قراءات نقدية
بانوراما المأساة العراقية في رواية "المرفأ المفقود" كفاح الزهاوي (1)

براعة المتن الروائي يشتغل على عوالم مختلفة، في أحلك الفترات المظلمة التي مرت على العراق، التي تميزت بالعنف الدموي المفرط ونهج الإرهاب المشدد با على درجات البطش، الذي يمثل قوام الدولة البوليسية الفاشية، في اطلاق العنان الى رجال الامن، في بث الرعب والخوف، كما هو في فترة حكم البعث، وتوج الى اعلى القبضة الحديدية، بعد تولي صدام حسين، وازاحة الرئيس احمد حسن البكر، وتصفية تقريبا نصف اعضاء القيادة القطرية ومئات الكوادر المتقدمة في قاعة الخلد، او في مجزرة قاعة الخلد، ولم يقتصر التصفية والابادة على اعضاء حزب البعث، الذين عارضوا اغتصاب السلطة من قبل المجرم صدام حسين، بل سبقتها حملات الاعتقالات المستمرة ضد أعضاء الحزب الشيوعي واليسار العراقي عامة، في زجهم في الاعتقالات والسجون ووضعهم تحت المراقبة الامنية، وفي ممارسة التعذيب الوحشي، التي تنتهي الى الاعدامات الفورية دون محاكمات، او محاكمات صورية سريعة، هذه فترات الرعب البعثي، سجلت أحداثها الدقيقة في صياغة الأحداث السردية في المتن الروائي، على لسان السارد العليم (نضال) وهو يعود بذاكرته في تسلسل سيرة حياته منذ طفولته في إحدى المناطق الكردية، التي تميزت بالفقر وصعوبة شظف المعاناة المعيشية للفئات الفقيرة الكادحة خاصة، وبعدها انتقال عائلته الى العاصمة، والحياة تسير من السيء الى الاسوأ في تهجير الاكراد، وزادت اكثر وحشية في زمن البعث، في حملات تهجير، تمثلت اما رميهم في الصحراء، أو رميهم خارج الحدود، في اسلوب هجين خالي من ادنى الشروط الانسانية، بل كان هدفها ابادة القومية الكردية بكل الاساليب الفاشية والعنصرية، وتوجت بأستخدام السلاح الكيمياوي، وشن الحروب الخارجية في اعلان الحرب ضد ايران، وممارسة الارهاب بالقبضة الامنية، تنال كل مواطن لم ينتمي الى حزب البعث، او عليه شبهات بالانتماء الى الاحزاب المعارضة، حول الحياة العامة الى الرصد والتنكيل، لكل من يكون خارج أسطبل البعث، هذا التوثيق الروائي، يمثل شواهد شاخصة في التفاصيل اليومية، كما تناولت المسائل الاجتماعية في العقلية بالايمان بالدين، والاعتقاد في الخرافات وحكايات الشياطين، الذين يجتمعون في جنح الليل في الازقة المظلمة للبيئة الفقيرة المعدمة، وفي تناول مجريات الامور المعاشية في اسلوب واقعي هادف ورصين، كما عاشها فعلياً (نضال) وتجرع علقمها المر، منذ طفولته، والى مراحل حياته الاخرى، في التفاصيل اليومية الدقيقة، التي لاتخلو من انتقاد حاد، ومنصات السخرية المضحكة والتراجيدية، اي بين الملهاة والمأساة، كما ان (نضال) شارك في خضم الاحداث السياسية والحزبية بنشاط، رغم الاخطار الجسيمة التي واجهها من قبل اعضاء الاتحاد الوطني لحزب البعث، او من وكلاء الامن، الذين وضعوه تحت مجهر المراقبة والترصد في حياته اليومية، ان معالم السرد الروائي كثيرة ومتشعبة في الشخوص المحورية، والشخوص الفرعية، هذا الكم الكبير من احداث المتن الروائي، يمكن اجمالها في خيوطها الاساسية.
1- نضال: تقمص دور السارد العليم المتكلم
نشأته في بيئة كردية فقيرة تعاني البؤس والظروف المعاشية الصعبة، تربى في عائلة كبيرة العدد (ثمانية اشقاء وثلاث شقيقات)، ترعرع تحت رعاية أمه بالحب والحنان، كانت بحق كادحة ومثابرة، وتفسر الاشياء والاحداث بذكاء وروية رغم إنها (إن أمي كانت امرأة أمية، إلا أنها كانت واعية ذهنياً، ومتنورة، مدرسة خالدة نابضة بالحياة، متسامحة، لا تحمل أية ضغينة تجاه الآخرين، كنت أصارحها بكل شيء) ص28، إلا أنها كان يساورها القلق والخوف على إخوته الكبار، بسبب انتماءاتهم الحزبية للحزب الشيوعي، ويصيبها بالرعب من مداهمات الحرس القومي لمنزلهم، خشية الاعتقال بعد انقلابهم الدموي المشؤوم، منذ الصغر بدأ شغفه وحبه الشديد الى عالم السينما والفن، ويواظب في الحضور في دار السينما الوحيدة في مدينته، وبعد ثورة 14 تموز أصبحت ثلاث دور سينمائية، يرتادها الناس بشغف متواصل، منذ الصغر تشبع ببعض الخرافات واساطير الجن والشياطين، التي تتجمع في جنح الليل في الازقة المظلمة، لخطف الاطفال، ويوماً وقع في إشكال صعب، مر في زقاق مظلم متجهاً الى منزله، وبدأت تساوره المخاوف والقلق من خشية اعتراضه وخطفه في المكان المظلم والموحش وهو يتبول في مكان مظلم (وشعر بالارتباك في هذه اللحظة المصيرية، وكطفل، وقع في الخطيئة، ينبغي أن يعاقب عليها، حيث أني عملت شيئاً مخالفاً للعقيدة، حين لقنتني والدتي ألا أتبول في سواد الليل، لان ذلك كما قالت: (يؤدي الى تجمع الشياطين حولي) ومع ذلك عصيت كلام أمي، بل ربما هذا العصيان، بدعوته هذا قد يلحق مصائب الدنيا وكوارثها، فكل ما يصيبنا من سوء الحظ فهو من رجس الشيطان) ص44، لكن كظم خوفه وقلقه، وواصل تبوله، انهى مهمته بصعوبة وواصل مسيرته نحو بيته، رغم نباح الكلاب تلاحقه، لكنه شعر بأنه انتصر على الشيطان وخرافاته المخيفة، وحينما دخل البيت، ورى الى أمه انجازه العظيم، في معركته الوهمية مع مخلوقات غير مرئية، نعم انها معجزة في تحدي الشيطان. انتقلت عائلته الى العاصمة ودخل المدرسة الابتدائية، وكان يشكو من النطق العربي الصحيح، فكان محل سخرية وتندر من التلاميذ، لذلك اشتكى احد اصدقائه الى المعلم بقوله: أن نضال، طالب جديد من القومية الكردية، لا يلفظ الكلمات بصورة صحيحة، وهذا الدافع عزم على الدراسة والموظبة وتعلم النطق باللغة العربية بشكل صحيح، حتى نال التفوق الأول في مدرسته، وبعدها دخل المدرسة المتوسطة، وتلمس الفرق الكبر بين المدرسين، منهم من يؤدي مهمته الانسانية، بجدارة ومسؤولية وينال احترام الطلبة، ومنهم العكس ذلك، يتعامل بخشونة ولا يقبل اية ملاحظة، يواجهها بالحقد والكراهية، مثل الاستاذ (فاضل) حين ابدأ حد الطلبة ملاحظة، بأنه يلقي الدرس بالاستنساخ الحرفي من الكتاب، دون ان يزيد او ينقص حرفاً، فظهرت ملامح التشنج والعداء من الاستاذ، وبدأ يضرب بشكل عدواني مبرح، كأنه في حلبة تمرين لجسد الطالب المسكين، اشبعه ضرباً ورفساً في كل خلية من جسمه، كأنها صورة طبق الاصل من التعذيب الوحشي من الأجهزة الامنية البعثية، في التعذيب والرمي في احواض التيزاب للمعارضين بقيادة مجرم العصر المجرم (ناظم كزار) في قصر النهاية، والذي قتله صدام حسين شخصياً بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة،. وفي مرحلة الإعدادية بدأ حبه الشديد والطاغي في قراءة الكتب الأدبية والسياسية، اضافة عشقه الى السينما والفن كذلك حبه في الرياضة في مجال العاب الساحة والميدان، وكذلك شارك في النشاطات الحزبية للحزب الشيوعي، رغم ان هناك الجبهة الوطنية بين الحزبين البعث والشيوعي، لكنها كانت فخ ومصيدة في تصفية الحزب الشيوعي، بفتح المعتقلات والسجون، والمتابعة الامنية في قبضتها الحديدية، وتفاقمت الازمة السياسية في عام 1979، حين استولى صدام حسين على السلطة، في إجبار الرئيس أحمد حسن البكر على التنحي، وتصفية بالاعدام تقريباً نصف اعضاء القيادة القطرية، ومئات من الكوادر المتقدمة لحزب البعث، جمعهم في قاعة الخلد، وعرفت بـ مجزرة قاعة الخلد، لإشباع غرائزه التسلطية (كان طموحه النرجسي ان يتوج نفسه بطلاً للامة العربية، أو حتى القائد الاوحد للامة برمتها، وكان على استعداد للتضحية بأرواح الناس، ومستقبل البلاد لتحقيق أهدافه الشريرة ومن اجل الوصول الى هذا الطموح، كان لابد من البحث عن وسيلة تمكنه من تحقيق ذلك، ومن هنا بدأت معاناة الناس في تصاعد، عندما هام القائد المفدى الشروع في تنفيذ مآربه الشخصية) ص127. وكذلك لشخصيته المتكبرة بالغطرسة المفرطة، ان يشن حرب مدمرة مع إيران عام 1980 (اندلعت نيران الحرب ضد ايران عام 1980 التي اشعلها الرئيس العراقي صدام حسين، واصرار الخميني فيما بعد على عدم وقف هذا الدمار والخراب، الذي استمر ثمان سنوات من الالم الاذى، واودت بحياة اكثر من مليون إنسان بين قتيل وجريح ومعوق، على الرغم من كل المآسي، إلا أن صدام لم يتعظ من خسارته الاولى، بل ادخل جيشه في حرب محبطة اخرى خاسرة مع دولة الكويت، فأهلكت كاهل الدولة التي دفع العراقيون ضريبة ذلك، بسبب عنجهية وغطرسة رأس النظام، عن طريق تجويع الشعب العراقي في حصار ظالم) ص129. دخل (نضال) في أول مغامرة عشقية في الغرام، لكن نتائجها كانت فاشلة، في مواصلة الحب فانقطعت العلاقة بين الجانبين. وحين انهى المدرسة الاعدادية، واراد ان يواصل تحصيله الدراسي بالدخول الى معهد الطب الفني، وجد عقبة تحول دون قبوله، وهي ينبغي ان يحصل تزكية من الاتحاد الوطني البعثي، حاول ان يقنعهم بأنه مستقل ليس له علاقة بالسياسة لكن لم يقتنعوا بكلامه، وطالبوا منه بالتوقيع على استمارة تعهد، بأنه لم ينتمي الى اي نشاط حزبي عدا حزب البعث، رفض التوقيع على الاستمارة بعدم الانتماء إلى اي حزب آخر، وإذا أخل بالتعهد، سيعرض نفسه لعقاب شديد، ورفض التوقيع بذريعة (قلت:
- ولكن تحت هذا السطر ارى الورقة فارغة، من يضمن لي انك لا تملي الاستمارة اني مديون بمليون دينار بعد مغادرتي، وانا فعلاً وقعت على الورقة) ص154 ولكن بعد تدخلات جانبية، تم قبوله في معهد الطب الفني، لكن وضع تحت مجهر المراقبة الامنية، وعند انتهاء فترة الدراسة والتخرج، لم يجد اسمه ضمن قائمة التعيين، فتأخر تعينه ثماني شهور، زادت تعقيدات الأزمة السياسية نحو الاسوأ، زادت حملات الاعتقال والمطاردة ضد أعضاء الحزب الشيوعي، وجاء اعتقال شقيقه (حاذق) ادرك بانه الهدف المقبل في الاعتقال، طلبت أمه ان يهرب وينجو بنفسه والدموع تغرق عينيها (- اهرب يا بني لا احتمل خسارتك ايضاً.
وأضافت:
- هذه مملكة الرعب، حكم القمع، واغتصاب الحريات) ص226. فاستغل الوقت المناسب للهروب من مملكة الرعب والموت.
2 - حاذق: أعدم عام 1985. سيرته الحياتية، أنه أصغر أشقاء (نضال) شاب وسيم حلو المعشر بين الناس والطلبة، يبلغ من العمر ثلاث وعشرين عاماً. طالب جامعي في السنة الاخيرة من كلية الطب، يتميز بمواهب متعددة، في مجال الموسيقى والرسم والأدب والصحافة، وناشط في الحزب الشيوعي، يمتلك الوعي والحكمة وصفاء الذهن، يتحمل بصبر باستمرار استفزازات الاتحاد الوطني، وكان مراقب تحت عيون رجال الأمن، ينتظرون الفرصة السانحة لنهش لحمه، كالذئاب المسعورة.خلال تصفية حزب أعضاء الحزب الشيوعي جاء دوره في الاعتقال، لكن بحجة سخيفة، بأنه مهرب، فاحتجت أمه بالغضب في وجه رجال الأمن (أبني طالب جامعي) غيروا لهجتهم في التعامل بقول أحد رجال الأمن (- وداعتج خمس دقائق ونرجعه واخذي من هالشوارب) 271. لكن أدرك حاذق انه الوداع الاخير، صوب كلامه صوب أمه بقوله (يا أمي... لا تفكري بي بعد اليوم) فانفجرت بالبكاء المر، وشعرت بأن السماء ملبدة بالغيوم السوداء المشؤومة، هذه تعبر عن حالة الإرهاب المفرط للدولة البوليسية (عبرت تلك الأساليب البربرية عن ايديولوجية فاشية مدمرة ترمي الى افراغ الانسان، من بوتقة انسانية وقيمة نبيلة، وجعله آلة جامدة غير قادرة على التفكير، سوى ترديد نغمة واحدة، يحيا قائد الضرورة) ص225. وفي عام 1985 في ليلة شتوية باردة كانت العائلة مجتمعة حول (صوبة علاء الدين القديمة) طرق بابهم احد رجال الامن بابهم وابلغهم، بأن عندهم موعد في سجن ابو غريب لمواجهة ابنهم حاذق. تيقنت الام بأن هذا الموعد المشؤوم يدل على إعدام حاذق، ولم تنم العائلة لك الليلة في هواجس الخوف والقلق، وعندما ذهبوا في الصباح تيقنوا خبر إعدام حاذق في استلام جثته، فصرخت الام بكل شجاعة وجسارة في وجه حراس السجن بقولها (- سوف ارى عدي وقصي في هذا التابوت يوما ما يا أوغاد ؟) ص289.
3 - سرقة المسدس من رجل الامن: نتيجة منطقية لرد الفعل والعمل تجاه الاساليب البطش والارهاب المفرط ضد اليسار عامة. تنتج ردات فعل متطرفة نتيجة الشحن الفعل الثوري (- الحياة تعد ساحة حرب، تتطلب من الإنسان المجازفة، في اختيار خططه، وبراعته، والمجازفة لا تعني ان التجربة قد تمضي الى تحقيق الهدف المنشود، وإنما هي خطوة نحو تحقيق الأفضل) ص132. والتشديد على الوعي في السلوك في الاختيار اللحظة المناسبة للفعل الثوري، جرى هذا النقاش الساخن بين الأصدقاء في جلسة شرب في نادي ليلي، يرتديه ايضاً بعض رجال الأمن، خلال نقاشهم، لاحظ أحدهم بأن احد رجال الامن ترك مسدسه على المغسلة، وتوجه نحو المرافق الصحية، فانتهز الفرصة الثمينة في سرقة المسدس، والخروج بسرعة من النادي الليالي، قبل وقوع المحظور وتكون العواقب وخيمة عليهم، ولكن بعد التحري والمتابعة والتحقيقات الأمنية المتشددة، عرفوا السارق، والقيء القبض عليه ومات في التعذيب الوحشي، وبدأت ملاحقة أصدقاءه والمشاركين في عملية السرقة والتستر عليها، ومنهم (نضال) لكنه أنكر علاقته به، لا من بعيد ولا من قريب، ولكن أخذ الاحتياطات الضرورية، لأنه وضع تحت عين المراقبة الامنية.
***
جمعة عبد الله – كاتب وناقد