قراءات نقدية

رزق فرج رزق: كيف تخلق أصالة لمع قارئها من رحم الانزياح؟

قراءة في جماليات التلقي لـ "التفاتة نحو نغمة خافتة" لأصالة لمع

أصالة لمع: من مختبر الخلايا إلى مختبر القصيدة

بين ضجيج المختبر وهمس القصيدة، تمضي أصالة لمع في رحلتها الفريدة، العالمة التي تمسك بالمجهر لتكشف أسرار الخلايا، هي نفسها الشاعرة التي تمسك بالقلم لتكشف أسرار النفوس، في فرنسا، حيث تقيم منذ أكثر من عقد، تبني جسراً خفياً بين صرامة العلم وجنون الشعر، بين لغة الأرقام ولغة المشاعر.

لغتها الأم، العربية، هي ملاذها الأخير.. فيها تختزن ذاكرة الأجداد، وفي حروفها تستعيد دفء الوطن البعيد.. تكتب بلغة تبحث عن معنى في زمن العولمة، تمسك بها كما يمسك الغريق بحبل النجاة.. في نصوصها، تتحول العربية إلى فضاء للحرية، إلى وطن بديل تحمله في قلبها أينما حلت.

شعرها يشبهها: قوي وهش في آن.. كلماته تمر كالشفرة التي تحمل أسراراً لا يفكها إلا من يعرف كيف يقرأ بين السطور.. تكتب عن المنفى الذي لا يقتصر على البعد الجغرافي، بل هو منفى الروح في جسدها، والقلب في صدره.. تكتب عن الوحدة التي تتحول في قصائدها إلى رفيق درب، وعن الهشاشة التي تظهر كأجمل ما في الإنسان.

في ديوانها الأول "التفاتة نحو نغمة خافتة" (2022)، تضعنا أمام أسئلة الوجود الكبرى، وفي "فيما تمعن فيك الأشياء العادية" (2023)، تتعلم من التفاصيل الصغيرة فلسفة الحياة.. أما مختاراتها الفرنسية "نغمات خافتة" فتشهد على قدرة شعرها على عبور الحدود واللغات.

عبر مشاركاتها الدولية، من المغرب إلى تركيا إلى فرنسا، تثبت أن الشعر لغة عالمية تفوق كل اللغات.. في مهرجانات الشعر، تقف العالمة-الشاعرة شاهدة على أن العلم والفن وجهان لحقيقة واحدة: البحث عن الجمال والمعنى.

أصالة لمع لا تكتب لتسلية القراء، بل تكتب لأنها لا تستطيع إلا أن تكتب.. القصيدة عندها فعل مقاومة، مقاومة النسيان، مقاومة الصمت، مقاومة الموت.. في كل قصيدة تنجح في تحويل الألم إلى جمال، والغربة إلى وطن، والوحدة إلى لقاء.. هذه هي أصالة لمع: امرأة تحمل في يدها مجهر العالم، وفي الأخرى قلبه النابض.

الانزياح اللغوي والدلالي: هدم التوقعات وبناء القارئ الجديد

لا تكتفي الانزياحات في شعر أصالة لمع بأن تكون مجرد خروج على المألوف، بل تتحول إلى خيوط سحرية تنسج بها قارئاً جديداً ينبثق من رحم الانزياح نفسه، فالشاعرة لا تقدم نصاً جميلاً فحسب، بل تصوغ قارئاً قادراً على استيعاب جماليتها الخاصة، حيث يتحول الانزياح من أداة تعبير إلى أداة خلق، تشبه نحت تمثال من طين الذهن والتصور.

تبدأ عملية الخلق بهدم التوقعات المسبقة، فالقارئ التقليدي يحمل تصورات ثابتة عن اللغة والشعر، فتأتي أصالة لمع لتهدم هذه التصورات عبر الانزياح اللغوي، في قصيدتها "الآن، لا أمس ولا غد"، تكسر الشاعرة النسق الزمني المعتاد:

"الآن، لا أمس ولا غد

يتمدّد هذا الوقت

يبتلعُ الكَون"

هذا الانزياح الزمني يهدم صورة القارئ التقليدي الذي يعيش في زمن خطي، لتحل محله صورة قارئ جديد قادر على العيش في زمن متعدد الأبعاد، زمن يمكن أن يتمدد ويبتلع الكون. الانزياح هنا يصبح عملية جراحية في عقل القارئ، تستأصل التصورات القديمة لتزرع مكانها تصورات جديدة.. ولا يقف الانزياح عند المستوى اللغوي، بل يمتد إلى الانزياح الدلالي، حيث تخلق "لمع" عوالم متوازية يتدرب فيها القارئ على أنماط جديدة من التفكير.. في نص "الجسور"، تتحول الجسور من معنى مادي إلى دلالة وجودية:

"بَنَيْنا الجسور

لِنَعْبُر

إِلى الضِّفَّةِ المُقابِلَة

مِنْ أيِّ شيء"

هنا يولد القارئ الجديد القادر على رؤية الجسور غير المرئية، تلك التي نبنيها لنعبر من ذواتنا إلى ذواتنا، من ماضينا إلى حاضرنا، من واقعنا إلى حلمنا. الانزياح الدلالي يصبح مدرسة يتعلم فيها القارئ كيف يرى العالم بعين أخرى، عين ترى ما وراء المظاهر وتكشف الخفي من المعاني، وهكذا، يصبح الانزياح اللغوي والدلالي في شعر أصالة لمع بوابة عبور من قارئ سلبي يتلقى المعنى الجاهز، إلى قارئ مشارك يشارك في صناعة المعنى، قارئ يولد من رحم الانزياح ليكون شريكاً حقيقياً في العملية الإبداعية.

الانزياح الأسلوبي والوجودي: من الحوارية إلى الولادة الجديدة

تمتد استراتيجية الانزياح عند أصالة لمع من المستوى الأسلوبي إلى العمق الوجودي، حيث تتحول القصيدة من خطاب أحادي إلى حوار تفاعلي يفضي إلى إعادة نظر جذرية في ماهية الوجود، ففي الانزياح الأسلوبي، تلجأ الشاعرة إلى تحويل الضمير من الغائب إلى المخاطب، مما يخلق علاقة حميمة مع القارئ ويحوله من متلق سلبي إلى شريك في الحوار، نجد هذا جلياً في نص "هشاشتك لن تكسرك" حيث تخاطب القارئ مباشرة:

"لا تسه خَطْوة

عن تذكر نفسك"

هذا الانزياح في أسلوب الخطاب يخلق قارئاً محاوراً، يشارك في عملية الخلق الشعري ولا يكتفي باستقبال النص. فالانزياح الأسلوبي هنا يصبح جسراً للعبور من التلقي إلى المشاركة، ومن القراءة إلى الحوار، أما الانزياح الوجودي فيمثل المستوى الأعمق في تجربة "لمع" الشعرية، حيث تدفع بالقارئ إلى هاوية السؤال عن ماهية الوجود والعدم، في قصيدة " كأننا لم نوجد يوماً"، تصل الانزياحات الوجودية إلى ذروتها:

"نحن بحاجة إِلى أن يبدو الأمر

كأننا لم نوجد يوماً"

هذا الانزياح الوجودي يخلق قارئاً جديداً من رحم العدم، قارئاً يواجه إمكانية العدم كتجربة وجودية، ويتخيل عالماً لم يوجد فيه. الانزياح هنا يصبح عملية ولادة جديدة، يخرج فيها القارئ من رحم الانزياح كائناً متحوّلاً، يحمل رؤية مغايرة للوجود والعدم، للحضور والغياب، وهكذا ينتقل الانزياح من كونه تقنية أسلوبية إلى كونه تجربة وجودية، تبدأ بالحوار وتنتهي بالولادة الجديدة، في رحلة تحول يكون فيها القارئ شريكاً أساسياً في عملية الخلق وإعادة النظر في الوجود نفسه.

آلية الخلق: الانزياح كرحم نصي

يمكن تلخيص آلية خلق القارئ عبر الانزياح في المراحل التالية:

المرحلة الأولى: الصدمة الانزياحية

تهز الانزياحات القارئ من سباته التقليدي، وتصدم توقعاته المسبقة.

المرحلة الثانية: التفكيك

يتفكك القارئ القديم تحت وطأة الانزياح، وتتهشم تصوراته التقليدية.

المرحلة الثالثة: إعادة البناء

يبدأ القارئ في بناء ذاته الجديدة، متبنياً الرؤية الجديدة التي تقدمها الانزياحات.

المرحلة الرابعة: الولادة

يخرج القارئ الجديد من رحم الانزياح، حاملاً رؤية جديدة للعالم.

القارئ المخلوق: مواصفات القارئ الجديد

القارئ الذي تخلقه أصالة لمع من رحم الانزياح له مواصفات محددة:

- قارئ مرن:

قادر على التكيف مع الانزياحات والتأقلم معها.

- قارئ مبدع:

يشارك في إنتاج المعنى، ولا يكتفي باستقباله.

- قارئ وجودي:

يتساءل عن ماهية الوجود والعدم، الزمان والمكان.

- قارئ شجاع:

لا يخاف من الانزياح، بل يبحث عنه.

تقدم الانزياحات هنا كمسارات تأويلية تفتح أمام القارئ أبواباً متعددة للتفاعل مع النص، فتصبح عملية القراءة حواراً يتجاوز التلقي المباشر إلى المشاركة في تشكيل المعنى، وهكذا تتحول القراءة من مجرد استقبال إلى ممارسة نقدية وإبداعية، حيث يشارك القارئ في اكتمال الصورة الشعرية من خلال تجاوزه للمألوف وسعيه الدؤوب خلف الدلالات المتعددة.

***

رزق فرج رزق – ليبيا

في المثقف اليوم