قضايا

بين نقد السلطة وإعادة تفكيك أساطير السياسية والثقافية

في خضم الصراع السوداني المستمر منذ 15 أبريل 2023، بين قوات مليشيا السريع ومليشيا الجيش السوداني المستلب من الجبهة الإسلامية، يجد المثقف السوداني نفسه في مأزق تاريخي يكشف عن عمق أزمته، لا بوصفها أزمة موقف فحسب، بل بوصفها جزءًا من البنية الكلية التي أنتجت هذا الصراع.
لقد أصبح المثقف، الذي كان يُنتظر منه أن يكون مرشدًا للوعي، جزءًا من معارك فكرية جانبية لا تزيد المشهد إلا تشرذمًا، مما يكشف عن هشاشة التصورات التي تحكم وعيه السياسي والاجتماعي.
إذا كان أنطونيو غرامشي قد رأى في المثقف العضوي ذاك الذي يتصل بالجماهير ويعيد تشكيل وعيها، فإن المثقف السوداني، في هذه اللحظة، يبدو وكأنه قد استقال من دوره التاريخي، أو بالأحرى، قد أُجبر على أن يكون امتدادًا لصراعات السلطة بدلًا من أن يكون ناقدًا لها.
لكن هذه الاستقالة ليست مجرد خلل فردي أو ضعف في الإرادة، بل هي نتاج تاريخ طويل من التشظي الأيديولوجي، ومن انخراط المثقف في شبكات السلطة، سواء عبر سياسات الاحتواء أو عبر إقصائه من المجال العام.
وهنا تبرز أسئلة أعمق: هل كان المثقف السوداني يومًا ما خارج هذه الدوامة أصلًا؟ أم أن مفهوم “المثقف المستقل” ذاته هو مجرد بناء مثالي لا وجود له في واقع تتحكم فيه بنى الدولة العميقة؟
إن التحدي الحقيقي لا يكمن فقط في انحياز المثقفين إلى أحد طرفي الصراع، بل في كيفية تحولهم إلى أدوات خطابية داخل هذا الصراع نفسه.
فالعديد من المثقفين الذين كانوا يحلمون بوطن ديمقراطي، وجدوا أنفسهم في لحظة ما أمام خيانة العسكر للشراكة الهشة مع القوى المدنية، مما أصابهم بإحباط عميق جعلهم يتنقلون بين مواقعهم الفكرية دون وعي نقدي.
ومن جهة أخرى، هناك من تحركه دوافع تاريخية للثأر من المركز، متجاهلًا أن العدو الحقيقي هو التحالف بين الجبهة الإسلامية والانتهازيين الذين التفوا حولها، وحركات الكفاح المسلح التي تحولت إلى مشاريع ارتزاق، لا مشاريع تحرر.
إن هذا التوزع الفكري لا يمكن فهمه دون العودة إلى تاريخ طويل من إعادة إنتاج الهيمنة في السودان.
فمنذ الاستعمار البريطاني، مرورًا بالحكومات العسكرية المتعاقبة، ظل المثقف في موقع المتلقي أكثر منه في موقع الفاعل.
إن أحد أبرز الإشكالات التي واجهها المثقف السوداني هو كونه لم يمتلك يومًا سلطة معرفية مستقلة؛ فقد كانت الدولة، سواء في عهد الإسلاميين أو ما قبلهم، قادرة على دمجه داخل آلياتها، سواء عبر استقطابه إلى أجهزتها الثقافية أو عبر تهميشه إلى حد يجعله خارج أي تأثير حقيقي.
ومن هنا، يمكن قراءة أزمة المثقف السوداني في ضوء ما طرحه بيير بورديو حول “إنتاج المعرفة”، حيث يظل المثقف محكومًا بعلاقته مع الحقل السياسي، لا بوصفه فاعلًا حرًا، بل بوصفه جزءًا من شبكة المصالح التي تحدد موقعه وإمكانية تأثيره.
لكن هذا لا يعني أن المثقف السوداني مجرد ضحية، بل هو، في كثير من الأحيان، جزء من آليات إنتاج الهيمنة التي يدّعي معارضتها.
فخطاب الهوية الذي يرفعه بعض المثقفين اليوم ليس سوى امتداد لخطاب السلطة نفسه، حيث يتحول النقد إلى إعادة إنتاج لثنائية “المركز والهامش” دون تفكيك البنية العميقة التي تجعل هذه الثنائية ممكنة.
وهنا يمكن استدعاء مفهوم ميشيل فوكو عن السلطة، بوصفها ليست مجرد قمع من الأعلى، بل علاقات قوة معقدة تتغلغل حتى في الخطابات التي تبدو معارضة لها.
فحين يتبنى المثقف خطابًا يرى في المركز عدوًا مطلقًا، دون وعي نقدي لمسألة أن السلطة ليست حكرًا على المركز، بل تمتد إلى الهامش نفسه عبر أدوات أخرى، فإنه يقع في إعادة إنتاج نفس البنية التي يسعى إلى هدمها.
وإذا كان المثقف السوداني قد عانى تاريخيًا من القمع والتهميش، فإنه في اللحظة الحالية يعاني من شيء أكثر تعقيدًا: أزمة المعنى.
فمع التحولات المتسارعة، ومع سقوط المشاريع الكبرى، لم يعد هناك خطاب متماسك يمكنه أن يقدم أفقًا للخروج من هذه الدوامة.
هنا، يمكن الاستشهاد بإدوارد سعيد، الذي يرى أن المثقف يجب أن يظل في موقع “المنفي”، لا بمعنى النفي الجغرافي فقط، بل النفي المعرفي الذي يبقيه في موقع المساءلة المستمرة لكل الخطابات السائدة.
لكن أين يقف المثقف السوداني اليوم؟ هل هو في موقع النقد، أم أنه قد تحول إلى مجرد صدى للأحداث، يتحرك وفق ديناميات الصراع لا وفق رؤية نقدية مستقلة؟
إن هذا المشهد يجعل من الضروري إعادة التفكير في دور المثقف، لا بوصفه مجرد معلق على الأحداث، بل بوصفه فاعلًا في إعادة تشكيل الوعي الجمعي.
لكن هذا الدور لا يمكن أن يتحقق دون تفكيك العلاقة المعقدة بين المثقف والسلطة، ودون إدراك أن الانحيازات العاطفية والسياسية ليست بديلًا عن التحليل النقدي العميق.
إن أزمة المثقف السوداني ليست فقط في مواقفه، بل في بنيته الفكرية ذاتها، التي تجعل من الصعب عليه أن يكون خارج دائرة الاستقطاب.
وهنا تكمن المعضلة الكبرى: كيف يمكن للمثقف أن يكون جزءًا من الواقع، دون أن يكون أسيرًا له؟ كيف يمكنه أن ينخرط في الصراع، دون أن يصبح مجرد امتداد لأحد أطرافه؟ وكيف يمكنه أن يعيد تعريف دوره، دون أن يقع في فخ المثالية التي تجعله معلقًا بين السماء والأرض؟
ربما يكون الحل في تجاوز النموذج التقليدي للمثقف، ذلك الذي يرى نفسه فوق الصراع، إلى نموذج أكثر ديناميكية، يعي أن المعرفة ليست محايدة، لكنها أيضًا ليست مجرد سلاح في معركة سياسية آنية.
إن إعادة بناء دور المثقف السوداني تتطلب تفكيك الأوهام التي تحيط به، والاعتراف بأنه ليس مجرد ضحية، لكنه أيضًا جزء من البنية التي أنتجت هذا الواقع.
عندها فقط، يمكن للمثقف أن يستعيد دوره، لا بوصفه مجرد ناقد، بل بوصفه فاعلًا في إنتاج واقع جديد، يتجاوز ثنائية السلطة والمعارضة، نحو أفق أكثر رحابة، حيث يكون النقد ليس مجرد رد فعل، بل ممارسة مستمرة لإعادة تعريف العالم.
بالنظر إلى التحولات التي يشهدها السودان اليوم، فإن المثقف السوداني أمام فرصة جديدة لإعادة تشكيل دور أكثر تفاعلًا مع التغيرات الاجتماعية والسياسية.
عليه أن يطور أدوات معرفية وأيديولوجية تتجاوز الانقسام بين المركز والهامش، وتتحرك نحو بناء أرضية مشتركة تسهم في تقديم رؤية أوسع للمستقبل.
من خلال مشاركة أعمق في قضايا المجتمع، وليس فقط في القضايا السياسية، يمكن للمثقف أن يسهم في تجديد الأمل وإعادة بناء الوعي الجماعي، الذي قد يساهم في الخروج من الأزمة الحالية.
ربما يكون الطريق إلى هذا التغيير عبر التفكك من النموذج التقليدي للمثقف، الذي يتخيل نفسه فوق الصراع السياسي، ليأخذ موقعًا أكثر انسجامًا مع الحركات الاجتماعية القائمة على أرض الواقع.
فهذا التحول يتطلب تحولًا في الوعي المعرفي، بأن المعرفة ليست محايدة، ولا مجرد أداة في معركة، بل هي وسيلة لبناء أفق جديد وواقعي.
***
إبراهيم برسي

التطهير، الهاربيات، الهامارتيا، وغيرها
ناتاشا بولي تتحدث عن كلماتها اليونانية المفضلة
بقلم: ناتاشا بولي
ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم
***
مؤلفة ترنيمة إلى ديونيسوس تستكشف تقاطع المعاني في اللغات
***

خلال الجائحة، بدأتُ بكتابة كتاب عن الإله اليوناني ديونيسوس. لطالما رغبتُ في ذلك، لأنني أعتقد أنه لا يحظى حتى بنصف الاهتمام الذي يستحقه مقارنةً بجميع الآلهة الأخرى التي نراها في روايات الأساطير... ناهيك عن أنه إلهٌ لأشياء رائعة (تحذير: ليس النبيذ فقط).
لكن رغم أن جميع النصوص عنه قد تُرجمت إلى الإنجليزية، شعرت أنني لا أرى سوى صورة جزئية له وللعالم الذي أتى منه. فالإنجليزية لغة غريبة ومتنوعة، ويمكن أن تكون الترجمات الإنجليزية للنصوص اليونانية خادعة، مليئة بأنواع مختلفة من الأخطاء غير الدقيقة التي لا تصل إلى حد كونها أخطاء ترجمة صريحة، خاصة إذا كانت الترجمة قد أُنجزت منذ زمن طويل. لذلك، اشتريت بعض الكتب الدراسية، وتعلمت ما يكفي من اليونانية الكلاسيكية لقراءة بعض مصادري في لغتها الأصلية. قيل لي إن هذا ليس سلوكًا طبيعيًا، لكنني أحببته.
أحد الأسباب التي جعلتني أستمتع بذلك كثيرًا هو أنه عندما تبدأ في مقارنة الكلمات التي تحمل المعنى نفسه عبر لغتين، يحدث شيء مذهل حقًا. فرغم أن الكلمات التي تصف أشياء مادية، مثل "قطة" أو "تل"، تتطابق تمامًا، إلا أنه عندما يتعلق الأمر بالأفكار أو المشاعر أو الألوان أو أي شيء آخر يقع على طيف من المعاني، فإنها نادرًا ما تتطابق بنفس الدقة.
ما تجده في الواقع هو أشبه بمخطط فنّي للمعاني، حيث يوجد تداخل يدركه متحدثو اللغتين... لكن هناك ظلالًا جانبية لا تتطابق تمامًا على أي من الطرفين. وعندما أتعلم لغة جديدة، فإن أكثر ما يسعدني هو البحث عن تلك الكلمات. غالبًا، تكون هذه الظلال غير المتطابقة هي الكلمات التي قد تجعلك تبكي وحدك ليلًا، لكنها أيضًا الأكثر كشفًا، لأنها توضح أمرًا بالغ الأهمية: الفرق في الأولويات بين اللغات المختلفة، وبالتالي الطريقة التي تشجع بها متحدثيها على التفكير.
إليك بعضًا من كلماتي اليونانية المفضلة:
التطهير: (Catharsis)
أحب هذه الكلمة، لأنني أحب كل ما يتعلق بديونيسوس، والتطهير هو جوهر ما يمثله. بشكل تقريبي جدًا، تعني شيئًا مثل "التحرر"... لكن هذا الوصف قد يكون مضللًا في الإنجليزية. فهي تعني أيضًا "التنقية" أو "التطهر" بمعنى طبي، ديني، أو شعائري، وقد عانى المترجمون دائمًا مع هذه الكلمة لأن معناها غامض وواسع الدلالة فى ذات الوقت .
تلعب هذه الكلمة دورًا محوريًا في المسرح والسرد القصصي. في كتابه فن الشعر، يقول أرسطو إن الوظيفة الأساسية للمأساة هي تحقيق التطهير. ومن المثير للاهتمام أن المهرجان الأثيني العظيم للمسرح كان يُسمى ديونيسيا، وكانت المسرحيات تُقدَّم تكريمًا لِديونيسوس. هناك خلاف بين الباحثين حول السبب، لكن الأمر يبدو منطقيًا بالنسبة لي. السكر، الجنون المؤقت، المسرح، الجنس... جميع هذه الأشياء مرتبطة بديونيسوس، وجميعها تدور حول فكرة التحرر: ذلك الإحساس بأنك تتخلى عن شيء ما، وتُبعث من جديد بفضل ذلك.
الهاربي (Harpy):
لقد سمع كثير منا عن الهاربيات، تلك النساء المجنحات المرعبات ذوات المخالب. يُعتقد أن الكلمة مشتقة من الفعل اليوناني harpazien، الذي يعني "يخطف"، ولذلك يمكن ترجمة harpy إلى "الخاطفات". لكن الأمر الرائع هو أن الكلمة تُستخدم أيضًا للإشارة إلى الزوابع الهوائية. عندما يذكر بعض الكُتّاب، مثل هيرودوت أو لوقيان الساموساتي، أن البحّارة رأوا الهاربيات تعصف فوق البحر، فإنهم في الواقع يشيرون إلى الأعاصير. ارتبطت الهاربيات بالعواصف والرياح العاتية بسبب عنف طيرانها، مما أدى إلى استخدام الكلمة نفسها لوصف كل من الظاهرة الجوية والمخلوقات الأسطورية.
الدراخما (Drachma):
كانت الدراخما وحدة نقدية ثم أصبحت عملة معدنية، لكن معناها الحرفي هو "حفنة" أو "قبضة". في الأصل، كانت تشير إلى حفنة من الأوبولوي—وهي رماح معدنية صغيرة مصنوعة من البرونز أو الحديد أو النحاس، كانت تُستخدم كعملة. كان هذا النظام غير عملي للغاية، وربما كان ذلك متعمدًا. على الأقل في سبارتا، يبدو أن هناك شكًا جادا في جدوى أي نوع من العملات الموحدة، رغم أن التعاملات المالية الأوسع في البحر الأبيض المتوسط كانت تُجرى غالبًا باستخدام التالنت—وحدة وزن—من الفضة. قد يكون جعل المال صعب الاستخدام إحدى الاستراتيجيات التي اعتمدتها بعض الدول اليونانية للحد من انتشار الاقتصاد النقدي.
الهامارتيا (Hamartia):
عادة ما نتعلم في المدارس أن الهامارتيا تعني "العيب القاتل"، لكنها كلمة خادعة. في اليونانية الكلاسيكية، هي مصطلح ضمن مصطلحات رياضة الرماية، وتعني حرفيًا "الإخفاق"، أي أن تخطئ الهدف—وبالتالي، فهي تشير إلى خطأ أو سوء تقدير.
في الإلياذة، تتمثل هامارتيا أخيل—أي خطؤه—في أنه يعلن الإضراب عن القتال ولا يدرك أن باتروكلُس سيأخذ مكانه. قد يكون ذلك تصرفًا غبيًا بعض الشيء، لكنه ليس عيبًا قاتلًا في شخصيته؛ بل هو سوء تقدير.
لكن هناك منعطفًا غير متوقع: بعد خمسة قرون، بحلول زمن العهد الجديد، تغيّر معنى الكلمة. في الكتاب المقدس، أصبحت hamartia تعني "الخطيئة". من المغري جدًا إسقاط هذا المعنى على النصوص الكلاسيكية... لكن كبرياء أخيل لا يُصوَّر كخطيئة في الإلياذة، كما أن جهل أوديب بحقيقة مولده لا يُعتبر خطيئة في حد ذاته. إنها مجرد أخطاء يمكن تفهمها، لكنها تؤدي إلى عواقب مروعة.
خالكوس (Khalkos):
تعني هذه الكلمة البرونز أو النحاس، لكنها أيضًا اللون الذي استخدمه الإغريق لوصف السماء. لا توجد كلمة محددة تعني "الأزرق" في اليونانية القديمة. وهذه نقطة رائعة توضح كيف ترسم اللغات حدود الألوان بشكل مختلف.
في اليابانية القديمة، كانت كلمة aoi تُستخدم للإشارة إلى الأخضر والأزرق معًا، كلون عام يعبر عن الطبيعة. في الروسية، هناك تمييز واضح بين الأزرق الداكن والفاتح، تمامًا كما تفرق الإنجليزية بين الأحمر والوردي. أما في بعض اللغات، مثل اليونانية الكلاسيكية، فقد كان الأولوية لتحديد درجة السطوع أو العتمة أكثر من تحديد اللون نفسه. لا يعني هذا أن الناس كانوا يرون الألوان بشكل مختلف، بل فقط أنهم كانوا يفكرون فيها بطريقة مختلفة.
كانت هناك كلمة في اليونانية القديمة تُستخدم أحيانًا لما نسميه بالأزرق في الإنجليزية، وهي kyanos، والتي اشتُقت منها كلمتنا الحديثة "cyan" (السماوي). لكنها كلمة غامضة. فقد استُخدمت لوصف حجر اللازورد، ولكن في ترنيمة إلى ديونيسوس الهومرية، توصف عيون ديونيسوس بأنها kyanos... وكذلك شعره! ما لم يكن شعره أزرق اللون (وهذا غير مرجح، للأسف)، فإن الكلمة كانت تعني ببساطة لونًا غامقًا وعميقًا.1255 my word

كتاب "ترنيمة ديونيسوس" للكاتبة ناتاشا بولي متوفر لدى دار بلومزبري.
***

......................
الكاتبة: ناتاشا بولي/ Natasha Pulley: ناتاشا بولي: الكاتبة الأكثر مبيعًا عالميًا لروايات "ترنيمة ديونيسوس"، و"صانع ساعات شارع فيليجري"، و"أكوام المهجورة"، و"مستقبل بيبرهارو المفقود"، و"الممالك"، و"نصف حياة فاليري ك". فازت بجائزة بيتي تراسك، ورُشِّحت لجائزة نادي المؤلفين لأفضل رواية أولى، وجائزة إنكور من الجمعية الملكية للآداب، وجائزة ويلبر سميث للكتابة المغامرة، ورُشِّحت أيضًا لجائزة والتر سكوت. تعيش في بريستول، إنجلترا.

 

مسلسل معاوية بن أبي سفيان الّذي يعرض في رمضان هذا العام، والّذي من إنتاج إم بي سي؛ أحدث جدلا في الأوساط المعرفيّة والدّينيّة والمذهبيّة، وتعدّدت القراءات حوله، بين مؤيد ومعارض، ومحرّم ومشجع، ولكل وجهته ونظرته، فمعاوية بن أبي سفيان (ت 60هـ) من أكثر الشّخصيّات الجدليّة في تأريخنا الإسلاميّ، فكونه عاش في الشّام، وكان واليا عليها؛ استطاع تكوين مملكة أكثر انفتاحا على الثّقافات الأخرى، واتّساعا جغرافيّا، ولكون غالب تأريخنا كتب بعد العهد الأمويّ، ولأن التّأريخ يكتبه المنتصر عادة، فطبيعيّ أن تختزل هذه الفترة من الحكم الأمويّ في صراعات سلبيّة، لتصبح العديد من الرّوايات التّأريخيّة أشبه بالمسلّمات القطعيّة، والّتي يتصارع حولها العقل المسلم حتّى اليوم، فتشكلت في آراء لاهوتيّة كلاميّة مدارها التّعصّب للشّخوص والتّأريخ.
لا أريد الحديث عن الجدل الفقهيّ حول تصوير بعض الشّخصيّات التّأريخيّة كالصّحابة أو حتّى الأنبياء، فهو جدل متكرّر منذ فلم الرّسالة (1976م) وحتّى اليوم، وسبق أن كتبت عنه أثناء الضّجيج حول مسلسل عمر بن الخطّاب (2012م)، بيد أنّ الدّراما أقوى بكثير، فلم تعد تنتظر فتوى تبيح له أو تمنع، ولم يعد المشاهد يعتني بها كثيرا، وكثيرا ما يتجاوزها الواقع بعد ضجيجها، وقد تتغيّر رؤيتها هي ذاتها بعد عرض المسلسل، ما أريده هنا التّركيز حول هذه المسلسلات أو الأفلام التّأريخيّة وقضيّة تقديس الشّخوص والتّأريخ.
إنّ المتأمل في العديد من صراعاتنا اليوم تدور حول تقديس الشّخوص والتّأريخ، ومثل هذه المسلسلات والأفلام اتّفقنا ابتداء في أحداثها ووقت عرضها، أم اختلفنا معها، تكشف لنا هذين الأمرين، وقد شكّلا لنا الدّين التّأريخيّ، والّذي أخذ قداسة تأريخيّة أكثر منه جانبا نصيّا أوليا، على أنّ ثقافتنا في الدّين التّأريخيّ اليوم هي ثقافة عبّاسيّة، وقد تشكلت فيها العقليّة اللّاهوتيّة عند أغلب المذاهب الكلاميّة الإسلاميّة، وظهرت فيها النّزعة العلويّة، والّتي ترى لها خصوصيّتها في البيت القرشيّ، لتتحول مع وضع النّصّ الثّاني إلى قضيّة نصيّة لاهوتيّة مغلقة، لتدخل هذا التّأريخ في دائرة المقدّس، أو الدّين التّأريخيّ.
عندما ينزع المرء هذا الدّين التّأريخيّ من عقليّته، ويبدأ قليلا ينزوي مع النّصّ الأول أي القرآن، يجد القرآن ذاته ينزع القداسة عن الشّخوص والتّأريخ، ويجعل مدار الدّين يدور حول الإله ذاته، بعيدا عن إشراك أيّ مخلوق معه ولو كان ملكا أو رسولا، فنجد القرآن يتطرّق مثلا إلى الأنبياء، بيد أنّك لا نجد تلك القداسة كما في العقل الجمعيّ اللّاهوتيّ {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا، أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} [الفرقان: 7 – 8]، وقال حكاية عن نبيّه محمّد – عليه السّلام – مع قومه: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا، أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا، أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ، قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} [الإسراء: 90 – 93]، وعاتب نبيه في مواضع منها {عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} [التّوبة: 43]، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [التّحريم: 1].
وفي السّياق التّأريخيّ أسهب القرآن مثلا في ذكر تأريخ بني إسرائيل في مصر، وصراعهم مع فرعون، وما أحدثوه مع نبيّهم موسى – عليه السّلام – من بعد الخروج، وحتّى مرحلة التّيه، كما في بدايات سورة البقرة، ومع هذا ختم تلك الآيات التّأريخيّة بقوله: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 134]، وعلّق الهداية بما تحويه قصصهم وسيرهم من مثل وعبر، ولم يعلّق ذلك على شخوصهم، {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف: 111]، {أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]، ومع ذكر القرآن للعديد من الأنبياء بيد أنّه لم يتطرّق إلى ذواتهم وأشكالهم ولباسهم وطعامهم وحركات نومهم ويقظتهم إلّا في مدار العبرة، ولم يجعلهم شركاء معه لتضفى إليهم قداسة لاهوتيّة مغلقة أوصلها بعض الغلاة من الأخباريين نتيجة روايات النّصّ الثّاني إلى الشّراك التّكوينيّ في التّصرّف بالكون ذاته.
والمتأمل في غالب المذاهب الكلاميّة الإسلاميّة اليوم يجد عكس النّهج القرآنيّ تماما، فتشكلها بدأ منذ حادثة السّقيفة وحتّى مقتل عثمان، فالجمل والنّهروان وصفّين وكربلاء لاحقا، جميع هذه الأحداث السّياسيّة قطعا حدثت بعد وفاة الرّسول، وبعد إنزال النّصّ الأول، فهي حالة تأريخيّة تشكلت لاحقا لا يمكن جعلها في زاوية النّصّ المقدّس، وإلّا كان النّصّ الأول ناقصا ليس كاملا، ولا معنى لآية إكمال الدّين؛ لأنّه لم يكتمل بإنزال النّصّ، ولم يصبح المدار هنا هو الله المطلق، بل أصبح المدار هم ما دونه من الشّخوص والمخلوقات.
على أنّ هذه الحوليّات غالبها دونت متأخرا، وركزت بشكل كبير على الصّراعات السّياسيّة، والّتي نقلت حسب رؤية المدون المذهبيّة، أو السّياسة الّتي ينتمي إليها، ليختصر ما يقارب نصف قرن في صراعات سياسيّة قبليّة مدارها ابتداء بين الأنصار المتمثلين في الأوس والخزرج، والمهاجرين المتمثلين في قريش، ثم صراع المهاجرين في بطون قريش ذاتها، ثمّ من له قرابة بالنّبيّ في مجاله الأوسع كعمّه العبّاس، أو الأضيق في البطنين، ليهمل التّأريخ - كطبيعة الحوليّات - الجوانب الحضاريّة والثّقافيّة، وبهذا يصورون لنا أنّ هذا الدّين كان من أعظم نتائجه وبعد وفاة النّبيّ ذاته هذه الدّماء، وهذه الصّراعات القبليّة، وجميعهم يرجعون إلى ذات المنزع، وكانوا أقرب النّاس إلى النّبيّ – عليه السّلام -، لأنّ المنتصر لاحقا، بعقليّته اللّاهوتيّة والسّياسيّة المغلقة، أراد أن يكون التّأريخ هكذا، ومن زاوية مغلقة لأجل انتصارات مذهبيّة وسياسيّة، كما غيّب تأريخ أمم أخرى لا علاقة لها بالحجاز ومنطقة الصّراع، وكانت أكثر ثراء واستقرارا، لتضيق ثقافة هؤلاء جميعا لاحقا، ويعيشوا رهين صراعات هذه الفترة في هذه المنطقة بالذّات من عالمهم الجغرافيّ الأوسع حينها، وكأنّه لا وجود لهم، واختفوا من لحظة التّأريخ.
هذه الصّراعات التّأريخيّة – للأسف – شكلّت الدّين التّأريخيّ الّذي نرى نتائجه اليوم، ومداره لا يتجاوز تقديس الشّخوص والتّأريخ، ولأجلهما صيغت الرّوايات، وفسّر النّصّ الأول، واستخدم حتّى المنطق والفلسفة لتغلق كلاميّا لأجل صراعات تأريخيّة، شكلت هذا المقدّس التّأريخيّ لأكثر من ألف عام، والّتي أصبحت أقوى من النّصّ الأول، فخضع المطلق للنّسبيّ، والقيم للتّأريخ، لنعيش هذا التّأريخ في أجوائه الكلاميّة والمذهبيّة المغلقة، وطبيعيّ ما نراه من جدل حول مسلسل معاوية بن أبي سفيان، فهو إمّا أن يرهن لغايات سياسيّة ومذهبيّة مسبقة، لتكون الدّراما السّينمائيّة اليوم مكان الرّوايات الحديثيّة والتّأريخيّة بالأمس، أو أن يتجاوز العقل المعرفيّ والدّراميّ ويشكّل مرحلة جديدة في قراءة التّأريخ من خلال الدّراما، لا علاقة لها بالمقدّس أو تكريس قداسة التّأريخ، وأن تكون غاياتها نهضة الإنسان المسلم اليوم.
***
بدر العبري – سلطنة عمان

 

سرمدية هي المسافات من العماء الأول الى الانتشار الزماني، من خلال الكلمة أيدينا تكتب وليس هناك فاصل بين عصر المدافن وعصر الانحطاط، تصورنا عن ماهية الاسبقيات ...! اللغة هل هي صوت ام كتابة...؟ هل كانت اللغة واحدة تكب بحروف مختلفة ام كانت هناك لغة السلطة ولغة العامة...؟ الكلمات لا تتطابق لكن اللغة تبقى تأويلية في الخطاب المنقول، كون البناء الفني للغة يحمل طاقة الغموض ويعلن تدخلاته في فضاء اللغة، يحترم استقلالية القارئ، بذلك يكون الاحتباس الثقافي ظاهرة يتم فيها تقييد الثقافة داخل حدود معينة، مما يؤثر على تطورها وتفاعلها مع ثقافات أخرى موازية. على الاغلب يكون الاحتباس ناتجًا عن عوامل اجتماعية، سياسية، أو اقتصادية، تُفرض قيود على التعبير الثقافي والفني تؤدي إلى طغيان ثقافة معينة على أخرى، مما يهدد التنوع الثقافي الذي بدوره يمنع التبادل الثقافي ويعزز الانغلاق وتنشا عنه سيادة ثقافية محددة، بالتالي عقدة بروكوست المستمدة من الأسطورة اليونانية، بروكوست كان يقوم بتعديل طول ضيوفه لتناسب سريره، سواء بتطويلهم أو بقطع أطرافهم ويعمل على إعادة الترتيب طبقا لمقارباته الخاصة ، هذا المفهوم يُستخدم للدلالة على التكييف القسري، حيث يُجبر الأفراد أو الثقافات على التكيف مع معايير أو أفكار محددة، مما يعوق التنوع والاختلاف ويؤدي إلى رفض الأفكار أو التوجهات الجديدة لمجرد أنها لا تتناسب مع المعايير السائدة ،هذا المفهوم يعكس الصراعات الثقافية والفكرية في المجتمعات ذات الثقافة المؤد لجة فكريا ،هذه المفاهيم تتطلب التفكير نقديا حول كيفية تعزيز الحوار الثقافي وتقبل الاختلافات، مما يسهم في تطوير المجتمع بشكل أكثر شمولية وحرية.
العوامل والأسباب
الرقابة والقمع، فرض قيود على حرية التعبير والإبداع، يمنع ظهور أفكار جديدة ،أنظمة الحكم التي تروج لفكر واحد تمنع التنوع، التعصب الديني أو القومي والتحامل ضد ثقافات أو ديانات أخرى، يؤدي إلى تهميشها ،فرض قيود على الممارسات الثقافية للأقليات تؤدي إلى طغيان ثقافة معينة على اخرى، مما يؤثر سلبًا على التنوع الثقافي، تحويل الثقافة إلى منتج تجاري تحت تأثير نظام التفاهة، مما يقلل من عمقها ومعناتها، نقص الوعي الثقافي النقدي يؤدي إلى عدم تقدير الثقافات الأخرى وفهمها، التعليم المحدود و عدم وجود فرص للتعليم الشامل ،التحيز الإعلامي يروج صور نمطية أو أحادية الجانب عن ثقافات معينة، مما يسهم في تعزيز الاحتباس، الرقابة على المحتوى ومنع نشر الأفكار أو الثقافات التي لا تتناسب مع قيم السلطة السائدة ،الصراعات والحروب تؤدي أيضا إلى تدمير التراث الثقافي وتعطيل التبادل الثقافي، كذلك النزوح القسري يمكن أن يؤدي إلى فقدان الهوية الثقافية. تتفاعل هذه العوامل مع بعضها البعض، مما يؤدي إلى حدوث الاحتباس الثقافي ويؤثر على تطور المجتمعات.
عقدة بروكوست وتعددية الدلالة
عقدة بروكوست رمزيا تشير إلى فرض نموذج واحد أو معيار معين على الأفراد أو الثقافات، مما يؤدي إلى تقييد التنوع والاختلاف، السياق الثقافي يمكن أن يعني فرض أسلوب أو نوع معين من الكتابة على جميع الكتّاب ونمذجة النصوص، مما يحد من التعبير الأدبي. السيمائيات الكتابية التي تهتم بدراسة العلامات والدلالات في النصوص وتعددية الدلالة تشير إلى وجود تفسيرات ومعاني متعددة لنفس النص ، هذه التعددية تعكس كيف يمكن لنص واحد أن يُفهم بطرق مختلفة حسب خلفية القارئ، تجربته، وسياقه الثقافي ،عقدة بروكوست تعكس محاولة فرض نموذج أحادي على التفسير، بينما تعددية الدلالة تدعو إلى الاحتفاء بالتنوع والتعدد في الفهم والتفسير ،هذا يبرز أهمية تنوع الأصوات والأساليب الأدبية في تعزيز الفهم الثقافي.
توسيع الأفق الثقافي
من خلال التفاعل مع النصوص متعددة الدلالات، يمكن للقارئ أو الكاتب تجاوز القيود التي تفرضها عقدة بروكوست، ما يعزز الحرية الإبداعية ويدعو إلى استكشاف معاني جديدة قد تكون غير متوقعة ،كما تؤدي الى إعادة تعريف الهوية الثقافية ،النصوص التي تحتمل تعددية الدلالة تسمح للأفراد بإعادة تعريف هويتهم الثقافية بناءً على تجاربهم الشخصية ودراسة النصوص من منظور سيميائي وفهم التعددية الثقافية وتحدي النماذج السائدة ، تعزيز التفكير النقدي في كيفية قراءة النصوص وتفسيرها بناءً على الخلفيات المتباينة تمثل تفاعلًا معقدًا بين القيود الثقافية وحرية التعبير من خلال فهم هذا التفاعل، يمكن تعزيز ثقافة تعكس التنوع وتحتفل بالاختلاف.
تاريخ الاحتباس الثقافي
الأحداث الكبرى مثل الحروب والثورات تؤثر على كيفية كتابة النصوص وتفسيرها. قد تعكس النصوص مشاعر الخوف، المقاومة، أو الأمل المرتبطة بتلك الأحداث، التحولات في القيم والمعتقدات نتيجة للتغيرات التاريخية تؤثر على كيفية فهم النصوص، الكلمات والمعاني تتغير مع الزمن. فهم السياق التاريخي يساعد في إدراك المعاني الأصلية والتغيرات التي طرأت عليها، بعض التعبيرات قد تكون لها معانٍ خاصة في فترات زمنية معينة، مما يتطلب فهماً دقيقاً للسياق النصوص قد تحتوي على إشارات إلى شخصيات تاريخية، أحداث، أو مفاهيم فلسفية، فهم هذه الإشارات يساعد في تفسير المعاني المتعددة والتأثيرات الأدبية السابقة التي تلعب دوراً في تشكيل النصوص الجديدة، مما يعزز من تعددية الدلالات، الفهم المعاصر للنصوص يمكن أن يختلف اعتمادًا على السياقات التاريخية. القارئ اليوم يتفاعل مع النصوص بشكل مختلف عما كان عليه في الماضي ،القيم والمعتقدات المعاصرة تؤثر على كيفية تفسير النصوص الأدبية، مما يفتح المجال لتفسيرات جديدة، السياق التاريخي يمكن أن يساهم في تشكيل هوية جماعية أو فردية، مما يؤثر على كيفية فهم النصوص، الأفراد من خلفيات ثقافية مختلفة قد يفسرون النصوص بطرق متباينة .تلعب التأثيرات الاستعمارية أو الثقافات المهيمنة دورا مهما في تعقيد فهم النصوص وتضيف طبقات من الدلالة، منها تعددية الدلالة في النصوص من خلال تزويد القارئ بأبعاد ثقافية واجتماعية وسياسية التي ترسخ دلالات النصوص. هذا الفهم يساعد في استكشاف المعاني العميقة والمتعددة، مما يثري التجربة القرائية ويعزز من التفاعل مع النصوص، دراسة الخطاب التاريخي أداة مهمة لفهم تعددية الدلالة في النصوص، حيث تسلط الضوء على العلاقة بين النص، والسياقات التاريخية، والاجتماعية، والثقافية. التحليل الأيديولوجي، يكشف عن كيف تعكس النصوص الأيديولوجيات السائدة وكيف يمكن أن تُستخدم لتعزيز أو تحدي التفاعل بين النص والسياق. ما يعزز من تعددية الدلالة في دراسة الخطاب التاريخي توفر إطارًا لفهم السياقات الثقافية والسياسية والاجتماعية التي تشكل النصوص. التحليل التاريخي للخطاب التاريخي يوفر إطارًا لفهم النصوص ضمن سياقاتها، بينما التأويل يعزز من إمكانية قراءة تلك النصوص بطرق متعددة، معًا، تساهم هذه الأدوات في توفير فهما أعمق للمعاني الثقافية والتاريخية التي تحملها النصوص. يتطلب هذا مواجهة العديد من التحديات، بما في ذلك المقاومة الثقافية، نقص الموارد، تحديات التواصل، والسياسات الحكومية. التغلب على هذه التحديات يتطلب تعاونًا لتطوير استراتيجيات فعالة ومتكاملة.
التاريخ يمكن أن يتضمن لحظات من الصراع والمنافسة بين الثقافات المختلفة، مما يساهم في تشكيل الهوية الثقافية، تلعب العلاقات الاجتماعية والطبقات الاجتماعية دورًا كبيرًا في الاحتباس الثقافي، الأقليات قد تواجه تحديات في التفاعل مع الثقافة السائدة، مما يؤدي إلى احتباس بعض التعبيرات الثقافية، يمكن أن يؤثر المكان الذي تعيش فيه مجموعة معينة على كيفية تطوير ثقافتها. فالثقافات التي تعيش في مناطق نائية قد تحتفظ بتقاليد معينة، بينما تتأثر الثقافات الحضرية بالتنوع والتغير السريع، الاقتصاد له تأثير مباشر على الثقافة. الموارد المتاحة أو نقصها يمكن أن تحدد ما إذا كانت ثقافة معينة قادرة على البقاء أو التطور، الاحتباس الثقافي هو ظاهرة معقدة تتأثر بعدة سياقات فلسفية. الفهم العميق لهذه العوامل يساعد على تعزيز الحوار الثقافي والتسامح، مما يتيح للثقافات المختلفة التعبير عن نفسها بشكل أكثر حرية والذي يستدعي عدم الاستبعاد وإبقاء ما هو مرتب كرونولوجيا واركيولوجيا وان كان النص لا يستجيب يجب استبعاده الى حطام الغرور.
***
غالب المسعودي

في كل عمل أدبي عظيم، تتقاطع الفلسفة مع السرد، والميتافيزيقا مع اليومي، والحياة مع الأسطورة. وفي عوالم غابرييل غارثيا ماركيز، كان الدين حاضرًا دائمًا، لكنه لم يكن إيمانًا خالصًا ولا إلحادًا مطلقًا، بل كان جزءًا من نسيج الحكاية الكبرى التي ينسجها الكاتب، حيث تتداخل المعتقدات والخرافات مع السلطة والقمع، واللاهوت مع المجاز، والطقوس مع السحر.
لكن يبقى السؤال الفلسفي مفتوحًا: هل وقع ماركيز في فخ النزعة الدينية، أم أنه كان يستخدمها بوعي نقدي لتفكيك بنيتها السردية والاجتماعية؟ أم أن الدين في عوالمه لم يكن أكثر من أداة ضمن أدواته الأدبية الكثيفة، شأنه شأن الزمن الدائري، والموت المؤجل، والقدرية التي تتكرر بلا انقطاع؟
في مئة عام من العزلة، يتجلى الدين بوصفه مؤسسة، لكنه لا يظهر كجوهر روحي، بل كأحد تجليات السلطة. الأب نيكانور رينا، الذي يصل إلى ماكوندو لنشر التعاليم الكاثوليكية، لا يملك حججًا قوية سوى استعراض المعجزات، مثل شربه الشوكولاتة الساخنة بينما يطفو في الهواء. هذا التصوير الكاريكاتيري ليس سخرية محضة، بل يكشف كيف يتحول الدين في بعض السياقات إلى أداة للإقناع القسري، وليس بحثًا عن الحقيقة.
لكن المفارقة تكمن في أن المعجزات في هذا العالم ليست مستحيلة، فكما يطفو الأب نيكانور في الهواء، كذلك يولد الأطفال بذيل خنزير، ويعيش الرجال لعقود دون أن يموتوا، وتتكرر الحروب بنفس الطريقة العبثية. في هذا السياق، لا يكون الدين أكثر عبثية من أي شيء آخر، بل يصبح مجرد عنصر آخر في هذه الدوامة الكونية التي لا تقدم خلاصًا ولا تترك مساحة للخروج.
المؤرخ الأدبي جوزيف كامبيل، في كتابه البطل بألف وجه، يتحدث عن دور الطقوس الدينية في إعادة إنتاج الهياكل الاجتماعية، وهو ما نراه بوضوح في عوالم ماركيز، حيث لا تنفصل المؤسسة الدينية عن النظام الأبوي أو السياسي. فالكنيسة في خريف البطريرك تتواطأ مع الاستبداد، وتتحول إلى جزء من آلة السلطة التي تُطيل عمر الطغاة، عبر منحهم غطاءً روحانيًا يُبرر استبدادهم.
هذه العلاقة بين السلطة والدين ليست جديدة، لكنها في سرد ماركيز تفقد مركزيتها الأخلاقية، حيث لا يعود الدين ملاذًا للمقهورين، بل يتحول إلى أداة في يد القاهرين. ليست المسألة هنا مجرد نقد اجتماعي، بل هي إعادة صياغة فلسفية لسؤال قديم: هل الدين في جوهره أداة تحرر، أم أنه قيد آخر ضمن قيود الوجود الإنساني؟.
لكن الدين في أعمال ماركيز ليس فقط سلطة، بل هو أيضًا فضاء أسطوري، عنصر من عناصر الواقعية السحرية. في الحب في زمن الكوليرا، يظهر القديسون واللعنات، وتتحول فكرة الحب نفسها إلى تجربة ميتافيزيقية تتجاوز الجسد. بينما في وقائع موت معلن، يُطرح السؤال عن القدرية الدينية: هل كان مقتل سانتياغو نصيبًا مقدرًا، أم أن المجتمع هو من صنع هذه الحتمية الوهمية؟.
في هذا المستوى، لا يعود الدين مجرد مؤسسة، بل يصبح لغة رمزية يتحدث بها الوجود، نوعًا من الغموض الأبدي الذي لا يفسر شيئًا لكنه يظل معلقًا فوق رؤوس الشخصيات كقدرٍ محتوم. هنا، يتقاطع ماركيز مع ألبير كامو الذي في أسطورة سيزيف يناقش العبثية وسؤال الإيمان، حيث يصبح الإنسان محاصرًا بين حاجته لمعنى كوني وبين صمت الوجود.
ماركيز بدوره لا يُقدم إجابات حاسمة، بل يترك الشخصيات في صراع دائم بين الإيمان والخرافة، بين السحر والعقل، بين الحتمية والاختيار، مما يجعل أعماله اختبارًا فلسفيًا للأسئلة التي لم تُحسم بعد في تاريخ الفكر الإنساني. وكأن الرواية في جوهرها ليست إلا محاولة متكررة للإجابة على سؤال غير قابل للإجابة، حيث تظل الشخصيات تدور في حلقات من الشك واليقين، لكنها لا تصل إلى يقين كامل، كما لو أن الحياة نفسها ليست سوى متاهة بلا مخرج.
إدواردو غاليانو، في تحليله لأعمال ماركيز، يصفه بأنه “كاتب كاهن دون كنيسة”. فهو يستخدم مفردات الدين، لكنه لا يبشّر بها، بل يخلق منها عالمًا مفتوحًا على التأويل.
هذا ما يجعلنا نتساءل: هل كان ماركيز ضحية لاشعورية للنزعة الدينية، أم أنه كان يوظفها كأداة سردية فقط؟ هل كان الدين بالنسبة له هو اللاوعي الجمعي الذي لا يمكن تجاوزه، حتى لو لم يكن يؤمن به؟ أم أنه كان مجرد أداة لتكثيف التجربة البشرية، تمامًا كما استخدم التاريخ واللغة والسحر؟
هنا يمكن استدعاء رؤية جان بول سارتر عن “الالتزام الأدبي”، حيث يرى أن الكاتب يجب أن يكون واعيًا بأدواته الإيديولوجية والسردية. ماركيز لم يكن مؤمنًا بالمعنى الديني، لكنه أيضًا لم يكن ملحدًا دوغمائيًا، بل كان كاتبًا يدرك أن الدين، كمفهوم سردي، هو مادة خصبة للتحليل الاجتماعي والنفسي والفلسفي.
إضافة إلى ذلك، لا يمكن تجاهل دور شخصية مرسيدس بارتشا، زوجة ماركيز، التي تحمل اسم القديسة مرسيدس. وعلى الرغم من أن اسمها قد يبدو مجرد صدفة، فإن تأثيرها الخفي على كتابات ماركيز يستحق التأمل.
في ظل العلاقة العميقة بين الزوجين، يمكننا رؤية كيف أن ماركيز كان يحبها بطريقة غير شعورية، وكيف أن هذا الحب قد ترك بصمته على نصوصه. مرسيدس كانت شاهدة على مراحل حياته الأدبية المختلفة، ودائمًا ما كانت ملهمة له.
قد يبدو أن اسمها، الذي يتشابه مع اسم القديسة مرسيدس، قد حمل بعضًا من تأثير الدين على حياة ماركيز، ليس بالمعنى التقليدي للإيمان، بل بمعنى التقديس غير الواضح، حيث كان ينظر إليها باعتبارها مصدرًا للثبات والطمأنينة في عالمه الأدبي المتقلب.
ذا التقديس الغير مباشر ربما أثر على رؤيته للحب في روايته الحب في زمن الكوليرا، حيث يعكس الحب بين فيرمنيا وفيديريكو التزامًا طويل الأمد يشبه الخلاص، لكنه يتم في إطار إنساني غير مثالي. من خلال مرسيدس، تجد أعمال ماركيز نوعًا من التوازن بين الحياة اليومية والرمزية الدينية، مما يشير إلى وجود تأثير غير مباشر لهذا الاسم على فكرته عن الحب والقداسة والخلود.
إذا كان هناك “فخ” وقع فيه ماركيز، فهو ليس فخ النزعة الدينية، بل فخ استخدام الدين كوسيلة للتعبير عن العبث الإنساني، دون القدرة على الخروج منه تمامًا. الدين في أعماله ليس حقيقة مطلقة، لكنه أيضًا ليس وهمًا بحتًا، بل هو جزء من التاريخ الجمعي، من اللاوعي الثقافي، من الحلم والكوابيس التي تشكّل تجربة الإنسان في هذا العالم.
وربما يكون هذا هو التناقض الأكبر في أعمال ماركيز: أنه في الوقت الذي يحاول فيه تفكيك الدين، لا يستطيع التخلي عنه تمامًا، لأنه جزء من البنية العميقة للحكاية نفسها.
وكأنه يقول لنا إن العالم، بكل عبثيته ولا معقوليته، لا يزال بحاجة إلى قصص تشرح وجوده، حتى لو لم تكن هذه القصص حقيقية. في النهاية، ماركيز لم يكن كاتبًا دينيًا، لكنه كان كاتبًا في عالمٍ لا يزال الدين يشكّل جزءًا من بنيته العميقة. ومن هنا تأتي عبقريته: ليس في تقديم إجابات، بل في صياغة الأسئلة التي تظل مفتوحة، كأنها قدرٌ مكتوب في صفحات رواياته، وكأنها صلاة لم تُستجب بعد.
***
إبراهيم برسي

كثيرًا ما نقرأ نصوصًا تبدو مكتملة من الخارج: اللغة سليمة، الفكرة واضحة، والاستدلال متماسك. لكنها، رغم كلّ ذلك، لا تمسُّنا. تمرّ بنا وكأنها عبورٌ صامتٌ لا يترك أثرًا. لا تُغضب، ولا تُبهج، ولا تُثير فينا شيئًا. كأنها كُتبت لتُنجَز، لا لتتجسَّد.
في المقابل، هناك نصوصٌ متواضعة الشكل، متعثّرة أحيانًا في دقتها أو خالية من الزخارف اللفظية، لكنها تترك أثرًا يصعب محوه. تُفصح عمّا يشبهنا، وتقول ما لم نستطع نحن أنفسنا أن نبوح به.
هذا الفرق لا يعود إلى جودة الفكرة وحدها، بل إلى ما هو أعمق: الصِّدق، الحضور، الصَّوتُ الجوانيُّ أو ما أحبّ أن أسمّيه: «الكتابة القلبية».
الكتابةُ القلبيةُ تنشأ من المسافة بين التّجربة واللغة، من ذلك الفراغ الذي يتكثّف حين يعجز التعبير العادي عن احتواء ما يمرّ به الإنسان. ليست مشروعًا أدبيًا، ولا انفعالًا عابرًا، بل نوعٌ من الإنصات الداخليَّ الطويل، حيث تتكوّن الكلمات ببطء، كأنها تُصغى قبل أن تُقال. في لحظاتها الأصدق، لا تكون الكتابةُ اختيارًا، بل ضرورة، كما لو أن اللغة لم تأتِ لتُضيف شيئًا، بل لتكشف عمّا كان مطمورًا خلف الصِّمت.
في هذا النوع من الكتابة، لا يبدو الكاتبُ مشغولًا بالجمال ولا بالدِّقّة، بل بالحضور. إنَّه يحاول أن يكون هناك، في الجملة، كما كان تمامًا في تلك اللحظة التي ولَّدت الحاجة إلى القول. ولهذا كثيرًا ما تأتي عباراته مشبعة بالتردّد أو الوضوح الفجّ، لا لضعف في الأسلوب، بل لأن الحقيقة حين تخرج من الداخل، نادرًا ما تأتي مُهندسة.
وربما لهذا السبب تحديدًا، تبدو هذه الكتابة أكثر عُسرًا، لأنها تتطلَّب صدقًا لا تحميه نظرية، وتجرّدًا لا يتكئ على بلاغة. إنّها تمرينٌ على الإصغاء للذات قبل مخاطبة الآخر.
لو تأملنا أعمال بعض الكتّاب والفلاسفة الذين تركوا أثرًا عميقًا لا يُمحى، لوجدنا أن سرّ كتاباتهم لم يكن في صرامة الأسلوب ولا تعقيد الفكر، بل في صدق التّجربة التي كُتبت منها.
دوستويفسكي بخاصة، سلك بالكلمة دروبًا موحشة في أعماق النفس البشرية، كأنّه يستخرج المعنى من قاع الروح. لم يكن فيلسوفًا يُلقي أطروحات، بل إنسانًا يكتب من شدّة ما عاشه. في رواياته، لا نقرأ فكرة، بل نواجه وجودًا مضطربًا، يبحث عن الله، عن الخلاص، عن ذاته. الكتابة عنده لم تكن فعلًا أدبيًا، بل ضرورة وجودية.
الكتابة القلبية إذن، هي المقام الذي تُولد فيه الكلمة من أعماق الكينونة، لا أداةً للتعبير، بل شكلًا من أشكال الوجود. هي الإنصات لما لا يُقال، والاقتراب مما لا يُحاط به. هناك فقط، تبدأ اللغة في أن تكون أكثر من لغة: أن تكون حضورًا.
***
خالد اليماني

 

يؤكد شريعتي على أن أولى معارف الإنسان، معرفته لنفسه، فبدونها يستوعبنا نوع من اللاوعي الأسود، وهذا هو عين النقص الفجيع الذي حرم إنسان هذا العصر، من الفهم الصحيح لمعنى الحياة ومفهومه الوجودي، بالرغم من نجاحاته الباهرة في عالم العلم. وليس مبالغاً لو قيل، أن السبب الأساس في احباط جميع الجهود العلمية والاجتماعية والإيديولوجية المبذولة في سبيل سعادة الإنسان، أو على الأقل، اعطاءه نوع من الشعور بالسعادة، يكمن هنا، وهو أن الإنسان، الذي هو الموضوع الرئيس لكل هذه الجهود والنجاحات، قد بقي مجهولاً أو منسياً بشكل من الأشكال. وحتى بالنسبة للحياة، فيمكن للإنسان أن يعيش كيف ما يريد، ولكنه لا يعلم كيف؟ لأنه لا يدري لماذا؟. وشريعتي هنا يريد أن يبين افتقار الإنسان للهدف المنشود، فيبقى الإنسان عبثياً من حيث وجوده وأفعاله ما لم يكن هنالك هدف. ومن هنا يتبين لماذا عجزت الإيديولوجيات الحديثة، التي تسعى لتحل محل الأديان القديمة، عن تلبية احتياجات الإنسان الأساسية، وبالتالي إما أن وصل الإنسان إلى التفاهة، أو أنه أصبح رهين القيد. نتيجة هذا الإبهام، يبحث شريعتي في الأسس الرئيسة والمشتركة والمتفق عليها من قبل المدارس العلمية والدينية والاجتماعية الكبرى، ويجمعها شريعتي تحت أسم (أصالة الإسلام)، تحديداً في كتابه (الإسلام ومدارس الغرب)، ويحدّها بأنها: المدرسة التي تعلن عن أن هدفها الرئيس هو نجاة الإنسان وكماله، وتعتبر الإنسان موجوداً شريفاً، وأن الأصول التي تقترحها هي على أساس تلبية الاحتياجات الرئيسة التي تشكل النوعية الإنسانية. ويرجعها شريعتي إلى أربع مدارس فكرية كبرى، وبالرغم من اختلافاتها الرئيسة وتضادها مع بعضها، فإنها تشكل البحث عما أسماه شريعتي بـ (أصالة الإنسان). وهي: الليبرالية الغربية، الماركسية، الوجودية، الدين. تعتبر الليبرالية الغربية نفسها الوارث الأصلي لفلسفة أصالة الإنسان وثقافتها في التاريخ، وتعتبر ذلك تياراً فكرياً ثقافياً، بدأ من اليونان القديمة، ووصل إلى كماله النسب في أوربا المعاصرة. وتنطلق هذه النظرة من النظرية الخاصة لميثيولوجيا اليونان القديمة، التي تؤكد على وجود مسافة ومنافسة وتضاد بين السماء والأرض، بين عالم الآلهة وعالم الناس. وتقرر أن الآلهة هي قوى ضد الإنسان، وإن جميع جهودها وأحاسيسها تقوم على سلطتها الجبارة على الإنسان وتقييده بضعفه وجهله، لأنها تخشى وعي الإنسان، وحريته، واستقلاله وسيادته على الطبيعة. وعلى هذا الأساس، كانت أصالة الإنسان اليونانية، تسعى للوصول إلى أصالة الإنسان بجحودها للآلهة وإنكار سيادتها، وقطع حبل عبودية الإنسان-السماء. لذلك كان الاهتمام بتلك العناصر التي تبدع للإنسان السلطة واللذة. أما في القرون الوسطى، فقد أوجدت التضاد ما بين السماء والأرض، لكنها أظهرت الإنسان محكوماً جبرياً لمشيئة الله ووضيعاً في الأرض، لذلك ادعت أن طريق سعادة الآخرين الوحيدة هي التبعية العمياء والانتساب التقليدي الأعمى لهؤلاء، والانتماء للمنظمة الرسمية التي تدار بواسطة هذه المظاهر الرسمية لله في الأرض. ولهذا تُباد أصالة الإنسان في القرون الوسطى. أما ثاني الاتجاهات الفكرية، وهو الماركسي، الذي ذهب إلى أن الوصول إلى تفتح القابليات الإنسانية يتم عن طريق حرية الأشخاص والأفكار في التحقيق العلمي والمواجهة الفكرية والإنتاج الاقتصادي. والماركسية هنا تعرّف نفسها على أنها طريق لتحقيق الإنسان الكامل، إلا أن الإنسان في المادية الديالكتيكية، لم يكن له موطأ قدم، فهي فلسفة علمية تقوم على أساس التضاد الجبري في الحركة والتطور، وتبدل الكمية بالكيفية، والتي تعمل كالقوانين الجبرية الخارجة عن طاقة الإنسان، هي بنفسها، قبلت تحطيم النظام الرسمالي وتحقق المجتمع الشيوعي. يقول شريعتي: في مثل هذا الجبر المادي المطلق، أين نجد الاختيار الإنساني المستقل؟ أي معنى لهذا الاختيار، الذي هو الوليد الطبيعي الأبدي لمثل هذا الجبر، وأية مسؤولية له؟. أما الوجودية، فهي تدعي ذلك أكثر من المثالين السالفين، الليبرالية الغربية والماركسية، وكما يقول سارتر: الوجودية هي أصالة الإنسان، وبالطبع-على حد قول شريعتي- له الحق في هذا الادعاء أكثر من سَلَفيه. وتعرف الوجودية الإنسان بأنه نسيج في العالم، وجود ليس له أي خصلة أو خاصية معينة من قبل الله أو الطبيعة، فهو لديه القوة على الاختيار، فهو يصنع نفسه بنفسه ويبدعها. لهذا كان الإنسان ليس مخلوقاً لله، ولا هو مخلوق الطبيعة، ولا هو وليد آلات الإنتاج، بل هو-كما يقول شريعتي وفقاً لتصورهم- إله يخلق نفسه. أما رابع التيارات الفكرية الكبرى، الذي هو أقدم من هذه الثلاثة وأعمقها جذراً، هو النظرة الدينية للعالم. ولما كان كل دين يعلن أن أساس دعوتها هو هداية الناس للسعادة الأبدية، فلا بد له من فلسفة متميزة لمعرفة الإنسان، لأنه لا يمكنه التحدث عن سعادة الإنسان، ما لم يتضح له مسبقاً، المعنى المحدد للإنسان، وإذاً فإن جميع الأديان تبدأ بفلسفة التكوين وتكوين الإنسان. ففي الزرادشتية، يكون الإنسان زميل (أهورامزرد) وعضده، وحتى أنه يساعده وينصره في حرب التكوين الكبرى، من أجل انتصار الصلاح. وفي أديان وحدة الوجود العرفانية، يقوم الله والإنسان والحب بمؤامرة من أجل خلق عالم الوجود من جديد. أما في الإسلام، فتم تعريف الإنسان بأنه الموجود الوحيد في عالم الكون الذي له روح الله، والمسؤول عن أمانة الله، ويجب أن يأخذ لنفسه خُلق الله. ينتقل شريعتي بعد ذلك إلى الراديكاليون، الذين هم أبرز مفكري أصالة الإنسان، والداعين لها في أوربا القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر. ففي بيان لهم نشروه سنة 1800م، قرروا فيه: أن ارفعوا الله عن قاعدة الأخلاق، وضعوا محله الوجدان، لأن الإنسان ذو وجدان أخلاقي أصيل، وهذا الوجدان الأخلاقي من وجهة نظرهم ينبع من جبلة الإنسان الذاتية، وهو ما تقتضيه طبيعته الإنسانية. وبعد ظهور عصر التحليل والتعليل العلمي، دبَّ الشك في هذا الأصل، فلم يعد الوجدان الأخلاقي يستمد جذوره من الطبيعة الذاتية للإنسان، بل أصبح ذو طبيعة اجتماعية، يستمد جذوره من طبيعة المحيط الاجتماعي المتغير جبراً. وبعد هذا العرض لأهم التيارات والمذاهب الفكرية لتحديد أصالة الإنسان، ينتهي شريعتي لوضع تصور عام عن أصالة الإنسان، وهي كما يلي: 1-الإنسان- وجود مستقل: أي له ذات مستقلة من بين جميع الموجودات الطبيعية والميتافيزيقية، وله جوهر نوعي شريف. 2-الإنسان- إرادة مستقلة: وهي أكبر قوة خارقة للعادة وغير قابلة للتفسير في الإنسان. والإرادة بهذا المعنى، هي: أن الإنسان، باعتباره العلة الأولية والمستقلة، يتدخل ويعمل في التسلسل الجبري للطبيعة، التي جعلت المجتمع والتاريخ تابعاً مطلقاً لها في تسلسل العلية. الحرية والاختيار، وهما من الصفات الإلهية، ومن أبرز مميزات الإنسان. 3-الإنسان- موجود واع: وهذه أبرز صفاته، ومعناه: أنه يفهم واقعية العالم الخارجي بقوة التفكير العجيبة والمعجزة، ويكتشف الخفايا المكنونة عن الحس، ويمكنه أن يحلل ويعلل كل حقيقة أو واقعة، دون أن يبقى في مستوى المحسوسات والمعلولات، وأن يطلع على ما وراء المحسوس، ويستدل على المعلول نحو العلة وهكذا. 4-الإنسان- موجود واعٍ ذاتياً: أي أنه الموجود الوحيد الحي الذي لا علم حضوري بالنسبة لنفسه. ويمكنه أن يدرس نفسه باعتباره موجوداً مستقلاً عن نفسه، يعللها ويحللها، ويعرفها، ويقيمها، وبالتالي يغيرها. 5-الإنسان- موجود مبدع: إن هذا الإبداع الممتزج بعمله، يجعله أمام الطبيعة تماماً وإلى جانب الله. هذا الإبداع هو الذي جعل له هذه القوة الخارقة للعادة التي تمكنه من اجتياز الحدود الطبيعية وإمكانياته المحدودة، ووهب له البعد الوجودي العجيب وغير المحدود، ومتّعه بما لم تمتعه به الطبيعة. 6-الإنسان- موجود ذو امنية، وإنه يعشق الأماني المثالية: بمعنى أنه لا يستسلم ولا يتوقف أمام ما هو كائن، بل يسعى لتغييره إلى ما يجب أن يكون، ولهذا يتفنن دائماً، ولهذا يرائي بأنه الموجود الوحيد الذي يصنع البيئة ولم تصنعه هي. ويؤكد شريعتي على أن طلب الأماني هو أكبر عامل لحركة الإنسان وتكامله، وهو يحرضه على ألا يكون ساكناً في الطبيعة والحياة، في نطاق الواقعية الموجودة الثابتة المحدودة. 7-الإنسان- موجود أخلاقي: أكد شريعتي على ضرورة البحث في معنى القيمة، فيعرفها بأنها: رابطة بين الإنسان وإحدى الظواهر التي يتوفر فيها دافع أفضل من الربح، ولهذا يمكن تسميتها بنوع من الرابطة القدسية. ويذهب شريعتي في مفهوم القيمة بعيداً، حين يقرر بأن الإنسان في هذه الرابطة يشعر بأنه حتى التضحية بوجوده وحياته، له ما يبرره. على أن التبرير هنا لا يكون تبريراً طبيعياً أو عقلياً أو علمياً، ويتمتع هذا الشعور بقبولٍ في جميع الأديان والثقافات وعلى طول التاريخ، باعتباره أسمى مظهر وجودي لنوع الإنسان. ومثلهم مثل الذي نسى حياته المادية في سبيل الأدب والفن والعلم، وشهداء الأديان، ومجاهدو الحقيقة، وأبطال الشعوب العظام. كل هؤلاء هم مبدعو القيم الإنسانية في حياة الإنسان.
***
د. حيدر عبد السادة جودة

 

(في معنى أن يكون الشعر امرأة جميلة..)

"كنت أمشي خلف الحلاج في سكك البيضاء، فوقع ظل شخص من بعض السطوح عليه. فرفع الحلاج رأسه فوق بصره على امرأة حسناء، فالتفت إلي وقال: سترى وبال هذا علي ولو بعد حين.." ـ رفيق الحلاج أبي ذر البيضاوي ـ
في معنى أن يكون الشعر حالة نفسية، لا تستعيد أثرها القيمي في الكينونة والوجدان، دون معرفة كامنة بالشريك الحاضر بالوعي والضرورة الاعتبارية؟.
لا يحتمل السؤال أكثر من وازع مفرد، يتجسد هذا الإدراك الحتمي الإنساني. هو نفسه الذي يجمعنا اليوم، وعلى أكثر من تأويل، ليبرر هذا الإلباس الايتيقي الجائل بين دروب الزمن ومتاهاته، ويحول المفكر فيه إلى واقع أدبي قائم الذات، أثر مفارق في الصيرورة النووية للرحم والدم والشعور بالانتماء للقلب الواحد والمصير الواحد.
لا توجد حياة دون رفيق/ رفيقة درب. ولا يوجد يوم نتنفسه، أو فجر ننتظر قدومه، أو قابلية للأشياء، مهما صغرت، دون أن نتعب قليلا في البحث عن ملاذ خاص وحضن استثنائي. هذه قيمة فوق العادة، لا نستثمرها فقط لنبوح بمكونها. بل هي طبيعة أقوى من أي مرتكز تدبيري لمدارة العمر وحصاده المفترض.
بيد أن انبعاث طاقة هذا الامتداد العاطفي، لا تستسيغه التجردات الهاوية، أو الانتقالات غير المبنية على تقييد الهواجس وتحويلها إلى انفعالات بديلة وإيجابية إلى حد ما. فالخلفية الثقافية والاجتماعية للعلاقة الزوجية، تؤثر بشكل كبير في مستقبل ذاك الأفق، وتلك المراهنة على افتئات الممكن وسردياته.
أن تكون هي ظلك المنبعث من روحك، الخيال المجنح الذي يقيك من أرياح السقوط، العطر الذي يأوي إلى فنارك، فينشر السعادة بين الأضلع والأسماء المديدة. هو شيء مختلف تماما، كما لو أنك تولد لمرة أخرى، دون أن يكسبك ذلك لذاذة هاربة أو نذرا لإعالة جديدة مقنعة أو غامضة.
عندما تكون أنت هو هي، بالمعنى الفيزيقي للكلمة، يصبح الفعل الوجودي هنا، بابا مفتونا بالتجلي، وما يرائيه عن كل ما يعاين. لا يقاس بقياس الإحساس الإني، ولا يشاهد بالقلب المجرد. فهو أشعر من شعر الأشياء المقولة، وأنور من نور الأمداء المقدورة، وأبلغ من بلاغة ثراء السنين والتجارب والأتون الثاوية.
فمن يصف خليلته بما أوحى له شعره، فلن يسع العقل أن ينطق إلا بما وعا في لحظة الانكتاب. فأنت أجرأ بالقول حينها، دونا عن الأعماق العميقة والأنساق السحيقة. فهل يكون ما بينك وبين شاعرتك، مجرد تحويم أو تعالق أو اقتراب أو تصميم ظرفي؟
لا يقوم هذا المعنى، دونا عن التمدد في البدل الفكري والوجداني، ودونا عن التفرد بأخلاق العيش أو نثر الأخلاق. على أن ذلك أيضا، لا يستحضر سوى بضعة من نتف وشتات، لا تختزل أدنى ارتقاء أو سلوك أو مماحكة استعارية.
ولكي أكون قديرا بهذا التماثل، أقول قول الحلاج في الحب، مهما اقتربت مناطاتهما أو اختلفت لا ضير: " كلمتان جرتا في الأبد كما جرتا في الأزل ". فالذي يوتر حبلهما ويشدده عبورهما في نفس المدى والامتداد. أبد يلزمه أزل، وأزل يتغذى على زخم صيرورة أبد منتظم ومكرس لطبيعة التكوين والتشكل.
إن فكرة الاحتفاء بهذا النوع من الإبداع الإنساني، بين روحين يحملان هما وبحثا مضنيا عن المغزى الحقيقي لأسئلة الحياة والوجود، هو حفر في ماهية لغة مغايرة، لغة تبحث عن خطاياها، بقوة التجريد المستباح، الخيال السادر المندس تحت قهرية حياة ذاعرة مرعبة، فلا شيء آخر غير الواقعي يدعو إلى تقمص أشيائنا الهاربة، المنتفضة من ركام السخافات واللاجدوى، وأيضًا التماثل المفضي إلى اكتناه حقيقة ذواتنا. بعبارة أخرى، بدون وجود مادي لمدركاتنا الموصومة الزائلة، لننتمكن من فهم علاقتنا بشريكة الحياة، التي هي في طبيعتها قصيدة شعرية، أرجوحة لمزهرية تتمرس على نشدان الجمال والبهاء والأثر الطيب.
***
د مصـطـــفَى غَـــلْمَــان

التلقين هو احد الاساليب التعليمية القديمة التي تعتمد على نقل المعلومات بشكل مباشر من المعلم الى المتعلم، دون اتاحة الفرصة للمتعلم للتفكير او التحليل او النقد. وعلى الرغم من ان التلقين قد يكون مفيدا في بعض الحالات، الا انه يعتبر بشكل عام احد الاسباب الرئيسية لتخلف التعليم.
كثيرا ما تنتشر مقاطع فيديو تتناول ما يعرف بـ"جراثيم التعليم"، والتي تزعم ان فنلندا تخلصت منها لتصبح في طليعة الدول الرائدة في التعليم ومناهجها الحديثة. هذه المقاطع تؤكد على ان التخلص من الواجبات المنزلية والاختبارات المرهقة وكثافة المواد والدروس الخصوصية هو سر نجاح فنلندا. ولكن في الحقيقة، لم تتخلص فنلندا من هذه الامور بشكل كامل، كما انها لا تزال متبعة في عدد من الدول الاخرى المتفوقة في التعليم، مثل سنغافورة وكوريا الجنوبية والسويد وهولندا وغيرها من الدول المتقدمة. ما تشترك فيه هذه الدول هو اعتماد انظمة حديثة لتقييم الطلاب ورفع معايير اختيار المعلمين والتركيز على تطوير المناهج الدراسية خاصة في مجالات الرياضيات والعلوم. ومع ذلك، فان ما اغفلته هذه المقاطع هو ان السبب الرئيسي المشترك لنهضة فنلندا وبقية الدول المتفوقة هو نبذها للتلقين.
التلقين، بكونه اسلوبا تعليميا يعتمد على الحفظ والاسترجاع، يقيد العقل ويحد من القدرة على التفكير الابداعي والتحليلي، مما يؤدي الى جمود الفكر. كما ان المتعلم الذي يعتمد على التلقين لا يكتسب المهارات اللازمة لحل المشكلات بشكل مستقل، بل يعتمد على الحلول الجاهزة التي يتلقاها، مما يضعف قدرته على مواجهة التحديات. بالاضافة الى ذلك، يجعل التلقين التعلم عملية مملة وغير ممتعة، مما يقلل من دافعية المتعلمين ورغبتهم في التعلم، ويعزز السلبية والاعتماد على الاخرين، حيث لا يشجع الطلاب على طرح الاسئلة او التعبير عن ارائهم.
التفكير النقدي، في المقابل، كونه عملية تحليل المعلومات وتقييمها بشكل موضوعي واتخاذ القرارات بناء على الأدلة والحجج، يمثل بديلا قويا للتلقين، فهو يمكّن المتعلمين من فهم العالم من حولهم بشكل افضل من خلال تحليل وتقييم المعلومات بموضوعية، كما يساعدهم على اتخاذ قرارات مستنيرة بناء على الادلة والحجج بدلا من الاراء والمعتقدات الشخصية. بالاضافة الى ذلك، يساهم التفكير النقدي في حل المشكلات بشكل فعال من خلال تحليلها وتحديد الحلول الممكنة وتقييمها بموضوعية، واخيرا، يتيح التعبير عن الاراء بشكل فعال والدفاع عنها بالادلة والحجج.
تجارب الدول المتقدمة
لقد ادركت الدول الصناعية والمتقدمة منذ فترة طويلة ان التلقين يقيد الابداع والابتكار، وهما المحركان الاساسيان للتقدم والازدهار. لذلك، قامت هذه الدول باجراء تغييرات جذرية في انظمتها التعليمية، واستبدلت التلقين بالتفكير النقدي كركيزة اساسية لثورتها التعليمية. على سبيل المثال، في فنلندا، حيث يعتبر التعليم من افضل الانظمة التعليمية في العالم، يركز بشكل كبير على التفكير النقدي وحل المشكلات من خلال التعلم القائم على المشاريع والتعلم التعاوني، وتقييم الطلاب بناء على مهاراتهم في التفكير النقدي وحل المشكلات، وليس فقط على حفظ المعلومات. وفي كوريا الجنوبية، التي شهدت تحولا اقتصاديا هائلا في العقود الاخيرة، يلعب التفكير النقدي دورا حيويا في التعليم من خلال اسلوب التعليم القائم على المناقشة وتشجيع الابتكار والابداع. وفي اليابان، يتم التركيز على تعليم الطلاب كيفية التفكير بشكل منطقي وتحليلي، وكيفية استخدام هذه المهارات في حل المشكلات واتخاذ القرارات من خلال اسلوب التعليم القائم على حل المشكلات والعمل الجماعي. وقد اثبتت هذه الدول ان التفكير النقدي هو احد اهم العوامل التي تساهم في تحقيق التقدم والازدهار. فالمجتمعات التي تعتمد على التفكير النقدي تكون اكثر قدرة على الابتكار والتكيف مع التغيرات، وتكون اكثر قدرة على حل المشكلات المعقدة التي تواجهها.
ختاما، يتضح جليا ان التلقين يمثل عائقا حقيقيا امام تطور التعليم، بينما يفتح التفكير النقدي افاقا واسعة نحو المعرفة والابداع. هذا النهج ليس مجرد نظرية، بل هو واقع ملموس تجسد في تجارب الدول المتقدمة مثل فنلندا، وسنغافورة، وهولندا، والسويد، والمملكة المتحدة، وغيرها، التي وضعت التفكير النقدي في صلب انظمتها التعليمية.
ان تبني الانظمة التعليمية في العالم العربي للتفكير النقدي ليس خيارا، بل ضرورة ملحة لمواكبة تحديات العصر. يجب ان ننتقل من ثقافة الحفظ والتلقين الى ثقافة التحليل والابتكار، حيث يتم تشجيع الطلاب على طرح الاسئلة، والتفكير بشكل مستقل، وتطوير مهاراتهم في حل المشكلات واتخاذ القرارات.
بدون هذه الخطوة الحاسمة، ستظل الشعوب العربية حبيسة دائرة التخلف في مجالات الصناعة والابتكار. لن نتمكن من بناء اقتصاد قائم على المعرفة، ولن نستطيع المنافسة في عالم يتسم بالتغير السريع والتقدم التكنولوجي. ان الاستثمار في تنمية مهارات التفكير النقدي لدى ابنائنا هو استثمار في مستقبلنا ومستقبل اجيالنا القادمة.
***
محمد الربيعي
......................
* بروفيسور متمرس ومستشار دولي في التعليم

 

يطرح أفلاطون في كتابه "الجمهورية" مفهوم العدالة ويقترح فكرة المدينة المثالية التي يحكمها الفلاسفة. يعتقد أن المجتمع ينبغي أن ينقسم إلى ثلاث طبقات مختلفة، كل طبقة تؤدي دورها الخاص، ما يضمن الانسجام والعدالة. تتجلى فكرة الدولة المثالية في السعي لتحقيق العدالة والمساواة بين الأفراد. أفلاطون يشدد على أهمية التعليم والتربية في تشكيل الأفراد ليكونوا فضلاء. كما أنه يقدم مفهوم "الكهف"، الذي يوضح كيف أن معظم الناس يعيشون في ظلمة الجهل، بينما القليل منهم لديهم القدرة على رؤية الحقيقة.
يوتوبيا القرن العشرين
في القرن العشرين، ظهرت العديد من اليوتوبيات التي اقتبست من فكرة الدولة المثالية. استمرت هذه الأفكار لتتطور خلال القرن العشرين، مع التركيز على التحديات الاجتماعية والسياسية. يظل مفهوم الدولة المثالية مصدر إلهام للمناقشات الفلسفية حتى اليوم، وتعني أن الحكومات ينبغي أن تتألف من قادة ذوي معرفة عميقة بالقضايا الاجتماعية والسياسية في العصر الحديث. وفي الوقت الراهن، تعتبر الديمقراطية التي تتيح للجميع التصويت، والسعي لتحقيق العدالة والمساواة بين الأفراد عنصرًا أساسيًا في المجتمعات المعاصرة، بينما تحتوي أفكار أفلاطون على قيم يمكن أن تكون ملهمة، إلا أن التطبيق العملي لها يتطلب مراعاة السياقات الاجتماعية والسياسية المعقدة في العصر الحديث، ويتطلب توازناً بين المبادئ الفلسفية والواقع العملي.
الدولة في العصر الحديث
تقوم العديد من الدول على فكرة أن الحكومة يجب أن تعبر عن إرادة الشعب وأنها تعمل لخدمته، والعدالة ليست مجرد غياب الظلم وحسب، بل تشمل توزيع الموارد والفرص بشكل اعتدالي، وتتبنى الدول سياسات تهدف إلى تحقيق العدالة الاجتماعية، مثل البرامج الاجتماعية والإصلاحات الاقتصادية، وتسعى الدول لتحقيق موازنة بين الحقوق الفردية والمصالح الجماعية، مع التركيز على العدالة والمشاركة والمساواة. أساسيات بناء الدولة تختلف من دولة إلى أخرى حسب السياقات الثقافية، والسياسية، والاقتصادية، وكيفية وقدرة الدول على تطبيقها في بناء الدولة بطرق تتوافق مع احتياجاتها وظروفها الخاصة واختلاف الاستراتيجيات، لكن الهدف النهائي يبقى السعي لتحقيق العدالة، والمساواة، والتنمية المستدامة. تشكل نظرية العقد الاجتماعي وعلاقتها بمفهوم الحرية الشخصية مبدأ مهم في بناء الدولة، رغم ان لها جوانب متعارضة، ولكن هذه المتعارضات تعتمد على كيفية تفسير وتطبيق كل منهما. يسعى العقد الاجتماعي إلى تحقيق موازنة بين الحرية الشخصية والأمان الجماعي. في الدول الديمقراطية، يتم وضع قوانين لحماية الحقوق الفردية، مما يعكس التزام المجتمع بالمحافظة على الحرية الشخصية. يُعتبر هذا التوازن تحديًا دائمًا في الفلسفة السياسية، ولا يزال موضوعًا للنقاش في المجتمعات الحديثة.
نظرية الحاكم بأمر الله
نظرية الحاكم بأمر الله، تشير إلى مفهوم أن الحاكم يمتلك السلطة المطلقة ويعتبر مصدر الحق والعدالة، يمكن تحليلها من زوايا مختلفة وعلاقتها بنظرية الدولة المثالية وحكم الفيلسوف، مثل أفكار أفلاطون حول الحكام الفلاسفة، يفترض أن الحاكم بأمر الله يتمتع بفهم عميق للعدالة والمصلحة العامة، ويعتبر الحاكم مسؤولا عن تحقيق العدالة في المجتمع، ما يعكس بعض جوانب الدولة المثالية، بينما يدعو أفلاطون إلى حكم الفلاسفة الذين لديهم المعرفة، إلا أن الحاكم بأمر الله يمنح نفسه سلطة مطلقة قد تؤدي إلى الاستبداد، في الدولة المثالية، يفترض وجود توازن بين القوى الحاكمة والمشاركة السياسية، بينما في نظرية الحاكم بأمر الله، قد تغيب هذه العناصر ويؤدي تركيز السلطة في يد فرد واحد إلى انتهاك الحقوق الفردية والحريات، ما يتعارض مع مبادئ الدولة المثالية الفلسفية. بينما تحمل نظرية الحاكم بأمر الله بعض العناصر المشتركة مع فكرة الدولة المثالية، إلا أنها تتعارض مع الفلسفات التي تدعو إلى المشاركة السياسية والعدالة المتوازنة. يعتبر تحقيق الدولة المثالية في السياقات المعاصرة تحديًا يتطلب توازنًا بين السلطة والحرية.
نقد أبستميولوجي
تطبيق نظرية الحاكم بفضل الله في الواقع يمكن أن يتجلى بأبعاد متنوعة، تختلف حسب السياق التاريخي والمكاني. حيث يمارس الحاكم سلطة مطلقة على كل مجالات الحياة السياسية والاجتماعية. تُعتبر قراراته نهائية ولا تُقابل عادةً بمناقشة أو نقد ،بعض الأنظمة السلطوية تنظر إلى الحاكم كرمز للعدالة والاستقرار، يُصدر الحاكم القوانين وفقًا لرؤيته الشخصية ، وقد لا تكون هذه القوانين دائمًا ناتجة عن عملية تشريعية ديمقراطية أو أنظمة قانونية ، حيث يُعتبر الحاكم هو المحقق والمنفذ للقوانين ،قد تُستخدم أساليب القمع والرقابة على وسائل الإعلام والمجتمع المدني لضمان عدم وجود معارضة، وجود أنظمة تُقيّد الحريات الشخصية وتفرض رقابة صارمة على النشاطات السياسية والاجتماعية، تروج للحاكم نفسه كحامي للمجتمع، وقد يستخدم الدين أو الأيديولوجيا لتعزيز مكانته ، ويستغل الحملات الدعائية التي تُظهر الحاكم كرمز للعدالة والاستقرار، حتى لو كانت هذه الصورة بعيدة عن الواقع. بينما يمكن أن يظهر تطبيق نظرية الحاكم بأمر الله جوانب من الحكم الفعال، فإنها غالبًا ما تؤدي إلى انتهاكات لحقوق الإنسان والحريات الفردية، يظهر تطبيق هذه النظرية التوتر بين السلطة المطلقة والحاجة إلى نظام حكم عادل ومشارك. هذه الانتقادات تشير الى أن نظرية الحاكم بأمر الله قد تكون غير فعالة في تحقيق العدالة والاستقرار في المجتمعات الحديثة وتدعو الحاجة إلى تبني نماذج حكم أكثر ديمقراطية وشمولية تضمن حقوق المواطنين وتعزز المشاركة الفعالة في صنع القرار.
الأسس الفلسفية
تستند نظرية الحاكم بأمر الله إلى مجموعة من الأفكار الفلسفية التي شكلت فهما معينا للسلطة والحكم. منها اعتمادها على فكرة منح الحاكم صلاحية الحكم من الله، ما يعني أن سلطته تأتي منه لا من الشعب. يعتبر الحاكم وكيلا لله على الأرض، ولديه الحق في اتخاذ القرارات دون الاستعانة بغيره أو الحصول على موافقات. تحتوي بعض عناصرها على أفكار أرسطو السياسية، حيث ينظر للحاكم كخبير أو حكيم يمتلك المعرفة الكافية للحكم. وهذا يفترض أن يكون الحاكم على دراية بالقضايا الاجتماعية والسياسية لتحقيق المصلحة العامة. كما يعتمد الحاكم على التاريخ والتقاليد لتأكيد شرعيته، ما يعزز اعتباره وارثا لنظام حكم معين، استنادا إلى أن العائلات الحاكمة أو السلالات جزء من التراث الثقافي والسياسي. هذه الأفكار الفلسفية أساس النظرية، حيث تتداخل المعاني الدينية والسياسية لتبرير السلطة المطلقة وتأكيد دور الحاكم كمدافع عن العدل والمصلحة العامة.
المخلص
نظرية الحاكم بأمر الله، التي تشير إلى فكرة الحكم المطلق والسلطة الإلهية، ترتبط بفكرة المخلص في نهاية الزمان في عدة جوانب دينية وثقافية. في فترات الأزمات السياسية والاجتماعية، يزداد البحث عن مخلص يرجع النظام ويحقق الاستقرار، يُعتبر المخلص بمثابة الأمل في تغيير الوضع الحالي، تُستخدم فكرة المخلص لتفسير الأحداث التاريخية الصعبة، حيث يُعتقد أن الفترات الصعبة هي تمهيد لظهور المخلص، يُعزز هذا الإيمان من قدرة المجتمعات على الصمود في وجه التحديات العديدة. العديد من الحكام الذين يتبنون نظرية الحاكم بأمر الله يستخدمون فكرة المخلص لتعزيز شرعيتهم، يعزز هذا من موقفهم كقادة روحيين قادرين على توجيه المجتمع نحو الخير، قد يستخدم البحث عن المخلص كوسيلة للهروب من الواقع المرير الذي يعاني منه الناس، يؤدي هذا إلى تعزيز الأمل في تغيير مستقبلي أفضل، تجعل هذه الأسباب من فكرة المخلص جزءاً من النظرية العامة للحاكم بأمر الله، حيث تعبر عن الأمل في تحقيق العدالة والطمأنينة في عالم مليء بالتحديات. يعتبر البحث عن المخلص تعبيراً عن الحاجة البشرية إلى الأمل والتغيير، يعتبر دور المخلص في تحقيق العدالة الإلهية محوراً مهماً في العديد من التقاليد الدينية والفلسفية. يعبر عن الأمل في مستقبل أفضل ويعمل على تعزيز القيم الأخلاقية والعدالة في المجتمع، مما يساهم في بناء عالم أكثر توازناً وإنصافاً، أن مفهوم المخلص يختلف من دين إلى آخر، لكنه يظل مرتبطاً بفكرة تحقيق العدالة والأمل في مستقبل أفضل. في جميع الأديان، يعتبر المخلص رمزاً للحق والخير، ويعبر عن تطلعات البشرية نحو السلام والعدالة. أفلاطون في جمهوريته يقدم مفهوم العدالة وكيفية بناء مجتمع مثالي، كذلك نظرية المخلص في آخر الزمان ونظريات اليوتوبيا تعكس السياقات الاجتماعية والسياسية في فتراتها، فالأزمات والتحديات في المجتمعات تدفع المفكرين للبحث عن حلول مثالية، يمكن القول إن هذه النظريات مترابطة تاريخياً، حيث تشترك في التأمل في طبيعة المجتمع والعدالة، وتظهر كيف تغيرت الأفكار عبر الزمن استجابة للتحديات الاجتماعية والسياسية. لكن تحقيق العدالة والاستقرار في المجتمعات الحديثة تدعو إلى تبني نماذج حكم أكثر ديمقراطية وشمولية تضمن حقوق المواطنين وتعزز المشاركة الفعالة في صنع القرار.
***
غالب المسعودي

في البدء، حين أراد فرديناند دي سوسير أن يشيّد تصورًا بنيويًا للغة، كان يدرك أنه يؤسس لمفهوم جوهري: الدال لا يرتبط بالمدلول إلا عبر اعتباطية متفق عليها داخل النسق الاجتماعي. غير أن هذا الاتفاق، الذي بدا وكأنه حقيقة بديهية، لم يكن سوى بناء هش، قابلاً للتشظي تحت وطأة التحليل النقدي الذي جاء لاحقًا ليخلخل سطوة المركزيات اللغوية. إن العلاقة بين الدال والمدلول لم تكن يومًا علاقة طبيعية أو جوهرية، بل هيمنوية بامتياز، تتحكم فيها سلطة المعايير والسرديات المهيمنة، حيث يتم تطويع المدلولات وفقًا لسياقات متغيرة، ليست بريئة من وقع الأيديولوجيا وصراعات السلطة. ففي كل لحظة، كان للغة دور في تشكيل الوعي الجمعي، لا كوسيلة محايدة للتواصل، بل كأداة تُعيد إنتاج الأنظمة السياسية والاجتماعية السائدة.
لم يكن جاك دريدا حين فجّر مفهوم “الاختلاف” يفعل أكثر من كشف هذا الزيف البنيوي، إذ أوضح أن المعنى ليس حاضراً ولا ثابتاً، بل هو دوماً مؤجل، منزاح، متوارٍ خلف سلسلة لا نهائية من الإحالات الدلالية التي تفكك أي ادعاء بالاستقرار. وهكذا، بدأ تشظي العلاقة بين الدال والمدلول، وصارت اللغة فضاءً مفتوحًا على احتمالات لا تنتهي، يتعذر اختزالها في يقين واحد أو دلالة قارة. فقد فقد الدال سطوته التقليدية، وانفلت من إساره البنيوي، متحولًا إلى طيف عابر لا يستقر في معنى بعينه، بل ينفتح على عمق اللامحدود من التأويلات. إن هذا التباعد المستمر بين الدال والمدلول قد جعل اللغة تتأرجح بين الممكن والمستحيل، بين التفكيك والتراكم، متكسرة تحت وطأة التساؤل، وممزقة بين سرديات متنافسة، لا تسعى للتوصل إلى حقيقة واحدة، بل إلى تقويض الأوهام التي كانت تُرسخ عن اليقين.
غير أن هذا التشظي لم يكن محصورًا في الخطاب الفلسفي وحده، بل سرعان ما انعكس على بنية الواقع السياسي والاجتماعي. إذ لم يعد للغة وظيفة وصفية محايدة، بل تحولت إلى أداة للهيمنة، حيث أُعيدت صياغة المعاني لتناسب مشاريع السلطة. الديمقراطية، الحرية، العدالة، باتت كلمات منزاحة عن دلالاتها الأصلية، مستنزفة في دوائر الدعاية، تُحمل من المدلولات ما ينسجم مع مصالح القوى المهيمنة، لا مع الواقع الفعلي لمن يعيشون في هامش السردية الكبرى. كلمات مثل “الحرية” و”العدالة” لم تعد مجرد مفاهيم مجردة، بل أصبحت مسلّحة تُستخدم كأدوات لتثبيت الأوضاع القائمة، تمارس وظيفة تطويعية للأفراد والجماعات على حد سواء. إن لعبة الدال والمدلول لم تعد مسألة لغوية صرفة، بل غدت فعلًا سياسيًا بامتياز، حيث يتم إنتاج المدلولات وفقًا لحاجات السوق، والإعلام، والدولة، في عملية محكمة لإعادة تشكيل الوعي الجمعي، عبر قسر الدال على الامتثال لسياقات سلطوية تحكمها المصالح لا الحقائق.
هذه العلاقة بين الدال والمدلول تجلت أيضًا في المجالات الثقافية والفنية، حيث كانت اللغة والعلامات تُستعمل في معركة أكبر من تلك التي تُخاض داخل الكتب والأدوات الفكرية. فإذا كانت الفلسفة قد عكفت على تفكيك البنى اللغوية وإظهار هشاشتها، فإن الأدب والفن قد تطرقا إلى تلك الهشاشة بصورة أكثر جسدية وملموسة. فمن تيار الوعي في الرواية، حيث تتفكك الحبكة ويتوارى السرد الخطي لصالح تداعيات سيالة للوعي، إلى التجريدية في التشكيل، حيث يتوارى الشكل لصالح اللاشكل، صار الفن تعبيرًا عن هشاشة العلاقة بين العلامة ومعناها. فالفن، بعنفوانه التجريدي، يتحدّث بلغة متشظية، لا تبحث عن معنى محدد، بل عن حرية في التعبير. لم يكن ذلك محض تجربة جمالية، بل كان استجابة لمأزق ثقافي عميق: إذا كانت المعاني غير مستقرة، وإذا كانت اللغة غير قادرة على القبض على الحقيقة، فما الذي تبقى للفن سوى الاحتفاء باللايقين والانفتاح على احتمالات التأويل؟ إن الفن، كما الفلسفة، يصبح أرضًا اختبارية يُقاس فيها هشاشة العلاقة بين ما يُقال وما يُراد قوله، بين الدال والمدلول في تفاعل مستمر لا يحاول تثبيت شيء بل يظل في حركة دائمة.
في السياق الراهن، ومع الطفرة الرقمية، جاء هذا الانهيار ليجد صدىً عميقًا في التحولات التي فرضها الزمن الرقمي. إذ بات الدال يتحرر كليًا من أي مدلول ثابت، متحولًا إلى محض ترميز رقمي، يتجلى في أشكال متعددة، لا يحكمه سوى تدفق المعلومات واستراتيجيات الخوارزميات. المعنى أصبح متقطعًا، عائمًا، يتم إنتاجه وفقًا للميكانيزمات الخوارزمية التي تحدد له مواضعه في فضاء رقمي لا مركزي. لم يعد المعنى مجرد كلمة أو فكرة يمكن فهمها بشكل ثابت، بل هو سلعة خاضعة لتحولات السوق الرقمية. يصير كل شيء تحت سيطرة التفاعلات الرقمية، حيث يصبح كل دال في حالة من اللامحدودية والتغير المستمر. كما أن المعنى أصبح عرضة للتشويه والانتقاء، حيث تتدخل خوارزميات ضخمة في تشكيل ما يُعرض لنا من معاني، وبالتالي يتحول الدال إلى أداة لتحقيق مصالح مهيمنة.
وقد تحوّل الفضاء الرقمي إلى ساحة تتسابق فيها السرديات المختلفة، كل واحدة تسعى لإنتاج معانٍ جديدة تتلاءم مع مصالح السلطة الاقتصادية أو السياسية. من خلال منصات التواصل الاجتماعي، على سبيل المثال، يمكن التحكم في ما يُقال ويُكتب، ويُشوه المعنى أو يُقلب وفقًا لمصالح ضيقة. في هذا السياق، لا يعود الحديث عن معنى أو مدلول ثابت، بل عن سطوة الخوارزميات التي تحدد ما يعبر عنه الدال في واقع بلا مرجعيات ثابتة. إن الأسئلة التي تطرحها هذه التحولات الرقمية أصبحت وجودية بامتياز: إذا كانت الكلمات قابلة للبرمجة، وإذا كانت السرديات تُصنع وفقًا لميكانيزمات التحكم الرقمي، فأين تقع الحقيقة في عالم تُعاد فيه صياغة الواقع وفقًا لما تقتضيه المصالح الاقتصادية والسياسية؟ ماذا يعني أن تكون هناك لغة في فضاء رقمي لا تملك فيه الكلمات أي مركز ثابت؟ وماذا يعني أن تكون المعاني مجرد مكونات قابلة للتغيير مع تدفق الخوارزميات؟
هكذا، لا يبدو أن الأمر مجرد تفكك لعلاقة الدال والمدلول، بل هو انهيار كامل للفرضيات التي كانت تؤطر مفهوم المعنى نفسه. لقد تجاوزنا مرحلة التأجيل الدلالي، ودخلنا في طور جديد: ما بعد المعنى، حيث لا يقين، ولا مدلولات قارة، بل فضاء مفتوح على احتمالات لا نهائية، تدور فيه اللغة حول ذاتها، بلا أفق واضح، وبلا سلطة حاسمة تحدد ماذا تعني الأشياء حقًا. وبذلك، تُصبح اللغة، في هذا السياق المعاصر، مجرد ركام من الإحالات المتداخلة التي تبتعد عن أي محاولة جادة للاقتراب من حقيقة ثابتة، بل هي تنبض بحرية محكومة فقط بالآليات التي تشكل الواقع الاجتماعي والسياسي في عصر المعلومات.
***
إبراهيم برسي

ثمّة سكون فكري يعتري مجتمعاتنا منذ مدّة طويلة، ودراسة هذه الظاهرة تُعدّ عملية مفتوحة لا تنتهي، مهما كثرت مشاريع الإصلاح السياسي والثقافي ونقد التراث. كلّها تحاول فهم الظاهرة والإتيان بحلّ، دون تشخيص دقيق لأنمط التفكير أو (الرؤية الوجودية) (Worldview) لدى العقل العربي.
ولهذا، نجد أن أغلب الجهود المبذولة في نقد التراث ومحاولة إعادة بنائه، سواءً بأدوات عصرية أو بأدوات داخلية تراعي السياق، غالبًا ما تدور في دائرة مفرغة من إعادة إنتاج ما هو مألوف لدى ذهنيّة العربي دون أن تُقدّم قيمة نقدية جوهرية، فضلًا عن العجز عن صياغة حلول فعَّالة أو تطبيقها عمليًا. وهنا يتجلّى التحدي الحضاري الأكبر: كيف نُحدث تحولًا في بنية التفكير قبل أن نطمح إلى اصلاح ما ينبثق عنها؟
ومما لا شك فيه أن المجتمعات المنغلقة والمتأخرة، غالبًا ما تعيش حالة خوفٍ عام. من جهة هو خوف من أي تغيير ثقافي قد يهدد توازنها الموروث، ومن جهة اخرى، هو تمسّك قلق بالموروث ذاته، مدفوعًا بمحاولات دؤوبة لتبريره فلسفياً بدلًا من تشخيصه بعقل متجرد، يشعرنا بالمسؤولية تجاه ما شكل وعينا الجماعي. إن جوهر هذا الخوف، ليس الحفاظ على التراث، بل التمسّك العصابي به، إذ يحوّله إلى صنمٍ منزّه عن النقد، رغم النتائج المتردية التي باتت فادحةَ الوضوح.
عندما وصف المفكر عبد الله القصيمي العرب «كظاهرة صوتية»، يتحدثون أكثر مما ينصتون، ويجيدون التفوه لا الفهم. فالخطاب في هذا السياق، يُصبح وسيلة لتأكيد الهوية لا لتطويرها أو أختبار المجهول. رفضه للتراث لم يكن نابعًا فقط من اعتبارات إيمانية أو منطقية، بل من رفضه لتحوّل التراث إلى سجنٍ ناعم يمنع الانسان من الانفتاح على نفسه والعالم.
من ناحية أخرى، قدّم محمد عابد الجابري مشروعًا في نقد العقل العربي ودراسة بنيته، وخلص إلى تقسيمه إلى نظم معرفية: البرهانية (العقلانية)، العرفانية (الذوقية/الصوفية)، والبيانية (اللغوية/النقلية). وانتهى إلى أن البيان هو ما استقرّ عليه العقل العربي في النهاية، عقلٌ يبحث عن الاتساق مع المرويات والاخبار، على حساب التفكير العقلي واختبار الواقع. ويسعى إلى الانسجام مع الجماعة، لا إلى مواجهة الاسئلة الصعبة. فعند الجابري، يصبح الموروث هو المرجع الأعلى، بينما يُهمَّش العقل وتُقصى كل المناهج والأدوات الحديثة التي تعتبر نتاج العقل!
قد تختلف منطلقات ولغة القصيمي عن الجابري، لكن كليهما اشار إلى ملامح ازمة واحدة: الجمود عند حدود المألوف، وتقديس الماضي دون مسائلته. إنهما يلتقيان في تشخيص الحالة العربية التي، في العموم، تركن إلى فهم السلف على حساب إجتهاد المعاصرين، وترفض الاعتراف بأننا النتاج الحقيقي لهذا الموروث، كونه المدخل الأول الذي عشّش في اذهاننا منذ نعومة اظفارنا.
على ضوء ذلك، يمكن تشخيص الحالة بشكل أكثر شمولية على أنها «ظاهرة ماضوية»، أي حالة ذهنية ومعرفية تنطلق من الماضي، وتعود إليه. الماضوية ليست حنيناً للماضي أو مجرد فكر بحقبة زمنية كان عليها "أجدادنا"، بل موقفًا وجوديًا من الحياة يرفض أبسط ابجديات طبيعة الأشياء: التجدد والمغامرة والتطوّر. فحين يصبح الماضي هو المرجع الأول، لا العقل، تنغلق الذات داخل حلقة رتيبة من التكرار، ويصبح الحاضر إعادة تحضير الماضي بأشكال وأقنعة مختلفة لكن بنفس الجوهر. وبات التفكير مجرد أداة تزيينية للموروث على طريقة "أسلمة المعرفة". فالنتيجة: يُختزل الموروث من كونه مجالًا للفهم، إلى كونه سلطةً أولية تتحكم بوعي الإنسان وكينونته.
ليست المسألة في عيشنا الذهني في الماضي، بل في أن الماضي يعيش فينا! يُسيّر لغتنا، ويُشكل رؤيتنا لأنفسنا والعالم. والمشكلة لا تكمن في احترامنا للماضي، إنما عجزنا عن تشخيصه، وتحويله إلى مادة للفهم لا إلى معبدٍ للتقديس.
وحين يغيب السؤال، يغيب النمو. المجتمع الذي لا يجرؤ على مجاوزة أسلافه معرفيًا، لا يراكم خبرة، ولا يبتكر جديداً، ولا يصغي للعالم إلا من وراء حُجُب تحيل بينه وبين الفهم الحقيقي والتقدم.
وعليه فالعربي ليس مجرد ظاهرة صوتية، أو وعقلًا بيانيًا، إنما هو تمظهر حيّ لظاهرة ماضوية، تنظر إلى العالم بروح مشدودة إلى الوراء، وتعجز عن تصور المستقبل خارج أطر الموروث. أنها أزمة وعي مأزوم، يراكم الرماد ويحسبه جمراً، لذلك فإن كل محاوله للتجديد تُقابل بالريبة وتُصنف كخيانة، لا لأنها تُخطئ، بل لأنها تجرؤ على السؤال؛ سؤال المستقبل والوعي والحقيقة.
***
خالد اليماني

 

كنَّا قد انتهينا في المساق السابق إلى أنَّ اللُّغة يصعب الاحتجاج بها في شأن محاكمة أساليب العصور العَرَبيَّة؛ لأنَّ لُغة العَرَب واسعةٌ وتحتمل التعدُّد في اللهجات، وإنْ سعَى اللُّغويُّون إلى توحيدها في قوالب محدَّدة جامدة، كما أنَّها تحتمل الغلط في الرواية. ثمَّ ما يُدرينا: أكان النصُّ بصيغة مَن نُسِبَ إليه أم بصيغة راويه أو كاتبه. غير أنَّ الشِّعر أوثق في هذا المجال؛ لأن الشِّعر يَحكُمه البحر الشِّعري، ولا يَقبل التغيير كثيرًا. ولعلَّه لهذا اعتمد على الشِّعر النحويُّون واللُّغويُّون أكثر من اعتمادهم على النثر؛ لأنَّ بقاء النصِّ فيه كما قاله قائله موثوقٌ غالبًا، لضوابط الأوزان والقوافي. ثم أردفَ (ذو القُروح) بقوله:
ـ من شواهد هذا ما جاء في الخطبة الخامسة والتسعين بعد المئة، من الخُطَب المنسوبة إلى (عليِّ بن أبي طالب، كرَّم الله وجهه)، في حديثه عن الرسول، صلى الله عليه وسلَّم: «ولقد واسيتُه بنفسي في المَواطن التي تَنْكُص فيها الأبطال.»(1) قال (الجوهري)(2): «واسَيْتُهُ لُغةٌ ضعيفةٌ.» فاللُّغة العالية: آسيته. إذ قيل: إنَّ أَصل واو (واسَى) الهمزة: (آسَى)، فقُلِبت واوًا تخفيفًا. ومعنى «يواسي فلانٌ فلانًا»: يُشاركه. والمواساة: المشاركة. وقيل: يواسيه: يصيبه بخير. قالوا: وكان في الأصل (يُؤاوِس)، فقدَّموا السِّين وهو لام الفعل، وأخَّروا الواو وهي عَين الفعل، فصار الفعل (يُؤاسِو)؛ فلمَّا لم تحتمل الواو الحركة، سكَّنوها، فصار: (يُؤاسِوْ)، وقلبوها ياء؛ لانكسار ما قبلها، فصار: (يُؤاسِي)، وهذا من المقلوب.
ـ يا ساتر، ما كلُّ هذه المعمعة والتقليب؟!
ـ هكذا كانت فرضيَّات اللُّغويين العجيبة! ونضيف أنَّهم قد يسهِّلون الهمزة، فيصير الفعل: (يُواسِي)، كما قالوا في (آسَى): (واسَى). وقيل: يجوز أن يكون غير مقلوب، فتكون صيغة (تفاعل من أسوت الجرح. وفي حديث (الحُدَيْبِية): «إنَّ المشركين واسَوْنا للصُّلْح»؛ جاء على التخفيف. وعلى الأَصل جاء الحديث الآخر: «ما أَحَدٌ عندي أَعْظَمُ يَدًا من (أَبي بَكر)؛ آساني بنفسه وماله.» وفي حديث (عَليٍّ): «آسِ بَيْنَهم في اللَّحْظَة والنَّظْرة.» ومن حِكَمه: «خيرُ إخوانك مَن واساك».(3) ومن المنسوب إليه، في القصيدة ذات المطلع:


باتُوا عَلَى قُلَلِ الأجْبَالِ تَحْرُسُهُمْ ::: غُلْبُ الرِّجَالِ فَلَمْ تَنْفَعْهُمْ القُلَلُ
البيت:
ما ساعَدُوْكَ ولا واساكَ أَقْرَبُهُمْ ::: بَلْ سَلَّـمُوكَ لَهَا يا قُبْحَ ما فَعَلُوا(4)

ويقال: هو يُؤاسِي في ماله أَي يُساوِي. ويقال: رَحِم اللهُ رَجُلًا أَعْطى من فَضْلٍ وآسَى من كَفافٍ.(5) هذا ما ذهب إليه اللُّغويُّون، فتنقَّلوا بالكلمة بين همزٍ وتسهيل. ولكن الأمر قد يكون أيسر من ذلك كلِّه؛ بأن يكون أصل (واسَى) (ساوَى)، أي: ساوَى غيره بنفسه، فقلَبوا. ولذا قالوا: «هو يُواسِي في ماله، أي يُساوِي». وهذا تعبير ما زال مستعملًا في بعض اللهجات، كلهجات (جبال فَيْفاء)، فيقولون: واسَى، يُواسِي، أي: شاركَ غيره في طعامٍ أو مالٍ أو غيرهما. ومن ذلك يصفون من يُعطي الآخَرين، ويشاركهم في ما هو من خالص ملكه، بصِفة (وَسْي)، فيقولون: «فلان وَسْي»، أي: مِعطاء.
ـ ثمَّ، مرَّة أخرى، ما يدرينا أكان النصُّ المنسوب إلى (عَليٍّ) بصيغة «ولقد واسيتُه بنفسي»؟ أم بصيغة «ولقد آسيتُه بنفسي»؟!
ـ ومن هنا قلتُ لك: لا حُجَّة في مثل هذا الملحظ اللُّغوي يمكن أن يُحتجَّ بها في أنَّ لُغة «النَّهْج» لا تُوافق اللُّغة المتوقَّعة من (عَليٍّ)، أو غيره من أهل عصور الاحتجاج، كما كانت تُسَمَّى.
ـ لكن الفيصل أن نجد استعمال «واسَى» في أساليب صدر الإسلام، وعندئذٍ يُلقَم (الجوهري) أحجارًا كريمة، بتخطيئه هذا الاستعمال!
ـ نعم. وستجد أنَّ الشاعر الجاهلي (قَيْس بن الحُدادِيَّة)(5) يقول:
يُواسـِي لَدَى المَحْلِ مَولاهُمُ ::: وتُكْشَفُ عَنْهُ غُمُومُ الكُرَبْ
ـ وبذا يسقط ما زعمه (الجوهري)، من أنَّ «واسَى» لُغةٌ ضعيفةٌ.
ـ صحيح؛ فالعَرَب تقول: واسَى، وآسَى، بمعنى.
ـ ألا يُحتمل أنَّ الشاعر قال: «يُؤاسِـي لَدَى المَحْلِ مَولاهُمُ»؟
ـ بلى. ويجوز هنا تسهيل الهمزة، على كلِّ حال. والوزن لا يختل في الحالتين. لكن ما أردتُ قوله، عمومًا، إنَّ لُغة «النَّهْج»، في ذاتها، لا تكشف عمَّا يُمكن أن يُتَّخَذ حُجَّةً في بطلان نِسبة نصوصه إلى (عَليٍّ)، بمقدار ما يتبدَّى ذلك في جانبَي الأساليب والمحتويات.
ـ لنعُد إلى منبثق هذا البحث!
ـ وهو؟
ـ هو- كما تذكر- زعْم (السيِّد القبانجي) أنَّ «نَهْج البلاغة» أبلغ من «القرآن الكريم»!
ـ أذكرتَني الطعنَ وكنتُ ناسيًا! ما ذلك (القبانجي) اللَّطيف من البلاغة في قليلٍ أو كثير، ولا في قبيلٍ أو دبير، ولا حتى من مذهبٍ إسلاميٍّ في شيء، شيعيٍّ أو غير شيعي. وكيف يتحدَّث عن «القرآن» مَن لا يعرف اللُّغة العَرَبيَّة، حتى إنه لا يعرف كيف يقرأ آيةً من «القرآن»، فيكاد لا يقرأ آيةً قراءةً سليمةً من الغلط؟!
ـ وهذا من أعجب العجب من مثقفٍ عَرَبيٍّ، فضلًا عن أن يكون معمَّمًا- وسَيِّدًا وحَصُوْرًا- يتصدَّر للمفاضلة بين بلاغات النصوص!
ـ وكذلك معظم هؤلاء القوم من المعمَّمين، في أخطائهم في آيات «القرآن».
ـ وهو أمرٌ لافت وغريب، يدلُّ على أنهم ليسوا بخيرٍ من غيرهم- في مدرسة المشاغبين الحديثة- في البُعد عن كتاب الله، على الرغم من الدَّعاوَى العِراض.
ـ تلك ظاهرةٌ فاضحة، تثير التساؤل أصلًا حول صِلة أحدهم بالكِتاب، وهو يتصدَّر الناس على أنه- لا ينتمي إليه فحسب- بل هو فوق ذلك إمامٌ متَّبعٌ، أو مَولًى ذو مريدين! أحد شيوخهم، على سبيل النموذج، في محاضرة «يوتيوبية» حول «فِقه التقيَّة»، جعل يقرأ الآية «وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ، وَلَا تَنَازَعُوا، فَتَفْشَلُوا، وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ، وَاصْبِرُوا، إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ»، فكان يقول: «ويَذهبُ ريحكم»- بتذكير الفعل مع المؤنَّث، ورفعه! وحين حاول أحد الحاضرين تصحيح نطقه، أصرَّ على أنها «ويَذهبُ ريحكم»، وظلَّ يعيدها كذلك. وحين اضطره ذلك المصحِّح إلى القول: «فتذهب»، جاراه بعد لَأْيٍ، غير أنه بقي يقول «وتذهبُ»، بالرفع!
ـ وعليه، فظاهرٌ أنَّ كثيرًا من هؤلاء عوامّ، جهلةٌ أدعياء، أو كأنَّ بينهم وبين نَصِّ «القرآن» جفوة.
ـ إنَّما يتسيَّدون على الناس غالبًا بالعمائم، لا بالعِلم! والخَوض في هذا أمرٌ يطول. والشاهد أن بضاعة هؤلاء، في الأعم، هي أبعد ما تكون عن تأهيلهم لمقاربة النصوص، أو فهمها، فضلًا عن تفسيرها، وتمييز بلاغيَّاتها.
ـ ‎ثمَّ إنَّ صاحبنا المعمَّم الوجداني إنَّما تراه يردِّد ادِّعاء مذهبٍ في العرفان، خاصٍّ به غير معروف، أوَّل استهلالاته إنكار بلاغة «القرآن»، وثانيها السخريَّة من (محمَّد بن عبدالله) ونبوَّته.
ـ إنَّه مذهب اللَّا مذهب، وادِّعاء الجمع بين الإيمان وضِدِّه، والقَدامة والحداثة، والولاء والبراء من كلِّ انتماء، تحت جُبَّةٍ واحدة، وعمامةٍ سوداء واحدة! وهيهات، فتلك شخصيَّةٌ تشكيليَّةٌ من كلِّ لون، وجُمجمة متحفيَّة من كلِّ الأفكار والاتجاهات، لم يسبق لها مثيلٌ عقلاني! هذا، ولقد أورد (شوقي ضيف) في كتابه «الفن ومذاهبه في النثر العَرَبي»(6)، كلامًا حول «نَهْج البلاغة»، وما قيل فيه. غير أنه أعرض بعدئذٍ إعراضًا عن التمثيل على خطابة (عَلِيٍّ)، من نحو ما استشهد على خطابة غيره من الخلفاء الراشدين، لا من «النَّهْج» ولا من غيره. وكان حريًّا أن يبين نصيًّا ما في المنسوب إلى عَلِيٍّ في «النَّهْج» من مباينةٍ أسلوبيَّةٍ لما يُمكن أن يُنسَب إليه، بالنظر إلى عصره وبيئته، وأن يقارن ذلك بما أشار إلى صحَّته ممَّا ساقه (الجاحظ)، أو غيره، ولا سيما أنَّ كتابه كتابٌ مختصٌّ في هذه القضايا. لكنه لم يفعل!
[وللحديث بقيَّة].
***
أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي
........................
(1) الرَّضِي، الشَّريف، (1990)، نَهْج البلاغة، شرح: محمَّد عبده، (بيروت: مؤسَّسة المعارف)،480.
(2) صحاح اللُّغة، (أسي).
(3) البيهقي الكيدري، قُطب الدِّين محمَّد بن الحُسين، (1999)، ديوان الإمام عَلي: المعروف بأنوار العقول، تحقيق: كامل سلمان الجبوري، (بيروت: دار المحجَّة البيضاء)، 334/ 1، 335/ 19. وفيه: «واسُوك»! ولا يستقيم. والقصيدة في هذا الديوان كثيرة الأخطاء.
(4) يُنظَر: الأزهري، التهذيب، (أوس)؛ ابن منظور، اللِّسان، (أسا).
(5) (صيف 1979)، شِعر قَيْس بن الحُدادِيَّة ، تحقيق: حاتم صالح الضامن، (مجلَّة المَورد، (العراق: وزارة الثقافة والإعلام)، م8، ع2، ص203- 220)، 206/ 10.
(6) (القاهرة: دار المعارف، 1983)، 61- 63.

 

عندما نغوص في عمق التجربة الإنسانية، نجد أن سؤال الحرية ليس مجرد محاولة للتخلص من القيود، بل هو صدام حتمي مع الفكرة الأولى للوجود. إن الحرية، في جوهرها، تتحدى الفهم البشري التقليدي للوجود، ما يجعل الإنسان دائمًا في مواجهة مع السلطة، سواء كانت تلك السلطة إلهية أو اجتماعية أو فكرية.
الإِلٰهُ، في بدايته، لم يكن سوى انعكاس للرغبة البشرية في النظام، في اليقين، وفي القوة التي تحمي الإنسان من عبثية العالم. كان الإِلٰهُ في صورته الأولية كائنًا محايدًا، لا يفرض قيودًا ولا يطلب خضوعًا. لكن مع ولادة الأنبياء، تغيرت المعادلة.
الأنبياء، بأقنعتهم المختلفة، جاءوا ليعلمونا الخجل. ليس الخجل هنا بمعناه السطحي المتعلق بالعري الجسدي فقط، بل بمعناه الرمزي الأعمق: إخفاء كل ما قد يجعلنا نشعر بالضعف أو النقص أمام أعين الآخرين. في هذا السياق، يمكننا أن نرى الخجل ليس فقط كأداة اجتماعية للاندماج، بل كأداة قوة تُستخدم لتحجيم الإنسان وتحويله إلى كائن خاضع ضمن معايير محددة.
الفلاسفة مثل سيغموند فرويد رأوا في هذا الخجل حاجة إنسانية للبقاء ضمن حدود الجماعة، بينما اعتبر ميشيل فوكو الخجل أداة للسلطة تُستخدم لتطويع الأفراد وجعلهم جزءًا من نظام اجتماعي أكبر. فجأة، أصبحت البراءة الأولى خطيئة، وأصبحت الحرية عبئًا، وأضحى الإِلٰهُ وسيلة لتبرير القيود، لا لتحرير الإنسان من عبثيته.
جان بول سارتر، في صميم مشروعه الفلسفي، كان مدركًا لهذا القيد. وعياً بفكرة الإِلٰهِ لم يكن مجرد رفض لمفهومه، بل مواجهة مع السلطة التي يمثلها في الوعي الإنساني. في كتابه “الوجود والعدم”، يُعرِّف الحرية كعبء، لأن الإنسان، كما يقول: “محكوم عليه بأن يكون حرًا، لأنه لم يصنع نفسه”. بالنسبة له، الحرية ليست هدية تُمنح، بل مسؤولية ثقيلة تُلقى على عاتق الإنسان الذي يجد نفسه عالقًا بين ضرورة الوجود وغياب المبرر السماوي.
لكن هذا الوعي نفسه يفضح تناقضات سارتر: هل يمكن التحرر الكامل من فكرة الإِلٰهِ إذا كانت الحرية التي يدعو إليها تنبني على نفس الهياكل التي أنشأها الإِلٰهُ في الذهن البشري؟ في حياته الشخصية، بدا أن سارتر لم يستطع التحرر من هذه القيود. علاقته الشهيرة مع سيمون دي بوفوار تكشف تناقضه كفيلسوف يدعو إلى الحرية المطلقة، ولكنه في ذات الوقت كان يتهرب من مسؤولياته العاطفية والاجتماعية.
سارتر لم يكن فقط يهرب من الإِلٰهِ، بل كان يعيد خلقه في صورة جديدة: سلطة فكرية يُخضع لها ذاته وذوات الآخرين. ربما لم ينجح سارتر أبدًا في قتل الإِلٰهِ، بل فقط استبدله بأنبياء جدد: العقل، المجتمع، وحتى ذاته التي أصبحت مركزًا جديدًا للسلطة. وهنا يكمن السؤال: هل كان سارتر ملحدًا حقًا، أم أن الإِلٰهَ ظل حاضرًا في وعيه، ليس ككائن غيبي، بل كظل يتسرب إلى كل قراراته وممارساته؟
فريدريش نيتشه، ذهب إلى أقصى الحدود في محاولته لقتل الإِلٰهِ. إعلانه الشهير: “لقد مات الإِلٰهُ، ونحن قتلناه”، لم يكن إعلانًا عن انتصار الإنسان، بل عن انهياره أمام هذا العبء الجديد. بغياب الإِلٰهِ، تُرك الإنسان وحيدًا، بلا قيم جاهزة أو نظام يبرر وجوده.
في الحرية، كما تصورها نيتشه، دعوة دائمة لإعادة خلق القيم وصناعة نظام جديد يقوده الإنسان الأعلى. ولكن الإنسان الأعلى، كما صاغه نيتشه، لم يكن سوى إعادة خلق لإِلٰهٍ مصغر، يأتي في صورة نبي جديد. الإنسان الأعلى هو التجسيد لفكرة القيادة الفوقية التي لا تتحرر من فكرة الإرشاد المطلق. وكما قال آلان باديو، فإن الإنسان الأعلى يحمل في جوهره تناقضًا لأنه يبني سلطته على رفض السلطة نفسها.
ومع ذلك، نجد شعوبًا عاشت حريتها دون الحاجة إلى إعلان موت الإِلٰهِ أو الوقوع في تناقضات الفلاسفة. في السودان، وتحديدًا في النيل الأزرق، نجد قبائل مثل البُرُونْ (Barun) والأَنْقَسْنَا (Angasna)، التي بنت حياتها على انسجام تام مع الطبيعة والآخر. بالنسبة لهذه القبائل، القوى الطبيعية ليست آلهة قاهرة بل شراكة وجودية. طقوسهم وأغانيهم ليست خضوعًا، بل احتفاء بالحياة، وتأكيد على أن الحرية ليست فكرة مجردة بل ممارسة يومية.
في أستراليا، تعيش قبائل السكان الأصليين، أو كما يُطلق عليهم الأبوريجينال (Aboriginals)، مثل الأَنَانْغُو (Anangu)، بفلسفة مشابهة. حيث الأرض ليست ملكًا لإِلٰهٍ، بل جزء من كيانهم الوجودي. طقوسهم تعبر عن وحدة الإنسان مع محيطه، عن حرية تُمارس بلا حاجة إلى آلهة أو أنبياء. بالنسبة لهم، تجاوزوا فكرة الإِلٰهِ كسلطة، ووجدوا في البساطة مصدرًا لتحررهم.
وفي أمريكا الشمالية، قبائل مثل اللاكُوتَا (Lakota) ترى في الطبيعة انعكاسًا للحرية. الحرية بالنسبة لهم ليست تمردًا، بل احترام للذات وللآخر. وفي أمريكا اللاتينية، قبائل مثل المايا (Maya) ما زالت تحتفظ برؤى تتجاوز ثنائية الإِلٰهِ والخضوع، لتؤكد أن الإنسان هو سيد مصيره.

هنا، تتقاطع هذه الفلسفات مع فكرة أن الحرية ليست مجرد تمرد على السلطة، بل بناء مستدام لعلاقة مع العالم دون الحاجة إلى قوة مهيمنة. إنها حرية في جوهرها تعيد تعريف علاقتنا مع الطبيعة، ومع الآخرين، ومع ذواتنا.
لكن لو عاد سارتر أو نيتشه اليوم، هل كان بإمكانهما الهروب من الآلهة الجديدة؟ في عصرنا الحالي، الآلهة لم تعد تأتي من السماء، بل من داخلنا، من رغبتنا في السيطرة واليقين. الشاشات، الخوارزميات، الهواتف المحمولة، كلها أصبحت رموزًا لآلهة حديثة تراقبنا وتتحكم فينا. الهاتف، الذي يُفترض أنه أداة حرية، أصبح رمزًا للرقابة الذاتية.
هذه الآلهة الجديدة لا تفرض سلطتها بالقوة، بل عبر رغباتنا، مما يجعلنا شركاء في قهر أنفسنا. وهنا، يظهر التناقض الأكبر: هل يمكن للإنسان أن يتحرر من سلطة صنعها بنفسه؟
المفارقة أن القبائل التي لم تؤمن يومًا بإِلٰهٍ مركزي تبدو أكثر قدرة على مقاومة هذه الآلهة الحديثة. بالنسبة لهم، الحرية ليست إعلانًا عن التمرد، بل حالة وجودية تُمارس يوميًا. قيمهم ليست قوالب جامدة، بل حياة متجددة تُعيد تشكيل نفسها مع كل جيل.
لكن هنا يظهر السؤال الأهم: هل نصب سارتر ونيتشه أنفسهم أنبياء علينا دون أن يدركوا؟ سارتر، في سعيه لتحرير الإنسان، خلق عبئًا جديدًا، حيث أصبحت الحرية قيدًا آخر لا يستطيع الجميع احتماله. ونيتشه، رغم محاولته هدم الأنبياء، خلق نبيًا جديدًا: الإنسان الأعلى.
المفارقة الساخرة هي أن الفلاسفة الذين دعوا إلى قتل الإِلٰهِ وجدوا أنفسهم يُنصبون كآلهة جديدة. أفكارهم أصبحت نصوصًا مقدسة، وأتباعهم حولوا فلسفاتهم إلى أديان حديثة.

وهنا تتجلى السخرية: سارتر ونيتشه، في محاولتهما تحرير الإنسان من الآلهة، أصبحا جزءًا من نفس النظام الذي أرادا تدميره. الحرية، في النهاية، ليست في قتل الإِلٰهِ، بل في قتل الخجل الذي زرعه الأنبياء والفلاسفة على حد سواء.
السؤال الذي يظل مفتوحًا: هل يمكننا أن نتحرر من هذه الآلهة الجديدة؟ وهل يمكننا أن نعيش كما ولدتنا الحياة، عراة من كل القيود التي فرضها علينا الأنبياء والفلاسفة؟
***
إِبْرَاهِيم بَرْسِي - باحث سوداني

إذا كان الإدراك الذاتي يتطلب انعكاسًا في عقل آخر، فإننا لا ندرك ذواتنا إلا عبر الآخر، وربما لا تكون لنا ذات أصلًا إلا بهذا التقاطع. هكذا تنكشف أمامنا طبيعة الوعي، ليس كجوهر مستقل، بل كحركة دائمة تتجسد في التفاعل. وكما أن مايكل أنجلو بيستوليتو استخدم المرايا لاستجواب ذاته، وكما صاغ فيتوريو غاليز مفهوم المحاكاة المتجسدة كأساس للذاتية التعددية، فإن العقل لا يتجلى إلا عبر علاقته بآخر.
لكن هذا يقودنا إلى إشكالية العلاقة بين العقل والمادة، وهي المعضلة الفلسفية التي أثارتها قرونٌ من الفكر الإنساني. كيف تتجسد الحكمة والوعي داخل عالم مادي؟ سؤالٌ يتردد في كتاب بيتر جودفري سميث "عقول أخرى: الأخطبوط والبحر والأصول البعيدة للوعي". وهذا النص، ليس مجرد دعوة لتجاوز مركزية الإنسان في النظام الحي، بل هو تحريضٌ على إعادة النظر في افتراضاتنا حول طبيعة الوعي نفسه.
إن الاكتشافات الحديثة التي تربط بين الدماغ والجهاز المناعي في تشكيل الوعي تدفعنا إلى التفكير في العقل كشبكة متكاملة، لا ككيان منفصل عن الجسد، حيث أن الإدراك ليس محصورًا في الحواس الخمس، بل هناك حاسة سابعة تكمن في جهاز المناعة ذاته، إذ يقوم برصد الكائنات الدقيقة وإبلاغ الدماغ بها. إن هذا الترابط بين الإدراك والبقاء يفرض علينا إعادة التفكير في مفهوم الذات، لا ككيان مستقل، بل كعلاقة تكوينية بين العقل والجسد والبيئة.
على مستوى أعمق، فإن العلاقة بين الإدراك والفعل لم تكن دومًا مركزية في الفلسفة، رغم أنها أساسية في تجربتنا اليومية. يوضح جودفري سميث أن أفعالنا تشكل رؤيتنا للعالم، وأن الإدراك لا ينفصل عن الحركة. بل إن التجربة الذاتية، في جوهرها، هي استيعاب للعالم من خلال الفعل، وهي ليست مجرد عملية حسابية عقلية، بل تفاعل عضوي مع المحيط. هنا تبرز أهمية الجهاز الحسي الحركي في تشكيل وعينا، حيث تصبح الحركات استجابات ديناميكية للواقع، لا مجرد انعكاسات سلبية له.
عندما ندرس سلوك الأخطبوط، فإننا لا نكتشف عالماً آخر فقط، بل نعيد اكتشاف ذواتنا عبر الاختلاف. الحدود بين الذات والبيئة، التي نراها واضحة في حياتنا اليومية، تصبح في حالة الأخطبوط أكثر ضبابية. إن حركة أذرعه، التي تتخذ قراراتها بشكل مستقل عن مركز الدماغ، تذكرنا بأن وعينا ليس وحدة متجانسة، بل فسيفساء من العمليات المتداخلة. وهذا يقودنا إلى استعارة الفرقة الموسيقية، حيث أن عمل الجهاز العصبي ليس مجرد توزيع للأوامر، بل هو أشبه بفرقة موسيقية تعزف بتناغم مرتجل، حيث كل عنصر يؤثر في الآخر دون سيطرة مطلقة.
قبل عشرين عامًا، لو سألنا أنفسنا: "ماذا يعني أن نكون بشرًا؟" لكنا قدمنا إجابة مختلفة عن تلك التي يمكننا تقديمها اليوم. تمامًا كما كان الاعتقاد طويلًا بأن الشمس تدور حول الأرض، بينما الواقع أن الأرض هي التي تدور حول الشمس، فإن تصورنا لوعينا يتغير مع الزمن. إن إعادة النظر في طبيعتنا، في علاقتنا بالآخرين، بالبيئة، بالكائنات المختلفة، هي خطوة ضرورية لإعادة تعريف ذواتنا، لا ككيانات منعزلة، بل كعقول تتشكل في شبكة الوجود الممتدة بين الأرض والبحر، بين الماضي والمستقبل، بين الذات والآخر.
***
الأستاذ محمد إبراهيم الزموري

في هذا العصر.. تحوّلت الأماكن العامة إلى مصادر إزعاج تُخلّ بصفو الحياة وسلامة العقل. فحتى المقاهي، التي يُفترض أن تكون ملاذًا للاسترخاء، وتناول القهوة، والمذاكرة، وتأمل الأفكار، باتت تعجّ بالموسيقى الصاخبة، وتُسمَع في الخلفية موسيقى المحالّ المجاورة كذلك. في الأسواق التجارية الكبيرة، تتداخل الأصوات بلا هوادة، وكأنّ الصمت أصبح تهمة، والهدوء جريمة في حقّ الروح المعاصرة.
يُسرق الوعي من المرء.. ويُشتّت الانتباه عمدًا لأغراض تسويقية، على حساب كل شيء آخر، بما في ذلك صحته العقليّة والنفسيّة. وكأن الإنسان خُلق ليستهلك، لا ليحيا.
هي ماكينة الرأسمالية التي جعلت من الإنسان أداة شرائية، وربطت سعادته بكمّ المال والأغراض التي يمتلكها، حتى أصبح كائنًا مغيّبًا، منفصلًا عن كينونته الحقيقيّة.
إذا لزم المرء بيته، دون تواصل مع الآخرين، عُدّ في نظر البعض شخصًا غريبًا أو منطويًا أو حتى متكبرًا، وكأن في العزلة عيبًا. والواقع أن بنية المجتمع الجماعي المعاصر غدت سطحية، خاضعة «للرغبات السوقية»، وعاجزة عن إنتاج أيّ قيمة فكرية أو أخلاقية أصيلة.
وفوق كلّ هذا، كثيرًا ما يُجبر الإنسان على التملّق والنفاق ليضمن استمرار حياته بسلاسة. حتى أكثر الناس استقلالًا – فكريًّا وماديًّا – يبقى بحاجة إلى الآخر، محتاجًا إلى قدرٍ من "التواطؤ الاجتماعي" حتى لا يُسحق؛ فلا فكاك من روح العصر؛ تلك الروح التي قدّمت كل شيء، على حساب الإنسان، وسلبت منه محاولة فهم حقيقته، وتحرير روحه من كلّ الآلهة المزيفة!
النوم – ذاك العدوّ الطفولي – غدا اليوم ملاذًا مقدسًا، وغايةً في ذاته، لا يعلو عليه شيء. إنّه التجربة الأكثر أصالةً في وجودنا الحالي؛ الوقت الوحيد الذي فيه نكون على سجيّتنا، ونُطلق فيه العنان لحاجتنا في توقّف اغتصاب الأفكار، وتبدّد الفوضى التي تلتفّ حولنا من كلّ صوب.
لا عجب أن أغلب العقلاء في كل زمن آثروا البُعد عن العامة. ليس ترفعًا، وإن كان الترفّع في بعض الأحيان مستحقًا، بل من باب رحمة الذات واحترامها، وحمايتها من العذابات الوجودية كما فعل ابن باجه باختياره التوحّد على حياة السوق.
نحن نرتدي أقنعة لا تمثّلنا حين نكون بين الجموع، ونتقمّص أدوارًا زائفة فقط لننجو من معاناة أكبر: معاداة المُجتمع لنا. فـ«الجحيم هو الآخر»، على حدّ تعبير سارتر، رائد الوجودية الحديثة.
لستُ من أولئك الذين يريدون الهروب من الناس أصلًا، فأنا إنسان إجتماعي، وبطبيعتي علائقي؛ لدي حاجة فطرية للإتصال ببني آدم، لأني جزء منهم وهم جزءٌ مني، نحن أغصان في شجرةٍ واحدة. ومع ذلك، روح هذا العصر لا تُشبهني البتّة. ففي الجماعة أخسر ذاتي الداخليّة، ومع نفسي أشعر باغترابٍ تام، وكأنني معلّقٌ بين طرفي نقيض: الحاجة للانعتاق من روح الجماعة، والعجز عن التعايش مع الصخب الإنساني المفتعل.
والصخب الذي أعنيه لا يقتصر على الأصوات المرتفعة، بل هو أشمل وأعمق؛ أنه كلّ أشكال سرقة الوعي التي تُمارس يومياً: تشويش الفكر، وتقييد الإنسان داخل أنماط لم يخترها، إلى آخره.
ولبّ القول، ما يؤرقني حقًّا في هذه الحقبة من التاريخ، هو أن التفكير لم يعد ممكنًا في الفضاء العام؛ فكلّ مكان تحوّل إلى ملهى سمعيّ وبصريّ. الناس يركضون خلف الملهيات والاستهلاك بلا انقطاع، وكأنّ الانشغال الدائم غاية في ذاته. لعلّنا بحاجة إلى «فضاءات الصمت»"، أماكن يُمنع فيها الكلام والهواتف، لا للبيع، بل للسكينة، للتأمل، للانعتاق من سطوة التشويش المستمر.
المعارف اليوم حُوّلت إلى سلعٍ تُعرض، لا أدوات تنوير. وهذا هو الجوهر اعتراضي، حتى يُقدّر الناس فضيلة الصمت والتأمل، ستبقى الرداءة والتقليد سيّدا الموقف. لأنّ الإنسان – للأسف – تحكمه المدخلات، فهو، في الغالب، لا يُعالج أو يرفض أو يُقيّم تلك المفاهيم والأفكار، ولا مقاصدها، بل تستولي عليها التكرارات لا المعقولات.
***
خالد اليماني

 

يقدّم عبد الجبار الرفاعي في مشروعه الفلسفي تصورًا للدين لا يقتصر على العقائد والطقوس، بل يتجاوزه، ليصبح تجربة وجودية تمنح الحياة معنًى روحيًا وأخلاقيًا وجماليًا. فالدين، في رؤيته، ليس مجرد منظومة مغلقة أو مجموعة من الأحكام الفقهية، بل هو «حياة في أفق المعنى تفرضها الحاجة الوجودية لمعنى روحي وأخلاقي وجمالي في حياة الإنسان الفردية والمجتمعية»، كما يوضح في كتابه «الدين والظمأ الأنطولوجي». هذه الرؤية تجعل الدين حالة حية يعيشها الإنسان بكامل كيانه، بما يشمل العقل والوجدان والروح، بحيث يكون وسيلة تمنحه الطمأنينة، وتساعده على تجاوز القلق الوجودي الذي لازم الفلاسفة من كيركغارد إلى كامو، فالرفاعي يرى أن الإنسان كائن متعطش للمعنى، وغير قادر على تحمل العبث والفراغ الروحي، مما يجعل الدين ضرورة وجودية لا ترفًا فكريًا. وفي سياق إعادة تعريفه للدين، يرفض الرفاعي الرؤية الاختزالية التي تحصر الدين في منظومة اعتقادية أو نصوص جامدة، ويفتحه على أفق أوسع، حيث تصبح التجربة الروحية جوهر الدين، حيث يقول في «مقدمة في علم الكلام الجديد»: «الدين ليس خطابًا جامدًا أو نصوصًا معزولة عن سياقاتها، بل هو حياة تُعاش في أفق المعنى، إذ يشكّل وعي الإنسان بذاته، ويوجّهه نحو التسامي الروحي والتكامل الأخلاقي».
من هذا المنطلق، يصبح الدين، وفقًا للرفاعي، تجربة تمنح الإنسان السكينة وسط صخب الحياة، وتساعده على مواجهة الاغتراب الوجودي، وهو ما جعله يشدد على أن الدين لا ينبغي أن يكون مجرد إطار نظري، بل حالة شعورية وجدانية تتجلى في حياة الفرد اليومية. إذا كان الدين، عند الرفاعي، يمنح الإنسان أفقًا روحيًا، فإن هذا الأفق لا يبقى مجرد إحساس داخلي، بل ينعكس في السلوك الأخلاقي. الأخلاق، في رؤيته، ليست مجرد التزام اجتماعي أو قانوني، بل هي امتداد طبيعي للحالة الروحية التي يعيشها الإنسان. في «الدين والظمأ الأنطولوجي»، يؤكد الرفاعي: «الأخلاق الحقيقية لا تنبع من الخوف من العقاب، ولا من الرغبة في المكافأة، بل من إحساس داخلي بالمسؤولية تجاه الذات والآخر». هذه الرؤية تتجاوز التصورات التقليدية التي تفصل بين الإيمان والممارسة، حيث يرى الرفاعي أن الفضيلة ليست طاعة ميكانيكية لأوامر خارجية، بل ثمرة لنضج روحي يجعل الإنسان ينحاز إلى الخير بإرادته. وفي فلسفة الرفاعي، الدين ليس فقط تجربة عقلية أو سلوكية، بل هو أيضًا تجربة جمالية، حيث يُدرك الإنسان المعنى الروحي والأخلاقي من خلال الجمال، حيث يقول في «إنقاذ النزعة الإنسانية في الدين»: «الدين في جوهره تجربة جمالية تُثير الدهشة وتحرّك أعماق الإنسان، وتفتح له أفقًا من التأمل في الجلال والجمال الكامن في الكون». الجمال هنا لا يقتصر على الفن أو الطبيعة، بل يمتد إلى القيم الإنسانية والعلاقات الاجتماعية، مما يجعل الإيمان أكثر حيوية وتأثيرًا. وهذا التفاعل بين الروحانية والجمال يعزز الأخلاق، حيث تصبح الفضيلة ممارسة تنبع من وعي جمالي بالحياة، وليس مجرد التزام جاف بالواجب. ينطلق مشروع الرفاعي من «أنسنة الإسلاميات» في رفض القراءات الاختزالية للدين التي تقتصر على البُعد الفقهي أو الأيديولوجي، داعيًا إلى إعادة تأصيل الدراسات الإسلامية بما يجعلها أكثر ارتباطًا بتجربة الإنسان المعاصر. ففي كتابه «إنقاذ النزعة الإنسانية في الدين»، يوضح رؤيته قائلًا: «إن الإسلاميات الكلاسيكية، في كثير من الأحيان، انشغلت بالجدل العقائدي والتفريع الفقهي على حساب المعنى العميق للدين، مما أدى إلى تجريد الدين من أبعاده الروحية والإنسانية». من هنا، تأتي دعوته إلى «أنسنة الإسلاميات»، أي تحرير الدراسات الإسلامية من الجمود والانغلاق، وإعادة ربطها بأسئلة الإنسان وهمومه الروحية والأخلاقية والجمالية. ويرى الرفاعي أن الدين يمكنه مواكبة الحداثة إذا تم التركيز على جوهره الروحي والأخلاقي والجمالي بدلًا من الانشغال بالقضايا الشكلية والفقهية وحدها، حيث يقول في «مقدمة في علم الكلام الجديد»: «لكي يكون الدين فاعلًا في عصر الحداثة، يجب أن يستعيد روحه الحيّة بدلًا من أن يتحوّل إلى مؤسسات سلطوية تحاول فرض وصايتها على العقل». بهذا المعنى، لا يرى الرفاعي أن الحداثة تفرض القطيعة مع الدين، بل تدعو إلى قراءة جديدة للدين تجعله أكثر انسجامًا مع تحولات العصر دون أن يفقد جوهره الروحي. وفقًا لهذه الرؤية، يصبح الدين نسيجًا حيًا من التفاعل بين ثلاثة أبعاد مترابطة:
- البعد الروحي: يمنح الإنسان إحساسًا بالمعنى والطمأنينة.
- البعد الأخلاقي: يجعل الأخلاق نابعة من تجربة داخلية لا من إملاءات خارجية.
- البعد الأخلاقي: يجعل الأخلاق نابعة من تجربة داخلية لا من إملاءات خارجية.
- البعد الجمالي: يحوّل الدين إلى تجربة حية، مليئة بالإحساس والدهشة، بدلًا من أن يكون منظومة جافة من الأحكام.
وبالنتيجة نجد أن الرفاعي قدم تصورًا متكاملًا للدين، لا يختزله في التشريع أو العقيدة، بل يجعله تجربة إنسانية شاملة، تستجيب لحاجة الإنسان إلى المعنى، وتسهم في بناء عالم أكثر رحمة وإنسانية. يمكننا استحضار رؤية الفيلسوف اللاهوتي بول تيليش في هذا السياق، إذ يرى أن الدين ليس مجرد منظومة من المعتقدات الجامدة، بل هو تعبير عن «الاهتمام المطلق» للإنسان، أي بحثه الدائم عن المعنى العميق لوجوده، حيث يقول تيليش في كتابه «ديناميكية الإيمان»: «الإيمان ليس مجرد تصديق عقلي، بل هو حالة من الانخراط الكامل في تجربة المعنى، حيث يجد الإنسان طمأنينته وغاية وجوده». هذا التصور الكامل، الذي قدّمه عبد الجبار الرفاعي على مدى أكثر من أربعة عقود، يحثّنا على مواصلة التنقيب خلف فيلسوف المعرفة الدينية، الذي يرى الدين تجربة وجودية ممتدة لا تقتصر على الطقوس والتشريعات، بل تعكس توق الإنسان العميق إلى الروحانية والأخلاق والجمال كعناصر متكاملة في حياته.
***
عبد الإله عبد الله الطويان
كاتب سعودي

 

يتفق أغلب الباحثين على أن التجديد، باختلاف المحمول الذي يكون التجديد حاملاً له، في الدين أم في الثقافة والسياسة والمسرح وغيرها؛ ضرورة حتمية وبالغة الأهمية، لأنه هو من يعطي البريق للشيء الذي من دونه يبقى خافتاً تحت ركام الماضي، على اعتبار أن التجديد محاولة لقلب كلِّ المقولات البالية بفعل الزمن، وتنقيتها وتشذيبها لقصد مراعاة التطور والتقدم الزمني، ومن ثم تقديمها كمقولات صالحة وغير مُستهلكة. لكن تجدر الإشارة إلى أن التجديد، ومن أجل ديمومته ونجاحه، يحتاج إلى مجموعة من المبررات، من أجل التحلي بالشرعية والرخصة لقيامه بالواجبات المنوطة به، ومع أن مبررات التجديد كثيرة، إلا أننا نجد أن المبرر المعرفي للتجديد هو ما يستحق أن نسلط الضوء عليه، بغية الدفع بمعشر القراء والكاتبين نحوه بشكل مباشر، ليكون التجديد مبرر معرفي لا بدّ منه، نسترشد من خلاله إمكانية التواصل الخلّاق ما بين جميع الخطابات، القديمة والحديثة، عن طريق ربط المعايير القيمية والخروج منها بالأليق لصالح الواقع. إلى مثل ما تقدم، يشير المفكر المصري الكبير (نصر حامد أبو زيد)، إلى أن الغاية الرئيسة في المبرر المعرفي للتجديد، يتمثل في تحقيق عملية التواصل الخلاّق بين الماضي والحاضر، عن طريق الخروج من أسر التقليد الأعمى، وإعادة إنتاج الماضي باسم الأصالة، وكذلك الخروج من أسوار التبعية السياسية والفكرية التامة للغرب باسم المعاصرة. وبالتالي يتيح لنا التجديد مغادرة ثنائية الأصالة والمعاصرة التي تجتر كل واحدة منها الحقيقة إلى ساحتها، لتحاول بعد ذلك تهميش الآخر. فالأصالة تعبّر عن سلفية مطلقة، تريد أن تقول، إن الحضارة الإسلامية، بمضمونها التراثي، ليست مجرد انجازات عادية عارضة، وإنما هي في صميمها روح ونمط من التفكير والفعل والعيش، وقد أثبتت إنها خير حضارة أبدعها الإنسان، وأن أي قصد لاستبدال حضارة أخرى بهذه الحضارة لا يمكن أن يعبّر إلا عن إرادة بتراء. أما الثانية، فتذهب إلى القول، إن طاقات الإنسان الخلاقة قد عطلت في التراث السالف والتقليد، وإن الإنسان لم ينته أمره عند الحدود التي انتهى إليها في العصور التي مضت والتي دُرست، وإن من الضروري تفجير هذه الطاقات بعملية تجاوز كامل للماضي. لذلك يعتقد (سلامة موسى) بأن النهضة لم تعد تعني في الماضي. وهذا الاقتتال بين اليميني الماضوي واليساري الاغترابي –كما يقول الجابري- ما هو إلا انعكاس شقاء الوعي على صعيد اللاوعي، كونهما لا يفهمان النهضة على أنها بناء شيء جديد، بل أنها على تبني نموذجاً جاهزاً، أما في الماضي الأصيل، أو في الحاضر العصري. وكلاهما يعجز عن تحقيق التواصل الخلاق الذي من شأنه أن يؤدي إلى النهضة، ومن ثم فإن كلا النزعتين تشتركان في نقطة ضعف واحدة، أسماها (الجابري) بـ(الخضوع لسلطة النموذج)، والتي لا نستطيع من خلالها أن نفهم أو نعي أو نمارس الأصالة والمعاصرة، بل لا نستطيع أن نجدد فكرنا ولا أن نشيّد حلماً للنهضة، ما دمنا محكومين بسلطة النموذج، سواء كان هذا النموذج تراثاً أو فكراً معاصراً. فضلاً عن ذلك، فإن التواصل الخلاق لا يتحقق بمحاولة أخذ طرف من التراث وطرف من الحداثة. فهذه المحاولة ما هي إلا لف ودوران على التراث واللحظة المعاصرة في آن واحد، والوصول في نهاية المطاف إلى تركيب، هو في حقيقة الأمر، وكما يقول (الطيب تيزيني) ليس أكثر من صيغة تعسفية وتجميعية لكلا الحالتين السابقتين. ويعتقد (أبو زيد) إن مشكلة التيار التوفيقي إنه ينتهي إلى التلفيق، بانتقاء عناصر فكرية من هنا وهناك، أي عناصر فكرية مأخوذة من أنظمة فكرية مختلفة، بل ومتعارضة أحياناً، ليصنع منها على تفاوتها بناءً واحداً يصلح للحاضر. وهذا لا يزيد من الأمر إلا تعقيداً، بل يجب أخذ طرفي الخيط بالتحليل التاريخي والنقد المتكامل. ويجب أن لا يمثّل النقد-حين يطال الظاهرة الدينية في أيِّ من تجلياتها أو تعبيراتها- جريمة كبرى في الثقافة الإسلامية الحديثة والمعاصرة، لأن طريق النهضة يقتضي التعامل مع كل النماذج تعاملاً نقدياً. فيجب أن تكون الظاهرة الدينية-بحكم معاصرتها- أكثر قدرة على تقبل النقد والاستجابة له بشكل إيجابي، أكثر من الثقافة الإسلامية في العصور السالفة. وبالتالي لا يمكن تحقيق التواصل الخلاق إلا عن طريق مراجعة جذور البنية التقليدية، لا بهدف التكرار أو الإعادة، أو حتى مجرد التسجيل، بل لغاية نقد تلك الجذور، تواصلاً وانقطاعاً في الوقت نفسه؛ إذ لا انقطاع بلا تواصل نقدي مبدع وخلاق. ومن هنا، كانت ثمار التجديد أن يحقق خروجاً مستنيراً من الأزمة الاجتماعية، السياسية، الاقتصادية، والثقافية والفكرية، والدينية كذلك، من خلال تحقيق عملية التواصل الخلاق في الشأن المعرفي، التي تعمل على إعادة النظر في كل المسلمات، سعياً لتحرير المشاريع الفكرية من تفريطها وإسرافها، وكذلك من البعد التلفيقي المسؤول عن حالة العجز التي لحقت بكافة المجالات المذكورة.
***
د. حيدر عبد السادة جودة

ان المراجعة التاريخية بوسائل نقدية واعية أصبحت ضرورة رغم الكثير من التصورات غير المثمرة من قبل خطابات التطمين لأننا يستحيل ان نسجل وعيا نقديا متقدما دون وظيفة اجتماعية واقتصادية تبعد الهيمنة النهائية الزائفة للعنف الثقافي، مازلنا نعيش خيبتنا ولا ندرك ان الخيبة عندما تنهي ملفاتها تنقلب الى وجود ازلي في مدينة العاب وسيلتها المكر. لذا فان الوعي النقدي يُعتبر مهارة أساسية تُعزز التفكير المستقل والتحليل المنطقي، مع ذلك، يتعرض هذا المفهوم لعدة انتقادات، تتراوح بين فلسفية إلى عملية، اذ يُنتقد الوعي النقدي بسبب عدم تطبيقه بشكل فعلي في الحياة اليومية كون الكثير من الأفراد لديهم القدرة على التفكير النقدي، ولكن لا يتمكنون من استخدامه في مواقف حقيقية، هذا يرجع الى أنظمة التعليم الإملائي التي تركز على الحفظ والتلقين بدلاً من تنمية مهارات التفكير النقدي، مما يؤدي إلى ضعضعة في القدرة، بعض المجموعات المتمسكة بأهداب السلطة تعتبر النقد تهديدًا أو نوعًا من عدم الولاء، مما يقيد القدرة على ممارسة الوعي النقدي، يؤثر الضغط الاجتماعي على الأفراد، حيث يُفضل الكثيرون الانصياع للآراء السائدة بدلاً من التفكير النقدي، خوفًا من العزلة أو الرفض حيث يميل الأفراد إلى البحث عن المعلومات تؤكد معتقداتهم السابقة، مما يعوق القدرة على التفكير النقدي والموضوعي، الخوف من اتخاذ قرارات خاطئة يؤدي إلى تردد الأفراد في ممارسة التفكير النقدي، مما يحد من قدرتهم على استكشاف أفكار جديدة . من الضروري معالجة هذه القضايا من خلال تعزيز التعليم وتوفير بيئات ثقافية تدعم الحوار والتنوع الفكري .في بعض الثقافات، يُعتبر النقد المباشر للسلطات أو كبار الساسة أمرًا غير مقبول، مما يحد من قدرة الأفراد على التعبير عن آرائهم بحرية، بعض المجتمعات تعزز القيم التقليدية التي تتعارض مع التفكير النقدي، حيث يُفضل الالتزام بالعرف على التفكير المستقل، في مجتمعات معينة، يُنظر إلى التفسيرات الحرفية للنصوص الدينية على أنها الطريق الوحيد الصحيح، مما يقيد التفكير النقدي حول المعتقدات وقد توجد مواضيع دينية تُعتبر محرمة للنقاش، مما يمنع الأفراد من التفكير النقدي حول قضايا تتعلق بإيمانهم ويؤدي الى التحيزات الثقافية، حيث يتم تجاهل أو تقليل قيمة وجهات نظر ثقافات أخرى، مما يقيد التفكير النقدي، بعض المجتمعات قد تحمل أفكارًا مسبقة عن فئات معينة، مما يؤثر على كيفية تلقي الآراء النقدية حول هذه الفئات، بعض الفلاسفة يرون أن الاطمئنان يمكن أن يكون نتيجة لقناعات عقلانية، مثل الاعتقاد بأن العالم يسير وفق قوانين معينة، مما يمنح الأفراد إحساسًا بالاستقرار الاطمئنان قد يتطور من خلال تجارب الحياة اليومية، حيث يتعلم الأفراد كيفية التعامل مع التحديات والضغوط البيئة الاجتماعية تلعب دورًا مهمًا في تشكيل حالة الاطمئنان. العلاقات القوية والداعمة يمكن أن تعزز الشعور بالأمان في كثير من الأحيان، قد يكون الاطمئنان مزيجًا من العقيدة والتطبع. هذه الثقافة قد تؤدي إلى تقليل أهمية النقد والمساءلة، حيث يُنظر إلى النقد كتهديد للوحدة الاجتماعية في المجتمعات المطمئنة وهي من العوامل الحاسمة.
تعريف الرفاهية الفكرية في المجتمعات المطمئنة
الرفاهية الفكرية تشير إلى حالة من الصحة العقلية والنفسية التي تعزز التفكير النقدي والإبداعي في بيئة آمنة وداعمة. تلعب المجتمعات المطمئنة الحقيقية دورًا أساسيًا في تعزيز هذه الرفاهية من خلال مجموعة من العوامل، توفر المجتمعات المطمئنة نظم تعليمية تعزز التفكير النقدي وتقبل التنوع الفكري، مما يعزز من قدرة الأفراد على استكشاف أفكار جديدة، يتم تشجيع الابتكار والإبداع من خلال برامج تعليمية تدعم المشاريع والمبادرات الفردية، في المجتمعات المطمئنة، يتم تعزيز ثقافة الحوار وتقبل الآراء المختلفة، مما يسهل النقاشات البناءة وضمان حرية التعبير يحمي الأفراد من القمع ويعزز من شعورهم بالأمان، المجتمعات المطمئنة تشجع على بناء علاقات اجتماعية قوية، مما يساعد الأفراد على تبادل الأفكار والدعم، توفر المجتمعات المطمئنة وصولًا إلى مصادر متنوعة من المعلومات، مما يُمكن الأفراد من اتخاذ قرارات مستنيرة تشجع نشر المعرفة والمعلومات العلمية بشكل واضح وموضوعي، المجتمعات التي تعزز من رفاهية الأفراد تدرك أهمية التوازن بين العمل والحياة، مما يقلل من الضغوط النفسية، الرفاهية الفكرية في المجتمعات المطمئنة تعتمد على بيئات تعليمية داعمة، حرية التعبير، تواصل اجتماعي فعّال، والوصول إلى المعلومات. من خلال تعزيز هذه العوامل، يمكن للمجتمعات أن تساهم في تحسين الصحة النفسية وتعزيز التفكير النقدي والإبداع.
قياس مستوى الرفاهية الفكرية
قياس مستوى الرفاهية الفكرية في مجتمع ما يتطلب استخدام أدوات متعددة تشمل الاستبيانات، التحليل الاجتماعي، المقابلات، وتقييم التعليم، بالإضافة إلى مراقبة النشاطات الثقافية. من خلال هذه الطرق، يمكن فهم العوامل التي تعزز أو تعيق الرفاهية الفكرية وتقديم توصيات لتحسينها تختلف الآراء حول ما تعنيه "الرفاهية الفكرية"، مما يجعل من الصعب وضع معايير دقيقة لقياسها تعتبر قياس الرفاهية الفكرية عملية معقدة تتطلب التعامل مع تحديات متعددة، بدءًا من التعريفات غير الموحدة وصولًا إلى القيود الثقافية والاجتماعية. لفهم الرفاهية الفكرية بشكل أفضل، من الضروري تطوير أدوات قياس موثوقة وتأخذ في الاعتبار السياقات المختلفة تتميز المجتمعات التي تعيش الرفاهية الفكرية بتوفير بيئة داعمة تشمل حرية التعبير، نظم تعليمية شاملة، ودعم الصحة النفسية. هذه الميزات تساهم في تعزيز التفكير النقدي والإبداع، مما يؤدي إلى تحسين جودة الحياة بشكل عام تواجه المجتمعات في الشرق الأوسط العديد من التحديات في تحقيق الرفاهية الفكرية، بدءًا من القيود على حرية التعبير وصولاً إلى التحديات الاقتصادية والاجتماعية. لتجاوز هذه العقبات، تحتاج المجتمعات إلى سياسات شاملة تعزز التعليم، الحوار، والتنوع الثقافي تتعدد الأسباب التي تؤدي إلى عدم تحقيق الرفاهية الفكرية في المجتمعات الشرق أوسطية، من القيود على حرية التعبير إلى التحديات الاقتصادية والاجتماعية. لمعالجة هذه القضايا، تحتاج المجتمعات إلى استراتيجيات شاملة تعزز من التعليم، الحوار، والتنوع الثقافي.
التطرف، المحاصصة الطائفية والرفاهية الفكرية
للتطرف والمحاصصة الطائفية دور كبير في إعاقة تحقيق مجتمعات مترفة فكريًا. يروج التطرف لأفكار ضيقة ترفض التنوع والاختلاف، مما يعوق الحوار الفكري ويحد من حرية التعبير يؤدي التطرف إلى انتشار العنف والتهديد، مما يخلق بيئة غير آمنة للأفراد للتعبير عن آرائهم أو استكشاف أفكار جديدة يعزز التطرف من الانقسامات بين الأفراد، مما يقلل من فرص التفاعل الإيجابي وتبادل الأفكار تؤدي المحاصصة الطائفية إلى توزيع الموارد بشكل غير متساوٍ، مما يعيق توفير التعليم الجيد والفرص الثقافية للجميع تساهم المحاصصة في زيادة التوترات بين الطوائف المختلفة، مما يعوق الحوار والتعاون الفكري تخلق المحاصصة بيئة من التمييز ضد فئات معينة، مما يؤدي إلى تهميش أصوات وأفكار متعددة تؤثر كل من التطرف والمحاصصة الطائفية سلبًا على جودة التعليم، حيث قد تكون المناهج متحيزة أو مشبوهة تؤدي هذه الظواهر إلى فقدان الثقة في النظام السياسي والاجتماعي، مما يعوق التقدم الفكري تعيق هذه الظواهر بناء مجتمع متماسك يساهم في تعزيز الأفكار والابتكار يُعتبر كل من التطرف والمحاصصة الطائفية عوائق رئيسية أمام تحقيق الرفاهية الفكرية في المجتمعات. تتطلب معالجة هذه القضايا جهودًا شاملة لتعزيز التسامح والتنوع، وتوفير بيئة آمنة تدعم الحوار الفكري والتفكير النقدي. من المهم النظر في هذه الأبعاد الثقافية لفهم العلاقة المعقدة بين الاطمئنان وبلورة الوعي النقدي يعتبر التطرف الديني ظاهرة تؤثر سلبًا على المجتمعات، وقد يتفاوت تأثيره على الاطمئنان باختلاف المجتمعات.
***
غالب المسعودي – باحث عراقي

 

في زمن الأهرامات والمومياوات، حيث تحاكي الحجارة حكايات أمة علمت العالم أسرار الوجود، نجد مفارقة محزِنة: شعب يشهد الدنيا كلها عظمة تاريخه، بينما هو نفسه يحاوِل الهرب منه! كأن المصري يمسك بيده مفتاح الفخر العتيق، ويرميه في نهر النسيان، ليغوص في أعماقِ تاريخ ليس له، كسليل يستحي من أسم أبيه!
لا تخلو الذاكرة الجماعية للمصريين من صراع خفي بين "الأنا" المدفونة تحت الرمال، و "الآخر" المستورد المعلقِ في سماء الحلم. لقرونٍ طويلة، ظلت مصر تتأرجح بين غزاة ونهابين، كلهم نقشوا على جدارِ وعيها جملة واحدة: "أنت لست أهلا لحضارتك". فصارت قصور الفراعنة مجرد «أحجارٍ ميتة» في عيونِ من يرونها ، بينما تحولت سياط الاستعباد العثماني والاستعماري إلى «بطولات» في كتب التاريخ!
التعليم هنا لعب دور الجلاد: فبينما يحفظ الطفل أسماء قادة الحروب الأوروبية عن ظهر قلب، يجهل من بنى أول معبد في التاريخ. والإعلام يكمل المأساة: فمسلسلات «الباشوات» و«السلاطين » تصور عصر الاستعباد كأنه «عهد ذهب»، بينما تظهر الحضارة الفرعونية كطقوس وثنية غامضة!
عقدة الخواجة..!
الغريب أن المصري لم يكتف بكراهية تاريخه، بل سعى لتبني سيرِ مستعبديه! فها هو يتغنى ب «عظمة الرومان»، ويتمذهب ب «فلسفة اليونان»، ويتشبه ب «أباطرة العثمانيين»، كأنما يصرخ في صمت: «انظروا.. أنا أستحق مكانا في تاريخِ الغرب العظيم!». هكذا تتحول العبودية الفكرية إلى وشم في الجبين: فالمقهور يبدأ باستحسانِ سيف الجلاد!
لكن.. أليس من السخرية أن تكون أهراماتك علامة تجارية للعالم، بينما تعتبرها «مجرد أثرٍ سياحي»؟ وأن تدفع أوروبا الملايين لتلك التحف الفرعونية، بينما ترميها أنت في زوايا المتاحف كأشباحٍ من زمنٍ منسي؟
لنكسر القيود: التاريخ المصري ليس «ملكية أثرية»، بل هو سلاح هوية وقوة ناعمة تستطيع مصر أن تفرض بها احترامها عالميا. انظروا لليابان: لم تنكر سامورايها لتتبنى ثقافة الغرب، بل جعلت من تقاليدها سحرا يغزو العالم. والسر؟ أنها وظفت تراثها لتكون جزءًا من حاضرِها: سينما، أزياء، تكنولوجيا، سياحة.
مصر قادرة على ذلك: فكل حجر في معابد الأقصرِ يحمل رواية تنتظر من يخرِجها في رواية أو فيلم أو حتى لعبة إلكترونية. التراث هنا ليس للزينة، بل لإعادة صياغة الهوية المصرية العربية الإفريقية المتعالية عن التقزيم.
حين يرتدي المصري ثوب الفخر بحضارته، سيكتشف أن القيود التي ظنها حديدية مصنوعة من وهم! فالتاريخ ليس تابوتا ندفن فيه أحلامنا، بل مصباح نستمد منه نور المستقبل. لنوقظ «رع» الذاكرة المدفون.. فمصر التي بنت مجد الإنسانية قادرة أن تبني مجدها الجديد.. كل ما علينا هو أن نرفع الرأس أولا!
من سرق قلب حتشبسوت؟
إذا كنت تبحث عن جذورِ الأزمة، فاقرأ مناهج التاريخِ المصرية! فبينما تدرس حرب المائة عام بالتفصيل، تمر «حضارة مصر القديمة» كنقطة عابرة في كتاب ملون. لماذا لا يسمع الطفل قصة «إخناتون» الذي حارب الآلهة ليوحدها؟ أو يحلل رِسالة «الحكمة» لبتاح حتب كنص إنساني قبل 4000 عام؟ التعليم هو المعبد الأول لإعادة بناء الهوية، فلم نخربه بحكايات الغزاة وحروبهم؟
الحل يكمن في تثويرِ السؤال نفسه: بدلا من «متى غزا نابليون مصر؟»، لنطرح: «كيف صمم المصريون القدماء نظاما لرصد الفيضانِ قبل وجود الحاسوب؟». التاريخ ليس تسجيلا للحروب، بل سردية لكيفية بقاء أمة تحت أشد التحديات.
مسرح الأرواح أم الأوهام؟
لحظة من الصدق: متى آخر مرة شاهدت فيلما مصريا يجعلك تنتفخ فخرا بأجدادك الفراعنة؟ الأغلب أنك تذكر «كليوباترا» هوليوود، بينما سينما «العشقِ الفرعوني» المصرية تختزِل التاريخ في «لعنة المومياء» و «شبحِ الملك توت»!
السر في اليابانِ مجددا: «الأنيميشن» الياباني يصنع أبطالا من الساموراي، وهوليوود تبيع أساطير الفايكنج. فلماذا لا تصنع السينما المصرية أبطالا من «زوسر» و «حتشبسوت»؟ ليست القصة نقص إبداع، بل نقص إيمانٍ بأن التراث يحمل دروعا وسيوفا أقوى من خيال «مارفل»!
تطبيق محمول قد ينقذ التاريخ!
تخيل شابا مصريا يفتح تطبيقا على هاتفه، فيسمع «أحمس» يحدثه عن طرد الهكسوس، أو يرى معبد «إدفو» يتحول إلى رِحلة افتراضية بتقنية VR. التراث ليس حكرا على العلماء والمستشرِقين، بل يجب أن يكون «مفتوح المصدر» لجيل يعرِف لغة التكنولوجيا أفضل من لغة الهيروغليفية.
الذكاء الاصطناعي قادر على فك شفرات البرديات، وموضوعات التيك توك قادرة على تحويل «نفرتاري» إلى أيقونة أناقة. فلماذا نحاوِل إحياء التاريخِ بطرقِ القرنِ الماضي، بينما العالم يقطع مسافات في الميتافيرس؟
من يسرِق أسرار الأجداد؟
في متحف «اللوفر» تتهادى أسماعك ب «أغنية حضارة النيل».. لكنها ملحنة بأيد فرنسية! وفي متاجرِ نيويورك، تباع تلك التمائم الفرعونية بثمنٍ يضاهي الذهب.. لكنها صناعة صينية! المؤلم أن العالم يفهم قيمة التراث المصري أكثر من أهله، ويستثمر فيه بينما نحن نقتتل على بقايا «عصرِ الذهب العثماني»!
هذا ليس استعبادا فكريا فحسب، بل خيانة لجثث الأجداد الذين يصرخون من خلف زجاجِ المتاحف الأجنبية: «هذا التراب الذي تدوسونه هو ذهبكم.. فمتى تستيقظون؟».
المعرِكة الحقيقية ليست مع من سرق تاريخنا، بل مع من سرق ثقتنا بأنفسنا. الفراعنة لم يختفوا.. هم الآن يمشون بيننا: في شاب يحاوِل ترجمة البرديات، وفنانة ترسم جدارية عصرية بخطوط هيروغليفية، ومهندسة تستلهم من هرم سقارة تصميما يحمي مصر من السيول.
لن نصبح «أصحاب حضارة» حتى نوقن أن التراث ليس «ماضيا»، بل سلاح لمستقبل نصنعه. ارفع رأسك.. فالأهرامات التي بنتها أياد مصرية تنتظر أياديك أنت لتبني مجدا جديدا. لكل مصري واقف على أطلال عظمة: ابدأ بكلمة واحدة.. «أنا ابن مصر.. وهذا يكفيني!».
الخطوة الأولى لاسترداد التاريخِ هي ألا نخشاه.. فكل حجر في هذا الوطنِ يحمل رِسالة من أجداد يقولون: «لو تعلمون مقدار العظمة التي ورِثتم.. لما وقف العالم أمامكم!».
***
د. عبد السلام فاروق

دراسة تحليلية معمقة

الإرهاب الفكري، ظاهرة متجذرة في تاريخ البشرية، تطورت مع الزمن، خاصة مع ظهور وسائل الإعلام الحديثة. في الماضي، كان القمع الفكري يتم من خلال وسائل مباشرة، مثل الملاحقة أو الرقابة الصريحة. ومع تطور الإعلام، تغيرت هذه الأساليب إلى تقنيات أكثر نعومة وصعوبة في التعرف عليها، بحيث أصبحت تُمارَس بشكل غير مباشر عبر التوجيه الإعلامي المتقن الذي يهدف إلى تشكيل الوعي الجماعي للأفراد.
الإعلام وأثره في تشكيل الوعي الجماعي:
إن الإعلام لا يُعتبر مجرد وسيلة لنقل الأخبار، بل هو أداة قوية لتشكيل الرأي العام وفرض السرديات المحددة التي تسهم في تشكيل الأفكار والمعتقدات. عبر وسائل الإعلام المختلفة مثل الأخبار، البرامج الحوارية، الأفلام، والإعلانات، يتم توجيه الأفراد نحو رؤية معينة للعالم، تحدد ما يجب أن يُرى وما يجب أن يُغفل. هذه العمليات لا تحدث بشكل عشوائي، بل تعتمد على استراتيجيات مدروسة تهدف إلى تعزيز مصالح قوى معينة.
تقنيات الإرهاب الفكري في الإعلام:
١. التكرار والتوجيه الإدراكي: يعتبر التكرار أحد الأساليب الأساسية في الإرهاب الفكري. من خلال تكرار الرسائل الإعلامية بصيغ مختلفة، تصبح هذه الرسائل جزءًا من القناعات العامة للمجتمع، حتى وإن كانت غير صحيحة. هذا يرتبط بمفهوم البرمجة الإدراكية، حيث يتم توجيه الأفراد نحو قبول أفكار معينة دون الحاجة إلى أدلة قوية تدعمها.
٢. التوجيه الانتقائي للمعلومات: يلعب التوجيه الانتقائي للمعلومات دورًا حاسمًا في تشكيل الوعي الجماعي. يتم التركيز على أحداث معينة يتم انتقاؤها بعناية لإبرازها، بينما يتم تجاهل أحداث أخرى قد تؤدي إلى استنتاجات مخالفة للسردية المهيمنة. هذا الأسلوب يخلق صورة مشوهة للواقع، ويُستخدم بشكل كبير في تغطية الصراعات السياسية.
٣. العامل العاطفي والتضليل الإعلامي: يعتبر استغلال العواطف أحد الأدوات الفعالة في التلاعب بالوعي الجماعي. تُستخدم وسائل الإعلام لإثارة مشاعر الخوف، الغضب، أو الحزن، مما يجعل الأفراد أكثر عرضة للاستجابة دون تحليل عقلاني للأحداث. كما يُستخدم التضليل الإعلامي الذي يتضمن تشويه الحقائق عن طريق إعادة صياغتها بشكل يتماشى مع الأجندات السياسية أو الإيديولوجية.
التأثيرات الاجتماعية للإرهاب الفكري:
التأثيرات الاجتماعية للإرهاب الفكري لا تقتصر على الأفراد فقط، بل تشمل البنى الاجتماعية بأكملها. يعزز هذا النوع من الإرهاب الانقسامات الفكرية، ويضعف القدرة على الحوار، ويؤدي إلى تآكل الثقة في المؤسسات والمعلومات. نتيجة لذلك، يصبح المجتمع أكثر عرضة للانقسام، حيث تسيطر السرديات الموجهة على عقول الأفراد، مما يعزز الظواهر الاستقطابية ويؤدي إلى التباين بين المجموعات الفكرية.
دور الإعلام الرقمي في تعزيز الإرهاب الفكري:
في العصر الرقمي، أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي أداة قوية في ممارسة الإرهاب الفكري. تستخدم هذه الوسائل الخوارزميات الذكية لتوجيه الأفراد نحو محتوى معين يتماشى مع اهتماماتهم وسلوكهم الرقمي، مما يخلق فقاعات فكرية تعزل الأفراد عن الآراء المختلفة. في هذا السياق، أصبح الذباب الإلكتروني والجيوش الرقمية أدوات شائعة لتوجيه الرأي العام وخلق انطباع زائف حول قضايا معينة.
الذكاء الاصطناعي والإعلام المضلل:
مع تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي، أصبح التلاعب بالإعلام أكثر تعقيدًا. تُستخدم هذه التقنيات لإنشاء أخبار وفيديوهات مزيفة تبدو حقيقية، مما يجعل من الصعب التمييز بين الحقيقة والتزوير. هذه الأدوات تزيد من تعقيد المشهد الإعلامي، وتُعرِّض الأفراد لمخاطر أكبر فيما يتعلق بالتصديق على المعلومات المضللة.
مواجهة الإرهاب الفكري:
لمواجهة الإرهاب الفكري، يجب أن تكون هناك جهود ممنهجة لبناء وعي نقدي لدى الأفراد. يتطلب ذلك تعزيز التربية الإعلامية في النظام التعليمي، بحيث يتعلم الأفراد كيفية تحليل الأخبار وفهم التقنيات الإعلامية المستخدمة لتوجيه الرأي العام. كما يجب تعزيز الإعلام المستقل والنقدي كأداة لمواجهة السرديات الموجهة والمضللة، حيث لا يمكن التصدي لهذه الظاهرة دون وجود منصات إعلامية قادرة على تقديم محتوى تحليلي مستنير.التعامل مع ظاهرة الإرهاب الفكري يتطلب إدراكًا عميقًا لأهمية الوعي الجماعي كأداة أساسية في النضال ضد الهيمنة الفكرية. إن السيطرة على العقول أخطر بكثير من السيطرة على الأجساد، وتظل المعركة الكبرى على الوعي ذاته، وهو ما يستدعي تضافر الجهود لإيجاد آليات فعالة لمكافحة هذا النوع من الإرهاب الفكري، خاصة في ظل التطورات التكنولوجية الحديثة التي جعلت من السهل على القوى المهيمنة التأثير في توجهات الأفراد والجماعات.
***
الكاتب سجاد مصطفى حمود
المراجع:
١. أبحاث ودراسات إعلامية في التلاعب بالرأي العام.
٢. أبحاث حديثة في تأثير الإعلام على الوعي الجماعي.
٣. دراسات حول تقنيات التضليل الإعلامي وتوظيفها في الخطابات السياسية.
٤. مقالات علمية حول الذكاء الاصطناعي والتلاعب بالمحتوى الرقمي.

 

لستُ أدري ماهيّةَ هذا الوجود، ولا كُنهَ حقيقتهِ؛ منذ أن وعيتُ على الحياة، أودعتُ زهرة شبابي في التأمُّل، والسؤال والمطالعة، فلعلّي بذلك لامستُ قدرةً على مجاوزة السرديات الكبرى، وبصيرةً أوضح في تمييز الظواهر المعرفيَّةِ والذاتيَّةِ، غير أنّي – حتى اللحظة – لا أدري ما مصدر هذا الوجود من «نبعِ تجاربيَ الشخصيَّةِ». وتلك أمنيتي الكُبرى، قبل أن أرحل: أن أعرف منشأ هذا الوجود، أهو إله فعلاً؟ إلهٌ مُشخَّص، يغضب ويحاسب ويغفر، أم هو الوجود ذاته، والروح السّاريَةُ فيه، كما ذهب إلى ذلك الهندوس وسبينوزا؟ أم أن المسألة أعقد بكثير، وأبعد غَورًا من أن تُدرك بالعقل والحواس، كما زعم كانط؟
لستُ أدري، وسأتوجّه إليك بإسمِ "الله"، لأنه الأقرب إلى قلبي، إذ نشأتُ مسلمًا، وهذا هو ضَعفي وانحيازي، على الرغم من يقيني بأن حقيقةَ هذا الوجود تتجاوز الأسماءَ، والعناوين، والقوالب الجاهزة. فهذه رسالتي إليك:
يالله…أأنتَ فعلاً هُناك؟
لا أتذكر أنّك منحتني الخيار: هل أريد أن أوجد، أم لا، لكن حتى لو لم تكن كما يصوّرونك، فإن هذا العالم موحشٌ، ومفرغ من معنى جليّ! كل الخيارات التفسيرية المطروحة لمصدر الوجود تبدو لي متهافِتة، مرحليَّة وسياقيَّة، ولا ترقى للسرمدية، بل حتى الصورة التي رسمها بك رجال الدين، كرجلٍ غاضبٍ في السماء، يعاقب من خالفه أشد العقاب.. أهذا أنت؟ أهذه الحقيقة؟
لا أريد سوى الحقيقةِ الأُمّ، إذا كنتَ تحبني بأي وجه من الوجوه، وتكترث لوجودي، فأرني ما يدلّ عليك، وسأفتح بصيرتي بقدر ما يسعني هذا العقل القاصرُ. لكن أعِدني أن تُكلّمني – لا سيّما – في أسوأ لحظاتي، حين يضيق صدري ولا أرى الألوان في الوجود.
كُنِ النورَ والهُدى في حياتي يا الله،
فالذي أتذكّره، يا الله، أنّي أحبّك كثيراً،
وأحبّ الصالحين، وأريد أن أعرف،
ولو بصيصًا من الحقيقة؛ الجزء..
الذي قد يشير إلى الكُلّ…
***
خالد اليماني

 

مع إطلالة شهر رمضان المبارك لعام 2025، تألقت الدراما العراقية بحلة جديدة، حيث شهدت الساحة الفنية بروز أعمال درامية متميزة عكست إبداع الأجيال الجديدة من الفنانين والمخرجين. هذه الأعمال لم تكن مجرد عروض تلفزيونية، بل كانت صورا حقيقية ناطقة جسدت قصصًا من الواقع العراقي بأسلوب يجمع بين العفوية والإتقان، مما يبشر بمستقبل واعد للدراما العراقية.
مثلا مسلسل “الجنة” في خطوة جريئة نحو استكشاف مجالات جديدة، قدم المخرج مهند أبو خمرة مسلسل “الجنة”، الذي يُعد أول تجربة عراقية في مجال دراما الرعب. تدور أحداث المسلسل حول قصص مشوقة تحمل في طياتها الكثير من الإثارة والتشويق، معتمدة على تقنيات سينمائية حديثة تضاهي الأعمال العالمية. شارك في هذا العمل نخبة من النجوم، أبرزهم مروة بدران، حافظ لعيبي، وحسين حافظ، مما أضفى على المسلسل عمقًا وتميزًا خاصًا.
ومسلسل “النقيب” من الأعمال التي لاقت صدى واسعًا خلال الشهر الفضيل، مسلسل “النقيب” الذي أخرجه وثاب الصكر. يستند المسلسل إلى قصة حقيقية لبطل من أبطال القوات الأمنية العراقية، النقيب حارث السوداني، الذي اخترق صفوف تنظيم داعش الإرهابي، مسهمًا في إحباط العديد من العمليات الإرهابية التي كانت تستهدف بغداد. يُعد هذا العمل توثيقًا لتضحيات رجال الأمن، وشارك فيه مجموعة من الفنانين المتميزين، منهم عواطف السلمان، سامر دشر، وإياد الطائي.
ومسلسل “زهرة عمري” في إطار درامي اجتماعي مؤثر، جاء مسلسل “زهرة عمري” ليعكس قضايا إنسانية واجتماعية تلامس الواقع العراقي. تناول المسلسل قصصًا عائلية معقدة، مسلطًا الضوء على التحديات التي تواجهها المرأة العراقية في المجتمع. تميز العمل بأداء عفوي وإتقان من قبل الممثلين، مما جعله قريبًا من قلوب المشاهدين.
ومسلسل “لم الشمل” يُعتبر هذا المسلسل من الأعمال التي جمعت بين الدراما والكوميديا، حيث تناول قصص عائلية تسعى إلى لم شمل أفرادها بعد فراق طويل. برع الممثلون الشباب في تقديم أدوارهم بعفوية وطلاقة، مما أضفى على العمل روحًا مرحة وقريبة من الواقع.
إن ما يميز هذه الأعمال هو الروح الجديدة التي بثها الجيل الصاعد من الفنانين والمخرجين، الذين قدموا الدراما بأسلوب يجمع بين الأصالة والمعاصرة. لقد استطاعوا بفضل عفويتهم وإتقانهم أن يتفوقوا على بعض أعمال الأجيال السابقة، مما يعكس تطورًا ملحوظًا يبشر بمستقبل مشرق للدراما العراقية.
إن هذا التألق الفني لا يعكس فقط تطور الدراما العراقية، بل يشير أيضًا إلى قدرة الفن العراقي على المنافسة في الساحة العربية، وتقديم محتوى راقٍ يليق بتاريخ وحضارة العراق العريق.
***
هناء عبد الكريم

 

ليس التراث مجرد بقايا محفوظة في الكتب والمتاحف، ولا هو الامتداد الرمزي الذي يربط الأجيال ببعضها البعض، بل هو بناء ثقافي متحوّل، يتم تشكيله وإعادة تشكيله وفقًا لحاجات السلطة وأطر المعرفة السائدة.
في كل مرة ننظر فيها إلى التراث، فإننا لا ننظر إلى “الماضي” كما كان، بل إلى صورة تمت إعادة إنتاجها وترتيبها وفقًا لرغبات الحاضر.
بهذا المعنى، لا ينبغي أن نراه ككيان متجانس يحمل حقائق ثابتة، بل كنسيج متشابك من الصراعات والتلاعبات والانتقائية التي جعلته يبدو كما هو اليوم.
لكن، إذا كان التراث يتغير باستمرار، فكيف نعيد قراءته دون أن نقع في فخ التقديس الأعمى أو الرفض المطلق؟ وما الذي يجب أن نبقيه منه، وما الذي ينبغي تفكيكه وتجاوزه؟ وهل يمكن فصل التراث عن السلطة، أم أنه لا يوجد إلا داخل علاقات القوة التي تحدد وجوده ومضمونه؟
إن ما وصلنا من التراث ليس إلا ما سمحت به البُنى السلطوية عبر التاريخ. فقد خضعت الذاكرة الجمعية، كما يؤكد ميشيل فوكو، لعمليات انتقاء وتصفية، حيث تم إقصاء بعض الأصوات وإبراز أخرى بما يخدم هيمنة معينة. وعليه، فإن الاحتفاء بالتراث ليس مشروعًا بريئًا، بل هو في جوهره اختيار محكوم بتصورات سياسية واجتماعية.
كارل ماركس، في تحليله للتاريخ، يشير إلى أن “أفكار الطبقة الحاكمة في كل عصر هي الأفكار الحاكمة”، مما يعني أن التراث، كما نعرفه اليوم، ليس مجرد سجلٍّ محايد، بل هو منتج ثقافي صُمِّم للحفاظ على استمرار البنية السلطوية وإعادة إنتاجها.
لكن، هل يمكن فهم التراث خارج هذا الفهم الكلاسيكي للسلطة؟ فوكو يرى أن السلطة ليست كيانًا جامدًا، بل شبكة متداخلة من العلاقات، تتغلغل في كل مستويات الخطاب والمعرفة. وعليه، فإن “التراث” ليس مجرد مجموعة من الأفكار التي فرضتها سلطة عليا، بل هو ميدانٌ للصراع والتفاوض، حيث تتقاطع قوى متباينة، كلٌّ منها يسعى لإعادة إنتاجه بطريقة تخدم أهدافه.
لذا، لا يمكن التعامل مع التراث بوصفه “نصًا نهائيًا”، بل كحقل نصي مفتوح، يخضع لعمليات تأويل لا نهائية، حيث يتم استعادته وإعادة تشكيله وفق متطلبات كل لحظة تاريخية جديدة. لكن المشكلة أن معظم المجتمعات تتعامل مع تراثها بواحدة من مقاربتين متطرفتين: إما الجمود والتقديس، أو القطيعة والرفض.
فمن ناحية، نجد نزعة تقديسية تتعامل مع التراث بوصفه جوهرًا نقيًا يجب الحفاظ عليه كما هو، مما ينتج مجتمعًا متخشبًا، تتحول فيه القيم والممارسات القديمة إلى أدوات تقييد أكثر من كونها فضاءً للإبداع والتطور. ومن ناحية أخرى، نجد نزعة مفرطة في الحداثوية ترفض التراث جملةً وتفصيلًا بوصفه امتدادًا للتخلف، متناسية أن الهويات والثقافات لا يمكن أن تنشأ في الفراغ، وأن الهدم المطلق لا يؤدي بالضرورة إلى بناء جديد، بل قد يكون مجرد إعادة إنتاج لهيمنة أخرى في ثوب جديد.
لكن، هل يمكن تفكيك هذه الثنائية نفسها؟ جاك دريدا، في تحليله لفكرة “الأصل”، يشير إلى أن البحث عن “جوهر نقي” لأي شيء هو محض وهم، لأن كل ما نعتبره “أصيلًا” هو في الواقع نتيجة عمليات تكرار وتحريف مستمرة. بهذا المعنى، فإن التراث ليس “شيئًا” يمكن أن يكون أصيلًا أو مزيفًا، بل هو لعبة لا نهائية من الإحالات والتأويلات.
والتر بنيامين، من جانبه، يذهب أبعد من ذلك حين يقول: “حتى الموتى لن يكونوا في أمان إذا انتصر العدو”، مشيرًا إلى أن الماضي ذاته ليس محصنًا من التشويه، بل هو ساحة معركة مستمرة، يُعاد تشكيلها وفقًا لمصالح القوى المنتصرة.
إذا كان التراث جزءًا من الهيمنة الثقافية، كما يرى أنطونيو غرامشي، فإن إعادة قراءته لا تعني فقط استعادة “القيم الأصيلة”، بل تعني الكشف عن آليات السلطة التي جعلت بعض الأفكار تُعتبر “تراثًا”، بينما تم دفن أفكار أخرى في النسيان. فالتراث ليس قائمة جاهزة من القيم التي يجب الحفاظ عليها أو رفضها، بل هو بنية ديناميكية يجب أن تخضع للتفكيك المستمر، لا بهدف رفضها أو القبول بها، بل بهدف الكشف عن المنطق الذي يحكم تشكيلها وإعادة إنتاجها.
لهذا، لا يكون الاحتفاء بالتراث طقسًا استهلاكيًا أو إعادة إنتاج للمقولات السائدة، بل يجب أن يكون فعلًا ديناميكيًا يتحدى القوالب الجاهزة، ويفتح المجال لقراءات متعددة لا تهاب المواجهة مع الماضي، ولا تُسقط عليه رغبات الحاضر.
في عصر “المحاكاة”، كما يصفه جان بودريار، لم يعد التراث حتى مجرد “بقايا الماضي”، بل هو صورة تمت إعادة إنتاجها في الحاضر، وأُعيد تقديمها كشيء حقيقي، رغم أنها ليست سوى محاكاة لصورة متخيلة عنه. من هنا، يصبح السؤال ليس فقط: “ما هو التراث؟”، بل: “من الذي يصنع التراث اليوم؟ وما الأغراض التي يخدمها؟”.
إن التعامل مع التراث لا يمكن أن يكون عملية محايدة، بل هو اختيار أيديولوجي بامتياز. ما يستحق الاحتفاء ليس مجرد الطقوس والمرويات التي تراكمت عبر الزمن، بل القيم التي تحمل بُعدًا تحرريًا، والتي يمكن أن تشكّل أساسًا لنقد الحاضر وبناء مستقبل أكثر عدالة.
لكن حتى هذا الاختيار يجب أن يُفهم على أنه عملية غير نهائية، إذ لا توجد قراءة “أخيرة” للتراث، بل فقط محاولات مستمرة لإعادة تأويله وفق المعطيات التاريخية والمعرفية المتغيرة.
لهذا، لا يجب أن يكون الاحتفاء بالتراث مجرد استعادةٍ للقديم، بل يجب أن يكون مشروعًا مستمرًا لإعادة إنتاجه بطرق جديدة، تكشف تناقضاته، وتعيد توظيفه خارج الإطار الذي حُبس فيه.
فالتراث ليس صنمًا يُعبد، ولا هو وثيقة جامدة يجب حفظها، بل هو فضاء للعب والتفكير، يمكننا أن نعيد تشكيله بطرق تتجاوز السلطة، لا أن نرسخها من خلاله.
إن إعادة النظر في التراث ليست مجرد ممارسة أكاديمية أو ترف فكري، بل هي ضرورة ملحة في مجتمعات تعاني من اختلال علاقتها بالماضي. فإما أن يكون التراث أداة للتنوير والتحرر، أو يصبح قيدًا يكرس الاستبداد ويعيد إنتاج علاقات القوة نفسها التي صاغته منذ البداية.
في النهاية، إن قراءة التراث من جديد ليست فعلًا فرديًا منعزلًا، بل هي جزء من صراع أكبر حول الحقيقة، والمعرفة، والسلطة. وما نختاره من التراث، وما نقصيه منه، يحدد ليس فقط كيف نفهم الماضي، بل كيف نبني المستقبل أيضًا.
***
إبراهيم برسي

 

الحوار الفلسفي (الجمهورية) كُتب من جانب الفيلسوف اليوناني افلاطون سنة 375 ق.م. فيه يصف رؤيته للمجتمع العادل والمثالي الذي يحكمه الملوك – الفلاسفة. بعد اكثر من الفي سنة، يبقى هذا العمل في النظرية السياسية والعدالة ملائما وبعمق عند تقييمنا لأنظمة الحكم الحديثة في العالم.
بدءاً من قيادة الملوك الفلاسفة الى التعليم الموجّه من الدولة، من المفيد رؤية ما اذا كانت مقترحات افلاطون تمثل حلما طوباويا للمجتمع ام هي كابوسا مدمرا. هذا، بالطبع، يُنظر اليه من خلال قيم القرن الواحد والعشرين في الديمقراطية الليبرالية وحقوق الانسان والحريات الفردية.
مفهوم افلاطون للعدالة
طبقا لافلاطون، العدالة هي فضيلة انسانية. هذه الفضيلة تجعل الفرد "خيّر ومتسق ذاتيا" بينما تعزز ايضا الانسجام في المجتمع ككل. كتاب الجمهورية يربط العدالة في مستوى الدولة او المدينة بالعدالة في روح الفرد. في هذا العمل، يجادل افلاطون بان المجتمع المرتكز على العدالة يعتمد على مواطنيه الذين يجسدون فضيلة العدالة ايضا. افلاطون يجادل بان العدالة الى جانب الحكمة والشجاعة والإعتدال هي واحدة من الفضائل الاساسية الاربع.
بالنسبة له تمثل العدالة نظاما او تناغما في النفس الفردية. هذا التناغم يجد ذاته بين المظاهر العقلية، الروحية، والشهوية للفرد. كذلك، يعتقد افلاطون ايضا ان هذا التناغم يمتد الى الطبقات ومصالحها ضمن المجتمع. خلافا للمنظور التقليدي في زماننا، والذي عادة يركز على حقوق الملكية او العقود الاجتماعية، يرى افلاطون العدالة كشيء أعمق – موافقة داخلية ضمن الكائن البشري متناغمة مع الواجب المدني.
الفرد العادل او المجتمع المرتكز على عدالة حقيقية يتصرف وفق معايير موضوعية للخير بدلا من معايير ذاتية. طبقا لافلاطون، هذه توجد بشكل مستقل عن الاهتمامات الشخصية او الامتيازات وتشكل تصورات كل فرد.
ومن بين أشياء اخرى، تتطلب العدالة الامتناع عن ايذاء الاخرين حتى عند التحريض، بينما تحافظ ايضا على الوعود وانجاز الاتفاقات مع الاخرين. هذا يفسر لماذا يعتقد افلاطون ان احترام القوانين المجتمعية المؤسسة على خير مشترك هي ذات أهمية كبيرة. بالنسبة له، الحياة العادلة لها قيمتها المتأصلة ولا يختارها الناس فقط لأجل السمعة او الشهرة. وعليه، في الفكر الافلاطوني، العدالة هي فضيلة سامية. انها تمكّن كل من الامتياز الفردي والسياسي للدولة وهو ما سيكون مثاليا للجميع. في هذا السيناريو، تتعاون الطبقات الاجتماعية بدلا من ان تتنافس . من خلال الارواح العادلة والمؤسسات العادلة، ستتحقق بالكامل الإمكانات البشرية والسعادة طبقا لنظرية افلاطون.
النظام التعليمي في كاليبوليس (المدينة الجميلة)
المدينة المثالية - كاليبوليس كما تصورها افلاطون في الجمهورية تعتمد على نظام تعليمي صارم. دور هذا النظام هو تربية الحكام بالاضافة للمواطنين. وهكذا، فان فلسفة افلاطون في التعليم تهدف الى تطوير الفضيلة والحكمة والشخصية الاخلاقية الجيدة لكل مواطن.
طبقا لافلاطون، حكام المستقبل او الملوك الفلاسفة سوف يتوجب عليهم المباشرة بتعليم صارم في حقول مثل الرياضيات والعلوم والفلسفة والموسيقى. هذا سوف يضمن زيادة قدراتهم في مجالات هامة في المنطق والقيادة والحفاظ على التناغم في كل من المجالين الشخصي والعام.
وكما عرض افلاطون في الجمهورية، يبدو ان منهجه لهذه النخبة المجتمعية يؤكد على الموضوعات التي لها القابلية على تمكين الحكام للحصول على الحقيقة. هذا سيكون حاسما في هذا المجتمع المثالي لأن هذه النخب ستكون قادرة على صنع قرارات حكيمة لمصلحة الجماعة ككل. هذا التدريب الأساسي للملوك الفلاسفة يتضمن الاستدلال المجرد والرياضيات الخالصة والديالكتيك لإختبار الأشكال والافتراضات الأساسية، والتركيز – وهو الأهم على التحكم الاخلاقي في الذات. مقابل ذلك، يتلقى الناس العاديين تعليما اساسيا في كاليبوليس. تعليمهم يركز على تطوير مواقف أكثر تعاونية ومدنية بالاضافة الى مهارات معينة مطلوبة لإنجاز دورهم في هذا المجتمع المثالي. وبينما يتولى النظام تصنيف الاطفال في وقت مبكر بالارتكاز على القابليات بالاضافة الى مكانتهم الاجتماعية، فان مواطني كاليبوليس يستمرون في الحصول على تعليم أخلاقي لأنه يعتبر ضروريا. هذا سوف يسمح لهم بإتباع التعليمات والقواعد بشكل صحيح وكما وُضعت من جانب النخبة المتنورة.
وهكذا، يهدف نظام افلاطون التعليمي الى تزويد الحكام بالمعرفة الضرورية التي تقوي منزلتهم كملوك فلاسفة. وفي نفس الوقت، هذا البناء سوف يعطي لمتوسط المواطنين تعليما فكريا واخلاقيا كافيا لكي يجتازوا تعقيدات الحياة اليومية. هذا سوف يضمن الاستقرار الاجتماعي في المجتمع.
وكما هو ملاحظ، هذا النموذج المزدوج يأتي في تناقض حاد مع المُثل الحديثة للفرص المتساوية والتعليم العام الشامل للجميع بصرف النظر عن الخلفيات.
هل جمهورية افلاطون القديمة تمهد للاشتراكية؟
العديد من الناس يجادلون بان افلاطون في مجتمعه المثالي، يقترح نظاما اشتراكيا ان لم يكن شيوعيا لطبقة الحكام الفلاسفة. هذه النخبة "المتنورة" سوف تحكم وتحمي كاليبوليس، لأن النخبة ستكون قادرة فكريا وأخلاقيا على القيام بهذا. الجماعة المنتقاة ستعيش في جالية خالية تماما من الملكية الخاصة. الحكام عليهم ان يشاركوا بالمسكن والزوجات والاطفال. الهدف من كل هذا سيكون تعزيز الروابط المجتمعية ووضعها فوق المصالح الانانية للفرد. هذا يذكّرنا بشيء؟ يمكننا ان ننظر الى المبادئ الاساسية للاتحاد السوفيتي لمقارنتها مع قصة افلاطون. افلاطون يجادل ان العيش المجتمعي بدون أي ثروة شخصية قادر على انتاج ملوك فلاسفة محايدين وحكام شجعان. هؤلاء الافراد سيركزون كليا على الواجبات العامة بعيدا عن الانحرافات الفردية. المشاركة في التجربة سوف تهدف ايضا الى تعزيز التماسك الاجتماعي مقابل الانقسامات الحتمية لدى مختلف الطبقات في المجتمع.
هذا المبدأ يتسع الى المزيد من المظاهر الشخصية لحياة الانسان، مثل الزواج. حكام كاليبوليس سوف لا يُسمح لهم بالعلاقات الحصرية. هذا لأن افلاطون اعتقد ان هذا سوف يفضل افراد معينين على الرفاهية الجمعية. وبينما تهدف القيود على الزواج والملكية الى تقوية المجتمع ككل، فان القارئ الحديث قد يتصورها كانتهاكات مدمرة كليا للحرية. المواطن في المجتمع الغربي الليبرالي للقرن الواحد والعشرين ربما يرى كل هذه المقترحات مخيفة تماما ومتناقضة مع سعي كل فرد للسعادة.
وكما نعرف هناك أمثلة تاريخية لمحاولات حكام حقيقيين في ظل المبادئ الشيوعية في القرن العشرين قد فشلت واحيانا بشكل مأساوي. هذه الإحتمالية استخدمها الخصوم ضد مُثل افلاطون كحجة لصعوبة فرض نظرية افلاطون في مجال التطبيق. مع ذلك، اعتراف افلاطون بان المصلحة الفردية تشوه الروابط الاجتماعية لازال له صدى لدى العديد من الناس.
دور وسلطة الملوك - الفلاسفة: حماة ام مسيطرون؟
في الجمهورية، يجادل افلاطون ان للملوك الفلاسفة واجب فرض السيطرة التامة على شؤون كاليبوليس. هناك ايضا سبب لهذا، وهو إرشاد المجتمع نحو الفضيلة والاستقرار وتجنب الفوضى المجتمعية.
الفلاسفة الملوك الذين يتم تعيينهم بالارتكاز على اختبار وتدريب صارمين، سيعملون ويفرضون القوانين. هذه القوانين تنظم كل من السلوك الشخصي والعام للمواطنين. حكمة الملوك الفلاسفة ومصالحهم المشتركة مع المدينة يُفترض ان تكشف ان كانت هناك أي إساءة لإستخدام السلطة وتعمل كوسيلة لتحقيق التوازن بين السلطات.
من الواضح، ان افلاطون يمنح حكامه سلطات مكثفة على مواطنيهم. هذا يبدو كأنه شيء استبدادي جدا وفق المعايير الحديثة، شيء نراه اليوم في الأنظمة الاوتوقراطية والقمعية. الحكام في جمهورية افلاطون يشرفون على قضايا مثل الزواج والتكاثر وتربية الاطفال والشعر والموسيقى وحتى الآراء التي يعبر بها الناس. هذه السيطرة النمطية والمنهجية على حياة وعقلية كل فرد ستكون امرا قاسيا جدا. مع ذلك، الهدف من كل ذلك هو خلق انسجام اجتماعي.
يجب التنويه الى ان مسألة الإعدادات الصارمة التي تضمن وصول فقط المواطنين الفضلاء للحكم تبقى عرضة للنقاش. ربما يتسائل أحد من سيضمن ويفحص تحقيق ذلك. بالتأكيد، اذا كانت هذه المسؤولية تقع على الناس، ذلك سيعني هم سلفا متفوقين أخلاقيا وبالتالي يمكنهم ان يتولوا الدور بأنفسهم.
من الواضح انه بدون الضوابط والفصل بين السلطات فان حكم النخبة المطلق يخاطر بان يكون انانيا بسرعة كبيرة. كل ما يحتاجه المرء ليتأكد من ذلك هو ان ينظر في الامثلة الهائلة للقادة "التنويريين" الذين أثبتوا فشلهم وعدم نزاهتهم طوال التاريخ الانساني.
وعموماً، ان جمهورية افلاطون بالفعل تسلط الضوء على التحدي السياسي. فهي من جهة، تركز السلطة لدى شخص ما لكي يحكم بفاعلية، ومن جهة اخرى تمنع مراقبة السلطات والذي من شأنه ان يهدد الحريات الفردية. ملوك افلاطون الفلاسفة يميلون بقوة نحو الواجبات المطلقة والاستبدادية بدلا من وضع قيود لحماية الحقوق وهو الامر الضروري للحريات الحديثة.
تقييم جمهورية افلاطون: حلم طوباوي ام كابوس مدمر
في تقييم جمهورية افلاطون، نحن امام تجربة عبقرية في التفكير الانساني لبناء مجتمع مثالي. هذه الجالية ستُحكم بالملوك الفلاسفة، الذين يتم تدريبهم في المنطق والعدالة. مع ذلك، العديد من مقترحاته – من الرقابة الى سيطرة الدولة على الحياة الشخصية والعائلية – لا يمكن تصورها وفق معايير الليبرالية الحديثة التي تقيّم الحقوق الفردية. بالنهاية، بينما لازالت هناك أهمية لتأكيدات افلاطون على الانسجام والحكمة والفضيلة، لكن طرقه الاستبدادية المقترحة يمكن ان تبدو مدمرة لمواطني القرن الواحد والعشرين. انها تقف في تضاد مباشر مع العديد من الخصائص المجتمعية الحديثة بما في ذلك التنوع والحرية الفردية. لهذا، نعم، تمثل جمهورية افلاطون نسخة اكثر تشاؤما لمجتمع مثالي (غير موجود) منه الى حلم طوباوي يزدهر فيه كل مواطن . مع ذلك، افلاطون في صراعه مع العلاقات المعقدة بين العدالة، النظام، والقيادة، لايزال يثير أسئلة ويدعونا للتفكير حول ما يمكننا عمله بشكل أفضل بعد زمانه بآلاف السنين .
***
حاتم حميد محسن
..............................
GreekReporter,March10,2025

 

القران احد اهم خرائط الله سبحانه وتعالى للبشرية، وهو مساحة مهولة من المعرفة والنظام والابداع، ومنطقه يختلف عن منطق الارض، ذلك المنطق الذي ساعدنا ارسطو على فهمه ووضع قواعده، وقد كتبت قبل عشر سنوات (على الاقل) عن منطق ارسطو ومنطق العالم الاخر.
ان القرآن الكريم، يتجاوز مفهوم الجانب البشري فلا يمكن تحليله بشكل شامل بوصفه (مؤلف بشري)، لأن هذا يعمل على إخماد جذوة ذلك النص الخلاق الذي يعتمد على نوافذ عديدة متداخلة مع بعضها البعض، وتحويله إلى نص خاضع للزمان والمكان الفيزيقي ، في حين أنه نص ينتمي للوحي (وهو منظومة غير خاضعة لقالب ومنطق العالم الارضي)، تلك المسالة التي ترتفع عن سقف العقل البشري، ولا يريد الباحثون المعاصرون فهمها او الايمان بها، وقد قال تعالى:
﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ (الإسراء: 88).
و الإعجاز هنا، ليس في اللغة والأسلوب، فقط، بل يشمل أيضًا المحتوى، والاخبار عن الغيب، وكل ذلك في إطار يتناسب مع كل زمان ومكان.
والحديث عن “شفرة” القرآن تفترض بالتاكيد نظامًا خفيًا أو معادلات رياضية دقيقة تتحكم في بنيته العميقة.
والذكاء الاصطناعي الذي يتسلح بالخوارزميات والبيانات، لا يدرك البعد الغيبي والروحي للنص القرآني، وما من شك ان تلك المسالة لن تحل حتى بتطور الالة، او منظومة البيانات التكنلوجية، نعم قد يساعدنا العلم على الفهم لكنه يعجز عن منافسة العلم الاخر .
اعتقد بان تعقيد البنية اللغوية للقرآن يرتبط بتعقيدات المنطق الالهية تلك التي نصفها بخارطة الله، فالعقل الإنساني اليوم ربما أمكنه الاستماع إلى حديث فرد أو اثنين، وتحليل احاديثهم، ويتوجب تصبح لديه مشكلة الاستماع إلى 10 أو 100، فرد، وهذه القضية وفق منظومة الله تشير إلى محدودية الفهم الإنساني، لكن ليس هناك محدودية للحكمة الإلهية او العلم الإلهي.
‏بمعنى أن تداخل الاحتمالات لا يتناهى عند فهم رب العالمين.
ان الذكاء الاصطناعي يتعامل مع بيانات الإحصاء والتكرار، لكنه بشكل عام لا يفهم المجاز والرمزية والعلاقات المتشابكة بين الآيات، وهي قضية يمكنني وصفها (بحيويه روح النص)، بمعنى أن النص هو (ملك طابو) لصاحبه ومن السذاجة التوافق مع بارت الذي قدم مفهوما شيوعية النص والذي جاء بصورة موت المؤلف، والتي يرخمها بعض الكتاب الإسلاميين بوصفها تعدد المعاني، في حين أنها تشير إلى سلب الأفكار من خالق او صانع الفكرة، سواء كان الله أم المؤلف ام الفيلسوف أم العالم …الخ .
‏وأنا هنا لا أتحدث عن حيوية الحدث مثال ذلك ظهور النبي محمد(ص) في مكة وهو حدث كوني كبير، ولكن هذا الحدث انتهى، بشكل مادي تجسيدي فيزيقي، والذي ظهر لفترة من الزمن، وهذه حيوية الحدث، وبعض الأحداث تتميز عن الأخرى في الحيوية كما نفهم في فلسفة التاريخ، أما حيوية النص فيشمل حيوية الحدث وحيويه النص معا.

‏خذ مثلا قوله تعالى (فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون)، والحدث انتهى فيزيائيا مع ان جزءا من الحدث ما زال موجودا وهو بقاء الحوت حيا إلى يومنا هذا، وحتى مع انتهاء الحوت، فإن هذا النص هو وثيقة تسجل باسم صاحب في العالم الآخر، فلا يمكن لأي عاقل استيعاب هذه الخوارزميات الإلهية المهولة التعقيد والتي لا تنتهي، لارتباطها بالعلم الإلهي غير المتناهي.
‏ان البنية الرياضية في القرآن هي شفرة، بالغة التعقيد وتحدثنا في مكان السابق عن أنظمة رياضية دقيقة في القرآن، مثل العلاقة بين عدد الكلمات والأحرف، وهذه الظواهر لا توصف بانها شفرة يمكن “حلها” مثل شفرة رياضية عادية. ودائما اتذكر اخي الدكتور علاء جعفر الذي يردد عبارة النفري القائل اذا اتسع المعنى ضاقت العبارة .لهذا يصح القول بأن الذكاء الاصطناعي لا يدرك المعنى الشديد العمق للنصوص القرآنية وهذا يعني بأن المعنى أكبر من اللغة.
‏ويصح القول ايضا بأن الذكاء الاصطناعي لا يستطيع تفسير الغيب والمفاهيم الدقيق المجرد مثل الروح والقدر والحكم الإلهية والقضاء وصفات الله والعوالم المختلفة وتوسع السماء.
‏وتناول الموضوعات الميتفيزيقية مثل الغيب والروح والقدر والملائكة والجنة والنار يدل على أنها ليست منظومة مادية تجريبية أو أنها علوم شديدة التطور.
وحتى المفاهيم الفلسفية المعقدة التي وردت في القرآن، مثل الزمان والمكان والوجود، لا تزال موضع جدل فلسفي وعلمي، فكيف يمكن لنظام اصطناعي أن يدركها؟
قوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ (الإسراء: 85)، يشير إلى حدود المعرفة البشرية، فكيف يمكن للذكاء الاصطناعي تجاوزها؟
والذكاء الاصطناعي يعمل داخل إطار رياضي ومنطقي محدود، بينما القرآن يقدم رؤية متكاملة تشمل المادة وما وراء المادة.
‏لكن هناك ما يبعث الأمل أن الذكاء الاصطناعي يساهم بنحو جزئي على حلحلة الكثير من الأمور التي يمكن لنا من خلالها فهم الجزء البسيط المنظمات الفعل والعلم الإلهي في هذا الكون.
***
ا. د. رحيم محمد الساعدي – الجامعة المستنصرية

أثار أستاذنا الفاضل سعيد عدنان في مدونته موضوعاً في غاية الأهمية يتعلق بـ "كتابة اليوميات" كـ "ضرب من السيرة"، فكان له الفضل في مراجعة موضوع وأدب "السيرة الذاتية" والأساليب المختلفة التي تميّز بين بعضها البعض فتجعل منها أنواعاً مختلفة، والمكونات الأساسية التي تدخل في كيانها، وما يتوافر بين هذه المكونات من نسب تحقق قدراً من التوازن المحمود في السيرة، أو تخلّ بالحدّ الأدنى من هذا التوازن، والوظائف المتباينة التي تؤديها هذه الأنواع من السير في حياتنا الشخصية في الحاضر والمستقبل.
ومقارنة بالعناوين التي لا حصر لها من الكتب التي تصدر كل عام، إلا أن ما يصدر من كتب السيرة يعدّ قليلاً لا يشكّل إلا نسبة قليلة من تلك العناوين، والسبب في ذلك يعود إلى حاجز القيم الأخلاقية الاجتماعية التي تتصف بالتزمت، ونتظاهر جميعنا باحترامها، مع انها تتناقض مع منظومة القيم الفردية التي يؤمن بها كل منا ويمارس حياته على أساسها، ومع ذلك فكاتب السيرة يحرص أن يقدّم نفسه للآخرين في الصورة التي تكفل رضاهم عنه، بصرف النظر عن حقيقته. وهو ما ندعوه بالنفاق الاجتماعي، تكمن خطورته في تحوله إلى ظاهرة في المنهج التاريخي، تؤمن بشطب كل الحقائق، أو تزويرها، كي يظل الأبطال في الصورة التي تغري الأجيال في المستقبل. أما وتلك هي الحال، فليس غريباً أن يعزف الأدباء والساسة عن كتابة سيرهم الذاتية بنفس الصراحة والصدق الذي كتب بهما "جان جاك روسو" اعترافاته، بل أن بعض الذين قفزوا من فوق حاجز "النفاق الاجتماعي" من هؤلاء فاعترفوا في مذكراتهم ببعض عيوبهم تعرضوا لعواصف من الهجوم عليهم والتنديد بهم. التعريف اللغوي للسيرة الذاتية، أنها قصة حياة الشخص كما يرويها بنفسه، وهو تعريف وصفي يكاد يصدق عليه القول بأنه تحصيل حاصل، لأنه أقرب إلى استعمال مرادفات لغوية لكلمتي "السيرة" و"الذاتية" وهو بذلك لا يقدّم ولا يؤخر. وفي هذا المقام يكون التعريف الوظيفي أفضل من ذلك بكثير من وجهة النظر العلمية، ذلك أنه يوجّه القارىء إلى الطريق نحو دراسة هذا الكيان الذي نسميه "السيرة الذاتية" لا من حيث مكوناته فحسب، ولكن من حيث العلاقات بين هذه المكونات، ومن حيث وظائف الكيان الكلي في السياق النفسي الاجتماعي كذلك، أي من حيث وظيفته بالنسبة لصاحب السيرة والمحيط الاجتماعي الذي وقعت فيه أحداث هذه السيرة وتشابكاتها، وكذلك بالنسبة للمحيط الثقافي الإنساني بوجه عام أينما كان ملتقى الرسالة. من هذه الزاوية الوظيفية يمكننا القول ان السيرة الذاتية اعتراف مدروس، اعتراف للنشر، انها التاريخ الشخصي المعترف به من قبل صاحبه، لا تعني انها الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة، هي بهذا التعريف تقترب قليلاً أو كثيراً من العمل الأدبي، القصة أو الرواية، إذ يصدق عليها تعريف أحد كبار علماء التحليل النفسي "هانز ساكس" الذي يقرر ان العمل الأدبي حلم اجتماعي، فهو ينتمي إلى عالم الاحلام بما له من جذور شخصية مغرقة في الذاتية، من جهة، ومن ناحية أخرى يبزغ ويتفتح ويتشكل داخل سياق اجتماعي يفرض عليه قيوده وسياقاته.
في سياق هذه التعريفات الوظيفية يرى البعض، نحو مزيد من الوضوح ووضع النقاط فوق الحروف، أن يقال ان السيرة الذاتية اعتراف موجّه إلى طلب المكافأة الحسنة، ثم ان البعض يفضلون القول بأنها احتجاج ينطوي على المطالبة برد الاعتبار، غير أن المتأمل في هذين التعريفين، لا يلبث أن يشعر بأنه لا يستطيع أن يرضى عنهما تماماً، لأنهما ينطبقان على بعض السير أكثر مما ينطبقان على البعض الآخر.
في السيرة الذاتية عناصر عدّة تشكلها: هي مجموعة الذكريات، جميعها تنتظم في شبكة من العلاقات تجعل منها معماراً له أصوله وقواعده العامة. وله في الوقت المناسب خصوصيته التي تفرق بين السير المختلفة وتجعل لكل منها فرديتها المتميزة. ومجموعة الوقائع على شكل أحداث وأفعال وقعت في زمان ومكان معينين، محملة بالمعاني والدلالات، لتستقيم بشكل ما مع الاتجاه العام للسيرة، وما يرتبط بها من مشاعر. في المقام الأول فإن كتابة السيرة الذاتية هي ممارسة فردية واجتماعية غير مقصورة على الكتّاب، والمتتبع للشأن الثقافي في بلادنا سيلاحظ دون شك أن ما يعرف بأدب السيرة الذاتية، أو أدب الاعتراف، لم ينتشر ويكثر الاقبال عليه إلا في العصر الحديث. لكن بالرغم من ازدهاره، فانه لا يعدّ من الأمور المألوفة التي يتقبلها الجمهور في يسر وسهولة. لذا يحاول كتّاب هذا الجنس من الأدب في الأعمّ الأغلب أن يلتمسوا في مقدمة كتبهم الأعذار، ويسوغوا البواعث التي دعتهم الى الكتابة عن أنفسهم، ولا يقتضي ذلك بطبيعة الحال أن يكون ما يذكرونه هو السبب الحقيقي والدافع الأصيل. فأدب السيرة الذاتية إذاً ليس أدباً ميسوراً هيناً، بل هو من الآداب التي تقتضي من كاتبها مشقة التجرد من نفسه، ومن أهوائه ونزعاته الخاصة، وقد يكون الانسان مخلصاً صريح الرأي صادق الحديث، ولكن تنقصه مع ذلك القدرة على التحليل والتعليل والتحري والاستقصاء. ربما يقع القارئ في حيرة حيال نص ملتبس ما بين السيرة الذاتية والنص الروائي، خاصة وأن كثيراً ما يقف عند الأحداث والتفاصيل المعلوماتية الخاصة في سيرته ليطبّق عليها مفاهيم فلسفية يرى انها تتواءم مع منطق الأحداث التي واجهته. ويرى بعض النقاد أن أدب السيرة الذاتية هو نوع من الكتابة الشائكة التي تستلزم الصدق التام والبوح والمكاشفة، كما تحتاج إلى شجاعة قصوى، لأنها كتابة مغايرة أو هجرة إلى غير المألوف، خاصة إذا تناول الكاتب ما يعدّ من التابوهات أو من المحرّمات. في الأدب العربي نماذج متعددة لهذا الجنس من الأدب، وهناك مجموعة من الأعمال الرائدة التي تأتي في مقدّمة الكتابات في هذا الميدان نشير بذلك إلى سيرة طه حسين (الأيام) و(أنا) و(حياة قلم) لعبّاس محمود العقاد، و(زهرة العمر) لتوفيق الحكيم، و(حياتي)لأحمد أمين، و(قصة حياة) لابراهيم عبد القادر المازني، و(سبعون) لميخائيل نعيمة، و(قال الراوي) لإلياس فرحات، و(أوراق العمر) و(مذكرات طالب باحث) للويس عوض، و(معي) لشوقي ضيف، و(على الجسر) لبنت الشاطئ، وغيرها من النماذج الأدبية لفن السيرة الأدبية. وما أكثر ما تعرّضت تلك السير إلى التجريح والإساءة، والتسقيط السياسي والاجتماعي، وما أكثر الذين ترددوا بما كتبه طه حسين عن شيوخه في الأزهر، وعن أخيه الذي أهداه نظّارة سوداء ذات إطار ذهبي، ثم بخل بها عليه فاستردّها منه، أو أولئك الذين استغلوا اعتراف لويس عوض بـأن أختاً له كانت مريضة عقلياً.
وفي الأدب العالمي، يعدّ كتاب "سيرتي الذاتية... الكلمات" من أروع ما كتب سارتر في مسيرته الفلسفية والأدبية الطويلة، بأسلوب شائق له خصوصيته، وسياق خاص لم يسبقه إليه كاتب، جمع فيه ما بين حضور الذات وحضور المنطق، وبين التباس الشكل وفنية التوجّه، وإبراز الدهشة المستحوذة على ذات الكائن الذي كان. لقد أضحى أدب السيرة الذاتية من الآداب المحببة لكثير من القرّاء والمتتبعين، هذه السيرة برأي زكريا إبراهيم في كتابه "مشكلة الفن" تحقق وظيفياً المشاركة الوجدانية والتعاطف الرمزي. على صعيد آخر تعدّ المذكرات والسيرة الشخصية مصدراً مهماً من مصادر كتابة التاريخ، على الرغم من اختلاف وجهات النظر بين الباحثين بين مؤيد ومعارض لموثوقيتها، والكل يتفق على ضرورة توخي الحذر عند الاعتماد عليها بوصفها مصدراً توثيقياً. وشهد تاريخنا العراقي المعاصر أمثلة عديدة لكتابات من هذا الجنس لشخصيات سياسية وثقافية وعسكرية، أسهمت بمستويات متعددة في تشكيل الأحداث أو المشاركة فيها، هؤلاء استهوتهم الظاهرة التي وجدت قبولاً واسعاً لدى الباحثين والمتابعين. وبقدر ما تتسم المذكرات بالصدق والموضوعية، فان جمهور القرّاء يقدم عليها بحماس، وتهتم دور النشر بطباعتها وتسويقها لأنها تحقق لها أرباحاً عالية بسبب هذا الإقبال. ولأنها تكشف المضمر في التجربة الشخصية، هي في كل الأحوال لا تندرج إلى مستوى الوثيقة، أو تصنّف ضمن الكتابات التاريخية، فهناك فرق بين كتابة التاريخ وكتابة المذكرات، على الرغم من أن المؤرخ يعتمدها محللاً، ومفسراً، وناقداً. وفي العراق، كان غياب الحريات عاملاً في غياب هذا النمط من الكتابة الذي يفترض أن يكون شجاعاً وكاشفاً. ضمن هذا السياق يمكن القول ان أغلب المذكرات الشخصية التي صدرت منذ خمسينات القرن الماضي ولا سيما بعد سقوط النظام الملكي في 14 تموز 1958، كانت موضع جدل وخلاف رغم ما تضمنته من بوح لأسرار وكشف لأحداث ظلت غامضة تعود لمرحلة ملتبسة من تاريخ العراق المعاصر، لقد غلب على العدد الكثير من السير الذاتية الرغبة في إخفاء الحقيقة، لا الجهر بها، وتبرير الأخطاء لا الاعتراف بها، وحرص أصحابها على أن يطلوا على القراء وهم في كامل قيافتهم الوطنية والعلمية والأخلاقية، لا يقولون إلا الصدق. الإيجابي في البعض من تلك الكتابات، أن كتّابها تحرروا من عقد السلطة والأيديولوجيا، والكبت النفسي، متجاوزين التردد والخوف، نشير في هذا الصدد إلى مؤلف الناقد العراقي حاتم الصكر" أقنعة السيرة الذاتية وتجلياتها" كنموذج للكتابة الرصينة، والجّادة الواعية في هذا الميدان، جمع في فصوله بين دراسة السيرة الذاتية والنصوص القريبة من الكتابة فيها كاليوميات والمذكرات والرسائل. ونشير كذلك إلى الأدب العراقي المكتوب في ظروف الحرية في المنفى، متميزاً بالصدق والوضوح والجرأة في أغلبه، ولاسيما أدب السيرة الذاتية، بينما ظل البعض الآخر صامتاً، ما زال يعاني من عقد الماضي وهيمنته عليه بإرثه الثقيل، ونعني بذلك القيادات والشخصيات الحزبية والسياسية والثقافية. الخوف عمّق رغبة الكثير في الصمت، فتجنبوا ذكر الوقائع الصريحة، توارى المهم فيها، منهم من رحل وهو يدفن تاريخه معه، من دون ان يترك أثراً واحداً كاشفاً ومضيئاً، بتقديرنا ليس من السهل على الشخصيات المترددة والخائفة الإقدام على خوض ميدان الكتابة، فكتابة المذكرات مسؤولية ثقيلة وعبء أخلاقي. بينما يراها البعض محطّ شبهة وموضوع ارتياب
***
د. جمال العتابي

 

في الحق أنا لا أفهم كنه صلاتي التي تربطني بمحيطي أو أسيغها، كما ينبغي أن تفهم أو تساغ، والصلات التي تحرك الحياة وتسيرها، مهما قلت عنها، وعن سذاجتها وجهالتها في بيئتي، فهي في جوهرها، لا تختلف عن تلك الوشائج التي جمعتني بعوالم مغايرة لعالمي الذي أعيشه الآن، فمهما تفاوتت في تأثيرها، ووهجها، وظلالها، ووقعها على نفسي، فهي تتفق في حزنها وأساها، وفرحها وطربها، تماما مع عالمي الذي كنت أعيشه، رغم أن عالمي ذاك كان مختلف الألوان والألسنة.
ولعل الشيء الذي أبعد عن الجدال والخلاف أننا مطالبين بذلك النشاط الوجداني الذي فرضته أعراف الحياة، فليس لنا أن نعيش في قوام تلك المجتمعات، دون أن ننصهر في بوتقتها، أو نعتزلها، أو نمنعها، أو حتى نراقبها ونقيدها في أضعف الإيمان، كلا ليس هذا متاحاً لنا، العزلة التي تبتغيها وتنشدها، لا تسمح بها هذه الحياة، لأن المجتمعات لا تطمئن لأصحاب العزلة النفسية، وترتاب في أمرهم أشد الارتياب وأعنفه، رغم ما للعزلة من دعائم وطيدة بالفلسفة وصلات وثيقة بالحكمة، وما "للمعتزل" من صفات تختلف عن "المجتمعي" في الغرائز، والطباع، وألوان السلوك، وفي علاقة الإنسان بربه، فالمعتزل يرضي عقله بتلك العزلة التي يأثرها عن غيرها، وتسمو بها روحه، وينوء عن طريقها بنفسه عن مخالطة الناس وما ينجم عن تلك المخالطة من تشاحن وصراع، وما يصاحب هذا النشاط الاجتماعي من قهر وكتم للأنفاس.
ليس من ريب، ألا نتفق فيما بيننا على أسباب صحيحة، أو علل ثابتة، بخصوص هذا الموضوع الشائك، ولكن تعرجاته وعقابيله تلك، مدعاة إلى بقاء موضوع "العزلة" على بساط البحث، ورغم أن "العزلة" مجال القول فيها ذو سعة، لكن الغالب على الظن" عندنا" أن العزلة أبلغ وقعاً، وأعمق تأثيراً، في نفوس أصحابها، وأن بحوث علماء النفس والاجتماع وتحقيقاتهم تشتمل على كثير من الغلو والشطط ومجانبة الصواب، فالعزلة ليست مرضاً فتاكاً يودي بالمجتمعات أيها السادة، ليست هي داء نجيس مجلوب من الخارج، بل هي متأصلة في تراثنا الفكري، كما لا علاقة للعزلة بمزاعم مناهضة الدين الخاتم، فالحقيقة التي يجهلها الكثير من الناس أن العزلة نشأت في كنف الدين.
الواجب الذي لا مناص عنه إذن أن نزكي من دوحة العزلة، وأن نجعل عروقها تمتد وتستطيل في مناهجنا وتربيتنا.
دعونا نلقن الأجيال القادمة أن ايثار الحياة الضيقة المغلقة، يعينك على فهم نواحي هذه الدنيا الفانية، وأن العزلة هي التي تردك إلى الحياة، وتنقذك من هذه الجلبة، ومن هذا النفاق المفروض عليك، العزلة تسمح لنا وللأجيال القادمة أن نستقبل صدر أيامنا ونحن مبتهجين بها، راضين عنها، مغتبطين بما يتاح لنا فيها من العمل، وبما يساق إلينا من الخير، العزلة هي التي تجعل طابع حياتنا قوامه المحافظة والاستقرار، والبعد كل البعد عن الصخب والعنت والشقاء.
***
د. الطيب النقر

 

أن يُفكّر المرء لنفسه، وبنفسه، يعني أنه إنسان. إنسانٌ مُتحقّق الوجود! حتى وإن لم يُصِب الحقيقة في أيّ بحثٍ يقوم به أو تأمّلٍ عام. الإنسان من حيث هو كائنٌ مُفكّر، أو كما يقال "حيوان ناطق"؛ أي ينطق من منبع المنطق (Reason)، وهو بهذا يختلف كل الاختلاف عن باقي الدواب. وبالقدر الذي يكون به هذا امتيازًا أنطولوجياً لبني آدم، بقدر ما هو مسؤولية وجودية يحملها على عاتقه. وهذه المسؤولية، على وجه التحديد، هي التي تضفي على حياته قيمةً ومعنى. وبدونها، يأكله العدم الفكري والمعنوي.
ومِمّا هو طريفٌ وحزينٌ في الوقت نفسه، أن الإنسان يُفكّر على كل حال، ولكن أغلبنا – وللأسف – يُفكّر ضمن أحد خيارين: أما أن يُفكّر في أفكار القدماء، أفكارٌ قديمة الأثر، مولودةٌ من رحم سياقها التاريخي، ثم نُصّر على أنها لنا ولهم، ولكل زمانٍ ومكان.
ثانياً، أن يتبنّى أفكار من هم حوله.. أي يقبل الفكر الذي تسري عليه ثقافته، وبهذا يُعطل ملكاته العقلية، ثقةً منه بأن الناس من حوله، وفهم الثقافة لأي مسألة، بالضرورة، أعمق مما قد يأتي به من تفكُرٍ وتحليلٍ فردي. وبذلك، يكفُر بقيمة العقل، الذي من المفترض أن يتساءل ويشكّ في حقيقة أو جدوى المعتقدات السائدة وأساليب العيش، من حيث تماسكها المعرفي من جهة، ومشروعيتها الأخلاقية من الجهة الأخرى. ما قدر التسامح أو عدم التسامح الذي تنطوي عليه هذه الثقافة؟ من يستحق التسامح؟ كل هذه أسئلة فلسفية عميقة، تُعيد الإنسان إلى ذاته، وتُعرّفه بنفسه، وبالآخرين على حد سواء. لأن الإنسان هو الإنسان؛ أي أنه عبر التفكّر، والتأمل والتساؤل، سيصل إلى ما توصل إليه أيّ متأملٌ آخر؛ وكما يقول المثل الشعبي: "لا جديد تحت الشمس!"
أن يُفكر الإنسان لنفسه، يعني أن يُعيد النظر في كل شيء، في حقيقة كونه فاضلًا أم لا، ويختبر هذا، ويكون سلاحه في هذه الرحلة: الشكّ المنهجي الديكارتي، حتى يثبت عكس الفرضية. وبهذا، يتّسع الإنسان يومًا بعد يوم، حتى يُصبح أقرب إلى ذاته، وتكون له فلسفةٌ أصيلة، خاصةٌ به، تُعينه على أمر الدنيا وحقائقها.
ولا يحتاج الإنسان أن يكون فيلسوفًا أو عبقريًا حتى يتمكن من التفكير لنفسه والاعتماد على ملكاته العقلية. كُل ما يحتاجه المرء: سؤال وتأمل حول هذا السؤال. هكذا بدأ كل الفلاسفة: بالسؤال بـ"لماذا" قبل "كيف". لأن السبب هو الجوهر، و"الكيف" لا توصلك دائماً إلى الـ"لماذا". ولا فرادة إلا باستقلالٍ عقليّ، يضمن فيه الإنسان حقّه في العيش، والفهم، والكرامة.
***
خالد اليماني

في عالم مليء بالعنف والاضطراب، تتراكم الصور والمشاهد النفسية التي تدفعنا لإغلاق بعض الأبواب التي كنا نظنّ أنها ستظلّ مفتوحة للأبد. نحن نعيش حياة تملؤها المحطات المتتالية، نركب القطار متأثرين بنهاية الوصول، لكننا نبقى صامتين، نبحث عن المحطة الأخيرة التي تمنحنا الأمان والطمأنينة.
لم يكن البشر في السابق مختلفين عنّا، كانوا يواجهون المصير نفسه، يتخبطون بين محاولات الفهم والهروب من الألم، يبحثون عن معنى للوجود، وعن نقطة استقرار وسط دوامة الحياة التي تلد من جديد بلا توقف، كما يواصل الزمن تقدّمه دون أن يلتفت خلفه. لا خيار أمامنا سوى البحث عن أمل يوصلنا إلى الغاية والهدف معًا، وإلّا فما معنى الاستمرار وسط كلّ هذا التناقض؟
إنّ الحقيقة المطلقة تبدو غائبة، وكذلك الأخلاق الثابتة، فكلّ شيءٍ يخضع للنسبية والتغير وفق الزمان والمكان. في عالمنا الحالي، تفرض علينا متغيرات العصر أن ننظر للأمور من زوايا متعددة، حيث لم يعد هناك خير مطلق أو شر مطلق، بل وجهات نظر تتصارع فيما بينها، تتأرجح بين المصالح والمعتقدات المتغيرة.
إنّ العالم اليوم ليس إلّا معركة بين تناقضات لا تهدأ، حيث تزدحم الشاشات والموجات الإعلامية بأخبار لا تتوقف، تصنع واقعًا موازيًا يغرقنا في وهم الحياد والمصداقية، لكنها في جوهرها مجرد أداة تحرك الرأي العام وتوجه الفكر البشري في مسارات قد تكون مرسومة مسبقًا. كيف يمكن للإنسان أن يجد يقينه وسط هذا الطوفان من المعلومات المتضاربة؟ كيف له أن يقرر أيّ طريق يسلك، وأيّ حقيقة يؤمن بها؟
من الزاوية الشخصية، تبدو الحياة خيار صعب بين التوقف عن الشعور بالألم اللحظي وبين احتمالية مواجهة ألم أكبر في المستقبل. الألم جزء من الوجود، لكنّ التعامل معه هو ما يحدّد إن كنا سنتجاوزه أم سنغرق فيه. كثيرًا ما نحاول تأجيل معاناتنا، نغلق أعيننا عن الواقع ونبحث عن عزاء مؤقت، لكنّ الحقيقة تبقى هناك، لا تتغير، تنتظرنا حتى نواجهها. نحن في معركة دائمة مع أنفسنا وقراراتنا وتوقعاتنا التي نصنعها بأيدينا ثم نصطدم بها عندما لا تتحقق كما تصورناها.
الحياة أشبه بدوران الكرة الأرضية بلا توقف، كما تدور كرة القدم في الملعب كلّ يوم، تحاول أن تجذب السعادة لنفسها رغم كلّ الصعوبات. هناك من يسجل الأهداف، وهناك من يضيع الفرص، وهناك من يكتفي بالمشاهدة. كلّ فريق لديه خطة، وكلّ لاعب يسعى لتحقيق مجده الشخصي، بينما الجماهير تشاهد وتعلّق وتحكم، دون أن تكون داخل الملعب فعليًا. هذا التشبيه ليس بعيدًا عن واقعنا اليومي، فكلٌّ منّا يحاول تسجيل أهدافه الخاصة، البعض ينجح، والبعض الآخر يخفق، لكن في النهاية، تبقى الكرة في الملعب وتستمرّ المباراة.
العالم مليء بالحوار الجدلي المستمر، ذلك النقاش اللامتناهي بين اليمين واليسار، بين الصواب والخطأ، بين الحقيقة والزيف. لكن من ذا الذي يملك الجواب النهائي؟ وهل هناك أصلًا إجابة واحدة لكلّ الأسئلة؟ البعض يفضّل الغوص في تلك الحوارات الفلسفية التي لا تنتهي، بينما آخرون يختارون الفعل بدلًا من الكلام، يركزون على تسجيل الأهداف، الفعل وحده هو الذي يحدّد مسار الحياة، والكلمات وحدها لا تكفي.
يبقى التفاؤل هو الشعور الأول والأخير للحياة. قد يبدو أحيانًا وكأنه خيار ساذج، لكنه في الحقيقة هو ما يجعل الاستمرار ممكنًا، التفاؤل ليس إنكارًا للواقع، بل هو اختيار واعٍ لمواجهته دون أن نفقد القدرة على الحلم. هناك أشياء لا نتحكم بها، ومصائر تُكتب لنا دون أن يكون لنا رأي فيها، لكن يظلّ لدينا الخيار في كيفية استقبالها والتعامل معها.
الطرق ليست ممهدة، لكنّ الأمل في الوصول إلى مكان أفضل هو ما يمنح الرحلة معناها. البعض قد يختار التوقف، والبعض الآخر قد يواصل السير رغم كلّ الصعاب، لكنّ الحقيقة الوحيدة هي أنّ الزمن لا ينتظر أحدًا.
***
فؤاد الجشي

 

مع انصرام الأعوام نجد أنفسنا وقد أصبحنا ورثة تراث مليء بالرهبة العرفية الميتة الكامنة في الذات والتي تقونن السلوك لتصبح دينا عرفيا داخل الدين العام، هذا موروث بدائي، التاريخ يؤكد الحاجة الى مراقبة مستمرة لنزوع العرف الى التشدد حتى لا يكون ظهوره داخل الاجتماعي واضحا رغم تخلفه، اغلب المنتج الثقافي المعاصر ينزع الى مجاورة الماضي في حركة ارتدادية دون أسلحة معرفية، تشخيص الانتكاسة هو مقاربة حداثوية، لذا فان استراتيجيات الإبداع الفكري في حقب الانحطاط يجب ان تتضمن مجموعة من الأساليب التي تساعد المفكرين والفلاسفة على تجاوز التحديات الفكرية والثقافية، محاولة إحياء الأفكار القديمة من خلال إعادة تفسيرها وتقديمها بصورة جديدة تتناسب مع الظروف الحالية بادعاء الاعتماد على تراث ثقافي ومعرفي من كتابات قديمة تأثرت بتاريخ من البهرجة الثورية، دون الانفتاح على الثقافات المختلفة واستيعابها، لن يخلق افكارا جديدة، أي ممارسة نقدية ذاتية وموضوعية تساهم في تطوير رؤى جديدة وتوظيفها داخل المنهج العلمي في دراسة الظواهر الاجتماعية والفكرية يجب ان تساعد في التوصل إلى استنتاجات جديدة مؤثرة حضاريا، ومنها التركيز على التعليم كوسيلة لإعداد أجيال جديدة تتمتع بالقدرة على التفكير النقدي والإبداع ،ان توثيق الأفكار والمفاهيم من خلال الكتابة يساهم في انتشارها وتأثيرها، في أوقات الانحطاط نحتاج الى تطبيق استراتيجيات الإبداع الفكري في مواجهة تحديات العصر والتي تشمل التركيز على التفكير النقدي وإعادة تفسير المفاهيم التقليدية بما يتناسب مع التغيرات الاجتماعية والتكنولوجية الحالية ،تشمل دراسة التراث الثقافي والفكري المحلي واستخدامه كأداة لحل المشكلات المعاصرة من خلال التمرد على التبعيات، والتركيز على القيم الإيجابية وتعزيز التعليم لمواكبة التطورات ،ان دعم نشر الأفكار الجديدة من خلال المدونات والمجلات العلمية، يسهم في بناء مجتمع معرفي نشط في استخدام التكنولوجيا كأداة لتعزيز الإبداع ، تطبيق هذه الاستراتيجيات يتيح للأفراد والمجتمعات مواجهة التحديات المعاصرة.
تحديات التطبيق
عدة تحديات تواجه تطبيق استراتيجيات الإبداع الفكري في فترة الانحطاط، يواجه الأفراد والمجتمعات صعوبة في قبول الأفكار الجديدة أو التجديد، نتيجة التمسك بالتقاليد والقيم الراسخة، قلة الموارد المالية أو البشرية تعيق القدرة على تنفيذ البرامج التعليمية أو البحثية التي تدعم الإبداع، نظم التعليم التقليدية لا تشجع على التفكير النقدي أو الإبداع، مما يؤدي إلى نقص المهارات اللازمة، عدم وجود بيئة تشجع على الحوار والنقاش يحد من القدرة على تبادل الأفكار وتطويرها ،الفجوة الرقمية تمنع بعض الفئات من الاستفادة من التكنولوجيا مما يعوق الابتكار ،مناخات القمع أو عدم التسامح تمنع الأفراد من التعبير عن أفكارهم أو انتقاد الأوضاع السائدة ،عدم فهم أهمية الإبداع الفكري ودوره في مواجهة التحديات يحد من دعم المجتمع لهذه الاستراتيجيات ،التنافس العنيف بين الأفراد أو المؤسسات يؤدي إلى تقليل التعاون وتبادل الأفكار، تجاوز هذه التحديات يتطلب جهودًا جماعية وتعاونًا . البيئة الداعمة في حقب الانحطاط تظهر مقاومة للتجديد في عدة جوانب ،انغلاق بعض المؤسسات التعليمية والدينية على أفكار معينة، مما يحد من التفكير النقدي ،الخوف من الانتقادات أو التهميش يمنع الأفراد من التعبير عن أفكار جديدة ،الأنظمة الاستبدادية تفرض قيودًا صارمة على حرية التعبير، مما يصعب نشر الأفكار المبتكرة ،عدم توفر بيئة تشجع على البحث والابتكار ودعم البحث العلمي وتعزيز التنوع الثقافي ،التبادل الفكري يساهم في تحقيق التوازن بين مقاومة التغيير ووجود بيئة داعمة وهو ما يمكن أن يسهم في تعزيز الإبداع الفكري حتى في فترات الانحطاط.
دور وسائل الاعلام
دور وسائل الإعلام في فترات الانحطاط يمكن أن يكون معقدًا، قد تساهم في تعزيز الأفكار السلبية أو الترويج للسلطوية ، تعليم الجمهور في كيفية تحليل المحتوى الإعلامي بشكل نقدي، يساعد على تمييز المعلومات الجيدة من السيئة .يشكل دعم وسائل الإعلام المستقلة التي تقدم تغطية موضوعية وتعكس وجهات نظر متنوعة، يعزز من حيوية النقاش العام في إنتاج محتوى إعلامي يسلط الضوء على الدعوة إلى حرية التعبير ورفض الرقابة على وسائل الإعلام، مما يضمن تنوع الآراء والمعلومات المتاحة، في مرحلة عولمة التفاهة وتغلب حقبة التردي سوف لن تكون هناك نماذج ناجحة واضحة للمقاومة ، قد يبدو المشهد معقدًا وصعبًا، لكن هناك بعض الطرق التي يمكن من خلالها مواجهة هذه التحديات رغم عدم وجود نماذج كثيرة ،منها بناء شبكات من الأفراد المهتمين بالمقاومة والتغيير، مما يعزز من تبادل الأفكار والإبداع الجماعي ،حملات توعية تهدف إلى فهم تداعيات عولمة التفاهة وأهمية التفكير النقدي، يساعد الأفراد على اتخاذ مواقف واعية ،تشجيع الأفراد على إنتاج محتوى بديل يركز على القضايا المهمة، مما يعزز من تواجد أفكار متنوعة في الفضاء العام بالرغم من التحديات، يمكن للأفراد والمجتمعات أن يتصدوا لبناء بيئة فكرية إيجابية، حتى في ظل غياب النماذج الناجحة أو الإعلام المستقل، تحليل المعلومات وفهم محتوى الإعلام بشكل أفضل ،المبادرات التي تقدم محتوى موضوعي ومتوازن، توفر بدائل للمعلومات السائدة ،تعزيز الشفافية في وسائل الإعلام من خلال الضغط على المؤسسات الإعلامية للكشف عن مصادر المعلومات وطرق العمل على إنتاج محتوى يسلط الضوء على القضايا المهمة والقصص الملهمة، مما يساهم في تعزيز القيم الإيجابية ،استغلال منصات التواصل الاجتماعي لنشر الأفكار البديلة والتفاعل مع الجمهور بشكل مباشر، يساهم في بناء مجتمعات واعية و التمييز بين المحتوى الجيد والسيء ،عدم وصول بعض الفئات إلى الإنترنت أو التكنولوجيا الحديثة يمكن أن يحد من تأثير الجهود المبذولة ،الإعلام السائد بموارده الكبيرة، قد يهيمن على المشهد الإعلامي . كسب اهتمام الجمهور ونقص الوعي حول أهمية التفكير النقدي أو الإعلام البديل يمكن أن يؤدي إلى تجاهل الجهود المبذولة، الانقسامات الاجتماعية والسياسية يمكن أن تجعل من الصعب بناء توافق حول القضايا المهمة لتجاوز هذه التحديات لذا يتطلب الأمر جهودًا منسقة وتعاونًا بين الأفراد والمجتمعات والمنظمات لتعزيز الوعي والدعوة للإعلام الإيجابي للتغلب على تحدي التضليل الإعلامي بشكل فعال، كذلك يمكن اتباع بعض الاستراتيجيات لتطوير برامج تعليمية تركز على كيفية تقييم المعلومات وفهم المصادر، مما يعزز من قدرة الأفراد على التمييز بين الحقائق والأخبار الزائفة وتشجيع الجمهور على التحقق من مصادر المعلومات والتأكد من موثوقيتها قبل قبولها أو مشاركتها، إنشاء منصات أو تطبيقات تساعد الأفراد على التحقق من المعلومات المتداولة، مثل مواقع التحقق من الأخبار ،الضغط على وسائل الإعلام والمؤسسات لتكون أكثر شفافية بشأن مصادرها وأسلوب عملها، تنظيم حملات توعية تشرح آثار التضليل الإعلامي وكيفية التعرف عليه، مما يعزز من وعي الجمهور، العمل مع مختصين في الإعلام أو العلوم الاجتماعية لتقديم ورش عمل أو ندوات حول كيفية التعرف على التضليل، تشجيع النقاشات المفتوحة حول قضايا المعلومات المضللة، مما يعزز من تبادل الأفكار والتجارب استخدام منصات التواصل الاجتماعي للتواصل مع الجمهور وتقديم معلومات دقيقة، مع التأكيد على أهمية التفكير النقدي من خلال استخدام هذه الاستراتيجيات، يمكن تعزيز قدرة الأفراد على مواجهة التضليل الإعلامي وبناء مجتمع أكثر وعيًا ومصداقية .
نظام التفاهة والجيوش الكترونية
تمثل الجيوش الإلكترونية تحديًا كبيرًا في مواجهة الثقافة السطحية ونظام التفاهة لمواجهة هذا التحدي، يمكن اتباع توضيح استراتيجية عمل الجيوش الإلكترونية وطرق تأثيرها على الرأي العام، مما يساعد الأفراد على التعرف على أساليبها، تمكين الجمهور من استخدام أدوات التحقق من الأخبار والمعلومات، مما يقلل من تأثير الرسائل المضللة ،دعم إنشاء وترويج المحتوى الذي يعزز من القيم الإيجابية والإبداع، مما يساهم في زيادة الوعي الثقافي ،العمل مع منظمات غير حكومية ومؤسسات تعليمية لتعزيز التفكير النقدي ومهارات الإعلام في المجتمعات، إنشاء منصات إعلامية بديلة تقدم محتوى موثوق وتروج لوجهات نظر متنوعة، مما يساعد في تقليل تأثير المعلومات السطحية ،تشجيع النقاشات المفتوحة حول القضايا الثقافية والاجتماعية، مما يعزز من التفكير النقدي والمشاركة الفعالة استخدام أدوات لرصد المحتوى المضلل أو السطحي على الإنترنت، مما يساعد في التعرف على الأنماط والتصدي لها ،المطالبة بتحسين سياسات المحتوى على منصات التواصل الاجتماعي لمكافحة التضليل وتعزيز المحتوى الجيد، دعم الفنون والثقافة المستدامة التي تعكس القيم الإنسانية وتعزز من الإبداع والابتكار من خلال هذه الاستراتيجيات، يمكن مواجهة تأثير الجيوش الإلكترونية وتعزيز ثقافة أكثر عمقًا وإبداعا .وتعزيز التصدي لمرحلة الانحطاط.
***
غالب المسعودي

يدّعي الغالبية العظمى من الفلاسفة، بل وحتى العلماء والفنانين، غير أنّ موضع الاهتمام هنا ينصرف إلى الفلاسفة، الذين دفعوا فكري إلى حتفه في سن مُبكرة للغاية. فهم يدّعون أنهم متجاوزون لذواتهم التي فرضها عليهم المجتمع والثقافة والأيديولوجيا، وأنهم بهذا ليسوا منتمين أو منحازين إلى أيّ فكرٍ بإزاء آخر، كونهم متجاوزين لطبيعة الفكر ذاته. وهذا في الحقيقة يبعث على السخرية، لأن هذا التحرر نفسه يُعدّ شكلًا من أشكال الأيديولوجيا.
جميع الفلاسفة، بلا استثناء، تقدّمت إرادتهم الحقيقية حين أصرّوا على أن المعرفة لا تُدرك إلا عبر التجاوز، وكأنّ مفهوم التجاوز نفسه، ليس بناءً أيديولوجياً قد يُسجن الحقيقة الفاقعة في كبد النهار! كثيرٌ منهم لا يبدون أحتراماً حقيقيًا للتراث الإنساني المعرفي كما نأمل، فهم يفترضون ثم يمرّون عليه مرور الناقد المتعالي!
ومن يحُسن التلاعب بالنسق والبيان، يُهدّد المعارف البشريّة قاطبةً بالتقويض عبر أدوات اللغة ذاتها، باسم التقليدية أو الجمود الفكري، فما البديل يا تُرى؟ العدم؟ إرادة العدم؟ لا يُعلم أيّ معرفةٍ يُمكن أن تُستخلص من هذه النظرة الضديّة، المبنية على ردّة فعل أكثر منها فلسفة أو فكرًا مُبادراً مسؤولًا عن التراث الإنساني، كوننا الامتداد الحيّ والسياق المستمر والسيرورة الدائمة لكلّ من سبقنا!
ولا يُرى فيهم العمى ولا غيابٌ للبصيرة، إذ يظلون يشيرون إلى ما يستحق الانتباه من زوايا نظرهم المختلفة. فكلّ إنتاجٍ معرفي، في نهاية المطاف، يُقرّبنا من الحقيقة عبر صراع الأفكار وتفاعلها كما ذهب إلى ذلك هيجل. والمعرفة، في أصلها، ليست إلا ثمرة تلاقٍ وتلقيحٍ وتوفيقٍ بين أطروحاتٍ شتّى، وهو ما يُفضي إلى صراعات أعمق، وأسئلة أكثر جوهرية، تفتح أبوابًا إلى حقائق أبعد، وإن كانت ذاتية المنزع! وفي هذا كلّه، تُقال كلمة واحدة: الحقيقة هي الإنسان، والعلم كلّه كائنٌ في هذه اللحظة!
فلتحيا الفلسفة رغم نقائصها، إذ تكفيها فضيلةُ السعي إلى الأسئلة الأعمق، ومحاولةُ ردّ الإنسان إلى ذاته، إلى عقله، وإلى حقّه الأصيل في طلب الحقيقة.
***
خالد اليماني

في البدء كان الصوت. لم تكن الحروف قد استوت على العظام بعد، ولم يكن للمعنى جسد يُحمَل إليه أو يُنقَل عنه. لم تكن اللغة سوى وشوشة على حواف الفراغ، رعشة أولى في شفة البدء، صدى هشٌّ يتكئ على الريح قبل أن يتثاقل في الحنجرة. ثم كان الإنسان، فاحتاج إلى أن يُشار إليه، أن يُعرَّف، أن يُحدَّد في السرديات الأولى التي ستكتب قدره، لا بصفته كائنًا بيولوجيًا، بل بوصفه الكائن الذي تكبّله اللغة حتى حين يظن أنه يستخدمها. فمنذ أن رفع آدم يده متسائلًا عن الأسماء، كان قد دخل في قبضة الطاغية الأعظم: اللغة.
لكن، هل اللغة محض أداة، أم أنها الأفق الذي تتشكّل داخله الهيمنة، حيث تُعاد صياغة الوجود من خلال بنى دلالية تحكمنا بقبضتها الناعمة؟ هنا، عند هذه النقطة المفصلية، يظهر الاختزال بوصفه الخطيئة الكبرى التي يرتكبها كل من يحاول أن يفهم اللغة من دون أن يدرك وطأة حضورها الشامل. فالقول بأن اللغة محض وسيلة للتخاطب، أو أنها مجرد قناة لنقل الأفكار، هو سقوط في فخ الحداثة الكلاسيكية التي حلمت بوجود شفافية بين العلامة والمرجعية، بين الاسم والمسمّى، بينما الواقع يكشف وجيف الخطى التي تتعثّر عند كل محاولة للفصل بين الدال والمدلول.
لم تكن اللغة يومًا شفافة، بل كانت تاريخيًا ساحة صراع، معركة بين الذين يكتبون السرديات والذين يُكتَبون بواسطتها، بين الذين يفرضون معناها والذين يُسحقون تحت وطأة هذا المعنى. لم يكن أفلاطون مخطئًا حين طرد الشعراء من جمهوريته، فقد أدرك أن اللغة ليست مجرد وسيط محايد، بل هي الفضاء الذي يُعاد فيه إنتاج السلطة، حيث الكلمات ليست بريئة، بل محمّلة دائمًا بعبء التاريخ وصراعاته.
هكذا، حين يُقال إن العربية “لغة القرآن”، يصبح السؤال ملغومًا، إذ أن في هذا القول شبهة التغوّل على اللغة، قسرها داخل سردية واحدة من سرديات الهيمنة. فالقرآن لم يخلق العربية، بل وجدها، تفاعل معها، زحزح بنيتها، ثم أعاد تدويرها داخل سياق جديد. لكنه لم يكن النص الوحيد الذي صنع العربية، كما أنه لم يكن القيد الأخير الذي حاصرها.
قبل القرآن، كانت العربية لهجات تتنازعها القبائل، وكانت بعض تلك اللهجات أقرب إلى الاندثار لولا أن النظام الاجتماعي فرض لها أسباب البقاء. كانت قريش تحتكر التجارة واللغة معًا، تفرض لهجتها بوصفها النموذج القياسي، لا لأنها الأفضل بالضرورة، بل لأنها كانت لسان المركز، بينما بقيت الأطراف مهددة بالنسيان.
وبعد القرآن، ظلت العربية تتنازعها القوى التي أرادت أن تجعلها لسان السيادة، سواء كانت سيادة الفقهاء أو سيادة السلاطين. فمنذ أن قرر عبد الملك بن مروان أن يُعرب الدواوين، كانت اللغة قد تحولت من فضاء تعبيري إلى أداة للحكم، إلى سلاح يُقنّن الهيمنة باسم البلاغة. لم يكن ذلك قرارًا بريئًا، بل كان فعلًا سياسيًا بامتياز، إذ لم يكن الهدف مجرد تبسيط الإدارة، بل تكريس سلطة الدولة عبر فرض لغة موحدة، لغة تُقصي التعدد وتؤسس لهيمنة المركز على الأطراف.
لكن الطاغية لا يملك وجهًا واحدًا، ولا تتجسد السرديات في صورة واحدة. ففي العصر العباسي، حين بلغت العربية ذروتها، كان الفقيه والمنطقي والمعتزلي كلٌّ منهم يحاول أن يخلق نسخة مختلفة من اللغة، وكان كل تيار يحاول أن يفرض تعريفًا لماهية “العربية الصحيحة”، بينما كانت الهشاشة تتسرّب من بين أصابع الجميع.
في بغداد، حيث التقى سيبويه بالكندي، كان الصراع حول اللغة أكثر من مجرد صراع نحوي، كان معركة حول طبيعة الحقيقة ذاتها: هل المعنى يوجد في الكلمات، أم أن الكلمات مجرد قشرة، بينما المعنى ينكشف خارج اللغة، في تجربة صوفية أو في معادلة رياضية؟ هل “الكلمة” مقدسة بذاتها، أم أنها مجرد علامة عابرة تكتسب قدسيتها من الاستخدام؟
لكن العربية لم تتوقف عند حدود الصراع القديم، بل وجدت نفسها تُساق إلى معارك جديدة حين جاءت الحداثة بسردياتها الطاغية. فقد كانت الكولونيالية الأوروبية ترى العربية كلغة ميتة، جامدة، غير قادرة على احتواء مفاهيم الدولة الحديثة. كان هذا الطرح امتدادًا لرؤية ديكارتية ترى أن التفكير لا يكون إلا في لغة عقلانية مرتبة، بينما العربية، ببلاغتها وانزياحاتها، كانت عصية على هذه الرؤية.
لم يكن الأمر مجرد خطاب أكاديمي، بل كان له تجليات سياسية، حيث سعت سلطات الاستعمار إلى استبدال العربية بالفرنسية أو الإنجليزية في أنظمة التعليم والإدارة، محاولةً قطع الصلة بين اللغة والهوية. لكن الردّ لم يأتِ من الفلاسفة وحدهم، بل من الشوارع، من الذين صنعوا الثورات وهم يهتفون بالعربية، لا لأنها لغة مقدسة، بل لأنها اللغة التي استطاعت أن تحتضن غضبهم.
غير أن الطاغية لا يُهزَم بسهولة. فكما حاول الاستعمار أن يقتل العربية، حاولت المؤسسات الدينية أن تُحنّطها، أن تجعلها جسدًا لا يتنفس إلا داخل النصوص القديمة، أن تفرغها من هشاشتها الحية وتعيد إنتاجها كأداة طيّعة لخدمة السلطان، أكان سلطان الفقه أو سلطان النفط أو سلطان الأيديولوجيا.
في هذه اللعبة، كل طرف يحاول أن يُعيد تعريف العربية وفقًا لغاياته، بينما اللغة تستمر في التملّص، في التسرّب من بين الأصابع، في التشظي إلى لهجات وأصوات وهويات تتجاوز أي محاولة لاختزالها في كتاب واحد، مهما بلغت قدسيته. لم يكن ذلك قاصرًا على السياق العربي وحده، فقد رأينا كيف حاولت الكنيسة الكاثوليكية احتكار اللاتينية قبل أن تتشظى تلك اللغة إلى الفرنسية والإيطالية والإسبانية، وكيف سعى الحكام العثمانيون إلى فرض التركية العثمانية قبل أن يتم تفكيكها إلى نسخ قومية متعددة.
إذن، هل يمكن أن نقول إن اللغة أداة تواصل فحسب؟ أم أنها القيد والسلاح، الجرح والشفاء، الحكاية التي نكتبها والهاوية التي نُلقى فيها؟ هل يمكن للغة أن تُختزل في كتاب، مهما كان مقدسًا، أم أنها تتجاوز كل النصوص وتتشكل باستمرار وفقًا لرهانات السلطة والمقاومة؟
إن العربية، كما غيرها من اللغات، ليست مجرد وعاء للمعاني، بل هي نفسها معركة، فضاء للصراع، حيث تتقاطع الهيمنة مع المقاومة، وحيث تُعاد صياغة الإنسان نفسه عبر الكلمات التي يختارها، أو التي تُفرض عليه دون أن يدري. في النهاية، ليست اللغة مجرد صوت يُنطق، بل تاريخٌ يُكتب، وقيدٌ يُكسر، وهاويةٌ تتربص بكل من يظن أنه يستطيع أن يمتلكها إلى الأبد.
***
إبراهيم برسي – باحث سوداني

ـ برنامج الانقلابيه الكونيه العظمى:
يوجد العراق ويعيش على مدى تاريخه الاطول مجتمعيا بين التواريخ البشرية، بلا ذاتيه، خارج القدرة المتاحة للعقل على الاحاطة او المقاربة، لانه كينونه ونوع مجتمعي اخر، غير الغالب المعاش المطابق بنية وامكانات تفاعل، بغض النظر عن مستوى الادراكية للاشتراطات اليدوية الانتاجية الغالبة على الظاهرة المجتمعية، والفاعله فيها كينونه وبنية بما هي نوع مجتمعات ارضوجسدية حاجاتيه.
ومن اكثر الجوانب القصورية الادراكية فعالية، كونها تحصر التفاعلية المجتمعية التاريخيه في نوع ونمط واحد من المجتمعية، ببنيته وكينونته الارضوية الجسدية الغالبة، لتوافقها الاني مع اشتراطات اليدوية الانتاجية، فلا يظهر او تلوح له من احتمالية حضورمشخص، نوع المجتمعية الاخر غير المدرك اصلا، مع مترتباته وكيفيات تفاعيتلة وتاريخه، ومترتبات صيرورته، فلا وجود في المدونه المجتمعية التاريخانيه للازدواج المجتعي الرافديني، وحكم الاصطراعية المجتمعية ميزته الاساس، وهو الامر الذي نعرف له مقابلا متاخرا، هو الاصطراع "الطبقي" الاوربي، وماينتج عنه من الاليات بالقياس الى صنفها المجتمعي الارضي، علما بانها تظل خافية غير مماط عنها اللثام حتى القرن التاسع عشر، مع ماقد ترتب على التعرف المتاخر عليها من اعتماد رؤية شامله للعالم، وقانون مكرس ضمن حتميات وديالكتك طبيعي مفترض، ومراحل محسوبه، ذهابا الى منتهى وخلاصة من العودة على بدء مشاعي.
وقد تكون الرؤية الافتراضية الطبقية من ابرز واكثر الروى الغربية الحداثية حضورا وشمولا عالميا، على الاقل خلال القرن الذي اعقب تاسيسها على يد ماركس، برغم توهميتها وتعسفيتها الساذجه التي تلحق المجتمعات كلها بالاصطراع الطبقي اجمالا، وهو ماقرره ماركس بقوله الفاصل "ان تاريخ المجتمعات ماهو الا تاريخ صراع طبقي"، وهو قول دال على توهميه، الاساس والفصل فيها استمرار الجهل بالاصطراعية الازدواجية المجتمعية الاخرى الاصل والاساس، الرافدينيه المجتمعية وقوانين اصطراعها التاريخي، وخضوعها لقانون الدورات والانقطاعات التاريخيه، دورة اولى سومرية بابلية ابراهيمه، ودورة ثانيه بعد انقطاع اعقب سقوط بابل، هو العباسي القرمطي الانتظاري، انتهى بسقوط بغداد عام 1258 وصولا الى القرن السادس عشر، حين انبعثت الاليات الصعودية في دورة ثالثة راهنه، هي دورة الادراكية التحققية الالية الكونيه، بدءا من ارض سومر الاولى نفسها، بظهور اتحاد قبائل المنتفك عام 1530 كمرحله اولى، اعقبتها اخرى انتظارية نجفية، بدات بعد ثورة 1787 الثلاثيه التي حررت العراق الجنوبي من بغداد الى الفاو، وصولا الى الطور الايديلوجي الاستعاري المتماهي مع التوهمية الغربيه، والمنتهي منذ ثمانينات القرن العشرين.
والاهم والخاصية الرئيسية المميزه للتاريخ الاصطراعي الازدواجي المجتمعي وسيرورته، كونه ظاهرة متعدية للقدرة العقلية المتاحه للكائن البشري، فالموضع المعروف اليوم بالعراق هو تاريخ بلا ذاتيه، متعذر على الاحاطة، بلوغه ادراكيته وتعرفه على ذاته، يعني تحققه، لانه اصلا وشرطا انقلابيه عقلية شامله، وانتقال عقلي من موجبات الطور اليدوي، الى الالي التكنولوجي الاعلى، وهو مجال التحولية الاليه الكبرى خارج التوهمية الارضوية الغربيه الحداثية، ومنها المبنيه على الاصطراعيه الطبقية، والتي تبقي الاله ضمن حدود واشتراطات الاعقالية الدنيا "الانسايوانيه" الارضوجسديه، اخذه المجتمعية وحقيقتها الوجودية الى ماتوحي به وتفرضه نمطية المجتمعات الدنيا الارضوية.
يعني هذا اولا وابتداء ان الاله حين تنبثق في اوربا، تظل وعيا ومن حيث الادراكية محكومة لاشتراطات الارضوية ومتبقيات ووطاة موروثات اليدوية المستمرة طاغية، بانتظار المتغيرات العالمية المترتبه على الحدث المستجد، ومايورثه من اصطراعية مجتمعية غير اليدوية، بحكم حضور الاله كعنصر تفاعل ثالث الى جانب /الكائن البشري والبيئه/ عنصري التفاعلية ابان الطور اليدوي، ومع الانتقال من الاله المصنعية الى التكنولوجية الانتاجية ومايترتب عليها مجتمعيا وعقليا، وصولا الى مشارف الانتقال الاعلى التكنولوجي العقلي، والذي يصير محركا ايقاظيا تطويريا ل"العقل المجمد"، وهو اكثر من 85 بالمئة مما يستعمله الانسان حتى اللحظة مما متوفر له من طاقة عقلية، بعد بداية الوثبه الاعقالية الضرورية، وفك النقاب عن الذاتيه الازدواجية اللاارضوية، حين يصير العقل كموضوع وبرنامج وجودي انتقالي، من عالم الجسدية، متخلص منها ومن وطاتها، كحركة نفي للكيانويات، والدول، والملكية، نحو الكينونه الكونيه المشتركة للكائن البشري، الذاهب الى الفعاليه المتجهه الى خارج الارض، حيث انتهاء القصورية الاعقالية، والانتقال الى الطور البشري النهائي المنتظر والمقرر منذ اليوم الاول لتبلور المجتمعية في ارض سومر، وقيام مجتمعية اللاارضوية، ومن ثم الاصطراعية الازدواجية المتعدية للكيانيه.
يصبح العالم وقتها " آليا" فيتعدى متبقيات الارضوية اليدوية الاوربية، واشكال الاله الاولية الانتقالية، والعقل الارضوي "الانسايواني" الحالي الانتقالي بين الحيوان و "الانسان"، بينما الجهد منصبا مع التحرر من وطاة الموروث العقلي، على الذهاب الى العقل بهدف السيطرة على الجسدية بكل وجوهها ومفاعيلها، مع ضرورة الاعتقاد الراسخ بقدرات ماقد اصبح محور الجهد والاعقال من هنا فصاعدا، ومن مقدرته غير القابله للتخيل ارضويا، او مقارنتها بها، بما في ذلك نوع الاستعداد المتوقع والمنتظر من قبل ابناء اللاارضوية التاريخيه المازومة منذ اكثر من نصف قرن ازمه التحول التاريخي العظمى، في وقت يكون فيه العالم قد صار " ماديا" وواقعا، في غمرة انتهاء صلاحية المجتمعية الجسدو ارضوية، ومع هذا لن ننسى بالطبع ان نذكر ونتذ كر، كم هو القادم منذ اليوم، طريق طويل واستثنائي الصعوبة بحيث قد لا نجد للمقايسه مايدلنا، او يضع يدنا بداهة وبلا جهد غامر فوق معتاد ولا متخيل على مانحن مقدمون عليه، خارج ارادتنا، ولزوما لا مهرب لنا منه لكي نكون، اونزول ونفنى.
***
عبد الأمير الركابي

تعتبر ثقافة التهجين والتجهيل، من أهم الوسائل التي تستخدمها القوى المستغلة والمستبدة لشعوبها أولا، ولشعوب غيرها ثانياً، وبأي شكل من الأشكال الاستغلال والاستبداد، سياسيّة كانت، أو اقتصاديّة، أو اجتماعيّة أو دينيّة أو غيرها. وذلك بغية السيطرة على الجماهير ونمذجتها وتذريرها وتحريكها وتفجير غرائزها وإقصاء عقولها وفقاً لمصالح هذه القوى المستغلة. هذا وتعتبر من أبرز سمات وخائص هذه السياسة برأيي التالي:
أولاً: زرع روح الامتثال والرضا لكل ما هو قائم، والتسليم والرضوخ لكل ما هو غيبي وغير عقلاني، وغريزي على أنه أمر مقدر بهذا الشكل أو ذاك ولا مناص أو الهروب منه.
ثانياً: تغييب مسألة الانتماء الحقيقي للوطن والمواطنة، وتبديله بانتماءات ثانويّة، دينيّة أو عرقيّة أو حزبيّة وغير ذلك من الانتماءات الضيقة أو الفضفاضة. أي تشجيع الانتماء للعقيدة (الأيديولوجيا) الدينيّة أو الوضعيّة أو للحزب أو للطائفة أو للقبيلة أو للبطل الديني أو السياسي أو الاجتماعي، (السلبي أو الايجابي) كقائد الحزب، أو رئيس الدولة أو شيخ العشيرة أو القبيلة أو الطائفة أو المذهب أو الطريقة الصوفية. وهذا في الحقيقة ما يجعل حياة الفرد والمجتمع في كل مفرداتهما، عبر سيرورتهما وصيرورتهما مرتبطة بفقه هذا القائد السياسي أو الديني أو الاجتماعي من جهة، أو تكون هذه الحية في سيرورتها منمذجة بشكل مسبق، ومحددة بقوالب جامدة وكأنها قدر لا مناص للخلاص منه كما قلنا.
وعلى هذا الأساس لا تعود الثقافة هنا، نشاطاً عقلانيّاً تنويريّاً يتفاعل مع السياسة والمجتمع على اعتبارها فعلاً جماهيريّاً، تلعب فيه دور الموجه لسياسة الدولة والمجتمع معاً بما يخدم مصالح الدولة والمجتمع والفرد ككل. بل تصبح الثقافة فعلاً نخبويّاً انتهازيّاً، تغرد فيه النخب المثقفة من تجار الكلمة والوجاهة والمال بكل اتجاهاتها دينيّة أو وضعيّة، عبر وسائل الإعلام وًدُوْرِ الثقافة والعبادة، لمصلحتها ومصلحة السلطة الحاكمة فقط.
أو بتعبير آخر: يلتقي في مثل هذه الحالة ما هو سياسي مستبد ومتفرد بالسلطة، مع ما هو ثقافي نخبوي انتهازي على مساحة ضيقة، لا يُمارس النشاط السياسي والثقافي فيها إلا فئة صغيرة من المجتمع، هي وحدها من يقرر طبيعة النشاط الثقافي ودوره وأهدافه وبالتالي استهلاكه، انطلاقاً من الموقف السياسي أو الأيديولوجي الذي تتمتع به هذه الفئة الضيقة ومصالحها ومصالح أسيادها كما أشرنا أعلاه.
عقلنة الثقافة:
من هذا المنطلق تأتي الدعوة إلى عقلنة الثقافة وشعبنتها.
أي تحويل الثقافة إلى:
أولاً: إلى جعل الثقافة فعلاً أو نشاطاً جماهيريّاً إيجابيّاً عقلانيّاً تنويريّاً، بعد تجريدها من لبوس عالم السياسية والأيديولوجيا وسلطاتهما المقدسة وانتهازيّة نخبها المثقفة.
وثانياً: الدعوة إلى جعل الثقافة فعلاً ثوريّاً، يجعل من التاريخ والتراث نفسيهما ثقافة عقلانيّة نقديّة، تنطلق من (استلهام) المواقف الإنسانيّة في هذا التراث دون الخضوع لسلطته وتقديسه. أي استلهام ثقافة (المواطنة) بدلاً من ثقافة العشيرة والقبيلة والدين والمذهب والطائفة والحزب والملك والأمير والبطل الملهم. وبذلك لا يعود التاريخ ومكوناته التراثيّة أو الثقافيّة منطلقاً لصراعات ماديّة أو فكريّة بين مكونات الشعب، أو بين الشعب والسلطة الحاكمة. بل جعلهما (التاريخ والتراث) قوة حيويّة يبرز فيهما كل ما هو عقلاني يدعوا إلى التقدم وتحقيق إنسانيّة الإنسان.
إن الثقافة في هذا السياق العقلاني النقدي والتنويري تتحول إلى:
أولاُ: ثورة حقيقيّة تعمل على تحويل إنتاج المعرفة من المنطق الصوري التجريدي والمثالي الذاتي والبراغماتي السلبي والفقهي السلفي الجمودي التكفيري ممثلاً بفرقته الناجية، أو الصوفي الإيهامي وطبله ومزماره الرافض للواقع وتأثيره على حياة الفرد والمجتمع، والعيش في عالم الروح والاشراق والتوهم والخيال، أو من منطلق عقليّة النخب الثقافيّة الوضعيّة الانتهازيّة التبريريّة، إضافة إلى كل ما تبشر به السلطات الاستبداديّة من ثقافة الامتثال والتجهيل وتسطيح العقول وتعميم ثقافة الوعظ والذاتيّة والارتجال والثرثرة الثوريّة. إلى فعل ثوري عقلاي نقدي تنويري تظل مصالح المجتمع بكل مكوناتها هي هدف هذه الثقافة. أي ثقافة ضد الجهل والتجهيل، والاستبداد، والتفرد بالسلطة، واحترام الرأي والرأي الاخر، والمرأة، أو ما نستطيع تسميتها بثقافة المواطنة ودولة القانون والمؤسسات والتشاركيّة.
ثانياً: ومن حيث المنهج تصبح ثقافة المنطق والبرهان الاستكشافي، القائم على الاستقراء والاستنتاج والاستدلال والتجربة والتحليل والاختبار والشك والجدل، وصولاً إلى البرهان، وكل ما يعطي الفرد والجماهير دورهما في ممارسة حقهما الطبيعي في صناعة الحياة.
وبذلك تكون الثقافة قادرة على:
آ: تحطيم سلطة الحاكم المستبد ودولته الشموليّة ونخبه الثقافيّة المؤدلجة الدينيّة منها والوضعيّة.
ب: وتكون قادرة عبر حواملها الثوريين العقلانيين التنويريين الملتزمين بالإنسان وقضاياه المصيريّة، وبمنطق الدولة والمجتمع القائم على دولة المواطنة والقانون، على نزع قدسية الأشخاص والتراث وأفكار وسلطة السلف الجموديّة الجبريّة، وفقه القادة، وكل من لازال يعيش على إعادة إنتاجها خدمة لمصالحه الأنانيّة الضيقة مهما كانت طبيعتها.
***
د. عدنان عويّد
كاتب وباحث من سورية

 

كان عميد الأدب العربي طه حسين يعلم علم اليقين أن النقد الجاد صَنيعةٌ يُسديها الناقد إلى معشر الكتّاب والشعراء وأهل الفن؛ لأنهم يستفيدون من النقد أكثر مما يخسرون. إن هؤلاء من خلال النقد: "يعرفون رأي الناس فيما يكتبون ويقولون؛ وليست هذه المعرفة قليلة الفائدة. يعرفون رأي الناس ويعرفون رأي الإخصائيين. فيقفون على مواضع القوة والضعف في فصولهم وقصائدهم فينفعهم هذا ويزيدهم قوة إلى قوة، ويعصمهم من السقوط والاسفاف" (طه حسين، حافظ وشوقي، ص: 102). ثم يستمر طه حسين في رصده للنقد الجاد فيقول: "في النقد إقرار للحق في نصابه، ودفاع عن الفن، وتَبْصرةٌ لِمَا في الآثار الفنية من جمال أو عيب". ص: 102.
أما بالنسبة لتوفيق الحكيم، فإنه كان مقتنعا كل الاقتناع أن الناقد هو صاحب رأي بامتياز. ذلك أن "المطّلع على النقد أحد فريقين: فريق يُسلم ويُصدق دون بحث أو تمحيص.. وهذا فريق من لا رأي له، أو من لم يهتم بعد بتربية الرأي فيه.. وفريق لا يقبل التصديق والتسليم قبل الرجوع إلى الأثر الفني يطالعه حرا من كل قيد ليستخص رأيا فيه بنفسه لنفسه". (توفيق الحكيم، يقظة الفكر، ص: 15-16). لذلك، فالنقد الجاد لا يتحقق إلا في مجتمع حر، وفي هذا المجتمع تكتمل رسالة الفنان والناقد معا، وتكتمل أيضا مهمة إيقاظ الفكر من سباته ليمارس عمله ويرتمى في نعيم التأويل الموسَّع الحر الذي ينقلنا إلى فهم يقظ للفن الذي يعاصرنا ويحيط بنا، حاملا معه أفكاره ومعانيه بكل دقة وقوة. فأينك أيها الناقد الذي ينقد الفن المعاصر؟ وهل تتحقّق معك يا تُرى الجمالية المنشودة للتأويل الموسَّع الحر؟
غني عن البيان القول إنه من الضروري اليوم على الناقد الفني الاحتكام إلى التأويل المُوسَّع الحر، لفهم القصدية المضمرة للفن المعاصر. فالقراءة النقدية ذات المسعى الأبجدي، والمتعارف عليها تقنيا إنْ على المستوى الوصفي التقني-التحليلي أو على المستوى الرسمي-الصباغي، ظلت جوفاء المعنى وأثرية المذهب، تحذو حذو النعل بالنعل، لا تُسعف المُتلقي على فك شفيرة الفن المعاصر. فهي تتكئ على أرضية هشة للوصف الشكلي في بعده التحليلي الفارغ من المضمون الجمالي، والمُبتعد عن ناصية التفكير النقدي المُؤسِّس لروح الفن وجوهره، ألا وهو التأويل الموسَّع الحر. وبتعبير آخر، إن تلك القراءة النقدية المستهلكة تتأطر ضمن نسق دائري مغلق يرفض الانفتاح على العلوم والمعارف ذات الارتباط بالفلسفة والعلوم الإنسانية والاجتماعية والمعرفية والعصبية...، لاسيما إذا ما تأملنا مختلف التحولات الراهنة التي شهدتها هذه العلوم من جهة، وأيضا علاقتها بالفن المعاصر من جهة ثانية.
وفي التأويل المُوسَّع الحر، لا بد أن يتوفر الناقد الفني على عُدة معرفية يساهم بها من أجل الخروج من المعنى المضمر في الأعمال الفنية إلى المعنى المُؤوَّل أو الشبيه بالحقيقة أو الممكن الذي يُصنفُ ضمن دائرة الخطاب الاحتمالي، وهو الذي يتم استنباطه بالانفتاح على مجالات وحقول علمية متخصصة داخل المختبر النقدي الذي يشتغل فيه الناقد الجاد. فمن أهداف التأويل الموسَّع الحر في حقل الجماليات البصرية أنه يساهم في رفع صعوبات الفهم الجمالي للأعمال الفنية بطرحه لأبعادٍ جديدة في المنظور والمقاربة، فينقلنا معه إلى مستويات رحبة تخدم غرض التلقي. ثم الدفع بالأثر الفني نحو مكانه الحر للمساءلة والتفكير من أجل تحقيق غايته التواصلية ألا وهي تأسيس نقاش فلسفي بين العمل الفني والمتلقي.
في ضوء ما تقدم، يمكننا بسط التأملات الآتية: كيف نُؤَوِّلُ عملاً فنيًا؟ وإلى أي حد يمكن للتأويل الموسَّع الحر للفن المعاصر أن يساعدنا على فك شفيرة هذا الفن بطرحه إمكانات المساءلة والتفكير من أجل بناء الرأي؟
تتطلب عملية تأويل الأعمال الفنية حسب مقاربة التي دأبنا عليها في هذا المقال، تحقيق عناصر متكاملة، تهدف إلى طرح أفق جمالي حر للفهم والتفسير والتواصل. وفي هذه العناصر تتفاعل الذات الجمالية للعمل الفني (ذات الفنان) مع المتلقي (فردا كان أو جماعة)، والموضوع الفني باعتباره وسيطا لهذه العلاقة الثلاثية (الذات-المتلقي- الموضوع الفني). وإن دور الناقد المؤوِّل يتحدّد في فهم وتحليل هذه العلاقة ورصد أبعادها ومُختلف تجلياتها المحايثة للعمل الفني.
1- كيف يتحقّق الفهم الجمالي للعمل الفني؟
إن الفهم الجمالي هو أول مؤشر دال على استيعاب كُنه العمل الفني وجوهره. ويتم ذلك عن طريق وضعه في السياق الجمالي الذي ينتمي إليه، وباستحضار المادة المُشتغل عليها، من حيث الشكل والمضمون والأبعاد الثاوية خلف فكرة العمل. والمراد بالسياق الجمالي، تقريب المُتلقي من فكرة العمل الفني المنجز، وذلك من خلال: تعريفه، وتجنيسه، ورصد خصائصه، ومكوناته... فقد تبدو لَكَ مكونات العمل الفني مبعثرة، أو غير مفهومة، أو معقدة، أو حتى تافهة في نظر البعض..!! لكن الناقد يجمعها داخل خيط ناظم ينطوي عليه التصور الفني الذي حمله الفنان على عاتقه واستطاع إخراجه في العمل الذي أنجزه في صيغته المعاصرة، فاختار منها التعبير الذي يتناسب مع هذا التصور، وفي تقاطع مع اتجاهات وتيارات لها نفس المسعى والغاية.
2- أي تفسيرٍ جمالي يساعدنا من أجل بلوغ عتبة العمل الفني؟
يحضرنا هنا التفسير الجمالي الأسلوبي باعتباره عتبة أساس لبلوغ العمل الفني، وذلك عندما يكشف الناقد عن مستويات القضايا والموضوعات التي يستند إليها العمل الفني بمرجعية أسلوب الفنان. ويقوم الناقد في هذا السياق بتأطير أسلوب الفنان ضمن تيار من تيارات الفن المعاصر -مع إمكانية الجمع أو المزاوجة بين أكثر من تيار- وفضلا عن استحضار تداخل التيارات داخل نفس العمل/ المنجز. فالأعمال التجهيزية على سبيل المثال، تتطلب أنماطا متعددة للبناء الجمالي البصري للموضوع، فيحضر: الفضاء المكاني ودلالاته، الأحجام وهندستها، الظل والضوء، المفاهيم، القضية المضمرة التي تقتضي من المتلقي البحث عنها، طريقة العرض وأبعادها ذات الارتباط بهندسية المنظور، المجال الإدراكي، الكل والجزء، الزمان الفني، رقمية الصورة وأبعادها الافتراضية، المؤتمرات الصوتية، المستويات الدلالية لمراحل العمل: البداية، الوسط، النهاية... والأمر نفسه بالنسبة لفن الأداء الذي ارتبط بالفعل الحي للعمل الفني. ذلك أن حضور المتلقي أثناء العرض يجعله يكتشف بنفسه الموضوع الجمالي ويبحث عنه أثناء تقديم الفنان لعمله المباشر والحي. فتكون مهمة الناقد ها هنا هي توثيق الأداء الفني بتقديم تفسير متكامل في نهاية العرض. وهو تفسير يستند فيه إلى عُدة متنوعة من التخصصات والمعارف التي من شأنها أن تساعده على رصد الحالات النفسية والعلائقية والوجدانية والمعرفية داخل الإطار الاجتماعي والحياة اليومية بمختلف تفاعلاتها وتأثيراتها على الذات والمتلقي في الآن نفسه. وعلى سبيل المثال: قد نجد في بعض معارض فن الأداء توظيف الفنان/العارض لوثبة تصالُبيَّة، وهي خشبة طويلة مسندة على الحائط، تُستخدم في تعليم رقص الباليه. وعليها يُصالِب الفنان رجلَيْه تكرارا داخل قاعة العرض بطريقة تخلق فعل الدهشة والغرابة لدَى المتلقي، وقد يقرع إحدى رجليه بالأخرى ليلعب دور راقص الباليه. وفي نفس العرض يستخدم الفنان الموسيقى التصويرية أو التعربية، وكذلك هندسة المكان، والألوان المعبّرة عن حالته النفسية... كما تجده يُمسك بيديه الفرشاة ويخلط الألوان ويرسم موضوعا اختاره ليؤثث به أداءه البصري الحي أمام الجمهور. إن هذا العرض يجعل المتلقي يشعر وكأنه يشاهد عرضا مسرحيا من طراز خاص، وهو طراز الفن المعاصر الحر الذي لا تحده قيود أو تلجمه ألجام، فكان فن الأداء آية من آيات الفن المعاصر.
3- أي تواصلٍ الجمالي يسلكه الناقد الفني؟
والمراد بالتواصل الجمالي لحظة مناقشة العمل الفني عن طريق تأويل المعاني والدلالات التي حَصُلَ فَهْمُها واستيعابها. وهنا يتقوى فعل التأويل الموسَّع الحر لكي يضطلع الناقد بالفهم الممكن لحقيقة الفكرة التي يطرحها العمل الفني. فيبدأ الناقد بالبحث عن إمكانيات محتملة لخلق فعل التواصل مع العمل الفني. فيقوم بمساءلته واستنطاقه لتقريب المتلقي من معاني الجمال الذي يوجد بداخله. وهو بذلك يساهم في تربية الرأي والذوق. ولعل جمالية التواصل التي تتولَّدُ عن العمل الفني، أنه يترك في نفسية المتلقي أثرا خفيا يدفعه إلى ممارسة التفكير الحر. كما يساهم هذا التفكير في تكوين الرأي، وبالتالي يتأسس عند المتلقي الحكم الجمالي الذي نُصدره على الأعمال الفنية. إنه حكم حر وذاتي مستقل، يوجد بداخل كل واحد منا، والناقد الفني يساعدنا على التعرف إليه واستخراجه بعدما كان مضمرا. إن التواصل الجمالي ينقلنا بالضرورة من المعنى المجازي إلى المعنى الحقيقي، ويدفع الناقد أيضا إلى توسل الاستقراء والاستنباط والمقارنة والتركيب. فيستعير الناقد مقاربات من علوم ومعارف مُتخصصة: الفلسفة، وتاريخ الفن، وعلم النفس، وعلم الاجتماع، والهندسة، والرياضيات، والفيزياء، وعلم الجمال، وميتولوجيا، والأنثروبولوجيا، والعلوم المعرفية، والعلوم العصبية، واللسانيات، والتداوليات... والهدف من هذه المقاربات هو وضع أسس علمية وإبداعية للمعرفة التشكيلية والبصرية في الكتابة النقدية العالِمة.
تأسيسا على ما سبق ذكره، نخلص إلى أن الفن المعاصر بالنظر إلى أشكاله التعبيرية الراهنة، والتي رغم تنوعها وتعددها، فإنها تفتقر إلى المضمون التأويلي الموسَّع الحر الذي يرتبط بمهام الناقد الفني. وإذا ما تأملنا هذه الأشكال التعبيرية في الفن المعاصر: اللوحة بمفهومها الجديد، والتركيبات النحتية، والأحجام، والتجهيزات، والفيديو آر، وفن الأداء، والصباغة الديجيتالية...، فإننا نجد أنها غير مكتملة المضمون الجمالي، والتأويل الموسَّع الحر وحده الكفيل بملء وتدارك مسألة عدم الاكتمال، وكذلك الصعوبات التي من الممكن أن ترتبط بعملية التلقي. وعلى هذا الأساس، فقد كان هدف هذا المقال هو الوقوف عند مستويات النقد الجمالي للفن المعاصر من حيث الفهم والتفسير والتواصل. تلكم التي تستند إليها وظيفة ومهام الناقد الفني الذي لا شك أنه سيساهم بها في تذليل عوائق التلقي ورفع كل تعقيد من أجل تسهيل الفهم وتقريب الرؤية الجمالية الحرة للعمل الفني في صيغته المعاصرة والإبداعية الراهنة. لذلك فإن عمل الناقد هو عمل إبداعي بامتياز، والعمل الإبداعي أيًّا كان نمطه، لا بد وأن يتجدّد مع مرور الزمن بكل ما يحمل من أبعاد ودلالات متغيرة وليست بالثابتة. فالنقد الذي كان في الماضي ـفي فترة الثمانينيات- كان مثيرًا، ولِمَ لا؟ مدهشًا في عصره. لكن للأسف لم يعد يحظى بنفس القدر اليوم، مع زمن الرقميات والعصرنة، وخدمات الذكاء الاصطناعي على مستوى الكتابة والتأليف والإبداع الفني. أمَا كانت مشكلة: كيف ننقد عملا فنيا؟ وما هي مكونات هذا النقد؟ وحدوده...؟ مدار جدل في الماضي لم يعد يجد من يتأمله اليوم، أو حتى التفكير فيه، مع ظهور مقاربات جديدة تختلف باختلاف الحقل العلمي الذي تنتمي إليه. لعلها إذن ضريبة المجاوزة التي تُعطي في كل عام ولربما في كل شهر نموذجا جديدا من المقاربات اللاحقة التي تتجاوز السابقة!
ولكنْ، إلامَ صارت أحوال النقد على أيدي المتجاوزين من وجهاء نقاد هذا الزمان؟
وبعد، فليبارك قارئ هذا المقال عقل كل ناقدٍ جاد يتصدى لفساد الذوق الذي ساهم فيه دعاة النقد من الذين يفسدون فكرة الأثر الفني بجهلٍ وتجاهلٍ وتحاملٍ على إفساد الذوق العام!
وممّا لا مِراء فيه أن العزةَ كل العزة لأصاحب الذوق الرفيع والحس الجمالي البديع! فلهم خالص التقدير.
***
بقلم: أ. د. محمد الشاوي

النزاع الذي اندلعت نيرانه فجأة في أطراف سوريا، بعد أسابيع قليلة من انتصار الثورة الشعبية، يعيد تذكيرنا بأن خطوط الانكسار في البنية الاجتماعية العربية ما زالت فعّالة، وأن ترسيخ السِّلْم الأهليّ مشروط بتصحيح عيوب تلك البنية، لا سيما جعل «مبدأ المواطنة» مضموناً وحيداً للعلاقة بين أعضاء المجتمع السياسي، على المستوى القاعدي، وبين المجتمع والدولة، على مستوى السياسة والقانون.
التعدد الديني والعِرقي هو الوضع الطبيعي للحياة في عالم اليوم. ويجب أن نكيِّف فهمنا للسياسة على نحو يستوعب هذه الحقيقة، كي نتفادى الصراعات الداخلية. القبول المتزايد لهذه الحقيقة دليل على نضج البشرية واتساع وعيها بحقائق الكون وضروراته. التنوع قَدَرٌ لا خيار لنا فيه، هكذا خُلقنا وهكذا نصير إليه.
من المؤلم القول إن المجتمعات الغربية تجاوزتنا بمسافة طويلة في الإقرار بالتنوع قانونياً وسياسياً وعملياً، فيما لا نزال نتحرك بسرعة السلحفاة. وهو أمر أسبابه معروفة لمن تأمل في البنية الثقافية - الاجتماعية، ولم يكتفِ بالوقوف عند التبريرات اللفظية.
السؤال المثير للدهشة حقاً هو: لماذا نجح الغربيون -ولو نسبياً- في تجاوز حدود الطوائف والأعراق والثقافات؛ فما عاد أحدهم يخشى أن ينقضَّ عليه الآخر أو أن يتآمر؟ نقول هذا مع علمنا بأن تلك المجتمعات قامت على أرضية تعاقد مادِّيٍّ ومصلحيّ. في المقابل فإن مجتمعاتنا التي تتحدث كثيراً جداً عن التعاون والتكافل والتراحم ومحبة الآخر والإيثار، تبدو كأنها تعيش على الدوام في مجتمع ما قبل الدولة، حيث الجميع في حالة حرب مع الجميع، على النحو الذي صوَّره توماس هوبز.
غالبية الدول الإسلامية تعاني مما يمكن وصفها بأزمة هوية، ليس عند الأقليات فقط، بل بالقدر ذاته عند الأكثريات أيضاً. الأقليات تظن أن الأكثرية تظلمها حقها، والأكثرية تظن أن الأقلية تخونها. وثمة لدى هذا الطرف عشرات من الأدلة التي تدعم دعواه، ولدى الطرف الآخر أدلة مثلها. لكن السؤال الذي يبقى حائراً: لماذا تعاملت الأكثرية مع «أفراد» الأقلية بوصفهم جمعاً واحداً؟ ولماذا فعلت الأقلية الشيء ذاته بالنسبة إلى «أفراد» الأكثرية؟ أي بدل أن تؤاخذ المذنب، وضعت كل من يشاركه الانتماء في قالب واحد، وعاملتْهم جميعاً على أنهم مذنبون.
ثم دعنا نفكر في السؤال التالي: لماذا يناصر «أفراد» كل طرف دعاوى فريقه من دون نقد أو مساءلة؟ ولماذا لا يسمح هذا الجمع بمساءلة مواقفه ونقدها من داخل الجماعة ومن خارجها؟
إن أردتم معرفة الطريقة التي يتشكل من خلالها الفارق البنيوي بين المسلمين وغيرهم، انظروا إلى سلوك الإسرائيليين خلال الحرب المشتعلة منذ أكتوبر (تشرين الأول) 2023 في مقابل سلوك العرب: يخرج السياسيون والمواطنون والمحللون الإسرائيليون في الشوارع وعلى شاشات التلفزيون والصحف، يوجهون أشد النقد إلى الحكومة ورئيسها وإلى الجيش وقادته، وفي المساء يذهبون إلى بيوتهم آمنين. أما على الجانب الفلسطيني والعربي، فإن الذي يوجه نقداً ولو بسيطاً، يُتهَم بالخيانة والعمالة والتصهيُن... إلخ. بعد حرب 1973 شكَّلت إسرائيل لجنة عالية المستوى لتحديد أخطاء القيادة، وقد نُشر التحقيق وتُرجم إلى العربية باسم «التقصير». وهو يحوي نقداً شديداً للحكومة والجيش وأجهزة الأمن. فهل علمتم عن أي دولة عربية أجرت تحقيقاً مماثلاً ونشرته على الملأ؟
سوف أتفاءل إذا سمعت أن اللجنة التي شكَّلتها الحكومة السورية للتحقيق في حوادث القتل التي جرت في الشمال الغربي، تضم فعلاً فريقاً مستقلاً غير منحاز، أو على الأقل ممثلين لمختلف الأطراف، واعتمدتْ المعايير الدولية في التحقيق، ثم نشرت في وقت قريب شهادات الذين استمعت إليهم، وحددت المسؤولية عن الأفعال الشنيعة التي جرت منذ سقوط النظام السابق.
إصلاح البنية الاجتماعية المتأزمة يستدعي معالجة التأزم المزمن في الهوية عند الأكثرية والأقلية معاً. وهذا لن يحدث إذا اكتفينا بإعلانات سياسية أو حتى دستورية، بل يحتاج أيضاً إلى مبادرات سريعة عملية، تعزز الاطمئنان وترسل رسائل إلى جميع من يهمه الأمر، بأن لدى الحكومة عزماً أكيداً على احتضان الجميع والتعامل معهم على أنهم مواطنون، يحاسَبون على فعلهم وليس على انتمائهم.
***
د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

التلاميذ عندنا في التعليم الثانوي لا يعرفون من الفلسفة سور رسمها يتداولون بعض المقالات الجاهزة التي هي اشبه بالمحفوظات، حيث كل شيء جاهز لإرضاء سحر النظرة الأولى وشهوة الامتلاك؛ وكل شيء معد سلفا للانغماس في الملذات السهلة والركون الى رذيلة الكسل، هؤلاء التلاميذ فقدوا ولا شك متعة أكبر مما كانوا سيكتسبونه بقليل من الإرادة والشجاعة والاهتمام والاقبال على دراسة الفلسفة. فعندما نفتقد روح النظام، وعندما نهمش فضيلة احترام العمل، ولا نعرف قيمة الساعات الضائعة وعندما ننشغل بالمديح الزائف والإسراف في تقدير الذات رغم خيباتنا المتكررة فإننا ولا شك نحكم على الفلسفة بالموت. إنه من المؤلم حقا الحجر على تفكير التلميذ وربط الذاكرة بالتكرار وتقليص الذكاء، وتهميش الخيال الذي دائمًا ما يكون بارعًا وطموحًا. على الرغم من ان كل انسان غني جدا بما يملكه من إمكانات وقدرات وما يصنع التلميذ بليد الذهن هو ضعف الإرادة لا الفكر.
ان الصورة التي يتمظهر بها الدرس الفلسفي في مؤسساتنا التعليمية وتلك المقالات المعلبة المتداولة تعكس تجربة ساذجة وايضا قاتلة للعقل وتلك الامتحانات والاسئلة المبتذلة هي من دون شك قاتلة للتفكير الحر مادامت تشتغل على تنمية عادة الميل الى الفعل السهل انها تشل الإرادة وتقتل ملكة النقد. وكل ما هو معتاد في التعليم وسهل يبدو غير إنساني. ولكن لماذا يتم تحميل التلميذ كل إخفاقاتنا؟
المأساة عندنا تبدأ من الاستاذ الذي هو في الغالب لا يقرأ ولا يكتب ولا يفكر ولنتساءل هنا بصدق هل استاذ الفلسفة مثلا في التعليم الثانوي عندنا قرأ لأفلاطون وأدرك ما ترمي اليه محاوراته؟ هل سافر بخياله وتذوق سحر المتن الافلاطوني؟ هل عاد بذاكرته الى سقراط وأبصر تلك العلاقة الحميمية التي تربط الأستاذ بتلميذه؟ هل هو ملم بموقف ارسطو في السياسة والاخلاق؟ هل مرجعيته في ذلك كتاب السياسة لأرسطوطاليس والأخلاق الى نيقوماخوس ام تلك الملصقات والبطاقات والقوالب الجاهزة؟ هل الأستاذ عندنا يقرأ لجون لوك ودافيد هيوم وعلى دراية بكتاب مبادئ الفلسفة لديكارت او تأملات ميتافيزيقية؟ كيف لأستاذ الفلسفة عندنا ان يشرح لتلامذته مواقف الغزالي وابن رشد وكانط وهيجل...وهو لم يقرأ بعضا من نصوص هؤلاء الفلاسفة العظماء؟ إن أولئك الذين لديهم الفضول الكافي لقراءة أفلاطون، أي متابعة سقراط في منعطفاته وتعرجاته، سوف يندهشون في البداية من هذه الطرق العظيمة التي تؤدي إلى الحكمة وسيحصلون ولا شك على غذاء العقل.
نعم من المؤلم حقا ان ترى وتسمع لصنف من الاساتذة يعيشون في عالم افتراضي سجناء مقيدون يتعايشون داخل كهف لا يرون الا الضلال وافقهم المعرفي محدود واذا ما أردت ان تحرر احدهم من قيوده تجد بضاعته المعرفية مغشوشة وفاسدة وان شئت انظر الى صفحات التواصل الاجتماعي وما يدون هؤلاء من خربشات سيرتد اليك بصرك خاسئا وهو حسير من قبح وهول ما رأى لغة ركيكة ومواضيع مبتذلة سطحية ومنهج عقيم في الطرح والرد فترى الواحد من هؤلاء يهرف بما لا يعرف ينقل بدون سند ويدعي بدون دليل اقلب الصفحات واستمر في التصفح لن تجد في نهاية بحثك الا أستاذا بالاسم يرتدي قميص إمام فقي ومتفيقه يفتي لغيره بدون علم لا يقرأ ..لا يسأل ...لا يسافر بخياله ..ارادته معطلة مشحونة برغبات دونكيشوتية يصارع طواحين الهواء وفي احسن الأحوال تراه يجلس هناك بدون حركة في منزلة بين المنزليتين منزلة التلميذ الكسول الذي اسدل اذنيه واغمض عينيه فهو لا يسمع ولايرى ومنزلة نافخ الكير يحرق ثيابك ويسمم بدنك ويؤذيك في بصرك وسمعك وعقلك.
المأساة عندنا تبدأ من المفتش حيث تحول بعضهم الى ما يشبه الدركي “يأتي للتأكد من أن المعلم قد أعد درسه وعليه ان يقدم الوثائق التي تثبت ذلك. مهنة ولا شك تجعل المرء غبيا وجاهلا. هذا دون استثناء. أعلم أن العديد من المفتشين يظهرون حماسة رائعة. لكن هذا لا يمنحهم أي ذكاء. نأسف لقول ذلك، لكن يجب أن يقال أن أي درس لا يقرأ فيه التلميذ أو يكتب هو درس ضائع. يجب أن نقول لهؤلاء الثرثارين سينتهي بهم الأمر إلى جعل مهنة التعليم صعبة بالفعل ومستحيلة، علاوة على ذلك هم لا يعرفونها"
وأسوأ ما في الأمر ان يتحول المفتش عندنا الى ظاهرة من ظواهر عالم الاشياء محكوم بحتمية التكرار عاجز على ان يحرك نفسه بنفسه او يوقف حركته عاطل عن الحركة وبعض المفتشين الذي يشكلون حالة الاستثناء يجدون انفسهم في وضعية سيزيف يحملون صخرة التدرجات على اكتافهم ويسيرون بها في شعاب ومسالك الفقر ومدن الملح ويصعدون بها جبالا صخورها حادة لا قمم لها ثم تهوي بهم فيسقط الواحد منهم في مهاوي الابتذال والاجترار فمثله هؤلاء كمثل من أتاه الله علما لكن فضل الجلوس الى موائد السلطان والسمع والطاعة لولي النعمة المتفرد بالرأي المتعالي على المكان و الزمان.
ان " المفتش الذي يجلس في الفصل الدراسي كما هو الحال في المسرح يريد أن يسمع درسا جيدا، أو أحد تلك الحوارات المنظمة التي يلقي فيها تليمذان أو ثلاثة إجابات إلزامية يتم تحديد مضمونها وتوقيتها مسبقا. فعل من شأنه ان يفسد الفطرة السليمة لا ينبغي للمفتش أن يستمع أبدا إلى المعلم، ولكن يجب أن يستفسر فقط عما يعرفه التلاميذ. فإذا اضطررت إلى الحكم على فصل يتعلم فيه التلاميذ البيانو، فإنني ولا شك أود أن أسمع الى التلاميذ وليس المعلم"
المأساة عندنا تتجلى في التلميذ الذي سرقت طفولته وافسدته الأسرة وكبله المجتمع بأكذوبة التعليم السهل والنجاح المضمون واقع مضحك مبكي يتحول فيه التلميذ الى رهينة لشهوات ونزوات صناع الإخفاق ومعلمي الفشل. المعرفة الفلسفية عنده تبنى على اعتقادات ساذجة واراء ويقينيات لا مجال للتفكير فيها تبدأ وتنتهي مع بعض المقالات التي تقوم على مسلمة السرد فهي أقرب الى الحكايات الشعبية وعلى حتمية التكرار وتقديس الذاكرة تحارب كل جديد حيث يشتغل حراس المعبد على منع التجديد وغرس قصص وروايات خرافية حول الأستاذ الأسطورة وعلى التلميذ ان يؤمن بها ويصدقها دون تحليل او نقد.
تجاوز العوائق
يمكننا ان نستلهم من فلسفة اميل شارتيه ما يعيننا على إعادة بناء الدرس الفلسفي في التعليم الثانوي بوجه عام والتفكير في غرس الروح العلمية والفلسفية لدى تلميذ المرحلة الابتدائية بوجه خاص فالممارسة الفلسفية عنده تقوم على مسلمة ان الروح مثل اللوغوس تتجلى من خلال نشاطها وانه يجب دعمها من قبل الإرادة فهناك دائما علاقة وثيقة بين الإرادة الحرة وفعل التفلسف وبين إدراك الذات والعالم الخارجي والممارسة الأخلاقية فلسفة تربوية عقلانية من حيث المنهج ونقدية من حيث المضمون ورواقية من حيث الغاية .
في كتابه (اقوال في التربية) يعلمنا (الان) ان الدرس الفلسفي في جوهره تربية على التفكير النقدي الحر والأخطاء التي نقف عليها عندما نستمع الى التلميذ او نصحح له لا تعود الى نقص العقل وانما نقص في إرادة التعلم وغلبة الاهواء فجميع التلاميذ اذكياء متى أرادوا والأستاذ لا يجب النظر اليه على انه خبير في تلقين المعارف بل خبير في الانفعالات يشحذ الهمم من خلال تقدير الجهود وغرس إرادة التعلم والكتاب هو الوسيط الأساسي للحصول عليها من خلال قراءة النصوص الفلسفية المكتوبة ومن خلال الرجوع الى مؤلفين كبار ومن خلال جمل فلسفية مختصرة اكثر ثراء وعمقا فلا يمكن ان يحدث تقدم في الدرس الفلسفي بدون اعجاب واجلال دع التلاميذ يستمعون إلى الأشياء الجميلة، مثل الموسيقى وسماع بيتهوفن ، ذلك هو التأمل الأول. ... دعهم يرون رسومات دافينشي، مايكل أنجلو، رافائيل؛ دعهم يتعلمون اللغة من قبل المؤلفين العظماء، وليس غير ذلك. من خلال أضيق وأغنى وأعمق الجمل، وليس من خلال هراء دليل المقالات الجاهزة. لا يوجد تقدم لأي تلميذ في العالم، لا فيما يسمعه ولا فيما يراه، ولكن فقط فيما يفعله.
- نريد من خلال الدرس الفلسفي أن يشعر التلميذ بجهله الشديد، وبعده الشديد، ونقصه الشديد، وصغره الشديد، نريده أن يساعد نفسه على النظام الإنساني؛ أن يتعلم الاحترام، لأن الاحترام يجعلنا عظماء لا صغاراً. دعه يتصور الطموح العظيم، والعزم العظيم، من خلال التواضع العظيم. دعه يضبط نفسه ويصنع نفسه؛ فليجتهد دائماً، وليتسلق دائماً. ليتعلم الأمور السهلة بالطريقة الصعبة.
- التعلم يقتضي الشدة فهو عمل جدي يجب فصله عن التسلية واللعب والعظمة تبدأ من بناء دروس فلسفية ونظام امتحانات تغرس في التلميذ الانضباط والصرامة اما التيسير بدعوى ترغيب التلميذ وارضاء الاسرة فهي دعوة للكسل ولا أحد ينقذ نفسه من خلال كمال الاخرين بل باكتشاف اخطائه الخاصة وتصحيحها.
- الدرس الفلسفي يبنى في كل الأحوال من خلال الرجوع إلى المصدر والشرب من جوف اليد، وليس من كأس مستعار. خذ دائمًا الفكرة كما صاغها المبدع؛ ودائما ما تكون الأفضلية لما هو جميل على ما هو حقيقي؛ لأن الذوق هو الذي ينير الحكم دائمًا. الأفضل من ذلك، اختر الأقدم ...إن الجمال هو علامة الحقيقة، والوجود الأول للحقيقة في كل إنسان، فنحن نعرف الانسان في نصوص الفلاسفة وفي قصص موليير وشكسبير وبلزاك وفي اشعار المتنبي، وليس في أي ملخص لعلم النفس.
- أفضل ما في العلم هو ما هو أقدم، وأكثر رسوخًا، وأكثر دراية للجميع من خلال الممارسة. إن الخطأ ذو العواقب الجسيمة هو أن نرغب في تعليم التلاميذ من خلال تلخيص أحدث الخلافات بين علماء الفيزياء مثلا.
- إن الواجب الأول للديمقراطية هو العودة إلى المتخلفين، وهم كثيرون؛ لأن النخبة التي لا تقوم بتعليم الشعب هي أكثر ظلماً بحسب المثل الديمقراطي من الشخص الغني الذي يجمع إيجاراته وقسائمه.
- إن جميع وسائل العقل موجودة في اللغة؛ ومن لم يفكر في اللغة فإنه لم يفكر إطلاقا. وبناء على هذه الفكرة، فإننا نفهم بسهولة أن الروح لن تظهر لشخص يعرف لغة واحدة فقط.
- مستقبلنا كله يعتمد على التعليم؛ والتعليم يعتمد على الرسم. فلا شيء يجعلنا نعرف طبيعة الطفل وشخصيته أفضل من الرسم.. الطفل في اللحظة التي يرسم فيها، يصبح سيد يده... لقد لوحظ أن أفضل التلاميذ في المدرسة الابتدائية يرسمون ويحسبون جيدا.
- لقد لاحظت أنه في الثكنات انهم لا يشرح فقط بأسلوب واضح ماهية البندقية؛ ولكن كل شخص مدعو إلى تفكيك البندقية وإعادة تجميعها... هذه الفعل لاوجود له في فصولنا، ربما لأن الاستاذ معجب بنفسه اثناء التحدث؛ ربما لأن حياته المهنية كلها تعتمد على هذه الموهبة التي يبديها للتحدث بمفرده لفترة طويلة.
- يحدث أن المعلمين، وخاصة الشباب منهم، يستمتعون بالخطاب؛ والطلاب ليسوا أقل سعادة بالاستماع؛ إنها خدعة الكسل. ولكن لا أحد يتعلم من خلال الاستماع؛ إننا نتعلم من خلال القراءة...... ومن هنا أعود إلى فكرتي، وهي أننا يجب أن نساعد الطفل، ونرشده ونعيده، وأنه من خلال هذا سوف نتمكن في النهاية من إخراج فكره الخاص، وهو شيء نادر.... أن تكتب، ليس بسرعة، بل على العكس، بحذر النقاش؛ أرسم هوامش جميلة على دفتر جميل؛ نسخ الصيغ الكاملة والمتوازنة والجميلة، هذا هو العمل السعيد والمرن، الذي يصنع العش للفكرة. هناك جمباز الكتابة، الذي يظهر في الشكل والمخطط، والذي يعد علامة على الثقافة
- يجب أن تتغلغل الروح العلمية في كل مكان؛ لا أقول العلم، بل الروح العلمية؛ لأن العلم يشكل كتلة ساحقة؛ وأعماله الأخيرة، عن الضوء، والكهرباء، وحركة الجسيمات، تفترض حسابات معقدة وتجارب خارجة عن المألوف تمامًا؛ ومن الواضح تمامًا أن الأبحاث المتعلقة بالراديوم غير قادرة حتى الآن على تسليط الضوء على العقول الشابة التي ليس لديها الوقت الكافي للدراسة.
- كنت أمارس هذا الأمر مع الشباب، فأسأل على سبيل المثال: "الرواية هي مرآة نحملها على طول الطريق؛ من قال ذلك وأين؟ أو: "أبحث لي عن قول أفلاطون، أبحث لي عما يقوله أرسطو عن المرأة والحاجة إلى الطاع سيكون الأمر مجرد القفز وفتح الكتاب دون تردد ووضع إصبعك على الشيء. لا أريد أية ملاحظات أو بطاقات فهرس أو أدلة؛ لأنه من الضروري القراءة وإعادة القراءة، وأخيراً التعرف على الصفحات الشهيرة .....
- عندما أقرأ هوميروس، أكون في صحبة الشاعر، وفي صحبة يوليسيس وأخيل، وفي صحبة حشد من الذين قرأوا هذه القصائد، وفي صحبة حشد من الذين سمعوا فقط اسم الشاعر. فيهم جميعاً وفي داخلي أصنع الرنين البشري، وأسمع خطوات الإنسان.
***
علي عمرون

 

تعرف الأحلام في علم النفس، بأنها أي أفكار أو صور أو عواطف يختبرها الشخص أثناء النوم. لم يتفق علماء النفس بعد على سبب أحلامنا وماذا تعني هذه الأحلام، ولكن هناك العديد من النظريات المهمة.
نظرية فرويد للتحليل النفسي للأحلام يعتقد سيغموند فرويد أن محتويات أحلامنا مرتبطة بأرضاء الرغبات، وأن أحلامنا تمثل أفكار ودوافع ورغبات اللاوعي لدينا. علاوة على ذلك اعتقد فرويد أن الغرائز الجنسية التي يقمعها الوعي تظهر في أحلامنا. في كتاب فرويد، تفسير الأحلام، قسم فرويد الأحلام إلى مكونين:
المحتوى الواضح او الظاهر- الأفكار والمحتوى والصور الفعلية التي نشاهدها في الحلم.
المحتوى الكامن او المخفي- المعنى النفسي المخفي وراء الأحلام، قسمه فرويد وصولا الى ما وراء الحلم إلى خمسة أجزاء متميزة: الإزاحة: عندما يتم تمثيل الرغبة في شيء ما من قبل شيء ما أو شخص آخر. الإسقاط: عندما يتم دفع رغبات الحالم إلى شخص آخر في الحلم. الترميز: عندم يتم تمثيل التصرف المجازي في الحلم. التكثيف: عندما يتم ضغط الكثير من المعلومات في صورة أو فكرة واحدة، مما يجعل من الصعب فك تشفير المعنى. المراجعة الثانوية: المرحلة الأخيرة من الحلم، حيث يتم إعادة تنظيم العناصر غير المتماسكة في حلم قابل للتعبير.
بينما دحضت الأبحاث نظرية فرويد عن المحتوى الكامن الذي يتنكر خلف المحتوى الواضح او الظاهر، فإن عمل سيغموند فرويد ساهم بشكل كبير في الاهتمام بمجال تفسير الأحلام. يعتبر ما قام به فرويد في تفسير الاحلام محطة هامة في تاريخ علم النفس حيث فتح الباب امام وضع تفسير علمي للأحلام من منظور علم النفس وبذلك تجاوزت البشرية التفسيرات الغيبية والأدبية للأحلام .
نظرية كارل يونغ في الأحلام بينما كان يونغ يؤمن بالكثير مما اقترحه فرويد بما يتعلق بالأحلام، اعتقد يونغ أن الأحلام لم تكن مجرد تعبير عن الرغبات المكبوتة، ولكنها عوضت أيضا عن تلك الأجزاء من النفس التي كانت متخلفة أثناء حياة اليقظة. يعتقد يونغ أيضا أن الأحلام تكشف عن اللاوعي الجماعي واللاوعي الشخصي، وتظهر لنا النماذج الأصلية التي كانت تمثل أفكار غير واعية.
نموذج التنشيط والتوليف للحلم في عام 1977، أنشأ روبرت مكارلي وج آلان هوبسون نموذج التنشيط والتوليف، حيث اقترحوا أن الأحلام ناتجة عن العمليات الفسيولوجية للدماغ.
وفقا لنموذج التنشيط والتوليف،فأنه خلال المرحلة الأخيرة من دورة النوم المعروفة باسم نوم حركة العين السريعة (REM)، تنشط الدوائر داخل جذع الدماغ، والتي بدورها تنشط أجزاء من الجهاز الحافي تلعب دورا رئيسيا في الذاكرة والإحساس والعاطفة. ثم يحاول الدماغ إنتاج معنى من هذا النشاط الداخلي، مما يؤدي إلى الأحلام. عندما ظهر نموذج التنشيط والتوليف، قوبل بمعارضة في داخل علم النفس، وخاصة من قبل أولئك الذين درسوا تعاليم فرويد.
نظرية هول في الاحلام اقترح عالم النفس كالفن اس هول أن الهدف من تفسير الحلم هو فهم الفرد الذي يحلم، وليس مجرد فهم الحلم نفسه. ادعى هول أن تفسير الأحلام بشكل صحيح يتطلب فهم عدة عناصر وهي: الإجراءات التي يشارك فيها الحالم داخل الحلم، أي أشكال أو أشياء تظهر في الحلم، جميع التفاعلات التي تحدث بين الحالم والشخصيات داخل الحلم، إعدادات الحلم، أي انتقالات تحدث داخل الحلم، نتيجة الحلم.
نظرية دومهوف في الأحلام درس ويليام دومهوف تحت إشراف كالفن هول، وتوصل إلى استنتاج مفاده أن الأحلام هي في الواقع انعكاسات لأي أفكار أو مخاوف تحدث أثناء حياة اليقظة للفرد الذي يحلم. وفقا لنظرية دومهوف، فإن الأحلام هي نتيجة العمليات العصبية.
الموضوعات الشائعة الموجودة في الاحلام فيما يلي عشرة من أكثر الموضوعات شيوعا التي يختبرها الناس أثناء الحلم، بالإضافة إلى المعاني المحتملة لهذه الموضوعات وفقا لنظرية فرويد.
1. إجراء اختبار وكنت تشعر أنك لم تكن مستعدا له: هذا النوع من الأحلام لا يتعلق فقط بالاختبار الأكاديمي، وعادة ما يكون خاصا بالحالم. يتعلق هذا النوع من الأحلام مع الشعور بالتعرض لموقف، وقد يرمز الاختبار إلى الحكم على الشخص الحالم أو تقييمه من قبل شخص آخر.
2. أن تكون عاريا أو ترتدي ملابس غير لائقة: يتعلق هذا النوع من الأحلام بمشاعر الخجل أو الضعف.
3. المطاردة أو الهجوم: هذا النوع من الأحلام أكثر شيوعا عند الأطفال، الذين تميل أحلامهم إلى التركيز على المخاوف الجسدية بدلا من المخاوف الاجتماعية. يمكن أن يجعلهم حجمهم يشعرون في كثير من الأحيان بأنهم ضعفاء جسديا. في البالغين، يمكن أن يكون هذا النوع من الأحلام علامة على التعرض للضغط.
4. السقوط: يمكن أن يمثل السقوط شعورا بالإرهاق الشديد من وضعك الحالي وفقدان السيطرة.
5. الضياع في المرور: غالبا ما يمثل هذا الشعور بالضياع، أومحاولة الحصول على شيء ما أو العثور على طريقك وعدم التأكد من كيفية القيام بذلك.
6. فقدان سن: يمكن أن يمثل هذا شعورا بأنك (غير مسموع أو غير مرئي) في علاقة شخصية أي كما نقول في العراقي ملبوس، أو مشاعر عدوانية.
7. الكوارث الطبيعية: يمكن أن يشير هذا إلى الشعور بالإرهاق الشديد من المشاكل السابقة لدرجة أنه يبدو أنها تخرج عن نطاق السيطرة.
8. الطيران: يمكن أن يمثل هذا الرغبة في الهروب أو التحرر من الموقف.
9. الموت أو الإصابة: يمكن أن يمثل هذا شيئا في الحياة اليومية للحالم لم يعد يزدهر أو بدأ يذبل، مثل علاقة شخصية أو سمة شخصية، ولا يعني بالضرورة أفكارا حقيقية عن الموت.
10. فقدان السيطرة على السيارة: يمكن أن ينتج هذا النوع من الأحلام عن مشاعر التوتر والخوف، وعدم الشعور بالسيطرة على الحياة اليومية.
في حين أن علماء النفس لا يزالون لا يفهمون الأحلام تماما، فإن تفسيرهم يضع مفتاح في علم النفس الحديث. من تفسير فرويد لتحليل الأحلام والذي يشير إلى أن الأحلام مرتبطة باللاوعي وتمثل رغباتنا المكبوتة، إلى عمل ويليام دومهوف الذي اعتقد أن الأحلام كانت مجرد نتيجة للعمليات العصبية، أن فهم سبب حدوث الأحلام والمعاني المحتملة وراء ذلك لا تزال جزءا مهما جدا من علم النفس.
***
د احمد مغير

 

من خلال كل لغة، تفرض الثقافة منظومتها الخاصة من المعاني والمفاهيم. ولكن وراء كل لغة، توجد أيديولوجيا معينة، كما أشار جيرمي بيثام حين قال: “اللغة هي أداة الهيمنة”. وهذا لا يعني أن اللغة مجرد أداة لنقل الأفكار، بل هي التي تشكّل هذه الأفكار في الأساس.
هذا المفهوم يتجاوز مسألة الترجمة التي نتصورها ببساطة عملية نقل كلمات من لغة إلى أخرى؛ إنها في واقع الأمر عملية إعادة تشكيل للمعاني ضمن سياق ثقافي واجتماعي مختلف. وتُظهر هذه العملية كيف أن ما نعتقد أنه مجرد ترجمة، هو في الحقيقة عملية إعادة تشكيل دائمة للمعاني عبر لغات وثقافات مختلفة. وعلى الرغم من محاولات الترجمة، تبقى هذه الفجوات بين اللغات والثقافات عصية على أن تُملأ بالكامل، لأن كل لغة تشكّل رؤية خاصة للعالم، وهذه الرؤى لا تلتقي بسهولة، بل تحمل في طياتها اختلافات تجعل الفهم المتبادل أمرًا صعبًا، إن لم يكن مستحيلًا.
اللغة ليست مجرد وسيلة لتبادل الأفكار والمعلومات، بل هي الأداة التي تشكّل طريقة تفكيرنا وتوجيه رؤانا للواقع. وبذلك، فإن اللغة تشكّل نظرتنا للعالم من خلال الأطر الثقافية التي تحملها، مما يجعل كل لغة بمثابة مرآة تعكس القيم والمفاهيم التي تتبنّاها الثقافة التي تنتمي إليها. ولكن هذه الرؤى لا تقتصر على كونها نسخًا ثابتة من الحقائق، بل هي ديناميكية ومتغيرة، تتأثر بالظروف الاجتماعية والسياسية التي تعيشها المجتمعات، فتتشكّل عبرها معاني جديدة وتختفي أخرى.
ومن هنا، تصبح اللغة أحد أبرز الأدوات التي تستخدمها القوى الاجتماعية لتشكيل الوعي الجماعي، وبالتالي، لتشكيل الواقع نفسه. وعندما ننظر إلى اللغة بهذه الطريقة، يمكننا أن ندرك كيف أن الفجوات بين اللغات والثقافات ليست مجرد مشكلات تتعلق بالترجمة أو الفهم، بل هي ظاهرة ثقافية تتعمق في الأسس التي تقوم عليها المجتمعات.
وإذا كانت اللغة تشكل الواقع وتحدد حدود الفكر، فإن فكرة فيتجنشتاين الشهيرة: “حدود لغتي هي حدود عالمي” تبقى محورية في فهم هذه الديناميكيات. فهذه الحدود لا تمثل فقط قيودًا لغوية، بل هي دعوة للتفكير في مدى تأثير هذه القيود على قدرتنا على الفهم والتفاهم عبر الثقافات. فاللغة لا تقتصر على نقل الأفكار كما هي، بل هي في الواقع قيدٌ مفروضٌ على الفكر ذاته، وهي تعكس في الأساس طريقة تفكير الثقافة التي تنتج هذه اللغة.
ومن هنا، فإن تأثير اللغة على فكرنا لا يمكن تجاهله. إذا كانت اللغة هي التي تشكّل وعي الفرد، فإنها تخلق أيضًا واقعًا مفروضًا عليه.
هذه الفجوة في المعاني التي تتجاوز مجرد الاختلافات اللغوية هي جوهر الصعوبة في التواصل بين الثقافات. فالفجوات بين اللغات تعكس أيضًا الفجوات بين الأيديولوجيات والقيم التي تؤثر في مجتمعات معينة. فعندما يتم التعبير عن الأفكار بلغة معينة، تصبح تلك الأفكار محكومة بإطار مرجعي خاص، وهذا يجعل ترجمة هذه الأفكار إلى لغة أخرى عملية معقدة. إنها ليست مجرد نقل للكلمات، بل هي إعادة بناء للمعاني والتصورات التي قد تكون مشوهة أو مغلوطة عندما تُترجم، مما يؤدي إلى أن الفهم المتبادل بين ثقافات مختلفة يصبح أمرًا صعبًا للغاية.
تتفاقم هذه الديناميكيات في عصر العولمة، حيث تساهم السوق الرأسمالية في إعادة تشكيل المفاهيم والمصطلحات لتتماشى مع منطق الاستهلاك. في هذا السياق، تصبح اللغة أداة لتوحيد المفاهيم والواقع، لكنها في ذات الوقت تُستخدم لقمع التنوع الثقافي الذي يعارض الهيمنة اللغوية السائدة. كما يقول جان بودريار: “الواقع لم يعد يمثل شيئًا إلا ما يُنتج من خلال اللغة”، مما يعني أن الواقع نفسه يتم تشكيله وفقًا للغة السائدة في المجتمع الرأسمالي، التي تجعله سلعة تستهلك وتُعاد إنتاجها بما يتناسب مع منطق السوق. وفي هذه العملية، يتم تهميش الثقافات التي لا تستطيع مواكبة هذا التوحيد اللغوي، مما يعزز الهيمنة اللغوية ويضعف التنوع الثقافي.
في هذا السياق، يُظهر تأثير السوق الرأسمالية على اللغة كيف أن الأنظمة الاقتصادية الكبرى لا تقتصر فقط على السيطرة على الموارد الاقتصادية، بل تمتد إلى السيطرة على الأفكار والمفاهيم من خلال لغة السوق. حيث تُستخدم اللغة هنا كأداة لفرض هياكل قوى معينة على المجتمعات، سواء عبر الإعلام أو الإعلانات أو أدوات أخرى تُستخدم لترسيخ فهم موحد للواقع.
في هذا السياق، تصبح اللغة أداة لخلق نوع من الانصهار الثقافي، مما يؤدي إلى التقليل من قيمة التنوع الثقافي واللغوي الذي يشكل جوهر غنى الإنسان.
إذن، هل يمكن تجاوز الحدود التي تضعها اللغة؟ من المؤكد أن الإنسان لا يمكنه الهروب من “شباك اللغة”، ولكن يمكنه بالتأكيد أن يعيد تشكيل هذه اللغة، أن يلتف حول قيودها ليفتح أبوابًا جديدة للمعنى. في هذا السياق، يبدو أن الفن هو المسار الذي يمكن من خلاله تجاوز هيمنة اللغة. الفن لا يتقيد بقواعد ثابتة، بل يتلاعب بالمعنى ذاته، ويعيد تشكيله بما يتجاوز الأطر التقليدية للغة. فكما يظهر في أعمال جاك دريدا، لا يُعتبر الفن خروجًا عن اللغة، بل هو إعادة إنتاج لها بطريقة تفكك البنى الثابتة، وتفتح الفضاءات لتأويلات جديدة، لا تتقيد بقوالب مفاهيمية محددة.
الفن في هذا السياق يصبح أداة لتفكيك الهيمنة الرمزية التي تفرضها اللغة، ويمنحنا فرصة لإعادة التفكير في معاني العالم وفقًا لآفاق أوسع وأكثر تحررًا.
عندما نستخدم الفن للتعامل مع اللغة، ننتقل من مجرد كوننا مستهلكين للمعاني الثقافية إلى أن نصبح مبدعين ومبتكرين في إعادة تشكيل هذه المعاني. الفن يخلق مساحة للحرية والإبداع حيث لا تكون اللغة أداة للتسلط أو الهيمنة، بل وسيلة لفهم العالم بشكل غير تقليدي.
في هذا الإطار، يصبح الفن ليس فقط وسيلة لتجاوز القيود التي تفرضها اللغة، بل أيضًا وسيلة لرؤية العالم بشكل جديد، يفكك التفسيرات السائدة ويخلق إمكانيات جديدة للفهم.
اللغة، إذا، ليست محايدة أو شفافة كما قد يعتقد البعض، بل هي تحمل في جوهرها هيمنة ثقافية تتخلل كل مفردة، وتفرض حدودًا على الفكر. ورغم ذلك، تبقى هناك ثغرات يمكن من خلالها فتح مساحات جديدة من المعنى، وهذا ما يجب أن نبحث عنه: الفجوات الصغيرة التي يمكن أن ينفلت منها المعنى، والتي قد تمنحنا القدرة على تجاوز الهيمنة الرمزية التي تفرضها اللغة على أفكارنا. ومع هذه الثغرات، قد نتمكن من إعادة بناء الواقع بشكل يتجاوز التفسيرات المحدودة التي تفرضها اللغة على فهمنا للعالم.
***
إبراهيم برسي – باحث سوداني

في المثقف اليوم