قراءات نقدية
رزق فرج رزق: جماليات التلقي في رواية "لن ينقطع الوتر"
عتبات البداية والنهاية وأثر المنظمة السرية
تعد رواية "لن ينقطع الوتر" للكاتب اللبناني أحمد دهيني نموذجًا أدبيًا غنيًا يستحق القراءة والتأمل، لا فقط من خلال نسيجها السردي المتشابك، بل أيضًا عبر عتباتها النصية التي تفتح أبوابًا متعددة للتلقي والتأويل، وتكمن جمالية هذه الرواية في كيفية استثمار الكاتب لعناصر مثل الإهداء والعتبات الأولى لتأسيس حوار مع القارئ منذ اللحظة الأولى، وصولاً إلى النهاية التي تترك أثرًا متواصلًا في الوجدان.
عتبة الوجدان والانتماء
يبدأ دهيني روايته بإهداء مكثف وعميق، يمثل عتبة وجدانية تؤسس لمسار النص كله، الإهداء ليس مجرد تكريم، بل هو بيان وجودي وإنساني، فهو يهدي العمل إلى أمه، التي تصفها بـ"النور والحنان"، وإلى أخيه، وإلى روح أبيه، وإلى "الوردة العابقة بالعبير"، وإلى "الصادقين والطيبين، إلى المعذَّبين والمظلومين".
هذا الإهداء يخلق علاقة حميمة بين القارئ والنص، وكأن الكاتب يشاركنا مكنوناته الإنسانية منذ البداية. إنه يضع القارئ في حالة استعداد لتلقي نص ليس مجرد حكاية، بل هو رحلة في أعماق الإنسان: ألمه، حبه، خيباته، وإصراره. الإهداء يعمل كمرآة تعكس القيم التي ستدور حولها الشخصيات والأحداث: الوفاء، الحب، المقاومة، والبحث عن العدالة.
إشارات مفتاحية
عنوان الرواية "لن ينقطع الوتر" يحمل دلالة موسيقية ووجودية، الوتر قد يكون رمزاً للعلاقة الإنسانية، للحب، للأمل، أو حتى للصلة بين الإنسان والله، الفعل "لن ينقطع" يؤكد الاستمرارية رغم كل الصعاب، هذا العنوان يخلق توقعاً لدى القارئ بأن الرواية ستتناول صمودًا ما، ربما صمود الحب، أو الإيمان، أو القيم في وجه الفساد والظلام.
غلاف الرواية، الذي صممه الكاتب نفسه، يعزز هذه الفكرة من خلال تصوير قد يعكس التوتر بين الظلام والنور، أو بين الوتر الممدود وخطر انقطاعه، الغلاف يصبح جزءًا من تجربة التلقي، حيث يثير فضول القارئ ويوجه خياله نحو فضاء النص.
عتبة الصراع المركزي وأثرها على القارئ
في الصفحات من 23 إلى 28، يقدم الكاتب وصفًا مفصلاً لمنظمة "جينتي إنتليجينتي" السرية، وهي منظمة نخبوية عنصرية تدعي الاصطفاء الإلهي وتتحالف مع المافيا، هذا الوصف ليس مجرد خلفية للصراع، بل هو عتبة سردية كبرى تضع القارئ في قلب المعمعة الأيديولوجية للرواية.
- بناء العالم الخفي: يشرح الكاتب الهيكل الهرمي الصارم للمنظمة، بدءاً من "الحكيم الأعظم" ذي السلطة المطلقة، مروراً بالحكماء الأولين والمجالس الثلاثية، ووصولاً إلى "الحراس العقائديين" و"الأذرع التنفيذية" مثل المافيا، هذا البناء المعقد يخلق لدى القارئ شعوراً بالرهبة والغموض، ويدفعه إلى تفكيك شبكة القوة هذه طوال الرواية.
- التلقي النقدي: من خلال كشف العقيدة العنصرية للمنظمة (فكرة "نقاء الدم" والحق الإلهي في الحكم)، يوجه الكاتب القارئ نحو قراءة نقدية للخطابات الاستعلائية والسلطوية، القارئ لا يتلقى هذه المعلومات بشكل سلبي، بل يُدعى لمقارنتها بالواقع ورفض منطق الهيمنة هذا.
- تضافر الصراعات: هذا الكشف يربط بين الصراع العائلي والصراع الأيديولوجي الأوسع، مما يثري تجربة التلقي ويجعل القارئ شاهدًا على كيفية اختراق الفساد والسلطة الخفية لأعماق العلاقات الإنسانية.
استمرارية الوتر
تختتم الرواية بعودة إلى فكرة الوتر، لكن هذه المرة من خلال حوار بين لورينزو وفيرونيكا، حيث يقول لورينزو: (لن ينقطع فينا الوتر، وفي الظلام ستشعل الشمس كي تُقبل وتعانق القمر...)
هذه النهاية لا تشكل خاتمة مغلقة، بل تترك الباب مفتوحاً للتأمل والاستمرار، إنها تؤكد أن الوتر - سواء كان حبًا، أو إيمانًا، أو قيماً - لن ينقطع، رغم كل المؤامرات والصراعات التي عاشتها الشخصيات، ورغم وجود منظمات شريرة مثل "جينتي إنتليجينتي"، النهاية تمنح القارئ شعوراً بالأمل والاستمرارية، وكأن الحياة تتجاوز النص، والحب يتجاوز الموت.
عتبات متجددة
من خلال عتباتها الأولى والإهداء، وعنوانها، والكشف عن المنظمات السرية كعتبة سردية كبرى، ونهايتها المفتوحة، تقدم رواية "لن ينقطع الوتر" نفسها كنص حيوي يتفاعل مع القارئ، الإهداء يخلق جسراً وجدانياً، والعنوان يوجه التوقع، والكشف عن العالم السري يضفي عمقاً درامياً وأيديولوجياً، والنهاية تمنح مساحة للتأمل والاستمرار، كل هذه العناصر تجعل من الرواية ليست مجرد حكاية تُروى، بل تجربة إنسانية تشاركية، حيث يصبح القارئ شريكاً في بناء المعنى، وفي استمرار الوتر الذي لا ينقطع في مواجهة كل أشكال الظلام.
***
رزق فرج رزق - ليبيا






