قراءات نقدية
مثنى كاظم صادق: هذا أنا ملك التناقضُ.. قراءة في شعر خالد الحسن

والعنوان مقطع شعري للشاعر المبدع خالد الحسن ولعل وصفه لنفسه بملك التناقض تعبيراً عن حيازته الكبرى في مجاميعه الشعرية على التناقضات الإبداعية أقول: الإبداعية لا الحياتية طبعاً، وربما يتساءل المتلقي عن معنى التناقض الشعري لأجيب بالآتي: (التناقض في الشعر يعني: استعمالَ عبارات وأفكار متناقضة لإنشاء تأثير فني أو نفسي أو لغوي وقد يكون الكلام متناقضاً في ظاهره لكنه يحمل بهذا التناقض معنى عميقاً ....) ولعلي أقول: كلما كان الشاعر متناقضاً في شعره، جاء شعره مؤثراً ... وأطرح هنا السؤال الآتي: هل يشترط في الشاعر أن يكون شعره متناقضاً؟ فأجيب جواباً شخصياً: نعم؛ وذلك لأن ثمة تقنيات يوظفها الشعراء تصبُ في هذا التناقض وهذه التقنيات منها: التناقض اللفظي وهو الجمع بين كلمتين متناقضتين في المعنى مثل قول الشاعر:
عادَ الصليبُ إلى المآذنِ حالماً
والديرُ صاغَ به الهلالُ مشاعرَه
لا فرقَ كلُ الأنبياءِ تعاقبوا
كي لا نرى روحَ الحياةِ مهاجرة
إذ يوظفُ الشاعرُ الصليبَ مع المآذنِ والديرِ مع الهلال؛ ليعلل هذا التناقضَ باتجاه التعايش بين الأديان؛ وعدم هجرة أبنائه منه ..... فالتناقض هنا جاء ليعزز الهوية الوطنية الكبرى ... أما التناقض المعنوي؛ فقد جاء عند الشاعر في التشبيه والاستعارة كقوله في إحدى تشبيهاته:
هذا أنا ملكُ التناقض
هذا أنا كالريح تصفع كفها وجه السفينة
أو مثل غصنٍ عاش عمراً كي يكون هو الطبيعة
هذا أنا كسكون ليلٍ دامسٍ جرحَ الرياح
فيعتد الشاعر بنفسه ويفخر بها من خلال توظيف اسم الإشارة هذا الذي يفصح عن الإشارة للمفرد القريب يسنده الضمير أنا الدال على الذات الذي يرتبط عضوياً مع الذات الفاعلة والمنتجة للفعل (صفع / جرح) وقد كرر الشاعر (هذا أنا) مؤكداً لذاته وما أنتجته من أفعال أخرى في النص الشعري ... والتناقض جاء استعارياً أيضاً عنده كما في قوله:
وخصرك النايُ
أبكي إن دنوتُ له
وأستحيلُ تراباً مرةً أخرى
إذ يستعير الشاعر من الناي رشاقته وخفته ونعومته وجمال موسيقاه ليسبغه على خصرها الذي سيجعله مادة الخلق الأولى للإنسان (التراب) عند الاقتراب منه ...
وجاء التناقض في الفكرة ولاسيما في ثيمة الموت كما في قوله:
أمات العراقُ؟
فكيفَ وأنت فتاهُ الذي
إذا قائلةٌ مَن فتاهُ
بظلك يُزهرُ بوحُ الحياةِ
فكيفَ يموتُ
عراقُكَ ــــــ يا أبتِ ــــــ لم يمت في الفراش
ولكنه كان يوماً شهيداً ...
فالاستفهام عن موت العراق جاء إنكاريا بالهمزة والاستفهام الإنكاري (يستعمل لإنكار أمر ما أو استهجانه، وليس للحصول على إجابة وهو سؤال يُطرح للتعبير عن عدم القبول أو الاستياء من شيء ما) وهنا يستاء الشاعر لمن سأله: أمات العراق؟ فتكون الإجابة باستفهام مجازي يخرج إلى معنى التعجب (فكيف وأنت فتاهُ ؟) لكن الشاعر هنا يأتي بالتناقض ليفرق لأبيه بين موت وموت؛ فموتُ الفراش يختلف عن موت الشهادة ....
وجاء التناقض في المفارقة لإثارة الدهشة والاهتمام والـتأمل بتوظيف الشاعر اللغة الصوفية في الكثير من نصوصه كما في قوله:
ترنح الليلُ في كأسٍ من الصبحِ
ولملمَ العمرَ من مِسودة اللوحِ
فالمفارقة هنا أن الليل قد ترنح بكأس الصباح ... والعكس هو المألوف؛ لأن الصباح مبعث النشاط والحيوية؛ مما أضفى عمقاً وتعقيداً جميلاً لهذه الصورة المشهدية المدهشة التي هي صورة صوفية بامتياز .... وكذلك قوله:
لم أقتبس نجمةً
إلا لتكتبيني جديلةً ضوءٍ بين الملحِ والجرحِ
فالاستثناء المفرغ جاء توكيداً بالحصر أو القصر على أن سبب اقتباسه للنجمة لاستعمال حبرها الضوئي الأبيض كحدٍ فاصلٍ بين الملح والجرح ... كي لا يلتقي الألم (الجرح) مع المؤلم (الملح) ....
ومن التناقضات التي حفلت بها قصائد الشاعر هو خلق صور شعرية يتماهى فيها الخيال مع الواقع بلغة سهلة سلسة تبعث على الدهشة كقوله:
سقط الكمانُ على الملحنِ
فاستفاقت أغنياتُ الراحلين
فالصورة وإن كانت صورة واضحة وغير مركبة؛ لكنَّ فيها عمقاً تأملياً جميلاً ....
يصف الشاعر لغته الشعرية بأنها غيبية ... وكلمة الغيب في اللغة العربية تشير إلى (كل ما هو مخفي أو غير مرئي عن الحواس أو العقل البشري، وهو مفهوم مهم في الإسلام يشمل ما لا يمكن إدراكه أو معرفتَه إلا عن طريق الله وبشكل عام يمكن أن يشيرَ الغيبُ إلى أيِّ شيءٍ غيرِ مرئي أو غير معلوم للبعض، حتى لو كان معلوماً للآخرين.) .... فقد وظف لغته الغيبية هذه في التناقض عن طريق التناص كقوله:
غيبية لغتي
وحزن قصيدتي روحٌ لمعراج الكلام
سترتقي صوب المجاز
فتعبر الكلمات
فقد صهر الشاعر المجاز مع الحقيقة عن طريق التناص مع قصة الإسراء والمعراج المعروفة بعروج شعره إلى ملكوت المجاز راكبة صهوة براق الكلمات ....
وللشاعر نصوص حكمية وظف التناقض فيها بامتياز فجاءت حكمته رائعة كما في قوله: فلا تمكث كثيراً في التمني / فبعض الأمنيات تفيض حزنا
والتناقض هنا أن الأمنيات يفترض أن تفيض فرحاً؛ فالأمنية لدى أي إنسان هي شيء مفرح ومبهج إن تحققت وإن لم تتحقق ...... كما حفل شعر الشاعر المبدع خالد الحسن بحواريات مشتقات القول (قال / قلت / قالت) وحواريات التساؤل (توظيف أدوات الاستفهام) ... ضمن التناقض الظاهري الذي أنتج معنى جديداً غير مألوف كما في قوله:
كم عمر عينيك؟
لا أدري
وهل أدري؟
لكن أحبهما في العسرِ واليسرِ
وختامها مسك بقول الكاتب الكولومبي خوان غابريال: الكاتب الحقيقي ليس من يجيدُ وصفَ المطر بل الكاتبُ الحقيقي من يجيدُ بعثَ الإحساسِ فيك بأنّك مبتلٌ بالمطر.
***
د. مثنى كاظم صادق