قراءات نقدية

جبَّار البهادليّ: مَنافِي الاِغتِرابِ وَهُويَّةُ الاِنتماءِ الإنسانِيّ المَفقُودةُ

دِراسةٌ نَقديَّةٌ لِمَجموعةِ ذِكرى لعَيبي القَصصيَّةِ (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ)

تقديـمٌ: لمَ يَعُدْ الخوض في مسار رحلة البحث الشَّاقَّة عن تجلِّيات هُويَّة صراع الذات والانتماء الإنساني في مواجهة عقابيل راهن الاغتراب الذاتي والوجودي الشَّخصيَّة أمراً سهلاً مُمكناً ومُستطاعاً لِمَن أرادَ البدء بالكتابة السردية، أو رام التعبير عنها قصصيَّاً وإبداعياً فيتمُّ له ذلك بِيُسرٍ وانتظامٍ لملاقاةَ العقباتٍ أو التحدِّياتٍ الراهنةٍ. وبالتالي يعدُّ عملاً منقوصاً غير مكتملٍ من الناحية الإنسانية والجمالية والمعرفيَّة ما لم يكن الكاتب ذاته صاحب الكتابة التعبيريَّة السرديَّة قد عاش نفسه مخاض حدث التجربة القصصيَّة الإنسانيَّة الواقعيَّة العسيرة المُتمايزة، وذاق جَمرة فعلها اللَّاهب وطعمَ مرارتها اللّاَذع، ولذَّة حلاوتها الشخصيَّة المتباينة بكلِّ أبعادها الإنسانية المتعدِّدة.

وذلكَ أنْ تعيش لتجربة الحيَّة المريرة ومخاضها الولادي الواقعي العسير غيرَ أنْ تسمع عنها شفاهياً فتكوُّنها أو تخلقَ منها عَملاً سرديَّاً وإنتاجياً متكاملاً. وهذا هو سرُّ الاختلاف البائن بين ساردٍ واصفٍ يعيش جوَّ تصوير التجربة خياليَّاً وسمعياً عن بعدٍ، وبين ساردٍ حاذقٍ وماهرٍ مَكينٍ عاشَ لظى وسعير جمرة التجربة، وخَبِرَ شِعاب طُرقها الإنسانية الكثيرة الوعرة، وعَركَ تشعُّباتها الكونية المتشابكة بالحراك الذي لا بُدَّ منه في مواجهة الذات الوجودية في ظلَّ هذا العالم الوجودي.

قِصصيَّاً هذا هو البعد التخليقي الفنَّي والجمالي المكنون إبداعياً، وسرُّ المعادل الموضوعي الدفين لواقعة الحدث الموضوعية لتي هي في الحقيقة ثيمة الفكرة الأساسيَّة لتمظهرات (الجامعة الإنسانيَّة) بكلِّ مسمَّياتها القريبة والبعيدة، والتي تميَّزت بها خاصيَّة فنِّ القصِّ السردي لهذا العمل الإنساني الصِرف والجريء وقعاً وفعلاً عن نظائره من الأعمال القصصية ذات الطابع الإنساني التقليدي.

لا لكونه عملاً إنسانياً حقيقياً فاعلاً ومباشراً لِلذات الأنويَّة الجمعية المُعذَّبة فحسب، وإنَّما كان حقَّاً عملاً فرائدياً مُعدَّاً ومُهيَّأً فكريَّاً لأكثر من فكرةٍ حيَّةٍ ناضجةٍ لوقائع موضوعية من موضوعات الحياة المعيشية التي تلامس شغاف القلب ونياط علائقه، وتُهيِّج شفاء الجرح الدامي المنكوء بالألم والتقرُّحات الجسدية التي استحالت إلى نُدبةٍ في نواة القلب. وليس هذا فقط ما يُميِّزه إدائياً، فقد كانت التجربة الشخصية الذاتية للكاتبة ذكرى لعيبي تسبق الفكرة أو الأفكارالقصصية المتوالية التي بُنيت عليها حكايات لائحة هذه العواطف والمشاعر الحقيقية في مواجهة الاغتراب الوجودي والكوني.

وهذا ما يمنح هذا العمل السردي المُلتقط بعنايةٍ واحترافيةٍ فائقةٍ من أبجديَّات الواقع وإرهاصات تداعياته ومخايله الداخلية التي ترتبط به وتنتج عنه أدباً واقعياً من خلال خاصيَّة فضيلةٍ التميَّزِ والاحتفاء الفنِّي وصيرورة النجاح الدائم التي تضمن لمثل هذا العمل الأدبي المُكتنز بلغته شكلاً ومضموناً روح الخلود والبقاء وديمومة التواصل الفكري الكبير مع القارئ الواعي والمتلقَّي النابه.

العُنوانُ شَاخصاً دَلاليَّاً:

التَّهميشُ والتَّغييبُ والسكوتُ عنه عن قصدٍ أو غيرِ قصدٍ مظاهرٌ سيِّئةٌ لمفاهيمَ مجتمعيةٍ عديدةٍ أفرزتها تجلِّيات ديستوبيا الواقع الحياتي القمعي الفوضوي الفاسد الذي ألقى بِظُلمه القاسي لبني الإنسان وعبث بحركة سعيه الاجتماعي والاقتصادي والعملي. والتي تُعيق وجوده الفكري والأدبي والتحرُّري المستقبلي نحو التعايش والتواصل الجمعي بطريقة لائقةٍ تضمن له سُبِلَ حرية العيش الكريم دون تحدياتٍ جمَّةٍ أو مواجهاتٍ عقيمةٍ، فتكونُ المشاعر الإنسانية والعواطف الجيَّاشة حيالَ ذلكَ الطارئ مُعلَّقةً على جُدران لائحة الانتظار وقائمة الفشل والنكوص والهزيمة الذاتية والانكسار الروحي والوجودي الأنوي في مواجهة تداعيات فعل الاغتراب وإشكالاته العقيمة المؤلمة للنفس.

ما تَقدَّم من طرحٍ يُشكِّل المعنى الدلالي القريب لشخاصيَّة العنوان الإثرائية، والتي من خلالها يتمُّ الكشفُ عن مرجعيات وظائفه (التعينيَّة والوصفية والإيحائية والإغرائية)، تلك الوظائف الفاعلية الأربع المهمَّة التي اقترحها جيرار جينيت في عتباته النصيًّة التي لها وظائفها التعريفية لمهمَّة، ولها الأثر الكبير في الدخول إلى مدينة القصِّ السردية ومعرفة مكامنها الوجودية. فمن خلال هذه الوظائف لا بدَّ من تعيين الأثر النصِّي للعمل الإنتاجي وتعقُّب دلالاته ومحتواه الكلِّي، ومنحه قيمةً فنيَّةً، وحضُّ القارئ وتحفيزه على الانجذاب إليه وإغرائه فكرياً على التواصل مع نصِّه الموازي.

فحينما يكون الأثر الأدبي جملةً اسميةً قائمةً بذاتها التركيبية والمعنوية مثل، (عواطفٌ على لائحةِ الاِغترابِ)، يكونُ العنوانُ جديراً بالمتابعة والاهتمام تحليلاً وتعليلاً وتأويلاً وتفكيكاً نصيَّاً لشفراته اللُّغوية السياقية والدلالية النسقية التي تُسهَّل مهمَّة المُتلقّي والقارئ في آليات التلقِّي القرائي والسياحة المعرفية والفكرية بِحِفْرياتِه الأثرية ولُقاه الجوهريةالثمينة التي تَجعله عملاً أدبيَّاً شاخصاً.

 (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ)، هي الّلَافتةُ الضوئيةُ والعتبةُ العنوانيةُ الفنيَّةُ المُشعَّةُ بتمايزها لهذه المجموعة القصصيَّة السرديَّة التي نحنُ بصددِ دراستها وتفكيكها للأديبة العراقية المغتربة الروح والجسد، ذات الأوجه الشموليَّة المُتعدِّدة الكتابة، الشاعرة والروائية والقاصَّة الكاتبة ذكرى لعيبي، والصادرة بطبعتها الأول عام (2025م) عن دار الشؤون الثقافية العامة في بغداد/ العراق، ومن فئة القطع الكتاب المتوسِّط الحجم الذي ناهز المائة والخمسين صفحةً من الناحية الكمية.

وتضمُّ موضوعات هذه المدوَّنة السردية ثلاث عشرةَ قصَّةً، كلُّ قصَّةٍ من هذه القصص لها واقعتها الفكرية، ووحدتها الموضوعية الحدثية الخاصَّة، والمُغايرة لنظائرها الأخرى من حيث نظام شخصياتها ووحداتها الزمانية والمكانية ووحدتها العُقدية وصراعها وفِعلِيَاتها الحدثية التي ترتبط ارتباطاً كليَّاً بنواة الوحدة العضويَّة والموضوعية لهذه المدوَّنة. وأنَّ أغلب شخصيَّات هذه المدوَّنة هُنَّ من النسوة المغيَّبات في الظلِّ وخلفَ الجدران المغلقة، وثلةٌ من العناصر الذكورية المؤثرة.

وفي التجنيس الأدبي تحديداً نستطيع القولَ، إنَّها مجموعة قصصيَّة سردية أنثوية تخصُّ هموم المرأة بامتياز ومن اللَّواتي يشعرن بالهزيمة التامَّة والانكسار الذاتي والرُّوحي والتراجع النفسي، وعدم تحقيق المأمول بالشكل الذي يوافق خطِّ رغباتهُنَّ الشخصيَّة وطموحهُنَّ الفعلي المستقبلي في الحياة؛ نتيجة عوامل وأسباب داخلية وخارجية جمَّةً؛ وإثر ضغوطات الحياة، والارتباط بالعادات والتقاليد الاجتماعية والعشائرية المتوارثة التي فرضت نفسها على كاهل حياتهُنَّ الذاتية.فضلاً عن الشعور بالفقر والفاقة والعوز والحرمان الاجتماعي والاقتصادي والتباين الطبقي والفكري الواقعي القائم.

وعلى الرغم من أنَّ شخصيَّات هذه المجموعة القصصيَّة الأنثوية تنتمي إلى بلدانٍ آسيويةٍ فقيرةٍ وعربية ومحليَّةٍ مسلمةٍ وغير مسلمةٍ، فإنَّ اللَّافت للنظر فيها أنَّ موضوعات هذه المجموعة القصصيَّة هي حكايات أغلبها حقيقية الوجود، ومستمدَّة من الواقعة السحرية للمجتمع، وإنْ امتزج بعضها بالطابع الخيالي الأسطوري الذي يُضفي عليها بُعداً فنيَّاً وجمالياً أخَّاذاً؛ لِأنَّ الكاتبة ذكرى لعيبي هي جزء لا يتجزأ من موضوعات هذه المدوَّنة وبطلة رئيسة من أبطال قصصها الفاعلية.

وقائعها، هي أشبه بمشاهد حكاياتٍ ميلودراميةٍ سرديةٍ بصريةٍ حيَّةٍ عاشتها الكاتبة بكلِّ تفاصيلها خلال مُدَّة إقامتها العملية الطويلة في دولة الإمارات العربيَّة، وتحديداً بإمارة الشارقة، وأثناء رحلتها الطبية العلاجية والاغترابية بالمنفى في ألمانياً، مضافاً إليها وَقَعاً كبيراً من حياتها الأوليَّة بالعراق.

فهذه التجربة الإبداعية الصادقة الفعل في معناها ومبناها التكويني تكاد تكون مزيجاً صوريَّاً بين تجلِّيات الواقع العربي الحياتي اليومي المألوف في رتابته، وبين حقيقة الواقع الغربي المغاير قانوناً ونظاماً وأخلاقاً وتعاملاً إنسانياً لافتاً. بل تكاد تكون هذه الرحلة القاريَّة توثيقاً عينياً وسيريَّاً ذاتياً لشخصيَّاتٍ أنثويةٍ مسحوقةٍ تسابقْنَ مع رياح التَّحدي وعركْنَ يدَ الزمن التي طالتهُنَّ وذُقْنَ مرارة شظف العيش وقيود حرية التحرُّر من ظلم الإنسانية وقسوة أنظمتها الاستبدادية التتابعية الحاكمة.

وعلى الرغم من كلِّ هذه الانحسارات والانكسارات الذاتية المتتالية التي واجهتها شخصيَّات هذه المجموعة من عواقب وأزمات وتحدَّيات وصعاب وانتظار طويل على قائمة الركون والإهمال والتهميش المجتمعي والشعور ذاتياً بالدُّونية فاقت حتَّى الأنظمة والقوانين، فإنهُنَّ برغم المرارة والوجع والفزع النفسي لم يفقدْنَ أبداً الأمل بالحياة والإنسانية في تحقيق الذات الوجودية الطامحة.

إنَّ هذا الشعور الحياتي بالتشتت والرغبة الشديدة بالإقدام في حياكةِ خُيوطِ الشَّمسِ لمَنْ رامَ الوصول إلى عُلاها بشتَّى الطرق والمنافذ الإنسانية والاجتماعية المناسبة، كدَّاً وتعبَاً ونَصَبَاً في كسر صخرة سيزيف وتحطيمها إرادياً وفعليَّاً بهذا الصبر والجَلَدِ والإصرار العجيب في نيل المطالب والتمنيات كما يُلَوُّحُ إلى ذلك المشهد الهَاملتي الدرامي (أكونُ أو لا أكونُ)، (وإلَّا فَلَا لَا).

كُل هذا الشعور الإنساني العالي الهمَّة كان مزيجاً من الألم الدامي وفُيُوضات من نثيث الأمل الشفيف المتنامي، هو النسق الدلالي العميق والخفي المضمر البعيد الذي يغمر طيَّات هذه المدوَّنة، ويكشف آفاق وبواطن نسيجها السردي العميق الذي اشتغلت عليه الكاتبة في مركزية اشتغالاتها الفكرية والموضوعية، والتي أعطت هذا العمل الأدبي ميزةً إبداعيةً وجماليةً على مستوى الجامعة الإنسانية الكبرى للوجود الجمعي المشترك، والتي تجمع بين أبطال وشخصيَّات هذه السرديَّات الموضوعية المتباينة، والتي هي تعضيد للحياة للحياة الإنسانية بكل جوانبها وأبعادها المُختلفة.

وبالتالي هذا هو المعنى الحقيقي لتجلِّيات العنوان القريبة والبعيدة التي تصيَّرتْ ثِيمٌ وَقائعهِ الكونية إلى عواطف ومشاعر فائرةٍ مُوَّارةٍ لا تعرف الفتور والقنوط برغم من أنها تشعر بالتشظي والتشرذم والاغتراب الشخصي على لائحةالانتظار.وتأتي عتبة الإهداء لتكشفَ حقيقةَ الوجد التواقة لشخوص هذه المجموعة في تحقيق الحلم، لكنَّ خبايا القدر المحتوم وسهامه قتلت الحُلُمَ ورؤياه.

إذنْ -وباختصارٍ شديدٍ-إنَّ المعنى الدلالي القريب للعنوان يوحي بوجود عواطف ومشاعر إنسانية كبيرةٍ مُهتاجةٍ تعيش حالةً من الانفصال والاغتراب الذاتي الكبير، وقي الوقت ذاته تركِّزُ رمزية العنوان على الحالة النفسية والإنسانية لهذه الشخصيَّات المختارة لبنية هذه المجموعة التي تعاني من الحرمان الإنساني المجتمعي ورافديه الوجع والاغتراب وتأثير ه على عواطفها ومشاعرها.

أمَّا المعنى الدلالي البعيد للعتبة العنوانية (عَواطفٌ عَلَى لَائحةَ الاِغترابِ) فإنَّه يَعدُّ الاغتراب كحالةٍ وجوديةٍ أو حالةٍ إنسانيةٍ عامةٍ، حيث تُعاني هذه الشخصيَّات الأنثوية من مشاعر التشتت والانفصال أو العزلة الفردية في مختلف جوانب الحياة اليومية الضَّاجة بالمفارقات الإنسانية. لذلك فإنَّ العنوان يوحي ويُلوُّح سيميائياً بأهمية البحث عن الانتماء الوجودي وأصل الهُوية في مواجهة تحدِّيَات الاغتراب والانفصال الذاتي الذي يُسيطر على هواجس تلك الشخصيَّات وأفكارها الذاتية.

تَجلِّياتُ رِحلةِ البَحثِ عَنْ هُويَّةِ الانتماءِ:

وقَبلَ أنْ نخوض العمل في تناول التجارب الحيَّة الشخصيَّة لأبطال مدوَّنة (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ)، وكيفية التعامل مع مشاعر الاغتراب الوجودي والنفسي والتغريب الذاتي، والكشف عن قصص هذه العواطف والمشاعر الإنسانية المائرة في سياق قضية الاغتراب لا بُدَّ من أنْ نفهم هُوية الانتماء المفقودة في مواجهة هذا الذي يسمَّى الاغتراب النفسي والوجودي من خلال التساؤال التالي: ما مَعنى هُويةِ الانتماءِ الإنساني المفقودة التي يسعى في البحث عنها الإنسان في صراعه؟

وبأقصر الإجابات عن هذا التساؤل المشروع. إنَّ مفهم هُويَّة الانتماء المفقودة في مواجهة هذا الاغتراب الكينوني تُشيرُ نسقيَّاً إلى حالة الشخصيَّة الفردية أو الجماعية التي تفقد الإحساس كليَّاً بالانتماء إلى المكان أو المجتمع الذي تعيش فيه أو الثقافة المعينة التي تتعاطاها أو درجت عليها إثر شعورها بالاغتراب أو الانفصال عن جذورها البيئية أو أصولها المُحيطية والمكانية الضاربة.

أمَّا السؤال الآخر الذي يرتبط بالسؤال السابق الأول ويُلقي بنفسه على المُتلقِّي كي يفهم معنى تساؤله القصدي الإيضاحي، ما مفهومُ هُويَّة الانتماء المفقودة؟ وهذا يعني أنَّ هُويَّة الانتماء المفقودة بالشعور يمكن أن نفهمها شخصيَّاً على أنَّها فقدان الشعور الذاتي بالانتماء الحقيقي، وهذا ما نستشعره أو تحسُّ به الشخصيَّات المكافحة لهذه المجموعة القصصيَّة بفقدان الإحساس الوجودي لديهم برغبة الانتماء الجديد إلى المجتمع وحده أو الوطن الكبير أو الثقافة الحياتية البديلة.

فضلاً عن ذلك كلِّه ما يحصل للهُويَّة الشخصيَّة يمكن أنْ يؤثِّر فقدان هُويَّة الانتماء سَلباً على الهُويَّة الشخصيَّة لأفراد تلك الشخصيَّات شعورها بالذات. وهذا يؤثِّر أيضاً على حركتها الفواعلية ونكوصها في المجتمع. والحقيقة أنَّ لهُويَّة الانتماء المفقودة أسبابهُ ومسبباتهُ الكثيرة التي تجعله ظاهرة اجتماعيةً خطيرةً لا ببدَّ ممن مواجهتا فعلياً بدلاً من الهروب عنها.

فمن بين هذه الأسباب الشعور بالاغتراب الذاتي النفسي عن الأصول الأولية لتلك الشخصيَّات، فيحصل لديها شعور بالاغتراب عن الوطن الأصلي (المجتمع)، أو الثقافة اللَّصيقة الأصليَّة التي درجت عليها وتلبَّست بها عُرفاً وعملاً واكتساباً. وهذا بدوره قد يؤدِّي كثيراً إلى الشعور بفقدان هُويَّة الانتماء إلى الأصل وضياعها. كما أنَّ التغيُّرات الاجتماعية والثقافية الحاصلة في المجتمع أو الثقافة العامة يمكن أنْ تؤثِّر سلباً على شعور وإحساس الشخصيَّة الفردية برابطة الانتماء.

ولهوية الانتماء المفقودة في مواجهة الاغتراب في هذه المدوَّنة القصصية السردية تأثيرانِ مُهمَّان، أولهما: شعور شخصيَّات أو أبطال هذه المدوُّنة بعوامل الضياع والتشتت والتِّيهِ والانفصال عن المجتمع الأول أو النواة، والثقافة المجتمعية الأصلية كما مرَّ بنا في الإشارة إليها. وثانياً: قد يؤدِّي ذلك التأثير بفقدان هُويَّة الانتماء إلى بحث هذه الشخصيَّات عن بؤر انتماء أو استقطاب جديد أو إعادة التعريف بالهوية الشخصيَّة المفقودة بحسب ما تجده ملائماً لحياتها التحوُّلية الجديدة .

وإزاء هذا التأثير السلبي لا بُدَّ من مواجهة حقيقية لعوامل الاغتراب والبحث عن هُويَّة الانتماء المفقودة التي يناضل من أجلها الفرد ويخاطر بنفسه، ولا يمكن أنْ يواجه هذا السبيل العاصف لذاته الوجودية إلَّا من خلال البحث عن كفية التوازن بين الانتماء إلى الثقافة الأصلية أو الشعور ببناء روابط جديدة مع البيئة الاجتماعية والثقافية المُتَبنَّاة الجديدة التي طرأت على خطِّ حياته بديلاً عنها.

ومُلخصُ القول الإيجازي للانتماء، إنَّ رحلة البحث الطويلة عن هُويَّة الانتماء المفقودة في مواجهة ظاهرة أو مسألة الاغتراب الذي يُعانيه أبطال وشخصيَّات هذه المدوَّنة القصصيَّة (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ) بشكّلٍ دائمٍ، تُشيرُ موحياتها الدلالية ومظان قصصها الحكائيَّة الفاعلة، وتجريبها السردي الدرامي الذاتي والوجودي إلى مجموعةٍ كبيرةٍ من التَّحدِّيات والصِّعاب والعقابيل الحياتية الراهنة التي يواجهها أفراد وشخصيَّات هذه المدوَّنة القصصيَّة في كيفية الحفاظ على خطِّ توازن إحساسها ومشاعرها الشخصيَّة الصادقة بالانتماء الحقيقي في ظلِّ ظاهرة الاغتراب أو التغيُّرات الثقافية والتحوُّلات السريعة التي فرضت نفسها أصلاً على أرض الواقع البيئي والاجتماعي الجديد.

تَمثُّلاتُ مَظاهرِ مُواجهةِ الاِغترابِ الذَّاتيّ:

لم تكن مسيرة البحث عن فقدان هُويَّة الانتماء الأصلي الذاتي في مواجهة مظاهر الاغتراب النفسي والوجودي لشخصيَّات مجموعة (عَواطفٌ عَلَىَ لَائحةِ الاِغترابِ) عند الكاتبة والقاصَّة المثابرة ذكرى لعيبي أُسلوبيَّا تتخذُ طابعاً موضوعيَّاً تدويرياً رتيباً واحداً مُكرَّراً، وإنَّما كان لكلٍّ قصةٍ من قصص هذه المجموعة الثلاث عشرة قصةً، لها صفاتها الواقعية الحدثية المُميَّزة والمؤثِّرة موضوعيَّاً في عملية التلقِّي القرائي المعرفي والتراسل الثقافي الذي يجعل منها وحداتٍ موضوعيةً وفكريةً تُسهم في بناء ثقافة القارئ بناء سليماً وفاعلاً موصلاً لضفاف الحقيقة الفكرية.

وتكشف عن مدى الظلم الذي تُعانيه (الجامعة الإنسانية) من تَعسُّفٍ كبيرٍ وجحودٍ وانكسارٍ وخيبةٍ ووجعٍ دائمٍ وخسرانٍ مُبينٍ طالها من يدِ الزمن وجَوره القاتل الذي هو بطبيعة الحال بؤرة هذا العمل الأدبي القَصصي المَكين ومركزه الذي لا يقف عند حدٍّ من حدود الإنسانية ومظاهرها العديدة التي زخرت بها طيَّات هذه المجموعة وامتلأت حركتها الفواعلية المتنامية بعديدٍ من وقائع الأحداث الفعلية المؤثِّرة على سلوك وتصرُّفات شخصيَّاتها الارتكاسية المأزومة زمكانيّاً وبيئيَّاً.

لقد عكفت القاصَّة التأصيلية ذكرى لعيبي على تجسيد أرقى معاني الإنسانية وأحسنها اتِّصالاً بشخصيِّة الإنسان من أجل تحقيق هدف تكاملها الذاتي في العثور على هُويَّتها الوجودية وانتسابها للمجتمع الإنساني الذي يعاني من آفةٍ ويلات الاغتراب الذاتي التي تُطيح بأخلاقه ومستقبله وتطلّعاته الشخصيَّة على المدى الذاتي البعيد دون هوادةٍ.

على وفق ذلك الهاجس الاغترابي المُلِحِ أنَّ أبرز موضوعات هذه المجموعة القصصيَّة تسريداً وتعضيداً بأهمية الإنسانية وشخصياتها، يأتي التهميش والظلم والهزيمة والبحث عن الحُريَّة الذاتية من أهمِّ موضوعات هذه المدوَّنة، ويُكملهُ الشعور بالوحدة والفراغ وعقابيل تجارب الفشل التي مرَّت به الكاتبة في حياتها السيرية، التي هي جزء مهمٌّ ورافدُ مغذٍّ لها في تماهيه لكينونة شخصيَّاتها الأنثوية. فضلاً عن مشاعر الحُبِّ وسيل رسائل الانتظار العاطفي بلغة النثر الخواطري الشفيف.

وقد وردت بعض من شخصيَّات هذه المدوُنة الفواعلية ذكوريةٌ كما هو الحال في سردية شخصيَّة الحارس اللَّيلي الذي اُتُّهمَ غرائبياً من قبل ملك أو سلطان المدينة بأنَّه قاتل له في أحلامه. وقد تجسَّد ذلك في أروع تسريد حكائي خيالي. ثمَّ التفتتِ الكاتبة إلى أُسلوب التماهي في الحديث عن ذاتها الشخصية والسيرية خلال التقارب في سردها الارتحالي بينها وبين إحدى شخصيَّاتها الأنثوية التي تتلقَّى العلاج الكيمياوي في إحدى مشافي ألمانيا، وباتَ التفريق بين الكاتبة وشخصيَّة بطلتها صعباً.

وقد أخذ موضوع الحديث عن مُخيَّم النسوة اللَّاجئات الأسيويات وأوضاعهُنَّ الحقيقية الخاصَّة مِساحةً مهمَّةً وكبيرةً من وقائع هذه المجموعة المؤثِّرة إنسانياً في آليات التلقِّي السردية بالقارئ. ويخيَّل إليك أنَّ الكاتبة تعيش مظاهر الشعور الاغترابي نفسه وتشارك شخصياتها الأمل في تحقيق الحُلم المراد المنتظر. ويأتي الحديث عن فشل العلاقات الزوجية من صميم هذه السرديَّات؛ نتيجة الإهمال الذاتي والانجذاب لهُوَّية المثير الآخر في المحيط الاجتماعي والبيئي الجمعي المشترك.

أمَّا موضوعة الانصياع والتمسُّك بالعادات والتقاليد والأعراف العشائرية العراقية المتوارثة التي كانت سبباً من أسباب تخلف المجتمع وانحرافه السلبي، فهي من الموضوعات الداخلية الأخرى التي وظَّفتها الكاتبة توظيفياً إنسانياً حقيقياً متمايزاً؛ بوصفها ابنة الواقع الريفي الجنوبي والعشائري العراقي؛وكونها ذاتياً امرأة شيخانية ذاتَ حسبٍ ونسبٍ عشائريٍ عريقٍ وابنةَ شُيوخ وأصل عريقٍ.

وقد أعقب ذلك التسريد الواقعي الحديث عن فعل جريمة مُدبَّر بقتل شيخ عشيرة جنوبي كبير صاحب بختٍ وحظٍّ ومعروف النسب لها في مضيف أخية الشيخ؛ وذلك من خلال حكايته الإشكالية التي روتها ابنته، والذي تعاطفت معه الكاتبة وانشغلت ذاتياً في حقيقة وصدق هذا العمل المروُّع للإنسانية. ومن إفرازات هذا التقاليد العشائرية وسُنَنِها العُرفية المكروهة فعلاً واقعياً ما أنتجته بما يُسمَّى بـ (الفُصْليَّة) أو زواج الدم الذي كان من سرديَّات هذه المجموعة الجريئة في الطرح والتعليل والتأويل والبناء القصصي الذي عالجته الكاتبة بصدقٍ للكشف عن قَباحة ظلم هذا الفعل المجتمعي.

أمَّا الحبُّ والمشاعر والعواطف والأحاسيس التي كانت ظلَّاً لرسائل التواصل الاجتماعي، فهي الأخرى من مظان هذا التراسل السردي الإنساني بين الكاتبة والقارئ النابه للوصول إلى ضفاف الواقعية.وتختم الكاتبة موضوعات رحلتها الوجودية الحقيقية في مواجهة راهن الانتظار الاغترابي بمجموعة حكائيَّة مُختارة بعناية فائقةٍ من بين قصص الشخصيَّات الاجتماعية الذكورية والأنثوية المُهمَّة الوقع في مآثر المجتمع العراقي والعربي الفاعلة. تلك الشخصيَّات التي كانت تعاني التعب والإرهاق والفشل والقنوط والإحباط الشخصي وأزمات التنكر المرير؛ بسبب إجبار أفرادها على القيام بفعل مكروه لا تُحمد عقباه الأخيرة ونتائجه البينية الخطيرة ؛ لذلك لا بُدَّ من الثورة عليه.

وفي ظلِّ هذه القراءة السريعة التي ألقينا عليها الضوء الكاشف عن وقع تمثَّلات البحث عن هُوية الانتماء المفقودة في قصص هذه المدونة السردية الثلاث عشرةَ؛ ونتيجة لأهميتها الإنسانية والفنيَّة والموضوعية لا بُدَّ من الوقوف على تحليل نصوص هذه القصص الإبداعية والكشف عن معاناة شخصياتها وتفكيك جماليات حفرياتها الأسلوبية، ومن ثمَّ التعرُّف بعمق على تحليل وقائعها الحدثية والنفسية التوترية الظاهرة والخفيَّة في منافي الاغتراب الذاتي، معتمدين في ذلك على مرجعياتها.

1- قصة (أكاتشي)

تعدُّ قصة الفتاة (أكاتشي) من أبرز تمثُّلات البحث عن هُوية الانتماء الإنساني المفقودة والاغتراب الوجودي والنفسي وأولها مع ثلاث فتياتٍ آسيويات مُسلماتٍ، ورابعة أخرى من الديانة المسيحية وهُنَّ: (تشينو وأديسا وفيمي أيبيل)، من اللَّواتي كُنَّ يعملن في خدمة البيوت الخليجية بإمارة دبي؛ بسبب ضيق الحال والضياع الوجودي والفقر والحاجة والعوز والقهر الاجتماعي والاقتصادي.

ونتيجةً لكثرة المضايقات والضغوط والابتزاز والتحرُّش الجنسي، وتشابك المشاكل مع هذه الأُسرِ في الإمارات اضطررْنَ للبحث عن هُوَّيةٍ جديدةٍ مفقودةً وذاتٍ مُغيَّبةٍ فَقَدِمْنَ إلى ألمانيا من أجل الحصول على لُجوءٍ إنساني. ولكلِّ فتاة من الفتيات قصَّةً خاصةً وعجيبة تُميِّز سيرتها الذاتية عن غيرها، ومن تلك التي ترويها الكاتبة وتوثُّقها بصدقٍ عن أيبيل الفتاة المسيحية التي تعمل خادمة في أحد البيوت وقصتها مع الشاب أحد أبناء العوائل الخليجيَّة في إمارة دُبي وما فعله من انتهاكٍ وابتزازٍ وتَحرُّشٍ جنسيٍ بهذه الفتاة المسالمة التي أخفت ديانتها عن والده للاحتفاظ بعملها الخدمي:

"فَبدأتْ رِحلةُ الاِبتزازِ القَذرِ، بَينَ إخبارِ وَالدهِ، فَينهِي عَملهَا، أوْ التَّغاضِي بَشرطِ تَلبيةِ مَطلبهِ، وَلَمْ تَقوَ عَلَى فِعلِ شَيءٍ غَيرَ الرُّضوخِ لَهُ، الصَّادمُ وُصولُ الأمرِ إلَى أنَّهُ بَدَأ َيَدعو أصدقاءَهُ، وَكأنَّها أَمَةٌ مُستباحةٌ، فَثارتْ، وتَمرَّدتْ، وَحَاولتْ أنْ تَنتَحرَ مَرَّةً، وَأنْ تَقتُلَ اِبنَهُم مَرَّةً أُخرَى، فَساعدَهَا شَابٌ مِنْ نَفسِ جِنسيتِهَا بِالهَربِ والسَّفرِ". (عَواطفٌ عَلَى لائحةِ الاغترابِ، ص 13).

تبدأ رحلة البحث عن الذات حين التقت الكاتبة الساردة بهذه الفتيات الخمس التي تعرَّفت عليهنَّ من خلال الخادمة (أكاتشي) التي كانت على معرفة سابقة بالكاتبة في دبي، والتي كانت لها حكاية سيريَّة خاصَّة بها تعني لها الكثير. فَدُبَي بالنسبة للكاتبة والقاصة تعدُّ مدينةَ لقاء الأحبة ومفصل مفارقتهم:

"دُبَي...آهٍ دُبَي...الإِمارةُ الَّتِي تُسابقُ الرِّيحَ والتَّطورَ والبِناءَ وَالنُّموَ والتَّعميرَ وَجذبَ السُّوَّاحِ. دُبَي الَّتي طَبطَبَتْ عَلَى كَتِفِي، وَمَدَّتْ يَدَهَا لِي قَبلَ أنْ تَطالَنِي أيادِي الجُبنَاءِ لأتركَهَا مُرغَمَةً..." (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 6).وفي الجملة الأخيرة نسق ثقافيٌ خفيٌّ حقيقيٌّ يخصُّ جانباً مُهمَّاً من حياة الكاتبة وسيرتها الشخصيَّة التي ذاقت فيها علقم الاغتراب الذاتي خلال مدَّة وصولها لهذه المدينة.

فَدُبي هي المدينة التي تشكِّل هاجساً أوليّاً؛ كونها نقطة البداية الأولى التي انطلقت منها في رحلة البحث عن ذاتها الحياتية الشخصَّية القلقة، وعن أمالها وآلامها التي أخذت تتَّسع وتخبو، وتظهر وتضمحل. ما أقسى الفراق والضياع والتِيه حين يبدأ بلقاء الأحبة وينتهي بالترحال عنهم غصباً واضطراراً! مشاعر حقيقية تنتاب الكاتبة الساردة ذكرى، فتقول عند لقائها الأخير بالفتاة أكاتشي:

" شَمَمتُ عِطرَ المَدينةِ الَّتي أعشقُهَا، وَرَأيتُ بِملامِحهَا وُجُوهَ الأحبابِ الَّذينَ تَركتَهُم هُناكَ، مَا أقسَى المَسافاتِ الَّتي تَحكمُهَا أوجاعُ النَّفسِ والأمسِ!" (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاغترابِ، ص7).

وبعد أن خاضت الكاتبة في حِلِّها وتِرحالها الداخلي بالأمارات أكثر من محطَّة سفر وإقامةٍ استقرَّ بها الحال في إمارة الشارقة والعمل بها كَمُديرةِ تحريرٍ في إدارة مجلة (الشُّرطيُ الصغيرُ) الصادرة عن القيادة العامة لشرطة الشارقة. فراحت الكاتبة تبحث عن وجودها الذاتي والمستقبلي الكينوني في اللُّجوء الإنساني إلى ألمانيا، إبَّانَ جائحة كورونا (كوفيد19). والتي جمعتها مع النسوة بالذات:

"عَلَى أحدِ أَطرَافِ مَدينةِ (بَامبيرغ)، الوَاقعةِ فِي شَمالِ وُلايةِ بَافاريَا الألمانيةِ، يَقعُ مَبنىً ضَخمٌ مُسوَّرٌ بِأسلاكٍ شَائكةٍ، ذُو بَوابتينِ يَحرسُهُمَا مَجموعةٌ مِنْ رِجالِ الأمنِ الخَاصِّ". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 3).

ومن بين الأسباب الأخرى التي جعلت ذكرى لعيبي أنْ تبحث عن أماكن ومثابات أخرى للاستقرار الحياتي والنفسي، هذا الحوار الذي دار بينها وبين الخادمة أكاتشي، وكان حوَّاراً حقيقياً مؤلماً للنفس الأمَّارة بالوجع والألم والإحباط والهزيمة والشعور بالتراجع بيدَ أنَّ لا مناص من تحقيق الذات:

"أنَا يَا أكاتشِي مِثلَكِ، أَيضَاً هُناكَ عُمرٌ يَضيعُ مِنْ دُونَ مُستقبلٍ، نَحنُ مِنْ بِلادِ الحُرُوبِ، وَأنتُم مِنْ بِلادِ الفُقرِ والجُوعِ، وَجميعُنَا نَبحثُ عَنْ بِلادِ الأحلامِ والأمَانِ". (عَواطفٌ عَلَى لائحةِ الاِغترابِ، ص 9).

ومن اعترافات الكاتبة السيريَّة المُهمَّة التي سطَّرتها عن وعيٍ وإدراكٍ وبعفويةٍ تلقائيةٍ إنسانيةٍ مؤثِّرةٍ أحد أسباب هروبها من العراق ومجيئها للإمارات ولجوئها لألمانيا لرحلة العلاج الشخصيَّة:

"هَذهِ اللَّيلةُ أصابني الأَرقُ، وَمَرَقَ أمامَ عَينَي شَريطُ صُورٍ وَأحداثِ سَنواتٍ طَويلةٍ، بَدَأ مِنْ هُروبِي عَنْ بَلدِي مِنْ قُربِ ضَفةِ أحدِ الفُراتينِ، حَتَّى اِستقرارِي فِي الأُماراتِ فَترةً مِنَ الزَّمنِ، وَأخيرَاً لُجوئِي إلَى ألمَانيَا". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 6).

وعن مشاهداتها لمناظرالطبيعة الألمانية وظروفها المُناخية الماطرة تُسطُّر الكاتبة لعيبي من خلال تراسلها التسريدي لقصةِ أكاتشي مَشاعرَها الذاتية وثقافتها الشخصية المعرفية التي اكتسبتها من ثراء قراءتها واطِّلاعها على شعر (بدر شاكر السيَّاب) خَالدُ الذِّكرِ، وعن (أنشودةُ المَطَرِ) في قصيدة (شَناشيلُ ابنةُ الجَلَبِي):

 (يَا مَطَراً يَا حَلَبِي / عَبِّرْ بَناتِ الجَلبِي/ مَطَرٌ مَطرْ .. يَا شَاشَا عِبّرْ بَناتَ البَاشَا. ونتيجةً لشعورها الإنساني الضافي أنَّها ابنة شيوخٍ وأصلٍ وفصلٍ وعِزٍّ، وقد أزرى بها الدهر إلى منافي الغُربة والقهر والمَرض والمُعاناة، فقد التفَتَتْ إلى تحويرِ قصيدة السيَّاب؛ لكونها تشعر بغربةً قاتلةً فقالت متماهيةً مع مشاعر السيَّاب وغربته وحنينه لأهله وبيته جيكور ووطنه الكبير العراق:

"مَطَرٌ ... مَطَرٌ شَاشَا، تَغرَّبَتْ بِنْتُ البَاشَا". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 14 ). ويَلوحُ لي كثيراً، أنَّ النسق الخفي المضمر لعبارة (بِنتَ البَاشَا) هوِ الكاتبة نفسِها، ابنة شيخ العشيرة العام الباشا المشهود له بالوجاهة الاجتماعية والعشائرية القبيلة والرأي السديد والحظ والبخت والفراضة والحكم بالصلح والتراضي بين العشائر المُتخاصمة حول أمر جللٍ أو حادث ما حدثَ لها مع نظائرها الأخرى..

2- قِصَّةُ (عَواصِمُ الرِّيحِ)

عنوانٌ لافتٌ المعنى لقصِّةٍ مؤلمةٍ، إنّهاَ مُدنُ وعواصم المنفى التي تُشبه الريح العابرة بالنسبة لطالب اللُّجوء إلى هذه المدن الساحرة بجمالها ونظامها، والموحشة بوحدتها وفراغها. إنَّ الشعور بالاغتراب النفسي الذي لم تعتَدْ أو تتعود الساردة العليمة عليه؛ بوصفها امرأةً شرقيةً لها مذاقها الخاص في العيش والحياة الجديدة التي وطأتها قدماها وأصبحت ركناً مهماً دائماً لا يُغادر نفسها أو يخرج منها إلَّا للضرورة التي تستدعي ذلك الإقدام عليها دون تباطؤ أو إحجام يمنعها عنها:

"لَمْ أعتَدْ هَذَه الحَياةَ بَعدَ، هُدوءٌ حَذرٌ يُغلِّفُ المَنافَي، وُجوهٌ بَاردةٌ تَمامَاً كَبرودةِ الطُّقسِ هُنَا، شَوارعٌ شِبهُ خَاويةٍ مِنَ المَارةِ، رُكوبِ المُواصلاتِ العَامَّةِ الّتي لَمْ أُجربهَا فِي حَياتِي قَطٌّ... اِمرأةٌ وَحيدةٌ تُقاومُ هَذا الزَّمنَ الصَّعبَ؛ زَمنٌ تَضيقُ فِيهِ مَعالِمُ الأمانِ، إنَّه اِغترابٌ بِامتيازٍ.. تَوجُّسٌ يُذكِّرُني بِوَيلاتِ الحَربِ وَسنواتِهَا، الَّتِي عَلَّمتنِي كَيفَ أنقرُ عَلَى الرُّوحِ وَترَ هَذا العُمرِ بِترّوٍ. جِئتُ أبحثُ عَنْ مَلامحِ وَجهِ السَّلامِ الَّتِي ضَيّعتهَا دُخانُ القَنابلِ، عَنْ الضَوءِ وَالعافيَةِ، عَنْ نَوافذَ جَليلةٍ مُشرِعَةٍ. اَستجدِي الدِفءَ أحيانَاً مَعَ بَعضَ الأهلِ وَالَّصديقَاتِ والأصدِقَاءِ، وَقَدْ تَمُرُّ أيامٌ لَا أكادُ أُسمعُ صَوتِي، فَألجَأ إلَى حخَانةِ الذَّكرياتِ". (عَواطفٌ عَلىَ لَائحةِ الاِغترابِ، ص15).

وعلى لسان حال بطلتها تمضي الكاتبة في سرد حكاياتها ووصف حال المنافي التي تبحث عنها علَّها تُحقِّق جزءاً مُهمَّاً يعوض عن قلقها الوجودي واستقرارها النفسي، فتصف الحياة الجديدة وكيف يمكن الحصول عليها بقوانين وأنظمة صارمة ومشقة وطول انتظار وترقُّبٍ وحذرٍ شديدين:

"الِإقامَةُ المُؤقتةُ الِّتي لَا نَحصلُ عَلَيهَا إلَّا بَعدَ فَترةٍ زَمنيةٍ طَويلَةٍ مِنَ القَلقِ وَالانتظارِ وَالتَّرقُّبِ! ..تَصدُّعِ مَا تَبَقَّى مِنَ الغِطاءِ الَذي يُغلِّفُ أمنياتَنَا! أوْ بَعدَ رَحيلِ أهلِ وَأحبَابِي لَمْ نُعانقُهُم! أو بَعدَ اِنهيارِ العَافيةِ وَعًهودِ مَاضيه جَرفُهَا تَيارُ العَبَثِ وَالفُرَاقِ". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاغتراب، ص 16).

وعلى الرغم من ذلك الحُلم المنشود والذي تسعى في الحصول عليه فإنَّها تعتبر الوصول إليه ضوضاء لا تعوض ساعة واحدة من لياليها. فالحبُّ طريق لا بُدَّ منه لتخطّي عقبات الزمن الجائرة ومواجهة تحدياته الراهنة التي تأكل القلوب، إنه مشكاة النور للعبور إلى أرض الضفة الأخرى:

"لَستُ بِخَيرٍ، تَكادُ الغُربةُ تَبتَلَعنِي، أنَا حَزينةٌ. المُشكلةُ لَا تَكمِنُ فِي الغُربةِ يَا صَديقتِي، بَلْ فِي الوَحدةِ، لَا بُدَّ أنْ تَتخذِي رَفيقَاً. أنتِ مَجنونَةٌ؟ صَحيحٌ أعيشُ فِي بَلدٍ أَجنبِيٍّ، لَكنْ مَا زَلتُ مُتمسكةً بِأخلاقِي. يَا حَبيبتِي تَفكيرُكِ ذَهبَ بَعيدَاً، أقصدُ تَرتَبطينَ فِي عَلاقةِ حُبٍّ أوْ زَوَاجٍ. زَواجٌ... تَجربَةٌ أخرَى! يَا قَلبِي مَنْ يَنظرُ إلَيَّ وَأنَا فِي هَذَا العُمرِ؟" (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 17).

ومن المشاهد الذاتية التي تعبر عنها الكاتبة على لسان حال شخصيَّة بطلتها، تجربة الزواج والارتباط بعلاقة حبٍّ ثانيةٍ توصلها إلى ناصية وِبرِّ الأمانِ والاستقرار فَتُبدِّدُ عن نفسها الوحدة وعامل الاغتراب والقلق الوجودي الذي تشعر به باستمرار في حياتها وهي تخوض غمارالطريق:

"مُنذُ زَمَنٍ طَويلٍ حَجَرتُ يَمَامَاتِ العَواطفِ وَالشوقِ دَاخلِ قَلبِي، كَيْ لَا تَقتَرِفَ التَّحليقَ ثَانيةً. بِالعكسِ صَديقتِي، كُلَّما تَقدمنَا فِي العُمرِ، نَكونُ بِحاجةٍ أكثرَ إلَى شَريكٍ يُؤنسُنَا، يُشارِكُنَا تَفاصيلَ الحَياةِ، نَتَحدَّثُ إليهِ، يَتحدَّثُ إلينَا، نَشرَبُ فِنجانَ قَهوةٍ مَعَاً، نَتمَشَى مَعَاً، نَمرَحُ، نَقرَأُ، نُسافِرُ... هُناكَ أشياءُ كَثيرةٌ مُهمَّةٌ فِي الحَياةِ غَيرَ (الفِرَاشِ)". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 17).

تجربةُ الحبِّ اتي تعاني منها بطلة هذه القصَّة والتي هي جزء من سيرة الكاتبة تمثِّل تجربةَ صراعٍ مريرِ معَ الحبِّ والخوف من الخوض بالذي رُبَّما يؤدِّي إلى الفشل والنكوص؛ لكن إيمانها بنفسها وبمن تحبُّ دفعها إلى المَغامرة الجديدة التي أقبلت عليها ولا تعرف الإدبار عنها مطلقا:

"قَرَّرتُ أنْ أتركَ سَكرَاتِ الفَنَاءِ، وَأحبِسَ الصَّمتَ الهَزيلَ، لِيَحُلَّ مَحَلَّهُ غِناءٌ مُفعَّلٌ بِروحِ المُغامرةِ الجَميلةِ، نَعَمُ سَأفعلُ هَذَا فِيمَا لَو اِتَّصلَ مَعِي مِنْ جَديدٍ. كُنَّا نُتابعُ بَعضَنَا عَلَى صَفحَاتِ الفِيسِ بُوك، نَتبادلُ الآراءً والتعليقاتِ عَلَى بَعض (البُوستَاتِ) الَّتي نَنشرُها، وَنتواصُل أحيانَاً بِالهاتفِ". (عواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 18)0

يمضي قارب الحبِّ في نهره الجديد متهادياً ينشد الوصول إلى ضفاف السلام الدافئ، بيد أنَّ هذا السلام العاطفي الرُّوحي صدَمَها عنيفاً في نهاية المطاف. فهي لا ترتضي أنْ تكون زوجةً (احتياط) لِعَلاقة حُبٍّ مؤقتةٍ، بل تسعى إلى أنْ تكون الأولى والأخيرة في بطانة قارب الزوجية السائر لمرافئ الأمان الزوجي والحياة الإنسانية التي لا روغان فيها أو تحايل على سُننِ الحُبِّ:

"صَفعتنِي فِكرةُ السيِّدةِ البَديلةِ وَغَرقتُ أُفكِّرُ، لَا أُحِبُّ؛ وَلَنْ أقبلَ أنْ أكونَ عُنوانَاً فَرعيَّاً، اِمرأةٌ احتياطٌ! سَيِّدةُ عَلَى هَامشِ الاِنتظارِ، كَعنوانٍ فَرعيٍّ في حَاشيةٍ حَياةِ أحدِهُم، . لَمْ يَكُنْ فِي أُفقِ طُموحِي هِكذِا طَرحٌ...". (عَواطفٌ عَلَى لائحةِ الاِنتظارِ، ص 25).

كلُّ هذه المشاعر الفياضة تسير وتمضي عبر وسائل الاتصال الاجتماعي المتاحة، وهي تعيش الفشل والنجاح في منفاها البعيد بألمانيا. وقد وصل بها الحال إلى تخيُّل حالة ذلك الحبيب والكائن الروحي المنشود وهو يحنو إليها ويمدُّ لها يدَهُ في خاتمة القصِّة التي هي جزء من سيرة ذاتية مُعبِّرةٍ عن حقيقة بطلتها:

"فَمُدَّتْ لِي يَدٌّ، تَحسَّستُها؛ يَدُ رَجٍل خَشنةٍ وَتَحملُ قُوةً أحتاجُهَا، تَشبثتُ بِتلكَ اليَدِ دُونَ أنْ أنظرَ لِوجهِ المُنقذَ؛ خَوفَاً مِنْ أنْ يكونَ رَجلاً آخرَ قَدْ يُسببُ لِي جِراحَاً أُخرى قَادمَةً". (عواطفٌ علَى لاَئحةِ الاغترابِ، ص 28).

3- قصَّةُ (رَسائلٌ قَيدُ الاِنتظارِ)

في مُفتتح هذه القصَّة ألمحتْ الكاتبة ذكرى لعيبي بأنَّ جُلَّ رسائلها العاطفية التي هيَ قيد الانتظار والأرسال تعدُّ رسائلَ الحبِّ والمشاعر والوجد والهجران من طرفٍ واحدٍ وهي كما تقول أشبه أو:

"مِثلُ كَاتبةٍ تَكتبُ نَصَّاً جَميلَاً مِنَ الغَزَلِ لِرجلٍ وَاحدٍ يَقرأهُ الجَميعُ مَا عَدَاهُ، هَكذَا بَدَتْ رَسائلِي إليكَ..." . (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 29).

في هذه القصَّة تنزاحُ الكاتبة القاصَّة إلى أُسلوب الخيال الممزوج بالواقع الحياتي المعيش عبر هذا العالم الافتراضي الجديد الواسع، فتكتب بلغةٍ شفَّافةٍ أقرب إلى لغة الشعر وأسلوب الشاعرية. إنها حكايات افتراضية على شكل خواطر حبِّ نفسيةٍ عميقةٍ تتماهى فيها مع من تحبُّ في تراسلها:

"كِلَانَا غَريبانِ، وَكِلَانَا نَحتاجُ أنْ نَتدفَأَ بِبعضنَا مِنْ بَردِ المَنافِي وَغَدرِهَا، الحُبُّ الكَبيرُ وَالحقيقيُّ؛ هُوَ الَّذِي لَا تُترجمُهُ جَميعُ مُفرداتِ اللُّغةِ؛ مِثلُ حُبِّي لَكَ، هَذهِ الرِّسالةُ العَاشرةُ كَتبتُها خِلالَ هَذَا الأُسبوعِ. اليَومَ وَأنَا أجلسُ فِي المُقهَى التُّركيِّ، هَلْ تَذكرهُ؟ المُقهَى الَّذِي اِتَّقفنَا أنْ نَلتقيَ عِندَهُ مُنذُ عَامٍ". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص31 ).

الرسائل العاطفية التي هي قيد لائحة الانتظار، هي رسائل البحث عن الفرح المغيَّب داخل نفسها المهتاجة وقلبها النابض. وهي جزء كبير من مشاعر المرأة وفعلها الذاتي في التعبير عن الرجل الذي تحبُّه ولم تجده بقربها في سلسلةٍ كبيرةٍ من مساوماتها لأحلامها وأوهامها ورغباتها الذاتية غير المُشبعة حينما تلجأ إلى الرجل ولم تجده حاضراً معها. مشاعر فرحٍ وحزنٍ محمومةٌ تنتابها حينما تستيقظ من غفلتها وغفوتها. هذا ما تكتبه على لسان واقع حال ومحال قصَّة بطلتها.

وقد دفعتها مشاعر الحبِّ والشعور بالفشل في خيط التواصل مع هُويَّة الأخر الذي تكنُّ له كلَّ الحبِّ والمشاعر الصادقة إلى أنْ تُوثِّقَ هذه العَلاقة الافتراضية الوهمية والمشاعر الحقيقية إلى اعترافٍ آخرَ من اعترافاتها بفشل هذه العَلاقة، عَلاقة التلاقي والاتِّصال الرُّوحي والجمعي؛ ولكنَّها أقرَّتْ إقراراً جميلاً بأنَّ عدم التواصل والتلاقِي وظهور إمارات التجافي قد يَحفظُ للحبِّ ديمومته الإنسانية الجميلة برغم الانقطاع. وفي خاتمتها التي تؤكِّد أنَّ هذه الرسائل برغم أنَّها قيدُ الإرسال، لكنَّها تُعدُّ تجربةً جديدةً في المشاعر والعواطف الوجدانية السَّاميَة وفيض الأحاسيس النابضة النقيَّة:

"بِصورةٍ أدقٍّ أعترِفُ أنَّ وُجودَ عَلاقةٍ-بِغضِ النَّظرِ عَنْ فُرصِ التَّواصلِ- أيَّةَ عَلاقةٍ سَتكونُ دَيدنَ يُبررُ اِستمرارَ النَبضِ فِي عُروقي...أرجو أنْ تَكونَ قَدْ وصلتْ أهمُّ الرَّسائلِ، بِغضِ النَّظرِ عَنْ إشكاليةِ الإرسالِ وَالتَّلقِي...". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 39).

4- قصَّةُ (القاتلُ في الأَحلامِ)

تُعدُّ سَرديات قِصَّة (القَاتلُ في الأحلامِ) من قصص الخيال الأسطوري والغرائبي التي وقعت تحت لائحة الانتظار الوجودي النفسي. وقد نسجتها ذائقة الكاتبة ذكرى لعيبي عن شخصيَّة بطلها الحارس الليلي للحارة أو المنطقة (أمين الصالحي)، الرجل الذي أُتُهِمَ بجريمةٍ قتل من قِبَلِ المَلكِ أو السلطان الحاكم للمدينة، والذي يتراءى له أثناء منامه بأنَّ الحارس يروم قتله في كل ليلةٍ يحلمُ بهِ منذ أنْ قام السلطان بزيارةٍ ليليةٍ للحارس حينما كان يتفقَّد فيها أحوال مملتكه ليلاً للاطِّلاع عليها.

وكان من ضمن ما قام به الملك زيارته للحارس اللّيلي أمين الصالحي الذي كان منضبطاً وملتزماً بعمله وكأنَّه عسكري ينظر إلى السلطان نظرةً ثاقبةً دونَ أنْ يعلم بأنَّ الذي ماثل أمامَهُ هو الملك ذاته، وكان يظنُّ أنَّه الضابط الخفير أو المسؤول عن إدارة الحراسة في المدينة التي يعمل بها هو:

"حَارسٌ لَيليٌّ بَسيطٌ أُعلقُ بُندقيةً قَديمةً عَلَى كَتفِي، وَأتجَولُ فِي أَزقةِ الحَارةِ، أَحاولُ أنْ أتجنَبَ المَشاكلَ قَدِرِ اِستطاعتِي، فَإذَا مَا رَأيتُ أوْ اِكتشفتُ أحدَ اللُّصوصِ، أَطلقُ صُفَّارَتِي فَقَطْ، وِأتركُهُ يَهربُ، أتحاشَى الرَّصاصَ والقَتلَ لِمَا يُسبِّبُهُ مِنْ عَدَاءٍ وَثَأرٍ. ذَاتَ لَيلةٍ حَضرَ فِي أحدَ الشَّوارعِ ضَابطُ شُرطةٍ خَفيرٍ يَبدو مِنْ مُوكبِه رَجلاً مُهمَّاً وَلَهُ شَأنٌ كَبيرٌ، كَانتْ الدُّنيَا ظَلامَاً دَامساً والقَمرُ غائباً، هَواءٌ بَاردٌ والغُيومٌ تَنثُّ مُطُرُاً". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 40).

وعلى الرغم من كلِّ ذلك وما أبداه، فقد اُعتُقِلَ الحارس الليلي الصالحي وَسِيقَ إلى قصر السُّلطان مرتين متواليتين للتحقيق بخصوص جريمة قتل مصدرها رؤيا حُلُمية مُتخيِّلة ولم تكن حقيقةً واقعةً حصلت بعد، فَسجلُ الرجل نظيف ويشهد له مرؤوسوه بالنزاهة والأمان ودماثة الخلق الرفيع:

"لَا أوراقَ عِنِدي وَلَا سِجلَّاتٍ، لَا مَنشوراتٍ، أوْ كُتبٍ، هَذهِ الأشياءُ الَّتِي تُثيرُ الَمتاعبَ لَا أقتنيهَا، أنَا حَارسٌ بَسيطٌ مُنذُ خَمسةٍ وثَلاثينَ عَامَاً، أعملُ بِهمَّةٍ وَنَشاطٍ وَلَا شُغلَ لِي فِي السِّياسةِ، بَلْ لَا أعرفُ غَيرَ الحِراسةِ، وَسِجلِّي المِهنِي يَشهدُ بِنشاطِي وَنَظافتِي.- نَحنُ نَعرفُ أنَّك حَارسٌ؛ وَلديكَ أربعةُ أبناءٍ رَحلُوا لِلعملِ فِي الخَارجِ، وَابنتُكَ الصُّغرَى مُتزوجةٌ فِي الشَّمالِ، أمَّا زَوجتُكَ فَقدْ تَوفيتْ مُنذُ خَمسِ سَنواتٍ، أتَظُننَا لَا نَفهمُ؟ نَحنُ نَعرفُ كُلَّ الأسرارِ". (عَواطفٌ عَلَى لائحةِ الاغترَابِ، ص 41).

وفي قصر جلالة السُّلطان يؤكِّد لهم الصالحي بأنَّه نزيهٌ وبرئٌ وضعيفُ الحالِ يؤدِّي واجبه المَهني بصدقٍ وإخلاصٍ وإتقانٍ، ويَشهد له رؤساؤه المسؤولون عنه، وأنَّ أمرَ اعتقاله رُبَّما فيه خطأ أو التباس؛ لكنْ هذا الأمر يعود لجلالة السلطان الذي لا يُخطئ. فكان أمين الصالحي يظنُّ أنَّ السلطان يرغب بضمِّه لحرسه الخاصِّ؛ ولمكافأته على الواجب وتفانيه في الإخلاص بالعمل، لكن حقيقة استقدامه كانت خلاف ما كانَ يتوقّعه الحارس؛ كونه مُتَّهماً بقتل السُّلطان الذي يَحلمُ بأن الحارس اللَّيلي يروم قتله، فقال له السلطان مُحاوراً إياه بصوت رخيمٍ مستفزٍ لمشاعر الصالحي:

"هَلْ مَا زِلتَ تُفكِّرُ بِقتلِي؟ أصابتنِي قَشعريرةٌ، ذُهولٌ رُعبٌ، وَخَوفٌ. -مَعاذَ اللهِ يَا سَيِّدِي، مَا أنَا إلَّا حَارسٌ لَيليٌّ فِي مَحلَّةٍ قَديمةٍ بِمملكِة جَلالتِكُم، وَلَمْ يَخطرْ بِبالِي قَطٌّ مِثلَ هَذَا الفِعلِ الشِّنيعِ. قَالَ بِحِدَّةٍ: -مَا مِنْ أحدٍ فِي البِلادِ أنظرُ إليهِ فَيبقِي عَينيهِ فِي عَينيَّ إلَّا أنتَ. سَيِّدي وَهَلْ أجرؤُ، هَا هِيَ عَينايَ تَطِئانِ الأرضَ بَعدَ أنْ نَظرتَ إليَّ، صَفقَ بِيِديهِ فَخرجَ الحَاضرونَ مِنْ حَرسٍ ومَوظفينَ: لَكنَّكَ فَعلتَ ذَلكَ". (عَواطفُ عَلَى لَائحةِ الاغترابِ، ص 46). فعلت ذلك، أي أبقيت عينك ثابتةً بعيني تنظر لي.

وكانت المفارقة عندما أُودِعَ الحارسُ في غرفةٍ من غُرفِ القصر وليتنعَّمَ بنعمَ وخيرات القصر لم يكن السلطان يحلم بأنَّ الحارس يروم قتله، وعلى الرغم من تأكيد الصالحي بأنها كانت أضغاث أحلامٍ وتهيُّؤاتٍ غيرَ صحيحةٍ. وظنَّ الملك بأنَّ الحارس اللَّيلي الصالحي كان يعرف بتأويل الأحلام بيدَ أنَّ الصالحي اعتذر للسلطان عن فعله الذي اُتِّهمَ بهِ، لكونَ عينه كانت شاخصةً بعينيه، الأمر الذي استدعى الملك بقاءَ الحارس سبعة أيام أخرى في القصر ليرى رأيه فيه والبتَّ بأمره بعد ذلك:

"مُنذُ أنْ جِئتَ إلَى هُنَا بِأمرِنَا لَمْ أَعُدْ أحلمُ بِكَ تَقتلنِي، هَذهِ تَجربةٌ حَسنةٌ، سَأتركَكَ تَعودُ إلَى مَنزلِكَ فَإنْ أحلمُ بِكَ فَستظلُّ فِي دَارٍ تُمارسُ عَملكَ الَّذي شَغفتَ بِهِ، وَإنْ عَاودنِي الحُلمُ فَسأجلبُكَ إلَى هُنَا لِتعيشَ فِي المَكانِ نِفسِهِ إلَى الأبَدِ". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 48).

لقد اعتاد الحارس أمين الصالحي على ما حدث له من اتِّهامٍ خطيرٍ، فَسِيقَ مرَّةً أخرى لقصر جلالة السلطان؛ لكونه يحلم بأنه مازال يقتله، فاضطر الحارس الذهاب مع حرس السلطان إلى القصر على الرغم من أنَّه فكرَ بالهرب؛ لكنه تذكَّر رغيد العيش والسعة وبحبوحة النعمة من أكلٍ وشرابٍ وافر فقرَّر الذهاب معهم كما تُشير الخاتمة، والتي كانت خاتمةً موضوعيةً ومثيرةً للقارئ:

"هُناكَ صَوتٌ يَطرقُ رَأسِي، سَأنَامُ فِي قِصرٍ فَخمٍ، آكلُ أصنافَ الطَّعامَ، وَألبسُ أفخرُ لِباسٍ. لَكنِّنِي لَنْ أستطيعَ أنْ أعيشَ خَارجَ القَصرِ كِيلَا يَحلمُ جَلالةُ السُّلطانِ أنَّي أقتلُهُ. كَانَ الوَقتُ يُحاصرُنِي، وَالحُريةُ تَكادُ تَفلتُ مِنْ يدِي، وَلاَ بُدَّ أنْ أُقرِّرَ. فَلمْ أترَدِّدْ!". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 49). وبهذا الفعل الختامي تخبرنا الكاتبة القاصَّة بأنَّ شخصياتها البطولية على الرغم مما أصابها من حزنٍ أو فرحٍ فإنَّهم دائماً يعيشون لحظاتِ قيد من الانتظار والترقُّب الحَذر في مواجهة الاغتراب.

5- قِصَّةُ (الغُرفةُ رَقم 4)

هذا النموذج السردي عينةٌ من عَيِّناتِ طلب اللُّجوء الإنساني في ألمانيا عام 2021م، وقصَّة من قصص رحلة العلاج الكيمياوي من أجل الشفاء من آثار المرض الخبيث، والتي تعدُّ من القصص الحقيقية المَمزوجة بِشيءٍ مذهلٍ من الخيال الواقعي السِّحري الجميل. فبطلة قصَّة (الغرفة رقم 4) امرأة لم تضع الكاتبة اسماً لها، بل اكتفت بالحديث عنها بضمير تاء الفاعلية الدال على قول لسانها.

وعلى الرُّغم من أنَّ بطلة القصَّة هي المريضة بالداء اللَّعين فإنَّ القاصَّة ذكرى لعيبي هي الشخص المواسي لها والراعي لصحتها في المُستشفى. ويُخيَّل إليكَ جداً أنَّها هي التي تعاني ما تعانيه صديقتها من مرض تلبَّس حياتها في منافي الغربة ومشافي المرض القاتل اللعين. وأنَّ مثل هذا التقارب والتماهي بين شخصيتي القاصَّة والبطلة يخلق نوعاً من الازدواجية الحميمية والتقارب في مشاركة بعضهما الهمِّ ومواجهته تحت قيدِ الانتظار في مشاهد الاغتراب الحياتي بكلٍّ صدقٍ ومشاعر وإحساسٍ ذاتيٍ. وهذا التماثل يعني أنَّك تقرأ جوانبَ إنسانيةً من مسيرةٍ ذاتيةٍ مشتركةٍ:

"اِلتقطَتْ مِعطفِهَا البَصليَ المَنسوجَ مِنَ الصُّوفِ النَّاعمِ... وَوَضعتهُ عَلَى كَتفيهَا، الجوُّ هُنَا هَذَا الصَباحُ بَاردٌ جِدَّاً، نَاولتهَا (رُوينَا) المُمرضةُ المُرافقةُ كُوبَاً مِنَ الشَّايِ السَّاخنِ، أمسكتهُ بِيديهَا، وَجَلستْ قُربَ النَّافذةِ المُطلَّةِ عَلَى الحَديقةِ الخَلفيَّةِ لِلمستشفَى. مُستشفَى (شتُوتغارت)، الَّذي تَأخذُ فِيهِ جُرعاتِ العِلاجِ الكِيمياويِّ". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 50).

وفي ظلِّ هذا المضمار السردي الماتع تميل الكاتبة إلى تسطير وتدوين جوانبَ مهمَّةً من القصَّة فتذكر مُصطلحاتٍ طبيَّةً في علم النفس، ومطالعتها لكتاب (الانتحار)، لأميل دور كايم صاحب الأسلوب المُميَّز في تحليل هذه الظاهرة.وتسردُ أيضاً الحالات التي تُصاحب صديقتها المريضة وما يرافقها من هَمٍّ وانكساراتٍ وهزائم وشعورٍبأنها ضئيلة أمام نفسها الأمرالذي يورثُها الحسرة والقلق وعدم التوازن .

فكيف إذا كان الإنسان ينمو في داخله ورم خبيث؟ وهذا الهمُّ هو ما تشعر به الكاتبة وتسرده لقارئها بالابتعاد عن التعب النفسي الذي هو نصف المرض. وعلى الرغم مما تمرُّ به من صراعٍ داخليٍّ مريرٍ فإنَّها تشعر ببصيصٍ من الأمل ينقلها إلى ضفاف الحياة الأخرى بدلاً من وجع الشقاء:

"أدركتُ ضُعفنَا وَهَشاشَتَنَا أمامَ جَبروتَ المَرضِ، واليَأسِ وفُقدانِ الهُويَّةِ! أدركتُ مَعنَى أنْ نَدلفَ إلَى وَحدتِنَا، عِندَمَا تُلاحقُنَا هُمومُ الحَياةِ وِمُنغصاتِهَا". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِنتظارِ، ص 53).

ومن بين سرديّاَت هذه القصَّة المؤلمة، ومن خلال تحاور الكاتبة مع صديقتها البطلة التي ذكَّرَتها بحبيب القلب، أقرَّت لها بما تشعر به من مشاعر نحوه، فباحت ما في قلبها من مشاعر جياشةٍ:

" الرَّجلُ الَّذيِ كُنتُ أظنُّ أنَّهُ عَظَّيمٌ، وَحَاربتُ مِنْ أجلهِ، بَقيتُ عَلَى قَيدِ الحُبِّ لِأجلِهِ، وَتَركتُ أهلِي وَنَاسِي وَبَلدِي، لِاتَّكِئَ عَليهِ، ظَنَّاً مِنِّي أنَّه صَلصالٌ صَلدٌ! لِمْ يَكنْ فِي الحَقيقةِ سِوَى مَحضِ فَضلاتٍ هَشَّةٍ وَسَامَةٍ، وَفِي نَهايةِ الأمرِ اِكتشفتُ أنَّهُ سَلَبَ وَقتِي وَعُمرِي، وَتَركنِي عَلَى دَكةِ رَصيفٍ إِسمنتيٍ لِمدينةٍ غَريبةٍ فِي طَقسٍ شَتويٍّ. -مَعقولٌ؟ -نَعمٌ.. كُلُّ شَيءٍ بَاتَ مَعقولاً فِي هَذَا الزَّمنِ الفَارغِ، حَتَّى الصَّلصالُ مُتواطِئٌ مَعَ الَّشيطانِ !". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 54).

كان الشعور بالهزيمة سبباً من أسباب فزع وتظلُّم الإنسان ورفضه لوقوع هذا الظلم والنَّصَبِ عليه، فيردِّدُ ما يشعر به من قساوة الأمر وصعوبته التي يعاني منها في أجندة حياته الانتظارية:

"إنّْ كَانَ الخَالُق يُعاقبُنَي بِهذَا المَرضِ عَلَى أخطَاءٍ فَعلتُهَا، فَمَهمَا اِرتكبتُ مِنْ أخطاءٍ فَأنَا عَلَى صَوابٍ، لِأنِّي اِرتكبتُهَا بِعفويَّةٍ وَدَاخلي نَظيفٌ وَرُبَّما فَعلتُهَا بِلحظةِ شَفقةٍ أو حُبٍّ أو وَهنٍ، لَمْ أقتلْ... لَمْ أسرقْ.. لَمْ أعقُّ وَالديَّ.. لَمْ أنكرِ الدِّياناتِ... لَمْ أكفرْ...". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 56).

الكاتبة العليمة من خلال بثِّ شكواها تشعر بأنَّ هناك من يحاول قطعَ خُيوط الأمل والرجاء والودِّ كفأرةٍ عابثةٍ تدعوها إلى تجديد خصوبة حياتها عبرَ ما تستشعره نفسياً وتؤمن به شخصيَّاً فتقول:

"هُناكَ فَأرةٌ عَابثةٌ تحُاولُ أنْ تَقضمَ خُيوطَ الأملِ فِي عَقلِكِ، اُقتليهَا وَأعيدِي تَرتيبَ وَبِناءَ أفكارِكَ، جَدِّدِي إرادتَكِ، اَحرثِي أرضَ الحَياةِ، أعيدِي لِأعمدتِهَا زَهوَ الرَّخاءِ، لَا تَأخذكِ وِشَاياتُ الهُدهُدِ... يَبدو أنَّني صِرتُ أتفلسَفُ بِحديثي!". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 56).

إنَّ خسارة الكاتبة كانت كبيرةً لفقدها صاحبتها وصديقتا المقرَّبة لنفسها، والتي غيَّبها المرض الخبيث، فما كان منها إلَّا أنْ تردِّدَ مواقف ذكراها ووشائج الصداقة ومشاعر المحبَّة الدائمة بينها:

"كَانَتْ صَديقتِي قَدْ غَادرتنَا بِسلامٍ وَهُدوءٍ، تَركتْ عاَلمنَا وَرَحلتْ لَمْ تَنتظرِ الحَلْويَاتِ! وَكأنَّها كَانتْ تَعرفُ أنَّ الوَهمَ مَعركةٌ خَاسرةٌ، دِثارٌ مَثقوبٌ، أجلْ لَنْ تُوقفهُ ألفُ شَمعةِ يَقينٍ، وَلَا ألفُ ألفُ دَمعَةٍ مَقهورةِ". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 57).

فالقاصَّة كانت ترى صديقتها المحبَّبة وتعيش حالتها الصحيَّة المُتدهورة، وفي الوقت نفسه تعترف بعلانيةِ وصدقٍ بما حلَّ بها وأصابها من طائلة هذا الداء الخطير المُروُّع لإنسانية الوجود الحياتي:

"تَرَكتْ فُراغَاً عَميقَاً فِي رُوحِي، بَلْ فِي كُلِّ شَيءٍ مِنْ حَولِي، إلَّا غُرفتَهَا فِي المَشفَى، فَقدْ شَغلتُهَا أنَا، بَعدَ اِكتشافِ إصابتِي بِذَاتِ المَرضِ، إلَّا أنَّ الإصابةَ فِي عُضوٍ مُختلفٍ مِنَ الجَسدِ. كُنتُ أجلسُ عَلَى ذَاتِ الكُرسِي، وَأقفُ أمامَ ذاتَ النَافذةِ المُطلَّةِ عَلَى الحَديقةِ". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 57). وكان أملها الوحيد مغادرة الغرفة رقم 1التي كانت مثابةَ هذه الحكاية الضاربة جذورها في سيرتها.

6- قِصَّةُ (شَيءٌ مِنَ اللَّوعَةِ)

من نماذج القِصص التسريدية المُهمَّة والرائعة التي تكتسب طابعاً إنسانياً خالصاً من اللَّوعة عن معاناة ووجع منافي مخيَّمات اللُّجوء في ألمانيا عام 2022م؛ كونها قصَّةً حقيقيةً بطلتها كاتبة المجموعة ذاتها التي كانت تبحث عن مثابة إقامةٍ لها في مهاجر اللُّجوء الإنساني. تلك هي قصَّة (شَيءٌ مِنَ اللَّوعةِ)، بل هي أشياء كثيرة من الألم والذُّل والمعاناة والمكابدة والجَلَدِ والصبر على الحُلَمِ وتحقيق الذات الذي تشعر به إنسانة لاجئةٍ من أي بلدٍ من بلدان المعمورة بحثاً عن مُستقرٍّلها:

" مِنْ عُتمةٍ تُشبهُ قَبرَ الأيامِ، أَخرجُ إلَى عَالمٍ فَسيحٍ.. أتلمَّسُ وَجَعِي، وَأحاولُ أنْ أفردَ عَلَى قَلبِي غَيمَةً مَاطرةً، أُمسِّدُ أجنحةَ أحلامِي وَشغفِي، وَأُحلِّقُ فِي فَضاءِ المَنافِي -رُبَّما-لِأنسَى العَناءَ الأوَّلَ. شَهرانِ ونِصفُ الشَّهرِ تَقريبَاً، كَانتْ فَترةُ بَقائِي فِي المُخَيَّم المُخصَّص لِمُقدِّمِي اللُّجوءِ" . (عَواطفٌ عَلَى لائحةِ الاِغتراب، ص 59).

لقد استوقفني في هذا النصِّ المنقول عن الكاتبة عبارتها النسقيَّة المُضمرة (لأنسى العناء الأول)، فالعناء الأول الذي توحي به الكاتبة في هذه الإشارة، هو ما حملته في خبايا نفسها وروحها المكافحة والمواجهة، هو الداء اللَّعين الذي سيطر على فكرها وحياتها ولم يمنحها فرصةَ الأمل إلَّا قليلاً، هذا هو السرُّ الذي جمعها وحدتها مع مجموعة كبيرة تفوق عشرَ نَسماتٍ من الأطفال والنسوة اللَّاجئات من بلدانٍ مختلفةٍ مثل، (العراق وسوريا واليمن وروسيا وباكستان وإيران والسودان وأرتيريا وأثيوبيا وجيبوتي)، يسكْنَ جميعاً بمبنى واحدٍ ممن طلبْنَ حقَّ اللُّجوء الإنساني في ألمانيا.

لقد عشْنَ تلك النسوة بغُرفٍ في شُققٍ مشتركةٍ بعضها لذوي العائلات، وبعضها للفتيات العازبات والعُزَّاب في أماكن خرسانية مُحكمة ومؤمَّنة تعلوهاأسيجة وأسلاك شائكة لا يمكن اختراق جُدُرِها:

"تَشاركتُ الغُرفةَ مَعَ اِمرأةٍ عِراقيةٍ مِنْ بَغدادَ تُدعَى بَلقيسٌ، أمَّا الغَرفتانِ البَاقيتانِ، فَواحدةٌ كَانتْ تَشغلًها سَيِّدةٌ إيرانيةٌ مَعَ اِبنتِهَا الصَّغيرةِ، وَالأُخرى فَتاتانِ: (جَالَا الإيرانيَّةُ)، و (رَشيِدةُ المَغربيةُ)". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 60).

وفي إلمَامَةٍ ذكيَّةٍ لبطلة هذه القصِّة، وأعني بها الكاتبة الرائية لـقصِّة (شَيءٌ مِنَ اللَّوعةِ) تُدوُّن القاصَّة بصدقٍ وعفويةٍ خالصةٍ مشاهدها للحياة اليومية لهؤلاء النسوة المُعذَّبات ولمُعاناتِهُنَّ التي تشعربِهَا هيَ ذاتها، بأنهُنَّ يعشْنَ الزمن على هامش الحياة في بلدانٍ فقيرةٍ لا تجد فيها وسيلةً للرزق والحياة، حتَّى تبدو الدنيا من وجهتهُنَّ أقربَ إلى الكابوس فيما ترى هي نفسها هذا الشعور الضافي:

"الجَميعُ هُنَا يَضحكونَ، لَكنَّنَا مَا زِلنَا نَتلمَّسُ خُطواتِنَا وَسَطَ دُروبِ الخَوفِ وَالقَلقِ وَالتَّرقُّبِ، لَمْ تَنتهِ الحُروبُ بِالنسبةِ إلينَا، لَمْ يُقتلْ الفُقرُ، لَمْ يُفنَى القَمعُ، لَمْ تَتوقفْ قَوافلُ التَّهجيرِ والمَوتِ. إذنْ أيامُ السَّلامِ والفَرح ِلَمْ تَبدأْ بَعدَ، غَيرَ أَنَّنَا نَنتظرُ! وَأنَّ أجنَّةَ الحَياةِ تَجمَّدتْ دَاخلَ الأرحامِ تَخشَى صَرخةَ الوِلادةِ". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 62).

وخلال تنامي هذا الشعور باليأس والقنوط المَمزوج بالفرح والأمل المرتَقب، تمَّ تفريق اللاجئات وتوزيعهُنَّ على مناطق مختلفةٍ من ألمانيا. فتبدأ مرحلة جديدة من الابتعاد والتشظي والشَّتات في المنافي لهؤلاء الفتيات اللواتي اعتدْنَ حياة الأُلفة فِيما بينهُنَّ في مباني سكنِ اللُّجوء والانسجام والود والمحبَّة التي هي شعور كل إنسان غريب تُجاه غريب آخر يشاطره الحياة ذاتها:

" هُنَا فَي هَذَا المَبنَى وَالَّذِي يُطلقونُ عَليهِ مُسمَّى (الهَايم)، هُوَ بِمثابةِ سَكنِ الإقامةِ الدَّائمَ، أَتقاسمُ غُرفةً كَبيرةً بِملحقاتِها، وذَاتَ شُرفةٍ تَطلُّ عَلَى الفَناءِ الخَلفِيِ مَعَ فَتاةٍ أُخرَى مِنَ الطَّائفةِ الإيزيديَّةِ". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 63).

وبعد أن توحَّدت بطلة هذه القصَّة مع فتاةٍ إيزيديةٍ من شمال العراق تُدعى (نَاريمان)، أو (نارو) كما تُحبُّ أنْ يُدلعوها، خضْنَ الحديثَ بفخرٍ عن الأصول والجذور والأقليَّات الدينيَّة والإثنيَّة للديانة الإيزيدية التي تتواجد في مدينتي (شِيخان وسِنجَار) شمال العراق. وتمَّ الحديث بإسهابٍ عنهما وتأكيدهما على ما فعله تنظيم الدواعش الإرهابي من القيام بأعمال تكفيريَّة وهمجيةٍ طالت الفتيات الإيزيديات اللَّواتي تمَّ سَبيهُنَّ في سوق النخاسة وبيعهُنَّ واغتصابهُنَّ على أيدي الظلمة الإرهابيين:

" ثُمَّ تَنهَّدتْ وَقَالتْ: آهٍ سِنجارُ...سِنجارِي....الِّتِي صَارتْ فِيهَا مَجازرٌ لِبناتِ طِائفتنَا. شَعرتُ بِحُزنٍ كَبيرٍ؛لَأننِي تَذكرتُ مَا فَعلتهُ مُنظمةُ (دَاعشِ)الإرهابيةُ بِتلكَ الفَتياتِ". (عَواطفٌ عَلَى لائحةِ الاِغترابِ، ص 65).

وبقدرِ ما كانت اللَّاجئات يحدوهُنَّ الأمل والسلام في إتمام إجراءات اللِّجوء والعيش بأمنٍ وسلامٍ واستقرار، أخذتْ (ميَّادة) الكاتبة السَّاردة التي تعيش أجواء اللُّجوء في توثيق التَّحدِّيات والمشاكل التي يعانيها الأزواج والعائلات بخصوص تربية الأطفال، ومسألة العَلاقات الزوجيَّة المتفاقمة التي وصلت حدِّ الانفصال عن الآخر والبحث عن حياة أخرى بدلاًمن المشقَّة والمعاناة وحياة الانفصال:

"فِي أثناءِ فَترةِ سَيطرةِ (دَاعشِ) عَلَى المَنطقةِ، اِستطاعتْ عَائلةُ نَارُو الفِرارَ إلَى ألمانيَا، تَاركةً إيَاهَا مَعَ اِثنينِ مِنْ إخوتِهَا فِي سِنجارَ، وَبَعدَ فَترةٍ مِنَ الزَّمنِ تَمكَّنتْ أُمُّ نَارُو وَأخواهَا الهَربَ وَالسَّفرَ إلَى إيطاليَا، فَألمانيَا. ثُمَّ لَحقهَا خَطيبُها. اِزدادتِ المَشاكلُ بَينَهُم وَلَمْ تَتحملْ تَصرفاتِهِ، فَتَمَّ الاِنفصالُ بِشكلٍ رَسميٍّ، وَمَعَ اِنتهاءِ العَلاقةِ؛ اِنتحرَ خَطيبُها، لِتبدَأَ مَرحلةُ عَداءٍ بَينَ العَائلتينِ". (عَواطفُ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 67).

ويبدو لي أنَّ الحديث عن العواطف الذاتية والمشاعر الوجدانية الصادقة التي تنوء تحت لائحة أو قيد الانتظار، غداً ستصبح المنافي وطناً مُستقرَّاً لها، وحياةً وعملاً يًنسيهًا كُلَّ الآلام والمواجع والتَّحديات التي شلَّت حياتها وغيَّرت مسار وجودها التكويني الخاص:

"الوَطنُ بِالنسبةِ لِيْ رَجلٌ صَادقٌ يَحتوينِي، حَبيبٌ أحتلُّ مَشاعرَهُ وَأَجوبُ جِهاتهِ الأربعَ دُونَ شَريكٍ، أطيرُ فِي سَماءِ حَياتهِ دُونَ خَوفٍ، رَفيقٌ يَقودنِي مَنْ يَدِ قَلبِي لِتعبرَ ممرَّاتِ الجَليدِ وَالنَّارِ مَعَاً، حَتَّى نَصلَ أقصَى الشَّوقِ". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 69).

بَيدَ أنَّها على وفق كُلِّ هذه الأحلام التي يمضي بها قطار العمر في التغريب والمنافي بالحصول على وطن آمن ينتابها الإحساس والشعور الذاتي القويّ بأَنَّ كُلَّ منافي أوربا تدعوها وتهمس في أُذنها إلى التَّمسُّك بالجذور القويَّة للوطن والأرض التي هي الحبيب الأولي الذي لن تغلقه رياح الهبوب الجارفة.

على الرغم من أنَّها كانت مرغمةً على ترك جذورها الأصلية والسير بركاب سفينة المَهاجِر والمَنافي وعواصفها المتقلبة التي جعلتها أنْ تترك كلِّ شيءٍ وراءها. والحقيقة ما تقول إنَّ كلَّ شيء ٍكان أمامها مُتاحاً. فما كان من (مَيَّادة) البطلة أو الكاتبة أن تركُنَ إلى طقوسها العبادية راجيةً من اللهِ تحقيق ما تصبو إليه من حُلمٍ وأمانٍ فتقول في خاتمة قصتها الملتاعة بالألم:

"اِتَّجهتُ لِلرُكنِ الَّذي اِعتدَتُ الصَّلاةَ فِيهِ، وَسَلَّمَتُ أمْرِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمواتِ وَالأرضَ، وَبَينَ السَّجدتينِ نَادتْ جُوارحِي أجمعُهَا: اللَّهُمَّ قُرَّ عَينِي بِلُقيَاهِ". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 70).

7- قِصَّةُ (اِنتهَى العَرْضُ)

من يقرأ عنوان عتبة هذه القصَّة (اِنتهى العرضُ) اللَّافت للنظر والتساؤل به، سيشعرُ بأنه إزاء عرض فنَّي مسرحيٍ، أو البحث عن حاجةٍ أو بضاعةٍ تجارية نفدَ عرضها المحدَّد، وانتهى وجودها في الحياة الاقتصادية؛ ولكنَّ الحقيقة المَّرة تشي بغير ذلكَ التفكير الدلالي الواهم. فما هِيَ إلَّا قصَّةٌ تتحدَّث بصدقٍ عن فشلِ العَلاقات العاطفية التي ترتبط نهايتها الحتمية بالزواج المُقدَّس بين الفتاة الجامعية الطالبة (مريم)، وذلك خلال دراستها الأولية الجامعية وعلاقتها بالأستاذ الجامعي الدكتور خضر، الأستاذ المُحاضر لمادة هندسة المباني في إحدى الكليَّات الجامعية المهمَّة في المدينة.

يبدأ فتيل المشاعر من الطرف الأَّول الأنثوي صادقةً على نياتها الحسنة ووفائها وإخلاصها لمن تُحبُّ، بيدّ أنَّ الطرف الآخر د. خضر كان لَعُوباً مُحترفاً بحرفِ المشاعر والأحاسيس، ويتَّخذ من حبِّها محطَّة إمتاعٍ ولهوٍ وأنسٍ لا غير ذلك من تجلِّيات الحبِّ الصادقة. ويبدو أنَّ الدافع الرئيس لهذا الحبِّ هو الشعور بالفراغ والوحدة والضياع والقلق الوجودي الذي تشعر به (مريم)الطالبة، فيتبدَّد هذ الوهم أو (الفراغ)إلى نورٍ وضياءٍ يَفتحُ الطريق لها على مصراعيه لحياةٍ جديدةٍ أخرى مختلفةٍ:

"بَدَأَ الفُراغُ يُحدِّدُ نَسَلَهُ، يَتلاشَى... وَيَحُلُّ مَحلهُ الضِّياءُ، هَكذَا شَعرتُ عِندَمَا اِلتقيتُهُ عِندَ بَوابةِ الجَامعةِ الِّتِي تَمَّ قُبولِي بِهَا لإكمالِ دِراستِي. فَسَحَ لِيَ مَكانَهُ لإكمالِ إجراءاتِ التَّسجيلِ، وَحَجَزَ لِيْ مَقعداً فَارغَاً فِي قَاعةِ الاِنتظارِ، وَأخرجَ قَلمَاً أنيقَاً، وَضعَهُ أمامِي عِندَمَا لَاحظنِي أُفتشُ عَنْ قَلمٍ لٍأملًأ بًياناتٍ الِاستمارةِ. لَكنَّ الَّذي أثارَ اِستغرابِي أكثرَ؛ هُوَ عِندَمَا جَاءَنِي بِكأسِ مَاءٍ مُثَلَّجٍ! تُرَى كَيفَ شَعرَ بِعطشِي؟ قَدْ تَكونُ أفعالٌ بَسيطةٌ فِي وَقتِهَا؛ لَكنَّهَا عَنَتَ لِيَ الكَثيرَ، مَلَأتْ كَهفَ الفُراغِ الَّذي قَارَبَ عَلَى اِبتلاعِي، جَعلنِي أُطيرُ مَع َالنَّوارسِ وَالأشرعةِ، وَلأوَّلِ مَرَّةٍ يَشغلُ تَفكيرِي رَجُلٌ! ". (عَواطفٌ عَلَى لَائحِة الاِغترابِ، ص 72).

لقد خفقَ قلبُ الطالبةِ مريم لهذا الأُستاذ الجامعي الحبيب الشهم المُنتظر والمفاجئ في ظهوره لها وإعجابها به وبشخصيته الإنسانية اللطيفة أوَّل وهلةٍ. وكانت نتيجة هذه العَلاقة السريعة غير المتأنية التأكيد بالاتِّفاق على الزواج وبناء قاعدةٍ متينةٍ لنجاح هذا الزواج السريع المرتقب الحدوث:

"اتَّفَقنَا، كَلمةُ اتَّفقَنَا، كَانتْ عُربونَاً مَتينَاً جَعلَ سَلسبيلَ العَلاقةِ تَسيرُ بِمرونةٍ غَيرِ متوقعةٍ، فَقدْ لَبسنَا خَاتمَ الخُطُوبةِ دُونَ إبطاءٍ، وَاتَّفقنَا أنْ تَتمَّ مَراسيمُ العُرسِ بَعدَ التَّخرجِ فِي الجَامعةِ. كُنتُ فَرحةً بِهِ، أحببتُهُ، تَعلَّقتُ بِهِ، لَمْ أبصُرْ سِواهُ، وَلَمْ يُراودُنِي شَكٌّ بِشيءٍ طُولَ فَترةِ الخُطوبةِ، حَتَّى اِنتبهتُ لِحالةٍ مُعينةٍ! كًانً كًثيرً الخُروجِ مِنَ الحَرمِ الجَامعِي، إجازاتٌ غَيرُ مُنتظمةٍ، أحيانَاً سَاعاتُ غِيابهِ تَتوافقُ وَغَيابَ زَميلتِي... وَغَيرَهَا مِنَ الزَّميلاتِ، رُبَّما صُدفةً، قَلبِي يَقولُ هِيَ صُدفةً أوْ هَذَا مَا أَقنعتُ نَفسِي بِهِ. بَيدَ أنَّها لِلأسفِ لَيستْ صُدفةً، بَلْ حَقيقةَ مُرَّةً، أَمرُّ مِنْ سَنواتِ الحُرُوبِ، وأقسَى مِنْ شَظايَا تُقطِّعُ أَطرافَكَ الأربعةَ". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص75، 76).

لقد كان كلُّ ما اتُّفِقَ عليه وعوداً كاذبةً ولَعِبَاً واستهتاراً بالمشاعر والأحاسيس الإنسانية الصادقة وخداعاً واضحاً صادراً عن رجلٍ اعتاد على الضحك على الفتيات وعلى زوجته بالذات التي هي ابنة عمِّه. وكنات حجَّته معها بأنَّه لا يُريد أن يخسرها، وسيكون وفياً لها وصادقاً معها، وسيتخَّلى عن جميع علاقاته المُثيرة الأخرى ويبدأ صفحةً جديدةً؛ لكنْ هيهات أنْ تقبلَ بِعرضهِ غيرِ الصَادقِ:

"تَصفيقٌ... حُجَّةُ الضَّعيفِ، الجَبانِ، اللَّعوبِ، كُنتُ رُبَّما سَأصدقَكَ، لَوْ كَانَ الأمرُ يَتوقَّفُ عَلَى إخفاءِ زَواجِكَ الأوَّل فَقَطٌ، لَكنَّ العَشيقاتِ، الخَليلاتِ، الحَبيباتِ.. لَمْ تَعرفْ كَيفَ تُتقِنُ أكاذيبكَ".

 (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 76).

مريم الإنسانة الودودة المُرهفة المشاعر والأحاسيس وذات الأصل والعزِّ والنسبَ والجاهَ والفخرَ بكلِّ ذلك ترفض حياةً مثل هذه الفوضى التي يعيشها هذا الأستاذ الجامعي اللُّعوب. فما كان منها إلا الخروج من حياته المخادعة أبداً، خروجاً لا عودةَ له مُطلقاً، وستكون مريمَ أخرى لا عَلاقةَ لها لا من قريب أو بعيدٍ بمريم تلك التي عشقته ومنحته حبَّها أول مرَّةٍ وبنتْ جبلاً من ثلج على قِمَمِ آماله:

"أنْتِ قَاسيَةٌ، بِقساوةِ قَائدِ طِائرَةٍ حَربيَّةٍ، يَرمِي قَنابلَهَا عَلَى حُقولِ الزَّيتونِ وَالبُرتقالِ وَالنَّرجسِ، الَّتي لَا ذَنبَ لَهَا بِاستهتارِ قَادةِ الشُّعوبِ. -والخَديعةُ والكَذِبُ والتَّلاعبُ بِالمشاعرِ، ألَا تَعدُهَا مِنَ القَنابلِ؟ تُشبِّهُ نَفسَكَ بِحقلِ زَيتونٍ! وَمَا أنتَ إلَّا شَجرةُ عَاقولٍ أدمَتْ رُوحِي وَجَرحتْ مَشاعرِي، وَخيَبَتْ ظَنَّي". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص77).

وإزاء هذا الرفض القاطع الذي أصرَّت عليه مريم تُجاهه، قابلها الأُستاذ والنموذج الإنساني المخادع المشبوه بتأكيد موقفه الوفي والقَسَمِ لها بأغلظ الَأيمانِ بأنَّه يحبُّها كثيراً، وسيخلص لها، فما كان منها إلَّا إنّْ ذكَّرته بحلاوة لسانه الذي اعتاد على النطق بكلمة الحبِّ الكاذبة، وتذكيره بأنَّ الحبَّ شُعور إنساني صادقٌ ومقدَّسٌ ونصيحة وصدق واهتمام بهُويَّة الآخر وليس عَلاقةً مشبوهةً.

8- قِصَّةُ (خَرساءُ الأساورِ)

إذا كانت القصَّة السابقة قصَّةُ العرض المسرحي الهزيل للزواج الذي انتهي بالفشل الذريع؛ نتيجة فعل الخداع والمراوغة والكذب، فإنَّ قصَّة (خَرساءُ الأساورِ) تتحدَّث عن فشل العلاقات العاطفية الزوجية بين رجلٍ وامرأةٍ؛ بسبب إهمال بالنفس وعدم العناية بها، والخيانة والكسل والتراخي والانجذاب إلى الطرف الآخر اللَّافت للمشاعر والأحاسيس وسط هذا العالم والزمن الرديء المملوء بالعفونة والتفسخ الخُلقي القذر:

" أخيرَاً قًبلتُ العَرضَ، بِتعويضِي مَبلغَاً مَاليَّاً كًبيراً، عَنِ الإحباطِ الَّذِي أصابنِي، وَالإهانةِ الِّتِي تَعرضتُ لَهَا، بَعدَ قِيامِ زَوجِي رَجُلِ الصَّناعةِ الشَّهيرِ بِاختيارِ صُورةِ الخَادمَةِ كَفتاةِ إعلانٍ تَظهرُ إلَى جَانبِ مَنتجاتهِ عَلَى كُلِّ أَغلفةِ المَجلَّاتِ، وشَاشاتِ التَّلفزةِ وَلَوحاتِ الشَّوارعِ، مِمَّا جَعلنِي مُوضعَ السُّخريةِ بَينَ أقاربِي، وَكُلِّ صديقاتِي اللَّاتِي كُنَّ يَعرفْنَ أنَّ الفَتاةَ مَعِ الإعلاناتِ، لَمْ تَكُنْ سِوَى خَادمةِ المَنزلِ، تِلكَ العَاملةُ الِّتي طَالمَا نَصحتنِي الصَّديقاتُ وَالقريباتُ بِعدَمِ الإبقاءِ عَليهَا؛ بِسببِ جَمالِهَا الأخاذِ وَسِحرِهَا الَّذي كَانَ بِوسعِ أَعيُنِ هَؤلاءِ النُّسوةِ التّسلَّلَ إليهِ خَلفَ ثِيابِ المَطبخِ" . (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 79، 80).

وإزاء ما حدث لها من فشل زواجها الأول، حصل إثر ذلك الفراق والانفصال بين الزوجين، وكلُّ شيءٍ تمَّ بانتظام، بيدَ أنَّ شعورها بالمرارة والوجع كامرأة أُنثى لم ينتهِ. فضلَّ يراودها ويعيش معها مثل ظلِّها ونبضها يُذكرها بمحطَّات حياتها الزوجية السعيدة مع زوجها السابق الذي انفصلت عنه. فراحت تبحث عن فرصة عملِ تعوُّضها عما حصل لها من انتكاسةٍ وحزن ٍوألمٍ اجتماعي:

"كُنتُ فَتاةً فِي مُقتبلَ العمُرِ، مُمتلئةَ القِوَامِ- وَهَذَا بَالذِاتَ مَا شَدَّ ذَوقَ صَاحبِ الشَّركةَ - حَسبَ مَا عَرفتَهً تَالياً، إلَى جَانبِ لَباقتِي وَثَقافتِي وَثِقتِي بِنفسِي وَأناقتِي، فَوافقَ مِنْ دُونَ تَردُّدٍ. بَعدَ حُصولِي عَلَى الوِظيفةِ، بِشهورٍ قَليلةٍ، أصبحَ يَتودَّدُ لِيِ، ثُمَّ أصدرَ قَرارَاً بِترقيتِي لأكونَ مُديرةَ مَكتبِه، كَنتُ آنذاكَ مُرتبطةً بِعَلاقةٍ عَاطفيةٍ مًعً شًابٍ رًافقنِي سًنوات ِالدَراسةِ الجَامعيَّة". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الِاغترابَ، ص80).

وبعد أنْ اتَّفقا على مراسيم الزواج حصلت معارضة شديدة من والدة الزوج التي كانت لا تُريدها زوجةً لابنها، فَرَضَتْ سيطرةً على ابنها وخضع لاستسلامها ولم يخلف لها أمراً؛ بسبب مزاجيتها:

"لَيسَ بِيدِي شَيءٌ، خَيَرتَنِي بَينكِ وَبَينهَا، لَا تَظُنِّي الأمرَ هَينَاً عَلَيَّ، أنَا تَائهَةٌ، إنْ أغضبتَهَا سَأكونُ مِنَ العَاقِينَ، وَإنْ تَركتُكِ سَأكونُ مِنَ النَادمِينَ، سَاعدينِي. - كَيفَ أُساعدُكَ؟ هَلْ عِندَكِ أملٌ بِإقناعِهَا؟ - حَاولتُ كَثيراً إلَّا أنَّها لَمْ تَقنعْ". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاغترابِ، ص 81).

وعلى الرغم من كل تلك المُنغصات والفشل الذريع الذي تشعر به كامرأةٍ مهزومةٍ، ثُمَّ زواجها من مدير شركتها التي تعمل فيها مديرةُ لمكتبه، وتمَّ لها ذلك الزواج في أفخم قاعات المناسبات، والسفر بعده إلى إيطاليا الساحرة للتَّمتُّع بشهرٍ عسلٍ جميلٍ يليق بهما. وبعد مرور عامٍ تقريباً على زواجها من رجل الصناعة الثري المُترف، وبدء الحياة الرغيدة التي عاشتها في البيت مع أولادها، والذي أنساها الاهتمام بزوجها الجديد وإهماله، وتمثيله بأداء دور الزوج العاشق البارع المحبَّ لها.

وتحذيره لها وتذكيرها بإهمال نفسها وظهور بدانتها التي أخذت تزداد كثيراً، ونُصحهُ لها القيام ببرنامجٍ رياضيٍ للتنحيف عسى أن يردَّ شيئاً من نضارتها وجمالها السابق الأخَّاذ قبل الزواج. نسيت الزوجة نفسها وراح الزوج العاشق ينظر بإعجاب وإثارة إلى خادمة البيت الأجنبية التي كانت فتاةً جميلةً وصاحبة جسمٍ ممشوقٍ وقوام جذابٍ لافت للنظر؛ الأمر المذهل الذي جعله يقع في حبائل عشقها، وهمَّت بحبَّهِ كثيراً والطمع بماله وتجارته، بعد أنْ همَّ بحبِّها أكثر منها شكلاً لا مَبنىً:

"كَيَفَ سَمَحَ لِنفسِهِ أنْ يُهينَنِي بِهذَا الشَّكلِ؟ إذنْ هَذَا السَّببُ الَّذي مَنعهُ أنْ يَبِيتَ لَيلةَ البَارحةِ هُنَا. كُونِي هَادئَةً عَزيزتِي، هِيَ إنْ جَاءتْ أوْ غَدتْ خَادمةُ. لَا يَا إلهامُ، هَذهِ عَشيقتهُ، وَالآنِ تَتَصدَّرُ إعلاناتِ الشَّركةِ، لَنْ أقبلَ عَلَى نَفسِي هَذَا الاِستحقارُ، وَالاستخفافُ بِي، هُناكَ نِساءٌ مُوظَّفاتٌ لِهَذَا الغَرض، لِماذَا لَمْ يَتَّفقْ مَعَ إحداهُنَّ؟ لِماذَا مَعَ خَادمةِ البَيتِ؟". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 85، 86).

حاولت الزوجة المُهملة الاهتمام بنفسها من جديدٍ لترضية الزوج وجذبه، وبذلت المستحيل من أجل ذلك؛ لكنَّ رياح التغيير الحاصلة العابرة أتتْ بما لا تشتهي سُفن الزواج الجارية المرور. ولم ينفعها التردُّد إلى مراكز التجميل والتنحيف والشكل الجديد الذي ظهرت عليه. وكانت النتيجة الأخيرة أنْ حدث الانفصال النهائي، وزواجه من الخادمة التي هربت، ووصولهما لنفقٍ ضيِّق واجهه الاثنانِ معاً أخيراً. وتوثيقاً للمكانية التي اهتمت بها الكاتبة في سردياتها التي تجمع بين الداخلي والخارجي حدثت كلُّ تلك التداعيات السرديَّة للقصة في بلاد المنافي بألمانيا عام 2022م:

"وَكُنتُ كَذلكَ أكملُ مَسيرتِي دُونَهُ هُوَ، عَلَى الرُّغمِ مِنَ الخَبرِ الَّذِي اِنتشرَ بِأنَّ مَنْ بَاعنِي لِأجلِهَا هَرَبَتْ خَارجَ البِلادِ وَهيَ مُتَّهمَةٌ بِسرقةِ رَأسِ مَالهِ كُلِّهِ". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 88).

9- قصَّةُ (غَرابيبُ الأيامِ)

من غير شكٍّ لا بُدَّ من التأكيد السِّيري الذاتي والاجتماعي من أنَّ ذكرى لعيبي الكاتبة والقاصَّة والمرأة (الشّيخَيانِيَّة) التي تنتمي إلى أُسرةٍ عراقيَّةٍ أصيلةٍ فذةٍ، ذات حسبٍ ونسبٍ عريقين، وجاهٍ عشائريٍ كبيرٍ في مجتمع العمارة القبائلي الجنوبي المَيساني والعشائري الريفي وفي عموم العراق كما ذكرنا سابقاً في سرديات هذه الدراسة. فأبوها شيخ عشيرةٍ عام كبير ومهمٌّ، وجدُّها الشيخ الحاج كاظم السَّدخان يُعدُّ من أكبر وأعرق فراضات الجنوب والوسط العشائرية وغيرها في العراق.

عُرِفَ الشيخ كاظم السَّدخان بصاحب الحظِّ والبخت والرأي الذي يجمع بين المشيخة القبلية العشائرية والدِّين باعتراف المرجعية الدينية وقتذاك. فهو شيخ عشيرة البهادل العام وكبيرها وصاحب الرأي التحكيمي السديد الذي تحتكم إليه العشائر العراقية وتقبل بحكمه الباتِّ وفراضته القطعية في زمانه ومكانه.سمعة الرجل الحكيم ومنزلته كبيرة سبقته بين الناس التي تُجلُّه وتحترمه.

فلا غرابة في أُسِ مثل هذه السيرة التاريخية المتأصِّلة أنْ تكون الحفيدة ذكرى لعيبي الكاتبة المُبدعة والبنت المُدلَّلة والشقيَّة معاً –التي لَوَتْ طوارق وتحدِّيات يَدِ زمانها ونخلت بشخصيتها الهُمامة صِعاب وأخطار مكانها- على علمٍ ويقينٍ ودِرايةٍ تامَّةٍ بالتقاليد والأعراف والسُّننِ العشائرية والقبلية المتوارثة اجتماعياً وزمكانياً. وخاصةً تقاليد أهلنا السومريين في الجنوب العراقي المعاصر التي ترتبط بجذورالمكان والزمان والأرض والشرف الاجتماعي البيئي الرفيع في المدينة والقرية.

الأمر الذي جعل القاصَّة على معرقةٍ كاملةٍ بتلك الأعراف والسُّنن العشائرية والنواميس الجاهلية البالية والمُتخلفة التي أخذت ردحاً قارَّاً طويلاً من الزمن تتحكَّم برقاب الناس، وتنوء وترزح تحتها طبقات المجتمع العراقي.وتحت خيمة الظلم والتعسف والاستبداد والتخلُّف وطغيان العبودية الفردية التي لا تحتكم إلى الدين والشريعة، بل تأخذ تعاليمها الموروثة من حكم العشيرة التي تنزح الكثير من قوانينها إلى الجاهلية التقليدية التي تستعبد الناس و تحدّ من حريتهم الإنسانية وتطلُّعهم الذاتي.

ومن خلال قصَّة (غَرابيبُ الأيامِ) يتحوَّل السرد القصصي عند الكاتبة من سكَّة الحياة الحضرية والعصرنة والمنافي الغريبة إلى شرعنة حاضرة الريف العراقي وقبضته التحكمية، وبالأخصِّ إلى ناصية التقاليد والأعراف العشائرية المُتحكِّمة بمصائر الناس والمُتسيِّدة بحياة وعبودية الإنسانية:

"لَمْ أُصدقْ أنَّ اِنتمائِي لِعشيرتِي وَتَفاخرِي بِها يَلزمُنِي التَّمسُّكَ بِتقاليدِهَا، أو الخُضوعَ إلَى عَاداتِها! حَتَّى وَإنْ كَانتْ مُنافيةً لِلحُريَّةِ وَالمَعقولِ. كُنتُ أحسبُ أنَّ مُستوَى تَعليمِي وَثَقافتِي دِرعَانِ قَادرانِ عَلَى صَدِّ بِعضِ العَاداتِ وَالتَّقاليدِ. مَررتُ بِمواقفَ عَديدةٍ صَنعتنِي مِنْ جَديدٍ. جَعلتنِي اَختارَ نَفسِي، وَأفلتُ اليَدَ الَّتِي لَا تَأخذْ بِيدِي لِملاذاتٍ آمنةٍ، مَواقفٌ أُجبرتُ أنْ لَا أعترِفَ بِالرابطةِ الَّتِي تَركتنِي أَغرقُ بِدمعِي وَحُزنِي وَحدِي...". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 89).أي رابطة العشيرة وسُنَنِ قوانينها.

في هذه القصَّة المؤلمة تتماهى الكاتبة القاصَّة معَ بطلتها الشبيهة بالحياة والعادات والتقاليد والدراسة والثقافة المعرفية المكتسبة التي توارثتها من تقاليد المجتمع والبيئة والحياة العلمية الثرّة:

"كُنَّا نَعيشُ فِي مَدينةٍ بَعيدةٍ عَنْ مَسقطِ رَأسِي، كَذلِكَ بَعيدةٌ عَنه جَميعِ أقاربنَا. أكملتُ مَراحلَ دِراستِي، وَكَبرتُ هُناكَ...أحببتُ وَتزوجتُ بِمباركةِ وِالديَّ مِنْ دُون مُشكلاتٍ أو تَدخُلِ القَبيلةِ. غَيرَ أنَّ الأقدارَ لَمْ تَمهلنِي الكَثيرَ، فَقدْ بَكَّرَ قَدرٌ مَشؤومٌ بِموتِ أبِي، فِراقٌ تَركَ بَصمةَ حُزنٍ مَا فَتئتْ أنْ تَجدَّدَ مَعَ ألمِ خِيانةِ زَوجِي مَعَ أُخرَى، وَتَركَ فِي صَدرِي ثُقوبَاً لا تُحصَى، فَرجعتُ إلَى غُرفتِي فَي بِيت أهلِي مُنكسرةُ مُنطَفئَةً". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 89).

هذا الحدث قد أحدث شرخاً كبيراً في حياة وشخصية البطلة (غَيداء) وغيَّر مجرَاها التقليدي ونال من شخصيتها وكبريائها الذاتي تحت غطاء القرابة. وعلى إثر وفاة والدها تتصاعد الأحداث بشكلٍّ سريعٍ مقصودٍ، ويتدخَّل أبناء عمومتها الذين طلبوا من والدتها أنْ تترك مثابة بيتها في المدينة وتنظَّمَ إلى الريف أو القرية تحت غطاء المسمَّى العشائري الذي يرفض البقاء في المدينة دون وَالٍ يرعى حياتهم الأسرية. وهي حجَّةٌ اتَّخذوها للتقرَّب منهم وإذلالهم بفرض حكم جائر جُوبٍهَ بالرفض الشديد وعدم الرضا من قبل والدتها وأخيها الأكبر مشتاق، بيدَ أنَّهم لم يستمعوا لرأي الأسرة وأصرُّوا:

"مَرَّ أُسبوعٌ وَاحدٌ، وَعَادَ أولادُ أعمامِي وَمَعهُم عَمِّي الكَبيرُ، وَكَانتْ زِيارتُهم هَذه ِالمَرَّةِ بِإشارةٍ مِنْ شًيخِ القَبيلةِ: -الشَّيخُ يُبلغكُم السَّلامَ، وَيقولُ صَارَ لِزامِاً اِنتقالكُم إلَى مَدينتنَا. -قَالتْ وَالدتِي : رَاحتُنا هُنَا، وَمعيشتُنَا هُنَا كَمَا أَخبرتُكُم سَابقَاً. -سَنقومُ بِتوفيِر جَميعِ اِحتياجاتِكُم، لَا تَكسرُوا كَلمتَهُ". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 91).

وكان طلبهم مشروط بالتقاليد والعادات العشائرية المتوارثة؛ بحجَّة أنَّ بقاءهم في المدينة دون رجل يرعاهم، وهذا يعدُّ (عيباً)لا يتناسب مع قيم العشيرة ونسقها العرفي الحاكم.وكان ردُّالأبِّ الكبير لهذه الأسرة هو الفيصل في الأمر والرفض هو الجواب الأخير في بقائهم بالمدينة دون رجلٍ مُعيلٍ:

"بَعدَ إِذنكَ عَمِّي، أنَا رَجلُ البَيتِ، سَأفعلُ مَا كَانِ يَفعلهُ أبِي، أُمِّي وَأُختِي سَتعيشَانِ مُعزَّزَتينِ مُكَرَّمَتينِ، لَا أسمح ُلِأحدٍ أنْ يَفرضَ سَيطرَتَهُ عَليهُمَا". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 92).

وفي ظل هذا التوتر المشحون بالعداء وكسر الأنوف وتمريغها، والخضوع للاستسلام والقبول، رفضت غيداء طلب ابن عمها عبد الجبَّار في الزواج منه أو الاقتراب من رجلٍ غريبٍ غيره؛ كونها امرأةً مُطلقة ولا تودُّ تكرار التجربة أو الزواج مرةً أخرى من رجلٍ مُتمسكٍ بتقاليد العشيرة الظالمة وجهلها بالحياة العصرية؛ الأمر الذي أصابها بالفزع وجعلها ترفض الزواج غير المتكافئ:

"أَعرفُ أنَّي أَعيشُ فِي مُجتمعٍ قَبَلِيٍ، وَبَلدٍ تَحكمهُ الأعرافُ وَالتقاليدُ، حَتّى وَإنْ كَانَ الظَّاهرُ غَيرَ ذَلكَ، كَمَا أعرفُ أنَّ الكَلمةَ أصبحتْ عِبارةً عَنْ رَصاصةٍ حَيَّةٍ، وَقَدْ تَنطلقُ مِنْ أقربِ فُوِهَةٍ، أوْ مِنْ فُوِهَةِ قَريبِ". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 95). إذن غيداء أصبحت بين نار القبيلة ونار الحياة المدنية.

وإزاء ما يحدث لغيداء من أمرٍ جَللٍ وَرَدَ حياتها الخاصَّة، فقد افتضح أمرها بين زملائها في الدائرة والعمل، وكأنَّها تعرَّضت إلى صفعةٍ جديدةٍ لطمتها على خدِّها، أوجعتها آثار فاجعة الضربة بغتةً وحوَّلتها إلى طائرٍ صغيرٍ محكومٍ بقفصٍ مقفولٍ عليه من جميع الجوانب لا حريَّة له ينعم بها. الأمر الذي جعلها تُفكِّر أكثر من مرَّةٍ بالانتحار من أجل الخلاص من سيطرة هذا الزواج بالإكراه:

"هَلْ الاِنتحارُ أسهلُ الطُّرقِ لِلتخلُّصِ مِنْ ضِيقٍ يَصيبُنَا؟ هَلْ يَرضَى الخَالقُ لِلمخلوقِ هَذَا المُوتَ، وَفِي الحَياةِ مُتَّسعٌ لِلعيشِ والأملِ. -لَا يَا عَزيزتِي، لَمْ أصلْ إلَى مَرحلةِ اليَأسِ وَلَا الهَزيمَةِ، بَلْ أُفكِّرُ كَيفَ أسحقُ تِلكَ الفَكرةَ وتَدميرَ ذَلكَ الوَضعِ، وَأنَا وَاقفةٌ عَلَى أقدامِي وَبِكامِلِ قَيافتِي الذِّهنيةِ والَّنفسيَّةِ". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 96).

ومن القرارات العشائرية التي أُصدِرتْ بحقِّ زواج غيداء من رجلٍ آخر غير ابن عمِّها هو ما يُسمَّى في العُرف العشائري العراقي بقضية (النَّهوةُ العشائريّةُ)، أي عدم التقرُّب منها أو الارتباط أو خطبتها أو الزواج منا بتاتاً.وهو حكمٌ عُرفي عشائري جائر أخذ بالانحسار والتلاشي أيامنا هذه:

"نَعَم اُعتبرَتْ (النَّهوَةَ العَشائريَّةَ) جَريمةً، وَسُنَّ لَهَا قَانونٌ فِي بَلدِي، لَكنْ مَنْ يَعترفُ بِهِ إذَا كَانَ التَّعصبُ القَبَلِي سَيِّدَ المُوقفِ. مَنْ يَتقرَّبُ مِنْ فَتاةٍ وَهوَ يَعرفُ أنَّها (مَحجوزةٌ) تَحتَ هَذَا العُرفِ؟ وَمَنْ يَمنعُ فَتاةٍ تَتَجَرأُ وَتَسجنُ أقاربَهَا مِنْ أجلِ أنْ تَتزوجَ؟". (عَواطفٌ عَلَى لَائحِة الاِغترابِ، ص 97).

وكان قرار غيداء الأخير هو الهروب من المدينة، ومن أعراف وقرارات وسُنن تلك التقاليد الحاكمة والظالمة إلى مكانٍ بعيدٍ آخر يضمن لها حقَّ التمتُّع بحريتها الشخصية دون رادع أو مؤثِّر سلبي يمنعها من ذلك. فعلى الرُّغم من كلِّ تلك التحدِّيات والصعاب تركت غيداء وطنها وغادرت، مُعلِّلَةً سبب هروبها واتخاذها لمثل هذا القرار السريع؛ بأنَّها لا تُريد السير في طريق شاقٍّ لا تعرف نهايته، رُبَّما يؤدِّي إلى العُتمة والنفق الضيق الذي لا تُحمدُ عُقباه أو نهايته الختامية المؤثِّرة:

"فَغَادرتُ الدارَ، وَالنَّخلاتِ وَالوطنَ وَالذِّكرياتِ... إلَى بِلادٍ لَا تَعرفُنِي وَلَا أعرفُهَا، بَيدَ أنَّي أعرفُ بَأنِّي اُمرأةٌ وَاحدةٌ مِنْ بَينَ ألفِ ألفٍ... تَعرفُ مَا لَا يَعرفُهُ النَّهرُ". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاغترابِ، ص 97).

هكذا كان شعور غيداء النفسي التي تشاركها الكاتبة قلقها الوجودي وهجسها الذي كان تحت طائلة الانتظار الصعب المشوب بالتشاؤم، فتحوَّل إلى حُريَّة حمراء تخرق الزمن الشقي والتقاليد.

10- قصَّةُ (كونٌ رمَادٍئٌ)

هذا الكون الرمادي الدال على رمزية الحياة والموت والوجود والخسارة والإحباط والنكوص، والشعور بالحزن والاكتئاب والغموض والتعقيد واللَّا توازن النفسي الذي وضعته الكاتبة عنواناً بارزاً ومُميَّزاً لعتبتها القصصية اللَّافتة لم يأتِ تدوينه السردي من فراغٍ عابرٍ مجهولٍ أو من خيالٍ سرديّ رؤيوي مفتعل وافتراضيٍّ وهميٍ، بل كان فعلاً يقينياً حقيقياً قارَّاً خلف نقاب اللُّغة ورموزها البلاغية وموحياتها السيمائية. وكان جزءاً مهمَّاً من توثيق سيرة الكاتبة الذاتية والشخصيَّة الخاصَّة إنْ لم أكن مُغالياً ومجاهراً بالحقيقة المرَّة الصادمة، ويتعلَّق بأهمِّ حدثِ مرَّ في تاريخ حياة وجودها وسجل ذكرياتها الإنسانية والاجتماعية الضاجَّةعبرالزمكان بالمفارقات الحياتية الصادمة والمؤلمة.

ومُلخَّص القصَّة أو ثيمتها الرئيسة تتحدَّث باختصارٍ عن رمزية شيخ عشيرة عامٍ كبيرٍ ومهمٌّ من الجنوب يُقَتُل في مُضيف أخيه الذي هو (دَارةُ الضيوفِ) العشائري الرمزي العام للقبيلة. وتتداخل أحداث الجريمة وتتشابك خيوطها في ثلاثة أمور مهمَّةٍ تتراوح بين ثنائية (الشكِّ والإثبات)، أولها: بين لصوص مارقين يسرقون (الحَلَالَ)، أي قطيع الحيوانات من الماشية والأغنام، وثانياً: بين (القتلة) من طالبي الثأر منهم، وثالثاً: بين ابن العمِّ الذي تقدَّم للشيخ القتيل بطلب يد ابنته (رباب) البطلة للزواج منها، وكان الشيخ القتيل قد رفض تزويجه منها لأسبابٍ خاصَّةٍ يحتفظ بها لنفسه ولعائلته. رُبَّما هناك أمر رابعٌ أو نسقٌ مُضمرٌ خفيُّ محتملٌ يتعلَّق بمشكلاتٍ تخصُّ قطع الأراضي الزراعية.

رباب هو الاسم الافتراضي أو المُستعار لصاحبة هذا الكون الرمادي، والذي تعدُّ قصته واقعيةً حقيقيةً بحتةً لم يتغير من أصل بنيتها الحكائية السرديِّة سوى أسماء الشخصيَّات الفواعليَّة المهمة التي بُنيت عليها الحكاية وفكرتها في هذ الكون الناري المشتعل بالثأر الذي تحوَّل إلى بقايا رمادٍ لفعلِ نارٍ انطفأت وموتٍ بطيءٍ مغلٍ بالحزنِ والألمِ الشديدِ، والأمرِ الجَللِ الذي ما زالت قصته تفتق الجرح وتتكئ الألم:

"أيادٍ طًريَّةُ الَملمَسِ بَيدَ أنَّها تَحترفُ خُشونَةً مُستترةً، كِدموعِ تَماسيحٍ تُوهمُ الضَّحيةَ بِعطفٍ مُفترضٍ، بَينَمَا لَا تَبلعُ التَّماسيحً ضًحايًاهًا إلَّا مَعَ غُدَّةٍ تَفرزُ ذَلكَ اللُّعابَ المُرتَدِيَ ثَوبَ الدُّموعِ! كَمْ هِيَ مُخادعةٌ تَلكِ الأيادِي الغَادرةُ..." . (عَواطفٌ عَلَى لَائِحةِ الاِغترابِ، ص 98).

رواية مقتل هذا الشيخ الجليل تذكرها الكاتبة ذكرى لعيبي في صفحات هذا الكون الوجودي الأسود المُميت المنطفئ الذي من بقاياه الدلالية الرماد المُنبعث من جذوة الحدث الواقعية في مجموعتها القصصية هذه، فتقول مصرِّحةً ومعلنةً للقارئ على لسان بطلتها رباب أنَّ الرجل الضحية المقتول:

"كَانَ الَفقيدُ أبَي... مَاتَ مَغدوراً بِثلاثَ عَشرَةَ رَصاصةً فَي الصَّدرِ، قَبلَ يَومٍ وَاحدٍ قَصَدَ بَيتَ عَمِّي القَاطنَ فِي الرِّيفِ؛ لِمتابعةِ أُمورِ الفَلاحينَ وَالأراضِي الزِّراعيَّةِ هُناَكَ، وَدَفعَ أُجورَهُم المُستحقَةَ. وَعاَدةً كَانَ يَقضي اليَومَ وَاللَّيلةَ عِندَهُم، وَيَرقدُ فِي دَارةِ الضُيوفِ، لَكنْ شَاءَ القَدرُ أنْ يَفترشَ السَّريرَ المُوجودَ فِي فَناءِ الدَّارِ-كَمَا هِيَ التَّقاليدُ هُناكَ- غَيرَ أنَّ الحَدثَ الَفاصلَ جَاءَ -حَسَبَ الرِوايةِ- حِينَ دَاهمَ مَجموعةٌ مِنَ اللُّصوصِ أو طَالبيِ ثَأرِ، تَفاجَأوا بِوجودِ رَجلٍ يَنامُ هُناكَ فَأردوهُ قَتيلاً وَهوَ فِي إغفاءتِه؛ هَذَا مَا رَواهُ أحدُ أبناءِ العَمِّ! ولَمْ أُصدقهُم، وَلنْ نَصدقهُم جَميعاً... لَا أحدَ مِنَ الأحبابِ صَدَّق رِوايتَهُم، أصابعُ الاِتَّهامِ تَوجَّهتْ إلَى أحدِ أولادِ عَمِّي الَّذِي كَانَ مُتواجداً تِلكَ اللَّيلةِ فِي بَيتِ أبيهِ، لَكنَّ كَبيرَ العَشيرةِ أمرَ بِالتزامِ الصَمتِ حَتَّى تَنتهِي أيامُ العَزاءِ. أُمِّي طَالبَتهُم بِعدمِ إقامةِ أيِّ      عَزاءٍ... حَتَّى يُعرفُ القَاتِلُ!" . (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 99).

لقد خيَّم الحزن على عائلة الشيخ المقتول أبي رباب، كما خيَّمَ الصمت المطبق على أهله، وركنت عقابيل الجريمة تحت طي الكتمان، وَربَّما على الأقل نٌسبتْ إلى فاعل أو قاتل غير معروفٍ برغم الشكوك المحيطة بالموضوع. وخاصةً في الأيام السبعة الأولى من العزاء الذي رَفضت أم رباب زوج الشيخ إقامة مراسيم العزاء قبل التعرَّف على هُوية الجاني أو القاتل الذي قام بواقعة الحدث.

وتنقل لنا القاصَّة مشاهد سرديةً ميلودراميَّةً وتراجيديةً مأساويةً أليمةً لحزن النساء (الشِّيخانيَّات) من أسرة ذوي الشيخ القتيل، و بنات أخيه ممن تربطهُنَّ به صلة نسبٍ وَرَحِمٍ وقرابةٍ وبأبنائه وبناته. مشاهد فاجعية مُثيرة غريبة في تأبين الشيخ وذكر مناقبه والقيام بضربٍ مُبرحٍ ولَّطم على الصدور:

"اِنشدهتُ... أجسادٌ بَضَّةٌ، نَاعمَةٌ، وَكَأنَّهَا قِطعٌ مِنْ بَلورٍ أبيضَ مُزيَّنَةٌ بِحبَّاتِ الكَرزِ اللَّامعةَ، وَأُخرَى مُطعَّمَةٌ بِحبتينِ مِنْ يَاقوتِ الرُّمانَ، وَكأنّهُنَّ لَمْ يَحبلْنَ أوْ يَرضعْنَ صِغارَهُنَّ! مِنْ أيِّ جَنَّةٍ هَبطتْ هَؤلاءِ النُّسوةُ؟ مَنظرٌ رًهيبٌ، اِختلاطُ الحُزنِ بِالجمالِ! كُنتُ أظنَّ أنَا فَقَط أتميَّزُ بِهذِهِ الصِفاتِ!". (عَواطفُ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 101).هذا هو جمال المرأة الشيخانية الذي اكتشفته الكاتبة بِهُنَّ.

ومن مفارقات العَجبُ العُجاب إنَّ هؤلاء النسوة المُعزيَات يَقمْنَ مجلس العزاء في وقت النهار بإجراء مظاهر اللَّطم المُدمِي والضرب المباشر القاسي على الصدور وبأصواتٍ يعلوها الفزع والغم والحزن والانكٍسار، أمَّا في وقت اللَّيل فيأخذنَ بحبوحة من الوضع المسترخي والطبيعي يأكلن بشكل عادي ويتندرْنَ بالمرح في بيت العزاء الذي يسمَّى (بالصَّيوان)، بالرغم مما عرف عن النساء الشيخانيات بأنهُنَّ مرحات عاشقاتٍ للحياة، ويبدو أنَّ لكلِّ وقتٍ حُزنهُ وفرحهُ الذي يظهر فيه.

وإثر هذا الجوِّ المشحون بالحزن والمعبَّأ بالافتراضات والشكوك بأحداث الجريمة النكراء، كَثُرتْ الأحاديث والأقاويل والشائعات من قبل النسوة اللَّواتي المُعزِّيات ولفيفٍ من الجيران حول مقتل الشيخ. فمنهم من رمى الكرة في ملعب رباب ابنة الشيخ الضحيَّة الذي رفض تزويجها لابن عمِّها الذي قُتِلَ الشيخ في بيتهم؛ لكي تُبّرَّأ ُساحتهم من الاتهام بمقتله الذي يدينهم بفعل الجريمة الغامض:

"وَانقسمَتِ العَشيرةُ إلَى أكثرِ مِنْ فُرقةٍ، وَكَأنَّ الاِنقسامَ قَدَرٌ مَحتومٌ يَبقَى مُستترَاً وَحِينَ يَنفجرُ بُركانُ الكَارثةِ يَظهرُ عَلَى المَلَأ كَغيمةِ غَازَ خَانقٍ، تَهبِطُ تِلكَ الغَمَامَةُ وتَغزو الرُّؤوسَ وَتَستقِرُّ رُؤى الاِنقسامِ فِي العُقولِ العَطشَى لِلكافِ واللَّام...أَهلُ البَيتِ قَالُوا: مَجموعةٌ مِنْ لُصوصٍ أطلقُوا النَّارَ وَهَربُوا. اِبنُ العَمِ المُتهمُ أنكرَ تَواجدَهُ فِي مَكانِ الحَادثِ تِلكَ اللَّيلةَ، وَالشُّهودُ أكَّدوا كَلامَهُ. السِّلاحُ الَّذي أُطلِقَ مِنهُ النَّارُ تَبخَرَ. لَا دَليلَ عَلَى الجَريمةِ، غَيرُ دِمٍ مُزَكَّى اِرتوتْ بِهِ أرضُ جَدباءُ". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 103). رُبَّما هناك حساباتٌ خفيَّة ومَا خَفِي من الاتِّهام كان أعظم.

لقد أحدث هذا المصاب الجلل أثراً نفسياً كبيراً على ابنة الشيخ القتيل الفتاة (رَباب) التي هي في الحقيقة شخصيَّة الكاتبة أو البطلة الساردة أو صاحبة القصَّة. لقد تعرَّضت للإغماء وفقدان الوعي، وتمَّ عرضها نتيجةَ ذلك على بعض العرَّافين أو المُهتمِّين بِالروحانيَّات الشعبية، فمنهم من قال إنها مَسحورة أو مُتلبسَة السِّحر أو مَسقيَّة به، ومنهم من نصحهم بالذهاب بها لزيارة السيَّد (أبو سِدرة) المعروف بالسيَّد ماجد الهاشمي. في حين كان أخوها يرفض كل هذه الادعاءات والافتراضات المقدَّمة، ويدعو إلى الذهاب بها إلى مستشفى الراهبات في بغداد لمعالجتها نفسياً وطبياً وإنسانياً:

"...غَيرَ أنَّ صَوتَ أخِي تَناهَى قَائلاً: لَا هَذَا وَلَا ذَاك لَا بُدّ مِنَ السَّفرِ إلَى بَغدادَ، مُستشفَى الرَّاهباتِ الخَاصِ هُنَا يُعالجُ حَالتهِا. إلَّا أنَّ الجَميعَ اِتَّفقوا عَلَى أنّْ يَأتُوا بِالعرّاف لِلبيتِ؛ لَأجلِي... وَقَدْ جَاءَ العَرَّافُ..." (عَواطفٌ عَلَى لَائحِة الاِغترابِ، ص 104، 105). حَدثَ كُلُّ ذلك الأمر لها لكنْ دون جدوى.

وتنطوي صفحة مقتل هذا الشيخ المغدور وقصَّة واقعته الحدثية المثيرة للجدل وما خلَّفته من آثارٍ سيِّئةِ على الأطراف المتشاكلة، وتُسجَّلُ جريمة قتله ضد فاعل مجهول الهُوية، ويجلُّ محلُّها بدْء مرحلةٍ جديدةٍ من مراحل الحياة برغم مرارة المأساة التي خاضتها البطلة رباب أو الكاتبة العليمة بهذه القصة حينما وضعت الأمل والعلم عند الله عدلاً بدلاً من الاتِّهام الذي يٌمزِّق القلوب:

"وَمَعَ اِنبلاجِ فَجرٍ جَديدٍ وُلِدتْ نَجمةٌ مُشعةٌ فِي مَسارِ كَونٍ رَمادِي". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاَغترابِ، ص 107).هذه الولادة الجديد التي وظَّفتها الكاتبة في خاتمتها التأملية تشي بحياةٍ جديدةً بعيدةٍ عن الثأر والدم المسفوك الذي ترك ليومنا نُدوباً عالقة في القلوب بين العائلتين وبين أفراد العشيرة المتشاكلة.

11- قصَّةُ (زواجُ الدَّمِ)

زواج الدم أو ما يُعرفُ عشائرياً بـ (المَرأة الفُصْلِيَّةِ) من المصطلحات والمفاهيم التراثية الشعبيَّة العراقية العشائرية التي خلَّفتها الأعراف والسُّنن القبيلة المتوارثة في المجتمع بحقِّ المرأة. ويعني زواج الدم، المرأةَ التي تُمنحُ هِبَةً دونَ مقابلٍ مع الديَّة إلى أهل القتيل أو ذويه من عشيرته بوسائل قسريةٍ كالغصب والإجبار والظلم والإكراه والعدوانية المقَّننة. وهذا المفهوم العشائري سائد في العشائر العراقية، وخاصَّةً بين العشائر الجنوبية الريفية الصرفة التي تلتزم بهذه السُّنة التقليدية.

وقد أخذ هذا الزواج بالانحسار والتلاشي بعد طغيان المدنية وانتشار مظاهر العصرنة، وتفتح الوعي بين كثير من أبناء الريف والقرى في العشائر. وفي ظلٍّ هذا المقام السردي تعكف القاصَّة ذكرى لعيبي على أرخنة وتدوين وتوثيق تاريخ هذا الفعل القميء اللإنساني المؤلم؛ لا لكونها المرأة الشيخانية التي تُنسب لأُسرةٍ عريقةٍ من الشيوخ المعروفين، وذات الحسب الرفيع والوجاهة والتحكيم في المجتمع العراقي الميساني فحسب، وإنَّما لأن ثقافتها وتعليمها ونفسيتها الذاتية كامرأة حُرَّةٍ تستهجن دونية هذا الفعل وترفضه كليَّاً برغم تمسكها بتقاليد العشيرة وسُننها التقليدية الباتَّة.

فضلاً عن معرفتها التامة بما يُسمَّى بزواج (الفُصليَّة)، أي المرأة التي تُعطى (فَصْلاً) مع دِيَّة القتيل لأهله كأحد شروطها التي ترى فيه العشيرة شرطاً وعقوبةً وتعويضاً وإذلالاً لأهل الجاني بالفعل الحدثي. ولتقرأ في هذا الجوَّ التراجيدي مشاهدَ وصورَ الحزن الطاغية على زفاف الفُصليَّة:

"زَغاريدٌ غَائبةٌ... خُطَىً ذًليلةٌ... ومَشاعرٌ مُنكسرةٌ...وعَواطفٌ مُرتبكةٌ... لَا وجُودَ لأيِّ مَظهرٍ مِنْ مَظاهرِ الفَرحِ... هَكذَا كَانتْ لَيلةُ عُرسِي! كُنتُ أحلمُ مِثلَ أيَّةِ فَتاةٍ في أنْ تَكونَ لَيلةُ العُمرِ، أجملَ لَيلةٍ فِي حَياتِي، وَأنْ ألبسَ فُستانَاً بِلونِ الثَّلجِ، تُزَيِّنهُ قَصَباتُ الكِريستالِ وَحَبَّاتٌ مِنْ اللُّؤلؤِ، وَأضعُ فَوقَ رَأسِي تَاجَاً، يَتَدلَى مِنهُ إكليلٌ مِنْ قِماشِ التُّورِ الخَفيفِ". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 108).

وتُعزَى أسباب زواج الدم (الفُصليَّة) إلى حدوث جريمة قتلٍ سواء أكانت مقصودةً عن عمدٍ أو غير عمدٍ تحدث نتيجة خطأٍ أو فعل طارئ أو حادثٍ يؤدِّي إلى مقتل الإنسان فيكون ديَّةَ تعويضٍ بهذا الزواج غير المتكافئ بين الطرفين المُتوحدينِ ظُلماً وعدواناً؛ فهو أشبه بزواج إكراه وسلب إرادة:

"أقسمُ بِاللهِ لَيسِ قَصدِي أنْ أقتُلهُ.[...] يُمَّه وَاللهِ لَمْ أعرفْ أنَّ البُندقيةَ مَحشوةٌ باِلرَّصاصِ. اِلتفتُّ نَاحيةَ (عَمو أبو رَبيعٍ)؛لأرَى وَجهَهُ وَقدْ تَغيَّرتْ كُلُّ مِلامحهِ، جَلسَ عَلَى الكُرسي:-عَمُو، عَبدُ الكَريمِ قَتلتَ مَنْ؟وَقَبلَ أنْ يردَّ؛هَجمَ عَلَى بَيتنَا لَفيفٌ مِنْ عَشيرةِ آلِ شَبحٍ". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 110).

ومهما يكن من أمر هذا القتل أكان عمداً أم غيرَ عمدٍ فإنَّ عشيرة المجني عليه يطلبون الثأر أو أخذ أموال الدٍيةٍ -بعد التصالح- من أهل وعشيرة الجاني مهما كان شأن الفاعل وأهله وشخصه وحسبه ونسبه ومركزه الاجتماعي في القبيلة. على الرغم من الموقف الذي تسرده القاصَّة من أنَّ :

"قَبيلةُ آلِ شَبحٍ قَدَّرتْ أننَا نِساءٌ لَا حَولَ لَهُنَّ وَلَا قُوَّةَ، وَطَلبتْ أنْ تَجلسَ وتَتفاوضَ مَعَ أعمامِي، وبَعضِ رِجالِ قَبيلتِي. فَكانَ الثَّأرُ دَفعُ (الدِّيَّةِ)، مَبلغَاً كَبيراً مِنَ المَالِ، وَمَعَ اِمرأةٍ (فُصْلِيَّةٍ)![...] حَاولَ عَمِّي الكَبيرُ إرضاءَهُم بِعرضِ مَبلغٍ كَبيرٍ مَقابلَ التَنازلِ عَنَ طَلبِ زَوجةِ الفُصْليَّةِ، غَيرَ أنَّهُم أصرُّوا عَليهَا، بَلْ أحدُهمُ حَدَّدَ مَنْ تَكونُ المَرأةُ! فَكنتُ أنَا.. وُئِدَتْ أحلامِي أمامَ عَينيَّ وَدُفِنَتْ تَحتَ سَريرٍ هَرِمِ...". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 111).

واللَّافت للنظر في تداعيات هذه القصة أنَّ أخت الشاب القاتل كانت طالبةَ ثانويةٍ تدرس وترتبط بعَلاقةٍ عاطفيةٍ مع شخصٍ أو زميلٍ لها في الدراسة يُدعى وضَّاح الذي لم يستطع أنْ يفعل لها شيئاً، أو يقدَّم لها حَلاً ناجعاً يرضيها مثل الزواج بها بعد فوات الأوان، فما كان منها إلَّا وأن دعته للهرب معها، فأبى فعل مثل هذا السلوك؛ كونه غيرَ قادرٍ اجتماعيَّاً على تحمل مسؤوليته العرفية والقانونية:

"نَهربُ أينَ؟ -أيَّةُ مَحافظةٍ أُخرَى، أو خَارجَ الحُدودِ، أنَا لَا أخسَرُ شَيئاً؛ لَأنِّي لَا أملِكُ بَيتَاً لَي أوْ لِأهلِي، وَمَا زِلتُ طَالبَاً، مُوضوعُ هُجرتِي وَتَغرُّبِي لَا تُغيِّرُ مِنْ حِرمانِي وَعَوزِي...-هُجرتِي غَيرُ مُمكنةٍ وَأنتَ تعلمُ لَا أَمتلكُ جَوازَ سَفرٍ، ثُمَّ كَيفَ أهربُ وَأتركُ أَهلِي فِي مُصيبتينِ بَدلَ المُصيبَةِ الوَاحدةِ؟ وَرُحتُ فِي نَوبةِ بُكاءٍ مَريرٍ، وَنَدمٍ كَبيرٍ... نَدمتُ؛ لأنَّنِي لَمْ أوافقْ وَضاحًاً عَلَى الزّواجِ خِلالِ تِلكِ الفِترةِ، شَعرتُ أنَّ سَوطَ القَدَرِ فُقرُهُ عَذَّبنَا مَعَاً، كُنتُ- لَوْ وَافقتْ عَلَى الاِقترانِ بِهِ. لِرَسمتُ حَياةً غَيرَ مَا َرسمُهُ لِيَ القَدرُ". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغتراب، ص 112).

. فاستنفدت كُلَّ وسائل التفكير ولم يعد لديها سوى التفكير بالانتحار كحلٍ سليمٍ يُريحها من الظلم بعد أن خذلها حبيها وضاح في قضية الهروب معها؛ لعجزه وتسليمه للقضاء والقدرأو للأمر الواقع الذي لا بُدَّ منهُ.على الرغم من كونه فعلاً سلبياً مقصوداً وليس قضاءً، بل ضياعاً وخسارةً للعمر:

"وَكَانتْ كَفَّةُ البَقاءِ وَانتظاِر مَصيرِي، الأثقلَ وَزنَاً، والأقلَّ خسائرَ وَإيذاءً لِمَنْ حَولِي... وَلَا ضَيرَ مِنْ خٍسارةِ نَفسِي.. فَأنَا الضَّحيَّةُ شِئتُ أمْ أبيتُ... اتِّصلتْ بِوضاحٍ لِلمرِّةِ الأخيرةِ: -وَضَاحُ غَداً يَومَ مُوتِي. [...] غَداً رُوحِي تُعدَمُ وَكَيانِي يُهدَمُ. وَكَيانِي تَشَظَّى مُنذُ سَماعِي خَبرَ زِفافِكَ يَا رُوحَ رُوحِي... خَارتْ قِوايَ بِأكملِهَا، تَعَالَ لِنهرِبَ". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 113).

لقد ساقها القدر العشائري المَحتوم إلى سفينة هذا الزواج الذي ستغرق في لُججه المُهلكة التي لا أمان في خضمها المتلاطمة ذات الرغبة الإجبارية والإكراه النفسي على شيء لا تحبُّه النفس أبداً:

"دَخلتُ بَيتَ زَوجِي مِنْ دُونَ ثُغاءٍ خَروفٍ يَئنُّ تَحتَ سِكينِ قَصَّابٍ، وَرُبَمَا هَذهِ النُّقطةُ الإيجابيةُ الوَحيدةُ.. إذْ لَمْ تُسفكْ قَطرةُ دَمهِ عَلَى قَدَمِي، إكرامَاً لِسفكِ أغلَى قَطرةِ دَمٍ عِندَ أيِّ اِمرأةَ! كَانَ رَجُلاً خَشناً بِكُلِّ مِا تِعنِي الكَلمةُ؛ مُتجهمَ المُحَيَا، غَليظَ الشَّاربِ، عَيناهُ كَعيني عِقابٍ مُتَسَمِّرَتانِ وَمُركَّزتَانِ عَلَى الجُزء الأسفلِ مِنْ جَسدِي، وَمَا هِيَ إلَّا دَقائِقٌ مُعدودةٌ حَتَّى اِنقضَّ عَلَى كُلِّ تَفاصيلِي... ثُمَّ نَهضَ، اِغتسلَ، وَأدارَ ظَهرَهُ وَغَرقَ فِي نَومٍ عَميقٍ، يُصاحبُهُ شَخيرٌ مُقزٍّزٌ. هَكَذَا مُتُّ، وَهَكذَا حُرِقَتْ أحلامِي، وَنُثِرَ رَمادُها صَباحُ اليَومِ التَّالِي فُوقَ حُقول] خَاويَةٍ، إلَّا مِنْ شَجرةِ عَاقولٍ خَاويةٍ". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةٍ الاِغترابِ، ص 114).

وعلى الرغم من قيود هذا الزواج القسري وطبيعته المُذلة وإهانته للمرأة ولشخصيتها الإنسانية، تمكَّنت الزوجة الفُصْليِّة من كسر قيود مِعصمِ هذا الزواج في البحث عن حُريتها المفقودة التي وُضِعتْ تحت لائحة الانتظار الصعب، فتحدَّثت مع زوجها صارخةً بقوةٍ ما ذنبي أنْ أكون فُصْليَّةً:

"أنَا لَا أُريدُ شَيئاً سِوى أنْ تُعاملنِي بِالحُسنَى. لَمْ يَرِدُّ.-أنتَ رَجلٌ نَبيلٌ... وَشَهمٌّ، وَرُبَّما فَعلتَ هَذَا الأمرَ مَحاباةً لِأهلكَ وَعَشيرتِكَ، لَكنْ هَلْ سَيستمرُّ الوَضعُ هَكذَا؟ عَدَّلَ مِنْ جَلستهِ قَليلا، ثُمَّ تَنحنحَ... وَقَالَ: دِعِي الأمرَ لِلأيامِ. اِعتبرتُ جُملَتَهُ بَدايةً لِتغييرٍ إيجابيٍ سَيحصلُ فِي عَلاقتِنَا، رُبَّما سَيتكلَّمُ مَعَهُم وَيَمنعُهُم مُنادَاتي بِـ: يِا الفُصْليَّةُ!". (عَواطفُ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 115).

ظنَّت الزوجة أنَّ العبارة الأخيرة لزوجها هي البداية لنهايةِ نفقٍ مُظلمٍ حالكٍ طويلٍ في رباط الزوجية؛ ولكن الحقيقة كانت غير ذلك. لقد مرَّت الأيام كسابقتها ولم يحدث لها أيُّ تغييٍر إيجابيٍّ يعتقها من هذا السجن البغيض، بل على العكس من ذلك فقد ظهرت مشاكل كثيرة بخصوص مسألة الحمل وخلفة الأولاد التي لا ترغب بها الزوجة خوفاً من آثار العار الذي يلحق بأولادها عند الكبر إثر تداعيات ما يسمَّى بزواج الفصلية القبلي حينما يعلموا بأنَّ أمهم فُصليَّةً فينكسروا مجتمعياً:

"إنَّني لَا أرغَبُ فِي الإنجابِ، وَاِستخدمِ أقراصِ مَنعِ الحَملِ، وَبَرَّرتُ السَّببَ وَضعِي المُهينُ فَلَا أُريدُ لِأطفالِي أنْ يَعيشُوا هَذَا الوَجعَ، أوْ يُشاهدُوا أُمَّهُم فِي هِذهِ الزَّاويةِ المُعقَّدةِ المُهملَةِ. اِشتاطَ غَيظَاً، فَلمْ أعرفْ مَا حَدَثَ إلَّا بَعدَ مُرورِ سَاعَاتٍ... كَانَ قَدْ لَطمَنِي عَلَى وَجهِي بِقبضةِ يَدِهِ حَتّى سَقطتُ مُغشيَاً عًلَيَّ. كُنتُ أسمعُ عُباراتِ السبِّ والشَّتمِ فِي كُلِّ وَاردةٍ وَشَاردةٍ؛ فَكيفَ لَا وَأنَا أُذَكّرُهُم بِمقتلِ وَلدِهُم عَلَى يَدِ أخِي". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 115).

ومن الجمل والعبارات المُحرَّمة لفظياً وذات التابو الذي لا يتخطَّى حدود العلاقة الزوجية (الفراش) مع هذا الزوج غير المكافئ للحياة الزوجية الخاصة، فقد باحت به القاصَّة في تصوير مشاهد الحياة المشتركة بينهما، لتكشفَ عن أسرار وظلم الحياة التي تَدور تَحتَ سَقفِ واحدٍ ومن طرفه الآخر:

"بَعدَ هَذهِ الحَادثةِ أصبَحتْ مُضاجعتُهَ لِي أشبَهَ بِحالاتِ الاِغتصابِ، وَاتَّسعتْ مَسافاتُ النَّأيِ بَيننَا، خَاصةً عِندمَا عَرفَ أنَّني لَنْ أنجبَ مُستقبلاً؛ بِسببِ عَيبٍ خَلقِيٍ فِي الرَّحِمِ! فَيُصْبِحُ ويُمسِي وَهوَ مُنتفضٌ مِنِّي: -أَصلاً أنتِ اِمرأةٌ عَاطلةٌ عَنْ أنْ تَصبحِي أُمَّاً، كَانَ وَفَّرتِ المَالَ الِّذِي تَشترينَ بِهِ أقراصَ مَنعِ الحَملِ. أوجعتْ رُوحِي جُملتُهُ القَاسيةُ؛ كَمَا أوجعتنِي الدُّنيَا، وَهَذَا القَدَرُ الَّذِي يَتربَصُ بِي. -أَلَمْ تَكتَفِ مِنْ إهانتِي؟ أتَوسَّلُ إليكَ أنْ تَعتقنِي لِوجهِ اللهِ..." . (عَواطفٌ عَلىَ لَائحةِ الاِغترابِ، ص116).

وبَعدَ أنْ أعتقها زوجها من شِركِ هذا الزواج الغصب وطلَّقها، رجعت كسيرةً حسيرةً أسيرةً إلى بيت أهلها الذي صار ملاذاً لعوامل الشتات التشظي والخراب والاضمحلال والتلاشي، فأخوها قد هاجر للخارج؛ بسبب ما حصل له من نكبةٍ وضياعٍ وفعلٍ لم يكن مقصوداً، ووالدتها لَقتْ حتفها ولم يبقَ لها أحد تعيش معه ما تبقى من حياتها، فما كان منها إلَّا الإيواءُ عند أحد أقاربها، والرجوع لجامعتها، والالتفات لمستقبلها الشخصي بعد أنْ فقدت حبيبها وضَّاح الذي تزوَّج بامرأة ثريةٍ تكفَّلتهُ:

"لَمْ أجرَحْ حَبيبِي العَتيقَ بِحقيقةِ اِنهزامِ عَواطفِنَا أمامَ القَبيلةِ وَالعَوزِ، غَيرَ أنَّنِي قَرَّرتُ أنْ أخوضَ فِي الُمستحيلِ المُمكنِ، وَأنْ أبدأَ مِنْ بَعدَ النِّهايةِ؛ فِي البَحثِ عَن ْبِدايةٍ". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 117). ومع هذه النهاية العدمية، كلُّ شيءٍ له عَلاقةٌ بماضيها قد انتهى برماد نهايةٍ لبدايةِ أملٍ جديدةٍ.

12- قِصَّةُ (مَعَاً إلَى الأبَدٍ)

 (مَعاً إلّى الأبدٍ)، هي القصَّة ما قبلَ الأخيرة التي وظَّفتها الكاتبة في متن هذه المجموعة السرديَّة ذات الوقائع والأحداث الحكائية المتراتبة، والتي تتحدَّث فيها الكاتبة عن تجلِّيات الحبِّ وجملةٍ من فيض المشاعر والأحاسيس العاطفية بين فئةٍ كبيرة من الناس؛ وذلك من خلال كمٍ كبيرٍ من الرسائل التي كتبتها القاصَّة بلغةِ ضمير تاء الفاعل الدالة على أنويتها الوجودية؛ لتكون جزءاً مهمَّاً ضافياً من كون شخصيَّات هذه المجموعة السِّيريِّة التوثيقية للحدث والفعل والمعنى والمبنى السردي.

ارتأتْ القاصَّة أنْ تكون رسائلها عبر أثير ومجسَّات التواصل الاجتماعي، قارَّةً من خلال شعورها النفسي والشخصي الفياض، بأنَّ كلَّ شيءٍ وجودي يُحيط بنا قد انتهت صلاحيته وتاريخه. وتقودها بذلك مشاعرها الحقيقية إلى الحبِّ الافتراضي في السوشل ميديا، حبُّ رَجُلٍ أجبني لم ترهُ أو تعرف عنه شيئاً سابقاً سوى أنَّ مشاعرها انقادت إليه تجرُّ أذيالها بهذا الحُبِّ الجديد الذي أعمى قلبها:

"لَيتَنِي لَمْ أقتربْ مِنهُ أكثرَ...وَبَقينَا غُربَاءَ نَتفقدُ بِعضنَا إنْ غَابَ أحدُنَا عَنْ صَفحتهِ فَترةُ وأصبحتْ صَفحاتُ السُّوشلُ مِيديَا بَوابةً وَحيدةً لِمتابعةِ تَدفُقِ هَذَا الشُّعورِ! نَقلقُ مِنْ دُونَ أنْ تُحاصرُنَا الشُّكوكُ والهَواجسُ، نَختلقُ الأعذارَ لِلتواصلِ. لَيتنِي لَمْ أُبادلهُ الحُبَّ عِندَمَا اِعترفَ لِيْ، وَبَقيتُ أتأمَّلُهُ فَقَطْ، كَصبيةٍ تَتأمَلُ صُورةَ الرَّجلِ الخَارقِ فِي المِيديَا، لَيتنِي لَمْ أفتحْ بَابَ القَلبِ؛ لأنَّ دُخولَهُ بِكُلٍّ زَهوٍ حِينهَا تَسبَّبَ بِوجعٍ دَائمٍ مَا بَرِحَ يَتجدَّدُ بِمناسبةٍ أو دُونَهَا. كُلُّ كَلمةٍ أكتبُهَا لَهُ، كُنتُ أشعرُ بِدفءِ حُروفهَا، وَكَأنَّي أرَى لَمعةَ المَحبَّةِ فِي عَينيهِ وَهوَ يَقرأُها، فَأُصفقُ لِنفسِي؛ وَأفترضُ أنَّني اِنتصرتُ عَلَى هَذا العَالمِ الاِفتراضِي". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 120).

لقد قادتها مشاعرها الإنسانية الظمأى التعرُّف إلى شخص أو طبيبٍ أجنبيٍ من ولاية كارولينا الشمالية بأمريكا، الذي كان يَحبُّ قراءة الأدب العربي، والتعرُّف إليه، ويتابع كتابات بطلة هذه القصَّة التي وشمتها بعنوان (معاً إلى الأبدِ) كما تشير بتسريدها الحكائي. فَيتمُّ التواصل بين شخصية وفاء البطلة وحبيبهاالمفترض العاشق الطبيب جون من خلال مجموعةٍ كبيرةٍ ثرةٍ من رسائل الحبِّ والودِّ والإعجاب والغرام الناعم الشفيف وفي فتراتٍ عديدةٍ من الجذب والشدِّ والشكِّ والإيهام:

"جَلستُ أُحدِّثُ نَفسِي..لا أنكرُ أبَداً كُنتُ أتمنَّى أنْ يَعشقَنِي رِجلٌ يُشبههُ فِي كُلِّ مَا عَرفتهُ حَتَّى هَذِه اللَّحظةُ، يُشبهُهَ إلَى دَرجةِ الشَّكِّ..إلَّا أنَّه هُوَ لَمْ يَتطرَّقْ إلَى الحُبِّ وَالعشقِ، رُبَّمَا هَكذَا ثَقافةُ الغَربِ وَمجَاملاتُهم..نَعَم..وَأيضَاً هُناكَ سَيِّدةٌ حَاضرةٌ مَعهُ فِي كُلِّ صُورةٍ!". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص121).

وتمضي عَلاقات هذا الحبِّ والمشاعر الإنسانية المتفاعلة بين وفاء وجون في سلسلة طويلةٍ من الرسائل الماسنجريَّة التواصلية بطريقةٍ شفَّافةٍومُحبَّبةٍ للنفس تُدشَن بأرق العبارات وأجمل التعبيرات الكانَّة عن هذه صدق هذه العَلاقة الجديدة التي تملأ صباحاتها اليومية بالنشاط والفرح في كلِّ يومٍ:

"عَزيزتِي الجَميلةِ؛ أنَا حَقَّاً أُحبُّكِ، أيَّتُهَا الصَّباحُ العَالمِي، الآنَ يُمكننِي تَقبيلَ العَالمِ لَأنَّكِ حَبيبتِي كَمَا أُحبُّكِ، لَكنَّنِي أقبلُ وَإنْ خُيِّرتُ بَينَ حُبِّكِ أو ْجَرةِ نَفَسٍ مِنَ الهَواءِ، فَسأختارُ النَفَسَ الأخيرَ لِأخبركِ أَنَّني أُحبُّك إلَى الأبدِ.[...] هَكذَا كَانتْ صَباحاتِي بِشكلٍ مُتواصلٍ لِمُدَّةِ عِشرينَ يَومَاً". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 126).

هذا النصُّ واحد من بين رسائل العشق الغرامية الكثيرة التي دارت بينهما منذ ابتداء الطين وصيرورة هذا الكون كما تعترف وفاء بسردها القصصي الذي تحوَّل إلى مجموعةِ أفكارٍ ثقافيةٍ ونسقيةٍ وإنسانيةٍ مُهمَّة جدَّاً، وكأنهما فيلسوفان عاشقان صغيران يعيشان ظلال الحبِّ ويَسمُوانِ به:

"كُنتُ صَادقةً جِدَّاً فِي مَشاعِرِي مُؤمنةً جِدَّاً بِوجودِهِ، اِخترقَ رُوحِي وَسَيطَرَ عَلى كَيانِي خِلال عِشرينَ يَومَاً لَا أكثرَ، كَأنَّها عُشرونَ عَامَاً، كَانَ يَعرفُ مَا أُفكِرُ بِهِ، مَا أتمنَاهُ، مَا أودُّ سَماعَهُ، أَغرقنِي بِفيضِ حُبٍّ لَمْ وَلَنْ أراهُ أوْ أحيَاهُ مِنٍ بَعدَ. عِشتُ لِياليَ رُعبٍ لَنْ أنسَاهَا فِي غِيابِهِ...". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص133).

وحثيثاً تسير البطلة وفاء بمشاعرها الجيَّاشة من خلال تُرجمان الكاتبة السَّاردة لهذا الحدث الإنساني الكبير في تبرير المسوغات التي دعتها إلى حبِّ هذا الرجل الأجنبي، وكيف تكون نهاية هذا الحبِّ الذي تعلَّقت به دون أن نعرف نتائجه الأخيرة؟ فهي تعترف بثقةٍ كبيرةٍ بالنفس بأنَّ بعضاً من القرَّاء الأصدقاء الذين تابعوا فعل إرهاصاتها الذاتية التي كانت مُعلقةً بقيدٍ على مشاعر لائحة الانتظار، فكان بعضهم يعتقد أنَّ نهاية هذا الحبِّ ستكون سعيدةً، وهم المُحبُّون المقرَّبون منها جدَّاً.

وبعض منهم توجَّس وخاف من هذه طبيعة هذه العَلاقة السريعة، مُعتقداً أنَّ الطبيب الأمريكي قد يكون شخصاً نصَّاباً يخفي وراءه أصل حقيقته الشخصيَّة، وبَعضٌ منهم اعتقدَ أني ساذجةٌ، وأنَّ مشاعر الغربة ومتاعبها جعلتها تتشبث بهذه القَشَّةِ وسط أحلامٍ وتحوُّلاتٍ كثيرةٍ؛ بسبب كوني سيَّدةً شرقيَّةً عراقيَّةً، وبعضهم الأخر تَصوَّر أنَّ خيالي كان جامحاً في البحث عن طبيبٍ أجنبيٍ غَربيٍّ أوربيٍ يُداوي جرح أمراضي الشخصية المتوارثة جيلاً بعد جيلٍ.

وذلك كوني كما يعتقدون صرتَ ضحيةً من ضحايا وراء الحداثة رغبةً مني في مواكبة العصرنة، وُربَّما هناكَ عند بعضهم الأخر الخفي طُروحات أخرى. والكثير منهم يتصوَّر من أنَّ البطلة أو (الكاتبة) تكون نهاية قصَّتها قريبةً إلى خطِّها الكتابي، والحقيقة أنَّها اختارت أنْ تكونَ لها نهاية مفتوحةً تُرضي أذواق جميع القُرَّاء والمتلقِّينَ ممن يُحبُّون قصصَ الحبِّ الذي يدوم إلى الأبد معاً:

"إنِّي سَيِّدةٌ عَاطفيَّةٌ صَادقةٌ مَعَ ذَاتِهَا، لَمْ يَنصفنِي القَدرُ، وَأحببتُ جُونَ بِصدقٍ بِغضِ النَّظرِ عَنْ التَّاريخِ والجُغرافيَا وَالوَطنيَّةِ وَالحِسابِ...عُذرَاً...كَانَ قَدَرِي دَائمَاً الانتظارَ، وَهَاهِيَ عَواطفِي تَنتظرُ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 135). وهذا اللُّون يُسمَّى حبَّ الجامعة الإنسانية.

فهذا من الاغتراب النفسي والوجودي للكاتبة، هو سبب رئيس من أسباب كتابة هذه القصَّة التي دارت في منافي الاغتراب واللُّجوء الغربي، وغيرها من القصص الأخرى التي تنفتح على الذات الواقعية الجمعيَّة المشتركة.

13- قصَّةُ (المُتعَبُونَ)

آخرُ مشاعر قيد الانتظار في مواجهة هذا الاغتراب النفسي والبحث الوجودي عن هُوية الانتماء الإنساني قصَّة (المُتعبُونَ) التي وردت في ذيل طيَّات وخاتمة هذه المجموعة القصصيَّة الماتعة الأفكار والرؤى والأحداث الإنسانية المتصارعة مع هُوية الواقع الإنساني المعيش. (والمُتعبونَ) تتحدَّث سردياتها التكوينية بصدقٍ عن مجموعةٍ قيمةٍ من الشخصيَّات المجتمعية الناهضة المتنوُّعة التي أصابها التعب والإجهاد النفسي والمعنوي والإحباط الفكري أكثر من التعب الجسدي المُباشر.

فتأتي حكاية المرأة المنتظرة ضحى على رأس هذه القصَّة، ويتبعها أيمن الطالب الجامعي الموجوع نفسياً وإنسانياً، ويتقفَّى ما في الأثر المرأة وهَاج الزوجة المرغمة على الزواج بالإكراه والمساوة دون رغبتها وحبها، وحبُّ الرجل عاطف لزواج الخدعة في التقرب من هالة.هذه جميعها صُلب هذه القصَّة وتُشكِّل مِساحةَ ميلودراما أحداثها السرديَّة، والتي أصبح الكثير منها تراجيديا إنسانيةً حالمةً وباكيةً من ويلات وجع هذا الزمان وتعقيداته وإشكاليات عصرنته الزمانية الخطيرة.

فشخصيَّات مثل، (ضُحى وأيمن ووهَاج وصَلاح وهَالة وهَاشم وَاطف)، هي من إفرازات شخوص هذه القصة الفواعلية وضحايا المجتمع الإنساني الذين سنقرأ بإمتاع وتفكُّر ما تخبرنا عنهم ذكرى لعيبي؛ كونها الرائية العليمة والساردة لقصص نماذج هؤلاء المُتعبين من أبناء الناس، والذين يواجهون اضطراباتٍ نفسيةً كثيرةً في حياتهم الخاصَّة التي تحتاج إلى مساعدةٍ نفسيَّةٍ وعمليةٍ وتوجيهٍ اجتماعي خاصٍ، وحلولٍ ناجعةٍ توصلهم إلى ضفاف الحقيقة وشطآن السلام الآمنة:

"عِندَمَا اِخترتُ تَخصُّصَ الطِّبَ النَفسِيَ، كُنتُ أُفكِّرُ بِأصعبِ مَرحلةٍ فِي حَياتِي، مِزاجٌ سَيِّءٌ، سُلوكٌ غَيرُ مُتوازنٍ، أَعصابٌ مَشدودةٌ عَلَى أبسطِ الأُمورِ إلَّا أنِّي- فِي الجِهةِ المقابلةِ- كُنتُ صَبورةً، مُتعاطفةً جِدَّاً مَعَ صِديقاتِي اللَّاتِي تَصيبَهُنَّ أزماتٌ مُختلفةٌ". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، 137).

تخوض الكاتبة الحديث عن لسان واقع حال قصَّة بطلتها، فتشرع بالحديث عن سردية وموضوع صديقتها المُقرَّبة (ضُحى) التي كانت تَدرِسُ بمعيتها في المرحلة الثانوية، تلك الفتاة التي تعيش في كنفِ أُسرةٍ مثقفةٍ منفتحةٍ متفهمةٍ تفهم حياة الحرية ولغتها الخاصَّة بمعانيها الكثيرة المعروفة. لقد أكملت ضُحى دراستها الأوليَّة الجامعية، وتخرَّجت في كليَّة القانون محاميةً مثابرةً وجميلةً:

"تَعرَّفتُ إلَى (صَلاحِ)خِلالَ سَنواتِ الدِّراسةِ، أحبَا بَعضهَمَا، رُبَّمَا هِيَ فَقَطْ أحبتهُ بِصدقٍ...لَبِسَا خَاتمَ الخُطوبةِ، وَكانَ الزَّواجُ مُقرَّراً بَعدَ إِنهاءِ الدِّراسةِ الجَامعيَّةِ، لَمْ يَتفارَقَا حَتَّى فِي أيامِ العُطلاتِ، قَبلَ الّتَخرجِ بِشهرينِ؛ غَدَرَ بِهَا وَسَلبَهَا عُذريتَهَا، وَكانَ يُطمئِنُهَا ألَّا تَخافَ، سَيبقَى مَعَهَا وَيُحقَّقانِ الحُلُمَ مَعَاً. لَكنْ بَعدَ التَّخرُجِ تَخلَّى عَنهَا، وَقَدْ رَمَى فِي وَجههَا جُملتهُ الِّتي غَيَّرتْ مَجرَى حَياتِها وتَوقعاتِهَا وَأحلامِهَا: كَيفَ أثقُ بِفتاةٍ مَنحتنِي نَفسَهَا قَبلَ الزَّواجِ؟". (عواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 138).

تحوَّلت عقدة هذا الزواج عند ضُحى إلى حالةٍ نفسيةٍ مُعقَّدةٍ عندما تخلَّى عنا خطيبها صلاح، واستحالت تلك الحالة المؤثرة إلى جلساتٍ مرضيةٍ مكررة في عيادة الطبِّ النفسي للتخلُّص من هذه الأزمة المسيطرة التي ألمت بها وبحياتها الجديدة التي ستتحول إلى انتحار مفاجئ في نهاية قصتها.

فتروي ضُحى هذه الإشكاليات وتداعياتها النفسية لطبيبتها النفسية وصديقتها المقربة (الكاتبة)، وكانت آلامها وأوجاعها وجروحها وخيباتها ونكوصاتها الشخصيَّة تتحدَّث عنها بدلاً من شعورها القهري الدفين بالانكسار والاستلاب الروحي الوجودي. وفي مقابل ما جرى لضُحى تروي د. هالة (الكاتبة)على وقع لسان بطلة قصتها ما حدث لها في حياتها من مفارقاتٍ إنسانيةٍ عديدةٍ مذهلةٍ:

"بَعدَ عَلاقةِ زَواجٍ فَاشلةٍ لَمْ تَستمرَّ أكثرَ مِنْ عَامينِ، أكملتُ تَعليمِي، مُعدَّلِي العَالِي وَشَغفِي بِالطبِّ وَمَا مَررتُ بِهِ مِنْ اِضطراباتٍ نَفسيةٍ، كُلُّ تِلكَ العَواملِ أوْ المُسبِّبَاتِ جَعلتنِي أَدخُلَ كُليَةَ الطِّبِّ وأَتخصَّصُ فِي قِسمِ الطِّبِّ وَالعِلاجِ النَّفسِي. كُنتُ فِي رِهانٍ مَعَ نِفسِي وَالزَّمنِ عَلَى النَّجاحِ" . (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغتراِب، ص 139).

أمَّا الشخصيَّة الثانية بعد حكاية ضُحى، فهو أيمن الطالب الجامعي والشاب الخجول كما تصفه الكاتبة الطبيبة د. هالة، شعر بأقصى حالات اليأس في الحياة، فهو يرى أنَّ لا هدف وجودي له في العيش بكنفٍ هذه الحياة الكبيرة التي يحياها فرداً إنسانياً مسالماً باحثاً عن أصل ذاته المفقودة:

"أيمنُ وَصَلَ إلَى مَرحلةِ الشُّعورِ لَا مِساحةَ لَهُ فِي الحَياةِ الدُّنيَا، لَا مُستقبلَ، لَا شَيءَ يَستحقُّ أنْ يعيشَ مِنْ أجلهِ، حَتَّى اِتَّفقَ مَعَ نَفسهِ أنْ يَضعَ حَدَّاً لِهذهِ الفُوضَى بِإسكاتِهَا وَخنقِهَا إلَى الأبدِ، لَكنْ صَديقَهُ الَّذِي يُشاركهُ السّكنَ، اِنتبهَ لَهُ وَأنقذَهُ". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترَابِ، ص 139).

عاش أيمن حالات الصراع والتِيهِ والضياع، وفارق التعامل العاطفي الإنساني؛ نتيجة انفصاله عن ووالدته، وقد وصل إلى حالةٍ متقدِّمةٍ من الكآبة المُدمِّرة والمرض الذي ألمَّ به إثر هذه الأحداث العائلية والاجتماعية المتأزمة. وفي خِضَمِّ حالات الصراع التي يعاني منها مُرضى د. هبة أو (الكاتبة) تعترف بثقةٍ كبيرةٍ لمتلقِّيها القارئ بأنَّهاعندما تختلي بنفسها مُتجلِّيةً تجدُ حالات مرضاها جميعاً فيها دون استثناء. وتتساءل من قام بعلاجي أنا؟ ومن كان يستمع إليَّ؟ وإلامَ كنتُ أتحدَّث؟

أسئلة كبيرة شكَّلت مفارقةً كبيرةً في حياتها التي تعرَّضت إلى فشل زواجها والعودة إلى جذورها الأولى والبحث عن ذاتها المُغيَّبة. والمهمُّ في ذلك أنَّها حصَّنت نفسها بنفسها لمواجهة أسقام الحياة وتحدياتها، وهذا هو المطلوب في عدم الانكسار والخسارات، ويحدوها في الوقت نفسه إيمانٌ بأنَّ هناك يداً خفيَّةً قد ساعدتها في تمضية حياتها، إنها أناها الذاتية حاضرة معها دائماً لم تخذلها أبداً.

بعد سماع حِكايَتَي ضُحى وأيمن يأتي الحديث عن قصَّة السيِّدة (وَهَاج) الشابة أو المرأة ذات الحسب والنسب والثراء الفاحش والحياة الوادعة الرغيدة، تعرَّضت شركة والدها للإفلاس وكل ما يملك من أموالٍ وممتلكاتٍ خاصَّةٍ. و بعد أشهرٍ قليلةٍ على ذلك فارق الحياة وتسبَّب موته أزمة كبيرة لها:

"عِندَمَا كَانَ وَالدِي عَلَى قَيدِ الحَياةِ لَمْ نُفكِرْ بِالزواجِ، أوْ بِالأحرَى لَا نَرَى فِي مِمَّنْ يَتقدمُونَ، أنَّهم سَيوفرونَ إلينَا مُستوى المَعيشَةِ، وَنَمطَ الحَياةِ الِّتي اِعتدنَا عَليهَا، لَكنْ بَعدَ وَفاتهِ؛ لَمْ يَطرقْ بَابَنَا أحدٌ، مَا عَدَا التَّاجرِ (ضَاري) الَّذي كَانَ لَهُ مَبلغٌ كَبيرُ فِي رَقبةِ أبِي. مَاذَا كَانَ يُريدُ التَّاجرُ ضَاريّ؟ التَنازلَ عَنِ البَيتِ الَّذي نَسكنُ فِيهِ أنَا وَأُختي، أوْ الزَّواجَ مِنْ أحدِنَا. عِندَمَا طَرحتُ المُوضوعَ عَلَى أُختِي، صَارحتنِي أنَّها اِرتبطتْ عَاطفيَّاً بِزميلٍ لَهَا فِي العَملِ، ويُخطَّطانِ إلَى لزَّواجِ قَريبَاً. شَعرتُ فِي وَقتِهَا أنَّنِي الضَّحيَّة لَا مَحالَ". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 143).

وافقت وَهَاج على الزواج من التاجر ضاري بدلاً من التنازل عن البيت؛ بسبب ديون له بذمة والدها المُتوفي. وتبدأ مرحلة جديدة لوهاج من المعاناة مع زوجها الذي كان مرتبطاً بأكثر من زوجة له يشاركنهاالرجلَ الكبيرَ الذي لا يوازي رغباتها النفسيَّة ويُماهي بحميمية علاقتها الزوجية:

"أَفهمُ أنَّ ضَاريَاً لَمْ يُقصِّرْ بِشيءٍ مَعَكِ. إلَّا عَواطفَهُ، لَمْ يَمنحنِي الحُبَّ الَّذِي أتمنَاهُ، الشُّعورُ الِّذِي يُدَغدِغُ رُوحِي، لَمْ أَرغبْ فِي أنْ أطلبَ هَذَا مِنهُ، إذْ لا قِيمةَ لِمشاعرَ تَطلبُ، فَضَّلتُ أنْ أحتفظَ بِكرامةِ قَلبِي. تُوفيَ ضَاريٌّ مَعَ زَوجتهِ الثَّانيةِ فِي حَادثِ اِنقلابِ سَيَّارتهِ". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 144).

وإزاء كثرة هذا العمل النفسي وزحمته تشعر الكاتبة (البطلة) بضرورة تركه لمدَّةٍ قصيرةٍ من الزمن كي تراجع ذاتها، والابتعاد عن الأمراض الاجتماعية المتعدِّدة، فتعود إلى المقارنة بين حياتها قبل سنواتٍ، وبين ما بعدها للكشف عن ذاتها في مصارحةٍ علنية متأمِّلةً ذلك الفارق طويلاً، حتى شعرت بابتسامة رضا عن نفسها؛ لشعورها الضافي بأنها كشخصياتها تبحث عن التوازن .

وأثناء الكشف أو البحث عن ذاتها وتقييمها تلتقي الدكتورة هالة صدفةً بزميل دراستها الجامعية في كليَّة الطب العام الدكتور هاشم، الذي وصفها أثناء اللِّقاء بأنَّ شاغلها الوحيد في دراستها الأولية، هو خطف الأنظار منَّا؛وأنّ ذلك الهدف أو المسعى يحدث من خلال التفوُّق علينا جميعاً كطلبة أطباء.

ويبدأ الدكتور هاشم حثيثاً بإخبار الدكتورة هالة عن جوانبَ عديدةٍ من سيرة حياته الشخصيَّة، وزواجه الأول الفاشل من امرأة. وتُبادله الدكتورة هالة أطراف الحديث عن نفسها وما حصل لها من مفارقات اجتماعيةٍ عديدةٍ كان هاشم على علمٍ بها وكأنَّه يعرف بسجل حياتها الخاصَّة والعامَّة:

"هَذَا الرَّجُلُ يُحبُّنِي، يَعرفُ مَاضِيي، صَبَرَ وَاحترَمْ خُصوصيتِي طِوالَ فَترةِ الدِّراسةِ، هَلْ صُدفةً اَلتقِيهِ اليَومَ؟ أمْ حَانَ وَقتُ الحُّبِّ لِينتصرَ عَلَى مُخاتَلاتِ الدَّهرِ؟ نَعَم حَانَ وَقتُ الحُبِّ، وَفِي نَهايةِ المَطافِ سَنُدركُ أنَّهُ لَمْ يَعُدْ يَهِمُنَا مَنْ تَركنَا وَمَنْ تَركناهُ، وَمَنْ أحبنَا وَمَنْ أحببنَاهُ، مَنْ خَذَلَنَا؟ مَنْ سَرقَ زَهرةَ شَبابِنَا؟ بِقدرِ مَا يَهمُنَا مَنْ مَعَنَا إلَى الآنَ وِإلَى الأبدِ". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص149).

أصبح الدكتور هاشم من وجهة نظر الدكتورة هالة (الساردة) رجلَ أحلامها الأول، بيدَ أنَّ الحقيقة الثاقبة تخبرها خلاف ذلك بأنه رجل غادر وكاذب وأفَّاك؛كونه متزوجاً وكانت تظنُّ أنَّه أخفى عنها هذه الحقيقة، ليتخذها متعةً رخيصةً ولهواً دائماً. والحقيقة لم يكن هو الدكتور هاشم الأصلي بلحمه وشحمه ودمه، وإنَّما كان البديل النسخة الثانية له والشبيه به، وادِّعاؤه بحبَّه لها زوراً وبهتانا:

"وَسَطَ صَدمتِي، عَرفتُ بِأنَّ الدُّكتورَ هَاشماً بَريءٌ مِنْ تُهمةِ خِداعِي، وَأنَّهُ تَعرَّضَ لِمواقفَ سَابقةٍ مِنْ شَخصٍ يُشبهُهُ تُمامُاً، وًينتحلُ صِفتَهُ؛ مِنْ أجلِ الإيقاعِ بِالنساءِ، فَاِعتذرتُ لَهُمَا دُونَ خَيارٍ ثَالثٍ، فِتِقبلَا الأمرَ بِروحٍ رِياضيةٍ، أمَّا الدُّكتورُ هَاشمٌ الحقيقِيُ فَقدْ طَلبَ مِنِّي أنْ أنسقَ مَعَهُ؛ لِلإيقاعِ بِالمُنتَحِلِ، وَتَفارقنَا عَلَى هَذَا الوَعدِ...". (عَواطفٌ عَلَى لَائحىةِ الاِغترابِ، ص 153).

وتحت طائلة هذا الادعاء، ومن خلال خبرة الدكتورة هالة في الطب النفسي مع الرجل المنتحل لشخصية هاشم كان رجلاً آخر يدعى (عَاطفٌ)، ووجدت الدكتورة نفسها مرغمةً على علاجه من مرضه النفسي الذي يعانيه، ذلك هو الفقر العاطفي الشديد للنساء الذي يدفعه إلى التعلّق بهُنَّ زُوراً:

"شَعَرتُ بِالغبطَةِ؛ لِنجَاحِي مَعَ مَرِيضِي هَذَا، إلَّا أنَّي بِحَيرِةٍ مِنْ أمرِي، وَكَأنَّي أحدُ المُتْعَبِينَ مِنْ مَرضايَ النَّفسيينَ، فَقدْ تَحوَّلَ عَطفيِ لِعاطفٍ إلَى شعورِ حٌبٍّ". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 154).

كانت قصَّة (المُتعبونَ) بتمثُّلات شخصياتها الفواعلية السبع وحكاياتها التسريديَّة الأربع وأفكارها الاجتماعية والنفسية والإنسانية المُتشابكة من بين أجمل وأمتع قصص الاغتراب النفسي الحقيقي في مواجهة الذات والبحث عن قيمة الانتماء الإنساني والوجودي للهُوية الشخصيَّة التي هي جواز سَفرِ مُرور الإنسانية عبرَ تعاقب وقائع الحدث الزمكانية في راهن الحياة المُتوهِّجة بالعطاء الزاخر والمستقبل الواعد بالخير والرفاه.المُتعبونَ أُنموذجٌ سَرديٌ حكائيٌ حَيٌّ ومصغرٌ لواقع الحال اليومي.

إنَّ أهمَّ ما يُميَّز مجموعة (عٌواطفٌ عَلى لَائحةِ الاِغترابِ) للأديبة ذكرى لعيبي، هو جماليات أسلوبيتها اللُّغوية، وجرأتها الكتابية المقدامة التي تجمع بين مُدخلات السرد الحكائي ومُخرجاته الموضوعية وحمولاته الفكرية المتعدِّدة.فتارةً تراها حاضرةً بتؤدةٍ بخطابها تنتقل بكتاباتها السردية المُبدعة، والتقطاتها الصورية القارَّة المدهشة في منافي الاغتراب الخارجي وتحوُّلات مثابات لجوئه البعيدة، وتارةً أخرى تجدها تمضي في فتوحات حكاياتها الموضوعية والذاتية الأٍلمعيةً في مواجهة بؤر الاغتراب الواقعي في الوطن الداخلي بحثاُ عن جذورهويتها وانتمائها الذاتي الأصيل.

فضلاً عن شجاعتها الأدبيَّة الواثبة في تخطي مسارات وخطوط عقابيل راهن التابو الاجتماعي الجنسي والقبلي العشائري، وفي كسر وتحطيم جُدُرٍ القواعد الإسمنتية الصُلبة للعادات والتقاليد والأعراف الاجتماعية البالية التي تذلُ الإنسان وتقيِّد مفاهيم حُريته وتستعبد كرامته تحت مظلة القيم العشائرية التي لا تواكب تحوُّلات العصر أو تنسجم مع تطلعاته الإنسانية الكريمة المباشرة.

ولا أَدلُّ على ذلك الهاجس الفكري تلك الشواهد والنماذج القصصيَّة المُكتنزة بموضوعاتها الواقعية السحريَّة والإنسانية الجمعية الأخرى التي احتفت بها قصص هذه المدوَّنة على المستوى التعبيري الفكري الغرائبي والعجائبي والأسطوري التخَّيلي لجماليات الفنِّ التسريدي وعناصره الفنية الأخاذ.

فالكاتبة على الرغم من أنها تسير في أُسلوبيتها التعبيرية في مناطق اشتغلاتها الفكرية ومركزية سردياتها الحكائية في خطٍّ ضفاف شطآن الواقعية الآنية المعيشة، والميل نحو الواقعية السحرية والمخيالية التي تستمدها من أنهار الواقع وروافده الحياتية الجمَّة، فأنها تنزاح في لغتها السردية القصصية إلى عالم الافتراضية التواصلية الجديدة التي تجذب القارئ وتستميل أفكاره وتطلعاته.

وأعني بذلك انحراف ماهيتها الأُسلوبية القصصية إلى الثورة الإلكترونية وإلى عالم السوشل ميديا الإنسانية السريع الخطى.الذي هو عالم تكنلوجيا العصرنة الذي يجعل منه ليس قريةً واحدةً فحسب، وإنَّما عالماً يقترب بعضه الكوني من بعضٍ وفي غُضون دقائقَ مَعدوداتٍ أو أيامٍ متتاليةٍ من التواصل الصوتي والصوري المُذهل يصلك إلى بيتك أوغرفة نومك الشخصيَّة من حَيثُ لا تَدري.

***

د. جبَّار ماجد البهادليّ / ناقدٌ وكاتبٌ عراقيّ

في المثقف اليوم