قراءات نقدية
جمعة عبد الله: معاناة الحياة في المجموعة القصصية "حب وحمص وثالثهما نيتشه"

لجمال الهنداوي
هذه النصوص القصصية اعتبرها مختلفة عن المعتاد والسائد التقليدي، تدخلنا في حوارات وتساؤلات في الصياغة الفنية، وتركيبة الحبكة السردية، بمعنى انها جدلية في عدة مقومات، في الصياغة الفنية، وبناء الرؤية التعبيرية والفكرية، في المعنى والمغزى والرمز الدال، الذي يشع في الجوهر والمضمون الدال، رغم انها واقعية الاتجاه ومن قلب الواقع المعيشي للشرائح الاجتماعية الفقيرة، التي تكافح بعناد واصرار في الصراع الحياتي، لكن تجد نفسها غارقة في المعاناة والظلم والحرمان، لم تستسلم بل تظل تكافح بعرق جبينها بالمكابرة والكبرياء، رغم الاحباط والخذلان، الذي يصيبها، لتجد نفسها في موقع صعب، في نيل الطموح في معمعة الصراع الحياتي، وابطالها اناس بسطاء يملكون الكرامة ولا يتخلون عنها، مهما كانت صخرة سيزيف على اكتافهم، أنسانيون بحق، هذا جوهر الرؤية الفكرية ورمزيتها الدالة، شرائح انسانية اكثر من الشرائح الاجتماعية اخرى، مكافحون بلا كلل، رغم غصة الالم والوجع في دهاليز الحياة الصعبة والمعقدة، وتحاول ان تخلق البسمة من بئر الاحزان، لانها تملك احاسيس انسانية في طيبتها الشعبية، يشعر القارئ بتعاطف شديد ومؤثر تجاه هذه الشخصيات في النصوص القصصية، واعتقد هذا ما يسعى اليه الاستاذ (جمال الهنداوي) وهو يسلط الضوء الكاشف عليها، ويدخل في عمق المشاعر الداخلية، وهو يقدم نماذج حية من الواقع المجتمع، التي تملك الكثير من حكايات المعاناة، شخصيات تحاول جاهدة ان تجد مكاناً تحت الشمس في قلوبهم النظيفة، في تعاملهم الصريح بدون مراوغة، ومن هذا المنطلق الفكري، ينبغي تقديمهم بشكل مختلف، وهنا تكمن قدرة وبراعة الاستاذ (جمال الهنداوي) في تقديمهم بشكل مختلف، في بناء القصة، التي تعتمد على اسس ثلاثة: البداية. العقدة او الصراع. النهاية او الحل. نجد في هذه المجموعة القصصية، تبدأ بالصراع وتنتهي بالصراع الدراماتيكي، أما النهاية أوالحل، فإنه معدوم وغائب، يترك النصوص بدون نهايات أو حلول، يتوخى الكاتب من ذلك ضرب عصفورين بحجر واحد، الناحية الأولى. ان يترك النهايات لتأويل القارئ ومدى شغفه وتفهمه لهذه النماذج الشعبية المكافحة، في صراعها مع الحياة والزمن، رغم الانكسار الحياتي، والناحية الثانية. ان يتركها عائمة في بحر الحياة لا حول ولا قوة لها، لأنها تجد نفسها غارقة بصعوبة العوم الى شاطئ السلامة، كأن الزمن يعمل ضدها بكل قوة. رغم انها غارقة في ازمة الصراع، تظل مكابرة بكرامتها وإنسانيتها الطيبة، او مثل ما يقول المثل الشعبي (تحمل قنبورتها وتمشي)..... لنسلط الضوء على بعضها بإيجاز شديد:
× قصة: العطر:
بائع العطر البسيط والشعبي في قلبه الابيض (ابو خضير) يبيع العطور في سوق شعبي في محل صغير، كل صباح في ابتسامة تعلو في ملامحه، يرحب بالزبائن لكنه يميز خصائل الناس في أخلاقهم وسلوكهم، مثل ما يميز أنواع العطور، تراه حلو المزاج مع الناس الطيبين مثل صديقه الحميم (أبو فراس) الذي يعود به الى الى سنوات العمر الماضية وذكرياتها، مثل العطور لها خيط من الماضي، يرتب عطوره حسب الحاجات الناس، ولكن بعد وفاة صديقه الحميم (ابو فراس) حزن عليه بالوجع والأسى، حتى شعر ان الحياة جدبت، مثل العطور التي فقدت روائح عبيرها، وأصبحت روائحها كئيبة لا تطاق، فهجر العطور والسوق.
× قصة: حب.. وحمص.. وثالثهما نيتشه:
الشاب العشريني (جليل) بائع الحمص بالعربة، يعتني في بضاعته ونظافة الكؤوس و ويعتني في ترتيبها، فهي مصدر رزقه، يحاول إرضاء الزبائن بالنظافة والديكور اللائق، وهو يتحمل مشقة الشمس، وقد اختار افضل مكان قرب بوابة كلية الآداب (- الجامعة مكان محترم وآمن... والرزق وفير) كل صباح تطل عليه فتاة جامعية تماثله في عمره، يخفق قلبه بتسارع ضرباته شوقاً ومحبة، ويحاول ان يرضيها بكأس الحمص، يحاول يجذب اهتمامها وهي تشتري كأس الحمص، تغيبت بعضة أيام، قلق عليها، ولكن عندما أطلت في احدى الصباحات، انفرجت اساريره فرحاُ، لاحظ التعب في عينيها، وحاول ان يستفسر بخجل وارتباك فقالت له (- امتحان الفلسفة ارهقني جداً، ولكن انتهى والحمد لله) ثم أردفت (- بالضبط.... أكثر ما اتعبني هو نيتشه وهيغل، هذان الفيلسوفان يعقدان أي شيء في الحياة) ليقول لها انه سمع باسم نيتشه مرة في الانترنت، وذهب الى شارع المتنبي يفتش عن كتاب مبسط عن نيتشه، فوجده، لكنه وجد صعوبة في فهمه، رغم أنه قرأه أكثر من مرة، واخذت الفتاة الجامعية تتقطع في مجيئها حتى اتعبه الصبر، لأن الحب كان من طرف واحد، لكن دفعه الفضول إلى قراءة الكتب وشغف بحبها، لتعوض عن حبه الخائب، حتى فتح مكتبة صغيرة، وكسب الوعي والإدراك من اطلاعه على الكتب، بدلاً عن الحب الخائب.
× قصة: بجاه أبي الجوادين:
امرأة فقيرة تعيش على الرزق ما تدره ماكينة الخياطة، منصبة طوال اليوم على القماش الاسود العباءات النسائية، وتنظر الى كوام القماش والعباءات غير المنجزة كل صباح، أحبت (أحمد) وكان كل آمالها ان ينتهي الحب بالزواج، ليقف الى جانبها في حياة مشتركة في الحب والوفاء، لكن حبيبها خذلها بعدم قبول الزواج من طرف عدم قبول أمه لها، وتزوج ابنة عمه، مما تجرعت كأس الخيبة والخذلان، وبعد فترة طويلة طلبها في لقاء بموعد في الكافيتريا التي شهدت لقاءات حبهما في السابق، ترددت في قبول الدعوة، رغم ان حبيبها السابق اعلمها بعزمه الزواج منها بعدما طلق زوجته، ذهبت إلى الإمام أبي الجوادين، ليعينها على ترددها وارتباكها، لا سيما وان جرح القلب مازال ينزف من الاحباط، توجهت الى موعد اللقاء، وعرض عليها الزواج لتقول له (- متأكد انك تستطيع ان تقنع أمك ؟ كما لو كانت لا تحبني) ثم أردفت (- هل تذكر عندما كنت بحاجتك في ذلك اليوم..... وانت اختفيت بلا كلمة وداع) ثم أردفت وهي تحاول ان تضبط اعصابها (- كل شيء ممكن ان يرمم..... إلا الخذلان) وغادرت المكان.
× قصة: دليفري:
عامل توصيل طلبيات الطعام إلى البيوت (عبدالله) أحد الايام تأخر كثيراً في توصيل الطلبية بسبب البحث عن عنوان البيت صاحب الطلبية، واخيراً وجده، وحين طرق الباب خرجت امرأة مسنة (ام علي) اعتذر عن التأخير كثيراً، فاجاب المرأة (- لا يا ولدي.. إن مجيئك
في هذا الليل يعد فضلاً منك. هل أسمك علي
- لا يا خاله.. أنا عبدالله
-عاشت الاسامي، ياولدي)
ويعرف عنها بأنها تعيش في البيت وحدها، تقتلها الوحدة والعزلة عن الناس، ابنها (علي) مات، وابنتها ذهبت ضحية انفجار ارهابي، ولديها ولدان آخران، أحدهما في استراليا والآخر في المانيا، وهي تصر في البقاء في بيتها ترفض الرحيل عنه، وتكررت طلبياتها من نفس الطعام، وتصر على إيصال الطلبيات (عبدالله) وعقد تعارف حميم بين الطرفين، مثل الام والابن، ولاحظ ان طلبيات تكفي لاكثر من شخص، وكان غايتها ان ترى (عبدالله) التي تصر تناديه باسم ابنها المتوفي (علي)، فاضطر ان يجلب من بيته كل يوم الطعام اليها، وفي احد الايام لم تكن المرأة المسنة في بيتها، واستفسر من الجيران عن سبب الغياب، فقالوا له. نقلت إلى المستشفى في حالة خطيرة، فتش عنها ولم يعثر عليها، فاحس بمرارة الحزن والجزع.
× قصة: خيوط القلب
ام مهدي: امرأة فقيرة من الوسط الشعبي، تعيش في رزقها بما تدر عليها ماكينة الخياطة القديمة، تخيط (الدشاديش) الى الاطفال في الحي الفقير، ابنها الصغير (مهدي) طلب منها ان تخيط له دشداشة العيد مثل الاطفال الآخرين، ولكن لسوء الحظ تعطلت ماكينة الخياطة، واصرت بعزم ان تلبي طلبية ابنها،فخاطت الثوب الابرة، ومرات تنغرس الإبرة في اصابعها حتى تورمت، وانجزتها صبيحة العيد، ورسمت فوق الجيب وردة من الخيوط الملونة، فكنت دشداشة (مهدي) متميزة عن دشاديش اطفال الحي، لكي تدخل الفرحة في قلب ابنها، رغم تورم اصابعها والتعب والمعاناة.
× قصة: الميت الحي
في ظهيرة الصيف عام 2003 يوم مختلف في تاريخ العراق خرج السجناء وأصبحوا احراراً من كوة الزنازين. وكل منهم يحمل مأساة ظالمة ومؤلمة، احدهم اعتقل وعذب في مديرية الأمن، باعتباره مناهضا للنظام، ظل في زنزانة السجن أكثر من 13 عاماً دون محاكمة ولا محامي، بسبب اقتناء كتاب ممنوع، بوشاية من رفاق المنطقة، خرج في يوم السقوط بعدما اختفى رجال الأمن، ليجد سائق التاكسي (أبو سليم) امامه، وطلب منه ان يطوف به في مناطق بغداد شوقاُ وحنيناً للغياب الطويل، وتنتهي رحلته الطويلة في منطقته (الدورة)، بسرد حكايته إلى سائق التاكسي (أبو سليم) الذي تعاطف معه كثيراً لحالته المزرية، والعقاب المجحف الذي تجرع سمومه، وقال بأنه ايضاً اعتقل بوشاية بسبب اقتنى كتاب الأغاني، ولكن حالفه الحظ بوجد محقق مثقف، واعتبر الكتاب ليس عدواً للنظام، فاطلق سراحه، وتخلص من ورطة السجن طويل الأمد ليقول (- يقال أن الدولة التي تخاف من الكتاب، تكون مصنوعة من الورق) وحينما وصل الى منطقته (الدورة) الى بيته القديم، وعرف بالفاجعة التي أصابت اهله، والده مات، وامه ايضاً ماتت حزناً عليه، والبيت بيع من قبل الورثة. كانت الصدمة كبيرة بفاجعتها ليقول بحسرة الحزن، بأنه أصبح غريباً، لا بيت، لا وطن، لم يبق له سوى ان يسكن في المقبرة، بالقرب من قبر أمه وأبيه، شعر بالحزن المؤلم، بأنه اصبح غريباً، وليس له سوى التوجه الى المقبرة.
***
جمعة عبد الله