قراءات نقدية

عبد الله الفيفي: عن الثقافة البيئيَّة في شِعر (المتنبِّي)!

حدَّثنا (ذو القُروح) في المساق السابق، في سياق مناقشته لما أورده شُرَّاح شِعر (أبي الطَّيِّب المتنبِّي) في بيته:

يَتَلَوَّنُ الخِرِّيتُ مِن خَوفِ التَّوَى

فـيـها كَـمـا يَـتَـلَـوَّنُ الحِـرْبـاءُ

عن أنَّ القدماء والمحدثين كثيرًا ما يخلطون بين (الحِرباء) وغيره من الزواحف، فيعدُّونها جميعًا حرابيًا! ومن هذا الزعم أن الحِرباء: ذَكَر (أُمِّ حُبَيْن). والواقع أنهما دُوَيبتان مختلفتان، وليست إحداهما ذَكرًا للأخرى أو أُنثى لها. غير أنَّ من إشكالات كُتب التراث أنْ تجد بعضها ينقل عن بعض، منذ القرن الأول والثاني للهجرة وصولًا إلى العصر الحديث، دون أن يكلِّف أحدٌ نفسه بالمناقشة أو النقد أو السؤال، فضلًا عن تحرِّي الصواب، إلَّا نادرًا، والنادر لا حكم له؛ إيمانًا راسخًا لا يكاد يتزعزع بأن ما جاء عن السَّلَف هو الحقُّ والعِلم المطلق، وما عداه لا ينبغي أن يُلتفت إليه! فيؤول الأمر إلى ما يمكن أن أصفه بـ(العِلم الروائي) لا أكثر، يكرِّر بعضه أغلاط بعض. وليس، في الغالب، بذاك العِلم التحقيقي، أو نتاج البحث الميداني، أو المعرفة الواقعيَّة البيئيَّة.  ومن هذا ما جاء في كتب اللُّغة ومعجماتها- وفيه تكرار ما تقدَّم ممَّا يبدو أوهامًا متناقلة- أنَّ الحِرْبَاء: ذَكَر أُمِّ حُبَيْن! وأنه حيوان أو دُوَيْبَّة نحو العظاية أو أكبر تَستقبل الشَّمْس، وقيل: تُقابلها برأسها كأَنَّها تُحَاربها، وتدور معها كيف دارت! وتتلوَّن ألوانًا بحَرِّ الشَّمس! قالوا: والأُنثى: الحِرباءة.(1)

ـ هذا يعني، إذن، أنَّ أُنثى الحِرباء: الحِرباءة، لا أُمّ حُبَيْن!

ـ هٰذا بُعدك! سيتكرَّر في روايات كتب التراث القول: إنَاثُ الحَرَابِيِّ يُقَال لهَا أُمَّهات حُبَيْن، الواحِدَة: أُمُّ حُبَيْن. قالوا: وهي قذِرة لا يأكلها العَرَب البَتَّة.(2)

ـ ربما نظروا هنا إلى حكاية ذلك الأعرابي الذي قال، لمَّا سُئل عمَّا يأكل هو وقومه: «نأكل كلَّ ما دَبَّ ودَرَجَ إلَّا أُمَّ حُبَيْن!» فقال السامع: «لتَهنأ أُمَّ حُبَيْن العافية!»

ـ ربما، غير أنَّ العَرَب لا تأكل، في ما نعلم، (سامَّ أَبْرَص) أيضًا ونحوه من العظاء، كـ(الوَحَر). فلا يُفهم من حكاية الأعرابي أنَّ (أُمَّ حُبَيْن) و(الحِرباء) مخلوق واحد؛ فالعَرَب لا تأكل كثيرًا من الزواحف.

ـ بل في ذلك التعبير عن أكل العَرَب كلَّ ما دَبَّ ودَرَجَ مبالغة، يُلمَح فيها اصطناعٌ شُعوبيٌّ لتحقير الأعراب.

ـ تلك، إذن، معلومةٌ متداولةٌ لدَى القدماء، إلَّا أنَّنا نتوقف عن التسليم بأنَّ (أُمَّ حُبَيْن)- واسمها العلمي في بعض المراجع: Agamodon- هي نفسها (الحِرباءة)، وإنَّما أُمُّ حُبَيْن: (الوَحَرَة)، أُنثى زاحف آخَر يُسمَّى: (الوَحَر). وكذا نقل (الدَّميري)(3)، وهو- كالآخرين من سابقيه ولاحقيه- إنَّما ينقل عن هذا وذاك، وقد يرجِّح، بلا معرفةٍ بيئيَّة: «قال ابن قتيبة: أُمُّ حُبَيْن تستقبل الشمس، وتدور معها كيف دارت، وهذه صِفة الحِرباء. وقال في «المرصَّع»:  اختُلِفَ في أُمِّ حُبَيْن، فقيل:  هي ضَرْبٌ من العظاء، وقيل: أعرض منها، وقيل: هي أُنثى الحرابي، يتحاماها الأعراب فلا يأكلونها لنتنها. انتهى. وما ذكره ابن قتيبة من كون أُمِّ حُبَيْنٍ ضَرْبًا من العظاء، فيه نظر؛ فإنَّ العظاء نوعٌ من الوَزَغ، كما ذكره أهل اللُّغة. ويقال لها حُبَيْنَة، معرَّفة بلا ألف ولام، تقع على الواحد والجمع، وقد تُجمع على أُمِّ حُبَيْنات، وأُمَّهات حُبَيْن، وأُمَّات حُبَيْن، ولم تَرِد إلَّا مصغَّرة. وفي حديث عُقبة، رحمه الله: «أتمُّوا صَلاتكم، ولا تُصَلُّوا صَلاة أُمِّ حُبَيْن!» وفسَّروه بأنها إذا مشت تُطأطئ رأسَها كثيرًا وترفعه، لعِظَم بطنها، فهي تقع على رأسها وتقوم. فشبَّه بها صَلاتهم في السجود.» قلتُ: هذا كلام متخيَّل؛ فأُمُّ حُبَيْن لا «تُطأطئ رأسها كثيرًا، وترفعه لعظم بطنها، فهي تقع على رأسها وتقوم»، كما زعم، بل هي تَظَلُّ- بين زحفةٍ وأخرى من دورانها في المكان الذي تكون فيه- تُنْغِض رأسها، كمَن يركع ويسجد في صَلاته. كأنها تستطلع بذلك ما هي مُقدِمة عليه توجُّسًا، كما تفعل الحِرباء بأرجلها خلال خطواتها. وفي هذا الحديث النبوي «أتمُّوا صَلاتكم، ولا تُصَلُّوا صَلاة أُمِّ حُبَيْن!» ما يكشف عمَّا يُقصَد عند العَرَب بأُمِّ حُبَيْن؛ وهو (الوَحَرة)، التي يُسَمَّى ذَكَرُها في (جبال فَيفاء):(العِمامي). ويظهر أنَّ الوَحَر - بأُنثاه وذكَره- يُسمِّيه العَرَب: (أُمَّ حُبَيْن)، أو (العَضْرَفُوْط). ويمتاز العِمامي بلونه الأزرق، ولا سيما الرأس، وربما ضربَ لونه نحو الخُضرة؛ فهو قد يتلوَّن بعض الشيء. ولعلَّ هذا سبب الخلط بينه وبين الحرابي، عند بعض واصفيهما ممَّن ذكرنا. والعِماميُّ أكبر حجمًا من أُنثاه. ولا أدري لماذا سمَّوه بهذا الاسم؟ ربما لأنه ذو رأس كبير نسبيًّا، ولونه أزرق، فكأنه ذو عمامة. ويجمعونه على: عَمَعَّيْمَة. ومن طريقة هذا الزاحف في الحركة- كما جاء في الحديث النبوي- أنه يرفع رأسه ويخفضه مرتين أو ثلاث، ثمَّ يتحرك، وهكذا. فكان الناس يزعمون أنه بذلك يُصَلِّي راكعًا ساجدًا. وهذا النوع من العظاء يكثر في جبال جنوب الجزيرة العَرَبيَّة بخاصَّة، فلم أره في سِواها. وإنْ كنتَ تجد أنَّ نوعًا منه معروف في (سَيناء). ويُذكَر أنَّ اسم هٰذا النوع السينائي علميًّا: Adramitana. والوَحَر- على الأرجح- هو ما جاءت الإشارة إليه في الحديث النبوي. وأنثاه هي أُمُّ حُبَيْن، كما نعرفها. وما زال التراث الشَّعبي يصف حركات هٰذا الزاحف بأنها صَلاةٌ وركوعٌ وسجود! والنصُّ الحديثيُّ دليل على ما نقول- بعيدًا عن قيل وقال- وهو أنَّ أُمَّ حُبَيْن ليست بأُنثى الحرابي، كما زعم الزاعمون، ممَّن لا يعرفون لا أُمَّ حُبَيْن ولا غيرها، ولا صِلَة لهم ببيئة الجزيرة العَرَبيَّة برمَّتها! وإنْ كانت هذه الزواحف جميعًا من فصيلة واحدة، في النهاية.

ـ عفا الله عنك، هل كان (الحِرباء) و(أُمُّ حَبَيْن) يستأهلان منَّا كلَّ هذا التفصيل؟

ـ نعم، ما دامت معرفتهما ينبني عليها فهم الشِّعر والنثر في تراثنا العَرَبي. وتلك من أغلاط الناس لتبعيَّتهم ما أَلْفَوا عليه آباءهم وكتبهم.  أمَّا ما وردَ في كتاب (ابن المستوفي) من أنَّ الحِرباء «أكبر من العضاة شيئًا»، فلعلَّه خطأ مطبعي، وقد أشرنا إلى كثرة أخطاء طبعة هذا الكتاب. والصواب: العظاء، جمع: عظاءة بالظاء، أو عِظاية. وهي على خِلْقة (سامِّ أَبْرَص)، أو (الوَزَغ)، لكنَّها أكبر حجمًا.

ـ وماذا بِشْرحٍ مِنَ المُضْحِكاتِ/ ولكنَّهُ ضَحِكٌ كالبُكا!

ـ ماذا تقصد؟

ـ أقصد أنك استغربت جهلهم بـ(الحِرباء) و(أُمِّ حُبَيْن)، وهم قد جهلوا (الكَرْكَدَن)!

ـ كيف؟

ـ انظر إلى ما قالوه في شرح بيت (المتنبِّي):

وشِعرٍ مَدَحتُ بِـهِ الكَرْكَـدَنَّ

بَيْـنَ القَريـضِ وبَيْـنَ الرُّقَـى

«قال الواحدي هو دابَّة له قَرْنٌ في رأسه، وقالوا هو الحمار الهندي! وقال ثعلب: هو دابَّة عظيمة تحمل الفيل على قرنها. وبعض الفُرس يزعم أنه طائر! والذي ذكرَه ابن الأعرابي: أنَّ الكَرْكَدَن شيءٌ أعظم من الفِيل له قَرْن، ويكون في البحر، أو على شاطئه.»(3)

ـ أطرف ما قالوه: أنَّ الكَرْكَدَن طائر! أين منهم (سلفادور دالي)؟!

ـ يبدو أنَّ (سلفادور دالي) هذا قد خلط بين (الكَرْكَدَن) و(الكركي)! وهو طائرٌ بالفعل، لعلَّ اسمه مشتقٌّ من صوته. أمَّا الكَرْكَدَن ، فذلك الحيوان الأفريقي الضخم، الذي قد يُطلَق عليه: (وحيد القَرْن)، أو (الخِرْتِيْت). وإنَّما وصف (المتنبِّي) (كافورًا) بـ« الكَرْكَدَن» كوصف السُّوقة اليوم مَن كان ضخمَ الجثَّة من الناس بـ« الخِرْتِيْت».

ـ لو أعفَى قصيدته هذه ممَّا ختمها به من البذاءة السوقيَّة، لكانت من أجود شِعره وأجمله.

ـ هو نفسه كان ينبو ذوقه أحيانًا عن بعض أبياته؛ فكان يأمر رواته بعدم كتابته. شاهد هذا أنَّ (عليَّ بن حمزة، ـ375هـ)، صاحب كتاب «التنبيهات على أغلاط الرواة»، كان يقول: «أنشدني في هذه القصيدة بيتًا، وأمرني أنْ لا أكتبه، فلم أكتبه في نسخةٍ من نسخه، وهو: ...».(5) لكنَّهم كتبوه من بَعده وشرحوه أيضًا!

ـ على أنه قد كان يهجو (كافورًا) في قصائد مدحه أيضًا. حتى بيته الذي يُضرَب مثلًا في التملُّق والتذلَّل:

أَبـا المِسْـكِ هَل في الكَأسِ فَضلٌ أَنالُهُ

فَــإنِّـي أُغَنِّــي مُنـذُ حِيــنٍ وتَشــرَبُ

إنَّما هو هجاء. فلك أن تتخيَّل حال المخاطَب، بنَهَمه ولُؤمه: الشاعر «يُغنِّي منذ حينٍ، وهو يَشرب»! واستفهام الشاعر استفهام تهكُّمي إنكاري؛ ليقول إنَّ (كافورًا) لا يُبقي ولا يذر فضلًا، حتى في كأسه! وليس الشِّعر والغناء من همِّه في شيء، بل همُّه في الأكل والشراب، كالدواب! ثمَّ يُعرِّض بخِلقة (الخِرْتِيْت) هذا، قائلًا:

وَهَبـْـتَ عَلــى مِقــدارِ كَفَّـىْ زَمانِنـا

ونَفسيْ عَلـى مِقــدارِ كَفَّيـكَ تَطلُـبُ

فلا شكَّ أنَّ كَفَّي (كافور) عَبْلتان، بوصفه رجلًا خِرْتِيْتًا، لكنَّ عطاءهما ضاوٍ ضامر، كزمانه النَّحْس، في عَينَي (أبي الطَّيِّب)!

ـ يا لـ(أبي طَيِّبٍ) مع (أبي مِسْكٍ) في زمانٍ لا رائحة له!

بدَهْـرٍ ناسُهُ نــاسٌ صــِغارٌ

وإِنْ كانَت لَهُمْ جُثَثٌ ضِخامُ!

[وللحديث بقية].

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

...............................

(1) (2) يُنظَر: الزَّبيدي، تاج العروس، (حرب).

(3) (2005)، حياة الحيوان الكُبرَى، تحقيق: إبراهيم صالح، (دمشق: دار البشائر)، 2: 203- 204.

(4) ابن المستوفي، (1989)، النِّظام في شرح شِعر المتنبِّي وأبي تمَّام، دراسة وتحقيق: خلف رشيد نعمان، (بغداد: وزارة الثقافة والإعلام)، 1: 471.

(5)  م.ن، 1: 474.

في المثقف اليوم