قراءات نقدية

عماد خالد رحمة: بين طاغوت القصيدة وطهر الأرض

قراءة رمزية نفسية هيرمينوطيقية في ديوان ماء الياقوت" للشاعر عبد القادر الحصني

في شعر الشاعر عبد القادر الحصني، يتعالق الجسد اللغوي مع الجسد المعنوي في جدل لا ينفصل، حيث تتحوّل القصيدة إلى كائن طاغٍ، تُخضع الشاعر لتقلباتها، وتُنازع فيه وعيه وهويته وقراره. في قصيدة "طاغوت القصيدة"، يتلبّس النص الشاعرَ كما يتلبّس المسّ الروحي، فينشطر كيانه بين نشوة الخمر، وحقيقة الصحو، بين غواية الأنثى وتجلي الوطن، بين اللذة والمأساة، في بنية أسلوبية عالية الإيقاع والتكثيف الرمزي.

- في مجال المنهج الرمزي – القصيدة ككائن متعدّد:

يتّخذ الحصني من الخمر والأنثى والحانة والفرس والأرض رموزاً وجودية تتجاوز معناها المباشر، يقول:

 "إلى السُكر أشكو ما ألاقي من الصحوِ

لأُدني ما أنئي، وأبسط ما أطوي"

الخمر هنا ليست فقط شراباَ، بل هي "القصيدة" ذاتها، وهي الفن، الملاذ، والتطهير. أما "الصحو"، فهو وعي الواقع، مأساته، وشرطه التاريخي القاسي. الشاعر لا يهرب إلى السكر بل "يشكو" من الصحو، لأنه وعيٌ فائض، ووجود لا يُحتمل.

"فتقرأ في كفي تفاصيل ما أنوي

ويركض أطفال جميلون في دمي".

هذه الصورة تكشف بُعداً طفولياً للقصيدة، فهي أيضاً خصوبة، ولادة، وشهوة معرفية وإبداعية.

- في مجال المنهج النفسي – الانشطار بين الهو والأنا:

نلحظ في القصيدة تشظي الذات الشاعرة بين متعة مؤقتة وانهيار دائم، يقول:

 "كذا أنا.. حتى أستفيق مهدماً

على الخمر لا تروي، كما الشعر لا يروي".

*

في هذا السطر تكثيف للغربة الوجودية: الخمر لا تروي، والشعر لا يروي، في إشارة إلى جفاف داخلي عميق لا تملؤه طقوس الكتابة أو طقوس اللذة. النفس الشاعرة ممزقة بين الإشباع الرمزي والعطش الفعلي. يقول:

 "وذئب أحدّ النابَ فيَّ، فصوته

وصوتي خليطٌ، ما يبين إذا يعوي".

صورة "الذئب" هنا رمز للهو الوحشي، للغريزة، وهو يعوي بلسان الشاعر. لا فرق بينهما. الذئب والشاعر متواطئان في العواء. إنها الحالة الفرويدية الخالصة حيث يتصارع الهو مع الأنا.

- المنهج الأسلوبي – هندسة الإيقاع وتراكيب الدهشة:

القصيدة مكتوبة على بحر البسيط، لكنه بسيط متسع، تُنَفَّذ عليه طقوس الدهشة، ويتمدد فيه الحرف إلى أقصى ما يقدر على تحمّله من الصور والانفعالات.

 "وأبتهج أن الشعر مثل الخمرِ إذ

تفيضُ، ولا شيءٌ من الجمر يطفي".

في هذا التركيب، نلحظ جمالية التوازي والاستعارة المتحولة: الخمر = القصيدة = الانفجار = الجمر = العشق. تتدافع التراكيب بمجازاتٍ متوالدة، لكنها لا تفقد وضوحها.

كما أن استخدام الأفعال الحركية المكثفة (“أبتهج”، “أمسح”، “أهصرها”، “أدلّي”) يمنح النص حياة جسدية شديدة، فيصير الجسد كياناً تأويلياً، واللغة امتداداً للعصب والشهوة.

- في مجال المنهج الهيرمينوطيقي – التأويل الوجودي للموقف:

الشاعر في هذه القصيدة لا يسرد تجربة شخصية، بل يطرح موقفاً وجودياً من الشعر، الوطن، والكينونة. يتجلى ذلك في الخطاب الوطني في المقاطع الأخيرة، يقول الحصني:

"وفيٌّ لهذي الأرض أمسح تربها

بجفن قريح، لا يثوب إلى غفْوِ"

كما يقول:

 "وأوصيكم أن لا تلينوا لغاصب

يراودكم عن أرضكم، وهو لا يلوي"

ينتقل النص من المونولوج الحميمي إلى خطاب جماعي، سياسي، ينفتح على التاريخ والراهن، ويعيد تعريف الشعر كفعل مقاومة. الشعر هنا ليس ترفاً بل التزاماً:

 "فما الأرض إن تمنع سوى العرض كله

وحاشا لعرض أن يؤول إلى جزوِ"

- في مجال الثنائيات الكبرى – الجدلية الرمزية بين اللذة والمأساة:

القصيدة محكومة بمنظومة ثنائيات تقابلية:

- السكر × الصحو

- الأنثى × الأرض

- القصيدة × الطاغوت

- اللذة × الانهيار

- الجسد × الروح

- الغناء × الخرس

- البطولة × الانكسار

هذه الثنائيات لا تُفكك بشكل مباشر، بل تتداخل عبر بنية شعرية مشحونة بالرمز والانفعال، ما يمنح القصيدة طابعاً مأساوياً عميقاً، حيث اللذة دائمًا مؤقتة، والشعر دائماً مسكون بفقدان المعنى، يقول:

"طاغوتٌ يُزحزح كلامي عن الذي

أريد من القول السديد إلى اللغو"

القصيدة تعلن تمردها، وتصبح سلطة، تُحرّف المعنى. كأن الشعراء، مثل الأنبياء، يُسقطون في الاختبار حين يواجهون جبروت اللغة.

في الختام: الشاعر ككاهن مكسور. في "طاغوت القصيدة"، يتحول الشاعر الحصني إلى كاهنٍ مكسور، يعاني من نزيف الرؤية، ومن انكسار سلطة الكلمة. يقف على تخوم المجاز والواقع، فيرى في الأنثى وطناَ، وفي الخمرة يقظة، وفي الشعر خيانة أحياناً ونجاة في أحيان أخرى. النص يعيد تشكيل العلاقة بين الشاعر والقصيدة، فيجعل من الأخيرة طاغوتاً... ساحراً وعنيفاً، مغوياً ومُستلباً، طاهِراً ونجِساً في الوقت ذاته.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

........................

طاغوت القصيدة

إلى السُكر أشكو ما ألاقي من الصحوِ

لأُدنـيَ مـا أنـئـي ، وأبسُـطَ مـا أطـوي

*

وتـنـبـو بِجِـرْمي أرضُ بـيـتـي وسقفُه

فـآوي إلى الساقي إذا لاتَ مـا يـؤوي

*

وأقـعـدُ في ركـنٍ مـن الـحان سـادراً

إلى أنْ تدورَ الخمرُ من نحوها نحوي

**

أباشـرها بالـرَّاعش الـعَـذب من يدي

فـتـقـرأ في كـفّي تـفـاصيلَ مـا أنـوي

*

ويـركض أطـفـالٌ جـمـيـلون في دمي

فـتحسِـبُـني خِـلواً، ومـا أنـا بـالـخِـلْـوِ

*

فسبحان من سـوّى الـقـواريـرَ نسـوةً

وسبحان من أغرى الرِّجالَ بما يغوي

*

وأبـدلـنـي بـالـثّـيِّــبِ الـبـكـرَ خـمــرةً

ترقُّ طباعاً .. فهي تشجا على شجوي

*

وتـطـوي همـومي في طـوايا خُـمارها

فـلـلَّـهِ كـم تسـطـيعُ حـواءُ أن تـحـوي!

*

وكـيـف إذا مــرَّت بـفــاضـل روحـهـا

عـليَّ تُـعــدِّيـني السَّـقـامَ إلـى الـبَـروِ!

*

وتمسـحُ من وجهي الغضونَ ، فَـرَيّـقٌ

إهـابي . وعـودي في الشَّبيبة ، لم يذوِ

*

فـلو شِــمـتـني أسـمـو إلـيهـا بـرشـفـةٍ

تـمـصُّ لـذيـذَ الـرَّاحِ من فـمـها الحـلـوِ

*

وأهـصرها هصرَ الضجيـعِ ضـجـيـعَـهُ

فـسِـفْـلٌ إلى سِـفْـلٍ، وعُـلـوٌ إلـى عُـلْـوِ

*

وأبـتـزُّ عنها الـثوبَ خـيـلَّـتـني ضُحـىً

يـفـكُّ ضبـابَ الـفجر عن شجر السَّروِ

*

وخـيَّـلـتـنـي صِنـوَ الـلَّـذاذةِ .. وحـدَهـا

يـحـقُّ لـهـا أن تـدَّعـي أنّـهـا صِنـوي

**

كـذا أنـا .. حـتى أسـتـفـيـقَ مُـهَـدَّمـاً

على الخمر لا تُروي، كما الشِّعر لا يَروي

*

وأعلمُ عـلمَ المجتـوي شـطـرَ نـفـسـهِ

بأن حالُ من يهوى كحال الذي يهوي

*

أطـيـلُ لـبـئـرٍ مـا لـهـا مـن قـرارةٍٍ

حـبـالي، وأُدلـي في غيـابتها دلـوي

*

كـأنَّ فـراغَ الكأس مـثـلُ خـوائـه

خوائي، فها شلوان: شِلوٌ على شِلو

*

وذئـب أحـدَّ الـنـابَ فيَّ، فـصـوتُـه

وصوتي خليطٌ ،مـا يبينُ إذا يعـوي

*

يـزحزح طاغوتٌ كلامي عن الذي

أريـد من القول السَّـديـد إلى اللَّغـو

*

وما ذاك عن ضيق القـوافي، وإنَّما

يـواري مـديحي ما أُكِنُّ من الهجـو

**

يريـدونني أشـدو ؟! أأهـزوءةٌ أنـا

لأصـدحَ في لـيـل الـهـزائـم بالشَّدوِ

*

وأفـرحَ بـالسِّـلم الـذي يـجـتـدونـه

متى كانت الأسلاب ترجع بالجدو؟

*

أأنـسـج من صـلـد الـكلام عـبـاءةً

لأخـلـعـها عـمـداً على زمن رخـو؟

*

وعهدي بشعري الريح خلَّى للاحقٍ ٍ

خـطـاه فـنـونَ المسـتحيـل من العدوِ

**

وفـيٌّ لهـذي الأرض شـعرٌ مَحَـضْتُـه

على عكر الأيام ما اسطعتُ من صفوِ

*

وقـدَّمـتـه فـي أوَّل الـرَّكب حـاديـاً

ونـزَّهـتـه عن أن يكفَّ عن الحدوِ

*

كشأن جـدودٍ أودعـوه صمـيـمَـهمْ

واعلوه حتى أدركوا بـالـغَ الشَّـأوِ

*

أُنّمى إليهم بامرىء القيس شاعراً

أحـلَّ ذؤابـات الـقـصائد في بـهـوِ

*

وعلَّـقني كالبرق في جـذع نخـلـةٍ

يثيرُ غبارَ الطلع في أفْقـها العلوي

*

ومـثـلي فـتـىً حـرٌ تـحـرُّ دمـاءه

خروقٌ تَدَاعى، تستحيلُ على الرَّفو

*

إذا قال قالَ الشعرَ من حُـرِّ قـلـبـه

وطـاولني كالنجم لما حـذا حـذوي

**

وفيٌّ لهذي الأرض أمسـح تربَـها

بجـفـنٍ قريـحٍ، لا يثوب إلى غفـوِ

*

وفـيٌ لشـعـب واحـدٍ مـتَـوحِـدٍّ

كما جسدٍ إذا يألم العضوُ للعضوِ

*

ويـا فرسـاً غـذَّوه لـوزاً وسُـكَّراً

وراضوه من خوض الحروب إلى الرَّهوِ

*

وحـلَّـوه من بَـعد الشـكيـم بخـرزةٍ

يُـجـمِّـع فيها ما تبقَّـى من الـزَّهـوِ

*

تـدلـلتَ فاهـززْ منكَ ذيـلاً ممشّـطـاً

ونـاصيـةً شـقراء تـصلـح لـلـهـوِ

*

ودعْ عنكَ ساحاً تُعثّر الخيلَ بالقنا

فـقد ربّـما تـُرديـك في زمن الكبـو

*

وجـمِّـعْ بخـصيـيـكَ المـآثـر كلَّـها

وشمَّ من الإصطبل رائحة الفَسْوِ

*

فقد حَسَـمَ السُّوَّاسُ أمـرَكَ عندما

رأوا فيك ما يكفي التفـرُّغَ للنزوِ

**

وفيٌّ لهذي الأرض تُـنـبتُ ثـائـراً

وتطوي شهيداً بين أحشائها يثوي

*

وأحني لأطفال الحجارة هامةً

فأنهمُ سـؤرُ الكرامـةِ والـبـأوِ

**

أفـيـقـوا بـنـي أمّـي فإني لخائفٌ

عليكمْ من السِّلم الذي خفتُ مِلغزوِ

*

وأوصيكمُ أن لا تـلـيـنوا لغاصبٍ

يراودكمْ عن أرضكمْ، وهو لا يلوي

*

فما الأرضُ - إن تمنَعْ - سوى العِرْضِ كلِّهِ

وحاشـا لعِرضٍ أن يـؤول إلى جـزوِ

*

أقولُ، وفي صدري من الحبِّ نبعـةٌ

تفيض، وفي صدري من الجمر ما يكوي

*

وأعـلمُ أن الشـعب كـفء لـنـازلٍ

إذا أعوز الأمرُ العصيبُ إلى كُفوِ

*

فهاكمْ ملايين العصافيـر في دمي

تنقِّـر باب اللّيل .. تبحث عن جَـوِّ

 

في المثقف اليوم