قراءات نقدية
عماد خالد رحمة: المرأة العربية المبدعة..

تجليات الروح والجسد في خارطة الإبداع العربي
مقدمة: لم تكن المرأة العربية يوماً هامشاً في سجل الإبداع، بل كانت ولا تزال نبضاً حقيقياً يضخ الجمال، والرؤية، والانفعال الصادق في قلب الحياة الثقافية والفنية. لقد استطاعت المبدعة العربية أن تفرض حضورها على ساحة الإبداع، في الشعر والرواية والفن التشكيلي والسينما والمسرح، بل وحتى في المساحات الفلسفية والفكرية التي طالما وُصفت بأنها "ذكورية".
هذه الدراسة تسعى إلى الوقوف عند التقنيات والأساليب التي اعتمدتها المرأة العربية في إنتاجها الفني والإبداعي، والكشف عن العطاء الخصب الذي يضيف إلى خارطة الإبداع العربي المزيد من التعدد والجمال والتوتر الخلاق، مع تأمل عميق في تجليات الروح والجسد في تجربتها الفنية، والاستشهاد بآراء كبار النقاد والشعراء العرب.
أولاً: ملامح الأسلوب والتقنية في إبداع المرأة العربية:
1. تفكيك السائد وبناء الذات:
المرأة العربية المبدعة كثيراً ما واجهت نماذج الكتابة الذكورية السائدة بتقنيات تعتمد على تفكيك المفاهيم الاجتماعية الثابتة، وإعادة بناء الهوية الذاتية من خلال اللغة. فالشاعرة سعاد الصباح، على سبيل المثال، استخدمت لغة شعرية ناعمة ظاهرياً لكنها مشبعة بروح احتجاجية، تقول في إحدى قصائدها:
"أنا أنثى... لا يشغلني جسدي
بقدر ما يشغلني أن أكون حرة..."
بهذا الخطاب الشعري، تمزج الصباح بين الذاتي والاجتماعي، وتكشف عن وعي أنثوي عميق يحاول كسر القوالب الجاهزة، وهو ما يتطلب براعة أسلوبية وتقنية تتحدى الأطر التقليدية.
2. تقنيات السرد النسوي
في الرواية، تميزت المبدعات مثل هدى بركات (لبنان)، ورجاء عالم (السعودية)، وأحلام مستغانمي (الجزائر) بتقنيات سردية فريدة تجمع بين التداعي الحر، وتعدد الأصوات، واستحضار الذاكرة الفردية والجمعية كفضاء للمقاومة والنجاة.
أحلام مستغانمي، في روايتها ذاكرة الجسد، تكتب الجسد كأرض حنين وفقد ومقاومة، وتعيد من خلاله بناء روح المرأة العربية في مواجهة الخراب العام:
"كيف يمكن لجسد أن يكتب ذاكرته بلغة الروح؟"
هذه الجملة المفتاحية تلخص جوهر الكتابة النسوية العربية: البحث عن مساحة حرة بين الجسد والروح، بين المرئي والغامض، بين الواقع والممكن.
ثانياً: الروح والجسد في الفن النسوي العربي:
1. جسد المرأة: من الرمز إلى الذات:
لطالما استُخدم جسد المرأة في الثقافة العربية كرمز، ولكن المبدعة العربية سعت في إبداعها إلى استعادة الجسد كذات، ككيان له لغة، وذاكرة، وتجربة. في لوحات جُمانة الحايك التشكيلية (لبنان)، نجد الجسد الأنثوي مفككاً ومركباً من جديد بألوان متفجرة ورموز روحانية، تعيد له بعده الصوفي والإنساني، لا فقط الغرائزي.
2. الروح كأداة للارتقاء:
الشاعرة فدوى طوقان (فلسطين)، على سبيل المثال، جسّدت في قصائدها النضالية الروح الأنثوية المقاومة، لا فقط عبر السياسة، بل من خلال الألم الشخصي والعزلة، وتحوّلهما إلى أدوات للرؤية. تقول:
"جسدي قبر
وروحي طائر يحلّق من رماده..."
في هذه الصورة، نرى كيف توظف طوقان العلاقة بين الجسد والروح لتجسيد التجربة الأنثوية بكل تناقضاتها.
ثالثاً: المرأة العربية في فضاء الاشتباك الإبداعي:
1. التفاعل مع القضايا الكبرى؛
المرأة المبدعة لم تنعزل عن القضايا العامة، بل اشتبكت معها بإبداعها. روايات لينا هويدي (سورية) وأماني فؤاد (مصر) تتحدث عن الحرب، واللجوء، والقمع، لكنها تكتب ذلك من منظور أنثوي، يعيد الاعتبار للتجربة الشخصية كجزء لا يتجزأ من التجربة الجماعية.
2. الفن كأداة للمقاومة والتعبير
المرأة الفنانة – في السينما مثلاً – مثل آن ماري جاسر (فلسطين)، استطاعت أن تخلق سينما ناعمة ظاهرياً لكنها حادة في عمقها، تشتبك مع الاحتلال والهوية والمرأة، ليس من خلال شعارات مباشرة، بل من خلال الحكاية البسيطة التي تكشف الواقع بأبعاده المختلفة.
رابعاً: آراء النقاد في إبداع المرأة العربية:
يقول الناقد صبري حافظ إن "الكتابة النسوية العربية قدمت أفقاً مغايراً، ليس فقط لأنها تمثل المرأة، بل لأنها تعيد صياغة الوعي الجمالي في الثقافة."
أما أدونيس، في مقدمة إحدى الدواوين النسوية، فيشير إلى أن "المرأة الشاعرة هي أكثر من صوت؛ إنها جسد اللغة، وروحها."
ويرى الناقد جابر عصفور أن "الإبداع النسوي ليس طارئاً، بل هو امتداد لروح التحديث التي بدأت منذ النهضة، لكنه اليوم أكثر وعياً بذاته وبمشروعه الجمالي."
خاتمة: نحو استعادة الاعتبار الفني والاجتماعي:
الإبداع النسوي العربي ليس مجرد استثناء، بل هو ضرورة وجودية وجمالية. إن العطاء الخصب للمبدعة العربية في شتى أقطار الوطن العربي يعيد رسم خارطة الإبداع العربي بألوان جديدة، لا تنفي القديم لكنها تُعيد تأويله.
من خلال تقنياتها المتنوعة، وجرأتها في الطرح، وعلاقتها المعقدة بالروح والجسد، تقدم المبدعة العربية رؤية مغايرة، وتمد يدها – عبر الفن – نحو الحرية، والتجدد، والإنسانية.
***
بقلم: عماد خالد رحمة - برلين