قراءات نقدية
عيّال الظالمي: المفارقة الفكرية في "رهان عقابيل" لضاري الغضبان

المفارقة الفكرية هي عبارة أو موقف يبدو متناقضًا أو غير منطقي في الظاهر، ولكنه قد يكشف عن حقيقة أعمق أو يثير تفكيرًا جديداً، المفارقات غالباً ما تتحدى المنطق التقليدي أو الأفكار المألوفة، المفارقات هي عبارات أو مواقف مُحفِّزة للتفكير تبدو مُتناقضة أو ساخرة، بعض المفارقات تكشف عن حقائق من خلال عبارات تبدو غير منطقية، بينما يكشف بعضها الآخر عن عيوب في التفكير التقليدي (محرك الكوكل).
أمّا كلمة (عقابيل) في عتبة العنوان، تعني في اللغة العربية آثار أو بقايا أو مضاعفات مرض أو إصابة أو حالة ما. يمكن أن تشير أيضًا إلى الشدائد أو المصائب، بمعنى آخر (عقابيل) هي ما يتبقى أو يتبع حالة سابقة، سواء كانت هذه الحالة مرضًا، أو إصابة، أو تجربة قاسية (معجم الوسيط).
فإن (رهان عقابيل) هو رهان فكري على ما تخلِّفُ الصراعات المجتمعية في نفس وعقل الإنسان الذي يعاني من مخلفات الأمراض المجتمعية المختلفة الحديثة والمتوارثة، ففي مجموعته القصصية الصادرة منذ عام 2022أصر القاص (ضاري الغضبان) على أن هذه (العقابيل) قد أثرت في المجتمع العراقي من خلال تلمسها وبروزها جلياً في الحياة اليومية.
فمن قصة (عقابيل الخلق العراقي) أكد على أن الإختيار فكرياً لعمل مؤجل قد يؤدي بمن وقع عليه الإختيار هو أن يلاقي ما ود الوصول إليه، فعملية إختيار (أنانا) للزوج بين إنكيدو المزارع وديموزي الراعي، اختارت الحياة لأنه يعمل في النبات وهو الخضرة، بينما اختار أخوها ديموزي الراعي ليكون كبش فداء، حيث ارسلته عشتار (أنانا) بدلاً منها إلى العالم السفلي، فنشاد العُلى والطموح بلوغ المعالي عليه حقوق عظيمة لا تأتي بما تحقق دون خسائر وكما تمر علينا اليوم من أحداث دولية وحرب بين الحق والباطل، (ولن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) الآية 92 آل عمران.
أمّا في قصة (غداء بائع الكتب) فقد أكد على عدة مفارقات في النص، إذ أوحت القصة في تلافيفها على أن التدهور الثقافي والغاية والعيش من بيع الكتب مقارنة بالشحاذة، ومنها الصدق بالعمل والكذب في تمثيل العوق في مهنة الشحاذة، وكذلك التلصص أو التطفل على ما يملك الآخرين، والحافز الذي جعل الكتبي يتلصص على أموال الشحاذ أدى إلى خسارة مادية بالزجاج الذي ارتطم به لغفلة، واخيرا شراء الغداء الذي هو محور القصة وحافزه الجوع، حيث اشترى الشحاذ غداءّ لجميع المحلات وهو شحاذ لأجل سلامة الكتبي بعد ارتطامه بزجاج واجهته وهو يتطفل على الشحاذ الكاذب، فخلاصة الأمور العديدة في هذه القصة أن هناك جمع مفارقات وظفها الكاتب لكي تمنح القاريء دلالات كبيرة في الصراع بين الحق والباطل ولباس النفوس بأردية غير ماهي حقيقتها، فالشحاذ كان كريم النفس ومتعاطف ولم يحسد أصحاب المحلات وتفاسير عديدة تتوالد عن التفكير في عمل الخير والشر داخل المجتمع أبرزها الكاتب داخل النص.
وحين أتلمس وجع الشعوب العربية والأفريقية في بلدانها الغنية وهجرتها نحو الحلم، أجد أن هناك عوامل مريضة هي الخطوط او الأسس التي تعمل عليها دولهم، ففي قصة (المهاجر) الذي اخذ غرزة من تراب تل في قريته الفقيرة دليل على غنى القرى العراقية وعدم إلتفاتة الحكومات لهذا الغِنى، ويتمثل في الغنى الحضاري المغطى بالرمال، والثروة الزراعية التي تحل مشاكل عدة للمجتمع بصورة عامة، كذلك تُبرز للقارئ تأثير الإغراء الكاذب الغربي على المواطن الفقير في الثقافة والعلم وتصوير أن الحلم عندهم وفقيرهم يموت على الرصيف جوعاً، فإن المواطن حينما اخذ غرزة من تراب وطنه حمله محبة واعتزازاً وصدق وطنية، والتصاق حقيقي بالأرض، وان عامل الفقر في أرض الأحلام التي تسوّدُها الإمكانات الشريرة على أن العيش بها محال، وعدم نضوج القادة واستغلال ما تملك هذه الأرض المعطاء، فهناك الكثير من المفارقات في الحياة من فقر وخير ومن الموت لبلوغ حلم كاذب، الإعتزاز بالوطن هو البقاء فيه لا أن تحمله معك، حمل عيِّنة منه جهد مضاعف على النفس يؤلم اكثر حين تراه وانت غريب، حمل الكنز الذي تحمله وبدل من يحصل على ثمنه المهاجر حيث خسر حياته غرقاً ذهب (الختم الأثري) الذي لا يقدر (بثمن) للأجنبي، فهو بدأ حياة لأجنبي وخسر حياة لصاحبه وهو ثروته التي يحملها.
في الحياة اليومية الجاهلة وفي عصر الأنترنيت وعبر التواصل الإجتماعي الذي بلغت من خلاله الدول التي صنعته وصدرته بالقضاء على مقدرات وشعوب العالم عبر الشر السائل الذي تحمله في تفكيرها لبلوغ الهيمنة والتسلط وإحياء الأساطير في فلسفتها حول المليون الذهبي، وهي ترى تكاثر الشعوب التي سوف تغطي اليابسة، أظهر التخلف العلمي أشياء كثيرة في المجتمع العربي كمناكدات وصراعات اولها مذهبية فارغة في صراع الحق، ومن هذا المنطلق بنى الكاتب فكرة قصة (سكر مالح) وصراع جيرانه وانتماءاتهم الحزبية والفكرية التي يتبنونها في النقاش والعراك المحتدم على صحة قول كل منهم، فالعراقيون ينتهي كل شيء فيهم إلى الصراع والقتل لإثبات صحة ما يعتقدون به، في كرة القدم وفي الصناعات وفي الأفكار السياسية وفي كل شيء، لهذا أبرز الخلاف بين اليساري واليميني على فكر وعلم من صنع سكر مالح وصَدَّره، وهو عند الإنسان البسيط التسمية لا تعني شيء فالمالح ملح والحلو سكر.
التماسك الأسري والنخوة والكرم وإبداء المساعدة هي في حد ذاتها مقومات وركائز دينية وشرائع سماوية من اجل حياة متساوية ومتكافئة وبناء خلق وصفات لشريعة الله في الأرض، فعمَدَ الكاتب على ابراز صفة المقدس الخائن لشريعته، وقطع صلة الرحم، وابراز الصفة (الروبن هودية) وهذه من الأمنيات الشخصية التي تتكون وتتبلور في الأنساق المضمرة للفرد، على أن اللص في قصة (تقمص شرعي) فقد أضاف الصفة الشرعية والشخصية للقاضي البخيل الذي يقبض أصابعه على ماله ويحرم منه إبن أخيه الذي سيعمل عملية وهو غير قادر على دفع تكاليفها، فالمفارقة هي أن اللص يسرق رأفة بأبن أخ المقدس (القاضي) المخول قانوناً وشرعاً في كثير من أمور الناس، وإشارة الجزء شاملة الكل في التمحيص بها، واتهام على كثير ممن يدعون الدين، ولكن هذا اللص جاء له بقناع صديقه لكي يفتح أبواب القبول، لزيادة الثقة به، فلو جاء وجهه الحقيقي لما استقبله وهو ينظر إليه عبر صور الكاميرات التي شوهت صور العين والفكر أو لنقل سيطرت عليه وجعلتها مهملة وهي مفارقة أخرى وعلامة دلالية على القبول وترك التكنلوجيا تحدد مقدار الرؤية الفكرية إلى الأشخاص والمعرفة والفهم وتعطيل الأحاسيس والمشاعر والعاطفة وتجريد الجسد مما زرع الله به من قيم عليا، فقد ركز في العديد من نصوصه القصصية على التدهور الحاصل في القيم الروحية للإنسان العربي والعراقي خاصة وشخَّص على الروابط الأسرية للأفراد وصلة الرحم، واللا مبالاة عند أغلب الناس، فالتحول المادي وتعاظمه في الحياة، والصراعات من أجل السلطة والغِنى هدَّم الكثير من الروابط المجتمعية في العوائل العراقية والعربية، فقصة (الشحاذ) تحول كبير في كثير من روابطنا المجتمعية، فقد وجد شحاذ بملابس رثة، أعطاه المال وزاده، وأعطاه الطعام وغيره ونوَّعه، وأعطاه الملابس وغيرها، لكن الشحاذ لم يمد يداً ليأخذ أي شيء مقدم له، فهنا الحيرة: إذاً ماذا تريد؟
- أنا أخوك من أم قبل أمك، وأريد احتضان.
أريد أن أجد الحنان وأريد أن أجد الأخوّة، أريد ما زرعه الله لا ما أعطاك إياه، ركز على صفة التوادد والتراحم التي لا يشتريها المال، ولا تسترها الثياب، ولا يعوضها الشبع ولا تنوّع الطعام، وصدمتُها أنه سقط (ميتاً) لم يبق ليشبع رغبته، ولم يدخل بيت أخيه ليعرفوه أولاده، ولم يشاركهم ليتمكنوا من محبته، جاء ضيفاً في الشارع ورحل من الشارع إلى السماء.
كنت وأنا أرى ما يحث في غزة من جور وظلم وتهديم وإبادة وجوع، أنادي ربي وأسال زوجتي، يا لصبر الله على الظالم، متى ينصرهم ويجعل من ينتصر لهم متى أرى، متى ارى؟ وفي أحيان أقولها غاضباً وكأني ان المسؤول عن نجاتهم، واحياناً أسال عبر الوسائل هل نحن في اختبار بهؤلاء أمام الله؟
في كل الأحوال لله في خلقه شؤون، فقد سلط من يريهم قوتهم وجبروتهم وهربوا ونزحوا وربما جاعوا، فقد أدينوا بما ادانوا، فمن قصة (أجساد أمام الكاميرا) وهي لصاحب ملاس نسوية يرى بها أجساد النساء الذين يبدلن في غرفة الملابس، جاء يوم وفاة والده وجاءت عائلته وسلط عُمَّاله أن يروا جسد زوجته وبناته في غرفة هو أعدّها وكاميرة هو أخفاها ورجال استأجرهم ليعملوا لديه، فكل شيء من صنعه وتفكيره.
قال الرصافي على ما أعتقد:
(من رام وصل الشمس حاك خيوطها سبباً إلى آماله فتعلقا)
فالشمس في المعنى المعادل هي العلم والدين الحقيقي، والحياة المستقيمة، والنجاة والصدق والوطنية الحقة، وفي هذه القصة المعنونة بـ (الشمس) كثير من الحقائق لا فكر الكاتب وهو أن ولدا كلما نظر إلى الشمس فَقْد حبيباً، بدأها بأصوله وتراثه برمز جدته، وذبول أمه وتردي صحتها وهي ترمز للعروبة، ولوحات الإستشهاد لصحبه وأصدقائه وأبناء محلته حين غض الطرف عن الشمس للحفاض على والدته، لذلك قرر أن ينظر حتى أمسى لوحةً على أحد جدران المدينة شهيداً مجاورا لأصدقائه، متمثلاً بـ (أمّا حياة تسر الصديق وأما ممات يغيض العدى)
لا استطيع الكتابة عن كل القصص في مجموعة (رهان عقابيل) للقاص العراقي الكبير ضاري الغضبان، ومدى تنوعه والتزامه بوحدة فكرة النصوص، ورسالته للمجتمع الذي هجر القراءة في قصته (غداء بائع الكتب) فإنه وقف على الهدم الحاصل بالمجتمع العراقي ونبَّه له واجاد في توظيفه ومفارقاته وتوظيف رموزه، له التحايا والتألق ومن الله التوفيق.
***
عيّال الظالمي - العراق/ المثنى
23/6/ 2025