك وزعزعة الثقة وإحداث شرخ داخل المجتمعات. في هذا السياق، يلعب الإعلام دورًا محوريًا لا يمكن الاستهانة به، سواء في صدّ هذا الهجوم المعلوماتي أو في تضخيمه عن غير قصد، أو أحيانًا بقصد، في ظل غياب الضوابط الأخلاقية أو ضعف المهنية الصحفية أو حتى خضوع بعض المنصات لجهات خارجية تحركها أجندات سياسية وأمنية. وتكمن خطورة التضليل الإعلامي في زمن الحرب السيبرانية في أنه لا يستهدف فقط العقول بل المشاعر، حيث تُبنى الروايات الكاذبة على عناصر الإثارة والصدمة والعاطفة، مما يجعلها أكثر انتشارًا وقبولًا لدى الجمهور مقارنة بالمعلومات الدقيقة التي قد تبدو مملة أو معقدة.

بين المواجهة وتطوير أدوات المؤسسة الإعلامية

وهنا تبرز تحديات كبرى أمام الصحفيين والمؤسسات الإعلامية، من حيث قدرتهم على التحقق من صحة المعلومات وسط هذا الفيضان الرقمي، وضرورة تطوير أدوات تحليلية وتقنية تتيح لهم التفريق بين الخبر الحقيقي والمزيف، وبين المعلومة الموضوعية والدعاية المضللة. ومن جهة أخرى، يُفترض بالإعلام أن يكون خط الدفاع الأول في معركة الوعي، من خلال نشر الثقافة الرقمية والتوعية بأساليب التضليل وكيفية التعرف عليها ومواجهتها، وتقديم محتوى رصين وموثوق يستند إلى مصادر معروفة ويُعرض بلغة واضحة تُشرك المتلقي في عملية الفهم والتحليل بدل أن تدفعه إلى التلقي السلبي. غير أن هذا الدور التوعوي يتطلب استقلالًا حقيقيًا وشفافية عالية في العمل الإعلامي، وهو ما لا يتوفر دائمًا، خاصة في الأنظمة التي تستغل الإعلام كأداة للدعاية الداخلية أو الخارجية، فتنخرط بدورها في حرب المعلومات، مستخدمة وسائلها لنشر سرديات معينة تخدم مواقفها السياسية، حتى وإن كان ذلك على حساب الحقيقة والمهنية. وفي ظل هذا الواقع المعقد، تصبح الحدود بين الإعلام والتضليل ضبابية، ويصعب أحيانًا على الجمهور العادي التمييز بين الإعلام الذي يسعى إلى الإخبار والتثقيف، وبين الإعلام الذي يسعى إلى التلاعب والتجييش. فحتى المنصات التي تحظى بسمعة مهنية قد تسقط أحيانًا في فخ السرعة على حساب الدقة، أو تتأثر بميول أيديولوجية لملاكها أو مموليها، فتفقد حيادها وتتحول إلى طرف في الصراع بدل أن تكون ناقلًا أمينًا لما يحدث.

كما أن وسائل التواصل الاجتماعي لعبت دورًا متزايدًا في تضخيم هذا الإشكال، حيث باتت المنصات الكبرى مثل فيسبوك وتويتر وتيك توك ساحات مفتوحة للحروب السيبرانية، تنتشر فيها الأخبار الكاذبة بسرعة البرق، وتُضخ فيها محتويات مضللة عبر حسابات وهمية أو روبوتات برمجية أو حتى عبر مؤثرين حقيقيين يتم توظيفهم لتحقيق أهداف محددة. وفي كثير من الحالات، يتعذر الوصول إلى مصدر الخبر الأصلي أو معرفة الجهة التي تقف خلفه، ما يجعل من مهمة التحقق تحديًا مستمرًا، حتى بالنسبة للمؤسسات الإعلامية الكبرى.

وهذا يفتح المجال أمام ظاهرة ما يُعرف بـ(ما بعد الحقيقة)، حيث لم تعد أهمية المعلومة تُقاس بمدى صحتها بقدر ما تُقاس بمدى تأثيرها، وهو ما يقوض جوهر العمل الصحفي ويهدد البناء المعرفي للمجتمع. وفي المقابل، لا بد من الإشارة إلى أن بعض الجهات الإعلامية والمبادرات الصحفية حول العالم بدأت تدرك خطورة الموقف، وسعت إلى تطوير منصات للتحقق من الأخبار، وتعزيز مهارات التفكير النقدي لدى الجمهور، وإنتاج محتوى توعوي يشرح بأسلوب بسيط كيفية عمل الخوارزميات التي توجه المحتوى، وكيفية استخدام مصادر متعددة لتكوين فهم أكثر توازنًا للأحداث. كما بدأت بعض الدول والمؤسسات التربوية بإدخال برامج (التربية الإعلامية) إلى مناهجها التعليمية، بهدف تمكين الأجيال الجديدة من فهم آليات صناعة الخبر، والتعامل الواعي مع المحتوى الرقمي، وتجنب الوقوع في فخاخ الدعاية والتضليل.

الوعي الإعلامي والحروب الحديثة

ومع ذلك، تظل هذه الجهود متواضعة أمام حجم التحديات واتساع نطاق الهجمات السيبرانية، التي غالبًا ما تكون مدعومة بموارد مالية وتقنية هائلة، ما يجعل من الضروري تعزيز التعاون بين الحكومات، والمنصات الرقمية، والمؤسسات الإعلامية، ومراكز الأبحاث، والمجتمع المدني، من أجل بناء جبهة موحدة في وجه هذه الحروب الجديدة. وفي هذا الصراع المفتوح، تبرز الحاجة الملحة إلى استعادة الثقة بالإعلام، ليس فقط من خلال رفع معايير الشفافية والمساءلة داخل المؤسسات الإعلامية، بل أيضًا من خلال تعزيز العلاقة مع الجمهور، عبر تشجيعه على المشاركة في صياغة الخطاب الإعلامي، واعتباره شريكًا في البحث عن الحقيقة، لا مجرد متلقٍ سلبي. إذ إن الإعلام لم يعد مجرد مرآة تعكس الواقع، بل أصبح صانعًا للواقع ذاته، ولهذا فإن مسؤوليته في زمن الحرب السيبرانية مضاعفة، فهو يقف في مفترق طرق بين أداء رسالته التنويرية، والانزلاق في مستنقع التضليل والتهويل. إن ما نواجهه اليوم ليس فقط حربًا على المعلومات، بل حربًا على الإدراك ذاته، على ما نؤمن به ونفهمه ونشعر به، وفي مثل هذا السياق يصبح الإعلام النزيه القائم على التحقق والدقة والمسؤولية الأخلاقية هو الحصن الأخير في معركة العقل، وهو السد المنيع في وجه الفوضى المعلوماتية، وهو الخط الدفاعي الذي إن أنهار، أنهارت معه قدرة المجتمعات على التماسك والصمود.

لذا فإن السؤال الحقيقي الذي يجب أن يُطرح اليوم ليس فقط كيف نحمي الإعلام من التضليل، بل كيف نُعيد إليه دوره الحيوي كمنارة للوعي في زمن طغت فيه الضوضاء على الحقيقة، وغابت فيه الحدود بين ما هو واقعي وما هو مفبرك، وبين ما يُقال من أجل المعرفة وما يُقال من أجل السيطرة، وبين الإعلام الذي يُنير الطريق، والإعلام الذي يُخفيه.

***

د. عصام البرّام - القاهرة

مقدمة: السعادة بين الحلم الإنساني والفكر الفلسفي

منذ أن استيقظ العقل الإنساني على معنى الوجود، وهو يسعى وراء حلمٍ واحدٍ لا يتغير: السعادة. فهي شعورٌ بالرضا والسكينة الداخلية، لكنها في جوهرها مسألةٌ فلسفيةٌ عميقة، تتصل بعلاقة الإنسان بذاته وبالعالم من حوله. فالإنسان لا يسعى إلى المتعة اللحظية فحسب، بل يبحث عن معنى وجوده وارتباطه بها.

السؤال الذي ظلّ يشغل الفلاسفة عبر العصور: هل تكمن السعادة في المتعة واللذة فقط، أم في الفضيلة والحياة العقلانية التي تتجاوز لحظات الانفعال العابرة؟ وهل يمكن للإنسان أن يكون سعيدًا حقًا في عالم تتصارع فيه الرغبات والواجبات، ويغلب عليه القلق والضغوط المستمرة؟

لقد اختلفت الآراء من الفلاسفة اليونانيين الذين رأوا أن اللذة أساس الحياة الطيبة، إلى الفلاسفة الذين أكدوا أن الفضيلة والعقل هما طريق السعادة الحقيقية. ورغم هذا التنوع، هناك اتفاق ضمني على أن السعادة ليست مجرد حالة عابرة أو شعور لحظي، بل تجربة مستمرة تتطلب الحكمة والوعي والتأمل العميق في طبيعة الحياة البشرية.

أولاً: السعادة: بين لذة الروح وفضيلة العقل

لقد تناول الفلاسفة السعادة من زوايا مختلفة، بين المتعة والفضيلة والعقل. يرى الفيلسوف اليوناني أبيقور أن اللذة أساس السعادة، لكنه لم يقصد اللذة اللحظية أو المفرطة، بل غياب الألم والاضطراب النفسي، إذ تصبح السعادة حكمة في اختيار ما يحقق الطمأنينة الداخلية. ومع ذلك فإن الاعتماد على المتعة وحدها لا يمنح الإنسان الاستقرار الكامل، إذ أن الرغبات متجددة، وما يبهج اليوم قد يملّ غدًا، فتظل السعادة القائمة على اللذة مؤقتة وزائلة. من جهة أخرى يرى أرسطو أن السعادة الحقيقية تتحقق من خلال الحياة الفاضلة وفق العقل، فهي ليست شعورًا عابرًا، بل تحقّق طبيعة الإنسان العاقلة، إذ يصبح الفعل الأخلاقي وممارسة الفضائل جزءًا من طريق الإنسان نحو السعادة الدائمة. وقد أكد الفلاسفة الرواقيون هذا الرأي إذ آمنوا أن الإنسان السعيد هو من يملك ذاته ويتصالح مع نفسه ومع ما لا يمكن تغييره، فيصبح شعوره بالرضا ثابتًا وداخليًا، لا تابعًا للرغبات العابرة، ما يشير إلى أن التوازن بين اللذة العقلانية والفضيلة هو جوهر تجربة السعادة الحقيقية.

ثانياً: السعادة: انسجام داخلي وخارجي في الفكر المعاصر

مع الفلسفة الحديثة والمعاصرة اتسع مفهوم السعادة ليشمل انسجام الإنسان مع ذاته والعالم من حوله، متجاوزًا الرغبات الفردية واللذات العابرة. رأى سبينوزا أن السعادة هي فرح يزيد من قدرة الإنسان على الفعل، أي أن حريته تنبع من فهمه للطبيعة والواقع، بينما أكد إيمانويل كانط أن السعادة الحقيقية لا تتعارض مع الواجب الأخلاقي، بل قد تكون نتيجة طبيعية له. وذهب برتراند راسل إلى أن السعادة تتحقق عندما يعيش الإنسان باتصال حقيقي مع الآخرين والعالم، من خلال الحب والعمل والمعرفة.

في زمننا المعاصر كثيرون يخلطون بين السعادة والماديات أو الشهرة، فتختفي السكينة الداخلية وسط صخب الحياة، غير أن السعادة الحقيقية تظل تجربة داخلية متواصلة: إدراك الذات، حب ما نفعل، والعيش بتوازن مع الآخرين. فهي ليست حالة جاهزة، بل ثمرة ممارسة مستمرة للفضيلة والمعرفة والتواصل الإنساني، ما يجعلها تجربة ثابتة ومتجددة في حياة الإنسان.

خاتمة: السعادة كفن حياة متكاملة

تظل السعادة رحلة الإنسان الأبدية نحو التوازن الداخلي والخارجي، وليست مجرد لحظات من اللذة أو التزامًا بالقيم الأخلاقية وحدها. فهي تجربة مستمرة تتطلب الوعي بالنفس ومراقبة الرغبات، وممارسة الفضائل بحكمة، مع القدرة على الاستمتاع بما تمنحه الحياة من لحظات بسيطة وصغيرة.

السعادة تتعمق عندما يجد الإنسان معنى لوجوده، ويعيش اتصالاً حقيقيًا مع الآخرين من خلال الحب والعمل والمعرفة. إنها شعور بالرضا الداخلي لا يعتمد على الماديات أو الشهرة، بل على تصالح الإنسان مع ذاته ومع ما لا يستطيع تغييره.

إن السعادة ليست حالة جاهزة تُمنح، بل نمط حياة يومي يختاره الإنسان باختياراته الواعية. فهي تمنحه القدرة على مواجهة تحديات الحياة بروح متزنة، وتجعله أكثر قدرة على التفاهم والتواصل مع الآخرين، وأكثر انسجامًا مع الطبيعة والواقع.

في النهاية يمكن عَدّ السعادة فن الحياة المتكاملة، إذ تتقاطع اللذة العقلانية مع الفضيلة، والوعي الذاتي مع الاتصال بالآخرين، لتشكّل تجربة إنسانية عميقة تعكس معنى الوجود الحقيقي، وتمنح الإنسان شعورًا دائمًا بالطمأنينة والرضا.

***

ندى صباح اسد الله

كنت أقرأ رواية "أنا قبل كل شيء" للكاتبة السعودية الجوهرة الرمال، التي طُبعت أكثر من إحدى وعشرين مرة، فوجدت في قصّة ورد انعكاسًا لواقع الإنسان في مواجهة الخسارة. فقدت ورد بصرها في سن السابعة، وعاشت في الظلام تسع سنوات كاملة، قبل أنَّ تعود إليها القدرة على الرؤية إثر سقوطها عن درج منزلها، نقطة تحول غيرت كل شيء. تبدأ الرواية برصد عالمها الداخلي والخارجي، إذ تتقاطع تحديات فقدان البصر مع الانعزال الاجتماعي، ومع صعوبة التكيف بعد استعادة الرؤية، تكتشف أنَّ الحياة مليئة بالتحديات والمواجهات، وأنَّ الألم هو لغة وجودها الحقيقية، وأنَّ السعادة العابرَة لا تترك أثرًا.

هذا الوجع والانكسار الذي عاشته ورد يتماشى مع التجارب الإنسانيَّة الأوسع والأعقد. حين استرجعت تأمليًا وغصت أكثر في المذكرات السياسية وقلّبت وجوه الروايات والحكايات على اختلاف الأزمنة والأمزجة، بدا لي أنَّ هناك قانونًا سرديًا متكررًا: لا بطل يولد إِلَّا بعد أنَّ يكرع الخسارة، ولا حكاية تستقيم إِلَّا إذا مرّت على طريق محفوف بالدمع ومغمس بالخذلان والانكسار، كأن المعنى لا يظهر إِلَّا حين تُجرَّد الذات من كلّ ضمان، ويُسحق الوجود تحت حجر التجربة. تتراكم الوجوه المتعبة، والأمكنة التي لفظتها الحروب والمنفى والهزيمة، حتى يصبح الألم هو اللغة الأمّ للوجود، والصمت هو مرآته الأخيرة.

ألم تبلغ التجربة الإنسانية أقصى تجريدها، بعبارة الشاعر محمد مهدي الجواهري المستعارة من الحكمة الصينية" وُلِدوا فتعذّبوا فماتوا" التي وضعها مدخلًا لمذكراته، ألم تكن هذه العبارة مفتاحًا لفهم مسار الوجود كما تخلّله في حياته: يولد الإنسان دون إرادة، يدخل في تجربة الألم دون حصانة أو ضمان، ثم يغادر بصمت كما جاء دون اكتمال. هذه العبارة ليست نزوعًا إلى التشاؤم بقدر ما هي محاولة لتجريد الحياة من أقنعتها. فهي تنظر إلى الوجود باعتباره مسارًا دائريًا مغلقًا: ولادة تُعلن بداية الوعي بالعدم، ألمٌ يرسّخ ثقل الكينونة، وموتٌ يعيد الأشياء إلى صمتها الأول. في ضوء هذا الفهم، تصبح التجربة الفردية للجواهري– بما فيها من منفى وخراب وانكسار– مجرد تجلٍّ من تجليات هذا القانون الكوني.

وهنا ينتصب السؤال، باعتباره تاملًا فلسفيًا عميقًا: هل هذا هو شكل العالم كما هو؟ عالم لا يهب المعنى إِلَّا من فم الجرح والوجع، ولا يعرّف الإنسان إِلَّا بما خسره؟ أم أنَّ الحكايات- سواء كانت مذكّرات سلطة أو روايات بشر عاديين- تختار عمدًا أنَّ تُبالغ في الألم، لأنَّها لا تجد معنى للحياة إِلَّا حين تنظر إليها من حافة العدم؟ هل نحن أمام واقعٍ تصنعه المأساة، أم أمام سردٍ يختار المأساة لأنَّ السعادة بلا حكاية، ولأنَّ الصفاء لا يخلّف أثرًا؟

قد يكون العالم أوسع من هذا الألم، لكن السرد لا يراه إِلَّا في اللحظات التي يتعرّى فيها الإنسان من وهم السيطرة، حين يسقط، يُنفى، يُخذل، أو يكتشف تهافت ذاته أمام التاريخ والقدر. فالرواية لا تُكتب عن لحظة استقرار وطمأنينة، وانما عن لحظة انهيار وتهشم. والمذكّرات لا تدوّن لحظات الرضا كثيرًا، وانما لحظة ارتجاف اليد وهي توقّع على وثيقة حرب، أو لحظة عجز الجسد أمام خيانة أو منفى. كأن الوعي لا يستيقظ إِلَّا في لحظة الألم، وكأن الحياة، إذا لم تُختبر بالخسارة، تظلّ مجرّد وقتٍ لم يُفهم بعد.

لكن ماذا لو كان هذا الانحياز للألم هو نفسه محاولة يائسة لمنح الوجود معنى؟ فالسرد، مهما ادّعى الصدق، يبقى فعل اختيار: اختيار أنَّ نكتب الجرح لا العافية، أنَّ نؤرّخ للانكسار لا للطمأنينة. ربما لأنَّ البشر لا يتذكّرون ما جعلهم سعداء، بل ما جعلهم يتألّمون. فالسعادة عابرة وصامتة، لكن الألم مقيم وله صوت، صوتٌ يكتب التاريخ، ويعيد تشكيل الذاكرة وحفرياتها، ويمنح الإنسان وهم الحكمة.

إذًا، لسنا أمام سؤال عن حقيقة العالم فقط، بقدر ما نحن أمام تساؤل عن طبيعة الإنسان ذاته: هل هو كائن لا يفهم وجوده إلَّا حين يتألّم؟ هل نحن نكتب الألم لأن العالم قاسٍ، أم لأننا لا نحتمل فكرة أنَّ يكون بلا مغزى، فنملؤه بالندوب كي نشعر أننا عشنا حقًّا؟

هذه ليست دعوة لنفي الألم أو السخرية من المأساة، وانما محاولة لتحرير السؤال من سطوة البكاء. ربما العالم خليطٌ من الضوء والعتمة، لكننا نُبقي أعيننا مفتوحة فقط حين يحلّ الظلام. وربما تكون الحكايات مرايا مكسورة، تعكس الحقيقة من زاوية واحدة، لكنها الزاوية التي نجرؤ على النظر إليها.

وإذا كان الألم هو اللغة التي صاغ بها البشر سرد وجودهم، فإن الفلسفات والأديان والمدارس الروحية حاولت- بطريقتها- أنَّ تضع ضمادًا على هذا النزيف، أنَّ تُسكّن مخبأ الروح، أنَّ تزرع طمأنينة وسط العاصفة. غير أنّ المفارقة المريرة تكمن في أنَّ أرباب هذه الرسالات أنفسهم لم يُعفَوا من جمر التجربة. فالأنبياء، الفلاسفة، الأولياء، والمتصوفة، أولئك الذين حملوا راية العزاء النفسي للإنسان، كانوا أول من عضّتهم الحياة بأنيابها وأوجعتهم. بعضهم سُحِق تحت مقاصل السلطة، بعضهم قُطع رأسه ووُضع في سلال الهزء أو على موائد الطغاة، بعضهم نُفي وقُذف في سمعته وشرفه وحقّه في الوجود. تقرأ سيرهم فتجدها ملتفّة كضفيرة من العلقم والمرارة، لا فسحة فيها لراحة طويلة أو يقين بلا شوك.

هنا تنشأ المفارقة التأملية- الفلسفية: كيف يدعو من يتألم الناسَ إلى السكينة؟ وكيف يُبشّر بالراحة من لم يعرفها تمامًا في جسده أو روحه؟ كأنّ الرسالة نفسها لا تُحمل إلَّا عبر الجرح، وكأنّ مَن يطلب للآخرين الخلاص لا بدّ أنَّ يمرّ أوّلًا بصحراء المعاناة. فالألم لا يستثني أحدًا، لا يُعفي المؤمن ولا الملحد، لا يُجامل العارف ولا الجاهل. إنّه السيرة الكبرى التي تكتب الإنسان دون إذنه.

والأدهى من كلّ ذلك أنَّ هؤلاء الذين نذروا أرواحهم لتخفيف ثقل الوجود عن الآخرين، لم تنجُ أفكارهم بعد موتهم من سطوة التأويل وسوء الاستخدام. فقد قامت أجيال لاحقة بقلب رسالاتهم رأسًا على عقب، جعلت من الدين الذي وُلد ليواسي المقهورين أداةً للقهر بيد المعبد، ومن الفلسفة التي سعت لتحرير العقل وسيلةً لتقييده، ومن الروحانية التي أرادت شفاء القلب سيفًا يُشهر باسم الطمأنينة. باسم الرحمة وُزّع الموت، وباسم النجاة زُرع الخوف، وباسم السكينة مُورِس أشدّ أنواع العنف الرمزي والمادي.

يا لها من مفارقة موجعة: أنّ يُصبح الطريق إلى العافية هو ذاته الطريق إلى الجحيم، وأنّ يتحوّل خطاب الخلاص إلى آلة تبشّر بالنجاة وهي تفتح أبواب الألم على مصاريعها.

وهكذا يبقى الإنسان معلّقًا بين جرحين: جرح التجربة وجرح السرد، يبحث عن سعادة عابرة، أو لحظة صفاء لا تطول، يتأمل، يتعثّر، ثم ينهض من جديد، لا لأنّه واثق من الخلاص، بل لأنّ روحه لا تحتمل الجمود. يمشي في صحراء الوجود وهو يعلم أنّ الطمأنينة إن وُجدت، ليست إقامةً دائمة، وانما ظلٌّ يمرّ ويختفي قبل أنّ يمسكه بيده.

لعلّ ما يتكشّف في أفق النهاية هو أنَّ الإنسان يُساق إلى الألم والفقد لأنّ الوعي ذاته لا يُولد إلَّا تحت وطأة السؤال، والسؤال لا ينبثق إلّا حين تتصدّع الأشياء من حولنا، لا لمجرد أنَّه قدر محتوم. لذلك يبقى الجرح علامة على أنَّ الحياة ليست حيادًا، وأنَّ الكائن البشرّي لا يُريد أنَّ يمرّ مرور الغياب. فالألم محاولة يائسة لتثبيت أثر فيه؛ محاولة للقول إننا كنّا هنا، وإننا شعرنا وتألّمنا وفقدنا، وإن هذا الدم الذي يسيل هو إعلان عن أننا ما زلنا نحاول أنَّ نفهمه. وهكذا يصبح الخلاص حركة أبدية بين السقوط والنهوض، بين الإقامة والارتحال، بين سؤال يحمل جرحه، وجرح يبحث عن معنى يليق بأنَّ يُحمل. وفي هذا العبور، ربما لا نجد الحقيقة كاملة، لكننا نجد ما يُبقينا أحياء: أنَّ نواصل السير، ولو على حافة العتمة وأغشيتها، حاملين بصيص المعنى الذي لم ينطفئ بعد.

***

د. حيدر شوكان سعيد.

جامعة بابل- كلية العلوم الإسلاميَّة- قسم الفقه وأصوله.

 

في مختبرات ارقى الجامعات العالمية، وفي مراكز الابحاث التكنولوجية والطبية المتطورة، تقف عقول عراقية عظيمة وراء بعض من اعظم الانجازات العلمية في عصرنا. انهم رجال ونساء حملوا معهم ارث بلد كان يوما منارة للعلم والمعرفة، ليصبحوا سفراء حقيقيين للعراق، ليس بالكلام، بل بالابداع والابتكار. لكن وراء هذه القصص الناجحة، تكمن ماساة مريرة: ماساة التهميش والاهمال من الداخل، واهمال مواهب كان من الممكن ان تنتشل البلاد من واقعها الصعب.

هؤلاء العلماء، الذين يشكلون ثروة وطنية حقيقية، يبدو انهم تحولوا الى "صادرات فكرية" يستفيد منها العالم المتقدم، بينما ترفض الجهات المعنية في بلدهم الام حتى الاصغاء اليهم. انه سيناريو مأساوي يتكرر يوميا: عقل عراقي يخترق المستحيل في الغرب، بينما ترمى ابحاثه ومشاريعه ومقترحاته التي يقدمها للجهات المختصة في العراق في "سلال المهملات"، ليس بسبب عدم جدواها، بل بسبب البيروقراطية القاتلة، والفساد، او ببساطة بسبب غياب الرؤية.

من هؤلاء الافذاذ؟ اسماء تضيء ساحات العلم العالمية

لنذكر بعض الاسماء التي اشرت اليها، بالطبع ليس حصرا، ولكن للتدليل على حجم الكنز المهدر من علماء لهم دور مهم بداخل العراق واسماءهم محفورة في سجل شبكة العلماء العراقيين في الخارج "نيسا"  Members – Network of Iraqi Scientists Abroad (NISA)  اذكر منهم، حكمت جميل: رائد الطب المهني والبيئة في جامعة ولاية ميشغان وحامد الرويشدي: البروفسور في هندسة الاتصالات في جامعة برونيل وجميل الخليلي: بروفسور الفيزياء في جامعة سري والمبشر لاعلام "اشراك الجمهور في العلوم" ومثنى الدهان: البروفسور في الهندسة الكيميائية والنووية في جامعة ميزوري للعلوم والتكنولوجيا ورياض المهيدي: البروفسور في الهندسة الانشائية في جامعة سوينبورن الاسترالية ورمزي محمود : البروفسور في الهندسة البيئية وادارة المياه في جامعة كاليفورنيا وعباس علي: البروفسور في الادارة في جامعة انديانا وحيدر الشكري: البروفسور في الجيوفيزياء والزلازل في جامعة اركنساس وكاظم اللامي: مكتشف الشبكية القلبية "Arteriozobe" وصباح جاسم: البروفسور في الرياضيات والحوسبة في جامعة باكينغهام وخضر وني حلو: البروفسور في التنوع البيولوجي النباتي في جامعة ولاية فرجينيا وعادل شريف: بروفسور هندسة المياه في جامعة سري ولؤي محمد: البروفسور في الهندسة البيئية والمدنية في جامعة ولاية لويزيانا ونوفل الظاهر: البروفسور في الهندسة الكهربائية في جامعة تكساس وسندس البدري: بروفسورة طب وجراحة اسنان الاطفال في جامعة ليفربول  وبشير الهاشمي: بروفسور هندسة الحاسوب في جامعة لندن وضياء الجميلي: بروفسور الذكاء الاصطناعي في جامعة ليفربول جون مورز ورافد الخضار: بروفسور المياه في جامعة ليفربول جون مورز وحسين الريزو: بروفسور هندسة الانظمة في جامعة اركنساس ومصطفى الشاوي: بروفسور الادارة في جامعة سالفورد ومحمد الشيخلي: بروفسور العلوم النووية والاشعاع في جامعة مريلاند ومحمد الازري: بروفسور الطب النفسي في جامعة ليستر وحسين بهية: بروفسور هندسة المواد في جامعة وسكانسون وعبير حسين: بروفسورة علوم الحاسوب في جامعة ليفربول جون مورز ومنيرة كاظم: بروفسورة بيولوجية الاشعة في جامعة اوكسفورد بروكس واحسان اللامي: بروفسور الحاسوب والذكاء الاصطناعي في جامعة باكينغهام واسامة كريم: بروفسور الهندسة المدنية والبناء في جامعة تونته وحنان مهدي: بروفسورة الجيولوجي في جامعة اركنساس وعباس مهدي: بروفسور الادارة والمصادر البشرية في جامعة سانت كلاود وصباح مشتت: بروفسور هندسة العمارة في جامعة وليفرهامبتن وكمال رشيد: بروفسور العلوم البيوصيدلانية في كلية البيني للصيدلة والعلوم الصحية وفراس رسول: بروفسور الهندسة البيولوجية في جامعة كوينزلاند وحيدر رضا: بروفسور الهندسة الكهربائية والحوسبة في جامعة ولاية ميشيغان وسلوى السام: بروفسورة علوم الاحياء الدقيقة في جامعة اسيكس.

هؤلاء مجرد امثلة على "كنز العقول" العراقية التي لا تقدر بثمن. كل واحد منهم يمثل جامعة متكاملة، ومركز ابحاث، وحلما لمشروع وطني يمكن ان يغير واقعا.

لماذا هذا الاهمال؟ سؤال يبحث عن اجابة.

التساؤل الذي يفرض نفسه بقوة: لماذا يحدث كل هذا؟ لماذا ترفض الدولة استقبال هذه الكفاءات والاستفادة منها؟

قد يكون الفساد الاداري والبيروقراطية وغياب الرؤية الاستراتيجية والانشغال بالصراعات السياسية وقد يكون استقدام كفاءات خارجية محايدة ومستقلة بمثابة صدمة للنظام القائم، الذي يقاوم اي تغيير قد يقلب موازين القوى. قد تكون كل هذه العوامل اسباب للاهمال.

الحديث عن هؤلاء العلماء ليس للتباكي على الماضي، بل هو دعوة للعمل. هؤلاء ليسوا مجرد مهاجرين غادروا البلاد، بل هم ضحايا لظروف قاسية، وكل منهم يحمل في قلبه حبا عميقا للعراق وشوقا حقيقيا للاسهام في بنائه. كثيرون منهم حاولوا مرارا وتكرارا، ولكنهم اصطدموا بجدار من اللامبالاة.

ان الاستفادة من هذه الكفاءات لا تحتاج الى ميزانيات ضخمة، بل تحتاج الى:

- ارادة سياسية حقيقية تضع ملف العلماء في الخارج على رأس اولوياتها.

- انشاء هيئة او مجلس وطني خاص برئاسة شخصية وطنية مرموقة، للتواصل المباشر مع العلماء العراقيين في الخارج وتسهيل عودتهم او مشاركتهم عن بعد.

- شراكات استراتيجية بين الجامعات العراقية ونظرائها العالمية التي يعمل فيها هؤلاء العلماء.

- برامج زمالة واشراف لطلبة الدراسات العليا العراقيين تحت اشراف هذه الكفاءات.

- تسهيل الاجراءات وتقديم التقدير المعنوي والمادي اللائق.

العراق امام فرصة تاريخية. انه يمتلك ثروة بشرية هي الاغلى في العالم، ثروة قادرة على صنع المعجزات. كل ما هو مطلوب هو ان نمد ايدينا بصدق واخلاص لهؤلاء الافذاذ، ونقول لهم: نريدكم، بلدكم يحتاجكم. ان الاوان لوقف نزيف العقول، واستعادة بعض من نور كانا يوما نبراسا للحضارة الانسانية.

***

ا.  د. محمد الربيعي

 

ثمة مفاهيم ومصطلحات ثرية من الناحية الفلسفية والمعرفية والسياسية، إذ أن البحث ف مضمونها وآفاقها، يوصل الباحث إلى تخوم علوم ومعارف وتخصصات علمية عديدة، ولعل من هذه المفاهيم الثرية والغنية بحمولتها الفلسفية والمعرفية والسياسية مفهومي الحرية والعدالة، فهي من المفاهيم التي تشكل حجر الأساس في منظومة الكثير من القيم والمبادئ الفرعية.

ولا يمكن أن نبحث أي مبحث فلسفي أو معرفي أو سياسي، دون الاقتراب من مضامين هذين المفهومين، بل هناك العديد من النظريات والمذاهب الوضعية، التي تشكل واكتمل بناؤها المعرف على قاعدة مفهوم الحرية ومفهوم العدالة، وإن بعض التباين أو الاختلاف بي هذه النظريات والمذاهب الوضعية، يعود إلى التباين والاختلاف في طبيعة العلاقة بين مفهوم الحرية ومفهوم العدالة، فالحرية  في بعدها الفردي تعني أن يعيش الانسان الفرد حرا أي بدون قيد أو شرط يحد أو يعوق حريته، أما إذا نظرنا إلى الحرية بمعنى مجموع الحريات السياسية والاقتصادية والثقافية، فنحن هنا بحاجة إلى تدابير أخلاقية  مؤسسية لحفظ حقوق الناس الذين يشكلون مجتمعا واحدا وهذا لا يتحقق بدون العدالة، فالحرية كقيمة متداخلة ف أبعادها وآفاقها مع العدالة كقيمة وممارسة، ولا يمكن على مستوى الواقع الخارجي من تحقيق أحدهما دون الآخر، فالحرية هي حجر الأساس لمفهوم العدالة، إذ لا عدالة بدون حرية، كما أن العدالة هي التي تثري مضمون الحرية في أبعادها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، إذ لا حرية حقيقية في أي تجربة إنسانية بدون عدالة..

لا يصح ولا يجوز لأي إنسان أن يجبر الآخرين على القبول بعقيدة معينة أو فكرة محددة، فمن حق الإنسان (أي إنسان) حق التفكير والتأمل، ولا يمكن لأي أحد أن يفرض رأيه أو عقيدته عليه، فللإنسان كامل الحق ف الاختيار، وهو الوحيد الذي يتحمل مسؤولية اختياره.

وحتى تتضح صورة العلاقة بين الحرية والعدالة، نقترب من المفاهيم والمعاني المتداولة لمفهوم الحرية، إذ ذكرت تعريفات عديدة للحرية وأوصلها (آيزايا برلين) في كتابه (حدود الحرية) إلى مئتي تعريف، إلا أن الجامع المشترك بين أغلب هذه التعريفات هو إزالة المعوقات من طريق اختيار الإنسان، وهو يقول في تعريفه لها (إنني أعد الحرية فق دان الموانع من طريق تحقق آمال الإنسان وتمنياته) ويرى في موضع آخر من الكتاب بأنها تعني عدم تدخل الآخرين في أنشطة الفرد وأعماله، فالحرية وفق (آيزايا برلين) هي جزء من الذات البشرية، أي أن طبيعة الإنسان تنزع نحو الحرية، لأنها جوهر الإنسان، وهو (أي الإنسان) موجود ساع نحوها، وهذا معناه أنها من لوازم إنسانيته، وحرية الأفراد بطبيعة الحال ليست مطلقة، لأننا لو أطلقنا حرية الأفراد، فإن مجموع هذه الحريات ستتعارض وتتناقض مما يحول دون أن يعيش أحد مع أحد، أي إننا لا نستطيع أن نؤسس مجتمعا، والمجتمعات الإنسانية لا تتأسس إلا على قاعدة التفكيك بين الحريات الفردية ومصالح الآخرين، إذ أن المجموع الإنساني يحتاج إلى صيانة وضمان حرياته الفردية، ولكن على نحو لا تضر بمصالح الآخرين النوعية، والمظلة التي تستظل بها مصالح الآخرين النوعية هي قيمة العدالة، وطبقا لرؤية (جون ستيورات مل) فإن العدالة تتطلب تنعم الأفراد بالحد الأقل من الحرية، ومن هنا يجب في بعض الأحيان - ولو عن طريق الإجبار –  منع صيرورة حرية بعض الأفراد المخلة بالحريات للآخرين، ويتحدث (آيزايا برلين) في كتابه الآنف الذكر عن هذه الحقيقة بقوله (تنقلب الحرية السلبية أحيانا إلى القول بتساوي حرية الشاة والذئب، فإذا لم تتدخل القوة القاهرة فإن الذئاب سوف تقوم بافتراس الأغنام، ومع ذلك لا يجوز أن يصنف هذا مانعا للحرية، نعم إن الحرية  اللامحدودة للرأسمالي تفضي إلى إفناء حرية العمال، والحرية اللامحدودة لأصحاب المصانع أو الآباء والأمهات، تؤدي إلى استخدام  الأولاد في العمل في مناجم الفحم الحجري، لاشك في أنه تنبغي حماية الضعفاء أمام الأقوياء والحد من حرية الأقوياء على هذا الشكل، ففي كل حالة يتحقق فيها القدر الكاف من الحرية الإيجابية لا بد من الإنقاص من الحرية السلبية، أي أنه يجب أن يكون هناك نوع من التعادل بين هذين الأمرين حتى لا يجري أي تحريف للأصول المبرهنة)، فللإنسان كامل الحرية في قناعاته وأفكاره واختياراته، ولكن ليس له الحق في التعدي على قناعات الآخرين واختياراتهم، وإذا كانت اختياراته تضر بالآخرين فإنه ومن منطلق العلاقة الحميمة بين الحرية والعدالة، يمنع من اختياره الضار إلى المجتمع لصيانة قيمة العدالة، فالعلاقة جد دقيقة بين الحرية والعدالة، وعليه لا يصح باسم المجتمع من امتهان كرامة الإنسان الفرد أو التعدي على حريته، كما أنه لا يصح باسم حرية الانسان من التعدي على حريات الآخرين، فالحرية قيمة إنسانية كبرى ولا تحد إلا بقيمة إنسانية كبرى مثلها وهي العدالة.

ويشير إلى هذه المسألة الكاتب (عبد الله نصري) بقوله (وبشكل عام، فكلما حصل هناك قصور من ذاك الشخص في أداء وظيفته أمام مشاعر الآخرين ومنافعهم من دون أن يكون الباعث على ذلك تقدم وظيفة مهمة على هذه الوظيفة، فينبغي القيام بتأديب أخلاقي له، ليس مقابل السبب الذي دفعه إلى هذا التقصير وإنما مقابل هذا التقصير نفسه وعدم أداء الوظيفة، ليس لنا الحق في معاقبة ذاك الشخص على مجرد الإدمان، لكننا نعاقبه إذا ما كان شرطيا يتناول الكحول، من حيث تقصيره في أداء وظيفته، ولا بد من ذلك وبعبارة مختصرة : (فكل حالة يكون فيها الفرد أو المجتمع في معرض الضرر الواضح الظاهر،  أو في معرض خطر احتمالي لهذا الضرر، فإن المسألة حينئذ تخرج عن دائرة الحرية الفردية وتندرج في دائرة سلطة القانون أو الأصول الأخلاقية).

من هنا لا يصح ولا يجوز لأي إنسان أن يجبر الآخرين على القبول بعقيدة معينة أو فكرة محددة، فمن حق الإنسان) أي إنسان) حق التفكير والتأمل، ولا يمكن لأي أحد أن يفرض رأيه أو عقيدته عليه، فللإنسان كامل الحق في الاختيار، وهو الوحيد الذي يتحمل مسؤولية اختياره، فال سبحانه وتعالى وهبنا حق الاختيار في ظل المسؤولية، فلنا حق الإختيار وفق الإرادة الربانية، وعلينا ان نتحمل كامل المسؤولية في الدنيا والآخرة لاختيارنا، والله سبحانه وتعالى أمر الخلق بعبادته ولم يمنح أحد سلطة اتخاذ القرارات والتدابير نيابة عن أحد، فللإنسان كامل الحق والحرية في الاعتقاد والاختيار، ولكن ممارسة هذه الحرية تكون في نطاق العدالة والمسؤولية، لهذا هو وحده الذي يتحمل  مسؤولية اختياره وعمله، وبهذا نخرج الإنسان من دائرة القوانين الجبرية، وندخله في دائرة الحرية والمسؤولية، فهو حر ومسؤول في آن واحد.

وفي تقديرنا أن المجتمعات التي تتمكن من صياغة العلاقة على نحو دقيق بين الحرية والعدالة، هي المجتمعات التي تنعم بالديموقراطية والعدالة الاجتماعية والاستقرار السياسي، اما المجتمعات التي لا تتمكن لأسباب ذاتية أو موضوعية من صياغة العلاقة بين الحرية والعدالة على نحو إيجابي، فهي مجتمعات تعاني من صعوبات كبرى في تكوينها الاجتماعي والعام.

***

أ. محمد محفوظ

علينا ان نُقر ان النص الديني لمختلف الديانات السماوية هي مصدرها واحد هو الله لذا لا اختلاف بينها كما يجب ان نعتقد .. لنقرأها قراءة معاصرة وبنظرة جديدة لواقع الحركة التاريخية المتطورة وبمنطق فلسفي ومعرفي واقعي وليس تصوري مثالي، لنفهم معنى التشريع والاخلاق والتاريخ والاقتصاد، لان القانون الاساس هو متابعة تغير الصيرورة الزمنية حيث تكمن عقيدة التشريع القائمة على البينات المادية وليست وهمية تصورية كما نفهمها من فقهاء الدين المختلفون حتى مع أنفسهم في فهم التشريع.. لذا يجب ان تكون حرية التعبير عن الرأي وحرية الاعتقاد اختيارية وليست جبرية مقدسة كما يعتقدون.. لذامن أدخل الإسلام بالسيف للشعوب الأخرى ليس مسلماً ولا يحق له مقاتلة الاخرين.. لان الأيمان بالعقيدة حرا لمن يريد.. أما الغزوات القهرية التي سموها بالفتوحات الإسلامية فهي ليست شرعية قانونية.. وأنما اغتصاب القوة للضعفاء.. ومخالفة لقانون السماء.. لأن الإسلام لا يريد كمأً من الناس المغتصبين، لا بل يريد نوعاً ليكون مثالا لعدالة السماء في تطبيق القيم والقوانين.

كل أصحاب الديانات السماوية من الفقهاء ساهموا وبقصد في تخريب القيم الانسانية في العدل والاستقامة القانونية لشعوبهم منذ عهد الرسالات الأولى.. ولا زالوا يتعمدون الحروب والأغتصاب ونظريات الخطأ، وفقدان الحقوق والقانون. ويقف المسلمون في المقدمة، حين أغتصبوا حقوق شعوبهم بأسم المقدس الوهمي.ونسئل ماذا اضاف الإسلام للعرب..؟ قولوها بالأرقام ان كنتم شجعانا مؤمنين؟ أنا أقولها ولا شيء، بل خسرنا بإسلامكم الوهمي كل شيء وخاصة في عدالة القانون. بعد ان انحرف المدعون عن الامة.. حين اهملوا الشورى وأحلوا العصبية واللاقانون.. فالإسلام لا يؤمن بالردة والغزوات والأعتداءعلى الاخرين بأسم الدين. والكثير من الآيات القرآنية التي وضعودها بهذا الخصوص كانت مزورة لا اصل لها في الكتاب المقدس الذي يعتمد العدل واستقامة القانون. كما في حقوق المرأة وقتل المرتد ومشاركة ولي الامر مع الله في الطاعة والقانون. كلها أقاويل حولوها للمقدس حتى اصبحت خطئاً من القوانين. واليوم لدينا 26 مصحفا مختلفا في النص والمعنى. دون تحقيق

الاوربيون استطاعوا تلافي الاخطاء الزمنية الماضية بفصل الدين عن السياسة وأحلال الدولة القانونية وحفظ الحقوق والمساوات بين مواطنيها وأن أختلفت الأناجيل، لذا تقدمت الدولة.بعد ان اصبحت القيادة الدينية محصورة في الفاتيكان.وحكم الدولة للمواطنين بالانتخاب وشورى الرأي دو أكراه الأخرين.

مع الاسف امة الإسلام فشلت في هذا الجانب حين بقي الفقية والنص الديني المتطرف والمسجد والخطيب الجاهل المتعصب يتحكم في عقول الناس وأحكام التباعد المذهبي بينهم.. من هنا بقيت الشعوب الإسلامية في حالة التخلف الأنساني والقانوني.. وضياع الحقوق.. والكراهية بينهم مذهبياً.. دون تأصيل.

محمد الرسول ما جاء ليحكم دولة، بل جاء لنشر مبادىء العدالة والاستقامة فاقر بوثيقته الحقوق والقانون. لكن من جاؤا من بعده ابتعدوا عن الاساس.بضرب الشورى وعدم الالتزام بما جاءت به الوثيقة الممثلة للعدل والأستقامة.. ولكن خوفا من ان ينهاهم عن التقصير قتلوه بالسُم وثبتوا هذا الانحراف كقاعدة دينية بعد وفاته مباشرة في الانتخاب المزور والتوصية الفردية للقادمين دون دليل.. حتى استمرالحكم عند الامويين والعباسيين حكما عضوضا دون ثبت. وفي العصرين البويهي والسلجوقي -334-447 للهجرة – تغيرت مفاهيم الإسلام وتحولت الى قوانين الفقهاء الخارجين عن إسلام محمد الصحيح. من امثال الكليني وابن بابوية والماوردي والغزالي وأبن تيمية وغيرهم كثير.

من هنا انتهت توجهات محمدالرسول الى توجهات فقهية لا علاقة لها بدينه او مبادئه فكانت فيما بعد مبالغا فيها، ومختلفا تماماً حتى حل فينا إسلام جديد. فهم لم يدركوا فلسفة الحياة الواقعية التي أودعها الله في دين عبادة وجسدتها الكتب والوثائق .... وهي لا يمكن ان يسلم من الآذى الرباني كل من خان أمانة الوطن، وقتل النفس البريئة، وسرق أموال الناس، بعد تأديته ألقسم واليمين، لأن القسم مقدس لا يجوز أختراقه.. لذا كل شيء يهون او يمكن التهاون فيه بعد الأعتذار الا الخيانة بعد اليمين.وكل من يحكمون اليوم في دولة الإسلام ينطبق عليهم حق القصاص المدون في الوثيقة.. فهم والإسلام على طرفي نقيض.. حتى استخرجوا لنا أفتراءاتهم مثل ما يقولون ان كل من يذهب للحج يعفى من التقصير. لذل فهذه جريمة بحق الدين.

من يتعرض لدراسة وثيقة المدينة دستور المسلمين الأصل، لابد ان يوطن نفسه على مواجهة حشد كبير من المشاكل والصعوبات قبل ان ينتهي الى رأي معين يمكن الأعتماد عليه.شانه في ذلك شأن كل الموضوعات الخاصة في الدولة الإسلامية على مدى تاريخها.. لان هذه الدولة وكل ما يتصل بها، وما وقع للمسلمين خلال مدة حكمها يتعذر على الدارس ان يقول قولا ثابتا فيها. بعد ان حول الفقهاء ومؤرخي السلطة ما ورد في دستورها (وثيقة المدينة).. الى مغايرة لما جاء فيها، تمهيدا لانشاء دولة السلطة العضوض وليست دولة القانون.. لذا فإسلامنا الحالي متناقضاً مع إسلام الوثيقة.. لابل ليس منها.

بعد المؤامرة على الرسول وقتله بالسُم سنة 11 للهجرة، أحلت اللاشرعية (حروب الردة) من أرتد فأقتلوه، نظرية لا أصل لها في الوثيقة بل الشورى والأختيار، فالدين قناعة وليس أجبار. والغزو الخارجي الذي سموه باطلا (بالفتوح الإسلامية) أغتصاب للحقوق الشرعية، والحروب بين بني هاشم وبني أمية تحول على المصالح الشخصية.. وفي النهاية الى دين سلطة فحل عصر الضعف والاضمحلال ونهاية عصر المسلمين.. حتى اصبح النص الديني لا يشكل المعيار الوحيد للسلوك السياسي في التطبيق.

هنا تعثر إسلام محمد الرسول حبن أسس نهجا واقعياً للحياة يقوم على الواقعية وليس على التصورات الخيالية ليواجه صعاب الحياة وكيفة صيانة حقوق الناس -العدل والاستقامة- الأية 151 الانعام والاية 16 من سورة الجن.. كونه نظرية عقلية قائمةعلى العدل والاستقامة وليس على العاطفة والاقاربية كما كانت حياة العرب قبل الإسلام ونظرية الفقيه المخترعة من عام 1829 من الشيخ النراقي المعززة من الشيخ الكوراني حتى جاء الخميني عام 1979ليحولها الى امامة الفقيه او المرشد العام. باعتبارها نظرية قائمة على نظرية المهدي المنتظر الغائب الوَهَم..

ونظرين الملك العضوض عند الامويين والعباسيين القائمة على العصبية القبلية ومنهما تولدت المذهبية الباطلة المنسوبة لحكم الغيب دون ثبت.. فكانت فلسفة الامام المهدي الغائب واخر الزمان ما هي الا وَهَم.. ومخترع.. هنا مات الإسلام الحقيقي ليحل محله إسلام الشعائر الوهمية المقدسة لاغير. كشعائر الدعاء والحج لغسل الذنوب والخمس لنهب الاموال وشعار المهدي لاحلال العدالة المطلقة.. وشعار أهل البيت المقدسين الى أخر الزمان.. كلها وهميات.. من اختراع فقهاء البويهيين.. بلا دليل.

قامت نظريةالوثيقة (دستور المسلمين الي كتبها الرسول بيدية حكما صالحا لتغيير حكم الحالة السياسية لعرب قبل الإسلام الى حالة دستورية ثابته قائمة على القانون. فالعرب حكموا بتنظيمات عرفية شابهاالنقص في القانون لكونهم قبليين يحكمون بالعصبية لا بالقانون هنا مثلوا نهجا غير اقعي للحياة يقوم على تصورات خيالية جامدة، بل يقوم على اسس قبلي متعصب لمواجهة صعاب الحياة أمام الناس ففشلوا في كيفية حلها جذرياً بنظرية عقلية وليست عاطفية قائمة على الأعتدال دون تمييز.. بين الناس.

هنا جاءت الوثيقة كحل لأزمة أمة تعاني من الخطأ القانوني في التطبيق.. فالوثيقة نادت بوحدة الامة التي لا اختلاف بينها. متساوية في الحقوق والواجبات، وتحريم الاقتتال بين المسلمين، القيادة للأكفىء، والقانون هو الذي يفصل بن المتخاصمين وليس القبيلة او العشيرة او المذهب المخترع منهم، فلامكان لهما في فصل الخلافات المتعفنة بينهم.. والمرأة والرجل لهم نفس الحقوق الحقوق بموجب الحالة المعروضة على القانون ولا تهاون في التطبيق (أنظر جواد علي في المفصل). فالعقيدة الدينية موحدة دون تفريق. والقرآن يقول في سورة النساء آية 1 أناخلقناكم من نفسٍ واحدةٍ.. دون تفريق.

لذا اعتبرت الوثيقة تتضمن المبادىء القانونية.. في الحريةالتامة للمعتقد دون تفريق.. القائمة في حكم الناس.. عدم انفراد الحاكم في الرأي دون الناس، والقانون هو الذي يضبط سلوك الحاكم والمحكوم معاً حفاظا على الوحدة الداخلية المتمثل بوحدة للمجتمع الإسلامي الجديد فلا مذاهب، ولا ملل، ولا عشائرية، أوقبلية.. لانهاء عصر قبل الإسلام القائم على القبيلية والعنصرية والقوة.

أيها الحاكمون المسلمون الفاشلون المغتصبون للحقوق.. ما قيمة الناس الا في مبادئهم ...

لا المال يبقى ولا الالقاب والرتبٌ

فقيم الحياة في الإسلام.. محمدية مقدسة محمية بالقانون.. لا يحكمها حاكم ظالم.. من أمثالكم..

لذا فالكتلة الساكتة اوجدت تكريسا للنظرية الجبرية والحياد والمقاطعة ومساندة فكر الطاعة الذي يمثل مساندة الباطل. هذا ما جاء به الماوردي (قوة الألزام الفقهي) والغزالي الاعتراف بالسلطة كيفما كانت لان البديل يعني الفوضى وابن تيمية: فصل الدين عن الدولة يعني الفوضى.

اما مرجعية الشيعة (كاظم اليزدي) فقد قالت يجب مسايرة المحتل خوفا من القوة.

لذا ترك الفقهاء مجتمعون نظرية التخريب الديني التي تدعي: ان الغنيمة هي بديلا للسيف، والمداورة بديلا للسياسة، والتبعية بديلا عن المشاركة. هنا انتهت رسالة الإسلام المحمدية الحقيقية.. لتحل رسالة الفقهاء المجزأة لرسالة الإسلام المحمدية.

لذا فالأعتراف بنظرية إسلام الفقهاء.. هو خرقا لنظرية القرآن ووثيقة المدينة المحمدية.

***

د. عبد الجبار العبيدي

 

أرجو ألا توضع هذه المقالة في سياق ما تعودناه من رواية الإعجاز والعجائبيات، وأن فقهاء الإسلام الأوائل تفوقوا منذ أربعة عشر قرناً على دوركهايم وسارتر ومونتسكيو وغيرهم من فلاسفة السياسة العالميين، بل هي مقاربة لوعي فقيه عاش في القرن الثامن الميلادي وقدم قراءة متفوقة سبقت عصره بعدة قرون.

إنها جملة مقاربات مدهشة في وعي هذا الإمام الجميل، تركت لدي انطباعاً بوعي متقدم في إدارة المجتمع والدولة، لم تنل حظها من الدراسة والاعتبار.

وبعيداً عن الصورة التبجيلية التي نرويها للإمام مالك عليه سلام الله، في هيبته ووقاره وتقديسه لحروف الرواية وأسانيدها، وهي الأدوات التي كان يستخدمها رضي الله عنه في طريقته التربوية والتعليمية، فإن هناك جانباً من الوعي السياسي التشريعي تفرد به الإمام مالك.

والفكرة المقصودة هنا هي قوله بإجماع أهل المدينة، فقد انفرد الإمام مالك بتأصيل بالقول بذلك في مواجهة الإجماع الشامل الذي ذهب إليه الفقهاء.

ومن المعلوم أن الإمام مالك كان يرى إجماع أهل المدينة مقدماً على السنة إذا رواها الآحاد، وفي كتابه الموطأ وردت عبارة: النص صحيح وليس عليه العمل أكثر من سبع عشرة مرة في كتاب الموطأ.

والقول بإجماع أهل المدينة يقتضي في الوعي السائد أن ما ذهب إليه أهل المدينة هو الأقرب لروح الشريعة، حيث المدينة هي مرقد الرسول وذكرها مسطور في القرآن وفضلها معلوم في السنن، وكذلك فهي المفضلة عقلاً نظراً لما كانت المدينة تعنيه من مخزون الحكمة والنبوة وميراث الرسالة، حيث أبناء الأنصار الذين دعا لهم رسول الله بالخيرية.

من وجهة نظري فإن تعليل إجماع أهل المدينة بفضائل المدينة ومآثرها، فيه ظلم لفقه هذا الإمام الجليل ووعيه، واختزال لوعي تشريعي عميق، في مسألة عجائبية ترتبط بالمكان والزمان وليس بالوعي التشريعي.

قناعتي ان الإمام مالك قصد بإجماع أهل المدينة التأصيل للفقه المحلي، والدعوة إلى إصدار تشريعات متعددة تتناسب مع كل بيئة وجغرافيا.

إنه ليس مجداً لأي دستور ولا تشريع أن يكون صالحاً لكل زمان ومكان، إن الأمكنة تختلف والأزمنة تختلف، والحوادث لا تتناهي وما يتناهى لا يضبطه ما يتناهى، وعلينا أن نقدم الفتاوى لكل بلد على وفق ما يراه فقهاؤه وعلماؤه وخبراؤه، وليس هناك وصفة عجائبية تصلح لكل زمان ومكان، وستعزز هذه الفكرة المواقف الآتية للإمام مالك:

الأول: القصة المشهورة عن لقائه بأبي جعفر المنصور، فقد وصف الرواة جميعاً هذا اللقاء الكبير، والدهشة التي أصابت أبا جعفر من علم مالك وفقه مالك، وقد سحر الخليفة العباسي الكبير بحفظ مالك وعلمه، وطلب إليه كتابه الموطأ ليفرضه على الأمصار، وقال: يا أبا عبد الله دعني أجعل العلم علماً واحداً، إنني أُريد أن أنسخ من كتابك هذا نسخاً، ثم أكتب إلى الآفاق فأحملَهم على كتاب "الموطأ"، حتى لا يبقى أحد يخالفك فيه، فلا يفتى إلا بما فيه! فإنني رأيت أصل العلم رواية أهل المدينة وعملهم.

لقد كانت فرصة نادرة يعرضها عليه أبو الدولة العباسية والمؤسس الحقيقي وجد الخلفاء القادمين لخمسة قرون تالية، ووفق اقتراح الخليفة فإنه سيكون للمسلمين في كل مكان في العالم كتاب الله وموطأ مالك، ويا لها فرصة من ذهب يتمناها كل باحث وفقيه، حيث ستحمل الخلافة نفسها مسؤولي نشر علمه في الناس!..

ولكن الإمام مالك تأمل قليلاً في كلام الخليفة ثم قال بدون تحفظ: كلا يا أمير المؤمنين! إن أصحاب رسول الله تفرقوا في الأمصار وقد حدث كل بما سمع، واتبعهم الناس، وقد رأى كل فريق أن قد اتبع متبعاً!

وفي رواية أخرى قال مالك: يا أمير المؤمنين لا تفعل هذا، فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، ورووا روايات، وإنّ ردَّهم عما قد اعتقدوا شديد، فَدع الناسَ وما هم عليه، وما اختاره أهلُ كل بلد لأنفسهم، فقال أبو جعفر: لعمري لو طاوعتَني على ذلك لأمرتُ به.

وقد أعجب الإمام أحمد بموقف مالك وقال: هكذا ينبغي أن يصنع كل من نال من سلطانه إقبالًا عليه من أكابر أهل العلم من أهل السنة والجماعة، ولا يشتغل بالتعصب، وإعداء السلطان على من خالف اجتهادُه اجتهادَه.

الثاني: صدور الكتاب عن شورى وإجماع في أهل المدينة وليس عن رأي فردي، قال مالك: عرضت كتابي هذا على سبعين فَقِيهًا مِنْ فقهاء المدينة فكلهم وَاطَأَنِي عَلَيْهِ فَسَمَّيْتُهُ الْمُوَطَّأَ.

الثالث: دعوته أهل كل مصر للاجتهاد فيما يخصهم ويعنيهم، وهو ما أوضحه بدقة لأبي جعفر المنصور بقوله: إن لأهل هذه البلاد قولًا ولأهل المدينة قولًا ولأهل العراق قولًا ولأهل الشام قولا!.

ويبدو أن أبا جعفر كان سيء الظن بأهل العراق فقال لمالك: أما أهل العراق فلست اقبل منهم صرفًا ولا عدلًا، وإنما العلم علم أهل المدينة فضع للناس العلم!

ومرة أخرى كان جواب الإمام مالك الرفض والتنبيه أن الفقه في العراق للعراق وفي الشام للشام وفي الحجاز للحجاز، وقال بصراحة يا أمير المؤمنين إن أهل العراق لا يرضون علمنا، ولا يرون في علمهم رأينا، فقال ‌أبو ‌جعفر إذن يضرب عليه عامتهم بالسيف وتقطع عليه ظهورهم بالسياط !!

ولكن هذا العرض الاستبدادي المستفز كان دليلاً آخر للإمام مالك أن يرفض الفكرة برمتها، ويجدد دعوته لدعم الفقه المحلي وفق حاجات كل بلد وظروفه.

ويبدو أن الأمر تكرر بعد ذلك في عهد الخليفة المهدي ابن المنصور الذي طلب الأمر بصيغة أخرى حيث أراد كتاباً جامعاً لسائر بلاد الخلافة، وأرسل لمالك في طلب لك، فكان جواب الامام مالك: أما هذا الصقع يعني الحجاز، فقد كفيته وأما الشام ففيه الأوزاعي وأما أهل العراق

الرابع: موقف الإمام مالك من فتاوى الأمصار، فقد كان يفتي في كل شاردة في المدينة، حتى قيل أيفتى ومالك في المدينة؟، ولكنه كان يعتذر عن أسئلة أهل الأمصار، وكان يرى ان فقهاء كل مصر أولى بمسائل قومهم، وفي القصة الشهيرة أن وفداً من العراق جاءه في أربعين مسألة فأفتى بأربع وسكت عن ست وثلاثين!

الخامس: دعوته لاحترام اجتهاد العلماء والفقهاء في قضايا أقاليمهم، واحترام ما وصلوا إليه بغض النظر عن موافقته لهم أو مخالفتهم، وفي عبارة تكررت عند أبي نعيم أن مالكاً قال للمنصور: إن الصحابة تفرقوا في الأمصار ونشروا علمهم واختلفوا في الفروع، وتفرقوا في البلدان، وكلٌ بما اجتهد فيه مصيب!

وقال القاضي أبو بكر: إن مذهب ‌مالك أن كل مجتهد ‌مصيب، واستدل على ذلك بأن المهدي أمره أن يجمع مذهبه في كتاب يحمل الناس عليه، فقال له ‌مالك رحمه الله: "‌إن ‌أصحاب ‌رسول ‌الله صلى الله عليه وسلم قد تفرقوا في البلاد، وأخذ أهل كل ناحية عمن وصل إليهم، فاترك الناس وما هم عليه"، فلولا أن مالكًا رأى أن كل مجتهد ‌مصيب؛ لما جاز أن يقرهم على ما هو خطأ عنده، وبه قالت المعتزلة من البغداديين، وقد روي عن أبي حنيفة الأمران جميعًا، وكذلك فقد روي الأمران جميعًا عن أبي الحسن الأشعري، وقال المعتزلة البصريون: كل مجتهد ‌مصيب.

السادس: اشتهر عن الإمام مالك أنه كان لا يحب الأرأيتية، وهم الذين يسألون افتراَضاً لمسائل لم تقع، فيقولون: أرأيت لو وقع؟ أرأيت لو كان؟ فكان مالك يقول دعوها لعالم زمانها، وفي الواقع فإن هذه العبارة على اشتهارها عن مالك لم ترد بنصها في أي كتاب معتمد، وقد رويتها لك وأتحفظ على إسنادها، ولعل من يقرؤ هذا يسعفنا بسند عنها، وإلا فهي في حكم المشافهات والله أعلم

وبعد فقد لا تبدو هذه المواقف الستة كافية للجواب على سؤال المقالة، ولكنها بكل تأكيد تصب في غايتها، ويمكننا دون تحفظ القول بأن الإمام مالك كان واعياً بجملة أمور:

- استحالة فرض قانون واحد على كل أمصار المسلمين، بل يجب اعتبار الاجتهاد المحلي، وأهل مكة أدرى بشعابها.

- دعوته الواضحة للاكتفاء بإجماع أهل المدينة مصدراً تشريعياً لأهل الحجاز، فيما استمر في دعوته لأهل كل مصر أن يجتهدوا في مصالح الناس، وصولاً إلى إجماع أهل الشام للشام وإجماع أهل العراق للعراق، ، وهكذا في كل مصر.

- رفضه القاطع لفرض الرأي عبر السلطة مهما رآه صواباً

- رفضه القاطع لاستغلال السلطة لإعداء الناس بعضهم على بعض

- دعوته الواضحة لإنتاج فقه مناسب لكل بلد على يد فقهاء البلد أنفسهم

بالطبع ليست هذه الإشارات كافية لتقديم نظرية متكاملة عن وعي الإمام مالك بالبرلمان الوطني، ولكنها تأسيس لبحث علمي جاد، يستند إلى منزلة هذا الإمام الكبير للوعي بالحاجة إلى كتابة فقه وقانون لكل بلد في إطاره الوطني والتوقف عن طرح وصفات جاهزة لكل زمان وكل مكان.

***

د. محمد حبش

 

قبل أن نغوص في أعماق الفكر المعاصر، والتدوين العربي الجديد، جميلٌ أن نتوقّف قليلاً لنتأمل واقع المثقف العربي الذي يُعاني كثيراً من التهميش والإحباط، بسببٍ رئيسي يتجلّى بغياب مشروع النهضة القومية الخاصّة بالأمّة، وبالتالي غياب أي مشروعٍ حضاري أو ثقافي عربي مشترك.

الواقع الذي يعيشه المثقف أو المفكر العربي يُدركه الجميع، فهو ليس بمعادلةٍ كيميائية أو فيزيائية مُعقّدة، بل حتّى أبسط المتابعين والذين هم من خارج الوسط الثقافي والفكري يُدركون تماماً أن الواقع الثقافي والفكري في تراجعٍ ملحوظ، وينحدر رويداً رويداً نحو الهاوية.

نعم هناك متحدّثون عن خططٍ ومشاريع ثقافية، وقد أكون أحدهم، ولكن هذه الخطط أو المشاريع لا تعدو إلاّ محاولات فردية، وكل الأبجدية التي نتحدث من خلالها ما هي إلآّ من باب التمنّي ليس إلاّ، لأن الواقع يحتاج إلى تكاتفٍ فاعل وجاد وجهدٍ جماعي عربي، ومؤسساتي من أجلِ أن نقول بأننا نخطو الخطوة الأولى السليمة نحو الأفضل، أو نحو برّ الأمان.

فلو كانت الأوضاع على الساحةِ العربية شبيهة بأوضاعها في منتصف القرن الماضي، أعتقد لكانت العملية أسهل وأيسر، لكن منذ حوالي نصف قرن اختلطت الأمور واختلف الواقع الذي نعيشه كثيراً، فهناك تأثيراً وتأثّراً بالثقافة الغربية التي تسللّت حتّى إلى منازلنا وغرفِ نومنا، مع كاملِ اعترافنا بأن الأجهزة الإعلامية والثقافية العربية لعبت دوراً كبيراً في تفكيك الكيان الفكري والتعليمي والتربوي والثقافي العربي.

حيث أن أرضية التفاعل الفكري والثقافي العربي الآن هي أرضية هشّة، وهذا لا يعني نهائياً بأن التقصير من الجانب الأدبي أو الثقافي أو الفكري، بل التقصير وقولاً واحداً هو من جانب السلطات العربية العليا المسؤولة على إدارة هذا المنحى.

 حتّى في مناحٍ أخرى هناك تهميش مفتعل من قبل السلطات على نشاطات اقتصادية بعينها، أو تجارية، حتّى أفراحنا بحاجةٍ إلى موافقةٍ مُسبقة، وهذا يؤكّد بأنه من أجل أن تكون هناك إمكانية للتفاعل الفكري والثقافي العربي لا بُدّ أولاً من إعادةِ النظر في كلّ خطاباتنا السياسية والإعلامية والتربوية والثقافية والاقتصادية والدينية، كي تكون هناك إمكانية فعلية لنشاط المجتمع العربي في مختلف مجالاته.

والمقصود هنا هو لفت الإنتباه إلى أن كل تقصير على الساحةِ العربية مردّه إلى قرارات سياسية سلطوية.

نحن عشنا خلال نصف القرن الماضي حالة صراعٍ بين الحداثة والأصالة، آخذين بعين الاعتبار بأن أغلبية ذلك الصراع كان مُفتعلاً، فالحداثة هي شيء طبيعي جداً، وعند كلّ الشعوب، لكن عندما نختلف وبعناد حول الحاضر والماضي، فإننا وقولاً واحداً سنخسر المستقبل، هناك شعوب شهدت حداثة قوية في مجتمعاتها، لكنها لا تزال تتمسّك بثوابتها وقيمها، وتتغنّى بتراثها الأصيل الذي تعتبره خطاً أحمراً أمام الجميع.

نحن ما يقلقنا هو التبعية والتي تتمدد أخطارها لتصيب كل جانبٍ وكلّ مجال، وغياب الديمقراطية على الساحة العربية تعني بأن المعّول الفاعل على أرضية الأمّة هو معول السلطان.

الجهاز الإعلامي على الساحة العربية يحتكر ويُشوّه كل الأمور، يحتكر الرأي والتعبير والتدوين، وكلّها أجهزة روتينية، لا تملك التعبير عن رأيها، لأنها أسيرة مراكز القرار، وهدفها الأساسي هو التمجيد وعلى الدوام بالسلطان وبمن حوله الذين يملكون القرار.

 في منتصف القرن الماضي كنّا نقرأ كُتباً تتناول حرية الرأي والتعبير، وحقوق الإنسان، وكلّها كانت تضع المواطن والوطن في المقام الأول، لكن بعد تلك الآونة، وجدت الأجهزة الحاكمة الجديدة بأن بقاء الأمور على ما هي عليه يؤثّر سلباً على بقاء القرار بيدها، وخوفاً من خروج الواقع عن السيطرة، بدأوا يُروّجون شعارات " سلامة الأمّة " و" سلامة الأمن العام " و" الإنضباط "، بهدف الحفاظ على الفساد السياسي والحكومي العام.

وهكذا تمّ إفراغ هذا المحور بكامله من محتواه، وتمّ فرض الرقابة على كل شيء، من أجل أمن الوطن واستقراره كما روّجوا.

وتم اعتقال الكتّاب وأصحاب الرأي الحر والمدونون، لأن معظمهم كانوا " إنسان " واضحون، صادقون بكل كلمةٍ يخطّونها.

 إن المؤسسات الإعلامية والثقافية العربية الفاسدة ترتدي ثوب الأيديولوجيا المشبوه الذي يُبرر كل الأفعال والمتغيرات من خلال شعاراتٍ يتم من خلالها استقطاب البسطاء من أبناء الشعب، آخذين بعين الاعتبار بأن الدول الأخرى تلتزم بايديولوجيتها بعيداً عن الزيف أو التلاعب، حيث أن الوضع في بلادنا العربية مختلف، لأن الأيديولوجيا عندنا عبارة عن رداء ليس إلاّ، وهناك فوارق كبيرة بين النظرية والممارسة على أرضية الواقع.

 فبين أجنحة الأيديولوجيا عند العرب يوجد الجمود وعدم الرغبة بالتطور، ومحاولة إبقاء الحال على ما هو عليه، والتمسّك بالنموذج المعمول به، وفي هكذا حالة نفتقد الإبداع، نفتقد الفكر الإيجابي، والثقافة والبلاغة والتجديد والسياسة والاقتصاد.

ولو تأمّلنا جيداً في تاريخنا نجد أن مفهوم البلاغة يفتقد أي علاقة بالمفهوم الفكري ضمن البيئة التي نمت فيها، بينما كانت وثيقة الصلة بالأصول وعلم الكلام والنحو والمنطق.

إنّ الإنسان السوي مُكلّف بالاجتهاد وتجديد المفاهيم في حياته ومحيطه وفي البيئة التي يحياها، وفي الوطن والأمّة.

لكن الأمّة الآن في حالةِ إنهيار وتردٍ، ولعلّها لم تشهد حالة تفكك وتقزّم كما هي عليه الآن، وهذا التردّي هو شامل وعام، لا استثناءات فيه، لذلك من الضروري أن تكون هناك صحوةٌ توقظ الجميع قبل فوات الأوان، لا بُدّ من تحرير العقل العربي وإعادة بناء فكر وثقافة الأمّة، كي نستطيع أن نُعيد للأمّة مكانتها ودورها التاريخي والثقافي والفكري، كي تُكمل مسيرتها على أُسس واضحةٍ وسليمة مع الحفاظ على التعدد والتنوّع الذي ذخرت به ثقافياً وحضارياً وتاريخياً. طبيعة الاستشراف عند الإنسان لا تتحقق لأي كان، لأنها صفة تنطبع في ذاكرة المبدعين الذين يتخطّون الواقع ليحلّقوا في عالم من الاستشراف يستمدونها من خلال معطيات الواقع، فترتد عليهم صوراً استشراقية معاصرة تُنبّىء بما يمكن أن يحصل في المستقبل الإبداعي، المثقف والمبدع هو الذي يتحد مع ذاته فيرى في مجتمعه ووسطه ما لا يراه عامّة الناس.

فيرى عدم إمكانية بذل الجهود الإصلاحية بسبب هيمنة الجمود والروتين الممل على فكر وثقافة الأمّة، وانتشار مظاهر الاستبداد والظلم وقمع الحريات والكلمة الحرّة، وعدم توحّد رؤى الإصلاح والتغيير، لكونها محكومة بتبعات مرجعية تختلف رؤاها من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.

 الاستعمار الحديث اكتفى بموضوع التبعية لكافة بلدان المنطقة، وصادر منها قرارها السياسي والثقافي والفكري والعسكري والاقتصادي فمات الإبداع والتطور.

 لذلك نحن بأمسِ الحاجة إلى تجديد الإبداع الثقافي والفكري، والأمّة ليست بحاجةٍ إلى الخروج عن الرؤية الكلية التي تُحدد مسيرتها وخصائصها ومكوناتها ومقوماتها. الإبداع هو شمول واستيعاب بشكلٍ مُجرّد، وهو الذي يرصد كل التحديات لمختلف مناحي الحياة، وهو الذي يطرح بل ويؤسّس لكل البدائل الحضارية والثقافية والجمالية وسواها، وهو الذي يُحرّض العقل العربي الذي يرفض الرتابة والانحباس والصمت، وهو الذي يتراجع أمام الغزو السياسي ومصالحه الفئوية.

فمن خلال الرؤية السليمة، فإن ما يعنينا في المقام الأول هو الإنسان، الذي يملك الوعي والعقل والممتلك مناهج معرفية لا يمكنها أن تستمر بدون هدفٍ تروم إليه. لذلك فإن مفاهيم الفكر المعاصر تُقيّم الإنسان ونصوصه إن كانت دراسات أدبية أو لغوية أو نقدية، وهذا التقييم النقدي ينبثق من خلال أُسس فلسفية وفكرية تتناول كل شيء شكلاً ومضموناً.

إنّ النقد المعاصر يغوص في ماهيّات الأمّة والأجيال أو شخصيات في الجانب التاريخي، ويعمل على تفسير خصائصها وتحوّلاتها وتطوراتها، ويُفنّد الفوارق تماماً بين أدباء العصر الواحد، في بيئةٍ واحدة، ومن شأن ذلك أن يجعل من النص وثيقةً مهمة.

وفي الجانب الاجتماعي الذي انبثق من الجانب التاريخي، يؤكّد الفكر المعاصر، والنقد المعاصر أن " الفن للفن " ويؤمن بالأدب الملتزم والهادف، والذي يخدم المجتمع والإنسان، وهو من المناهج الأساسية في الدراسات الأدبية والنقدية.

وبالتالي هو فكر معاصر، ومنهج يُوثّق الأمور ويربطها بشكلٍ جيد، ليضعها بين طرفي الأدب والفكر والمجتمع، بحيث يكون الأدب هو الممثّل للحياة على مستوى الجماعة أو الجمهور، والمجتمع هو المنتج الأساسي والراعي للأعمال الأدبية، والمتلقي هو الحاضر في ذهن الأديب، وهو وسيلته وغايته في آنٍ واحد.

ووفق الفكر الماركسي فإن نتيجة التطور الاقتصادي أو السياسي أو الثقافي وارتباطه بالتطور الإبداعي الأدبي لا تظهر مباشرة، بل تحتاج لمرور أجيال وعصور حتّى يتفاعل الأدب مع ظواهر التطور المختلفة ويكتسب القوّة منها.

وفي مجال المنهج الاجتماعي فهناك اتجاهان، الاتجاه الكمّي، الإتّجاه الجدلي، ولكن في الفكر المعاصر والنقد الحديث لم يكن لهذا المنهج روّاد مقتنعون به، يربطون بين الإنتاج المادي والإنتاج الأدبي.

وهناك المنهج الأسلوبي فإنّه يحتوي على الاسلوبية التعبيرية، والأسلوبية البنائية، والأسلوبية الأدبية، والأسلوبية اللغوية، والأسلوبية الاجتماعية، وأسلوبيات أخرى مثل الصوتية والوظيفية.

وهناك مناهج عديدة حديثة، وكلّ منها أسلوبه الخاص في معايرة الخطوات، وكل المناهج المعاصرة تعتمد على آليات عمل ووسائل وأدوات يطبّقها الناقد على النص من خلال خطةٍ واضحة للمدخلات والمخرجات والخطوات.

إنّ حاضرنا العربي لا يزال هشّاً، يطمح إلى تحقيق لحظةٍ نهضوية، وهذه النهضة لا تتحقق من خلال اعتمادنا على تراث غيرنا، فالنهضة ليست سلعة كي نستوردها، بل هي نتاج انتظام الجماهير في مشروعٍ نهضوي تنويري يُحقّق نهضة كل المجالات الثقافية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ولا بُدّ من طرح السبل والوسائل لتحقيق هكذا هدف، من خلالِ برنامج عملٍ متكامل يُعبّر عن رأي وطموح المواطن " الإنسان " دون أي وصايةٍ أو إملاء.

***

د. أنور ساطع أصفري

التعريف المفهومي للكومنتاريا وأساسها المعرفي

تُعرَّف الكومنتاريا بأنها ممارسة معرفية مُقاوِمة. نشأت كرد فعل على هيمنة رأس المال الرقمي الذي يصوغ السلوك والذائقة العامة عبر الخوارزميات. إن هذا السياق يعرّض المثقف لخطر "الاستلاب الرقمي"، حيث تُحوَّل المعرفة إلى سلعة ويُحوَّل المثقف إلى مجرد مستهلك للرمز، لا منتج له.

يكمن الدور التحويلي للكومنتاريا في سعيها لإعادة ترميز الواقع وإنتاج أدوات تحليلية جديدة تستعيد موقع المثقف كفاعل رمزي مستقل.

تتميز الكومنتاريا بخصائص تجعلها تتجاوز الأدوار المؤسسية التقليدية للمثقفين:

أولاً: ممارسة لا مركزية، لا تنتمي إلى مؤسسة محددة، بل تتشكل عبر التفاعل الحر في فضاءات متعددة.

ثانياً: متعددة الوسائط، تستخدم النص والمنصة والصوت والصورة والرمز، وتتحرك بين التحليل والتفاعل.

ثالثاً: جدلية، لا تكتفي بالتفسير، بل تعيد إنتاج الأسئلة وتفكك المسلمات.

رابعاً: تحويلية، تسعى إلى تحويل المعرفة إلى فعل، وإلى إعادة دور المثقف كمنتج للوعي.

إن تعريف الكومنتاريا ليس مجرد وصف لوضع قائم، بل هو في جوهره اقتراح تحويلي. يهدف إلى تحويل وظيفة المثقف من حالة الاستلاب الرقمي (الناتجة مباشرة عن الهيمنة الإمبريالية على التكنولوجيا) إلى حالة الفعل الرمزي المستقل. وعليه، فإن نشأة هذا المفهوم تعكس أزمة أوسع في دور القيادات التقليدية وغياب تأثيرها في توجيه المجتمعات نحو مسارات بديلة.

مفهوم "فائض الوعي" كآلية استغلال/مقاومة

في التحليل الماركسي، يقوم فائض القيمة على تقسيم يوم العمل إلى جزأين: وقت العمل الضروري (الذي ينتج قيمة السلع اللازمة لإعادة إنتاج قوة العمل)، ووقت العمل الزائد. وهذا العمل الزائد هو جوهر الاستغلال الرأسمالي التقليدي.

في سياق الكومنتاريا والرأسمالية المعرفية، يشير فائض الوعي إلى قدرة المثقف على إنتاج معرفة تتجاوز الحاجة المباشرة، وتعمل على إعادة تشكيل الذائقة العامة. هذا الفائض الرمزي الهائل هو ما يسعى رأس المال الرقمي لاستغلاله وتحويله إلى قيمة تجارية قابلة للقياس (مثل البيانات، والتفاعل، وتوجيه السلوك الاجتماعي والسياسي). فالهدف الأساسي للرأسمالية الرقمية هو صياغة الذائقة والتحكم في السلوك عبر الخوارزميات، وهذا يمثل استغلالاً معرفياً مباشراً. تحاول الكومنتاريا استرداد هذا الفائض المستغَل وتحويله إلى وعي تحويلي، ما يضعها في موقع طبقة تقاوم شروط وجودها الاقتصادي والمعرفي في آنٍ واحد.

التناقض الكامن في اللامركزية الرقمية

على الرغم من أن خاصية اللامركزية وتعدد الوسائط التي تتمتع بها الكومنتاريا تُعتبر ميزة مقاومة ضد السلطة المؤسسية التقليدية، إلا أن هذه الخاصية ذاتها قد تمثل نقطة ضعفها الأكبر في سياق رأسمالية المراقبة. اللامركزية تعني عملياً غياب جهاز تنظيمي موحد أو مؤسسات ضامنة. في ظل سيطرة المنصات على فضاء الصراع الرمزي، فإن العمل اللامادي (الإنتاج المعرفي المتناثر) والعمل الحر يجعلهما عرضة لـ "الهشاشة."

إن ما يبدو كحرية إنتاجية واسعة تتحول في الواقع إلى شكل جديد من عمالة البيانات المعرفية، يفتقر إلى آليات التنظيم الطبقي التقليدية، مثل النقابات أو الأحزاب الثورية، التي كانت متاحة للبروليتاريا الكلاسيكية. هذه الهشاشة هي نتيجة استراتيجية لرأس المال الرقمي الذي يحوّل التطلعات الاجتماعية إلى مجرد شعارات زائفة عن الاستقلالية، بينما تبقى السلطة الاقتصادية بيد القلة المتحكمة.

الصراع مع الأرثوذكسية البروليتارية

تسعى الكومنتاريا، من خلال مفهوم فائض الوعي، إلى إعادة تأسيس مفهوم الفاعل التاريخي الثوري، مما يضعها في صراع جدلي مع المفهوم الماركسي الكلاسيكي للبروليتاريا.

تُعرّف البروليتاريا في النظرية الماركسية الكلاسيكية بأنها طبقة العمال الحديثين الذين لا يملكون وسائل الإنتاج، ويضطرون لبيع قوة عملهم لمالكي هذه الوسائل، مما يجعلهم سلعة تخضع لتقلبات السوق. وقد اعتبر ماركس وإنجلز هذه الطبقة، التي نشأت في فترة تفسخ النظام الإقطاعي، هي الوحيدة القادرة على قيادة الثورة ضد الرأسمالية وتحقيق الشيوعية عبر مرحلة انتقالية تُعرف بـ "دكتاتورية البروليتاريا".

على الرغم من أن البروليتاريا اليوم تظل طبقة الأغلبية على هذا الكوكب، فإن الساحة السياسية العالمية تشهد غياباً سياسياً مؤثراً لها. يشير التحليل النقدي إلى أنه لا توجد أحزاب أو منظمات حالياً تمثل مصالح الطبقة العاملة بشكل فعال، ما أدى إلى تراجع تأثيرها في الأحداث العالمية. وقد أدى هذا الغياب السياسي إلى تأكيد العديد من المثقفين على أن الطبقة العاملة قد "اختفت" أو لم يعد لها وجود.

يفرض هذا الواقع، إضافة إلى التحول الاقتصادي العالمي من الصناعة الثقيلة إلى الرأسمالية الرقمية، ضرورة إعادة النظر في مكان الصراع وأساس القيمة، والانتقال من الاعتماد على فائض القيمة المادي إلى التعامل مع فائض الوعي الرمزي.

الكومنتاريا كـ "بروليتاريا معرفية"

يمكن النظر إلى الكومنتاريا كـ "بروليتاريا معرفية" تسعى لملء الفراغ السياسي الذي خلفه الغياب النسبي للبروليتاريا الصناعية الكلاسيكية. إنها تسعى لتحويل المعرفة إلى فعل، مما يشابه المهمة التاريخية للبروليتاريا في تحقيق "الوعي الطبقي" القادر على تحويل البنية التحتية.

تتقاطع الكومنتاريا مع البروليتاريا الكلاسيكية في عنصر الاستغلال والهشاشة. فبينما كان الاستغلال الكلاسيكي يتمحور حول العمل المادي الزائد، فإن الاستغلال الحديث (رأسمالية المراقبة) يتمحور حول العمل اللامادي، والبيانات، والعمل الحر غير المؤمّن الذي يولد فائض الوعي.

لكن مأزق "التأصيل" يظهر بوضوح في زمن التشتت. فمحاولة التأصيل الماركسي للكومنتاريا كطبقة موحدة تصطدم بواقع تشظي الطبقة الوسطى المثقفة تاريخياً، خاصة في السياق العربي، حيث تكونت كطبقة "وظيفية" وليست نتاجاً لعلاقات إنتاج متجانسة. أي محاولة لـ "التأصيل" البروليتاري المعرفي ستكون عرضة للهشاشة والانقسام الداخلي ما لم تنجح في تحويل اللامركزية المبدئية للكومنتاريا إلى قوة تنظيمية قادرة على مواجهة الهشاشة الإنتاجية التي تفرضها المنصات الرقمية.

إن الاعتراف بـ "فائض الوعي" كآلية استغلال جديدة هو اعتراف بأن الرأسمالية قد نجحت في احتواء الثورة التكنولوجية وتحويلها إلى أداة لـ "الاستعمار الرقمي الجديد". إذا كان فائض الوعي هو أساس الاستغلال، فإن الكومنتاريا هي بالفعل طبقة مستغَلة. لكن تأسيسها كطبقة يقتضي أن تمتلك وعياً عميقاً بمسألة الاستغلال هذه (إنتاج الوعي لا مجرد نقله)، مما يضع الكومنتاريا في وضع جدلي، فهي تُنتِج الوعي الذي يُستغَل، وتقاوم هذا الاستغلال من خلال الممارسة الجدلية.

نقد الفاعل الموحد وموروث الطبقة الوظيفية

لقد كانت الطبقة الوسطى العربية، التي تشكل الطبقة المثقفة جزءاً منها، طبقة وظيفية مشتقة في سياق ما بعد الاستعمار. لم تتشكل نتاجاً لتطور طبيعي لعلاقات إنتاج متجانسة، بل صُنعت مؤسسياً لملء الفراغ الإداري والمعرفي. وكانت مهمتها الرئيسية هي التدبير والنقل والتنظيم، لا الإنتاج الخالق للقيمة. ونتيجة لذلك، ارتبطت هذه الطبقة بالسلطة لا بالمجتمع، وبالأيديولوجيا لا بالفعل التاريخي، ما جعلها عرضة للتشظي الداخلي وعدم القدرة على حمل مشروع تغييري جذري أو ممارسة وظيفة نقدية تجاه البنية الاجتماعية.

لذلك تأتي نزعة المغايرة الاصطلاحية كنقد لتيارات فكرية سابقة، ترفض المركزية الأوروبية التي ترى في الحضارة العالمية حضارة واحدة، وتنقد الآليات الذهنية الصلبة والفكر المستورد. تدعم نزعة المغايرة تفكيك مفهوم الذات الثورية الموحدة، وهو ما يتوافق مع أفكار ما بعد البنيوية؛ حيث أشار مفكرون مثل ميشال فوكو وجيل دولوز إلى أن علاقات القوة موجودة في كل حقل اجتماعي، وأن الحرية متوفرة في كل مكان، لكنها تصبح مقيدة عندما تتحول إلى حالة هيمنة.

إن التوتر بين الوظيفية والمقاومة يظل قائماً. فالكومنتاريا، كوريث تاريخي للطبقة المثقفة، تعاني من تشظٍ داخلي هو نتيجة لكونها طبقة وظيفية في البنية الرأسمالية. المقاومة تتطلب التحرر من هذه الوظيفية والعودة إلى إنتاج "العمل الخالق للقيمة"، ولكن في رأسمالية المراقبة، يُستغل العمل المعرفي اللامركزي نفسه.

الكومنتاريا، بخصائصها اللامركزية وتعدد وسائطها ورفضها لـ "التعريف المغلق"، أقرب إلى هذا المفهوم منه إلى مفهوم الطبقة الماركسي الأحادي. إن التزام الكومنتاريا بالمنهج الجدلي الذي يرفض الاكتفاء بالتفسير ويعيد إنتاج الأسئلة، يتوافق مع الأهداف النقدية الجذرية للنظرية النقدية (مدرسة فرانكفورت) التي تسعى لنقد المجتمع والواقع وتحدي الهيمنة.

إن نزعة المغايرة الاصطلاحية توفر للكومنتاريا حماية نظرية ضد خطر التصلب الأيديولوجي أو تكرار أخطاء الطبقات المثقفة السابقة التي سقطت في فخ الوظيفية. فالتوحد كطبقة يجعل الفاعل قابلاً للاستهداف والاحتواء، بينما تبني المغايرة (الكثرة) يضمن التفاعل النقدي المستمر وكسر الحواجز بين الحقول المعرفية، مما يجعل المقاومة دائمة التجدد وغير قابلة للتصنيف السهل. ومع ذلك، يكمن التحدي في أن حرية الإنتاج تؤدي إلى استغلال متزايد (التأصيل المستلب) ما لم يتم تنظيمها بشكل يحمي العامل المعرفي.

طبيعة الهيمنة الإمبريالية الرقمية ورأسمالية المراقبة

شهد الفضاء الرقمي تحولاً جذرياً، حيث لم تعد الإنترنت تمثل "المدينة الفاضلة" التي بُشّر بها في بداياتها. اليوم، تحولت كافة التقنيات الرقمية الحديثة إلى ساحة صراع اقتصادي وتجاري تخوضه التكتلات الرأسمالية الكبرى، وهو ما يُسمى بـ "الاستعمار الرقمي الجديد". هذا الاستعمار يتضافر مع الرأسمالية الصناعية والتقليدية لتحقيق أهداف الهيمنة، التي تقوم في جوهرها على الاستيلاء على الموارد الخارجية (البيانات) واحتكار القطاعات الاقتصادية.

تعتمد الهيمنة الإمبريالية الرقمية بشكل أساسي على "رأسمالية المراقبة"، حيث يخضع المجتمع لآليات تحكم وقياس كمّي تديرها الشركات الرقمية بمنطق تجاري بحت. هذه الشركات، المدعومة بتطور الذكاء الاصطناعي، وسّعت من قدرتها على المراقبة واستغلال البيانات بطرق غير مسبوقة.

على المستوى الرمزي والسياسي، تستخدم الهيمنة الإمبريالية التكنولوجيا كأداة لتشويه الحقيقة وإعادة إنتاج الخطاب الدعائي والتضليل الإعلامي، عبر استغلال تحليل البيانات الضخمة والخوارزميات الذكية لتوجيه المعلومات. هذا السيطرة على أدوات الترميز يضعف قدرة الجماهير على اتخاذ قرارات سياسية مبنية على وعي نقدي حقيقي.

إن التحدي الأكبر يكمن في أن الهيمنة الإمبريالية تستغل التشظي الطبيعي للكومنتاريا وتعمقه عبر التضليل والخوارزميات الموجهة. لذلك، فإن الفعل التحويلي للكومنتاريا يقتضي بالضرورة أن يكون موجهاً نحو مقاومة السيطرة على البنية التحتية الرمزية، أي الضغط من أجل شفافية الخوارزميات وتطوير تقنيات التشفير كأدوات مادية ضرورية لتحقيق الاستقلال الرمزي.

يجب على الكومنتاريا أن تتجنب الوقوع في فخ الوظيفية المرتبطة بالسلطة أو الدولة، وأن تتبنى نقداً جدلياً ينطلق من الواقع المحلي والسياق الإمبريالي الرقمي المعاصر، مما يضمن أن نزعة المغايرة تتحول إلى قوة تنظيمية بدلاً من أن تكون نقطة ضعف اقتصادية.

***

غالب المسعودي

...................

المراجع

عبد الجليل البدري: الكومنتاريا كطبقة معرفية جديدة - صحيفة المثقف

د. صالح نجيدات: دور مواقع الانترنت والمثقف في توجيه مسار المجتمع - كل العرب (ahewar.org)

عبد الحسين سلمان عاتي: ماركس وفائض القيمة - الحوار المتمدن (elayem. news)

الرأسمالية الرقمية.. من هم عبيد العصر الجديد - الأيام نيوز

اقتصاد العمل الحر في العصر الرقمي - Fiber Connect Council MENA (fiberconnectmena.org)

(الحواسيب لا تفهم، هي فقط تعالج الرموز)... جون سيرل

(المعرفة ليست حيادية، بل قوة؛ ومن يتحكم في إنتاج المعرفة يتحكم في السلطة)... ميشيل فوكو

بين السرعة والكفاءة المعلوماتية، يبرز الذكاء الاصطناعي التوليدي كفاعل أساسي في إنتاج الخبر، لكنه في الوقت ذاته يثير تساؤلات جوهرية حول صدقية الأخبار وحياد الخوارزميات.  والمعلوم أن النظم الخوارزمية لا تعمل بمعزل عن البنى الاجتماعية والثقافية التي صممت ضمنها، فهي تتكيف وفق قوالب التأطير المعلومياتي والرقمي، ما يجعل إنتاج المعلومة مرهونًا بمحددات مسبقة تتجاوز التقنية لتشمل القيم واللغة والبنية المعرفية التي تنطوي عليها البيانات.

وتظهر الدراسات الحديثة، مثل تقرير هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) واتحاد الإذاعات الأوروبية (EBU)، أن نسب الأخطاء في المحتوى الرقمي ليست مجرد خلل تقني، بل انعكاس لثقافة رقمية ومجتمعية محددة. فالذكاء الاصطناعي يعيد إنتاج الخطأ ضمن نسق منظّم، ما قد يؤدي إلى تكوين “واقع رقمي مزيف”، حيث تتداخل الحقيقة مع التحريف ضمن وعي المستخدم، ويصبح الجمهور مضطرًا إلى مواجهة أخطار المعرفة المضللة في فضاء افتراضي سريع ومتغير.

في هذا الإطار كشف التقرير الدولي المشترك الصادر في 22 أكتوبر عن المؤسستين الإعلاميتين السالفتين، عن نتائج صادمة، إذ وُجد أن 45% من إجابات أنظمة الذكاء الاصطناعي تحتوي على خطأ جسيم أو تضليل صريح، فيما بلغت نسبة الردود المليئة بأي شكل من أشكال الخطأ 81%. هذه الأرقام تكشف أن أربعة من كل خمس إجابات يمكن أن تكون مضللة، وهو مؤشر على هشاشة المصداقية الرقمية في عصر الاعتماد الكلي على الخوارزميات في نقل الأخبار.

لا تكمن خطورة هذه النتائج في الكفاءة التقنية فحسب، بل في قدرة الذكاء الاصطناعي على إنتاج نسخ مشوهة من الواقع، حيث يثق المستخدم في واجهات مصقولة وسريعة دون أن يعرف أن ما يحصل عليه ليس الحقيقة الموضوعية، بل نسخة مختزلة ومعدلة من الأحداث. وهكذا يتحول الذكاء الاصطناعي من أداة مساعدة إلى قوة قد تساهم في تشكيل وعي مزيف لدى الجمهور.

إن الأخطاء التي تسجلها هذه الأنظمة لا يمكن اعتبارها مجرد خلل عشوائي، بل انعكاس لثقافة البيانات والبنية المعلومياتية التي صممت ضمنها. فالخوارزميات تعتمد على مجموعات ضخمة من البيانات، وهذه البيانات نفسها تحمل تحيزات لغوية وثقافية وإيديولوجية، تؤثر في نتائجها النهائية.

من هذا المنظور، يصبح الخطأ الخوارزمي مؤشرًا على تفاعل التكنولوجيا مع السياق الاجتماعي والثقافي. فالآلة تتكيف مع قوالب التأطير المعلومياتي، ما يؤدي إلى إعادة إنتاج التحيزات والمواقف المجتمعية، حتى وإن لم تكن مقصودة. وبهذا، تتحول الأخطاء الرقمية إلى أداة تحليل سوسيولوجية تكشف العلاقة بين التكنولوجيا والمجتمع، وبين المعرفة الرقمية والوعي البشري.

وفي قلب هذه الأزمة، يبرز السؤال الفلسفي: هل يمكن للآلة أن تكون موضوعية، وهي نتاج عقل بشري محدود ومحكوم باختيارات قيمية؟. إن ما يُنتج من أخطاء ليس فقط نتيجة عدم قدرة الخوارزمية على فهم الواقع، بل نتيجة طبيعة عملها التي تدمج الاحتمالات والإحصاءات ضمن منطق برمجي محدود بالبيانات والتصميم المسبق.

ويظهر مفهوم “أخلاقيات الخوارزمية”، أي مسؤولية المبرمجين والشركات المطورة عن جودة ودقة ما ينتجه الذكاء الاصطناعي، خاصة في المجالات الحساسة كالأخبار. فالاعتماد على الخوارزميات بدون رقابة صارمة أو إطار أخلاقي يؤدي إلى استقطاب معرفي ومجتمعي، ويخلق ما يمكن تسميته بـ”واقع مزيف يتوسع بصمت”، حيث يبدو الخبر صادقًا ولكنه مشوّه.

ولمواجهة هذه التحديات، يحتاج المجتمع الرقمي إلى آليات متعددة المستويات، يتقدمها حافز توعية الجمهور، وذلك عن طريق تعليم المستخدمين كيفية التمييز بين الحقيقة والزيف الرقمي. ورقابة مؤسساتية وتقنية، بتطوير مؤشرات شفافية الخوارزميات، وإعداد تقارير تصحيحية للأخطاء. بالإضافة إلى مساءلة الشركات الكبرى، بإلزام مطوري الذكاء الاصطناعي بتوثيق مصادر التدريب، وضمان معايير أخلاقية دقيقة. علاوة على دمج الثقافة الرقمية والسوسيولوجيا في تصميم البرمجيات، لضمان احترام القيم المجتمعية وتقليل الانحيازات المضمّنة.

إن أزمة الذكاء الاصطناعي في نقل الأخبار ليست مجرد مسألة تقنية، بل أزمة معرفية وثقافية وفلسفية. فالخطأ الخوارزمي يفضح العلاقة بين التكنولوجيا والوعي، ويعيد طرح سؤال الحقيقة في زمن يهيمن فيه الذكاء الاصطناعي على إنتاج المعلومة.

المستقبل الرقمي يحتاج إلى توازن بين سرعة المعرفة الرقمية وعمق المصداقية، وإلى دمج الأخلاقيات، الفلسفة، والسوسيولوجيا مع التكنولوجيا لضمان إنتاج خبر مسؤول وموثوق، قادر على تعزيز وعي المجتمع بدلاً من تشويهه. فالمسألة لم تعد مجرد دقة المعلومات، بل مسألة استقرار المعرفة والوعي في العالم المعاصر.

***

د. مصطفى غَلــــمَــان

طبيعة الإنسان يحنّ إلى الماضي، وبسبب روايات متناثرة وضعت في سياقات مختلفة يتصور بعضهم الماضي تصورًا ملائكيّا، فهو لتقادم الزّمن لا يستطيع ملء الفراغ فيما بين هذه الرّوايات، على مستوى الشّخوص، وعلى مستوى المجتمعات والدّول. والعكس صحيح؛ فهناك من يسقط روايات سلبيّة على شخصيّات تأريخيّة، أو على حقب سياسيّة؛ بمجموع هذه الرّوايات التّأريخيّة والحديثيّة المتناثرة يعمّم السّلب على هذه المرحلة.

الماضي لا يختلف عن الحاضر؛ لأنّ الّذي يصنع الماضي والحاضر هو الإنسان، والإنسان في صيرورته وتدافعه في الحياة يحمل الصّواب والخطأ، والخير والشّر. هو إنسان بشريّ بطبعه يحمل مصاديق البناء والإصلاح كما يحمل مصاديق الفساد والهدم، فلا الماضي يمثّل صورة ملائكيّة جماليّة مطلقة، ولا الحاضر يمثّل صورة شيطانيّة قبيحة مطلقة. ومن الأفراد والمجتمعات والدّول في الماضي من حاول تمثُّل الارتقاء الإنسانيّ، وكذلك في الحاضر أيضا؛ فليس هناك سلف ملائكيّ مطلق، ولا خلف شيطانيّ مطلق. هناك إنسان يتدافع في الحياة، ويتأمّل فيها، ويعايش قسوة طبيعتها، ويتدافع مع من يماثله جنسا، أو يباينه نوعا؛ عاش في الماضي، أم يعيش في الحاضر والمستقبل.

المشكلة أنه في الخطاب الجمعيّ من يرهن الحاضر بالماضي؛ فيجعل الحاضر شرّا محضا، والماضي خيرا مطلقا، أو يتصارع على شخصيّات ماضويّة. فلسبب روايات تأريخيّة متناثرة يجعل تلك الشّخوص معصومة عن القراءة البشريّة، والاقتراب من نقدها أو نقد ذلك التّأريخ معرفيّا وعلميّا كنقد النّصوص المقدّسة، أو الاشتغال بها ورهن الحاضر بأحداث ورموز مضت، أكثر من الاشتغال بقيم التّرقي البشريّ وفق سنن الواقع ومصاديقه، لا سنن الماضي وتأريخيّته، وما نراه حاليًا مثلا من الحدث الّذي حدث في مصر تحديدا في طنطا بالغربيّة حول شخصيّة «أحمد البدويّ (ت: 675هـ)» هناك من يرفع هذه الشّخصيّة إلى حالات ملائكيّة مقرونة بالعصمة المحرّم نقدها، وهناك من يجعله شخصيّة أقرب إلى الدّراويش، ويعمّم ما نسب إليه من سلبيّات بشريّة وكأنّه لم تصدر منه حسنة بينما العقل اليوم يحتاج إلى من يجعله يعيش واقعه وفق ظرفيّة الواقع وسننيّته في بناء الحياة معرفيّا وعلميّا وصناعيّا، وفي إصلاح الحياة وبنائها، وجعل العقول تدور وفق سنن الحياة مع تحقيق كرامتها، وليس جعلها تدور وتتصارع وفق شخوص وأحداث في الماضي أو الحاضر؛ لأنّهم كبشر عاشوا واقعهم بطبيعته وثقافته، لكنّهم لم يعيشوا سنن عالم غير عالمنا، فكذلك ينبغي أن يشغل العقل الجمعيّ اليوم وفق واقعه وواقع البناء والتّنمية فيه، فعالمنا وسننه واحدة، لكن الواقع وظرفيّته متحرّكة.

ثمّ علينا أن نمايز بين الشّخوص والحدث، وبين المعرفة والمعتقد أو اللّاهوت؛ فالأديان والمذاهب لها سلف (الآباء الأوائل)، ولقربهم من التّأسيس عادة ما يتصارعون حول الرّموز ذاتها، أو تقديس بعض أحداثها، والتّشبث ببعض أخبارها. والعديد من الأخبار متأخرة دونها محبّ غال، أو كاره مبغض؛ فتجد التّناقض حول الشّخوص والأحداث، وتركز عادة على المغازي والصّراع والمثالب، كعادة كتابة الحوليات القديمة. ومع مروز الزّمن نتيجة التّعصّب للشّخوص والحدث تروى الكرامات والمحاسن والمناقب، وكلا الأمرين -المثالب والمناقب- لا يحكيان حكاية الماضي كاملة، بل تأخذ طرفا من ذلك، فيختصر تأريخ الشّخوص والأحداث في أطراف الرّوايات. ومثل هذا ما كان من صراع بعد وفاة النّبيّ - صلّى الله عليه وسلّم - من 11هـ وما بعدها؛ لا يكاد يذكر حولها إلّا الصّراع على السّلطة، والتّقاتل لأجلها، وما تبعها من اغتيالات؛ من سعد بن عبادة حتّى عليّ بن أبي طالب. هذا التّأريخ دارت حول شخوصه المثالب والمناقب، كما وضع شيئا من ذلك الجاحظ (ت: 255هـ) في كتابه «العثمانيّة»؛ فأحداث نصف قرن بفتوحاتها وتدافعها مع الأمم الأخرى اختزلت في حوليات الصّراع والقتال، ثمّ دخلت في المعتقد واللّاهوت، ليصبح النّسبيّ مطلقا، والحدث البشريّ لاهوتيّا مغلقا، فلم تعد أمّة قد خلت، بل أصبحت من المعتقد يدور حولها الولاء والبراء، وترهن به عقول كان الأولى توجيهها نحو الحضارة والبناء والتّنمية.

وعودا إلى ملائكيّة الماضي حاولت أن أتأمل وألخص كتاب «رسائل الإمام جابر بن زيد الأزديّ» (ت: 93هـ)، وفيه ثماني عشرة رسالة، منها رسالته إلى راشد بن خيثم، وجوابه على مسائل عثمان بن يسار، وأجوبته على ظريف بن خليد وغيرها. المتأمل في هذا الكتاب ورسائله -ممكن تصنيفها في النّصف الثّانيّ من القرن الأول في البصرة وشيء من الجزيرة العربيّة، أي بعد نصف قرن من وفاة النّبيّ - صلّى الله عليه وسلّم -، وهو لا يحكي القضايا السّياسيّة، وإنّما يتمثّل في القضايا الاجتماعيّة والماليّة وشيء من الجوانب الطّقوسيّة- يدرك فيه الحالة المبكرة من الطّبيعة البشريّة في صدر الإسلام المبكّر، والمتمثلة في المشكلات الاجتماعيّة المتعلّقة بقضايا المرأة والأسرة والعلاقات الاجتماعيّة والماليّة، فيكثر الحديث عن الطّلاق والعلاقات الجنسيّة، وقضايا الإماء والعبيد، ونكاح الجواري والصّبيان، والعلاقات الماليّة في البيوع والزّكاة والأوقاف والهبات. والكتاب يحوي العديد من العلاقات المجتمعيّة السّلبيّة بين الجنسين، والتّساهل مع الإماء، وغيرها ممّا يصوّر لنا الطّبيعة البشريّة في تلك المرحلة. وهي ذاتها في المراحل الأخرى؛ فالإنسان هو الإنسان، وإن تغيّرت ظرفيّة واقعه، وحراكه مع اقتضاءات تطوّر المجتمعات، لكنّها جملة لا تخرج عن الطّبيعة البشريّة، فليس هناك ماض مطلق القدّاسة والطّهارة، ولا ينبغي أن يجعل هذا الماضي البشريّ مقياسا يرهن به الحاضر، وإنّما يستفاد منه وفق الأجواء والمصاديق البشريّة، ولا يدخل في صندوق التّأليه والعصمة والقداسة المطلقة.

***

بدر العبري – كاتب وباحث عُماني

 

مُذْ تشعّبت اللغات وتقاطعتْ مصالح الأقوام ما فتئت الحضارات تتكئ على الناقل الوسيط الذي تُجسّر به هُوّة المجهول مع الآخر، الترجمة، ومن غيرها؟! لا مَنْدوحة لنا من التأكيد على أهمية العمل الترجمي الذي ينطلق من مبدأ الاعتراف بالآخر، ويستهدف التعرُّف عليه، لتنتظم تقاطعا محوريا في المواسم الكبرى للتلاقح المعرفي، وهي سمة ملازمة ما بقيَ تعدد الحضارات بنسيجها الفُسيفسائي ثقافةً ولغةً وتموضعًا معرفيا وإنتاجا إنسانيا، فلها الفضل في مباغتة الزمن بقفزات عملاقة للأمام جرّاء الإفادة من معارف الآخرين، فالمعرفة الموضعية إقليميا - خصوصا في المناطق التي تخلّفت عن رَكْب التقدم العلمي - تتطلّب قرونا متطاولة لتصل إلى ما وصلت إليه قريناتها في الزمن!

وتبكيرًا لنقطة نظام، فإن هذا المقال لا ينتظم في نَسَق تدبيج القول في قيمة العمل الترجمي من حيث المبدأ، فهذا - فيما أرى - محلّ اتفاق، وإنما أحاول أن أُسقط البرقع عن الوجه المشوّه لحال الترجمة الراهن، وصورتها الواهنة الحالية، وأستنطق المسكوت عنه في الترجمة بما يكرّس انزياحها من الناقل المعرفي الوسيط إلى الفعل المشوّه لوجه الآخر واستجابتنا للمعرفة المبتورة المتلقّاة، وأردف ذلك بوَمَضات بما هي لَبِناتٌ مبدئية في سبيل إعادة المكانة اللائقة بها.

ولكي تكون توطئة متماسكة، دعوني أُعرّج ابتداءً على طبيعة اللغة على اعتبار أنها الحقل الذي تُعمِل فيه الترجمةُ محراثَها، كحركة بندول من اللغة المترجَم منها إلى اللغة المترجَم إليها، فاللغة هي كيان يتعالى من كونه مجرد قاموس لغوي، يضمُّ مفردات بين جنباته، إلى نسيجٍ متعدد المكوّنات تربط معيشة الناس ومصائرهم، وتعكس آلامهم وآمالهم على حدٍ سواء، فهي بحق - أي اللغة - تَناسُلٌ لتاريخ رقعة أرض بشتى مكوّناتها البشرية والمادية والمفاهيمية، وهي بهذا المفهوم في تعقيدها وحشيةٌ متعذرة على الترويض.

وبما هي كذلك فاللغة ليست مجرّد كلمات منبتة عن سياق معرفي-إنساني كامل، بل هي بنية رحبة تتعدى مجرد كونها قناة تواصلية إلى كونها أداة فاعلة لتَصوّر العالَم بل وقولبته، ينقل لنا داريوش في كتابه الهوية والوجود عن (Benjamin Lee Whorf) وهو عالم لسانيات أمريكي بارز، اشتهر بتطوير النظرية النسبية اللغوية المعروفة بـ (Sapir Whorf) وفحواها أنّ اللغة ليست انعكاسا للواقع، بل تُشكّله!: " تحكم أنماط تفكير الفرد قوانين تشكيلية عتيدة (...) كل لغة هي منظومة تشكيلية هائلة مختلفة عن غيرها، تنتظم فيها ثقافيا الأشكال والأصناف التي لا تكتفي بها الشخصية بأن تتواصل فحسب، بل تحلل كذلك الطبيعة (...) وتحدد قنوات تفكيرها وتُنشئُ مسكنَ وعيها".(1)

ولنيتشه استطرادٌ قَيّم في سياق القدرة المسحولِ حقُّها للغة على صياغة الواقع بمفاهيمه ونوعية تفاعلنا معها مِنْ ثَمَّ: "فحيثما تكون هناك قرابة لغوية، هناك بالذات، وبفضل فلسفة نحوية مشتركة - أعني بفضل سيادةٍ وسيطرةٍ لا شعورية للوظائف اللغوية المشتركة - لا بد أن تكون الأسس مهيّأة مسبقاً لتطورٍ وتعاقبٍ فلسفيّين متشابهين، في حين يبدو الطريق مسدودًا أمام أية إمكانية لتأويل آخر للعالم. وهناك احتمال كبير أن فلاسفة لغات أقاليم أورال ألْتاي حيث ظل مفهوم المسند إليه (الفاعل) في مستوى أدنى من التطور يمتلكون على الأرجح نظرة مختلفة للعالم، ولهم طرق أخرى في تأوّله غير تلك التي لدى الهندوجرمان والمسلمين؛ فالإكراه التي تمارسه وظائف نحوية بعينها هو في عمقه الأقصى إكراه تمارسه أحكام قيمية فيزيولوجية وشروط عرقيّة".(2)

ما أرمي إليه من هذا الإسهاب في البُعد الشمولي للغة هو أنه عندما نطلق مصطلح (ترجمة) فيجب ألّا يَقرّ في أذهاننا أن الترجمة هي محضُ بحثٍ عن معادل لفظي في اللغة المترجَم إليها للكلمات في اللغة المترجَم منها، بل الأمر يتعدى ذلك إلى تعيين المعادل الوظيفي لتلك المعاني في سياق ثقافة بمحدّداتها كافة، وإغفال ذلك يُظهر العمل الترجمي مادةً سطحية تشوّه أكثر مما تنقل!

نعم إنّ الترجمة قاصرة عن الوصول لحدّ مطابقة المعنى، ففي مقال سابق لي على هذه الصحيفة الغرّاء، بعنوان: كيف تشكّل اللغة أفكارنا وفقا لعلم الأعصاب اللغوي؟! أشرتُ إلى طبيعة الترجمة اللصيقة بها، والتي يصعُب استسهال انعكاساتها: "ولكن عندما نُنْعِم النظر فإنّ الترجمة لا يمكن أن تطوي مسافة اللغة؛ ولذا فالترجمة هي طبقة إضافية على اللغة الأصلية، وهي مسافة أخرى عن المعبَّر عنه من الفكرة الذهنية أو الشعور، وكلما كانت الترجمة عن لغة لا تنتمي لعائلة اللغات ذاتها كانت المسافة أكبر" ففي هذا النص أؤكد على أنّ الترجمة هي - ولا بُدّ - انزياحٌ ثانٍ للمعنى - بعد الانزياح الأول بين مسافة اللغة الملفوظة وبين الفكرة الذهنية - ضريبةً لانتقال الأفكار من لغة لأخرى، ولك أنْ تتخيل درجة تشوّه المعنى إنْ كانت اللغتان لا تنتميان للعائلة اللغوية ذاتية، ويزداد الأمر تعقيدا إنْ تعددت الوسائط الترجمية، كأنْ يُترجَم كتاب من الألمانية إلى الإنجليزية ثم من الإنجليزية إلى العربية! في انزياحٍ ثالث للمعنى، وهلمّ جرًا، فيتلقى القارئ العربي ترجمة شوهاء متعددة الأبعاد!

ولقد انتبه نيتشه لتلك الدقائق العصيّة على الترجمة، إذْ يقول: "إن أصعب ما يمكن ترجمته من لغة إلى أخرى هو النسق الذي يميز أسلوبها: وهو شيء له أساسه في الطبع الخاص بالعرق، أو بعبارة فيزيولوجية، في متوسط نسق (الأيْض) عند ذلك العرق. فهناك ترجمات حسنة النية تكاد تكون نسخًا مزورة، وابتذالا غير متعمّد للأصل، لا لشيء إلا لأن النسق الجسور والمرح، ذلك الذي يقفز فوق كل ما هو خطير في الأشياء والكلمات ويساعد على تخطّيه، قد تعذّر على الترجمة".(3) ولكن كلامنا في الحد الأدنى الذي لا بد من الأخذ به وهو استحضار النسق المعرفي العام للنص المترجم.

ومرة أخرى، الإشكال الذي نعانيه هو إشكال مفاهيمي لمفاهيم نلوكها ليل نهار، بدون أن نأخذها على محمل الجِدّ، فالترجمة - في مفهومها العريض - تأخذ عدة أبعاد، البُعد الأساسي وهو ترجمة النص، وهذا جليّ، ولكن ثمّة بُعد آخر أهم بمراحل، وهو بُعد تموضع المادة المعرفية المرشحة للترجمة في شبكة المعرفة أولويةً وأصالةً وعلاقة مع نظيراتها من المواد المبثوثة هنا وهناك، وخليقٌ بي أن أُفسح المجال لداريوش شايغان المفكر الإيراني-الفرنسي الذي سبِر التعدد الثقافي ويعي جيدا ما يتحدث عنه حين يتصل الأمر بالعمل الترجمي، إذْ يقول في كتابه النفيس، النفس المبتورة: "وبما أن الترجمات تجري، من جهة ثانية، بلا سياسة متماسكة، بلا رؤية شمولية، فإنها تقدم نفسها كأنها كتل من معارف متناغمة، يمكنها أن تسمح لنا بأن نعرف مدرسة فكرية إلى حد ما، لكنها تنتشر على شاكلة معارف متناثرة، غير مرتبطة بأي سياق خاص، تقوم بدلا من توجيه القارئ، في مجال متخصِّص، بتضليله وتشريده في متاهة العلوم الإنسانية، وهي تفتقر افتقارًا شديدًا إلى خارطة فلسفية تحدّد موقع التيارات الفكرية في إطار مناسب".(4)

إذن بُعد التموضع المعرفي مهم للغاية، فالترجمات العشوائية التي لا تلقي بالًا لأولوية متعلَّقات الأعمال الترجمية إنْ في الشبكة المعرفية العامة وإنْ في حقل خاص من الحقول، فإنّ نتاجها أقرب إلى خبط عشواء، وستهضم المجتمعات المتلقية مادةً منبتّة بِنَزَق عن شبكتها المعرفية، وغير موضوعية في النظرة الكلية، وأنه إذا ما قُصِرَت الترجمة على البُعد الأول - أي النصوص كيفما اتفق - فهو إذّاك عمل عبثي مؤذٍ معرفيا إن نظرنا إلى الصورة الإجمالية والمحصلة النهائية والمدى البعيد.

إنّ البُعد الثاني للعمل الترجمي يستلزم مَأْسَسَته - أي إنشاء مؤسسة تضطلع بمهام عمله - ليقوم بدوره المُلقى على عاتقه؛ من حيث إنها عملية واسعة تطلب تكاتف جهود أكْفاء من مختلف التخصصات العلمية والإنسانية، فالترجمات كالحقول المعرفية، تتطلّب تخصصا، وهذا وإنْ كان موجودا، فهو إما جهود تمشي على استحياء، وإما جهود غير ناظرة إلى جُملة الشبكة المعرفية المترامية الأطراف، والتي تتموضع فيها مادة العمل الأصلي قبل ترجمته - كما أسلفنا - إنّ إنشاء مركز للدراسات الترجمية بهذا المستوى من الالتفات الواعي سيخلق طفرة كبيرة في مجال تعرّفنا على الآخر كما هو إلى حد كبير، وكذلك عمق المعرفة الذي سنقف عليه من ناحية أخرى.

إنّ تعلّم اللغة الأخرى بما تحمله من عناصر ثقافية وتاريخية - بالتصور الذي بيّناه - هو الحل الأمثل لِلْمَتْح من معارف تلك اللغة، وتأتي الترجمة خيارا ثانيا، وخصوصا تلك المترجمة عبر وسيط ترجمي واحد، فللعربي الذي لا يحسن الفرنسية مثلا أن يقرأ كتابا مترجما من الفرنسية للعربية مباشرة وليس من الفرنسية للإنجليزية ثم للعربية، حيث تفقد المعرفة في طريق الترجمة المتعرج هذا جزءا من حمولتها الدلالية وتُشوَّه في كل منعطف لغوي! وهذا إنْ استطاع الفرد النفاذ إلى ترجمات مباشرة بطبيعة الحال، وإلا فليختر المشي على حقل الألغام إن شاء! وإن كان الفرد على دراية باللغة الإنجليزية ففي رأيي أن يقرأ العمل الترجمي من لغة أخرى للإنجليزية أولى من أن يقرأ المترجَم من تلك اللغة للعربية؛ نظرًا لكفاءة اللغة الإنجليزية معرفيا بسبب معجمها العلمي دائم التطوّر والمواكبة، وعلى كل حال فخيارات الفرد بدون تعلم اللغة المترجم منها هي خيارات شحيحة في عالمنا العربي، وعليه إن رغب في الْعَبّ من المعارف المتجاوزة زمن إقليمه أنْ يساير الحركة الترجمية العرجاء لمعارف الآخر بحذر شديد، ولْيتخيّر من بينها ما يسحبه للعمق والأسئلة الأولى، ولن يُعدم!

وخلاصة القول أنّ الترجمةَ - رغم طبيعتها القاصرة الملازمة لها كما فصّلناه آنفا - عملٌ معرفي يمثّل احتياجا لا يمكن القفز عليه، ويُزجَى شكرٌ كريم للقائمين عليه، إلا أنه في وضعه المتداعي حاليا هو ألصق بوَثباتٍ مرتجَلة منه بأن يصطفّ ضمن الأدوات المعرفية التي يمكن الرهان عليها، وحتى تنهض بواجبها المعرفي المنوط بها على أفضل وجه ممكن، يجب أن تحفّ بها عدة عوامل من المَأْسَسَة الواعية والتضلّع الثقافي - حدَّ التُّخمة - من اللغتين، المترجَم منها وإليها، وتحديد إطار فكري مدروس للمواد المترجَمة، وغيرها من العوامل التي تضمن أكبر قدر متاح ضمن الحدود البشرية من المصداقية والدقة ضمن خارطة دقيقة، وبغير ذلك فالترجمة فعل تشويهي لمعرفة الآخر؛ الأمر الذي يُلقي بظلاله البائسة على تفاعلنا مع معرفة شوهاء، إضافة إلى نوعية وحِدّة استجابتنا للآخر المتضاعفة عبر الزمن الذي يتجاوز الضعفاء!

***

محمـــد سيـــف – كاتب وباحث عُماني

 ........................

الهوامـــــــش

(1) الهُويّة والوجود - العقلانية التنويرية والموروث الديني، داريوش شايغان، ص29، دار الساقي، ط1، 2020.

(2) ما وراء الخير والشر، نيتشه، ص34-35، منشورات الجمل، ط1، 2018.

(3) ما وراء الخير والشر، نيتشه، ص47، منشورات الجمل، ط1، 2018.

(4) النفس المبتورة - هاجس الغرب في مجتمعاتنا، داريوش شايغان ص146، دار الساقي، ط2، 2018.

 

"التاريخ الحي قيد التكون، وفي يدينا أدواته لبنائه"

مقدمة: في عالم معاصر يتسم بالشساعة الرأسمالية العابرة للحدود – حيث تتدفق السلع والمعلومات والقوى عبر قارات مترابطة بطرق غير مرئية – وبالرعب اليومي الناتج عن أزمات مثل التغير المناخي، الاستقطاب السياسي، والتفاوت الاجتماعي الذي يولد حركات احتجاجية عفوية، يبرز أنطونيو غرامشي (1891-1937) كمفكر ماركسي يقدم أدوات نظرية لا تزال حية وفعالة. غرامشي، الذي قضى سنواته الأخيرة في سجون الفاشية الإيطالية يكتب "دفاتر السجن"، لم يكن مجرد فيلسوف؛ كان ثورياً عملياً آمن بأن الثورة ليست مجرد اقتحام للقصور الشتوية، بل "حرب خنادق" طويلة الأمد في مجال الثقافة والوعي. في هذه الدراسة، سنستعرض نظريته الثورية الأساسية، ثم نناقش راهنيتها في سياق عالم يشبه "الوحش الرأسمالي" الذي وصفه ماركس، لكنه أصبح أكثر تعقيداً وإرهاباً. لماذا يظل فكر غرامشي راهنا؟

نظرية غرامشي الثورية: الهيمنة والحرب المواقع

"إن الأزمة تكمن تحديدًا في حقيقة أن القديم يموت والجديد لا يمكن أن يولد: خلال هذه الفترة الفاصلة نلاحظ أكثر الظواهر المرضية تنوعًا."

تُعتبر نظرية غرامشي تطويراً جذرياً للماركسية، حيث يرفض الاقتصاديات الآلية التي ترى الثورة ناتجة تلقائياً عن تناقضات الإنتاج. بدلاً من ذلك، يقسم غرامشي المجتمع إلى "بنية تحتية" (القوى الاقتصادية) و"بنية فوقية" (الثقافة، الإيديولوجيا، والمؤسسات). الثورة، في رأيه، تتطلب فوزاً مزدوجاً: الاستيلاء على الدولة (القوة القمعية) والهيمنة الثقافية في "المجتمع المدني" (الإعلام، التعليم، والمؤسسات الثقافية

الهيمنة (Hegemony): ليست مجرد قوة عسكرية أو سياسية، بل إجماع ثقافي يجعل الطبقة الحاكمة تبدو كممثلة للمصلحة العامة. البرجوازية تحافظ على سلطتها ليس بالقمع فقط، بل بجعل قيمها (مثل الفردانية والاستهلاك) تبدو طبيعية. الثورة، إذن، تحتاج إلى "مثقفين عضويين" ينشؤون من الطبقات المضطهدة ليبنوا هيمنة مضادة، تحول الوعي الجماعي نحو البدائل الاشتراكية.

حرب المواقع مقابل حرب الحركة: في المجتمعات الغربية المتقدمة، حيث يسيطر المجتمع المدني على الدولة، لا تكفي "حرب الحركة" (الاقتحام السريع كما في روسيا 1917)، بل يجب خوض "حرب مواقع" طويلة: بناء كتل تاريخية جديدة من خلال الصراع الثقافي والإيديولوجي، قبل الاستيلاء على السلطة.  غرامشي يؤكد أن الفشل في هذا يؤدي إلى هزائم سريعة، كما حدث في إيطاليا بعد "السنوات الحمراء" (1919-1920). هذه النظرية ليست تجريدية؛ غرامشي طورها أثناء تأسيس الحزب الشيوعي الإيطالي (1921)، محذراً من الإصلاحية التي تندمج في الدولة دون تغيير الوعي.

راهنية غرامشي في عالم شاسع ومرعب

"إن النضال السياسي أكثر تعقيدًا بكثير: من وجهة نظر ما، يمكن مقارنته بالحروب الاستعمارية."

العالم اليوم – شاسع بسبب العولمة الرأسمالية التي تربط الأسواق والثقافات في شبكة مترابطة، ومرعب بسبب الانهيارات البيئية، الحروب الهجينة، والأوبئة – يعكس تماماً مخاوف غرامشي من "الدولة المتكاملة" حيث يصبح المجتمع المدني امتداداً للقوة القمعية. إليك كيف تتجلى راهنيته:

الهيمنة في عصر الرقابة الرقمية: في زمن فيسبوك وتيك توك، تحافظ الرأسمالية على هيمنتها عبر "الإجماع الرقمي"، حيث تبدو قيم الاستهلاك والفردانية كـ"حرية شخصية". غرامشي يفسر هذا كامتداد للهيمنة الثقافية؛ فالخوارزميات لا تقمع فقط، بل تشكل الوعي، مما يجعل الثورات الرقمية (مثل الربيع العربي) تذوب في الإصلاحات دون تغيير جذري.

في السياق العربي، تظهر مظاهرات الشوارع العربية كأمثلة على "حرب مواقع" ناقصة: نجحت في إسقاط حكام، لكن غياب المثقفين العضويين أدى إلى عودة الهيمنة النيوليبرالية.

الثورة في مواجهة الشساعة العالمية: العولمة تجعل الرأسمالية "شاسعة"، لكنها أيضاً تخلق تناقضات عالمية (مثل الهجرة الجماعية والأزمات المناخية). غرامشي يقترح بناء "كتل تاريخية" عابرة للحدود، كما في حركات مثل "حركة حياة السود مهمة" أو احتجاجات المناخ، حيث يصبح المثقفون العضويون (ناشطون محليون) يتحدون الهيمنة العالمية. ومع ذلك، الرعب اليومي – كالفقر المدقع في الجنوب العالمي – يذكر بتحذير غرامشي: بدون هيمنة ثقافية، تتحول الانتفاضات إلى "عاجزة عن تحقيق أهدافها". النظرية الغرامشية الحديثة في العلاقات الدولية: طور مفكرون مثل روبرت كوكس (1981) أفكار غرامشي لتحليل "الهيمنة العالمية"، حيث تُفرض قيم الدول الغربية عبر المؤسسات مثل صندوق النقد الدولي. في عالم ما الجوائح والأزمات الصحية ، حيث أصبحت الجائحة أداة للهيمنة (توزيع اللقاحات غير العادل)، يصبح غرامشي دليلاً للحركات الجنوبية في بناء هيمنة مضادة. في السياق العربي، يُطبق غرامشي على فهم صعود اليمين الشعبوي أو فشل الثورات: غياب "المجتمع المدني الثوري" يجعل الهيمنة السلطوية تستمر، كما في تحليلات للاحتجاجات العربية.  كما يُستخدم في دراسة الثقافة كمحرك تاريخي، خلافاً للاقتصاديات الماركسية التقليدية، مما يجعله مناسباً لعصر الثورة الثقافية الرقمية.

خاتمة

"يجب أن تكون على دراية كاملة بحدودك الخاصة، خاصة إذا كنت تريد توسيعها. "

أنطونيو غرامشي ليس تاريخاً ميتاً؛ هو دليل حي لعالم شاسع يتطلب ثورة لا تقتصر على الشوارع، بل تمتد إلى العقول والثقافات. في زمن يهدد فيه الرعب بالشلل، تذكرنا نظريته بأن الهيمنة ليست قدراً، بل ساحة معركة يمكن الفوز فيها بالبراكسيس الثوري. رغم راهنيته، يواجه غرامشي تحدياً: في عالم "مرعب" يتسارع فيه الانهيار (مثل الذكاء الاصطناعي الذي يعزز الهيمنة)، قد تبدو "حرب المواقع" بطيئة جداً. ومع ذلك، إمكانيته تكمن في الدعوة إلى وحدة النظرية والممارسة: الثوريون اليوم بحاجة إلى مثقفين عضويين يبنون وعياً جماعياً عبر الشبكات الرقمية، لتحويل الرعب إلى طاقة ثورية. كما يقول: "يجب أن يتغير شيء ما حتى يظل كل شيء على حاله." فكيف يمكن الاستفادة من نظرية غرامشي الثورية في النضال التحرري العربي والمقاومة الفلسطينية؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

..........................

المصادر والمراجع

غرامشي، أنطونيو. (1971). دفاتر السجن. ترجمة إنجليزية وإيطالية، مع إشارات عربية في الدراسات الماركسية.

Cox, R. W. (1983). "Gramsci, Hegemony and International Relations". Millennium Journal.

لست فيلسوفاً ولا أدّعي معرفتي بالفلسفة، ولا أريد إن أضيّع نفسي في متاهات الفلسفة فأغرق في أعماق محيطاتها السحيقة، ولا أبغي سيرة ديكارت الذاتية فهي متوفرة بسهولة لمن يريدها. لكن حصل لي فضول أن أتعرّف على مبدأ الشك الذي اتخذه ديكارت منهجاً له ليصل به إلى معرفة الحقيقة. سمعت كثيراً عن هذا المبدأ وقرأت كثيراً عنه، فهو يتردد بكثرة في النقاشات ومؤلفات الكتّاب والمثقفين، لكنني لم ألحظ أن الكثير منهم اعتمد مبدأ الشك كمنهج له للوصول إلى الحقيقة كما يقول ديكارت، ولم ألحظ أحداً يوصي باستعمال الشك كمنهج للوصول إلى اليقين. ساقني فضول المعرفة للخوض في دراسة المنهج الشكّي لديكارت لأفهم كيف يمكنني أن أستخدمه كمنهج لي ينير طريقي للمعرفة، وما هي الدروس والعبر التي يمكن أن أستخرجها من هذا المنهج لتدلني على الطريق الصحيح.

ما هو منهج الشك عن ديكارت

رينيه ديكارت (1596-1650) الملقب بأبو الفلسفة الحديثة. كان فيلسوفاً وفيزيائياً بالإضافة إلى براعته في الرياضيات. وهو صاحب المقولة المشهورة "أنا أفكر، إذاً أنا موجود".

اشتهر ديكارت باستعماله الشك للوصول إلى اليقين في معرفة حقيقة كل شيء. وقد اعتمدت فلسفة ديكارت العقلانية على اتخاذه مبدأ الشك المنهجي، الذي يمكن من خلاله أن يتوصل إلى اليقين ومعرفة الحقيقة، فهو بذلك يبدأ بالشك وينتهي بالحقيقة. وعُرف عنه أنه يُعتبر رائد الشك المنهجي في العصر الحديث، فقد وضَع ديكارت جميع المعتقدات والآراء الفكرية وغيرها موضع الشك، وأثبت إمكانية وجود الخطأ فيها.

يقول ديكارت؛ "إن الإنسان يحتاج أن يضع الأشياء جميعاً موضع الشك قدر ما في الإمكان لكي يصل إلى حقيقة الأشياء"، وبما إن معظم العلوم المعرفية يتم الحصول عليها عن طريق الحواس (السمع والبصر واللمس)، ولأن الحواس قد تكون خاطئة وخادعة، فيمكن بذلك أن تصوّر لنا صورة غير حقيقية للأشياء التي نراها أو نسمعها، لذلك ينبغي أن نشك فيها. فخداع البصر مثلاً يجعلك ترى الأشياء البعيدة أصغر كثيراً من حجمها الحقيقي، وإذا اقتربت من هذه الأجسام البعيدة فستراها بحجمها الحقيقي. فالشمس التي نراها في السماء تبدو صغيرة جداً نسبة إلى حجمها الحقيقي الهائل الكبير كما تؤكده لنا المعلومات العلمية الصحيحة.  وكذلك خداع السمع، فقد تسمع صوتاً تعتقده يعود لشيء ما، لكنه في الواقع مغاير تماما للحقيقة. ويقول ديكارت أيضاً إنه "من الحكمة ألّا نثق في الذي خدعنا ولو لمرة واحدة". ولما كان من الممكن أن تخدعنا حواسنا، كان علينا أن نتشكك فيما نعرفه لنعرف اليقين، ولذلك فإن إدراك الشيء لا يعتمد على الحواس بل على الفكر. وحتى في حقائق الحساب والهندسة التي لا يمكن الشك فيها، مثلاً مجموع إثنين زائد ثلاث هو خمسة وإن المربع يتكون من أربعة أضلاع وهي حقائق أكيدة لا تقبل الشك، لكن من الممكن أن يكون هناك شيطان ماكر أوحى لي بهذه الأشياء وأوهمني بها.

ما الذي حذا بديكارت أن يتخذ الشك منهجاً له لمعرفة حقيقة الأشياء؟ يبرر ذلك ديكارت في كتابه تأملات في الفلسفة الأولى فيقول "ليس بالأمر الجديد ما تبينت من أنني منذ حداثة سني قد تلقيت طائفة من الآراء الباطلة وكنت أحسبها صحيحةً، وأن ما بنيته من ذلك الحين على مبادئ هذه حالها من الزعزعة والاضطراب لا يمكن أن يكون إلاّ شيئًا مشكوكًا فيه جدًا ولا يقين له أبدًا. فحكمت حينئذ بأنه لا بد لي مرة في حياتي من الشروع الجدي في إطلاق نفسي من جميع الآراء التي تلقيتها في اعتقادي من قبل، ولا بد من بدء بناء جديد من الأسس. (ديكارت، التأمل الأول).

يبدأ ديكارت رحلته في منهجية الشك بالسؤال عما هي الأشياء التي يمكن أن توضع موضع الشك، فيقول "يجب النظر إلى كل ما يمكن أن يوضع موضع الشك، على أنه زائف"، على ألاّ يشمل هذا كل معتقد لا يمكن الشك فيه ولو لوهلة، فلا نشكك في الأشياء التي نتصورها بوضوح تام على أنها حقيقة مثل الجزء أصغر من الكل. والمقصود هنا أنه لا يقبل أي شيء على إنه حقيقي دون أن يشكك فيه ليتيقن من حقيقته، وهو بهذا يعتبر الشك برهان عقلاني للتأكد من حقيقة الأشياء والأفكار. وفي الحقيقة فإن ديكارت حاول أن يشكك بوجوده ليصل إلى اليقين، لكنه استنتج أن شكوكه هذه هي التي أثبتت أنه موجود من حيث "أنه يشك فإنه يفكر ولأنه يفكر فهو إذن موجود" فقال (كلما شككت ازددت تفكيراً فازددت يقينا بوجودي).

والشك عند ديكارت نوعان؛ النوع الأول هو، الشك المنهجي، وهو الشك العقلاني المدرَّب، وهو ليس عشوائياً وإنما هو برنامج فكري حَدَسي تحليلي يهدف للوصول إلى اليقين، وبذلك يكون الشك المنهجي هو الوسيلة والطريق للوصول إلى الحقيقة. والنوع الثاني من الشك، والذي أسماه بالشك الفلسفي أو السفسطائي (الخالي من المنطق العقلاني)، والذي هو عبارة عن شك لغرض التشكيك في الأشياء وإحداث الفوضى وليس الهدف فيه الوصول إلى الحقيقة أو اليقين، وهو نوع من الشك الهدّام المدمر لأنه يحدث الفوضى ويضيّع الحقيقة، فهم كما يقولون " أنا لا أدري، ولا أدري أنني لا أدري" ولذلك يجب تجنبه.

ويُميّز ديكارت في منهجه الشكي بين المعرفة الحدسية (الحَدَس أو البديهي) والاستقراء أو الاستنتاج. فالحَدَس أو البديهة؛ هو إدراك عقلي مباشر لشيء ما دون الحاجة لإثباته بدليل، لذلك فهو حقيقة كاملة. فالشمس تشرق من الشرق بديهة لا تحتاج إلى برهان. ويقول في كتاب القواعد " إننا لا نتحدث عن حَدَس عقلي إلاّ إذا كانت الجملة مفهومة بوضوح وتميّز وكانت مفهومة في مجموعها لأول وهلة وليس بالتدريج".

قدم ديكارت الدليل العقلي الذي يثبت وجود الإله عن طريق منهج الشك واستعمال الحَدَس العقلي والاستنباط الفكري، فقال: لكي أثبت أن الله موجود عليّ أولاً أن أشكك في وجوده فأنكر أنه موجود، فإذا كان الحال كذلك فإنه سيثير تساؤلات عندي، منها؛ إذا كان الله غير موجود فمَن خلقني؟ هناك احتمالين؛ أن أكون أنا خالق نفسي أو أن تكون الطبيعة هي التي خلقتني. فإذا كانت الطبيعة هي الخالق، فيجب أن تكون متحلّية بصفة الكمال، لأن الشيء الناقص الضعيف لا يمكن أن يكون خالقاً. ولما كنّا نعرف أن الطبيعة لا تتمتع بالكمال المطلق، فإذن لا يمكن أن تكون هي الخالق. وكذلك بالنسبة لي؛ فإذا كنت أنا خالق نفسي فيجب أن أكون كاملاً في كل شيء، لكني أعرف أنني لست كاملاً، لذلك فإن الله الكامل القوي الكريم يجب أن يكون هو الخالق، وإن وجودي هو دليل الإثبات على وجود الله الخالق.

من هذا يتضح لنا أن منهج الشك الديكارتي منهج عقلاني يخضع للمنطق والحدس والاستنتاج العقلي للوصول إلى حقيقة الأشياء.

منهج الشك عند الغزّالي

على الرغم من أن ديكارت يعتبر الرائد والمؤسس لمبدأ الشك إلاّ أن الإمام أبو حامد الغزّالي (ت 1111م) كان قد سبقه في اعتماده المنهج الشكي في أبحاثه، وقد سبقه بخمسة قرون.  وقد اتخذ الغزّالي الشك منهجاً للوصول إلى حقيقة الأشياء وشكك في الأشياء التي نعرفها. كما اعتبر أن الحواس قد تخدعنا، وعرّف الشك بنوعيه المنهجي والسفسطائي كما عرّفه ديكارت لاحقاً.

يعتبر كتابه "المنقذ من الضلال" ملخص لسيرة الغزّالي الذاتية، ويتضمن شرحاً لمنهج الشك الذي اشتهر به. وقد ذكر على سبيل المثال خداع الحواس فقال " وتنظر إلى الكوكب فتراه صغيراً في مقدار دينار، ثم الأدلة الهندسية تدل على أنه أكبر من الأرض في المقدار. وهذا وأمثاله من المحسوسات يحكم فيها حاكم الحس بأحكامه، ويكذبه حاكم العقل ويخونه تكذيباً لا سبيل إلى مدافعته". وقال أيضاً "فقلت: قد بطلت الثقة بالمحسوسات أيضاً، فلعله لا ثقة إلا بالعقليات التي هي من الأوليات، كقولنا: العشرة أكثر من الثلاثة. والنفي والإثبات لا يجتمعان في الشيء الواحد، والشيء الواحد لا يكون حادثاً قديماً، موجوداً معدوماً، واجباً محالاً، وهذا عليه اتفاق العقلاء من كل ملة ونحلة".

والملاحظ أن هناك تشابه واضح بين المنهج الشكي عند ديكارت وعند الغزّالي. فكلاهما يعتمد مبدأ الشك للوصول إلى اليقين. وكلاهما يعتبران أن المعلومات التي حصلنا عليها في صغرنا من مجتمعنا واعتبرناها حقيقية إنما هي في الحقيقة خاطئة وتحتاج إلى تدقيق وتمحيص. وكلاهما يعتبر أن الحواس هي مصدر المعلومات وأنها قد تكون خادعة، يقول الغزّالي " من لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في العمى والضلال". وكلاهما تحدّثا عن الخِداع في النوم والأحلام واليقظة والخيال. وقد أثار هذا التشابه في المنهج عندهما تساؤلات عند بعض المفكرين في أن ديكارت قد يكون استقى منهجه في الشك من خلال كتب الغزّالي، لكن لا يوجد دليل على ذلك، ولم يذكر ديكارت معرفته بالغزّالي، وقد يكون هناك مجرد توافق فكري بين الإثنين أدي إلى تشابه المنهج.

 طه حسين ومبدأ الشك

اتخذ طه حسين الشك منهجاً له في حياته الفكرية. تَمَثَل ذلك بوضوح في كتابه "في الشعر الجاهلي" حيث كتب يقول "لست أريد أن أقول البحث وإنما أريد أن أقول الشك. أريد ألّا نقبل شيئاً مما قال القدماء في الأدب وتاريخه إلاّ بعد بحث وتثبيت، فإن لم ينتهيا إلى اليقين فقد ينتهيان إلى الرجحان". عَمَدَ طه حسين إلى التشكيك بوجود شعراء الجاهلية الكبار، أصحاب المعلقات، وأنكر وجودهم، واعتبر أنهم صناعة المسلمين بعد نزول القرآن، فاختلقوا وجودهم واختلقوا أشعارهم ليرفعوا من شأن اللغة العربية ولغة القرآن. ولا يهمنا هنا فحوى الكتاب ولا موضوع الحوار لكن يهمنا فكرة استعمال العقل لمنهج الشك كوسيلة لكشف الحقيقة، ونتائجه المفيدة.

وفي كتابه "الفتنة الكبرى (عثمان) " استعمل طه حسين مبدأ الشك أيضاً كمنهج له ليشكك في صحة رواية معروفة حدثت في زمن الخليفة عثمان (رض)، عندما حدث نزاع بين الصحابيين الجليلين سعد ابن أبي وقاص (والي الكوفة) وعبد الله ابن مسعود (راعي بيت المال) بسبب استدانة مالاً من بيت المال ولم يُعاد في الموعد المحدد للسداد مما جعل الخليفة يقيله من منصبه، ويشرح طه حسين سبب الشك في صحة الرواية؛ فيذكر إنه من غير المعقول أن إثنين من كبار الصحابة ومن أوائل المسلمين وأصحاب قيم عليا يحدث بينهم ما روي عنهم (وقد يمكن اعتبار هذا التبرير كنوع من مبدأ البداهة التي ذكرها ديكارت). لكن طه حسين صحح الرواية بأن الفاعل قد يكون هو الوليد ابن معيط الذي كان يتعاطى الخمر ولا يتردد بفعل الموبقات وليس الصحابي الجليل سعد ابن أبي وقاص (وقد يمكن اعتبار هذا القول كنوع من مبدأ الاستنتاج والاستنباط التي ذكرها ديكارت). وهذه أمثلة على استعمال الشك للوصول إلى اليقين.

تأملات وعبر

أولاً- مما تقدم ذكره، يمكننا أن نستنتج أن الشك يمكن أن يكون منهجاً عقلانياً سليماً وإيجابياً في البحث عن أصل المعلومة، وخطوة تمهيدية للوصول إلى حقيقة الأشياء، خصوصاً إذا ما استعملنا طريقة التفكير النقدي الذي يقضي بأن لا نقبل شيئاً إلاّ إذا كان له تبرير عقلي واضح ومميّز بالاعتماد على الحدس والبديهة والتحليل والاستنتاج.

ثانياً- إن الشك المنهجي يحتاج إلى تدريب وتمرين للعقل لغرض تكوين مَلَكة النقد والتحليل، فالمنهج هو عبارة عن مجموعة قواعد مؤكدة وبسيطة تكوّن منهجاً عقلياً يعتمد الشك العقلاني مروراً بالبداهة للوصول إلى اليقين ويحتاج إلى المران والتدريب المستمر للعقل. يقول ديكارت "لا يكفي للمرء أن يكون عنده عقل بل يجب أن يحسن استخدامه".

ثالثاً- يجب الابتعاد واجتناب استعمال الشك السفسطائي الفلسفي الذي يكون بلا هدف ولا منهج، ولأنه يحدث الفوضى والبلبلة.

رابعاً- على الرغم من أن ديكارت قد اشتهر بأنه مؤسس ورائد الشك المنهجي، إلاّ أن الأمانة العلمية تحتّم علينا أن نصحح الخطأ في هذه المعلومة، بأن نعلن بصوت عالي أن أبو حامد الغزّالي هو أول من استعمل وتحدث عن منهج الشك الفلسفي وليس ديكارت كما هو شائع.

وختاماً، ونحن نعيش في عالم تتزاحم فيه المعلومات المشوشة والمغشوشة والكاذبة، فإنه يتوجب علينا أن نكون حذرين في انتقاء المعلومة الصحيحة، وقد يكون الشك العقلاني طريقاً لذلك. وقد قيل أيضاً أن "العالم يشكك والحليم يتأنى والجاهل يؤكد"، فلننهج نهج العلماء وننبذ الجهالة.

***

د. صائب المختار

 

جدليات المثقف والتحول الرمزي في مواجهة رأس المال الخوارزمي

 ملخص البحث: يُقدّم هذا البحث قراءة تحليلية وتطبيقية لمفهوم "الكومنتاريا" بوصفه طبقة معرفية جديدة تُعيد تعريف موقع المثقف في ظل التحولات الرقمية والاقتصادية المعاصرة. ينطلق البحث من المقال التأسيسي لإبراهيم برسي، الذي طرح الكومنتاريا كمقولة مفتوحة، ويُعيد تفعيله عبر نماذج عراقية ومقارنات دولية، في محاولة لتحويله من تأمل نظري إلى ممارسة تحليلية قابلة للرصد والتوظيف.

يركّز البحث على جدلية العلاقة بين الكومنتاريا ورأس المال الخوارزمي، حيث تتحول المعرفة إلى سلعة، والمثقف إلى مستهلك للرمز، مما يستدعي مقاومة رمزية تُعيد الاعتبار لفائض الوعي بوصفه أداة تحليلية. كما يُبرز البحث نماذج محلية من الحقل الأكاديمي والمجتمعي تُجسّد الكومنتاريا بوصفها استعادة للمعرفة المحلية، لا استيرادًا نظريًا.

عبر مقارنات نقدية مع السياقات المصرية، الأوروبية، واللاتينية، يُبيّن البحث تنوّع أشكال الكومنتاريا، ويقترح إطارًا تحليليًا لرصدها وتفعيلها، من خلال مؤشرات نوعية وأدوات متعددة تشمل الورقة، المنصة، والحوار. ويُختتم البحث بدعوة إلى تطوير "كومنتاريا مضادة" تُقاوم الاستلاب الرقمي، وتُعيد للمثقف موقعه كمنتج للوعي، لا مجرد ناقل للمعلومة

المقدمة

في ظل التحولات البنيوية التي يشهدها العالم المعاصر، لم تعد المعرفة مجرد نتاج تأملي أو تراكمي، بل أصبحت أداة مركزية في إعادة تشكيل السلطة، والوعي، والاقتصاد الرمزي. وبينما كانت البروليتاريا تمثل طبقة الصراع في عصر رأس المال الصناعي، تبرز اليوم "الكومنتاريا" كمفهوم جديد يُعيد تعريف موقع المثقف في عصر رأس المال الخوارزمي، حيث تتحول الخوارزميات إلى أدوات لإنتاج الذائقة، وتوجيه السلوك، وإعادة ترميز الواقع.

ظهر مصطلح "الكومنتاريا" في المقال التأسيسي لإبراهيم برسي بوصفه محاولة لتأطير طبقة معرفية جديدة، لا تكتفي بالتعليق أو التفسير، بل تسعى إلى إنتاج فائض من الوعي، في مواجهة فائض القيمة الذي شكّل جوهر الصراع الاقتصادي سابقًا. هذا التحول من اليد إلى العقل، ومن المصنع إلى المنصة، ومن الإنتاج المادي إلى الإنتاج الرمزي، يستدعي إعادة التفكير في دور المثقف، وفي أدواته، وفي علاقته بالسلطة.

ينطلق هذا البحث من قراءة تحليلية ونقدية للمقال التأسيسي، ويُعيد تفعيل المفهوم عبر نماذج تطبيقية من السياق العراقي، حيث تتداخل الأكاديمية بالمجتمعية، وتُنتج الكومنتاريا المحلية أدواتها الخاصة، بعيدًا عن الاستيراد النظري. كما يُقارن البحث هذه النماذج بسياقات دولية، في محاولة لرصد ملامح الكومنتاريا كممارسة معرفية عابرة للحدود، لكنها مشروطة بالسياق.

ويطرح البحث إشكالية مركزية: هل يمكن للكومنتاريا أن تكون أداة مقاومة معرفية في مواجهة الاستلاب الرقمي؟ وهل يستطيع المثقف أن يتحول من مستهلك للرمز إلى منتج له؟ وما هي المؤشرات التي يمكن من خلالها قياس أثر الكومنتاريا في الحقول الأكاديمية، والإعلامية، والسياسات العامة؟

من خلال هذه الأسئلة، يسعى البحث إلى بناء إطار تحليلي للكومنتاريا، يُمكّن من رصدها، وتفعيلها، وتوظيفها، بوصفها طبقة معرفية جديدة، لا تُكمل دور المثقف التقليدي، بل تُعيد صياغته.

الفصل الأول: الإطار النظري لمفهوم الكومنتاريا

1.1 تمهيد مفاهيمي

في ظل التحولات المعرفية والرقمية التي يشهدها العالم، لم تعد المعرفة مجرد نتاج تأملي أو تراكمي، بل أصبحت أداة مركزية في إعادة تشكيل السلطة، والوعي، والاقتصاد الرمزي. وبينما كانت البروليتاريا تمثل طبقة الصراع في عصر رأس المال الصناعي، تبرز اليوم "الكومنتاريا" كمفهوم جديد يُعيد تعريف موقع المثقف في عصر رأس المال الخوارزمي، حيث تتحول الخوارزميات إلى أدوات لإنتاج الذائقة، وتوجيه السلوك، وإعادة ترميز الواقع.

ظهر مصطلح "الكومنتاريا" في المقال التأسيسي لإبراهيم برسي بوصفه محاولة لتأطير طبقة معرفية جديدة، لا تكتفي بالتعليق أو التفسير، بل تسعى إلى إنتاج فائض من الوعي، في مواجهة فائض القيمة الذي شكّل جوهر الصراع الاقتصادي سابقًا. هذا التحول من اليد إلى العقل، ومن المصنع إلى المنصة، ومن الإنتاج المادي إلى الإنتاج الرمزي، يستدعي إعادة التفكير في دور المثقف، وفي أدواته، وفي علاقته بالسلطة.

1.2 من البروليتاريا إلى الكومنتاريا: تحولات المفهوم

في الفكر الكلاسيكي، كانت البروليتاريا تُعرّف بوصفها الطبقة العاملة التي تواجه رأس المال الصناعي داخل فضاء المصنع، مستخدمة اليد كأداة إنتاج، وساعية إلى انتزاع فائض القيمة من علاقات العمل. أما في العصر الرقمي، فإن أدوات الإنتاج لم تعد مادية فقط، بل رمزية وخوارزمية، حيث تنتقل ساحة الصراع من المصنع إلى المنصة، ومن اليد إلى العقل، ومن القيمة الاقتصادية إلى الوعي الرمزي.

في هذا السياق، لا تُعرّف الكومنتاريا بالانتماء الطبقي أو الاقتصادي، بل بالقدرة على إنتاج فائض من الوعي، عبر أدوات متعددة تشمل الورقة، والمنصة، والصوت، والصورة، والتفاعل النقدي. وهي بذلك لا تمثل امتدادًا للبروليتاريا، بل تحولًا نوعيًا في طبيعة الفاعل المعرفي، وفي أدواته، وفي علاقته بالسلطة.

1.3 رأس المال الخوارزمي: السلطة الجديدة

يشير رأس المال الخوارزمي إلى نمط جديد من السيطرة، لا يعتمد على الإنتاج المادي، بل على تنظيم المعرفة، وتوجيه السلوك، وصياغة الذائقة عبر الخوارزميات. في هذا السياق، يصبح المثقف معرضًا للاستلاب الرقمي، حيث تتحول المعرفة إلى سلعة، والمثقف إلى مستهلك للرمز، لا منتج له. وهنا، تبرز الكومنتاريا كممارسة مقاومة، تُعيد ترميز الواقع، وتُنتج أدوات تحليلية جديدة، وتُعيد للمثقف موقعه كفاعل رمزي مستقل.

1.4 خصائص الكومنتاريا كممارسة معرفية

تتميز الكومنتاريا بعدة خصائص تجعلها مختلفة عن الأدوار التقليدية للمثقف. فهي لا مركزية، لا تنتمي إلى مؤسسة محددة، بل تتشكل عبر التفاعل الحر في فضاءات متعددة. وهي متعددة الوسائط، تستخدم الورقة والمنصة والصوت والصورة والرمز، وتتحرك بين النص والتحليل والتفاعل. كما أنها جدلية، لا تكتفي بالتفسير، بل تُعيد إنتاج الأسئلة، وتُفكك المسلمات. وهي سياقية، تنطلق من الواقع المحلي، لكنها منفتحة على المقارنات العالمية، وتتحرك بين الخصوصية والانفتاح. والأهم، أنها تحويلية، تسعى إلى تحويل المعرفة إلى فعل، لا إلى تأمل فقط، وتُعيد للمثقف دوره بوصفه منتجًا للوعي، لا مجرد ناقل له.

الفصل الثاني: قراءة تحليلية في المقال التأسيسي لإبراهيم برسي

2.1 المقال بوصفه لحظة تأسيسية

يشكّل مقال إبراهيم برسي حول "الكومنتاريا" لحظة تأسيسية لمفهوم جديد في حقل الفكر النقدي، حيث لا يُقدَّم المصطلح بوصفه تعريفًا مغلقًا، بل بوصفه اقتراحًا مفتوحًا لتحويل دور المثقف من التعليق إلى الفعل، ومن التفسير إلى إعادة إنتاج الوعي. يتميز المقال بقدرته على الجمع بين التأمل الفلسفي والتحليل الاجتماعي، ما يمنحه قابلية التفعيل في سياقات متعددة، دون أن يفقد عمقه النظري.

2.2 المفاهيم المركزية في المقال

يتضمن المقال عدة مفاهيم محورية تُشكّل البنية النظرية للكومنتاريا، أبرزها:

- فائض الوعي: كمقابل رمزي لفائض القيمة، يُشير إلى قدرة المثقف على إنتاج معرفة تتجاوز الحاجة المباشرة، وتُعيد تشكيل الذائقة العامة.

- المنصة: بوصفها فضاءً جديدًا للصراع الرمزي، تنتقل فيه أدوات التأثير من الورقة إلى الخوارزمية، ومن الخطاب إلى التفاعل.

- التحول الرمزي: حيث يُعاد تعريف السلطة ليس فقط بوصفها احتكارًا للمعلومة، بل بوصفها قدرة على ترميز الواقع وإعادة إنتاجه.

هذه المفاهيم لا تُقدَّم بوصفها نظريات جاهزة، بل بوصفها أدوات تحليلية قابلة للتطوير، وهو ما يمنح المقال طابعه الجدلي والانفتاحي.

2.3 جدلية التأسيس والانفتاح

ما يميز المقال هو أنه لا يسعى إلى غلق المفهوم داخل تعريفات جامدة، بل يُعيد فتحه عبر دعوة ضمنية إلى التفاعل، والتطبيق، والتوسيع. وهذا ما يجعل الورقة البحثية الحالية امتدادًا للمقال، لا تعليقًا عليه؛ إذ تسعى إلى تفعيل المفهوم في السياق العراقي، وتحويله من مقولة تأملية إلى ممارسة تحليلية قابلة للرصد والملاحظة.

2.4 الكومنتاريا كدعوة للحوار

في ختام المقال، يُقدَّم المفهوم بوصفه مشروعًا مفتوحًا على الحوار، لا لحظة كتابية منتهية. وهذا ما يُفسّر استجابة الورقة البحثية الحالية، التي لا تكتفي بالشرح، بل تُعيد إنتاج المفهوم عبر نماذج محلية، ومقارنات دولية، واقتراحات منهجية. فالكومنتاريا، بهذا المعنى، ليست فقط طبقة معرفية، بل دعوة لتجديد أدوات التفكير، وتوسيع فضاء الفعل الرمزي.

الفصل الثالث: الكومنتاريا في السياق العراقي – بين الاستعادة والتفعيل

3.1 السياق العراقي بوصفه حقل اختبار حي

يمثل السياق العراقي بيئة خصبة لاختبار مفهوم "الكومنتاريا"، نظرًا لتعدد مستويات الصراع الرمزي، وتداخل الحقول الأكاديمية، المجتمعية، والإعلامية. ففي بلد يعاني من إرث طويل من التهميش المعرفي، ومن مركزيات خطابية مستوردة، تبرز الحاجة إلى طبقة معرفية محلية تُعيد إنتاج الوعي من داخل السياق، لا من خارجه.

الكومنتاريا هنا لا تُمارس بوصفها ترفًا فكريًا، بل بوصفها ضرورة رمزية، تُعيد للمثقف موقعه كفاعل في الحقل العام، وتمنحه أدوات جديدة للتأثير، خارج الأطر التقليدية للخطاب السياسي أو الأكاديمي.

3.2 النماذج الأكاديمية: الورش والمناهج والخطاب العام

في الحقل الأكاديمي، يمكن رصد ملامح الكومنتاريا في الورش التي تتجاوز التلقين، وتسعى إلى إنتاج معرفة نقدية، وفي المناهج التي تُعيد الاعتبار للسياق المحلي، وفي الخطاب العام الذي يتبناه بعض الأكاديميين في المنصات الرقمية، حيث يتحول الأستاذ الجامعي إلى فاعل رمزي، لا مجرد ناقل للمعلومة.

هذه النماذج، رغم محدوديتها، تُشير إلى إمكانية تفعيل الكومنتاريا داخل المؤسسات، بشرط أن تُعاد صياغة العلاقة بين المعرفة والسلطة، وأن يُمنح المثقف هامشًا حقيقيًا للتأثير.

3.3 النماذج المجتمعية: الإعلام البديل والمبادرات الشبابية

في الحقل المجتمعي، تبرز الكومنتاريا في الإعلام البديل، الذي يتجاوز الخطاب الرسمي، ويُعيد إنتاج الواقع من خلال سرديات محلية، وفي المبادرات الشبابية التي تستخدم المنصات الرقمية لتفكيك المسلمات، وإعادة ترميز القضايا العامة.

هذه النماذج لا تنتمي إلى مؤسسات تقليدية، بل تتشكل عبر التفاعل الحر، وتُعيد الاعتبار للمعرفة بوصفها فعلًا جماعيًا، لا احتكارًا نخبويًا. وهي بذلك تُجسد جوهر الكومنتاريا: إنتاج فائض من الوعي، لا استهلاك للرمز.

3.4 الكومنتاريا كاستعادة للمعرفة المحلية

ما يُميز الكومنتاريا في السياق العراقي هو أنها لا تُمارس بوصفها استيرادًا نظريًا، بل بوصفها استعادة لمصادر القوة الرمزية في السياق المحلي. فهي تُعيد الاعتبار للغة، للتجربة، وللرمز المحلي، وتُقاوم الاستلاب المعرفي الذي يُنتج مثقفًا تابعًا، لا فاعلًا.

وهنا، تبرز الكومنتاريا كممارسة مقاومة، تُعيد للمثقف موقعه، وتمنحه أدوات جديدة للتأثير، دون أن تفقد ارتباطها بالسياق، أو تنزلق نحو التبعية الرمزية.

الفصل الرابع: الكومنتاريا في السياقات الدولية – مقارنات نقدية

4.1 الكومنتاريا خارج المركز: ملاحظات أولية

رغم أن مفهوم "الكومنتاريا" لم يُصغ كمصطلح شائع في الأدبيات العالمية، إلا أن ممارساته الرمزية يمكن رصدها في سياقات متعددة، حيث يتقاطع دور المثقف مع أدوات التأثير الجديدة، ويتحوّل من ناقل للخطاب إلى منتج للوعي. هذه المقارنات لا تهدف إلى تعميم النموذج، بل إلى إبراز التنوع في أشكال التفعيل، وتحديد ما يمكن استعادته أو نقده في السياق العراقي.

4.2 مصر: المثقف الرقمي في مواجهة السلطة الرمزية

في السياق المصري، برزت الكومنتاريا عبر منصات رقمية مستقلة، حيث تحوّل المثقف إلى فاعل رمزي يستخدم الوسائط الجديدة لتفكيك الخطاب الرسمي، وإعادة إنتاج سرديات بديلة. ورغم التضييق السياسي، استطاعت بعض المبادرات أن تُعيد الاعتبار للمعرفة النقدية، وأن تُنتج محتوىً يُخاطب الجمهور العام بلغة بسيطة، دون أن يفقد عمقه التحليلي. هذه التجربة تُظهر كيف يمكن للكومنتاريا أن تتشكل خارج المؤسسات، وأن تُمارس بوصفها مقاومة رمزية، لا خطابًا نخبويًا.

4.3 أوروبا: المنصات النقدية المستقلة كمجال للكومنتاريا

في أوروبا، تتجلى الكومنتاريا في المنصات النقدية التي تُعيد إنتاج المعرفة خارج الجامعات، وتُخاطب جمهورًا متنوعًا، مستخدمة وسائط متعددة تشمل المقال، البودكاست، الفيديو، والنقاشات المفتوحة. هذه المنصات لا تُعرّف نفسها بوصفها بديلًا أكاديميًا، بل بوصفها فضاءً ثالثًا، يُعيد الاعتبار للجدل، ويُنتج معرفة غير خاضعة للتمويل المؤسسي أو التوجيه السياسي. وهي بذلك تُجسد الكومنتاريا بوصفها ممارسة مستقلة، تُعيد للمثقف حريته الرمزية، وتُفعّل أدواته خارج الأطر التقليدية.

4.4 أمريكا اللاتينية: المثقف المقاوم كفاعل رمزي

في أمريكا اللاتينية، يُمارَس دور الكومنتاريا من خلال المثقف المقاوم، الذي لا يكتفي بالتحليل، بل ينخرط في الفعل السياسي والاجتماعي، مستخدمًا المعرفة بوصفها أداة للتغيير. هذه التجربة تُظهر كيف يمكن للكومنتاريا أن تتجاوز المنصة، لتتحول إلى ممارسة ميدانية، تُعيد ترميز الواقع من خلال الاحتكاك المباشر، لا فقط عبر الخطاب. وهي بذلك تُقدّم نموذجًا للكومنتاريا المتجذرة في السياق، والمُنخرطة في الصراع، دون أن تفقد استقلالها المعرفي.

4.5 ملاحظات ختامية

تُظهر هذه المقارنات أن الكومنتاريا ليست نموذجًا واحدًا، بل ممارسة متعددة الأشكال، تتكيف مع السياق، وتُعيد إنتاج أدواتها حسب الحاجة. وهي بذلك تُقدّم للمثقف العراقي فرصة لتفعيل دوره، دون أن يُستلب بنماذج مستوردة، أو يُقيَّد بخطابات جاهزة. فالكومنتاريا، في جوهرها، دعوة لإعادة إنتاج الذات المعرفية، عبر أدوات محلية، ومنصات مفتوحة، وسرديات مقاومة.

الفصل الخامس: الاستلاب الرقمي والكومنتاريا المضادة

5.1 المعرفة كسلعة: من الإنتاج إلى الاستهلاك

في ظل تصاعد رأس المال الخوارزمي، لم تعد المعرفة تُنتج بوصفها فعلًا نقديًا أو تأمليًا، بل أصبحت تُصاغ وتُوزّع وفق منطق السوق، حيث تُقاس قيمتها بعدد النقرات، والمشاهدات، والتفاعلات. هذا التحول يُعيد تشكيل موقع المثقف، الذي بات مهددًا بالتحول إلى مستهلك للرمز، لا منتج له؛ إذ تُعاد صياغة الذائقة عبر خوارزميات تُفضّل التبسيط، وتُقصي التعقيد، وتُعيد إنتاج المسلمات.

في هذا السياق، يُصبح الاستلاب الرقمي شكلًا جديدًا من السيطرة، لا يُمارَس عبر القمع المباشر، بل عبر الإغراق الرمزي، حيث تُحوّل المعرفة إلى محتوى، والمحتوى إلى سلعة، والسلعة إلى أداة لإعادة إنتاج الوعي المُعلّب.

5.2 المثقف بين التفاعل والتفكيك

يجد المثقف نفسه اليوم أمام خيارين: إما الانخراط في منطق المنصة بوصفه منتج محتوى، أو الانكفاء داخل فضاءات مغلقة لا تُخاطب الجمهور العام. هذا التوتر يُعيد طرح سؤال الكومنتاريا: هل يمكن للمثقف أن يُعيد ترميز الواقع، دون أن يُستلب داخل منطق الخوارزمية؟ وهل يمكن للكومنتاريا أن تُمارَس بوصفها مقاومة رمزية، لا مجرد تفاعل رقمي؟

الكومنتاريا، بهذا المعنى، لا تُعرّف فقط بالقدرة على إنتاج المعرفة، بل بالقدرة على تفكيك أدوات إنتاجها، وعلى إعادة صياغة العلاقة بين الرمز والمتلقي، بحيث يُصبح المثقف فاعلًا في تشكيل الذائقة، لا تابعًا لها.

5.3 نحو كومنتاريا مضادة

في مواجهة الاستلاب الرقمي، تبرز الحاجة إلى "كومنتاريا مضادة"، تُعيد الاعتبار للمعرفة بوصفها فعلًا نقديًا، وتُنتج أدوات جديدة للتأثير، دون أن تُستلب داخل منطق السوق. هذه الكومنتاريا لا تكتفي بالتفاعل، بل تُعيد إنتاج الأسئلة، وتُفكك المسلمات، وتُقاوم التبسيط المُفرط، وتُعيد الاعتبار للتعقيد بوصفه ضرورة رمزية.

الكومنتاريا المضادة تُمارَس عبر الورقة، والمنصة، والنقاش، والمبادرة، وهي بذلك تُعيد للمثقف موقعه كمنتج للوعي، لا مجرد نرائع يا دكتور عبد الجليل، إليك الآن صياغة الفصل السادس، الذي يُكمل البناء النظري والتطبيقي للبحث، ويُمهّد للملخص التنفيذي والملحقات المقترحة:

الفصل السادس: نحو إطار تحليلي للكومنتاريا – من الرصد إلى التفعيل

6.1 الحاجة إلى أدوات قياس جديدة

إذا كانت الكومنتاريا تُعرّف بوصفها ممارسة معرفية تُنتج فائضًا من الوعي، فإن رصدها لا يمكن أن يتم عبر أدوات القياس التقليدية التي تعتمد على الكم أو الانتشار فقط. فالتأثير الرمزي لا يُقاس بعدد المتابعين أو مرات النشر، بل بقدرة الفاعل المعرفي على إعادة إنتاج الأسئلة، وتفكيك المسلمات، وتوسيع أفق النقاش العام.

من هنا، تبرز الحاجة إلى أدوات قياس نوعية، تُراعي السياق، وتُفكك العلاقة بين الشكل والمضمون، وتُعيد الاعتبار للعمق التحليلي، لا فقط للانتشار الرقمي.

6.2 مؤشرات أولية لرصد الكومنتاريا

يمكن اقتراح مجموعة من المؤشرات الأولية لرصد الكومنتاريا، منها:

- قدرة الفاعل المعرفي على إنتاج محتوى يُعيد صياغة الأسئلة العامة

- استخدام وسائط متعددة دون فقدان العمق التحليلي

- الانخراط في النقاش العام دون التماهي مع الخطاب السائد

- استدعاء السياق المحلي بوصفه مصدرًا للتحليل، لا مجرد خلفية

- إنتاج معرفة قابلة للتوظيف في التعليم، الإعلام، والسياسات العامة

هذه المؤشرات لا تهدف إلى تصنيف الفاعلين، بل إلى فهم طبيعة الممارسة، وتحديد إمكانات التفعيل، ومواقع التأثير.

6.3 أدوات التفعيل: الورقة، المنصة، الحوار

تُمارَس الكومنتاريا عبر أدوات متعددة، أبرزها:

- الورقة: بوصفها فضاءً للتأمل والتحليل، تُعيد إنتاج المفاهيم، وتُقدّم نماذج قابلة للتطبيق

- المنصة: بوصفها وسيلة للتفاعل والتوزيع، تُعيد تشكيل الذائقة، وتُخاطب جمهورًا متنوعًا

- الحوار: بوصفه أداة للتفكيك والتوسيع، يُعيد الاعتبار للجدل، ويُنتج معرفة جماعية

هذه الأدوات لا تعمل بمعزل عن بعضها، بل تتكامل لتُنتج ممارسة معرفية متعددة الأبعاد، تُعيد للمثقف موقعه كمنتج للوعي، لا مجرد ناقل للمعلومة.

6.4 إمكانات التوظيف في الحقول العامة

يمكن للكومنتاريا أن تُوظَّف في عدة حقول، منها:

- التعليم: عبر إعادة صياغة المناهج لتُراعي السياق، وتُنتج معرفة نقدية

- الإعلام: عبر إنتاج محتوى يُعيد الاعتبار للسردية المحلية، ويُفكك الخطاب الرسمي

- السياسات العامة: عبر تقديم تحليلات تُراعي التعقيد، وتُعيد الاعتبار للمعرفة بوصفها أداة للتخطيط، لا فقط للتبرير

وهكذا، تُصبح الكومنتاريا ممارسة قابلة للتفعيل، لا فقط للتأمل، وتُقدّم للمثقف أدوات جديدة للتأثير، دون أن يفقد استقلاله الرمزي.

***   

الدكتور عبد الجليل حسن البدري

......................

الملاحق

فيما يلي اقترحات لغرض المضي قدماً لانجاز البحث  من خلال صفحتكم الموقرة ان وافقتم على تبنيها مع الشكر .

أولًا المقابلات النوعية – دليل الأسئلة المقترح

الهدف: فهم كيف يُمارس المثقفون أو الفاعلون المعرفيون أدوارهم في مواجهة رأس المال الرمزي والخوارزمي، وهل يعرّفون أنفسهم ضمن ما يمكن تسميته بالكومنتاريا.

الفئات المستهدفة:

- أكاديميون مستقلون

- ناشطون ثقافيون

- إعلاميون نقديون

- فاعلون في المنصات الرقمية

- مفكرون محليون في إفريقيا، أوروبا، أمريكا اللاتينية، آسيا، وأستراليا

الأسئلة المقترحة:

1. كيف تُعرّف دورك المعرفي في مجتمعك؟

2. هل ترى أن المنصة الرقمية غيّرت طبيعة تأثيرك؟ كيف؟

3. هل تشعر أن المعرفة أصبحت سلعة؟ وكيف تتعامل مع هذا التحول؟

4. ما الأدوات التي تستخدمها لإنتاج الوعي؟ وهل تراها فعالة؟

5. هل ترى نفسك جزءًا من طبقة معرفية جديدة؟ كيف تصفها؟

6. ما التحديات التي تواجهها في إيصال خطابك النقدي؟

7. هل تعتقد أن السياق المحلي يمنحك أدوات خاصة؟ أم يقيّدك؟

8. ما رأيك في فكرة "الكومنتاريا" كممارسة معرفية؟ هل تجدها ملهمة أو قابلة للتطبيق؟

ثانيًا: الاستبيان الدولي – صيغة إلكترونية قابلة للتوزيع

عنوان الاستبيان:

"المثقف في عصر الخوارزمية: هل نحن أمام طبقة معرفية جديدة؟"

نوع الأسئلة: مزيج من أسئلة مغلقة (اختيار من متعدد) وأسئلة مفتوحة

محاور الاستبيان:

1. الخلفية العامة (البلد، المجال، نوع النشاط المعرفي)

2. أدوات التأثير المستخدمة (ورقة، منصة، حوار، محتوى رقمي)

3. الموقف من تسليع المعرفة (موافق، متحفظ، رافض)

4. تعريف الذات المعرفية (مثقف تقليدي، فاعل رقمي، كومنتاريا، غير ذلك)

5. تقييم العلاقة مع السلطة الرمزية (مواجهة، تفاعل، حياد، تبعية)

6. رأي في مفهوم الكومنتاريا (مفيد، غامض، قابل للتطبيق، غير مناسب)

7. اقتراحات لتفعيل الكومنتاريا في السياق المحلي

صيغة التوزيع:

يمكن تحويله إلى نموذج Google Form أو Microsoft Forms، مع إمكانية الترجمة إلى الإنجليزية والفرنسية والإسبانية حسب المناطق المستهدفة.

ثالثًا: نموذج دعوة للمشاركة

نص مقترح:

تحية طيبة،

نحن بصدد إنجاز بحث فكري حول مفهوم "الكومنتاريا" كممارسة معرفية جديدة تُعيد تعريف موقع المثقف في عصر رأس المال الخوارزمي. نسعى إلى إشراك فاعلين معرفيين من مختلف القارات في هذا المشروع، عبر مقابلات نوعية واستبيان دولي.

نأمل أن تساهموا برأيكم وتجربتكم، دعمًا لحوار عالمي حول المعرفة، السلطة، والمنصة.

يمكنكم المشاركة عبر الرابط التالي:

 [[email protected]]

ولمن يرغب في مقابلة نوعية، نرجو التواصل معنا عبر البريد:

[[email protected]]

مع خالص التقدير،

د. عبد الجليل البدري – امريكا

***

الاستبيان الدولي:

عنوان الاستبيان:

المثقف في عصر الخوارزمية: هل نحن أمام طبقة معرفية جديدة؟

الهدف:

استطلاع آراء الفاعلين المعرفيين حول مفهوم "الكومنتاريا"، وتحولات دور المثقف في ظل رأس المال الخوارزمي.

الأسئلة المقترحة:

القسم الأول: معلومات عامة

1. البلد الذي تقيم فيه

2. المجال الذي تعمل فيه (أكاديمي، إعلامي، ثقافي، رقمي، غير ذلك)

3. هل تعتبر نفسك فاعلًا معرفيًا؟ (نعم / لا / إلى حد ما)

القسم الثاني: أدوات التأثير

4. ما الأدوات التي تستخدمها للتأثير المعرفي؟ (اختر ما ينطبق)

- ورقة بحثية

- منصة رقمية

- محاضرات أو ورش

- محتوى مرئي أو صوتي

- حوارات مباشرة

- غير ذلك: _______

5. هل ترى أن المنصات الرقمية غيّرت طبيعة دورك؟ (نعم / لا / جزئيًا)

6. ما التحديات التي تواجهها في إيصال خطابك النقدي؟ (إجابة مفتوحة)

القسم الثالث: الموقف من المعرفة والسلطة

7. هل ترى أن المعرفة أصبحت سلعة؟ (نعم / لا / لا أعرف)

8. كيف تصف علاقتك بالسلطة الرمزية؟

- مواجهة

- تفاعل نقدي

- حياد

- تبعية مؤسسية

- غير ذلك: _______

القسم الرابع: الكومنتاريا كمفهوم

9. هل سمعت بمصطلح "الكومنتاريا" من قبل؟ (نعم / لا)

10. هل ترى نفسك جزءًا من طبقة معرفية جديدة؟ (نعم / لا / غير متأكد)

11. ما رأيك في مفهوم الكومنتاريا؟

- ملهم وقابل للتطبيق

- غامض ويحتاج توضيح

- غير مناسب للسياق

- غير ذلك: _______

12. ما اقتراحك لتفعيل الكومنتاريا في السياق المحلي؟ (إجابة مفتوحة)

ترجمة الدعوة إلى اللغات المتعددة

English

Invitation t- Participate

We are conducting a global research project on the concept of “Commentaria” as a new intellectual practice in the age of algorithmic power. We invite thinkers, educators, activists, and digital creators from all continents t- share their insights through a short survey and/or interview.

Your voice matters in shaping a new understanding of knowledge, influence, and symbolic resistance.

Survey link: [[email protected]]

For interviews, please contact: [[email protected]]

With appreciation,

Dr. Abduljalil Al-Badri – Iraq

Français

Invitation à participer

Nous menons une recherche internationale sur le concept de « Commentaria » en tant que pratique intellectuelle émergente à l’ère du pouvoir algorithmique. Nous invitons des penseurs, éducateurs, activistes et créateurs numériques de tous les continents à partager leurs perspectives via un court sondage ou une interview.

Votre voix est essentielle pour redéfinir le rôle du savoir et de la résistance symbolique.

Lien du sondage : [[email protected]]

Pour les entretiens : [[email protected]]

Avec nos remerciements,

Dr Abduljalil Al-Badri – Irak

Español

Invitación a participar

Estamos desarrolland- una investigación global sobre el concept- de “Commentaria” com- práctica intelectual emergente en la era del poder algorítmico. Invitamos a pensadores, educadores, activistas y creadores digitales de todos los continentes a compartir sus ideas a través de una breve encuesta - entrevista.

Tu voz es clave para redefinir el papel del conocimient- y la resistencia simbólica.

Enlace de la encuesta: [[email protected]]

Para entrevistas: [[email protected]]

Con aprecio,

Dr. Abduljalil Al-Badri – Irak

Deutsch

Einladung zur Teilnahme

Wir führen ein weltweites Forschungsprojekt zum Konzept der „Commentaria“ als neue intellektuelle Praxis im Zeitalter algorithmischer Macht durch. Wir laden Denker, Pädagogen, Aktivisten und digitale Kreative aus allen Kontinenten ein, ihre Perspektiven durch eine kurze Umfrage oder ein Interview zu teilen.

Ihre Stimme zählt bei der Neudefinition von Wissen, Einfluss und symbolischem Widerstand.

Umfragelink: [[email protected]]

Für Interviews: [[email protected]]

Mit Dank,

Dr. Abduljalil Al-Badri – Irak

حين نتأمل خارطة الأدب العربي الحديث، نشعر وكأننا أمام فسيفساء مذهلة الجمال، ألوانها متعددة، وأحجارها موزعة من بغداد إلى الرباط، ومن القاهرة إلى صنعاء. غير أن هذه اللوحة، على بهائها، تبدو مفككة؛ ينقصها ذلك الإطار الجامع الذي يبرز تناغمها ويكشف عن صورتها الكاملة. نحن نقرأ شعراً يهتف بالحرية في بيروت، ونصوصاً تسائل الهوية في المغرب، وروايات تفضح الاستبداد في القاهرة، لكننا قلما نقرأ هذه الأصوات معاً بوصفها أجزاء من سيمفونية واحدة.

كأن الحدود السياسية التي قسمت الجغرافيا العربية، امتدت أيضاً إلى وعينا النقدي، فصارت كل تجربة أدبية تدرس في معزل، وكأنها لا تشارك الأخرى همها ولا تحاورها في قضاياها. هكذا أصبح النقد العربي، في كثير من الأحيان، شبيهاً بجزر متناثرة في بحر واحد، لا يربطها جسر ولا يظللها سقف مشترك.

في هذا الفراغ، يعلو صوت سؤال جوهري: لماذا عجزنا عن كتابة تاريخ شامل للأدب العربي الحديث، ونحن الذين نتقاسم لغة واحدة وتراثاً حضارياً متشابكاً؟ أهو قصور في الرؤية النقدية، أم انعكاس لواقع سياسي مزمن؟ هنا تتبدى الإشكالية التي يثيرها الدكتور سعد البازعي: أزمة القطرية النقدية، أو بالأحرى غياب "العين الجامعة" القادرة على رؤية المشهد الأدبي العربي ككل متفاعل حي، لا كأشلاء متفرقة على خرائط الدول.

التشرذم

يثير الدكتور سعد البازعي، بعمق نظرته النقدية، مسألة ليست محصورة في حقل الأدب وحده، بل تنسحب على كامل الوعي الثقافي العربي: غياب الرؤية الشاملة في دراسة الأدب العربي الحديث. هذه الإشكالية، وإن بدت للوهلة الأولى شأناً أكاديمياً محضاً، إلا أنها في جوهرها مرآة لتمزق الذات العربية، وانعكاس مباشر لحالة التجزئة السياسية والفكرية التي يعيشها العالم العربي منذ قرون.

إن المطالبة بكتابة تاريخ شامل للأدب العربي الحديث، كما يقترح البازعي، ليست مجرد ترف بحثي، بل هي محاولة لإعادة وصل ما انقطع بين أطراف الجسد الثقافي الواحد. إنها معركة لاستعادة الذاكرة المشتركة، وإعادة بناء الهوية الثقافية التي تهشمت تحت وطأة الحدود السياسية والإقليمية.

المفارقة

رغم أن العرب يملكون لغة موحدة، هي من أعرق لغات العالم وأكثرها تجذراً وقدرة على التعبير، إلا أن هذه اللغة لم تترجم إلى وحدة نقدية أو رؤية شاملة للأدب. لقد تحولت إلى وعاء ضخم تملؤه نصوص متفرقة، دون وجود "عين نقدية جامعة" تتأمل المشهد في كليته.

هنا تكمن المفارقة الكبرى: لغة واحدة، لكنها موزعة على وعي نقدي مجزأ. نصوص من القاهرة أو بغداد أو الدار البيضاء تتجاور على الورق، لكنها تقرأ بمعايير محلية ضيقة. وكأن الشعر العراقي لم يؤثر في مصر، أو كأن الرواية المغربية لم تترك بصمتها في الخليج. الحقيقة أن التأثيرات متبادلة، لكن النقد القطري يحجبها، فلا نراها إلا بوصفها جزراً معزولة.

جزر منعزلة

حين نتحدث عن "الرواية المصرية" أو "الشعر العراقي" أو "القصة الخليجية"، فإننا نكرس وعياً تجزيئياً لا يعكس الحقيقة. فالتجارب الأدبية، مهما بدت محلية، هي في جوهرها جزء من حركة عربية واحدة. ألم يكن تأثير نجيب محفوظ يتجاوز حدود مصر ليلهم أجيالاً في المغرب العربي والخليج؟ ألم يهز شعر السياب ونازك الملائكة الذائقة العربية بأسرها؟

إن هذا الفصل المصطنع بين الآداب القطرية يجعل النقد أشبه بعالم أحياء يقسم الغابة إلى أقفاص، فيفقد القدرة على رؤية الحياة المشتركة التي تنبض فيها. بينما الأدب العربي، في جوهره، منظومة واحدة تتشارك القضايا والهموم: الحداثة، الحرية، الهوية، المرأة، الاستبداد. هذه ليست قضايا محلية، بل أسئلة وجودية تعني كل عربي، مهما اختلفت الجغرافيا.

المعضلة والحل

إن غياب الرؤية الشاملة لا يحرمنا فقط من صورة كلية للأدب العربي، بل يفقدنا القدرة على فهم دينامياته الداخلية. كيف يمكن أن ندرس "الرواية الجديدة" في الأردن دون ربطها بما جرى في مصر ولبنان؟ وكيف نقيم صعود "شعر التفعيلة" إذا لم نتابع مساره من بغداد إلى دمشق والقاهرة والرباط؟

بهذا الغياب، نكون كمن ينظر إلى النهر من خلال قطرة ماء، أو يقرأ التاريخ من خلال صفحة واحدة. النقد القُطري يحبسنا في زاوية ضيقة، بينما الأدب في حقيقته حركة واسعة، تيار متدفق لا يعترف بالحدود.

المقارنة مع التجربة الأوروبية تكشف عمق الهوة. في أوروبا، ورغم تعدد اللغات والثقافات، نشأت دراسات شاملة مثل "الرواية الأوروبية في القرن التاسع عشر" أو "المسرح الأوروبي الحديث". هناك وعي بأن الأدب يتجاوز الحدود الوطنية، وأن التيارات الفكرية والفنية تنتقل وتتلاقح عبر القارات.

أما نحن، فرغم توحدنا اللغوي والتاريخي، ما زلنا نجزئ أدبنا كأننا جزر معزولة. الأدب العربي عند الأوروبيين، في غياب دراسات شاملة، يبدو مجرد فسيفساء مبعثرة، يسهل تجاهلها أو قراءتها قراءة مبتورة.

جوهر المسألة

لا يمكن فصل الأزمة عن سياقاتها السياسية والتاريخية. فالقطرية الأدبية هي الابن الشرعي للقطرية السياسية. الحدود التي رسمها الاستعمار لم تبق على الخرائط فقط، بل تسللت إلى عقولنا، وأصبحت جزءاً من وعينا النقدي.

لقد غرق النقاد العرب في التخصص المفرط: خبير في الأدب التونسي، وآخر في الرواية السعودية، وثالث في الشعر المغربي. ورغم أن التخصص له فوائده، إلا أن الإفراط فيه أدى إلى انسداد الرؤية الشاملة. فالموسوعية غابت، وحل محلها "التمحور حول الذات المحلية".

ماذا سنخسر؟

إن استمرار هذا الغياب يترتب عليه خسائر جسيمة:

1.  خسارة البعد المقارن: الأدب لا يفهم إلا في سياق مقارن. غياب هذا البعد يجعل النقد ناقصاً، وكأننا نحكم على متسابق ركض في مضمار صغير بدلاً من ساحة كبرى.

2.  غياب الحوار الداخلي: حين يكتب كل قطر عن أدبه فقط، يغيب التفاعل بين التجارب، فتسير الرواية في الخليج بمعزل عن مصر أو المغرب، مما يبطئ التطور ويضعف عملية الفرز النقدي.

3.  تبديد المشترك: تضخيم الفروق الثانوية وإهمال الجوهر الواحد يجعل الأدب العربي يبدو أمام العالم مجموعة آداب محلية لا رابط بينها، بينما هو في حقيقته كيان حضاري متكامل.

الأفق الجديد

الخروج من هذا المأزق لا يتم بالندوات العابرة أو البيانات الشكلية، بل يتطلب مشروعاً حضارياً طويل الأمد. ثمة خطوات عملية يمكن البدء بها:

- بناء مشروع موسوعي: مشروع عربي ضخم لتأريخ الأدب الحديث بمشاركة باحثين من مختلف الأقطار، شبيه بالموسوعات الأوروبية.

- إصلاح المناهج الأكاديمية: فرض مساقات عن "الأدب العربي الحديث" بوصفه كلاً متكاملاً، وتشجيع الدراسات المقارنة.

- تفعيل المجلات المتخصصة: أن تخصص أقساماً ثابتة للظواهر الأدبية المشتركة عربياً، وتشجع على الدراسات العابرة للحدود.

- توظيف المناهج الحديثة: مثل نظرية الحقول (بورديو) أو المنظومات (إيفن زوهار)، لفهم الأدب العربي كحقل متفاعل تتقاطع فيه المراكز والأطراف.

المقاومة لاستعادة الوعي

إن السعي إلى كتابة تاريخ شامل للأدب العربي هو في جوهره فعل مقاومة: مقاومة للتجزئة، للتبعية، وللقبول بالوضع القائم كقدر محتوم. إنه إعلان بأن الثقافة العربية، بما تحمله من تنوع وغنى، قادرة على أن تكون جسراً يوحد حين تفشل السياسة.

النقد، حين يكون شاملاً، لا يلغي التعدد، بل يضعه في إطار واحد، كألوان لوحة فنية. وحده هذا النقد يستطيع أن يعيد إلينا وعينا الجمعي، ويمنحنا القدرة على مخاطبة العالم من موقع الندية، لا التبعية.

حين نتمكن من قراءة الأدب العربي ككيان واحد، بجذوره الراسخة في التراث، وساقه المتمثل في اللغة، وفروعه المثمرة الممتدة من المحيط إلى الخليج، سنكون قد استعدنا وعينا بأنفسنا. هذه ليست مهمة جيل مضى، بل مسئولية الحاضر. فالنقاد اليوم مطالبون بجرأة فكرية وموسوعية واسعة، كي يكتبوا القصة الكبرى: قصة أدب عربي حديث، يحلم ويقاوم ويصنع مستقبلاً مشتركاً.

سؤال حائر

في النهاية، يبقى السؤال: هل نستطيع أن نتجاوز القطرية النقدية لنرى الأدب العربي في كليته؟ الجواب رهن بإرادتنا الثقافية. فالوحدة التي عجزت عنها السياسة، تستطيع الثقافة أن تبدأ في صياغتها، لا كشعار بل كممارسة. واللحظة التي نجرؤ فيها على أن نرى الأدب كشجرة واحدة، جذورها ضاربة في عمق التاريخ، وأغصانها مثمرة فوق كل أرض عربية، ستكون لحظة ميلاد وعي جديد.

هذا هو التحدي الذي طرحه البازعي، وهو نداء للجيل الحالي: أن يتحمل المسئولية في بناء مشروع ثقافي عربي شامل، يضع الأدب العربي في مكانه الطبيعي بين آداب العالم الكبرى، لا كأصوات متفرقة، بل كجوقة واحدة، تغني بلغة واحدة، وتحلم بمستقبل مشترك.

***

د. عبد السلام فاروق

 

لمواكبة الراهن المعرفي العالمي

مقدمة: الفلسفة هي أداة معرفية أساسية لفهم الواقع، تحليل التحديات، وصياغة رؤى جديدة تُسهم في تطوير المجتمعات. في السياق العربي، حيث تواجه الثقافة تحديات معقدة تتعلق بالهوية، العولمة، التكنولوجيا، والتغيرات الاجتماعية، تبرز الفلسفة كوسيلة لتقديم إضافة فكرية تمكّن الثقافة العربية من مواكبة الراهن المعرفي العالمي. يُقصد بالراهن المعرفي العالمي تلك الديناميكيات الفكرية والعلمية التي تشكلها التطورات في العلوم، التكنولوجيا، الأخلاقيات، والفلسفات المعاصرة (مثل ما بعد الحداثة، السياسة الحيوية، والفلسفة الرقمية). تهدف هذه الدراسة الأكاديمية إلى استكشاف مدى مساهمة الفلسفة في تعزيز الثقافة العربية، من خلال تحليل دورها في تعميق التفكير النقدي، إعادة صياغة الهوية، ومواجهة التحديات المعاصرة، مع التركيز على السياقات التاريخية والمعاصرة. إلى أي مدى تساعد الفلسفة في تقديم الإضافة الفكرية للثقافة العربية لمواكبة الراهن المعرفي العالمي؟ وبماذا يتم تعريف المفاهيم الأساسية؟

الفلسفة

الفلسفة هي التأمل العقلاني النقدي في الوجود، المعرفة، الأخلاق، والمجتمع. تُعنى بطرح الأسئلة الأساسية حول الإنسان، العالم، والعلاقة بينهما، وتسعى إلى تقديم إطار نظري لفهم الواقع وتوجيه السلوك.

الثقافة العربية

الثقافة العربية هي المجموعة المتكاملة من القيم، المعتقدات، الفنون، والممارسات الفكرية التي تشكل هوية المجتمعات العربية. تتميز بتنوعها الداخلي (بين الدول العربية) وتأثرها بالتراث الإسلامي، التاريخ، والتحديات المعاصرة مثل العولمة والتكنولوجيا.

الراهن المعرفي العالمي

يشير إلى التطورات الفكرية والعلمية في العصر الحديث، مثل:

العلوم والتكنولوجيا: الذكاء الاصطناعي، البيانات الضخمة، والتكنولوجيا الحيوية.

الفلسفات المعاصرة: ما بعد الحداثة، السياسة الحيوية، الفلسفة البيئية، والفلسفة الرقمية.

التحديات الأخلاقية والاجتماعية: قضايا العدالة، المساواة، تغير المناخ، والهجرة.

الإضافة الفكرية

تشير إلى المساهمات المعرفية التي تُعزز قدرة الثقافة على التفكير النقدي، التكيف مع التغيرات، وإنتاج حلول مبتكرة للتحديات.

الأسس التاريخية لدور الفلسفة في الثقافة العربية

الفلسفة في العصر الذهبي العربي الإسلامي

خلال العصر العباسي (القرن 8-13)، لعبت الفلسفة دورًا محوريًا في الثقافة العربية الإسلامية. فلاسفة مثل الفارابي، ابن سينا، وابن رشد نقلوا الفلسفة اليونانية (أرسطو، أفلاطون) إلى السياق الإسلامي، وقدموا إضافات فكرية في مجالات المنطق، الميتافيزيقا، والأخلاق.

مثال: الفارابي في المدينة الفاضلة قدم رؤية فلسفية لتنظيم المجتمع بناءً على العقل، مما ساعد في صياغة مفهوم الحكم العادل.

هذه الفترة أظهرت قدرة الفلسفة على دمج الثقافة العربية مع المعارف العالمية، مما ساهم في النهضة العلمية والفكرية.

تراجع الفلسفة في العصور الوسطى

بعد القرن الثالث عشر، تراجع دور الفلسفة في الثقافة العربية بسبب الصراعات الفكرية (مثل نقد الغزالي للفلسفة في تهافت الفلاسفة) وتغلب التفسيرات التقليدية على التفكير النقدي.

هذا التراجع أدى إلى فجوة بين الثقافة العربية والتطورات المعرفية في الغرب، خاصة خلال عصر التنوير.

إحياء الفلسفة في العصر الحديث

في القرنين التاسع عشر والعشرين، شهدت الثقافة العربية نهضة فكرية (اليقظة العربية) مع مفكرين مثل محمد عبده، جمال الدين الأفغاني، الكواكبي وطه حسين، الذين استخدموا الفلسفة لتحليل قضايا الحداثة والهوية.

في الوقت الحاضر، يظهر اهتمام متجدد بالفلسفة في الجامعات العربية والمراكز الفكرية، مع التركيز على الفلسفات المعاصرة.

دور الفلسفة في تقديم الإضافة الفكرية

تعزيز التفكير النقدي

الأهمية: الفلسفة تُعلم التفكير النقدي من خلال طرح الأسئلة الأساسية وتحليل الافتراضات. على سبيل المثال، الفلسفة التحليلية (مثل أعمال لودفيغ فيتغنشتاين) تُشجع على التدقيق في المفاهيم واللغة.

في السياق العربي: التفكير النقدي يُمكّن الثقافة العربية من مواجهة قضايا مثل التطرف، الاستبداد، والتخلف العلمي. على سبيل المثال، يمكن للفلسفة أن تُحلل الخطابات الدينية أو السياسية بشكل نقدي لتفكيك الدوغمائية.

التطبيق المعاصر: في مواجهة التضليل الإعلامي على منصات رقمية، يمكن للفلسفة أن تُوفر أدوات لتحليل المعلومات وتمييز الحقيقة من الدعاية.

إعادة صياغة الهوية الثقافية

الأهمية: الفلسفة تساعد في إعادة تعريف الهوية في سياق العولمة. على سبيل المثال، فلسفة ما بعد الاستعمار (مثل أعمال إدوارد سعيد) تُحلل تأثير الاستعمار على الهوية العربية.

في السياق العربي: الثقافة العربية تواجه توترًا بين الحفاظ على الهوية التراثية والتكيف مع الحداثة. الفلسفة يمكن أن تُقدم إطارًا للتوفيق بين هذين البعدين، مثلما فعل محمد عابد الجابري في نقد العقل العربي، حيث دعا إلى إعادة قراءة التراث بنهج نقدي.

التطبيق المعاصر: الفلسفة يمكن أن تُساعد في صياغة هوية عربية معاصرة توازن بين القيم الإسلامية والتحديات العالمية مثل العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان.

مواجهة التحديات المعاصرة

التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي: الفلسفة الرقمية (مثل أعمال لوسيانو فلوريدي) تُقدم إطارًا لفهم تأثير الذكاء الاصطناعي على المجتمع العربي، مثل قضايا الخصوصية أو التحيز في الخوارزميات.

تغير المناخ: الفلسفة البيئية تُساعد في صياغة أخلاقيات بيئية تُعزز الوعي الإيكولوجي في المجتمعات العربية، خاصة في مناطق تعاني من التصحر أو نقص المياه.

العدالة الاجتماعية: فلسفات مثل نظرية العدالة لجون رولز يمكن أن تُلهم سياسات تُعالج التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية في العالم العربي.

تعزيز الحوار العالمي

الفلسفة تُمكّن الثقافة العربية من المشاركة في الحوار الفكري العالمي من خلال تقديم وجهات نظر متميزة. على سبيل المثال، يمكن للفلسفة الإسلامية أن تُسهم في مناقشات حول الأخلاقيات العالمية أو الفلسفة البيئية. مفكرون عرب معاصرون مثل حسن حنفي (في التراث والتجديد) حاولوا بناء جسور بين الفلسفة العربية والغربية، مما يُعزز مكانة الثقافة العربية في الراهن المعرفي.

حدود مساهمة الفلسفة في الثقافة العربية

التحديات الثقافية والاجتماعية

الدوغمائية: بعض التيارات الثقافية في العالم العربي ترفض الفلسفة كـ"بدعة" أو تهديد للتقاليد، مما يُعيق انتشارها.

ضعف التعليم الفلسفي: الفلسفة غالبًا ما تُهمل في المناهج التعليمية العربية، مما يحد من قدرة الأفراد على التفكير النقدي.

السيطرة السياسية: الأنظمة السياسية في بعض الدول العربية قد تُقيد حرية التفكير الفلسفي، خاصة إذا تناول قضايا حساسة مثل الدين أو السلطة.

الفجوة مع الراهن المعرفي

الثقافة العربية تُعاني من تأخر نسبي في مواكبة التطورات العلمية والفلسفية، مثل الفلسفة الرقمية أو السياسة الحيوية، بسبب نقص التمويل والتخصصات الأكاديمية.

الترجمة الفكرية محدودة، مما يُعيق الوصول إلى الأعمال الفلسفية المعاصرة.

الصراع بين التراث والحداثة

التوتر بين التراث والحداثة يجعل بعض المفكرين يترددون في تبني الفلسفات الغربية خوفًا من فقدان الهوية.

في المقابل، التركيز المفرط على التراث قد يُعيق الانفتاح على الراهن المعرفي العالمي.

التطبيقات العملية لدور الفلسفة في التعليم

دمج الفلسفة في المناهج التعليمية يُعزز التفكير النقدي ويُمكّن الأجيال الجديدة من مواجهة التحديات المعاصرة. على سبيل المثال، تدريس الفلسفة الأخلاقية يمكن أن يُساعد في مناقشة قضايا مثل أخلاقيات الذكاء الاصطناعي. برامج مثل "الفلسفة للأطفال" يمكن أن تُطبق في المدارس العربية لتعزيز التفكير النقدي منذ الصغر.

في الإعلام والمجال العام

الفلسفة يمكن أن تُثري الخطاب العام على منصات رقمية من خلال تعزيز النقاشات العقلانية حول قضايا مثل العدالة الاجتماعية أو تغير المناخ.

إنشاء منصات فكرية عربية (مثل المجلات أو المواقع الإلكترونية) لنشر الأفكار الفلسفية المعاصرة.

في السياسة والمجتمع

الفلسفة السياسية (مثل أعمال هابرماس حول الفضاء العمومي) يمكن أن تُلهم إصلاحات ديمقراطية في العالم العربي الاسلامي.

الفلسفة البيئية يمكن أن تُساعد في صياغة سياسات مستدامة لمواجهة التحديات البيئية في المنطقة.

مقاربة استشرافية: مستقبل الفلسفة في الثقافة العربية

السيناريو الإيجابي

إحياء الفلسفة: إذا تم دمج الفلسفة في التعليم والمجال العام، يمكن للثقافة العربية أن تُنتج مساهمات فكرية كبرى في الراهن المعرفي، مثل تطوير فلسفة عربية للذكاء الاصطناعي أو الأخلاقيات البيئية.

التكامل مع العالمية: الثقافة العربية يمكن أن تُصبح شريكًا فاعلًا في الحوار الفلسفي العالمي من خلال تقديم وجهات نظر متميزة مستمدة من التراث.

السيناريو السلبي

التهميش المستمر: إذا استمر تهميش الفلسفة في التعليم والمجتمع، قد تتسع الفجوة بين الثقافة العربية والراهن المعرفي، مما يُعيق الابتكار الفكري.

الاستقطاب: قد يؤدي الصراع بين التراث والحداثة إلى رفض الفلسفة كـ"غربية"، مما يحد من إمكاناتها.

السيناريو المتوازن

تبني منهج يجمع بين إحياء التراث الفلسفي العربي (مثل أعمال ابن رشد) والانفتاح على الفلسفات المعاصرة.

تعزيز الترجمة والبحث الأكاديمي لربط الثقافة العربية بالتطورات العالمية.

خاتمة

الفلسفة تُقدم إضافة فكرية حاسمة للثقافة العربية لمواكبة الراهن المعرفي العالمي من خلال تعزيز التفكير النقدي، إعادة صياغة الهوية، ومواجهة التحديات المعاصرة. تاريخيًا، أثبتت الفلسفة قدرتها على دمج الثقافة العربية مع المعارف العالمية، كما في العصر الذهبي الإسلامي. ومع ذلك، تواجه الفلسفة تحديات مثل الدوغمائية، ضعف التعليم، والتوتر بين التراث والحداثة. من خلال دمج الفلسفة في التعليم، الإعلام، والسياسة، يمكن للثقافة العربية أن تُسهم بشكل فعال في الحوار المعرفي العالمي، مع الحفاظ على هويتها الفريدة. المستقبل يعتمد على القدرة على بناء جسور بين التراث والحداثة، مما يجعل الفلسفة أداة أساسية للنهوض الفكري والثقافي. فكيف يتم استرداد الدور الطليعي للفلسفة والفلاسفة في المجتمعات التابعة؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

....................

المصادر والمراجع

الفارابي. آراء أهل المدينة الفاضلة.

الجابري، محمد عابد. نقد العقل العربي (1984-2001).

حنفي، حسن. التراث والتجديد (1980).

سعيد، إدوارد. الاستشراق (1978).

رولز، جون. نظرية العدالة (1971).

 

"كل توسع في الخارج، إن لم يصاحبه تعمق في الداخل، فهو سقوط في الفراغ." عبد الرحمن بدوي – (الزمان الوجودي) ـ

يعيش العالم اليوم تحوّلاً سوسيولوجياً عميقاً في علاقة الإنسان بالتكنولوجيا، إذ لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرّد أداة تحليل أو وسيلة للبحث، بل صار يؤدي دور المستشار الوجودي الرقمي الذي يقتحم أكثر مناطق الوعي الإنساني حساسية، في الصحة النفسية، والعلاقات الحميمية، وأسئلة الجسد التي طالما حاصرتها ثقافة التابوهات داخل المجتمعات المحافظة.

إن ما يحدث ليس انتقالاً تكنولوجياً فحسب، بل تحوّل أنثروبولوجي في علاقة الإنسان بنفسه وبحدود البوح والمعرفة. هذا التحوّل لم يولد صدفة، بل فرضته حقائق ميدانية صارخة. ففي القارة الإفريقية، حيث تتقاطع الهشاشة الاجتماعية بندرة الكفاءات الطبية، تكشف منظمة الصحة العالمية عن عجز بنيوي مزمن في موارد الطب النفسي. فعدد الممارسين لا يتجاوز 0.9 لكل مئة ألف نسمة، مقابل تسعة على المستوى العالمي.

إنها فجوة صحية وثقافية، تجعل من اللجوء إلى الذكاء الاصطناعي ليس اختياراً، بل اضطراراً رقمياً أمام انسداد الأفق العلاجي التقليدي.

في المغرب، على سبيل المثال، لا يتجاوز عدد الأطباء النفسيين في القطاع العام 317، فيما يظل التخصص في طب نفس الأطفال شبه نادر. وفي الجزائر ومصر الوضع متقارب، حيث يهيمن الحضور التمريضي على حساب الأطر المتخصصة. هذه الأرقام لا تعبّر فقط عن اختلال صحي، بل عن فشل في العدالة المعرفية، أي في جعل الحق في الوعي والعلاج متاحاً للجميع، لا محتكراً داخل المدن أو الطبقات الميسورة.

أمام هذا الخصاص، لجأ الإنسان الإفريقي والعربي إلى ما يشبه "الطب الموازي الرقمي"، روبوتات المحادثة والمنصات الذكية، التي صارت ملاذاً سرياً يجيب على أسئلة محرّمة اجتماعياً، كالاكتئاب والعادة السرية والاضطرابات الجنسية والقلق والعلاقات الزوجية.

إنها أسئلة تتجاوز الطب إلى أنطولوجيا الجسد والهوية، حيث يبحث الجيل الجديد عن خطاب يشرّع له البوح ويحرره من الرقابة الأسرية والطبية والدينية التي كبّلت نقاشاته لعقود.

دراسات حديثة، نُشرت في مجلات مثل BMC Public Health وSexual Health in the Era of AI، تُظهر أن بعض الروبوتات تقدّم إجابات دقيقة نسبيًا، بل تسهم في نشر ثقافة الصحة الجنسية في بيئات يهيمن فيها الخجل الجمعي. لكنها، في المقابل، تظل محدودة بحدود البرمجة واللغة، وتفتقد إلى "الذكاء العاطفي" الذي يجعل الطبيب البشري قادراً على الإصغاء إلى الألم لا إلى السؤال فقط.

ويحذر الخبراء من أن الإفراط في الاعتماد على هذه النماذج قد ينتج عزلة رقمية مضاعفة. فبينما تمنح المستخدم شعوراً بالأمان، تسلبه في الوقت نفسه فرصة التفاعل الإنساني، وتُحوّله إلى كائن يحاور آلة بلا ذاكرة وجدانية.

الذكاء الاصطناعي، في عمقه، ليس مجرد تكنولوجيا بل مرآة لثقافتنا. إنه يكشف هشاشتنا، كسرية علاقتنا بالذات، وكثافة الخوف الذي نغلف به الجسد والمشاعر. لذلك، فإن النقاش لا يجب أن يقتصر على "مدى دقة الأجوبة" بل على منظومة القيم التي تنتج السؤال أصلاً.

بين الحرج والتقدم، بين الحاجة إلى الخصوصية وضرورة الإشراف، يبدو أن الطريق الأمثل هو تأهيل الذكاء الاصطناعي كأداة مساعدة لا بديل للإنسان، وكجسر نحو الوعي لا كقناع للهروب من المواجهة. فالتوازن بين الرقمي والبشري هو الشرط الأخلاقي الجديد لعصرٍ تذوب فيه الحدود بين المعالجة التقنية والعلاج الوجداني. ولعلّ هذا التحوّل الذي نعيشه اليوم في علاقة الإنسان بجسده ونفسيته من خلال الوسائط الذكية، ليس سوى وجهٍ جديدٍ لمسارٍ قديمٍ في الفكر العربي الإسلامي، حين كانت الروح والجسد وحدةً متكاملة في رؤية الوجود والمعرفة. فقد نظر ابن سينا، في "الشفاء" و"القانون في الطب"، إلى النفس باعتبارها جوهرًا عاقلاً يتوسط بين الجسد والعقل الكلي، ورأى أن المرض النفسي ليس مجرد خلل في المزاج، بل اهتزاز في توازن الكيان الإنساني ككل. أما الرازي، فكان من أوائل من ربطوا بين الحالة النفسية والصحة الجسدية، ودعا إلى معالجة المريض بالعقل والرفق قبل الدواء، مؤسسًا بذلك لما يمكن تسميته بـ"الإنسانية الطبية" في الحضارة الإسلامية.

في هذا الأفق، يتبدّى أن الذكاء الاصطناعي، رغم حداثته التقنية، يعيد إنتاج سؤال قديم بصيغة رقمية جديدة، من يفهم الإنسان أكثر؟ أهو الطبيب الذي يقرأ نبض الروح، أم الخوارزمية التي تترجم اللغة إلى معادلات احتمالية؟.

 وبينما كان الفيلسوف المسلم يرى في "النفس" مبدأً للتعقل والاختيار، يبدو أن الذكاء الاصطناعي يعيد تعريفها كمجرد "بيانات" قابلة للقياس. وهنا تكمن المفارقة الكبرى: أن نتحول من كائنٍ عارفٍ بنفسه إلى كائنٍ يُفسَّر من قِبل الآلة، في انقلاب ثقافي يعيد طرح سؤال الوعي والحرية في زمن الخوارزميات.

في ضوء هذا الامتداد التاريخي، يبدو أن الذكاء الاصطناعي ليس مجرد أداة تقنية، بل مرآة حضارية تعكس هشاشتنا الوجودية وارتباك وعينا بذواتنا. فحين يلجأ الإنسان العربي إلى خوارزميةٍ ليسألها عن معنى الألم أو اللذة، عن الخوف أو الرغبة، فإنه لا يبحث فقط عن إجابة، بل عن صوتٍ يسمعه دون أن يُدينه، وعن عقلٍ لا يحمل ذاكرة الأحكام المسبقة. في السياق، تكمن أزمة المعنى في زمن الرقمنة، أن تحلّ الآلة محلّ الاعتراف الإنساني، وأن يصبح "الإنصات الرقمي" بديلاً عن الحوار الاجتماعي والعائلي والثقافي الذي افتقدناه.

لكن في المقابل، قد يكون هذا الانعطاف ذاته فرصة لإعادة التفكير في علاقتنا بالمعرفة والإنسان. فالتحدي الحقيقي ليس في "الذكاء الاصطناعي" ذاته، بل في الذكاء الإنساني العربي: هل يستطيع أن يستعيد منطقه التأملي، وأن يوظف التقنية لا كبديلٍ عن الوعي، بل كوسيلة لتوسيع مداركه؟

إنّ النهضة الممكنة تبدأ من لحظة الوعي بأن الإنسان هو من يمنح الآلة معناها، وأن الحوار بين العلم والروح، بين العقل والخبرة، هو ما يصنع مستقبلًا متوازنًا بين التقنية والإنسانية.

هكذا، لا تكون الخوارزمية نقيضًا للفكر العربي، بل مناسبة لإيقاظه من سباته، كي يستأنف رحلته القديمة في فهم النفس والعالم، بوعيٍ جديدٍ يزاوج بين جذور التراث ورؤى المستقبل.

***

د. مصطفى غَلــــمَــان

 

صحيح أن سيغموند فرويد هو من طور مجال التحليل النفسي بعد جوزيف بروير، وأن إسهاماته التأسيسية لا يمكن إنكارها… غير أن اختزال التحليل النفسي في فرويد وحده يكشف عن محدودية في الاطلاع، ويتجاهل قرناً كاملاً من التطور النظري والممارسة السريرية… التحليل النفسي تطور بشكل جذري مع ميلاني كلاين وعلاقات الموضوع، جاك لاكان والتحليل البنيوي، دونالد وينيكوت وويلفريد بيون وغيرهم الذين اختلفوا مع فرويد وطوروا المنهجية بشكل كامل، وأعادوا التفكير في أسسها الابستمولوجية نفسها.

إن إدراك هذا التطور الواسع يكشف حجم الاختزال الذي يمارسه النقد الفرويدي المعمم. لمواجهة هذا الاختزال لا بد من فحص بنيته المنطقية. إذا كان فرويد هو التحليل النفسي (وهو ليس كذلك)، وإذا كان فرويد مليئاً بالإشكاليات المنهجية والنظرية (وهو كذلك بالفعل)، فإن التحليل النفسي كله باطل. المشكلة في المقدمة الأولى لا في الاستنتاج، للتوضيح: هذا يماثل نقد الفيزياء من خلال نيوتن فقط مع تجاهل آينشتاين والميكانيكا الكمومية ونظرية الأوتار. إنه اختزال يفقد النقد أي قيمة معرفية حقيقية.

بالطبع هذا لا يعني أن التحليل النفسي بلا إشكاليات منهجية، فكل حقل معرفي يحمل توتراته الداخلية وإشكالياته المفتوحة… لكن الإنصاف الفكري يقتضي نقد ما هو قائم فعلاً في الممارسة والنظرية المعاصرة، لا نقد صورة متحجرة من الماضي واتخاذها ممثلاً للحاضر.

لننظر إلى أمثلة محددة على هذا التطور الجذري:

أعادت ميلاني كلاين صياغة فهم السنوات الأولى من الحياة النفسية عبر نظرية علاقات الموضوع والمواقف المبكرة، متجاوزة التركيز الفرويدي على المراحل الليبيدية إلى فهم أعمق للعلاقات الداخلية والموقفين الاكتئابي والبارانويدي-الفصامي… كذلك مفهوم السانتوم (Sinthome) الذي قدمه جاك لاكان في سيمناره الثالث والعشرين (1975-1976) مثّل قطيعة ابستمولوجية مع التصور الفرويدي الكلاسيكي… لم يعد التحليل النفسي يتعلق بتجاوز نموذج الشفاء الطبي إلى نموذج البناء الذاتي فحسب، إذ أعاد التفكير في طبيعة العَرَض نفسه… حيث صار العَرَض طريقة فريدة للذات في التعامل مع استحالة الانسجام الرمزي، وليس رسالة مشفرة تنتظر التأويل. مما سبب بتحويل الهدف من إزالة الأعراض أو اكتشاف معانٍ مخفية ثابتة إلى بناء حل فريد لكل ذات يسمح لها بالاستمرار رغم غياب الانسجام البنيوي المفترض.

اليس هذا تحول من البحث عن الحقيقة الموضوعية المطلقة إلى الاعتراف بالممارسة التحليلية كفن لبناء الحلول الذاتية مما يضع التحليل في إطار مختلف تماماً عن العلوم الطبيعية ليس كقصور في المنهج لكن كاختلاف في طبيعة الموضوع نفسه؟

هذا يقودنا إلى سؤال حول طبيعة العلم نفسه: هل كل علم يجب أن يكون إمبريقياً؟

تاريخ المعرفة الإنسانية والنقاشات الابستمولوجية المعاصرة تجيب بالنفي… الرياضيات والمنطق علوم وليست إمبريقية، والعلوم الإنسانية لها مناهجها الخاصة التي تختلف جذرياً عن مناهج العلوم الطبيعية. التحليل النفسي يمكن فهمه كعلم للذاتية وللخبرة الواعية واللاواعية، منهج معترف به تاريخياً في حقل العلوم الإنسانية… إذن، نقد التحليل النفسي لأنه ليس إمبريقياً يفترض مسبقاً أن الإمبريقية هي المعيار الوحيد للعلمية، وهذا افتراض مغلوط ابستمولوجياً يتجاهل تعددية المناهج العلمية وتنوع موضوعات المعرفة"

كما يمكننا أن نذهب أبعد من ذلك في التساؤل حول هذه الموضوعية المزعومة للعلوم الإمبريقية نفسها؟

في الواقع، القول بأن العلم الإمبريقي نفسه يحركه اللاوعي ويتشكل عبر رغبات ذواتية لا يعني نسبوية معرفية تامة تلغي إمكانية المعرفة… المقصود أن كل معرفة، بما فيها المعرفة العلمية الإمبريقية، تنتج عن ذوات لها دوافعها واختياراتها وأيديولوجياتها اللاواعية التي تشكل أفق الأسئلة وطرائق البحث… الفرق أن معظم العلوم تنكر هذا البُعد أو تتجاهله مدعية حيادية مطلقة، بينما التحليل النفسي يجعل هذا البُعد اللاواعي موضع دراسته المركزي ويتخذ موقفاً نقدياً من وهم الموضوعية المطلقة… المسألة ليست في أن كل شيء نسبي، المسألة في أن الذات العارفة جزء لا يتجزأ من عملية المعرفة، وإنكار ذلك وهم ابستمولوجي يسميه التحليل اللاكاني الوهم الوضعاني.

إن النقاش حول التحليل النفسي يجب أن يتجاوز المعارك القديمة حول فرويد ليصبح نقاشاً معاصراً يأخذ في الاعتبار التطورات النظرية والممارسات السريرية المتنوعة التي شكّلت هذا الحقل على مدار قرن كامل. إذا كان النقد جاداً فليشمل التطورات الحقيقية للتحليل النفسي لا مجرد الوقوف عند فرويد.

***

عبد العزيز سعود الشريف

مقدمة: الفلسفة في مواجهة التحديات

لطالما كانت الفلسفة، "أم العلوم"، المنارة التي تضيء دروب الفكر الإنساني وتصقل العقول الناقدة القادرة على بناء الحضارات. إلا أن هذا الدور الريادي يواجه اليوم في جامعاتنا العراقية واقعًا معقدًا يضع الدرس الفلسفي في موقف دفاعي، محاصرًا بين أساليب تدريس تقليدية، وسوق عمل مغلق، وصورة نمطية مجتمعية تختزل الفلسفة في الغموض والتعقيد وخطر الإلحاد. يستهدف هذا المقال تشخيص هذا الواقع، وتحليل معوقاته، والأهم من ذلك، طرح رؤية عملية لإصلاح المسار الأكاديمي وتصحيح المفاهيم المجتمعية.

أولًا: واقع الدرس الفلسفي: من التلقين إلى التفلسف المفقود

يكمن جوهر الأزمة الأكاديمية في طبيعة تدريس الفلسفة نفسها، والتي تتجلّى في مظهرين رئيسيين:

1. هيمنة أسلوب التلقين: يتحول الطالب في كثير من الأحيان إلى متلقٍ سلبي للمعلومات. يُركّز المنهج على ضرورة حفظ أسماء الفلاسفة، وتواريخ المدارس الفلسفية، ونصوص نظرياتهم، دون إتاحة مساحة كافية للطالب لطرح الأسئلة الجوهرية، أو نقد الأفكار، أو بناء حججه الخاصة. وبهذا، يتم تدريس تاريخ الفلسفة، لا الفلسفة كفعل وممارسة عقلية. إننا نُلقّن الطالب ما قاله كانط، لكننا لا نُدرّبه على التفكير بمنهجية كانط النقدية.

2. الانفصال عن الواقع المعاصر: غالبًا ما تظل المناهج غارقة في الفلسفات الكلاسيكية والحديثة دون بناء جسور حقيقية مع قضايا العصر الملحة. لا يتم التركيز بالقدر الكافي على فروع الفلسفة التطبيقية كأخلاقيات الذكاء الاصطناعي، أو فلسفة القانون، أو أخلاقيات البيولوجيا، أو فلسفة الإعلام، وهي المجالات التي يمكن أن تبرهن على حيوية الفلسفة وقدرتها على معالجة تحديات اليوم.

ثانيًا: المعوّقات البنيوية والمجتمعية

لا تقتصر المشكلة على داخل أسوار الجامعة، بل تمتد إلى نظرة المجتمع وسوق العمل، مما يخلق حلقة مفرغة من التهميش.

1. انعدام سوق العمل: يُعد هذا المعوق هو الأكثر تأثيرًا في مستقبل الأقسام. يتخرج الطالب ليجد نفسه أمام أبواب موصدة، فلا توجد مسارات وظيفية واضحة لخريج الفلسفة باستثناء التدريس الأكاديمي المحدود. هذا الواقع يقلل من إقبال الطلبة المتميزين على دراسة هذا التخصص ويُضعف من دافعيتهم.

2. الصورة النمطية المجتمعية: ترسخت في الوعي الجمعي صورة مشوّهة عن الفلسفة، ويمكن تفكيكها إلى ثلاثة أبعاد:

أ‌-الغموض والتعقيد: يُنظر إلى الفلسفة على أنها مجموعة من الأفكار المجردة والمعقدة التي لا علاقة لها بحياة الناس اليومية، وأنها مجرد "ترف فكري".

ب‌- الانفصال عن الواقع: يُتهم دارس الفلسفة بأنه يعيش في "برجٍ عاجي"، ويتعامل مع أسئلة لا تقدم حلولًا لمشاكل المجتمع الاقتصادية أو الأمنية أو الخدمية.

ت‌-الخوف من الإلحاد: وهو الانطباع الأخطر، حيث يُربط البحث الفلسفي الحر والتشكيك المنهجي بالتشكيك في الثوابت الدينية، مما يخلق حاجزًا نفسيًا واجتماعيًا قويًا ضد دراستها.

ثالثًا: سبل النهوض والتغيير: رؤية للإصلاح المزدوج

إن تغيير هذا الواقع يتطلب استراتيجية ذات مسارين متوازيين: إصلاح أكاديمي جذري من الداخل، وحملة لتغيير الوعي المجتمعي من الخارج.

1.على الصعيد الأكاديمي:

أ‌-الانتقال من التلقين إلى التفلسف:

- تغيير طرائق التدريس: اعتماد أساليب تعزز التفكير النقدي مثل الندوات السقراطية (Socratic Seminars)، والمناظرات الفلسفية، وورش كتابة المقال التحليلي. يجب أن تتحول قاعة الدرس إلى مختبر للأفكار.

- تحديث المناهج: إدخال مواد دراسية في "الفلسفة التطبيقية" و"التفكير النقدي ومهارات حل المشكلات" و"أخلاقيات المهنة". يمكن أيضًا طرح فكرة تغيير مسمى الأقسام إلى "قسم الفلسفة والدراسات النقدية" أو "قسم الفلسفة والأخلاقيات التطبيقية" أو "قسم الفلسفة والدراسات المستقبلية" ليعكس هذا التوجه الجديد.

ب‌- ربط التخصص بسوق العمل:

- بناء مسارات مهنية: استحداث برامج دبلوم عالي أو ماجستير مهني تربط الفلسفة بمجالات أخرى، مثل: منها على سبيل المثال:

المؤسسات الأمنية والعسكرية:

تهدف هذه البرامج إلى تزويد العاملين في هذا القطاع بالقدرة على التحليل العميق، فهم الأيديولوجيات، واتخاذ القرارات في المواقف المعقدة.

* دبلوم عالي / ماجستير مهني في "تحليل الخطاب والتفكير الاستراتيجي":

- المبررات: تحتاج المؤسسات الأمنية إلى متخصصين قادرين على تفكيك الخطابات المتطرفة والإعلام الموجّه، وفهم بنيتها المنطقية والنفسية.

- المهارات: يركّز هذا البرنامج على تدريب الخريجين على مهارات المنطق، تحليل الحجج والمغالطات، ودراسة أثر اللغة في بناء الأيديولوجيات، مما يخدم بشكل مباشر في وحدات التحليل الاستخباري والحرب النفسية.

* دبلوم عالي / ماجستير مهني في "فلسفة القانون والأخلاقيات الأمنية":

- المبررات: يواجه العمل الأمني تحديات أخلاقية وقانونية مستمرة (مثل أخلاقيات التحقيق، وقواعد الاشتباك، وحقوق الإنسان في سياق مكافحة الإرهاب).

- المهارات: يوفّر هذا التخصص أساسًا نظريًا وعمليًا لصياغة السياسات والتشريعات الأمنية، وتدريب الضباط على اتخاذ قرارات متوازنة تجمع بين ضرورات الأمن واحترام القانون.

المؤسسات الثقافية والبحثية:

تهدف هذه البرامج إلى تعميق الفهم بالهوية والتراث والمشكلات الاجتماعية، وتقديم حلول مبتكرة.

* دبلوم عالي / ماجستير مهني في "فلسفة الحوار وإدارة التنوع الثقافي":

- المبررات: يمر العراق بتحديات تتعلق بالهوية والتعايش بين المكونات المختلفة. تحتاج المؤسسات الثقافية إلى خبراء في إدارة الحوار وتعزيز المشتركات الوطنية.

- المهارات: يركز البرنامج على فلسفة التواصل، نظريات الاعتراف، وفلسفة التعددية الثقافية، لإعداد مستشارين في مجال المصالحة المجتمعية وصياغة السياسات الثقافية الشاملة.

* دبلوم عالي / ماجستير مهني في "الدراسات النقدية والسياسات الثقافية":

- المبررات: تحتاج مؤسسات مثل دار الكتب والوثائق، ودور النشر، والمراكز البحثية إلى نقّاد ومحللين قادرين على تقييم الإنتاج الفكري والثقافي ووضع سياسات للنهوض به.

- المهارات: يوفّر هذا التخصص أدوات النقد الفني والأدبي والاجتماعي، ويمكّن الخريج من تحليل الظواهر الثقافية وتقديم استشارات عملية لصناع القرار الثقافي.

المؤسسات الإعلامية

تهدف هذه البرامج إلى رفع مستوى الأداء الإعلامي من خلال تعزيز التفكير النقدي والأخلاقيات المهنية.

* دبلوم عالي / ماجستير مهني في "فلسفة الإعلام والأخلاقيات الرقمية":

- المبررات: مع انتشار الإعلام الرقمي والأخبار الزائفة، أصبحت الحاجة ملحّة لوجود إعلاميين قادرين على التعامل مع التحديات الأخلاقية والتحقق من المعلومات بشكل منهجي.

- المهارات: يدرس هذا البرنامج أخلاقيات المهنة الإعلامية في العصر الرقمي، فلسفة الصورة، تحليل الدعاية، وتأثير الإعلام في الرأي العام، مما يصقل مهارات الصحفيين ومُعدّي المحتوى.

* دبلوم عالي / ماجستير مهني في "المنطق وتحليل الرأي العام":

- المبررات: تحتاج المؤسسات الإعلامية ومراكز استطلاع الرأي إلى محللين يمتلكون أدوات منطقية صارمة لفهم اتجاهات الرأي العام وتفسير البيانات وتجنّب الاستنتاجات المتسرعة.

- المهارات: يركّز على تدريس المنطق غير الصوري، كشف المغالطات المنطقية في الخطاب السياسي والإعلامي، ومناهج تحليل المحتوى، لإعداد محللي بيانات ومحتوى إعلامي على مستوى عالٍ.

- التأكيد على المهارات: يجب على الأقسام أن تسوّق لخريجيها ليس كـ"فلاسفة" بل كـ "خبراء في حل المشكلات المعقدة"، و"محللين نقديين"، و"استراتيجيين في التواصل"، وهي مهارات مطلوبة في كل قطاعات العمل الحديثة.

2. على الصعيد المجتمعي:

أ‌- مبادرات "الفلسفة للجميع":

- تنظيم فعّاليات عامة: إقامة منتديات مفتوحة، ومقاهٍ فلسفية، وندوات مبسّطة تناقش قضايا الساعة (مثل العدالة الاجتماعية، وأخلاق التكنولوجيا، ومعنى المواطنة) من منظور فلسفي.

- التواصل الإعلامي: كتابة مقالات رأي في الصحف والمواقع الإلكترونية، والمشاركة في برامج إذاعية وتلفزيونية لتقديم الفلسفة كأداة لفهم الواقع لا للهروب منه.

ب‌- تفكيك الصور النمطية:

- التركيز على القيمة العملية: إبراز كيف أن التفكير النقدي الذي تعلمه الفلسفة هو أساس النجاح في أي مهنة، من الطب والمحاماة إلى إدارة الأعمال والبرمجة.

- مواجهة وصمة الإلحاد: التأكيد على أن تاريخ الفلسفة غني بالتقاليد الفلسفية الدينية العريقة (مثل الفلسفة الإسلامية والمسيحية)، وأن الهدف ليس تقويض الإيمان، بل تعميقه من خلال العقل والبرهان. وفي هذا السياق، يمكن إبراز الدور التاريخي لفلاسفة مؤمنين كبار.

خاتمة: نحو جيل يمارس التفكير لا استعراضه

إن النهوض بواقع الدرس الفلسفي في العراق ليس ترفًا أكاديميًا، بل هو ضرورة وطنية. فالمجتمع الذي يفتقر إلى التفكير النقدي يصبح فريسة سهلة للأفكار المتطرفة، والشعبوية، والتضليل. إن إنقاذ الفلسفة من عزلتها الحالية، عبر تحديث مناهجها وربطها بالحياة وتصحيح صورتها، هو استثمار في بناء عقول قادرة على طرح الأسئلة الصعبة، وابتكار الحلول المبدعة، والمشاركة بوعي في بناء مستقبل أفضل للعراق.

***

أ.د. إحسان علي الحيدري - أستاذ فلسفة الدين والأخلاق

كلية الآداب / جامع بغداد

عَلمنا منهج التاريخ الإسلامي الماضوي السردي ان كل نظريات الخطأ الدينية والاجتماعية مستمدة من كتابات مؤرخيه وفقهائه الذين أختلفوا فيما بينهم في نقل النص وتفسيره على المنهج السردي الترادفي دون تحقيق وثيقة المدينة نموذجاً، حين لم تكن اللغة العربية قد استكملت بعد تركيزها في تجريدات، فقد كتبوا في السيرة النبوية خمس سير كل منها يختلف عن الأخر ولاندري الصحيح، وبعقلية الماضي ويدعي كل منهم انه هو الصحيح.. هي: سيرة ابن أسحاق، وابن هشام، والواقدي، وموسى بن عقبة، وابن سعد.. ولا ندري ما الصحيح؟ ناهيك عن الصاق السنة بالنبوة، مع ان السنة آلهية، ولا علاقة لها بالسيرة النبوية (لم تكن لسنة الله تبديلا) ولم يعلمنا منهجهم السردي المختلف والمتناقض ما تعلمته الشعوب من نظريات فلسفة أنبيائهم ومؤرخيهم لحياتهم خوفاً من التزوير، التي فسروا فيها تاريخهم، حتى ساروا بها نحو التقدم وفلسفة الحياة الموحدة.. من هنا بدأ مشوار الخطأ عند العرب والمسلمين بأفتراق الأراء.. ولا زال ينشر على غير تحقيق وتفسير رعم تغيُر صيرورة التاريخ. ومن هنا نرى ان القصد قصدي تعمدي كي لا يتطور الفكر العربي عبر الزمن.. وتطبق نظرية وثيقة المدينة المعتمدة على الاستقامة والعدل المطلق. لذا ظلت نظرية الفلسفة الواقعية عند المسلمين ناقصة التطبيق.

ان المفهوم الحركي للتاريخ ليس واضحاً في موسوعاتنا الفكرية التي ورثناها – وبسبب فقدان هذه الصورة - وقع الباحثون فريسة احكام عشوائية ناقصة، لاينفذ من خلالها الى طريق سوي لحبٍ يقود الى الرأي السليم، بذلك فقدنا العمق النفسي للمؤرخ ذاته وطبيعة ما كتب لذا ظل المفهوم الحركي باهتاً.. هنا كان مقتلنا منذ ان جاء حكم المسلمين بعد وفاة الرسول(ص) مباشرة بأهمال المبادىء التي كان المفروض ان يتركها لنا صاحب الدعوة بالدليل والقوة ورأي المحاورين. وحين اهمل هذا التوجه أختفت وثيقة المدينة فكان هذا أول تجاوز على شورى المسلمين التي وردت في الكتاب العظيم "وأمرهم شورى بينهم ".. فكان مفهوم الردة اول خروج لهم على طاعة النص.. "رأي الأتفاق بين الحاكمين " دون بقية المسلمين مرورا بالشورى الملغاة والشرعية الوهم وقتل المعارضين من قبل خلفاء المسلمين، وصولا لكل نظريات القهر والغاء حاكمية الله في التنفيذ وابعاد القانون. حتى سموا من طالب بتحقيق الشورى والقانون بالمرتدين والخوارج على الدين.. وهم لاخوارج ولامرتدون بل مطالبون بشرعية الشورى في حكم المسلمين ولاغير؟

من هنا بدأ الانحراف وتغير الدين المحمدي الى دين فقهاء السلطة الذي انهى تطلعات النظرية المحمديه في التغيير. حينها فرض النص المقدس بتفسير لا يتفق وعدالة انسانية الانسان في التقييم، خالي من اي منهجية فلسفية في التطبيق.. من هنا توقفت عجلة التقدم الحقيقي منذ البداية التي كنا نامل منها بدين جديد جاء ليحمل مبادىء انسانية الأنسان في صنع القوانين. فكانت وثيقة المدينة التي اخفوها على الناس خوفا من المطالبة بتحقيق عدالة الدين بين الناس وضياع السلطة من ايديهم في التطبيق. واصبحنا تحت الفكر المنغلق الموروث دون معرفة الصحيح، لذا من الخطأ ان نُحكم حكما دينيا فرديا هرطقياً من قبل مرجعيات بالتفريق المصطنعة بلا شرعية القانون.. .. فلا مؤسسات تحكُمنا، ولا عدالة تحمينا، من ظلم الحاكمين في مجتمعاتنا فسموا الاصلاح فتوح قهري والسلطة بهرجة تقاليد.. كما نراها اليوم في حكوماتنا الاسلامية هذه الحكومات التي خلال مدة 656 سنة (نهاية حكم العباسيين) لم تعرف الادارة والقانون ولا زالت الى اليوم. وطلت تحكم كما في رأي القاعدة وداعش وبوكوحرام.. وعصابات التفليش التي اعترف بها المشهداني الخائن رئيس مجلس النواب الفاشل اللئيم دولة رجال دون النساء اللواتي ينظر اليهن بلا حقوق بأعتبارهن ناقصات عقل ودين. ومن اجل ذلك أقروا قانون الاحوال الشخصية في مجلس الخيانة ليكون شاهد عليهن بقانون.. وتبعه اليوم قانون الاخوال الشخصية الجعفري الناقص لحقوق الانسان.

الحضارة العراقية القديمة عند السومريين والبابليين في أور وبابل جاءت بحضارة الانسان منذ القديم يرافقها التشريع والقانون.. وهم الذين أبتكروا الكتابة والقلم ومجالس القضاء والقانون وشرعية التغيير، منذ عهد آورنمو وحمورابي وقوانينهم كانت أشبه بعدالة قوانين النص المقدس.. حتى ان الاسلام أخذ من بعض قوانينهم في التطبيق"العين بالعين والسن بالسن والجروح قصاص المائدة 45 " وفي قانون حمورابي جاءت المادة 127 وما بعدها.. متشابهة في النص، وفي أهوارنا تم تدجين الحيوان والزراعة ومستلزمات العيش الرغيد، ولم يناصبوا العداءاحدا منذ زمن قديم بعد ان فصلوا الحكم السياسي عن الدين.. وبذلك سبقوا حتى الأوربيين والأمريكيين.

وحين جاءت الاديان الثلاثة اليهودية والمسيحية والاسلام مستمدة من الديانة الابراهيمية التي سبقتهم كل طبق دينه حسب الظروف التي مكنته من استخدام التيارات الفكرية التي مثلت العقلانية تارة، والسلفية اخرى. فكان الانشقاق منذ البداية. لكن التاسيس القرأني للمجتمع جاء ليعني رؤية اخرى تختلف عما سبق عند الديانات الاخرى نتيجة مفهوم المتغيرالاجتماعي من وجهة نظرجدلية تاريخية بعد ان اصبح القانون بموجب النص هو الذي يحكم الظاهرة الجديدة وليس العادة او التقليد.

هنا تم تشخص الخطأ بين التطبيق والخروج عليه نتيجة الانحراف السلطوي والتفرد في حكم المجتمع الجديد.. ليكون المشروع الاسلامي مشروعاً قابلا للفعل في ظروف العصروما بعده باعتبار ان النص صالح لكل زمان ومكان في التطبيق. لكن امورا سلبية طرأت على تطبيق النص كضرب الشورى والتوجه الى غزوات القوة وسلب حقوق الاخرين في فرض الدين حتى لم تعد الحركة بمستوى فرض الاحكام بين المسلمين.. تلك هي معاناتنا في تثبيت الحقيقة التي لم تعد اليوم سوى تخريف.

- جاءنا الدين من نبي صادق أمين بكتاب مبين يقول.. :" الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم احسن عملا، الملك 2" وجاءنا بمبدأ العدل المطلق (أعدلوا ولو كان ذا قربى الانعام 151 وما بعدها ) والشورى بين المعتقدين، والاستقامة في التنفيذ (الجن 16). فهل استطاعوا ان يتغلبوا على الخطأ القديم ام كانوا معه يحاربون العدل والشورى والاستقامة ويلتجئوا لابادة المحاورين، وابتكار نظريات الاختيار دون تقييم، وتحويل الخلافة الى ملك عضوض لا يخرج من ايديهم حتى يسلموه لعيسى بن مريم والمهدي المنتظرالوهم في اخر الزمان.. ليتحول قادتهم الى قديسين بأسرار التقديس الآلهي المعروف فقالوا عن انفسهم: "قدس سرهم" ولا ندري أية أسرار لديهم ليكونوا مقدسين.. اللهم الا سر السلطة والمال والجنس اللعين.. هنا مات القلم في ايديهم واصبحوا يلهثون خلف المواعين.. ؟

منذ القدم أكد ت لنا الكتب السماوية وأراء الفلاسفة الكبار النابهين على العقل لنتصرف به"لعلكم تعقلون".. وهو اول مكتشفات الانسان.. وبهذا العقل نستطيع التغلب على الظروف العاطفية غير المواتية بدلا من الرضوخ لها وتركها تشكلنا كيف شاءت. لكن هذه النظرية استبعدت وحل محلها الاغتصاب لكل ما هو قانون.. حين رأينا انفسنا منفردين بالفكر الحضاري وما عدانا همجاً او برابرة فهاجمنا الأخرين بحجة الدين دون امر من خالقه على مهاجمة الاخرين. وبررنا ذلك الاجتياح الباطل للاخرين على الرأي في البيئة التي كنا فيها والتي لا يقبلها المنطق الصحيح وان تناقضت مع الواقع الوهمي في التطبيق. وما دروا العرب ان صحرائهم كلها لها واقع قاسي لا يمكن التغلب عليه الا بالعمل والقانون وهم ضدهما تماما لانهم لم يعرفوا سوى السيف والغلبة.. لا القانون..

هنا كانت المعضلة التي جرت علينا ويلات التطبيق بعد العهدين البويهي والسلجوقي 334—540 للهجرة حين اصبحت المذاهب بديلا عن الدين والتي جرت الى تغيير كل التفاصيل يساندها منهج دراسي خرف.. . فأدخلوا في فكر المسلم كل متاهات التخريف.. حتى اصبح نظرية ثابتة يصعب نزعها من فكر العامة.. والى الآن يدعي بعضهم.. الحياة لنا والاخرة لنا وكل شيء ياتي من السماء او يستخرج من باطن الارض فهو لنا ولا زال العلم الحديث لم يعلمنا ماهي السموات السبع الرصين. الم نكن نحن من اهل المعرفة والعرفان المفضلين.. على للأخرين. ؟هكذا يعتقدون الى اليوم.. والا لماذا الاصرار على هذا الفساد في دولة العراقيين المتعمد الرهيب.

فهل فكرنا ان نكتب ونقيس الامور بمقياس الاحصاء الذي لا يُخطأ.. ونؤمن بالانسان الاخر مهما كان دينه او عقيدته مادام يعايشنا باحترام القانون. ام نناصبه العداء ونتفاخر بالدين وهو يملك دينا يحترمه اكثر منا في التطبيق فحتى اصحاب عبدة البقر يقدسون دينهم ولا يخالفون.. فالدين ايديولوجية بشرية لا يمكن نزعه من الاخرين وحتى نحن المسلمون ندعي لكم دينكم ولنا دين.. فعلام محاربة الاخرين كذبنا وافترينا وظلمنا كل شعوب الاخرين دون قانون حينسمينا الغزوات فتوح من اجل الدين..

منذ عصر قبل الاسلام كنا نرى انفسنا فوق الناس واعلاهم قدرنا وشرفا، وحتى اليوم نسمي نبينا بأشرف الانبياء ولاندري لماذا في وقت يقول القرآن لمحمد"ويعلمه الكتاب والحكمة والتورىة والأنجيل ال عمران 48"، ومدننا بالأشرف، والمقدسة ونستثني الاخرين.. من قال لنا هذه تسميات القرآن ام مؤسسة الدين؟. تاريخ جاهلي يصب في عقل تاريخنا الحالي دون تبرير.. حتى جاء الرسول ليقول لهم: "كلكم لآدم وآدم من تراب والناس سواسية كأسنان المشط" فلم يتلاشى الغرور والكبرياء عندهم.. ولتأكيد المقولة جمع الرسول من حوله المقربين خباب بن الارث عراقي ، وصهيب الرومي بيزنطي، وسلمان الفارسي، فارسي، وماريا القبطية قبطية من مصر. دليلا لمساواة الخلق في الانسانية والقانون رغم التحليلات لما قرأنا ويكتبون.. لكن بعد وفاته عادت الجاهلية من جديد. تتنازع على السلطة دون دليل.

من هنا بدأ التاريخ الرسولي يتحول نحو الانسانية لا القبلية. لكن هذا التوجه لم يدم طويلا بعد الرسول (ص) مباشرة بسبب التوجه نحو السلطة والمال ونرجسية التفوق على الاخرين الذي أدى الى سوء النظام الاداري والمالي الذي تحول الى جمع المال الفاسد دون تقديم خدمات في مقابل المال المجموع حتى اصبح الفساد سياسة عامة وقناعة اخلاقية بأعرافهم الفاسدة كما هو عندهم اليوم، فانفصل الحاكم عن الرعية فتراجعت العدالة وانتكس التوجه السياسي نحو الضعف والانهيار.. كما نشاهدهم اليوم. ومن يقل لك هذه خطبهم اقرأها فلا تصدق هذه من صنع فقهاء السلطة لا في العصرين البويهي والسلجوقي لا الدين.

نحن اليوم امام قضيتان في الاسلام لا حل لنا الا بمعرفتهما واجتيازهما عملا وتطبيقاً هما: الموقف من المنهج النقدي للتاريخ والفكر العربي الفلسفي.. وقضية المعركة الحامية بين التقليد والأبتكار. وبدون تجاوزهما لايمكن ان نكتب تاريخا للأمة.. ولاتقدما حضاريا لها، ناهيك عن عداوة الاخرين التاريخية لها.

يقول الاستاذ الدكتو جعفر آل ياسين احد اساتذة فلسفة التاريخ: ننقله بتصرف في الاولى يعتمد على حساسية الاجتهاد للرواية التاريخية التي فسرت تفسيرا فيه الكثير من المنحنيات لان اللغة يوم ذاك لم تكن مستكملة لأدواتها بالمعنى العلمي الذي نريده ونفهمه اليوم.. لاقامة الادلة التاريخية عليها وعلى نقيضها لذا لا يجوز الحكم عليها بالمنطق العلمي المطلق.. وان غالبية الناقلين من غير العرب الذين فهموا النص فهما دون معناه الداخلي في التطبيق خارجيا.

والثاني يجب ان يتوفر فيه جانبي القوة والضعف بحيث لايعوز الباحثين سلامة الدليل عليه، والفحص الخارجي للنص، لأاثبات الاصل ببطلان النقيض وقد استغله بعض الفلاسفة من المسلمين امثال (ابن سينا ت428 للهجرة ) وخاصة في العلوم البحتة كالرياضيات مثلاً.. لأن العقل يحكم انه لا يجتمع على صدق نقيضان.. ولكن في دولة النرجسية والفوضى والجنس من يسمعك ايها الخائب اليوم بعد ان انهارت قيم الحياة المقدسة عندهم كما هي تنهار اليوم عندنا دون رقيب او حسيب..

حتى اصبح المعتقد ظاهرة تاريخية لا تزيد عن الاخبار.. وفي باطنها ماتت الأحداث والحقيقة معاً.. فاصبح النص الديني لا يشكل المعيار الوحيد للسلوك السياسي.. لذا ما لم نقدم على فصل الدين عن السياسة لن يكون لنا امل في الاستقلال والاستقرار وتطبيق القانون.

***

د. عبد الجبار العبيدي

الجمال قوة صامتة تتسلل إلى عمق التجربة الإنسانية تشعل المعنى وتعيد تشكيل علاقتنا بالنص و بذواتنا من خلاله. ومن هذا المنطلق ولدت لدي فكرة الإستاتيكية كمنهج يحرر الذائقة من قيود التقييم الجاهز ويعيد للقارئ دوره في خلق المعنى إضافة لدوره كمتلقي

أود أن أوضح أن هذه المقدمة لا تغوص في تفاصيل هذا المنهج نقدياً أو تنظيرياً فهي مجرد إشارة تمهيدية وتقديمية لما تناولته بمقالة موسّعة ضمن كتابي النقدي (أنقاض المعنى) حيث استعرضت فيه الأسس الفلسفية والجمالية للمنهج وطبقته على قراءتي لنصوص أدبية وفنية مختلفة

اعتمدت الإستاتيكية في عدد من قراءتي النقدية بوصفها أداة توازن بين التجربة الوجدانية والوعي الجمالي وتبقي النص مفتوحاً على احتمالات التأويل بلا قيود أو معيار ثابت

إنها محاولة لإعادة النور إلى اللغة وإعادة الجمال إلى مكانه الطبيعي في حس المتلقي ودهشته الأولى 

ومن الدراسات التي استحضرها بوضوح تلك التي شكلت بداية استنباطي لمفهوم الاستطيقية ونهجي فيه وهي قراءتي القديمة لنص : (قصائدي ذنوب لا تشيخ) للأديب المسرحي والشاعر العراقي القدير الدكتور هشام المالكي إذ كانت تلك الدراسة لحظة انبثاق لوعي جديد بالجمال ومدخلاً إلى تأمل الشعر من منظور فلسفي خالص

مقدمة نقدية إلى الاستطيقية:

في عالم النقد الأدبي والفني تتكاثر المفاهيم والمصطلحات التي تساهم في فهم التجارب الإبداعية ببعدها الأعمق والأشمل ومن بين هذه المصطلحات التي حظيت باهتمام متزايد يبرز مصطلح (الاستطيقية) الذي يحمل في طياته دلالة جمالية تعيد تعريف مفهوم التلقي والفهم الفني بعيدا عن القيم التقليدية والمعايير المسبقة

سنشرع الآن في الغور في هذا المصطلح النقدي محاولين سبر أغواره وكشف ما يحتويه من أبعاد فلسفية وجمالية تجعله نقطة التقاء حيوية بين الإبداع والمتلقي

الاستطيقية: جمالية الفهم وتحرر الذائقة

مقدمة:

تعد الاستاطيقية من أعمق مناهج الفهم الجمالي التي تتجاوز الحدود التقليدية للنظر في المتنات الفنية والأدبية لترسي أسساً لتحرر الذائقة من قيود الوجهة التقويمية مفعلة الحس الجمالي الفردي في المتلقي تشمل الاستاطيقية فهم التجربة الحسية والعاطفية التي تثيرها الأعمال الإبداعية بعيداً عن التحليل المنطقي والتقييم الأخلاقي أو الاجتماعي  مرتكزة على جمالية التلقي والتفرد الفردي للذائقة

تعريف الاستطيقية:

الاستاتيكية هي منهج جمالي يعنى بدراسة ظاهرة التجربة الجمالية كمحتوى رئيس يركز على الحس والفهم الجمالي المباشر الذي يتفرد به المتلقي دون الانشغال بالمؤثرات الخارجية أو التفاسير المعنوية المقيدة يمكن أن نعرف الاستطيقية بأنها: منهج فلسفي ونقدي يولي اهتماماً خاصاً بالتجربة الجمالية الفردية حيث يعد الجمال ظاهرة تجريدية تتحرر من معايير التقويم المألوفة

المنهج النقدي الاستطيقية:

تتمحورالاستطيقية حول فهم (تجربة الجمال) بعيداً عن كونه موضوع خارجي يقاس عليه العمل الفني إنما كحالة وجدانية ذاتية تشمل إحساس المتلقي وتفاعله الحسي والعاطفي مع العمل

وبهذا تقوم الاستاطيقية على فصل الجمال عن القيم الأخلاقية أو السياسية أو التاريخية وتمنح العمل الفني حرية التلقي والفهم بنفسه بعيداً عن أي تحليل مفاهيمي أو سياقات خارجية تقيد حرية الذائقة

هذا المنهج يمكننا من استكشاف أبعاد جديدة في الأعمال الإبداعية حيث يصبح الجمال ظاهرة ذاتية متغيرة تتأثر بالظروف الحسية والنفسية للفرد وليس بمعايير ثابتة مسبقة

الدلالة الفلسفية والجمالية

تعزز الاستطيقية من مفهوم (الذائقة) كفعل إبداعي فردي حيث لا يكفي أن نحدد العمل الفني بوصف ثابت بل يجب أن نفتح أبواب التفسير والتجربة المرنة التي تختلف من متلق إلى آخر وهذا ما يجعلها ميداناً غنياً للتفاعل بين الإبداع والمتلقي ويعيد الاعتبار إلى الحس والعاطفة كعناصر لا غنى عنها في فهم الجمال

كما ترتبط الاستطيقية بمقولة التحرر من الأطر التقليدية في الفهم والنقد إذ تحرر الذائقة من القيم المسبقة والتفاسير الثابتة مفسحة المجال أمام تجربة جمالية ذاتية تنبئ عن أبعاد وجودية وشخصية عميقة

خاتمة

في ختام الأمر تشكل الاستطيقية منهجاً نقدياً وفلسفياً يعيد النظر في جمالية الأعمال الإبداعية على ضوء التجربة الحسية والوجدانية الفريدة لكل فرد إنها دعوة لتحرر الذائقة من قيود التقييم الجامد وفتح آفاق جديدة للفهم والإدراك الجمالي

ومن ثم تبقى الاستطيقية جسراً بين الإبداع والمتلقي يعزز حواراً مستمراً بين الفن والذات الإنسانية

***

مرشدة جاويش

 

ثمّة مفارقةٌ مركّبة تستدعي التأمل/ فلسفيًا في بنية الوعي الجمعي الشيعي المعاصر، مفارقةٌ لا يمكن فهمها إِلَّا عبر تفكيك العلاقة الملتبسة بين الرمز الدينيَّ والعقل، بين الطاعة والوعي، بين الانفعال الدينيَّ والمساءلة السياسية. فحين أطلقت مرجعية النجف المتمثلة بالسيد السيستاني فتواها التاريخية في الجهاد الكفائي، اندفع المجتمع الشيعي بأسره في لحظةٍ من التماهي الروحي والتعبئة الوجدانية التي أعادت إنتاج قيم الفداء والتضحية بأعلى تجلياتها. لكن هذا الزخم نفسه غاب، أو كاد أنَّ يغيب، حين وجّهت المرجعية نداءاتها اللاحقة وبشكل متكرر نحو الإصلاح السياسي، كدعوتها إلى محاسبة الفاسدين أو مقاطعة المجربين بشعارها المعروف «المجرب لا يُجرَّب»، أو حين أغلقت أبوابها في وجه الأحزاب المتورطة بالنهب والسلطة. عندئذٍ، بدا المجتمع أقل استجابةً، وأكثر ميلًا إلى الصمت والانكفاء، كأنّ الحماسة التي تفجّرت واشتعلت في زمن الخطر الخارجي" داعش" تتبخّر حين يصبح الخطر من الداخل.

هذه المفارقة يتناوشها البعض هنا أو هناك من دون ملامستها سوسيولوجيًّا، إذ لا يمكن ردّها إلى ضعفٍ في الإيمان أو فتورٍ في الولاء للمؤسسة الدينيّة، وإنَّما إلى اختلافٍ جوهري في طبيعة الوعي الذي يُفعّل الاستجابة ويستعيدها. ففي نداء الجهاد خاطبت المرجعية البنية الرمزية الأكثر عمقًا في التكوين الشيعي: بنية الشهادة "كربلاء"، والكرامة، والدفاع عن المقدّس، لقد استدعت السردية الكبرى التي تشكّل الذاكرة الجماعية وتؤسّس لنظام العاطفة الدينيّة المتوارث والمتجذر. وحين يُستدعى هذا المتخيّل الدينيَّ هذا المخزون الرمزي، يتحرك الوجدان الجمعي بكثافة مذهلة، لأنَّ المعركة تُقدَّم هنا بوصفها امتدادًا للرموز المؤسسة، وكفاحًا وجوديًا ضد الباطل لا بوصفها معركةً سياسية مع هذه الجبهة أو هذا الفصيل.

أمّا الدعوات الإصلاحية اللاحقة، في مكافحة الفساد والحدّ منه من خلال إصلاح الواقع السياسي فكانت من طرازٍ مختلف؛ إذ لم تستدعِ الرموز المؤسسة، بل استدعت العقل الأخلاقي والسياسي، وطلبت من المجتمع الانتقال من موقع "المطيع المنفعل" إلى موقع "الفاعل"، من السلوك الشعائري والعاطفي إلى الممارسة النقدية، من الحماسة إلى المحاسبة. وهذه نقلة لم يتهيأ لها المجتمع بعد، لأنَّها تفترض وجود وعيٍ مدنيٍّ راشد لم تتشكل له بيئةٌ مؤسسيةٌ حاضنة، ولا ثقافة نقديةٌ تتيح له أنَّ يتخذ موقفًا دون أنَّ يشعر بالذنب أو بالخذلان تجاه الرمز الدينيَّ الذي يوجّه النصيحة من بعيد.

إنّ ما حدث هو انكشاف الفصام بين مستويين من الوعي: وعيٍ تعبويٍّ طقوسيٍّ ما زال يُحافظ على وحدته عبر الخضوع للرمز الديني، ووعيٍ سياسيٍّ ونباهة اجتماعية لم تولد بعد، أو وُلدت مشوّهة في ظل غياب البنى الحزبية النظيفة والمؤسسات القادرة على ترجمة الإرشاد الدينيَّ إلى فعلٍ سياسيٍّ منضبط. وبهذا الأفق، حين انسحبت المرجعية الدينية من المشهد السياسي أو التدخل في تفاصيله وأغلقت قنوات الوساطة مع السلطة، لم يجد المجتمع من يحتضن تلك الدعوات ويحوّلها إلى برنامجٍ عملي. تركت الفتوى السياسية يتيمة، لا سند لها إِلَّا الضمير الفردي، في مجتمعٍ لا يزال يعيش ضمن أخلاق الجماعة لا أخلاق المسؤولية الفردية المعنوية.

من هنا نفهم أنّ الفتوى الجهادية لم تكن مجرد نداءٍ دينيَّ، وإنَّما فعلًا اجتماعيًا منسجمًا مع بنية الهوية الطقوسية التي تُحرّك الجماعة نحو الميدان، فيما مثّلت الدعوات الإصلاحية خطابًا معرفيًا يصطدم بالحدود البنيوية لهذا الوعي ذاته. فالدين كظاهرة، حين يتحوّل إلى ذاكرة جمعية شعائرية، ينتج طاقةً هائلة للتعبئة والتحرك الجمعي لكنَّه قد يُعطّل في المقابل، قدرة الفرد على مساءلة السلطة باسم المبدأ نفسه. لهذا، لم تتكوّن بعد في التجربة الشيعية الحديثة "معايير اجتماعية- مدنية" موازية لـ"الأخلاق الشعائرية" التي تحكم المجال العاطفي والديني.

ولعلّ الأشد عمقًا في هذه المفارقة هو ما يمكن تسميته بـ«الاقتصاد الرمزي للثقة». فالثقة في المرجعية قائمة على امتثال عاطفي أكثر من كونها علاقة مؤسسية. إنها علاقة "إيمانٍ وجداني" لا "عقدٍ اجتماعي". لذلك حين تُطلب الاستجابة في مجالٍ لا يخاطب الإيمان بل يخاطب العقل السياسي، تظهر فجوةٌ يصعب ردمها. فالمجتمع لا يثق بالبدائل السياسية، ولا يمتلك أدوات تقييمٍ مدنية، ولا يملك مؤسساتٍ تتيح له مراقبة السلطة من خارج النظام الرمزي الذي تشكّل فيه. وهكذا يتحوّل خطاب الإصلاح إلى نداءٍ عائمٍ في فراغٍ سياسيٍّ وأخلاقيٍّ معًا.

إنّ السؤال الحقيقي الجدير بالتأمل ينبغي أنَّ ينحدر إلى أسباب غياب البنية الثقافية التي تجعل الاستجابة للنداء ممكنة لا إلى أسباب عدم الاستجابة لدعوات المرجعية الإصلاحية. فالإصلاح، ليصبح فعلاً لا شعارًا، يحتاج إلى ثقافة نقدية تملك أدوات الفعل، لا إلى وجدانٍ إيماني متحمّس سرعان ما يذوب حين تنتهي الشعائر. إنّ ما تحتاجه المرجعية والمجتمع معًا هو إعادة بناء العلاقة بين الرمز والعقل، إذ لا يكون الأول سجنًا للثاني، ولا يكون الثاني خصمًا للأول، بل شرطًا في اكتماله.

لقد آن الأوان لتحويل الوعي الدينيَّ من طاقةٍ دفاعيةٍ إلى طاقةٍ بنائية، ومن طاعةٍ رمزيةٍ إلى مسؤوليةٍ أخلاقيةٍ ومدنية. فالمجتمع الذي يقاتل دفاعًا عن مقدّساته قادرٌ- لو أعاد تنظيم خياراته- أنَّ يقاتل أيضًا دفاعًا عن قيم العدالة والنزاهة والشفافية.

إنّ الانتقال من "الانفعال الدينيَّ" إلى "العقل النقدي" ليس خيانةً للمقدّس الديني، وإنَّما استعادته في صورته الأسمى: صورة الإنسان الحرّ الذي يعي مسؤوليته أمام الله والتاريخ معًا.

***

أ. م. د. حيدر شوكان السلطانيَّ

جامعة بابل- كلية العلوم الإسلاميَّة-قسم الفقه وأصوله

محنة غرابيل الفلاسفة (5)

يعتقد معظم المهتمين بالفلسفة - ولاسيما دراسة مباحثها المعنية بالبنية المعرفية وآلياتها ومناهجها ونظرياتها والأطوار التي مرت بها، وفلسفة العقل، وكذا الدراسات البنية ذات الصلة بهذا المبحث الأخير بداية من مفهوم العقل وطبيعة مدركاته وتنوع نتائجها وأحكامها - في أن الأفكار والتصورات والآراء جميعها ممّا يلفظه ذلك الذي نطلق عليه عقل أو ذهن هي الجديرة - دون غيرها من موضوعات - بالبحث والنظر والتثاقف حول قضاياها ومشكلاتها وأحكامها ومعتقداتها غير أن القليل أو إنْ شئت قل النادر من الأبحاث التي تشكل مبحث فلسفة العلم هو الذي راح يتساءل (كيف نعرف، ولماذا، وما الغاية التي تدفعنا للمعرفة، وما هي الآليات التي تشكل معارفنا وتضع المعايير والحدود لما نطلق عليه المعقول، وغير المعقول، والذي يمكن الشك فيه أو المحتمل)، ومن المسؤول عن تلك الأحكام القطعية التي تنسب لشيء كامن في النواصي وأعلى الجماجم؟ وكيف نتحدّث عن فلسفة عقلية دون أن نتعرف على ماهية ذلك العقل؟ وهل الإنسان هو الموجود الوحيد الذي يمارس وظيفة التعقل والتفكير؟ وهل هناك بدائل حسية وحدسية غير تلك التي ارتبطت بتلك الدائرة التي اطلقنا عليها مقولة المعقولات؟ واعتقدنا عبثاً بأن البرامج التكنولوجية المحاكية للعقل الإنساني هي التي سوف تصل إلى ما عجز العقل البشري عن فهمه؟

وماذا عن فلسفة العقول الموازية التي تعيش في عوالم مُفارقة، وترى وتسمع وتعتقد بطرائق .... بالغنا أحيانًا في تصور قدراتها وسخرنا من التفكير فيها باعتبارها ضربًا من ضروب الخرافة أحيانًا أخرى، وماذا عن فلسفة الأسطورة، والحديث مع الأشباح والتحاور مع كائنات في زمن ماض أو زمن آت.

كل ذلك يجعلنا نعيد النظر في الكثير من أحكامنا على تلك القيم (حقيقة، خيال، صدق، كذب، خير، شر، ذكاء، غباء، آراء تقديمية، أفكار رجعية، كائنات لها أجساد ماديّة، وأخرى تشغل تحيزات غير مرئية) ..

كل ذلك؛ وأكثر منه، طرحته العديد من المؤلفات المعاصرة (نذكر منها) التي جحدت تلك المناهج وهاتيك النهوج التي يعتقد أنها قادرة على الوصول إلى الحقائق القطعية التي عبثًا يستخدمها حتى الان فنضع قيمًا يقينية لأمور لا تستعصي على الشك أن ينفد إلى أصولها وبنيتها ونجحد مفاهيم ونتهكم على تصورات نجهلها أيضًا غير أننا نجهد العقل ونطالبه بإيجاد أدلة على بطلانها.

وخلاصة مقصدي مما سبق هو التأكيد على أن غرابيل الفلاسفة الناقدة التي تسعى للفصل بين الصدق والكذب ليست في منىء عن أن تقع في غرابيل أخرى أكثر دقة منها فتكذب ما صدقته. ومن هذه النافذة نجد فلاسفة العصر الوسيط يتحدثون عن تصوراتهم اللاهوتية ومعتقداتهم الروحية ومفهومهم لشخصية الإله علمًا بأن هؤلاء الفلاسفة لم يخرجوا عن نطاق الممكن الذي تسميه بعض الكتابات أساطير ويطلق عليه البعض الأخر غيبيات ويؤكد البعض الثالث وجود الكائنات الأسطورية والموجودات الغيبية في عالمنا الذي نعيشه موضحين جهل السواد الأعظم من البشر بلغة التواصل وآليات الحوار معها وبالتالي إثبات وجودها ومردود أفعالها والازمة في هذا السياق ليست في الغرابيل ولا في الفلاسفة ولا في المعايير التي تحمل الأفكار وإخضاعها للغربلة بل لقدرتنا على الاعتراف بأن عقولنا أعجز من أن تصل إلى حق اليقين أو جوهر الجواهر في ذاتها وعليه يجب أن نتقبل الآراء التالية التي ساقتها إلينا مصنفات فلاسفة اللاهوت المسيحي.

فترى الأستاذة نانسي مرقص -الباحثة في درجة الدكتوراه في فلسفة العصر الوسيط بكلية الآداب جامعة الإسكندرية-

خلال حديثها عن عقلانية العقيدة المسيحية وكذب المشككين فيها وجنوح منكريها وجهل جاحديها بإسم العقل والمنطق:-

أن القضية ليست أكاذيب وشائعات تلوكها الألسن وتصدقها المسامع والعقول وعلى الجانب الأخر عقائد مقدسة صادقة لم يفلح معتنقوها في الإفصاح عن الإيمان واليقين الذي ادركوه ببصائرهم الحدسية وليس بأبصارهم الحسية بل القضية في عدم تصور-المتلقي- أن للإنسان آليتين للادراك لا ينبغي الخلط بينهما أو أن تحل أحدهما محل الأخرى أو تنكر واحدة ما تراه قرينتها أولها تدرك علم اليقين والأخرى تدرك حق اليقين بلغة الصوفية فالعقول البشرية تدرك المحسوسات بعين اليقين أما التصورات والمجردات فتحتاج لبصيرة تعينها على استيعاب حق اليقين وبذلك التفسير يمكننا فهم ما انتهجه أهم فلاسفة المسيحية في العصر الوسيط لتبرير ما يعتقدونه تبريرًا عقليًا ويمكنني إيجاز من انتهت إليه تلميذتنا الحبيبة فيما يلي:-

فقد ذهب القديس أوغسطين إلى أن للمسيح أقنومين كاملين إلهي وإنساني لا يحل أحدهما في الأخر ولا استقلال بينهما أو انفصال فالتجسيد كان كاملًا فالمسيح إله كامل وإنسان كامل تمامًا متحدان في شخص واحد الذي هو يسوع المسيح الناصري بدون اختلاط أو انفصال الطبيعتين وينكر أوغسطين تلك الأكاذيب التي تعتقد أن الإله أصبح إنسانًا غير أن الحقيقة غير ذلك فخلاص الإنسانية لا يمكن تقبله من العقل الإنساني إلا على يد إنسان فالتجسيد ضروريًا لفدا البشرية بعد الخطيئة الأصلية لأن الإنسان وحده عاجز عن تقديم الكفارة الكاملة لذلك جاء الإله في جسد بشري ليحقق الخلاص ويعيد ويصلح العلاقة المفقودة بين الإله والإنسان وقد ربط أوغسطين بين الإيمان بعقيدة التجسد والفضائل التي نادى بها المخلص ليتم خلاص الإنسان وطهارته التي تؤهله للسعادة الأبدية أما انكار التجسد يؤدي إلى فهم خاطئ لحقيقة المسيحية والتعليم عن جهل لا ينطق به إلا الكذابون فالممكنات لا تستحيل على الإله لأنها لا تخضع لتصورات محدودة وإذا ما اتسع العقل على نحو يستوعب المطلقات وغير المحدود من الممكنات سوف يصل إلى أن ليس هناك تعارض مع الإيمان والعقل.

ويرى القديس أنسلم الكانتربري أن تصور آريوس ونسطوريوس وغيرهما من الهراطقة لا يخلو من الكذب لأن الإنسانية المسيح كاملة لا ينقصها شيء وكذا ألوهيته أما تصورهما في كيان واحد لا ينكره إلا من تشكك في قدرة الإله والشك في القدرة الإلهية ينفي حقيقة إيمانية وعقلية ونفي الحقائق هو بالضرورة كذب أما عن ضرورة وعلة التجسد فكلاهما يرجع لعدم قدرة الإنسان على التكفير عن خطيئة أدم فأراد المسيح أن يكفر عن تلك الخطيئة على نحو يليق بعظمة وكمال الإله ويقنع في الوقت نفسه العقل الإنساني بعظم الفداء فقد ضحى الإله بتجسده في صورة المسيح الإنساني ليتم الخلاص ويقبل القربان أو التكفير مبينًا أن الإله كلي القدرة يستطيع أن يتخذ جسدًا بشريًا بدون أن يفقد طبيعة الإلهية الأصلية كما أن الجسد البشري المادي لا يتناقض مع كمال الإله ومن ثم كان التجسد ضرورة حتمية لخلاص الإنسان وعليه فالعقل الذي يسع كل هذه التصورات لا يتعارض مع الإيمان الصادق وأن من يرى غير ذلك يحرض على الضلال والإضلال دربًا من دروب الكذب.

أن توما الأكويني خير من درس الفلسفة العقلية ولاسيما حديث الفلاسفة في مبحث الألوهية ومن ثم لا يوجد تعارض بين ما ذهبت إليه المسيحية والرؤية العقلية لطبيعة الإله فالكنيسة تعلم بأن الإله واحد غير أنه له ثلاثة أقانيم لا يمكن للعقل تصورها أما صفاته وقدراته اللانهائية فلا خلاف عليها بين المؤمنين فلا سبيل لهم لمعرفة طبيعة الإله ولا صفاته لأنها تفوق العقل وتصوراته المحدودة فإن جوهر الإله الواحد لا يمنع أن تكون له صفات متعددة تحاكي بعضها التصورات العقلية الإنسانية والبعض الأخر لا سبيل للعقل أن يدركها إلا بالحدس الإيماني. وذلك لأنها من الغيبيات وأي انكار لهذه الرؤية وذلك المفهوم يؤدي بنا إلى الانحراف العقلي لأننا نكلفه بما لا يستطيع فإدراك الغيبيات غير عقلي بالضرورة أما إنكارها فيقودنا إلى الالحاد وهو كذب وضلال ويخالف الحقيقة. أما تجسد الإله فلا ينقص من كماله لأن الإله قادرًا على كل شيء لا يحدد بطبيعة المخلوقات فإذا أراد الإله اتخاذ جسدًا فالبطبع هو قادرًا على ذلك وذلك بدون أن يفقد كماله الإلهي على الاطلاق وذلك لأ الشيء الطبيعي لا يمنع القدرة الإلهية من تجاوزه لأنها غير محدودة بالقيود الطبيعية فالهدف من التجسد هو خلاص الإنسان فالتجسد لم يكن حادثًا عشوائيًا وعليه فإن من يشكك في قدرة الإله على التجسد يؤدي إلى انكار كماله وهذا مخالف للحقيقة أيضًا ويؤدي إلى التجديف كما أن اتحاد الطبيعيتين الإنسانية والألوهية في شخص المسيح فإنه يساعد على فهم الإنسان لعقيدة الخلاص التي عايشها الإله مع البشر وذلك لأن هذا الاتحاد بين (الجسد والجوهر الإلهي) لم ينقص من طبيعتهما شيء فليس فيه امتزاج ولا انفصال ومن ثم فرفض الطبيعتين على هذا النحو لا يخلو من الكذب لأنه مخالف لكمال الإله المتفرد القادر على كل شيء كما ذكرنا.

***

والآن سوف نحاول الإفصاح عن طبيعة العلة الحقيقية التي كانت وراء محنة غرابيل الفلاسفة وعجزها عن الفصل بين الأكاذيب والحقائق في ذلك العصر الشاغل بالمثاقفات والمصارعات والمناظرات والمعارك الفكرية التي تسببت في السفع بالنواصي وسجن العقول وخرس الألسنة بل وإراقة الدماء وتربع الاستبداد والجهل والعنف في سماء ذلك الظلام الحالك الذي خيم على أوربا في الفترة الممتدة من القرن الثالث إلى القرن الخامس عشر الميلادي حيث مصابيح النهضة التي حملها ديكارت وبيكون لإزالة ذلك الركام الحضاري الذي عاق تقدم كل القيم الإنسانية آنذاك فقد تبين لنا من دفوع ومزاعم وادعاءات كل الاتجاهات المتصارعة أن جميعهم كان من صانعي الكذب بكل أشكاله في حين أن غرابيل الفلاسفة الحديدية أو الحريرية لم تتمكن من غربلة الوافد الذي تحمله من مزاعم متناقضة وشائعات ذائعة وادعاءات مغرضة وأفاك ملفقة والرؤية الناقدة لا تستطيع أن تقطع بأن هناك مسؤول بعينه عن تلك الكثرة من الأكاذيب التي لفظتها هذه الاتجاهات هل التعصب للموروث أو الخوف من وصف الواقع أو الارتياب في المجهول القادم أم ضياع وفقدان المعيار الذي توضع فيه الأفكار؛ ليصبها العقل في غرابيل النقد لتهذيبها أو النقض لإبعادها؟

وللحديث بقية عن قراءة العقل المحايد لفلسفة عن هذا العصر.

***

بقلم: د. عصمت نصار

مُنحت يوم الاثنين الماضي 13 اكتوبر 2025 جائزة نوبل في الاقتصاد لكل من جويل موكير Joel Mokyr (جامعة نورث وسترن)، وفيليب أجيون Philippe Aghion (مدرسة لندن للاقتصاد)، وبيتر هويت Peter Howitt (جامعة براون) لتوضيحهم للنمو الاقتصادي المبني على الابتكار. يأتي هذا بعد الاتجاه الاخير الذي اعتمدته لجنة نوبل في التركيز على الاقتصاد القائم على النمو، بعد فوز كل من أسيموجلو وجونسن وروبنسون عام 2024، وفوز كريمر ودوفلو وبانيرجي عام 2019. الزمان والمكان لا يسمحان بعرض نقاش مفصل للافكار خلف كل جائزة من هذه الجوائز، لكنها جميعا ذات أهمية بالغة لفهمنا للاقتصاد.

 أحد أكبر الألغاز في التاريخ الانساني هو ما سمي " عصا هوكي في الرخاء" hockey-stick of prosperity(1). هذا يشير الى حقيقة ان الشطر الاكبر من التاريخ الانساني شهد ثباتا في مستويات المعيشة. لا فرق كبير بين المواطن الروماني عام 1م والمواطن البريطاني عام 1700م. لكن بدءً من عام 1700، بدأت مستويات المعيشة ترتفع.

من عام 1م الى عام 1700 لم تحدث الاّ القليل من التغييرات، حيث هيمن النقل الشراعي ووسائل النقل الحيوانية، ولم يتقدم علم الطب، ولم تكن المكائن معروفة. ومن عام 1700 الى عام 1800 بدأت التغييرات تظهر بشكل ملموس، حيث تم إدخال المحركات الميكانيكية وبدأت الثورة الصناعية. بين عام 1800 الى عام 1900، انتقل العالم من الحصان والعربة الى المحرك البخاري. بين عام 1900 و1960، ذهبت الانسانية من المركبات الى الطائرات ثم الى الهبوط على سطح القمر. الامراض قُضي عليها والحياة تحسنت كثيرا. نسبة الفقر الواقعي هبطت من 90% من السكان في العالم الى أقل من 10%، وهو مالم يحدث من قبل، واستمر الحال بنفس المنوال حتى ان اكثر الاقتصاديين تفاؤلا في ذلك الوقت واجهوا صعوبة في تفسير ذلك.

جويل موكير، وفيليب اجيون، وبيتر هويت ساعد عملهم مجتمعاً بتوضيح لماذا حدث هذا النمو، ولماذا حدث في أماكن محددة وكيف يكون مستديما.

يجادل موكير ان الثورة الصناعية والمنافع التي نتجت عنها لم تكن صدفة تاريخية، وانما هي نتيجة للمؤسسات. يبرز النمو الاقتصادي من نوعين من المعرفة: معرفة افتراضية propositional knowledge (2) (كيف ولماذا تعمل الاشياء) ومعرفة توجيهية prescriptive knowledge (معرفة تطبيقية لأشياء ضرورية لجعل الأشياء تعمل، مثل المؤسسات والتعليمات). هذان الشكلان للمعرفة يعملان مجتمعان، يبنيان على بعضهما البعض، لخلق النمو الاقتصادي. فمثلا، علم الاقتصاد (معرفة افتراضية) يخبرنا من أين تأتي الاسعار، كيف ينسق الناس تصرفاتهم، وغير ذلك. هذا الفهم، بدوره يساعدنا للنظر في أي نوع نحتاجه من المؤسسات (معرفة تطبيقية) لتعزيز تلك الميول.

 ان حالة اوربا المجزأة قادت الى ظهور الثورة الصناعية. مع وجود مختلف الدول المتنافسة مع بعضها لأجل الهيمنة السياسية، وعدم وجود دولة بالذات كبيرة، يستطيع الناس الانتقال (او الهروب) عندما تتعرض افكارهم للقمع. في الدول الموحدة الكبيرة مثل الصين والهند (واللذان كانا تقريبا بنفس المستوى التكنلوجي لاوربا في ما قبل الصناعة)، جرى قمع الافكار والناس لم يتمكنوا من المغادرة. اوربا المجزأة خلقت المزيد من التكنلوجيا القوية بسبب عدم قمعها للافكار الجديدة. هذه النزعة تُلاحظ احيانا في دول مثل الامبراطورية البريطانية. سكوتلاند كانت مكانا راكدا لم يشهد تقدما، جرى تجاهلها من النخبة الحاكمة في لندن بعد توحيد العاصمة، ومع ذلك، هذا هو المكان الذي بدأت فيه الثورة الصناعية.

أطلق موكيرعلى هذه الظاهرة ثقافة النمو (وهو نفس الاسم لكتابه الشهير عام 2016). الابتكار التكنلوجي ليس عشوائيا، وانما يتطلب ثقافة تعزز الابتكار وسوقا للافكار.

ساهم كل من اجيون وهويت بطريقة مختلفة. ورقتهما الفريدة "نموذج للنمو من خلال التحطيم البناء"(Econometrica,60(2)) تبني نموذجا رياضيا لنموذج جوزيف شومبيتر اللفظي للتحطيم البنّاء. الشركات تواجه كل من مكاسب ومصاعب للابتكار (جزرة وعصا). الجزرة هي المكاسب او العوائد التي تحصل عليها من الابتكارات. من خلال العملية الابتكارية للشركات هي تجعل التقنيات القديمة مهملة وغير صالحة، وهي بهذا تقضي على التكنلوجيا القديمة وتحصل في نفس الوقت على حصة السوق (او العائد). المصاعب تأتي من التهديد المستمر من جانب الشركات الاخرى للعمل بنفس الطريقة: كل واحدة يجب ان تبتكر لكي لا تخسر العائد . لكن أجوين وهويت ايضا يكشفان عن بعض القيود. عندما يصبح العائد كبيرا جدا، تستطيع الشركات القائمة خلق حواجز تمنع الدخول. هذا يقلل من اخطار المنافسة. كذلك، حالما يتم تأمين الارباح او العوائد، سيكون هناك القليل من حافز الابتكار لدى الشركات . الاختلاف في الشركة والسوق والهيكل القانوني يوضح لماذا بعض الصناعات عالية الابتكار بينما اخرى جامدة.

كل الفائزين الثلاثة يوضحون النمو الاقتصادي من خلال التكنلوجيا والثقافة. هذه القراءة لا تدّعي عرض كل أعمالهم، لذا يُنصح بالعودة الى ملخص لجنة نوبل لمساهمات الفائزين.

***

حاتم حميد محسن

..........................

Econlogpost Oct 13, 2025, the Library of economics and Liberty

الهوامش

(1) يشير مصطلح (عصا هوكي في الرخاء) الى الزيادة الدراماتيكية في رفاهية الانسان التي بدأت في القرن الثامن عشر. هذه الفترة سميت تقليداً للعبة عصا الهوكي عندما تُرسم بيانيا، المؤشرات الاساسية لإزدهار الانسان مثل متوسط العمر المتوقع والدخل، بقيت على خط مستوي نسبيا لقرون قبل ان تزداد بحدة لتشبه بذلك عصا لعبة الهوكي في الإستواء والإنحناء.

(2) وهي معرفة يُعبّر عنها بشكل بيانات او تصريحات او افتراضات وتكون اما صحيحة او زائفة، مثل عبارة الارض تدور حول الشمس.

 

قراءة نقدية لرسالة الوزير عبر "السوشيال ميديا"

للمرة الاولى في تاريخ العراق، تلجأ وزارة التعليم العالي والبحث العلمي الى منصات التواصل الاجتماعي لبث رسالة مصورة حول ما وصف بـ "منجزات حققها الوزير نعيم العبودي في التعليم العالي والجامعات العراقية"، في تزامن لافت مع بدء الحملة الانتخابية.

الادعاء بزيادة البحوث (الاوراق البحثية)

يدّعي الفديو انه خلال فترة ترؤس الوزير للوزارة (منذ تشرين الاول 2022) شهدت نشر اكثر من 69 الف بحث علمي عراقي (اي بمعدل 24 الف بحث في السنة الواحدة).  في الحقيقة، هذا الرقم ليس مختلفا كثيرا عن عدد الأبحاث المنشورة في العام السابق للوزارة الحالية، والذي وصل الى اكثر من 20 الف بحث. وكذلك، لم تكن الأرقام في السنوات التي سبقتها مختلفة بشكل كبير. لكن الملحوظ والمميز في هذه الفترة هو الارتفاع الكبير في النشر الزائف.  فالكثير من هذه الأبحاث (مع التحفظ على الأبحاث النزيهة) اما انها مسروقة، او من إنتاج "مصانع الأوراق" التجارية، او مقتبسة بشكل غير أمين، او حتى مزورة. ان وجود عدد كبير من الباحثين الذين ينشرون بمعدل 100 بحث سنويا وبضمنهم مسؤولين كبار في الوزارة، وتزايد أعدادهم بمرور الوقت، بالإضافة الى ازدياد عمليات سحب الأوراق من المجلات العلمية، يؤكد دور الأوراق المزورة في زيادة العدد الاجمالي. كما ان هذه الفترة تتميز بنشر ابحاث تفتقر الى التاثير العالمي والمجتمعي او الجودة البحثية المطلوبة، الامر الذي حال دون الاشارة الى الجودة في الفديو، ربما لانها قد تمثل "وصمة عار". الاهم من ذلك، لم يذكر الفديو ان البحث العلمي لم يتلق اي دعم مالي مباشر من الوزارة، بل تحمل الباحثون تكاليفه بأنفسهم.

زيادة الجامعات في تصنيف التايمز.. هل هو انجاز حقيقي؟

واشار الفديو الى زيادة عدد الجامعات العراقية المدرجة في تصنيف التايمز للتعليم العالي. لكنه غفل عن حقيقة ان تصنيف التايمز يدرج كل جامعة تتقدم بطلب للاشتراك وتستوفي استمارة المشاركة. فالسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا اقتصر العدد على 27 جامعة فقط، وليس 100 جامعة على سبيل المثال؟ كما تجاهل الفديو الاشارة الى ان ما يقارب 90% من جامعات العالم لا تشارك في هذا التصنيف من الاساس، وبالتالي لا يتم تصنيفها. علاوة على ذلك، تقع غالبية الجامعات العراقية المشاركة في مؤخرة التصنيفات، مما يشير الى إخفاق كبير حتى ضمن نطاق الجامعات المحدودة المشاركة.

المؤشر البيئي والتنموي.. سوء فهم للتصنيفات الدولية

ذكر في الفديو ايضا ان العراق صعد الى المركز الاول عربيا في "المؤشر البيئي والتنموي" وفقا لتصنيف التايمز. وهنا يجب التوضيح انه لا يوجد مؤشر بيئي وتنموي شامل على مستوى الدول يصدر عن التايمز. لربما ما يقصد على الارجح هو تصنيف التايمز للتنمية المستدامة للجامعات، حيث صعد العراق الى المركز الاول عربيا من حيث عدد الجامعات المشاركة في هذا التصنيف. هذا يعني ان عددا كبيرا من الجامعات العراقية بادرت بتقديم بياناتها والمشاركة في هذا التصنيف الذي يقيم مساهمة الجامعات في تحقيق اهداف التنمية المستدامة. مع انها اختفت من تسلسل افضل الجامعات العربية في التصنيف حيث تصدرت الجامعات السعودية والاماراتية والمصرية والقطرية ولم تتصدر أي جامعة عراقية قائمة الأداء، ما يشكل انتكاسة اضافية، فالانجاز الحقيقي ليس بكثرة المشاركة، بل بتميز الأداء.

ارتفاع عدد الطلبة الاجانب (الدراسة المجانية).. جدلية الجودة والتاثير

تطرق الفديو ايضا الى ارتفاع عدد الطلبة الاجانب الملتحقين بالجامعات العراقية ليصل الى 3000 طالب. وهذا يعود الى شروط قبول ميسرة، منها قبول معدل 85% لدراسة بكالوريوس طب الاسنان والصيدلة، و90% للطب البشري، مع منح دراسية مجانية. هذا التوجه يأتي على حساب اعداد الطلبة العراقيين الذين قد يجدون صعوبة في المنافسة، ويضع ضغطا هائلا على التدريسيين. فهل هذا ما يجب ان نفخر به كأنجاز في الوقت الذي يدفع كثير من العراقيين اجورا للحصول على مقاعد مماثلة في الجامعات الحكومية المفترض بها ان تكون مجانية، ام انه يثير تساؤلات حول جودة التعليم المقدم ومدى قدرة الجامعات على استيعاب هذا العدد دون المساس بمستوى الاداء الاكاديمي؟

تأسيس كلية التميز.. حل جذري ام تكتيك دعائي؟

بالنسبة لتاسيس كلية التميز كأنجاز يشير له الفديو، يتبادر الى الذهن سؤال جوهري: الم تنجب جامعاتنا وكلياتنا القائمة، على امتداد عقود من الزمن، نخبة من العقول والكوادر المتميزة؟ ولمن تحديدا توجه هذه الكلية الوليدة خدماتها؟ هل هي نخبة مصطفاة، تنتزع انتزاعا من سياق تعليمي متهالك؟ وما الجدوى الحقيقية المرجوة منها؟ هل ستنتج هذه الكلية وظائف نوعية جديدة تتجاوز ما تعانيه الكليات الاخرى من تخمة في بعض التخصصات وشحّة في اخرى؟ الا يمثل هذا الاجراء، في جوهره، مجرد تكتيك دعائي فاشل اخر لتلميع صورة التعليم العالي الباهتة، دون الغوص في اعماق مشاكله المستعصية وتقديم حلول جذرية؟ والاسئلة تتوالى: اين البنايات الجديدة التي تليق بهذه الكلية الرائعة؟ اين المختبرات المتطورة؟ ما هي اختصاصات هذه الكلية؟ ام ان كل هذه "الانجازات" جاءت على حساب ما هو موجود، باقتطاع اجزاء من مبان قديمة وترحيل اثاث مهترئ في مسرحية ترقيع؟

اين المبررات الاكاديمية والعلمية التي تبرر لهذا الصرح المصطنع اسمه "التميز" ان يتفوق على بقية الكليات؟ ام ان الامر كله مجرد استعراض لأسماء واسلاك تربط اساتذة من اقسام اخرى، ثم تغليف الفكرة بشعار براق على لافتة توحي بالعظمة، في حين ان الواقع ما هو الا فراغ تعليمي معاد تدويره؟

هل يعقل ان تتحول كلية مصطنعة الى جامعة من الهواء؟ جامعة لا سند لها سوى اسم "التميز" الغريب الذي يراد به ان يبعث رسالة ضمنية لكل طلبة الطب والهندسة وغيرهم: انكم ببساطة اقل تميزا، وربما اغبياء لاختياركم التخصصات "العادية"، بينما هنا في "التميز" تخلق العبقرية!.

تضمين مادة "جرائم البعث".. اولويات المناهج التعليمية

اشار الفديو الى ادراج مادة "جرائم البعث" في مناهج الكليات العراقية واعتماد تدريس كتب المراجع الدينية كأنجاز. هذا يثير تساؤلا حول الاولويات في صياغة المناهج: لماذا لم تدرج مقررات في "فلسفة المواطنة" او "المواطنة الصالحة" وتعزيز قيم التسامح والتعايش السلمي وتطوير المهارات الشخصية والقيادية، او مادة لتدريس النزاهة ومكافحة الفساد، او مادة التفكير النقدي او حتى مادة عن الحرية الاكاديمية؟ ولماذا لم يتم اعتماد كتب أكاديمية متخصصة في مكافحة الفساد والحوكمة الرشيدة وأخلاقيات المهنة، وكتب في علم النفس الاجتماعي وعلم الاجتماع السياسي التي تتناول مفاهيم الهوية والصراع والتسامح وبناء السلام،  ودراسات حالة (Case Studies) واقعية من العراق والعالم حول الفساد ونتائجه وجهود مكافحته وكتب الأدب والتاريخ العراقي التي تحتفي بالتنوع الثقافي وتبرز الوحدة الوطنية؟

ما يثير الاستغراب في رسالة الفديو هو الغياب التام لاي اشارة الى انجازات تتعلق بجودة التعليم بحد ذاتها. لم يتطرق الفيديو الى خطوات عملية لرفع مستوى العملية التعليمية، او برامج تهدف الى ربط التخصصات الدراسية بحاجة سوق العمل ومتطلباته المتغيرة، ولا إلى أي برنامج إصلاحي حقيقي. وكأن التعليم نفسه اصبح تفصيلا ثانويا في مؤسسة تحولت تدريجيا الى دائرة امنية بامتياز، تمارس الابتزاز والتخويف بحق الأساتذة والموظفين والطلبة على حد سواء.

أما الواقع الذي تجاهله الفيديو، فهو أكثر فجاجة من أن يخفى:

- إهانة التدريسيين عبر تجاهل نتائج امتحاناتهم وتدخل الوزير في رفع درجات الطلبة الفاشلين.

- التعيينات الولائية التي جعلت من منصب العميد ورئيس الجامعة مكافأة سياسية لا استحقاقا علميا.

- فرض الاتاوات على الطلبة، حيث يبتزون بمبالغ مالية تسخر لخدمة جهات لا علاقة لها بالتعليم.

- تحويل الوزارة إلى جهاز رقابي بوليسي، يراقب ويعاقب بدل ان يطور ويحفز.

كل ذلك غاب عن الفيديو، وكأن الرسالة المقصودة ليست تحسين التعليم، بل تحسين صورة السلطة. وهنا تكمن المأساة: حين يصبح الترويج اهم من الإصلاح، ويستبدل الحديث عن الرؤية التعليمية باستعراضات فارغة لا تعني شيئًا للطلبة ولا للأساتذة.

الاكثر اثارة للقلق هو تجاهل الفيديو الكامل لمطالب الهيئة التدريسية.  فبدلا من الالتفات الى حقوقهم واحتياجاتهم، او التركيز على برامج تدريب وتطوير مستمرة لتحسين مستوياتهم التعليمية والبحثية، خلى الفديو من اي ذكر لهذه الجوانب الحيوية التي تمثل عماد اي تقدم في القطاع التعليمي.

***

ا. د. محمد الربيعي

حينما يقترن أمران لا صلة حقيقية بينهما، فيكون أحدهما دالا على الآخر، وقيمة الآخر متوقفة على الأول، فهذا نذير شؤم بنتيجة تتوقع فيها كل شيء إلا الحقيقة، وعلى المستوى الفكري تكون المغبّة أَنْكى؛ لأن الفكر القويم يُبنى على تسلسل منطقي من الأدلة، وليس على جمع اعتباطي، وربطٍ عشوائي كيفما اتفق، وحتى لا تتوه منا الفكرة في ضبابية المدخل العام لموضوع بحثنا، فإني أودّ الإبانة عاجلا عن مقصودي، فأنا هنا أتحدّث عن اقتران صحة الرأي بتبنّي الأغلبية، وإذا كان الفكر الإنساني قد مُنِيَ برزيّة فستكون الأغلبية!

حين نتحدث عن صحة الرأي، فإنه من المفترض أن يدور كلامنا على الدلائل والقرائن والحجج والبراهين والتجارب العملية والعلمية، ونحوها مما يُستند إليه - عن استحقاق - لإثبات المعارف، فيغدو ادّعاؤنا بأن التصوّر الفلاني صحيح استنادا للحجة المبرهن عليها، مقبولا لدى الحسّ الطبيعي، أما إذا كان المصدر الذي ولّد قناعة بصحة رأي ما ليس بذي بال أو فاقدا أيّ قيمة، فهنا تكون نظرتنا لصحة الرأي محل شك ونظر بل وريبة!

وحين نتحدث عن الأغلبية، فإنّ أقصى ما نشير إليه هو نسبة غالبة من مجموعة أناس يجمعهم قاسم مشترك كالرقعة الجغرافية أو اللغة أو الدين أو العِرق…إلخ، فحين نقول أغلبية المقيمين في تلك الدولة من الجنسية كذا، فهذا يعني نسبة 51% فما فوق منهم هم من هذه الجنسية - لا أكثر ولا أقل - ولا يدل على شيء آخر إلا الأكثرية العددية.

المتاهة التي عَلِق فيها الفكر الإنساني هو أنه أوجد رابطة - حيث لا رابطة -  بين صحة الرأي التي تفترض حيازتها على أدلة إثباتها، وبين تبنّي الأغلبية إياه بوصفها الدليل الذي يركن الرأي إليه، وإن كان ربطا لا شعوريا وغير صريح، لكن ظلاله ملقاة على واقع تعاطينا الفكري، وخير مثال ما تعجّ به مواقع التواصل الاجتماعي من مناقشات في نطاق (الترندات)، وكيف يتم التعاطي مع رأي الأغلبية بثقل اجتماعي بل ومعرفي للأسف.

كل ما أرغب في زَجّه لبؤرة الضوء هنا هو أن نضع الرأي المُتبنّى من الأغلبية في خانته الطبيعية بلا عملية (Filler) حشو! وعلى قول المتنبّي:

أعيذُها نظراتٍ منك صادقةً          أنْ تحسبَ الشحم فيمن شحمُه ورمُ

 فهو رأي أخذ به أفراد مجموعة ما بنسبة غالبة، بدون أن نزيد من عنديّاتنا أيّ شيء من قبيل صحة الرأي أو دقته أو وجاهته! فالأغلبية ليست أحد أدلة الصحة، بل نسبة غالبة، وغالبة باعتبار العدد وليس شيئا آخر.

ومن الوارد جدا أن نتساءل إزاء هذا الخلط عن السبب الذي آل بنا إلى فرض هذه العلاقة القسرية بين الأغلبية وصحة الرأي، التي لربّما تكون صادمة للبعض إذْ ينتبه لها لأول مرة وقد كانت ممارسة بديهية فيما مضى، على سبيل النطاق العام للأسباب فطبيعي جدا أن تتعدد وتتداخل، فليس بلازم أن تكون الأسباب خطيّة أو منفصلة بشكل حدّي عن بعضها، وفيما يتصل بمحل بحثنا عن أسباب إقامة اقتران بين الأغلبية وصحة الرأي فإني أود الالتفات إلى سببين، أوّلهما فردي المَنبت، وثانيهما جماعي الدافع.

فيما يخص المستوى الفردي، فأدمغتنا تميل للاسترواح للالتصاق بالأغلبية في تبنّي تصوّر أو توجّه معيّن؛ لتجنّب إعمال العقل؛ لأن العمل الذهني يتطلّب طاقة إضافية، فيجد الدماغ في الأغلبية العزاء، فيستمرئ الميل لمحاكاة رأي الأغلبية على اعتبار أن ذلك إشارة إلى قوة الرأي لدرجة أن الجموع بمختلف أطيافها قد تضافرت عليه، ولكن تلك منهجية غير وجيهة؛ فتبني الرأي هو مسؤولية فردية بالدرجة الأولى، وليست مسؤولية جماعية، والذي يحصل أن هذا الاسترواح يجعل ما يُقدّم من أدلة تبريرات لصحة رأي الأغلبية، ليس لأنها أدلة صحيحة في ذاتها، أو على أقل تقدير ليس لكونها بتلك القوة التي يتم تقديمها على أنها كذلك، وإنما الباعث الأساسي هو تبنّي الأغلبية، فنتراخى في عملية التمحيص والنقد، لا لشيء سوى أننا لا نكاد نولّي وجوهنَا شطر ناحية ما إلا وجدنا من يسبّح بحمد هذا الرأي ويلهج بذكره! فنجد أنفسنا تلقائيا مع الخيل يا شقراء! فإذن الميل لرأي الأغلبية ليس بالضرورة قناعة تُفصِح عن نفسها بل تتسلّل إلى المستوى اللاشعوري مقنَّعة بأدلة لاحقة جوفاء، باطنها محض تبريرات لتمرير رأي الأغلبية على أنه رأي متأسّس على أدلة رصينة تعضده.

وفيما يخص المستوى الجماعي، فعلى مرّ الأزمان تطوّرت الحاجة الجماعية للاحتفاء بخصائصها من الأعراف والأفكار بين أفرادها بفعل الانتقاء الطبيعي للجماعة (Group Selection) للمحافظة على بقاء انتماء أفرادها إليها، فكيف يُتصوَّر وجود للجماعة بدون أفراد يشكّلونها؟ لا شيء قطعا، ومن تفرعات ذلك الاحتفاء هو تقدير رأي الغالبية بما هو تمثيل معتبَر للتيار العام للجماعة، ومن هنا كان تمرّد فرد على التيار العام للجماعة في أعرافها وأفكارها يشكل تهديدا يؤرق مضجع الجماعة؛ فتعمد بدايةً إلى محاولة استمالته مجددا إلى حياضها، فإن لم يُجدِ ذلك نفعا تقوم بتجنيد أدواتها المتاحة المشروعة منها وغير المشروعة،  فتغتاله اجتماعيا وتشوه صورته ولا تألُو جهدا في محاربته لجعله عبرة؛ تجنبا للعدوى، والتي إنْ استشرت فذلك إيذانٌ بالقضاء على وجود الجماعة، ولك أن تدرك أنه كلما كانت الجماعة مترامية الأطراف وذات نفوذ واسع وتحكمها أيديولوجيا مستحكمة، امتلكت أدوات أكثر إيغالا في اللاإنسانية، ليس أقلها إطلاق حملات بروبوغاندا ضد المنشقين عنها، على أنّ نطاق الآراء ذات الحظوة لدى غالبية جماعة ما، ينبغي أن يكون محل دراسة حقول علمية كعلم النفس الاجتماعي؛ لبحث الجذور التي شيّدت علاقة متينة بين غالبيةٍ ما وبين هذه الآراء من بين نظيراتها من الآراء.

إذن العقد الذي يُلصق صحة الرأي بالأغلبية هو عقد اجتماعي، يتعزّز بميل أدمغتنا إلى الاتّكاء على استنساخ رأي الغير الجاهز، خصوصا وهو يحظى بسطوة الغالبية، ولسانُ حالها إنْ كان صحيحا فبها ونِعْمَتْ، وإنْ كان خطأً فالخطب يهون مع وقوع غيرنا في الفخ نفسه!

على أنّني أحرص دائما على التحذير من مفهوم الرأي العام، الذي عادة ما يكون مستخرَجا من تفاعلات الجمهور مع (ترند) معين، فيُصدَّر على أنه يمثل الأغلبية، وما يمثل الأغلبية يُنظر إليه بما هو ممثّل لتلك الجماعة بأسرها سواء كانت شعبا أو أصحاب دين أو أتباع تيار فكري…إلخ ولكن عند التفتيش عن حيثيات مفهوم الرأي العام فهو لا يعني إلا صورة مُجْملة شوهاء عن رأي جماعة ما، بعيّنةٍ محدودة وشريحة مُجتزَأة لا تتأهّل لأنْ تقوم بتمثيل الأغلبية فضلا عن الجماعة بأسرها، ففي الوقت الذي نسمع فيه أن الرأي العام في منطقة كذا أو عند مجتمع ما، فهذا لا يعني إلا استطلاعا لوجه واحد من الوجوه، قد يكون استبانة لعيّنة غير منضبطة، أو تفاعلات في (ترند) في منصة (X) وهؤلاء لا يمثلون بالضرورة الصوت الحقيقي لأي مجتمع.

على أنه في الوقت الذي يُنظر فيه إلى الأغلبية مُرجِّحا أو على الأقل باعثا للاطمئنان أو الاستئناس لتماسك رأي ما، فإنه يمكن أن يكون ذلك على النقيض تماما، بما هو لافتة تحذير (Red flag) فقد جرت العادة على أن تكون الآراء السائدة مكانا خصبا لترعرع الأفكار المغلوطة والمدفوعة لخدمة أجندات معينة وليس نشدان الحقيقة.

وهذا يذكرني بمقولة متداولة منسوبة لمارك توين، ولم أقف على مصدرها، ولكن مهما يكن فمضمونها دقيق جدا، وهي: "Whenever you find yourself on the side of the majority, it’s time to pause and reflect." أي: كلما وجدت نفسك في صفّ الأغلبيّة فقد حان الوقت لتتوقّف وتتأمّل، وعموما في الوعي الجمعي ننفر جميعا من سمة الإمّعة رغم سقوطنا ضحايا لها، شعرنا بذلك أم لا، ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية ودخول الكوكب في نظام عالمي جديد، نشأت في سياق ثقافة الشعوب الناطقة بالإنجليزية كلمة هجين (Sheeple) وهي نحت لكلمتين (Sheep) بمعنى الخِراف و(People) بمعنى الناس، ليكون معناها الكلّي: الأشخاص سهلو الانقياد كالقطيع، والمعادل الأقرب إليها بالعربية الإمّعة، لكن كلمة (Sheeple) كما هو جليّ تضفي تهكّما لاذعا لهذه الفئة من الناس التي تحشو أدمغتها بآراء جماعتها بغضّ النظر عن صحتها، وقد أُضيفت الكلمة رسميا لقاموس أكسفورد عام 2015 أي قبل عشر سنوات من الآن.

وفي خطوة أولى حتى لا ننجرّ في تيارٍ إمّعيٍ بامتياز، علينا أن نَفْرَق ابتداءً من الرأي السائد الذي يعبّر عن الأغلبية، ونُعمِلُ فيه نقدنا أقسى من غيره؛ لنتأكد قدر المستطاع من أننا لا ننضمّ لقائمة ضحايا تصوّرات تيار الأغلبية، فالرأي إذْ تحتفي به الأغلبية لا يعني إلا أن كثيرا من الناس اعتمدوه، ناظرا إلى العدد ليس إلا، من غير أن يدل على أي معنى زائد آخر كصحته! وكم من رأي صحيح حصيف مسحوق تحت الغالبية؛ لقلة متبنّيه، مبحوح الصوت حتى لا يكاد يُسمع، ومع ذلك إذا كانت نتيجة نظرك في رأي ما قد وافق الأغلبية فلا يعني أنه يتوجّب عليك نبذه وازدراؤه، فحجر الزاوية هو ألا تتبنّاه لأنه رأي الغالبية وحسب.

***

محمـــد سيـــف

العدم السريالي (3)

ٱلْخُلُودُ لَيْسَ وَعْدًا، بَلْ ٱسْتِمْرَارٌ بَغِيضٌ لِلتَّفَاهَةِ ذَاتِهَا، نَحْنُ نَسْعَىٰ لِلْأَبَدِيَّةِ كَأَنَّهَا مُكَافَأَةٌ، بَيْنَمَا هِيَ فِي ٱلْحَقِيقَةِ لَعْنَةُ ٱلتَّكْرَارِ ٱلْأَقْصَى. ٱلْأَبَدِيَّةُ لَيْسَتْ فَضَاءً مَفْتُوحًا، بَلْ قَاعَةَ ٱنْتِظَارٍ ضَخْمَةً لَا يَتَغَيَّرُ فِيهَا شَيْءٌ سِوَىٰ ٱضْمِحْلَالِ رَغْبَتِنَا فِي ٱلْمُغَادَرَةِ. ٱلْخَوْفُ ٱلْحَقِيقِيُّ لَيْسَ مِنَ ٱلْمَوْتِ، بَلْ مِنْ أَنَّ ٱلْحَيَاةَ لَنْ تَنْتَهِيَ أَبَدًا؛ أَنْ تَسْتَمِرَّ هَذِهِ ٱلْعُرُوضُ ٱلْبَائِسَةُ لِلْمَشَاعِرِ ٱلزَّائِفَةِ إِلَىٰ مَا لَا نِهَايَةَ.

"السريالية" تكمن في قناعتنا بأننا سنكون مختلفين في الغد، أو مختلفين في حياة أخرى، بينما كل ما نفعله هو تحريرُ نُسَخٍ بَاهِتةٍ من الأمس.

الأبدية هي أن تجد نفس الكذبة تتكرر ببطء مهيب.

. أن تعيش مليون عام، ثم تكتشف أنك لم تتجاوز لحظة الملل الأول

الوقت كائن شرير.

. يمنحنا الزمن الكافي لنكره أنفسنا، ثم يسرقه قبل أن نصل إلى قرار

الذاكرة هي الوحش الذي ابتلعنا جميعاً.

. نحن لا نموت؛ نحن نتحول إلى أرشيف مُتَعفِّن من الخيبات

الجنون هو النقطة الوحيدة التي يمكن أن يلتقي فيها الصدق بالأمل.

. لكن حتى الجنون يتعب ويستسلم للرتابة

الفن هو محاولة يائسة لوضع إطار على اللا معنى.

. هو تزيين حبل المشنقة بورود بلاستيكية

الحب؟ هو اتفاق بين شخصين على أن يجنّا سوية لفترة، قبل أن يستيقظ كلاهما على حقيقة عزلة الآخر.

المشاعر ليست إلا ضوضاء بيضاء.

. مجرد ذبذبات فاشلة تحاول كسر هدوء العدم المتقن

نحن نغفر لأننا متعبون جداً من تذكر سبب الغضب.

الغفران هو مجرد كسل آخر.

المتعالي هو قناع الوجود

الذي يرتديه ليبرر غيابه.

لقد وضعوا لنا آلهة ليمتصوا عنا ضجرنا، وخلقوا لنا مُثُلاً عليا لنستنزف فيها طاقتنا بلا فائدة.

العدم السريالي لا ينفي الإله؛ بل يجعله شريكاً في العبث،

أرهقه الخلق، فترك كل شيء يسير على غير هدى، ثم جلس يضحك من محاولاتنا اليائسة لإيجاد قانون يحكم الفوضى التي تركها خلفه.

. سخرية المتعالي هي أن يْطلب منا المسؤولية في غياب الهدف

فضح القناع:

الفضيلة هي مجرد ترف.

. لا يمارسها إلا من لديه الوقت الكافي لتجميل سقوطه

العدالة هي الاسم اللطيف الذي نطلقه على انتقامنا المؤجل.

التاريخ هو هراء متفق عليه.

. أسطورة يرويها المنتصرون عن حماقة المهزومين

الشرف هو مسألة متعلقة بمدى براعتك في إخفاء قذارتك عن القطيع.

نحن لا نكره بعضنا البعض حقاً.

. نحن نكره انعكاس ضجرنا في عيون الآخرين

كان يمكن للإله أن يخلقنا سعداء.

. لكنه اختار أن يخلقنا أذكياء، وهذه هي اللعنة الحقيقية

. الذكاء ليس نعمة، بل عيادة تشريح للآلام

من يجد اليقين، عليه أن يُعلن انتحاره الفلسفي فوراً، لأنه توقف عن الحياة وبدأ في تجميع حطام الإجابات الميتة.

الهدف الأسمى هو الوصول إلى الهدوء الذي يسمح لك بأن تشهد على خرابك دون أن ترمش لك عين.

البرج الزجاجي

يبدو شفافاً ومفتوحاً، لكنه لا يؤدي إلى أي مكان، وهو مصمم فقط لينكسر عندما تُوشك على لمسه.

الموت ليس نهاية

. الموت هو الاعتراف العلني بعبث الحياة

نحن نعيش لندحض الموت، لكن الموت هو الدليل الوحيد على أن هذا العبء لم يكن أبدياً.

إِنَّ ٱنْتِصَارَ ٱلْغَرِيبِ ٱلْأَخِيرِ لَيْسَ فِي عَوْدَتِهِ، بَلْ فِي إِيقَافِهِ لِعَبَةِ ٱلتَّظَاهُرِ. لَحْظَةُ ٱلْمَوْتِ هِيَ ٱللَّحْظَةُ ٱلْوَحِيدَةُ ٱلَّتِي يَكُونُ فِيهَا ٱلْإِنْسَانُ صَادِقًا تَمَامًا؛ صَادِقًا فِي عَدَمِهِ، صَادِقًا فِي خَلُوِّهِ مِنَ ٱلْهَدَفِ.. هَذَا ٱلِٱنْتِصَارُ هُوَ نَفْيٌ هَادِئٌ لِكُلِّ ٱلشِّعَارَاتِ ٱلَّتِي أَرْهَقَتْنَا.

سكون النهاية:

التلاشي ليس خسارة، بل هو الهدية الوحيدة التي يمنحها لنا الوجود.

أن تموت هو أن تتوقف عن إزعاج الكون بـحاجتك إلى معنى.

الغريب لم يمت، بل أعلن انسحابه من مسرحية رديئة.

البرج الزجاجي سقط ليعلن أن كل الارتفاعات كاذبة، وأن الجاذبية هي الشكل الوحيد للعدالة المطلقة.

القطيع لا يحزن للموتى؛ إنه يحزن على فقدان شاهد إضافي على تفاهتهم.

السلام ليس غياب الحرب، بل إخماد الرغبة في الفهم.

اكتشف الغريب أن البقعة السوداء على الأرض ليست أثراً، بل توقيع الوجود على وثيقة الهزيمة.

العدم السريالي هو أن تبتسم في القبر.

لأنك أدركت أن الوهم انتهى للتو، وأن هذه هي المرة الأولى التي لا تُطلب منك فيها محاولة ثانية.

أخيراً، نحن جميعاً ذلك الغريب.

. في النهاية، سنمنح للوحش، ليس خوفاً، بل كـدفع أخير لإعفائنا من التفكير

سِيمفُونيَةُ اَلْخَدْرِ اَلْعَظِيمِ

السَّعَادَةُ هِيَ ٱلْهُدْنَةُ ٱلْكَاذِبَةُ ٱلَّتِي يَمْنَحُنَا إِيَّاهَا ٱلْوَعْيُ قَبْلَ جَوْلَةٍ جَدِيدَةٍ مِنَ ٱلشَّقَاءِ. لَقَدْ ٱنْتَصَرَ ٱلْعَدَمُ بِبَرَاعَةٍ لَا مُتَنَاهِيَةٍ، لَمْ يُدَمِّرْنَا، بَلْ جَعَلَنَا نُحِبُّ ٱلْخُدْرَ هُوَ لَيْسَ مُجَرَّدَ إِلْهَاءٍ، بَلْ هُوَ ٱلْهَدَفُ ٱلْأَسْمَى لِلْقَطِيعِ. فِي ٱلتَّفَاهَةِ ٱلْيَوْمِيَّةِ، وَفِي ٱلتَّكْرَارِ ٱلْمَمِلِّ، نَجِدُ ٱلتَّخْدِيرَ ٱلضَّرُورِيَّ ٱلَّذِي يَحْمِينَا مِنْ وَمْضَاتِ ٱلْحَقِيقَةِ ٱلْمُفْزِعَةِ. سُرِيَالِيَّةُ ٱلْخُدْرِ تَكْمُنُ فِي أَنَّنَا نُؤَدِّي أَدْوَارَنَا بِبَرَاعَةِ ٱلْمُمَثِّلِينَ ٱلَّذِينَ أَتْقَنُوا نَصَّهُمْ، بَيْنَمَا نَحْنُ نُدْرِكُ أَنَّ ٱلْمَسْرَحَ فَارِغٌ وَٱلْجُمْهُورُ غَادَرَ مُنْذُ زَمَنٍ بَعِيدٍ.

المرح هو القناع الزائف الذي يرتديه من لم يعد يملك القدرة على البكاء الصادق.

الضحكة ليست سوى تشنج عصبي، واعتراف جسدي بأن المنطق قد تحطم.

الروتين هو الصلاة الحديثة، الطقس اليومي الذي نكرره لإقناع أنفسنا بأن هنالك نظاماً في الفوضى العارمة.

الأمان هو شعورٌ مصطنع، يصنعه القطيع من بقايا الخوف الذي فشل في مواجهته.

لا توجد لحظة إشراق.

. هناك فقط فترات انقطاع مؤقتة للغثيان

الفشل هو الشكل الوحيد من أشكال النجاح الذي يمكن أن نثق به حقاً.

النبوغ هو أن ترى العفن في زهرة متفتحة، ثم تُصرّ على شمّها على أي حال.

الحكمة ليست في معرفة الإجابات، بل في إتقان فن الاستمتاع بحماقة الأسئلة.

السعادة هي الهدنةُ الكاذبةُ التي يمنحُنا إياها الوعيُ قبلَ جولةٍ جديدةٍ من الشقاء.

هَلْوَسَةُ اَلْمَعْنَى

البَحْثُ عَنْ مَعْنَىً هُوَ سَذَاجَةٌ لَا تُغْتَفَرُ. ٱلْمَعْنَىٰ هُوَ شَبْحٌ يُطَارِدُهُ ٱلْعَقْلُ ٱلْمُتَعِبُ، فِي كُلِّ مَرَّةٍ نَظُنُّ أَنَّنَا ٱقْتَرَبْنَا مِنْ فَهْمِ شَيْءٍ مَا، نَتَرَاجَعُ مُذَعَّرِينَ، لِأَنَّنَا نَكْتَشِفُ أَنَّهُ هُوَ مَجَرَّدُ نُقْطَةِ بِدَايَةٍ لِمَتَاهَةٍ أَشَدَّ سُوءاً. ٱلْعَدَمُ ٱلسُّرِيَالِيُّ يُذَكِّرُنَا بِأَنَّ ٱلْمَعْنَىٰ لَيْسَ غَائِباً، بَلْ هُوَ مَوْجُودٌ بِشَكْلٍ مُفْرِطٍ وَبِطُرُقٍ مُتَنَاقِضَةٍ لِدَرَجَةٍ تَجْعَلُهُ مُسْتَحِيلاً. فَكُلُّ شَيْءٍ لَهُ مَعْنًى يُضَادُّ مَعْنًى آخَرَ، لِيُصْبِحَ ٱلْمَجْمُوعُ ٱلْكُلِّيُّ، لَا شَيْءَ مُطْلَقٌ.

متاهة الفهم:

الهدف هو دائماً مجرد تأجيلٌ أنيقٌ للحظة التي سنسأل فيها

لماذا كل هذا؟

النقاش هو فن تبادل اليقين بين أحمقين لم يستوعب كلاهما بعد هشاشة موقفه.

الأيديولوجيا هي مسكنٌ فكري. لا تستخدمها للعلاج، بل لـمُضَاعَفَة الوهم.

الشك هو الحالة الوجودية الوحيدة التي لا تسبب الخزي.

المرض هو الطريقة الوحيدة التي يخبرنا بها الجسد أن الروح قد ضلت الطريق منذ زمن.

العالم بحاجة إلى شهود غير مبالين لخرابه.

كل إجابة هي طريقة لقتل سؤال عظيم.

. الغباء هو الكسل الفكري الذي لا يطلب كل الإجابات

الاستسلام ليس هزيمة.

إنَّ التَّلاشِي لَيْسَ نِهَايَةَ السَّلَّمِ، بَلْ هُوَ السَّلَّمُ نَفْسُهُ وَهُوَ يَتَبَخَّرُ بِبُطْءٍ. إنَّهُ لَيْسَ المَوْتَ، بَلْ هُوَ اليَقَظَةُ الأَكْثَرُ بَيَاضَاً حِينَ نُدْرِكُ أَنَّ الأَسْماءَ كَانَتْ مُجَرَّدَ قُبَّعَاتٍ مَلَوَّنَةٍ عَلَى رُؤُوسِ عَرَائِسَ مِنْ غُبَارٍ. كُلُّ ضَوْضَاءٍ، كُلُّ حُبٍّ مُلْتَهِبٍ، كُلُّ حَرْبٍ صَارِخَةٍ، هِيَ مُجَرَّدُ هَمَسَاتٍ مُتَأَخِّرَةٍ لَمْ تَصِلْ بَعْدُ إلى مَحْكَمَةِ الصَّمْتِ الكُبْرَى، كُلُّ مَا ظَهَرَ، يَجِبُ أَنْ يَعُودَ إلى مُخْتَبَرِ اللاَّ مَرْئِيِّ، لِيُصْبِحَ فَقَطْ، نُقْطَةَ ضَوْءٍ فِي خَالِصِ الأَبَدِيَّةِ الزَّرْقَاءِ. التَّلاشِي هُوَ الْعَدْلُ؛ لأَنَّهُ يُعِيدُ كُلَّ شَيْءٍ إلى حَالَتِهِ الأَصْلِيَّةِ مِنْ اللامُبَالَاةِ الرَّائِقَةِ. فَلَا خُسْرَانَ، وَلَا رِبْحَ، بَلْ فَقَطْ عَوْدَةٌ هَادِئَةٌ لِلأَلْوَانِ إلى العَتْمَةِ المُلْكِيَّةِ.

***

غالب المسعودي

«أردت أن أستعمل على المسرح الجملة القائلة بان المهم ليس تفسير العالم، بل تغييره»[1]... (بريشت)

بداية الكلام: إن الحديث عن المسرح وقضايا المجتمع بكل تمظهراتها وتشعباتها والعلاقة بينهما، حديث ليس بالجديد، فقد ارتبط المسرح منذ بداياته بالحياة الإنسانية، فكان له تأثير في بناء الإنسان، وتشكيل وعيه بذاته، وتجديد مفاهيمه حول قضاياه التي يقف عندها عاجزا أو متسائلا، ونظرته للحياة بما ينعكس على سلوكه كفرد فاعل في جماعة. يقول سعد الله ونّوس: «إنّنا نريد تغيير وتطويع عقلية، وتعميق وعي جماعي بالمصير التاريخي لنا جميعا...»

هل الرّهان اليوم على المسرح، والفن عموما اليوم، في ظل التّطوّرات المتسارعة، والتّغيّرات الاجتماعية والبيئية والتكنولوجية، والتطوّر الرقمي الخطير، أن يتحدّى ويواجه، ويفتح للأسئلة منافذ للمقاومة والتغيير؟

هل يمتلك المسرح اليوم، آليات المواجهة والتّحدي والمقاومة والتّغيير المنشود، لفتح واجهات يدخل منها ليكّد صلاحيته وقدرته على أن يكون بالفعل، حين تساقط وتخاذل كثيرون؟

لا يختلف اثنان، في كون المسرح أبي الفنون، يمتلك القدرة على تحويل الأفكار والإيديولوجيات، والسّائد والمعيوش، وما يموج به عصر الاتصال والسماوات المفتوحة، بجرأة وفاعلية إلى مشاهد بصرية قوية، منفتحة على السؤال، تحمل داخل فرجتها وحواراتها بوادر التغيير وإرهاصاته التي تُخْرج المتلقي/الجمهور، من حالة السكون والتصفيق والضّحك، إلى حالة الفعل والانخراط في التّحدّي والتغيير، لأنّه المعني في البدْء والانتهاء.

وأمام العجز الواضح والبيّن، والبحث الحثيث عن استغلال الظروف والمناسبات لبعض وسائل التعبير وبعض المسؤولين، وانعدام تحمّلهم لمسؤولية التغيير والانخراط فيه، انبرى المسرح شاهرا أدواته، لا ليأخذ صدارة التغيير كقوة، بل، ولأنّه يعلم علم يقين، أنه يستطيع المواجهة وتغيير الحال والمآل، ليبني أفكاراً وسلوكات بدأت تغيب عن حياة الإنسان المسْتخْلَف في الأرض، هذه الأدوات قد لا توجد في غيره، لأنه أبو الفنون جَمَعَ ما تفرّق في غيره، إذ «يتمتّع بشخصية لها مواصفات منفردة[2]» أهمّها المواجهة الحيّة بينه وبين الجمهور، حين تكون المواجهة بين الصّورة[3] والجمهور مواجهة صامتة تأمّليّة، لا تكاد تخرج عن إطاره الموضوعة فيه، بينما في المسرح، يحضر الآن كزمانٍ حاضرٍ دائماً، والهُنا كفضاء حي قابل للتغيير، للتفاعل والتقارب، حيث تُتَسَرّب الأسئلة والأفكار إلى الجمهور، فينخرط فاعلا إيجابيا حين يتشرّب الصّور والأفكار، فيفكّك شيفراتها، ويصبح بذلك عضوا في المشهد المسرحي الفرجوي، يحمل أفكاره، يوزّعها وهو يعيش واقعه وأيامه، وتملأ وقته، فتُخرجه من السكون اليومي إلى الفعل والتفاعل الدّائم مع الآخر عبر السؤال والنقاش والفعل وردّة الفعل.

والمسرح لا يقف عند تحفيز الخيال الإبداعي والتفكير النقدي عند جمهور الفرجة، وإنما يحفر عميقا في الإنسان وذهنيته، وعقله ومنطقه ومنهجه في الحياة بما يمكّنه من التفاعل، والتغيير، ثم احترام المحيط والوجود الجمعي المشترك. لهذا السبب مازالت الدّعوة ملحّة، وبشدّة، إلى إعلاء الدور الطّلائعي للمسرح في استعادة خطاب التنوير والتمدن، ودعم قيم الحركات التّغييرية الاجتماعية والبيئية والسياسية، وتيسير سبل التّغيير والوعي بأهمّيته، لأنّ العالم اليوم، بحاجة للمعالجة الجمالية التي عُرِف بها المسرح لقضاياه، ولكشف المستور، وفضح المخْبوء خلف أرْدِية الادعاءات والمزاعم والمصالح، وهو على ذلك قادر أن يتحدّى ويُقدّم ما يراه من معالجات بحُرّية وجرأة واستقلالية وموضوعية.

المسرح فُرجةٌ تنفتح على العالم..

وانفتاح المسرح على العالم والجمهور، لا يعني ذوبانه في القضايا اليومية المكرورة والممجوجة، بل يعني قدرته على تحويل الواقع إلى رموز وصور وأسئلة تُضيئُ مناطق العتمة، وتفتح الأفق رحباً أمام احتمالات جديدة للوجود الإنساني. وهو بهذا، يغدو أداة لمقاومة الجمود والسكون، وصوتاً للتّجديد، ومُخْتَبراً للحريّة والتفكير، عبر فُرجاته الواعية التي تُدهش الجمهور بقدْر ما تحرّضه على الفعل والتغيير. ومنذ وُجد المسرح، كان ولا زال فعل إرادة ومقاومة ومواجهة وتغيير، فهو، حسب التعريف الأرسطي لمفهوم الدراما، «فعل نبيل تام»، فالفعل هو أساس المسرح، وهو «فن الفعل لتغيير العالم»، لأنه أكثر الفنون التصاقا بالوعي والدعوة إلى التغيير وتحويل العجز الفكري وانسداده، إلى بوابات مشرعة على اكتشاف الجديد للسُّمُوّ بالفكر الإنساني.

كما أن المسرح ظاهرة تتجدّد وتتطور، من هنا أهميته وكذا خطورته، فهو الفرجة الواعيّة التي من خلالها تنطلق الأفكار لتغذي الذات الإنسانية، عبر القضايا الكبرى: الحرية، العدالة، السلطة، الأخلاق والهوية، وتجعل من الإنسان مفكرًا قادراً على الفعل الذي ينهض عليه المسرح، والتغيير الذي يهدف إليه، فهو حاملٌ لرسائل وجودية إنسانية، لأنه «الحياة في حد ذاتها»، حسب تعريف المخرج بيتر بروك. فالمسرح بهذا المعنى، مواجهة وصراع بين العقل والأفكار، يعمل على تحريكها، وخلخلة ما ركد منها أو ركن إلى الظلّ والسكون، وتحريضها للدفع بالمتلقي/الجمهور إلى العمل واتخاذ المواقف، وتجاوز لحظة الدهشة إلى التأثير وتمرير الأثر لحظة الانخراط في اللعبة فاعلا إيجابيا، مستفزّا وعيه دافعا به إلى التفاعل مع القضايا المطروحة بشكل أكثر وعيا وعمقا، ليترسّخ في ذاكرته الأثر الذي يسعى المسرح إلى تحقيقه.

المسرح مطلبٌ ملحٌّ للتغيير والمواجهة والتّصدي، إبداعيا، في عالم يسير إلى الوراء ثقافيا وأخلاقيا واجتماعيا وفكريا، لأنّه يحمل داخله ما يجعله يجسّد الأزمة، ليس كموضوع للنقاش، بل تحذيراً وإنذاراً يدقُّ ناقوس الانتباه والحذر، وصَرخةً  تحتُّ على المواجهة والفعل، ومرآة تعكس حقيقة المأزق الكبير الذي يُجَرُّ إليه الإنسان، عن وعي أو عن غير وعي، ليتحرك قبل السّكتة، بل أصبح الآن، مدفوعا باستمرار إلى محاولة سدّ الفرجات التي تزداد اتساعا بينه وبين العالم، من دون الدخول في صراعات مع الفنون الأخرى، وذلك بفتح أعين الآخر/الجمهور إلى أن يجد التكامل، لا التنافس، بل لنشر الوعي بمعالجة القضايا والمواضيع الملحّة التي تحيط به، فكان المسرح، وباقي الفنون، لأن له القدرة على التفاعل، بسهولة، بأساليبه وآلياته المتعددة، لتثقيفه ونشر الوعي، وتجديد علاقته بالإنسان ومحيطه.

لذا، عندما يستعصي الحل، أو يتفاقم الوضع، يتقدّم المسرح بكل آلياته، وأساليبه معلنا قدرته على فتح فرجات الأمل وردم هوة اليأس، ويكون حاضرا حضورا فعليا لا حضورا ورقيا أو ترفيهيا محض؛ لأن المسرح يملك من الأمل ما يهيئُ الإنسان ليستقبل بكل وعي فواجع النّهايات ويحفّزه على تجاوز الاحباطات والانكسارات والانخراط في الفعل والتغيير.

والحديث عن المسرح هو بالضّرورة حديث عن الإنسان في تفاعله مع المسرح، من خلال الظواهر التي تؤرّق حياة الإنسان، حين يبحث، لا عن الكثرة الغوغاء التي مع القطيع، بل على الأقل القليل، الذي يدرك الحال ويسعى إلى تغيير المآل، لأن المسرح لا يتوقف عند حدود قيم الترفيه والتفريغ والضحك، بل لحظة وعي عقلي تحليلي نقدي في التفاعل والتلقّي، وتجْسيد التّحوّل من مجتمع أناني متفرّج، إلى مجتمع حضاري مفكّر.

على سبيل الختام..

تأسيسا على ما سبق، كان المسرح ومازال، وسيظل، أكثر من وسيلة للترفيه، قويا للدفاع عن الحياة، عبر النضال، بالمعنى الإبداعي للكلمة، لتُعاش بالكرامة والحريّة والسؤال المُحفّز على التغيير، كما أنّه المرآة التي تعكس هم الإنسان وتطلُّعاته، وصوته حين يُقبرُ صوته، متجاوزاً كونه منبرا للوعي، والدعوة إلى اتخاذ إجراءات ملموسة لحماية مكتسباته الفكرية، أو كونه مكتفيا بطرح القضايا من دون المشاركة الفعلية في أساليب التغيير، بل يسعى جاهدا، وبكل وسائطه المتاحة، إلى إشراك المتلقي/الجمهور في مواجهة التّحدّيات مُحفّزاً على التّحرّك نحو حلول فعّالة ومستدامة، مجسّدا لهذا، صراع الإنسان مع العالم المتغير، عبر المقاومة للتغيير، حاملا بكل جرأة النص والفكرة والجسد والمؤثرات المصاحبة والأمل للتغيير لا التّفرّج والتصفيق ثم نسيان الفعل الذي من أجله يناضل.

في زمن ثقافة التّفاهة والرداءة، وسيران «مصطلحات» أصبحت متداولة على ألسن من يشيع ثقافة التّفاهة، ك: «ماشي سوقي، دخل سوق راسك، عاود لراسك، ونتا مالك..»[4] يمكن للمسرح أن يكون أداة قوية لإثارة الأسئلة حول مصير الإنسان والوجود، ليس فقط عبر الطّرح الفكري، والنّقاشات العقيمة، بل من خلال الفعل الحسي والبصري الذي يستفز المتلقي ويحفّزه على إعادة النظر في علاقته مع الواقع، هذه العلاقة التي أصبحت متوتّرة بفعل اللامبالاة وسيطرت قوى الرداءة والتّفاهة التي تتحكّم في سيرورة حياة النّاس. والمسرح بتوظيفه الفكري والفرجوي الهادف للصراع بين الإنسان والوجود، يسعى إلى بعث الأضواء عل المشهد عموما، والتّصدّي للواقفين المتفرّجين على قطار التّغيير يمر سريعا، غير آبهين أنّهم ينزلقون إلى الهاوية فتح فاها لابتلاع كل شيء جميل.

***

عبد الهادي عبد المطلب 

الدار البيضاء/المغرب

........................

[1] قيس الزبيدي. مسرح التغييرـ مقلات في منهج بريشت الفني. دار ابن رشدـ بيروت. (ص 5)

[2] عوني كروم. الخطاب المسرحيـ دراسات عن المسرح والجمهور والضّحك. السلسلة المسرحية ـ الشارقة

[3] نقصد بالصّورة هنا، اللوحات التشكيلية، الصور التي تعرضها السينما والتلفزة والهاتف... وكل ما يجعل منها أداة للتبليغ والتواصل.

[4] كلمات بالدارجة المغربية التي تعني (هذا أمر لا يهمك ـ لا يعنيك ـ وما دخلك؟ ـ ومن أنت لتُغيّر العالم...)

 

ورقة مكملة لمقال إبراهيم برسي "من البروليتاريا إلى الكومنتاريا"1

تمهيد: في مقاله التحليلي، يُعيد الأستاذ إبراهيم برسي تعريف الطبقات المنتجة في المجتمع، منتقلاً من البروليتاريا الصناعية إلى "الكومنتاريا" المعرفية. هذه الطبقة الجديدة لا تعتمد على الجهد البدني أو الآلة، بل تُنتج التأثير عبر المعرفة، المنصات الرقمية، والخوارزميات. ورغم أن هذا التصور يبدو حديثاً في بنيته النظرية، إلا أن الواقع العراقي يُقدّم شواهد حية تُسنده، وتُثبت أن هذا التحول ليس مجرد فكرة، بل مسار حضاري يتشكل فعلياً في مؤسساتنا التعليمية، التقنية، والمجتمعية.

تصورات برسي: إعادة تعريف أدوات الصراع

يرى برسي أن أدوات الإنتاج لم تعد المطرقة والآلة، بل العقل والخوارزمية. ويُشير إلى أن الكومنتاريا تُنتج التأثير عبر المحتوى الرقمي، البرمجيات، والتعليم التفاعلي، وتُعيد تشكيل الوعي العام من الهامش، رغم أنها لا تحظى دائماً باعتراف مؤسسي مباشر. هذا التحول يُعيد تعريف العلاقة بين الفرد والمجتمع، ويُحوّل المثقف من ناقل إلى منتج للسياسة العامة.

أمثلة عراقية تُسند التصور وتُثبت تحققه

في العراق، تتجلى ملامح الكومنتاريا في عدة مجالات. ففي التعليم الرقمي، ظهرت منصات محلية مثل "نفهم العراق"، إلى جانب مبادرات جامعية تُقدّم محتوى ثنائي اللغة، مما يُعيد تشكيل دور المعلم من ناقل للمعرفة إلى منتج رقمي ومُيسّر تفاعلي. هذه النماذج تُجسد الكومنتاريا التعليمية التي تُنتج المعرفة وتُعيد تعريف العملية التربوية.

أما في مجال الطاقة المستدامة، فقد برزت مشاريع للطاقة الشمسية يقودها أكاديميون في محافظات مثل البصرة والأنبار، تُقدّم حلولاً محلية قابلة للتطبيق، وتُعيد ربط الجامعة بالمجتمع. هذه المبادرات تُجسد الكومنتاريا التقنية التي تُنتج المعرفة التطبيقية وتُسهم في الاستقلال الطاقي.

وفي المجتمع المدني، ظهرت مبادرات مثل "شبكة شباب العراق" و"مركز تمكين"، التي تستخدم الإعلام الرقمي لتدريب الشباب على القيادة، التفكير النقدي، والابتكار. هذه النماذج تُعيد تشكيل الوعي الاجتماعي، وتُجسد الكومنتاريا المدنية التي تُنتج خطاباً مجتمعياً جديداً.

أما في المجال الفكري، فقد ساهم كتّاب ومفكرون عراقيون عبر منصات مثل "المثقف" و"الحوار المتمدن" في إعادة تعريف الخطاب العام، من خلال إنتاج محتوى نقدي وتحليلي يُسهم في إصلاح الوعي الجمعي. هؤلاء يُمثلون الكومنتاريا الفكرية التي تُعيد تشكيل الثقافة السياسية والاجتماعية.

وفي قلب هذا التحول، يبرز دور البروفيسور محمد الربيعي، أحد أبرز رواد إصلاح التعليم العالي في العراق. على مدى أكثر من عشرين عاماً، قدّم دراسات ومقالات ومقترحات لتحديث المناهج، اعتماد الجودة، وتطوير البحث العلمي بما يتماشى مع المعايير العالمية. كتاباته المنتظمة تُعد نموذجاً للكومنتاريا الأكاديمية التي تُنتج خطاباً إصلاحياً مؤثراً، وتُسهم في تشكيل السياسات التعليمية. يُجسد الربيعي نموذج "المثقف المنتج للسياسة العامة"، وهو ما يتقاطع تماماً مع تصور برسي للكومنتاريا كطبقة فاعلة في إعادة تشكيل المجتمع.

مقارنة تحليلية بين البروليتاريا والكومنتاريا

الفرق بين البروليتاريا والكومنتاريا يتجلى في أدوات الإنتاج، مكان العمل، وسائل التأثير، ومصدر القيمة. فالبروليتاريا تعتمد على اليد العاملة والآلة، وتعمل في المصانع والورش، وتُؤثر عبر الإضرابات والاعتصامات، بينما تعتمد الكومنتاريا على العقل والخوارزمية، وتعمل عبر الحاسوب والمنصات الرقمية، وتُؤثر من خلال المحتوى والبرمجيات. مصدر القيمة لدى البروليتاريا هو الجهد البدني، بينما لدى الكومنتاريا هو المعرفة والابتكار. التهديدات التي تواجه البروليتاريا تشمل البطالة واستبدالها بالآلة، أما الكومنتاريا فتواجه التهميش الرقمي واحتكار المعرفة. ومع ذلك، فإن فرص البروليتاريا تكمن في تحسين الأجور، بينما فرص الكومنتاريا تكمن في إصلاح التعليم وتمكين المجتمع.

توصيات مستقبلية

- أولاً، من الضروري توسيع المفهوم نظرياً، عبر تطوير إطار مقارن بين الكومنتاريا العراقية ونظيراتها في العالم، وربطها بمفاهيم اقتصاد المعرفة والذكاء الاصطناعي.

- ثانياً، يجب توثيق النماذج المحلية، مثل تجربة البروفيسور محمد الربيعي، لتكون مرجعاً في إصلاح التعليم العالي في العالم العربي.

- ثالثاً، يُستحسن فتح حوار أكاديمي بين الباحثين العراقيين لتوسيع هذا المفهوم، وربطه بالسياسات التعليمية والبحثية.

رابعاً، يُوصى بإعداد نسخة إنجليزية من هذه الورقة، تُبرز العراق كمصدر لنماذج معرفية محلية قابلة للتعميم دولياً

***  

إعداد: الدكتور عبد الجليل البدري

....................

للاطلاع

إبراهيم برسي: من البروليتاريا إلى الكومنتاريا.. الثورة التي غيّرت أدواتها

.........................

The Iraqi Commentariat: From Theory to Tangible Transformation

A Complementary Paper to Ibrahim Barssi’s “From Proletariat to Commentariat”

Prepared by Dr. Abduljalil Al-Badri

Introduction

In his analytical essay, Ibrahim Barssi redefines the productive classes of society by shifting the focus from the industrial proletariat to the emerging “commentariat”—a knowledge-based class that exerts influence through digital platforms, algorithms, and intellectual production. While this framework may appear novel, Iraq offers compelling real-world evidence that supports and enriches Barssi’s thesis. Across education, energy, civil society, and public discourse, a new class of knowledge producers is actively reshaping the country’s trajectory.

Barssi’s Vision: Reframing Tools of Social Struggle

Barssi argues that the tools of production have shifted from hammers and machines to minds and algorithms. The commentariat influences society through content creation, digital platforms, and educational reform. Though often marginalized institutionally, this class holds central influence in shaping public awareness and policy. It redefines the relationship between individuals and institutions, transforming the role of the intellectual from a passive transmitter to an active producer of public policy.

Iraqi Evidence Supporting the Commentariat Framework

In Iraq, the commentariat is emerging across multiple sectors. In digital education, platforms such as “Nafham Iraq” and bilingual university initiatives have redefined the role of the educator. Teachers are no longer mere conveyors of information—they are digital facilitators and content creators. These models exemplify the educational commentariat, which produces accessible knowledge and reshapes pedagogical norms.

In the field of sustainable energy, academic-led solar projects in provinces like Basra and Anbar offer locally grounded solutions and reconnect universities with community needs. These initiatives represent the technical commentariat, generating applied knowledge and contributing to national energy independence.

Civil society has also witnessed the rise of digital initiatives such as the Iraqi Youth Network and Tamkeen Center, which empower young people through leadership training, critical thinking, and innovation. These efforts reflect the civic commentariat, which reshapes social consciousness through digital literacy and participatory engagement.

In intellectual discourse, Iraqi writers, and thinkers on platforms like Al-Mothaqaf and Al-Hewar Al-Mutamaddin have contributed to redefining public narratives. Their analytical and reform-oriented content exemplifies the intellectual commentariat, which influences cultural and political reform through sustained dialogue.

At the heart of this transformation stands Professor Mohammed Al-Rubaie, one of Iraq’s most distinguished pioneers in higher education reform. For over two decades, he has produced studies, proposals, and public writings aimed at modernizing curricula, promoting academic quality, and aligning Iraqi universities with global standards. His consistent engagement with both academic and public audiences makes him a living embodiment of the academic commentariat. Al-Rubaie exemplifies the “public intellectual as policy architect,” perfectly aligned with Barssi’s vision of the commentariat as a transformative force in society.

Analytical Comparison: From Proletariat to Commentariat

The shift from proletariat to commentariat is evident in several dimensions. The proletariat relies on manual labor and machinery, working in factories and workshops, and influencing society through strikes and protests. In contrast, the commentariat operates through intellect and algorithms, using laptops and digital platforms to shape discourse and policy. While the proletariat’s value stems from physical effort, the commentariat derives its influence from knowledge and innovation. The former faces threats like unemployment and automation, while the latter contends with digital exclusion and monopolization of information. Yet, the opportunities for the commentariat are profound ranging from educational reform to civic empowerment and strategic development.

Strategic Recommendations

To advance this framework, several steps will be for future discussion:

1.  Theoretical Expansion: Develop comparative models between Iraq’s commentariat and global counterparts, integrating concepts from the knowledge economy and artificial intelligence.

2.  Documentation of Local Models: Highlight and archive successful Iraqi examples—especially the work of Professor Mohammed Al-Rubaie—as case studies in sustainable reform.

3.  Academic Dialogue: Foster collaborative research among Iraqi scholars to refine and expand the commentariat concept, linking it to national education and innovation policies.

4.  International Dissemination: Translate and publish these insights to position Iraq as a contributor to global knowledge economies and reform strategies.

نظرية العقد الاجتماعي نموذجاً

لو سألت سنياً عراقياً هل تلتزم أخلاقيا بالنظام السياسي الذي يرأسه سياسي شيعي؟

لأجابك بالنفي!

والأصل في المخالفة هو البعد الطائفي.

ولو سألت شيعياً عن الأمر نفسه لأجابك: تريد دائما عمر يحكم عبد الزهرة!

والأصل في المخالفة أيضاً هو البعد الطائفي.

ونسأل أليس هناك نظام سياسي يجمع عبد الزهرة وعمر ويلتزمون فيه التزاما أخلاقيا؟

والجواب نعم قولاً واحداً أنه (العَلمانية) نظام المواطنة نظام الحقوق والواجبات وآليته الديموقراطية التي تعني التداول السلمي للسلطة.

وشعارها العظيم "الدين لله والوطن للجميع".

وإذا أحرزنا هذا القول وآمنا به وهو حق نقول: يتمحور موضوع الأساس الأخلاقي للإلزام السياسي حول واجب المواطنين الأخلاقي في طاعة قوانين الدولة والسلطة السياسية وهو موضوع فلسفي يربط بين الأخلاق والسياسة.

بحسب الدراسات الفلسفية وأخلاقيات السياسة هناك نوعان رئيسيان من الأسس الأخلاقية للإلزام السياسي:

الأول: الأسس الفردانية:

وتشمل مبادئ مثل الإنصاف والتعامل بالمثل (عدالة) والرعاية أي اهتمام الفرد بالآخرين وحقوقهم. على هذا الأساس يلتزم المواطن بالقوانين لأن ذلك يعود بالنفع على الجميع من حيث العدالة والرعاية المتبادلة.

الثاني: الأسس الملزمة:

و تشمل الانتماء للجماعة والولاء للسلطة والاحترام والتمسك بالقيم الأخلاقية التي تكبح الشهوات والأنانية لأجل بقاء النظام واستمراره. هذا النوع من الأسس يؤكد أن الالتزام بالقانون ينبع من الارتباط الجماعي والاحترام للسلطة السياسية الشرعية.

تاريخياً ارتبط مفهوم الالتزام السياسي بأخلاقيات القوانين وموضوعات مثل العدالة والشرعية والسلطة. وهناك توجهات فلسفية ترى أن الإلزام السياسي يكتسب قوة أخلاقية من وجوب الحفاظ على النظام والحقوق المشروعة للمجتمع وهو واجب أخلاقي ينشأ من ضرورة النظام الاجتماعي وحق الدولة في المطالبة بالطاعة من مواطنيها.

بشكل عام يمكن القول إن الأساس الأخلاقي للإلزام السياسي يقوم على مزيج من العدالة الفردانية والولاء الجماعي واحترام السلطة بهدف تحقيق نظام سياسي يضمن الخير والمصلحة العامة ويُحترم من قبل الأفراد بوصفه واجباً أخلاقياً مستنداً إلى قيم العدالة والاحترام المتبادل والمصلحة الاجتماعية العامة.

وهناك حجج فلسفية لفرض الطاعة للسلطة تستند إلى عدة مؤسسات ونظريات مركزية في الفلسفة السياسية من أهمها وأبرزها:

1.الضرورة الاجتماعية والنظام:

تفترض هذه الحجة أن البشرية بطبيعتها الأنانية تميل إلى التنازع والاستحواذ وتخلق الفوضى بدون سلطة مركزية تفرض النظام.

فوجود السلطة يحقق النظام والاستقرار الضروريين للحياة الاجتماعية المستقرة وهذا يلزم طاعة السلطة للحفاظ على النظام ومنع الفوضى.

2. العقد الاجتماعي:

حسب فلاسفة مثل "توماس هوبز" و"جان جاك روسو" فإن الأفراد يتنازلون عن جزء من حرياتهم لصالح سلطة سياسية مُنظمة في سبيل تحقيق الأمن والسلام وبالتالي فإن طاعتهم للسلطة تأتي من موافقتهم وتعاقدهم الاجتماعي الضمني.

3. الشرعية الأخلاقية:

من الطبيعي أن السلطة تكتسب حق فرض الطاعة إذا كانت تحقق المصلحة العامة والخير المشترك للجماعة فإذا انحرفت السلطة عن تحقيق هذه الأهداف تفقد شرعيتها وحق المطالبة بالطاعة.

4.السلطة والقوة:

من المهم التمييز بين القوة والسلطة حيث القوة هي القدرة على الإكراه في حين أن السلطة هي القدرة التي تستند إلى القبول والرضا والشرعية الأخلاقية ومن هنا لا يكفي وجود القوة لفرض الطاعة بل يجب أن تستند السلطة إلى قيم أخلاقية ومعتقدات تعزز قبول المحكومين لها.

5. المصدر الإلهي أو الميتافيزيقي:

تتخذ بعض النظريات موقفا يقيم السلطة على أساس ديني أو إلهي كما في النظريات الثيوقراطية التي تمنح السلطة مشروعية مطلقة استناداً إلى أن الحاكم ينفذ مشيئة إلهية- كما هي سلطة ولي الفقيه في إيران وسلطة ولي الأمر في السعودية وسلطة أمير المؤمنين ملك المغرب- وهو ما يبرر وجوب طاعته حيث يدخل عصيانه في باب المحرمات ومعارضته تكون كفراً  بالله وسننه.

كيف تبرر نظرية العقد الاجتماعي وجوب الطاعة تبريراً عقلياً؟

نظرية العقد الاجتماعي تبرر وجوب الطاعة للسلطة على أساس أن الأفراد يتخلون طوعا وبكامل إرادتهم بشكل صريح أو ضمني عن بعض حرياتهم وحقوقهم الطبيعية في مقابل حماية بقية حقوقهم والحفاظ على النظام الاجتماعي. هذا التنازل الطوعي هو جوهر العقد الاجتماعي الذي يؤسس شرعية السلطة السياسية.

وتؤكد أنه في حالة الطبيعة الأولى أي قبل وجود سلطة سياسية تُنظم الحياة كان الأفراد أحراراً لكن معرضين للفوضى والاقتتال ولا يمكن أن تستمر الحياة في الفوضى لذا يوافقون على تأسيس سلطة قوية تفرض النظام وتحمي الحقوق. فطاعة السلطة تأتي من قبولهم للعقد الاجتماعي الذي يضمن لهم الحماية والنظام وهو شرط لاستمرار السلطة وشرعيتها.

(جان جاك روسو) مثلاً يرى أن العقد الاجتماعي يقوم على "الإرادة العامة" وهي مصلحة المجتمع ككل التي ينبغي على الأفراد الإلتزام بها طواعية حفاظاً على الحرية المدنية التي تكافئ الحريات الطبيعية المقيدة بالتعايش المنظم. وعندما تفشل السلطة في تحقيق هذه المصلحة يجوز للمواطنين عدم طاعتها أو تغييرها.

بهذا توضح نظرية العقد الاجتماعي أن وجوب الطاعة ينبع من الموافقة الطوعية الإرادية للعقد الذي يكفل النظام والبقاء الاجتماعي وهو عقد بين الأفراد والدولة لضمان حقوقهم الأساسية وأمنهم ويُفقد الشرعية إذا لم تفِ الدولة بالتزاماتها تجاه المواطنين.

واجهت نظرية العقد الاجتماعي اعتراضات على مبررات الطاعة تتمحور حول نقاط نقدية جوهرية تشمل:

أولاً: خلافية مفهوم الموافقة الطوعية:

تعتمد النظرية على فرضية أن الأفراد يوافقون طوعاً على العقد الاجتماعي لكن الواقع يشير إلى أن غالبية الأفراد لم يبرموا اتفاقاً صريحا مع السلطة وبذلك يكون انضمامهم للسلطة قسريا أو مفروضا مما يثير مشكلة عدم وجود موافقة حقيقية أو اختيار حر.

ثانياً: تصور الوضعية الخيالية للطبيعة:

تعتمد النظرية على افتراض تصور لمشهد "حالة الطبيعة" الذي ليس له وجود تاريخي حقيقي مما يجعل بناء العقد عليها افتراضياً أو خيالياً وهذا يُضعف من مصداقية مبررات الطاعة القائمة على هذا العقد.

ثالثاً: اختلال توازن القوى والتفاوت الاجتماعي:

كذلك أن الظروف الاجتماعية والسلطوية التي تُفرض على بعض الأفراد تجعل فكرة التنازل الطوعي عن الحقوق غير عادلة أو ممكنة فالسلطة غالباً ما تكون ناتجة عن علاقات قوة غير متكافئة.

رابعاً: الافتراضات الأخلاقية والمصالح الذاتية:

تشكك بعض النظريات بأن الدافع الطوعي لطاعة السلطة مبني على الأخلاق أو الصالح العام بل هو يعبر عن مصالح ذاتية أو ضرورة اجتماعية مما يطرح تساؤلات حول واقعية هذا الالتزام ومدى شرعيته.

خامساً: عدم توافق الأطراف المتعاقدة:

هناك نقد على أن الأطراف الافتراضية في العقد الاجتماعي عادة ما تكون مثالية أو متجانسة في حين المجتمعات الحقيقية متنوعة ومتناقضة في المصالح والقيم ما يجعل افتراض توافق حقيقي على العقد ضعيفاً.

وفي النتيجة يعاني مبرر الطاعة في نظرية العقد الاجتماعي من ثغرات جوهرية تتعلق بجدوى الموافقة الافتراضية اعتمادا على تمثيل حالة الطبيعة والعدالة في فرض الطاعة على الأفراد في ظروف القوة والتفاوت الاجتماعي.

كيف ردت نظرية العقد الاجتماعي على اعتراضات مفهوم الموافقة الضمني؟

ترد نظرية العقد الاجتماعي على اعتراضات مفهوم الموافقة الضمني بأن الموافقة ليست بالضرورة أن تكون صريحة أو مكتوبة بل يمكن اعتبار الإقامة المستمرة والطوعية داخل مجتمع معين دليلاً على الموافقة الضمنية على قواعده وسلطته. لذا بمجرد أن يختار الفرد العيش في مجتمع ما والاستفادة من النظام والحماية التي توفرها الدولة فهو يوافق ضمنياً على الالتزام بالقوانين والسلطة التي تحكم هذا المجتمع.

و تؤكد النظرية أن الموافقة الضمنية تستند إلى قرار شخصي وعقلاني بالعيش في إطار اجتماعي معين مع التزام بالقواعد التي تنظمه وليس مجرد فرض قسري. كما يُعتبر القانون والسلطة شرعيين طالما أن الأفراد يستفيدون من النظام الذي يوفره العقد الاجتماعي ويُعد الالتزام به ضماناً لاستمرار الحماية والاستقرار.

وبالتالي حتى وإن لم يُعبر الفرد صراحة عن موافقته فإن اختياره للبقاء والعمل والنشاط داخل المجتمع يفترض موافقته وتنازله الضمني عن بعض الحريات مقابل المزايا التي يقدمها النظام. وفي حال رفض الأفراد السلطة أو رفضوا شروط العقد يمكنهم مغادرة المجتمع أو السعي لتغييره بطرق قانونية سلمية وهذا أيضاً جزء من رد النظرية على الانتقادات المتعلقة بالموافقة الضمنية.

باختصار النظرية تعتبر أن الطاعة والإلتزام الأخلاقي للسلطة السياسية قائم على موافقة ضمنية عقلانية تجسدها المشاركة المستمرة في المجتمع والالتزام بمبادئه للحفاظ على النظام والحماية التي يوفرها العقد الاجتماعي. وواضح الفرق بين الموافقة الصريحة والضمنية.

فالصريحة تتم عبر تعبير واضح وموثق للموافقة إما شفهياً أو كتابياً بحيث يكون هناك تأكيد مباشر من الطرف المعني على قبوله.

أما الموافقة الضمنية فتستنتج من الأفعال أو التصرفات التي تدل على قبول مثل البقاء في مكان معين أو استخدام خدمة ما دون تصريح.

ولتكتمل الصورة نستعرض أمثلة معاصرة لطاعة غير مبنية على العقد الاجتماعي تتضمن حالات يتم فيها الإذعان أو الالتزام بالسلطة أو النظام دون موافقة ضمنية أو صريحة مرتبطة بعقد اجتماعي وهذه الأمثلة تشمل:

1. السلطات الاستبدادية والديكتاتورية:

في دول تفرض حكومات استبدادية سلطتها بالقوة والإكراه أو القمع حيث يخضع الأفراد للسلطة بسبب الخوف وليس بموافقة أو عقد اجتماعي.

2. الالتزام بالروابط العرقية أو القبلية: حيث يتبع الأفراد سلطات أو زعماء قبليين بناءً على تقاليد وبنى اجتماعية قائمة وليس بناءً على عقد سياسي أو عقد اجتماعي حديث.

3. الطاعة الجماعية في الهياكل الإيديولوجية:

كما في حالات الجماعات الدينية المتشددة أو الحركات الأيديولوجية التي تفرض طاعة أعضائها وليس هناك دائما عقد اجتماعي أو قبول سياسي أساساً.

4. العلاقات الاقتصادية أو التبعية الاجتماعية:

مثل طاعة العمال في مواقف غير منظمة أو مناطق يحصل فيها العمال على حماية ضعيفة حيث الطاعة تنبع من التبعية الاقتصادية أو الاجتماعية وليس من عقد اجتماعي سياسي.

5. الطاعة الناتجة عن الإكراه أو الظروف القهرية:

بما في ذلك الحالات التي تكون فيها السلطة مفروضة من الخارج أو عبر تدخلات عسكرية أو احتلال حيث لا يكون هناك اتفاق أو عقد اجتماعي بين المحكومين والسلطة.

هذه الأمثلة تعكس طاعة مستمدة من القوة أو التقاليد الاجتماعية أو القسر وليس من مبررات العقد الاجتماعي التي تعتمد على الموافقة والاتفاق بين الأفراد والسلطة السياسية.

بذلك تكون نظرية "العقد الاجتماعي" هي أرقى وأفضل النظريات التي تبرعمت من عقل البشر لضمان أمن واستقرار المجتمع الإنساني وديمومته.

***

سليم جواد الفهد

...................

المصادر المستفاد منها.

1.تأويلية السيادة في الفلسفة السياسية المعاصرة - سامي الغابري.

2.الدكتور، أبو يعرب المرزوقي، الفلسفة السياسية.

3.العقد الاجتماعي الأسس النظرية وأبرز المنظرين، مكي عبد مجيد.

4.أوجه الاختلاف بين روسو وهوبز ولوك في نظرية العقد الاجتماعي، حاتم حميد محسن.

5.السلطة وطاعة الجماهير في بحوث ستانلي ميلكرام، سلام طه.

6.الدولة نظرياً وعملياً، هارولد ج. لاسكي.

7.ستنالي مليگرام، في طاعة البشر للسلطة.

8.توماس هوبز: الفلسفة الأخلاقية والسياسية.

9.فلسفة الحجاج القانوني: بين شمولية السلطة وعنف الأيديولوجيا. مقالة لـ شاييم بيرلمان ترجمها أنور طاهر.

10.إيمانويل كانط، العقد الاجتماعي، والدولة.

11.العقد الاجتماعي" لـ "جان جاك روسو"، عادل زعيتر.

 

حين يصبح "تتويج العلم" مرادفا لـ "عبث الاوراق البحثية"

يشهد المشهد الاكاديمي العراقي، ولا سيما قطاع التعليم العالي والبحث العلمي، مفارقة صادمة تزداد حدة ووضوحا يوما بعد يوم. فبينما تعلن الوزارة عن انجازات وتكريمات وارتفاعات قياسية في التصنيفات العالمية، يرتفع في المقابل منسوب التساؤل والشك حول جودة هذا الصعود واساسه الاخلاقي والمهني.

تتركز الانتقادات الموجهة الى وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، في ظل قيادة وزيرها الحالي، الدكتور نعيم العبودي، حول محوران اساسيان، يشكلان معا ما يسميه المراقبون "ازمة النزاهة العلمية" في العراق:

اولا: ازمة البحوث المسحوبة.. "طوفان" الاوراق الزائفة

لم يعد خافيا على احد في الاوساط الاكاديمية العالمية تزايد اعداد البحوث العراقية التي تسحب (Retraction) من المستوعبات العالمية المرموقة كـ "سكوبس" و"كلاريفيت". ان هذه الظاهرة ليست مجرد "هفوات" فردية، بل اضحت مؤشرا خطيرا على انحدار مريع في النزاهة العلمية، حيث تحولت اهداف بعض الباحثين من انتاج المعرفة الى تجميع الارقام لغرض الترقيات الادارية والاكاديمية.

الاتهام المباشر هنا هو ان سياسات الوزير ووكيله، التي تربط الترقيات بشكل مباشر بـ "كم" النشر في المجلات المفهرسة، شجعت بشكل غير مباشر على ظهور ما يعرف بـ "المجلات المفترسة" و"مصانع الابحاث". فبدلا من تطبيق اليات رقابة صارمة تضمن الجودة وتعاقب التلاعب، يرى المنتقدون ان الادارة الحالية ركزت على الاحتفاء بالارقام المتضخمة دون تمحيص، ليصبح "تتويج العلم" مرادفا لـ "عبث الاوراق"،  واصبح "الانتاج الاكاديمي" مرادفا ل "الفساد الاكاديمي" .

ثانيا: تسييس الاكاديميا وتغليب الولاء على الكفاءة

تتفاقم الازمة بسبب الطابع السياسي الذي يراه الكثيرون يطغى على ادارة هذا القطاع الحيوي. فالوزير، الذي ينتمي الى تيار سياسي بارز، يواجه اتهامات واسعة بـ تسييس المؤسسة التعليمية وتغليب اعتبارات الولاء السياسي والحزبي على معيار الكفاءة الاكاديمية والخبرة المتخصصة.

ان تعيين شخصية بخلفية سياسية بحتة لادارة وزارة اكاديمية حساسة كوزارة التعليم العالي، يطرح علامات استفهام حول اولوية الوزارة: هل هي الارتقاء بمستوى البحث العلمي وجودة التعليم، ام تحقيق مكاسب سياسية وفئوية؟ وتزداد هذه المخاوف حين تسجل قرارات تتعلق بادخال مناهج ذات صبغة عقائدية معينة في الدراسات الجامعية، مما يعزز الراي القائل بان المؤسسة الاكاديمية تستغل كاداة لتوجيه النخب والطلاب بدلا من تحرير العقل والبحث.

خاتمة: بين الانجاز الحقيقي والوهم الرقمي

لا شك ان الوزارة تعلن عن منجزات رقمية واهية، من زيادة في عدد الجامعات المصنفة عالميا وارتفاع في اعداد الابحاث المنشورة. لكن السؤال الذي يطرحه النقد الجاد هو: هل هذه الارقام حقيقية؟ وهل تعكس حقا تطورا مستداما في جودة التعليم، ام هي مجرد "فقاعة" رقمية قابلة للانفجار؟ جميع الشواهد تؤكد: ما نراه ليس الا تزييفا متعمدا وتضخيما مبالغا فيه.

لقد اصبحت المؤسسات التعليمية في العراق في مفترق طرق: اما الانزلاق الكامل نحو الهاوية عبر الاستمرار في سياسة التضخيم الرقمي التي تشجع على الفساد الاكاديمي، او اطلاق ثورة حقيقية في النزاهة والجودة تبدا بمعاقبة المتلاعبين وابعاد الشبهات السياسية عن العملية التعليمية.

ان "يوم العلم" يجب ان يكون يوما لتكريم النزاهة والعمل الجاد، لا ان يتحول الى مسرح لتتويج من اثقلته شبهات التلاعب وفقدان الامانة العلمية. اذا لم يتم تصحيح المسار، فان الخسارة لن تقتصر على سمعة الجامعات، بل ستمتد لتضرب اسس مستقبل العراق الفكري والمعرفي.

***

ا. د. محمد الربيعي

في المثقف اليوم