قراءات نقدية

عماد خالد رحمة: بين الموت والقصيدة.. دراسة نقدية لقصيدة "هدأة"

للشاعر العراقي فارس مطر

أولاً: مقدمة نقدية أدبية: في زمن يحتدم فيه الجسد على أسرّة العجز والموت، تنهض القصيدة ككائن موازٍ يحاول إعادة تشكيل العالم المنهار. تقدم قصيدة "هدأة" للشاعر فارس مطر نصاً متوتراً ينهل من أقصى لحظات الهشاشة الإنسانية، حيث يتقاطع الوعي الجسدي مع الرؤية الشعرية في مشهد حافل بالمعاني والانهيارات.

الشاعر مطر هنا لا يرثي حاله ولا يتوسل الشفقة، بل يختبر عبر الكتابة أقصى حدود الألم والمقاومة، مستعيضاً عن الجسد المتهالك بنص متوهج بالأصوات والرموز والصور. من خلال تداخل الأزمنة، وكثافة الإيقاع الداخلي، واستدعاء الطبيعة بوصفها شريكاً ومرايا للذات، تتشكل القصيدة كمأوى هش للوعي، في مواجهة التلاشي.

هذه الدراسة تحاول أن تقرأ قصيدة "هدأة" باعتبارها نصاً للحياة داخل العدم، وتجربة شعرية تكتب الجسد، الألم، والانبعاث بكلمات تخشى أن تخبو لكنها تصر على التنفس حتى النهاية

تأتي هذه  القصيدة "هدأة" الموشاة بكل تلاوين الحياة والموت وما بينهما للشاعر فارس مطر في سياق وجودي حاد، حيث يقف الجسد بين الحياة والموت، ويصبح النص الشعري محاولة مستميتة لإعادة بناء الذات في مواجهة العدم. كُتبت هذه القصيدة في "مستشفى الحوادث برلين" بتاريخ 20 ديسمبر 2020، مما يضفي عليها خلفية زمنية ومكانية مؤلمة، تظهر بوضوح في نبرتها المتوترة ولغتها المجازية الكثيفة.

تسعى هذه الدراسة إلى تحليل البنية اللغوية والرمزية للقصيدة، ومقارنتها بتجارب شعرية مشابهة، مع إظهار كيفية تداخل اللغة والوعي الجسدي والكتابة الشعرية في مشهد مهدد بالفناء.

أولاً: البنية الموضوعية للقصيدة:

تدور القصيدة حول تجربة المرض والانهيار الجسدي، لكنها تتجاوز حدود الألم إلى تأمل عميق في ماهية الوجود والشعر. يمكن تلخيص المحاور الكبرى للقصيدة في:

الغياب والاحتضار: حيث يغدو الغياب رحلة محتومة تمهدها "أغنيات"، وتصبح القوارب رمزاً للعبور نحو الغياب يقول:

"أغنياتٌ تُمَهِّدُ دربَ الغيابِ / لعلَّ القواربَ تُؤنِسُ نَهرَكَ".

تجربة الجسد المعطل: الجسد المريض في القصيدة يصبح نصاُ آخر يتجمد ويتكسر:

"باردٌ طعمها يَتَكَوَّرُ تحتَ لساني / نصوصي تجمدُ".

مقاومة الفناء بالشعر: حيث يحاول الشاعر أن يُؤثث بـ"الأوكسيجين" عش القصيدة، يقول:

"أوكسجين يحاول تأثيث عش القصيدة".

الانبعاث عبر الوعي والشعر: رغم شعور الضياع، تعود الحياة عبر القصيدة والأغنيات:

"أعيد التورط بالأغنيات والكلمات.. بوهم الحياة".

ثانياً: اللغة والأسلوب

لغة القصيدة مشحونة بكثافة شعرية عالية، تعتمد على: الصور المجازية المركبة: الشاعر فارس مطر يزاوج هنا بين الحسي والمجرَّد، كما في قوله: "ضغطكَ سربُ إوزٍ يحط ويجفل من قلق الريح".

الإيقاع الداخلي: القصيدة تتنفس بنبضات متقطعة، كأنها تحاكي التنفس المهدد بالانقطاع، مما يخلق إيقاعاً حاداً ومتشظياً.

التكرار البنائي: يتكرر فعل "أُصغي إليها بدون حراكٍ" مما يعكس حالة السكون الجبري والانقطاع بين الذات والعالم.

التحولات الزمنية: القصيدة تتأرجح بين لحظات الوعي وفقدانه، وكأن النص محكوم بلحظات تخاطرية بين الحياة والموت.

ثالثاً: المقارنات النقدية:

يمكن مقارنة هذه القصيدة بتجارب شعرية أخرى استبطنت تجربة المرض والموت، مثل:

ما كتبه الشاعر الفلسطيني محمود درويش في ديوانه "لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي"، حيث تتداخل فكرة المرض مع القلق الشعري.

أما الشاعر العراقي سعدي يوسف فإنه يؤكد في بعض قصائده المتأخرة هذه الحالة، حيث تتحول الغرفة البيضاء إلى فضاء استعاري للفناء القريب. غير أنَّ قصيدة "هدأة" للشاعر فارس مطر تتميز بخصوصية أنها لا تتوسل الرثاء ولا تطلب الشفقة، بل تخلق من الألم مادتها الجمالية، وتحوّل اللحظة السريرية إلى نشيد شعري.

رابعاً: الطابع اللغوي والبلاغي:

المستوى اللغوي: القصيدة تنتمي إلى اللغة الحديثة ذات النبرة التفعيلية الحرّة، لكنها تنأى عن التكلف، وتميل إلى العذوبة العنيفة، مستخدمةً تراكيب صافية على الرغم من غموض المعنى أحياناً.

الصورة البلاغية: تتوزع بين الاستعارة، مثلاً: (الأوكسيجين يؤثِّث عش القصيدة) والتشخيص (الضغط كسرب إوز)، ما يمنح النص حيوية رمزية كبيرة.

الشفافية والغموض: هناك توازن فني دقيق بين الوضوح الشعوري والغموض الرمزي، مما يجعل القصيدة مفتوحة على أكثر من قراءة.

القصيدة بوصفها سرداً جسدياً للألم: يتحوَّل الجسد في  قصيدة "هدأة" إلى كتاب مفتوح، حيث تتكسر اللغة على وقع الألم الفيزيائي. فكل صورة جسدية (اللسان المتجمد، الصدر المصعوق، الدماء المحرَّكة بالإبرة) ليست مجرد وصف، بل ترميز لمراحل تفكك الهوية وصراعها مع العدم.

من الواضح أنَّ النص هنا لا يكتفي برصد تحولات الجسد، بل يجعل من تدهور الجسد نقطة انطلاق لإعادة بناء عالم شعري بديل.

ليس هذا فحسب بل تملك القصيدة بعداً صوتياً وسمعياً حيث تلعب الأصوات دوراً مهماً في النص، سواء عبر الأغنيات الممهدة للغياب، أو هديل الطيور، أو مجاز الرفيف. كل صوت في القصيدة يأتي مشوباً بالخفوت، في تناص مع الحالة الجسدية المنهكة، إذ أنَّ غياب الحركة يقابله غزارة في الأصوات الداخلية، مما يخلق توازناً بين خمود الجسد وفورة الروح. وهذا ما استدعى لتداخل

الوعي واللاوعي في القصيدة، زما يهدف قوله الشاعر مطر في هذا السياق عمق معرفته بالجواني وابتعاده عن اللحائي، فقد تعكس القصيدة تجربة قرب الموت كحالة بينية، حيث تتداخل الهلوسة مع الإدراك الواقعي. فالطبيب والممرضة والطيور والأغنيات كلها تدخل في مسرح اللاوعي.

يتبنى الشاعر فارس مطر هنا تقنية التداعي الحر، مما يضع القارئ أمام مشاهد تنفلت من المنطق الظاهري لكنها مشحونة بالصدق العاطفي . لذا فقد لعب على الآخر سعياً لتقديم دوره في النص فعلى الرغم من أنَّ القصيدة تبدو متوغلة في الذات، إلا أن وجود "الطبيبة" و"الممرض" وحتى الأصوات الطبيعية (الأيائل، الكراكي) يجعل "الآخر" شريكاً في صناعة المعنى. لذا نجد هنا أنَّ العلاقة مع الآخر مزدوجة: هو من يحمل بشرى الحياة (أو موتها) وهو أيضاً صدى لحيرة الذات في مواجهة مصيرها . لذلك عكست قصيدة " هدأة" طقس احتضار وإحياء منذ البداية حتى النهاية، كون القصيدة بُنيت طقسياً: حيث كانت البداية: غياب واستعداد للموت فقد كانت الذروة تعبير عن انهيار جسدي وتأمل شعري. أما النهاية فقد أكّدت على عودة مشروطة إلى الحياة عبر التنفس والشعر.

فالقصيدة بهذا المعنى ليست فقط مرآة لألم الشاعر فارس مطر، بل هي "طقس عبور" رمزي بين الوجود والفناء. وهنا تتجلى رموز الوجود والفناء بعمق شديد من خلال تجليات الثلج واللون الأبيض، فالثلج يحضر كرمز للطهر والموت معاً. اللون الأبيض يطغى في صور الغرفة، والحديقة المغطاة بالثلج، والغموض الأبيض الذي يقشر الذات. اللون الأبيض في قصيدة "هدأة" هو محو تدريجي للوجود المادي، وهو أيضاً فسحة لاحتمال بعث جديد عبر الكتابة.

في هذا السياق لا يمكننا إغفال. البعد الصوفي للنص فالقصيدة لا تخلو من نزعة صوفية مبطنة، خاصة في مشهد المشي على الماء، وكلام البحيرة، وتحليق الطيف فوق الجسد. هذه الصور تحمل شحنة صوفية تعيد الموت إلى تجربة اتحاد مع الكوني والخارق. وكأن الشاعر فارس مطر يكتب تجربة "فناء" روحي داخل سياق موت جسدي محسوس.

في قصيدة "هدأة"، لا يكتفي الشاعر مطر بتوثيق لحظة الاحتضار الجسدي، بل يتجاوزها إلى إعادة تخليق الذات عبر الكلمة. النص ليس بكاءً على جسد ينهار، بل هو احتفاء خافت بما تبقى من نبض الوجود في أطراف اللغة.

استطاعت القصيدة أن تُجسد العلاقة المرهفة بين الألم والكتابة، وأن تجعل من لحظة الضعف القصوى فرصة لشعرية جديدة تقتنص الحياة من بين طبقات الصقيع والموت.

عبر الصور المشحونة، والإيقاع الداخلي المرتجف، والأبعاد الرمزية الممتدة من الجسد إلى الطبيعة، يخط الشاعر درباً مضاداً للنسيان، راسماً ملامح قصيدة تكتب نفسها فيما الزمن يهم بالتلاشي.

"هدأة" ليست نصاً عن الفناء، بل نص عن التمسك الغريزي بالشعر كضرورة، وعن التنفس بالحروف حين تضيق الرئة بالحياة. ولعل هذا ما يجعل القصيدة تجربة شعرية مكتنزة بالألم والجمال معاً، وعملًا مفتوحاً على تأويلات لا تنتهي، تماماً كما هو حال الوجود نفسه.

أخيراً:

قصيدة "هدأة" للشاعر فارس مطر تجربة فريدة في كتابة الألم جسدياً وشعرياً. النص لا يصف المرض فقط، بل يحوّله إلى عملية خلق جديدة تلامس الجوهر العميق للوجود والقصيدة معاً. إنها قصيدة مكتوبة تحت وطأة الوعي المنكسر والجسد المهدّد، لكنها قادرة على تحويل "هدأة" المستشفى إلى فضاء آخر للغناء الخافت الذي يقاوم الصمت الأبدي.

هذه القراءة المتعددة الأوجه، تبدو قصيدة "هدأة" نصاً مركباً، لا يُفكك بمعزل عن فهم علاقة الشاعر مطر بجسده ووجوده، ورؤيته العميقة للقصيدة كخلاص محتمل في لحظة الانطفاء.

‏ولا أنسى أن أذكر بأن هذه القصيدة كتبت مسودتها كفكرة أولية ملاحظات (ثم أكملت بعد أيام ) في مستشفى الحوادث في برلين في 20 من ديسمبر 2020 ‏عندما كان الشاعر فارس مطر مصاباً بوباء الكورونا وتحت التنفس لمدة خمسة أيام.

***

بقلم: عماد خالد رحمة ـ برلين

.......................

هدأةٌ

بقلم: فارس مطر

أغنياتٌ تُمَهِّدُ دربَ الغيابِ  

لعلَّ القواربَ تُؤنِسُ نَهرَكَ

تَحمِلُهذا الضِياءَ لبابِ المحيط

وتُلقي مجاذيفَها

فضَّةٌ وَفَضَاءٌ

رصاصيَّةٌ غُرفتي

باردٌ طعمها يَتَكَوَّرُ تحتَ لساني

نصوصِيَ تَجمُدُ

وَجهي تَكسَّرَ

أسلاكُ صدريَ صَدمَةُ بَرقٍ تُريني غُيومي

وينبُضُ هذا المساءُ أخيراً

يُحيطُ الفراغُ بخاصِرَتي

أُوكسجينُ يُحاولُ تَأثِيثَ عُشِّ القَصيدةِ

وَعيٌ يُجالِسُني

ودمائي تُحَرِّكُها إِبرَةُ الفَخذِ 

تَفتَحُ مَرجاً هضاباً وغابة

لِتَسري الأيائِلُ في جسدي

تَستَقِرُّ القِراءَةُ والزِئبَقُ المُتَكاسِلُ

قالَ المُمَرِّضُ:

ضَغطُكَ سِربُ إِوَزٍ يَحُطُّ

ويَجفُلُ من قَلَقِ الريحِ

أُصغي إليه بدونِ حِرَاكٍ

لِيَملأَ روحي مَجَازُ الرَّفيفِ

تَقولُ الطبيبَةُ:

ثَلجٌ يغطي الحديقةَ

هل دثَّرتكَ القصيدةُ يوماً

فبَانَ الهَديلُ بأوَّلِ لَيلِكَ؟

أُصغي إليها بدونِ حِرَاكٍ

وأترُكُ ذاتي يُقشِّرُها غامضٌ أبيضُ

نَغَماتٌ تُحذِّرُ أنَّ القصيدةَ غَابَت

وأنَّ التَّنَفُّسَ صارَ أقَلَّ

فتصعَقُني لتَعودَ الأغاني  

وتوحي إليَّ، تَنَفَّس بملءِ الحقول

تَنَفَّس لتكتبَ درباً وغيمة

أعود لوعيي فتسألني:

هل مشيت على الماء حين اتبعت الكراكي

وتلكَ البُحَيرةُ هل كلمتكَ؟

فأُصغي إليها بدون حِراكٍ

لينهض منيَ طيفٌ شبيهٌ بشكلي مصابٌ بِمَسٍ

يحلقُ فوقي يدور ويهذي ويصرخُ فيَّ تنفس تنفس

أعود لوعيي

سنونوتان تَرِفُّ بصدري تُعيدانِ حُلمي     

أعيد التورط بالأغنيات وبالكلمات.. بوهم الحياة    

بوجه بعيد يُسمّى قصيدة

في المثقف اليوم