قضايا
محمد سيف: أنتَ تراكماتُـــك!
يقبع في كواليس كل نجاح خطوات متراكمة تسبقه، إذْ كل خطوة تأخذ بحُجْزة أختها، في التزامٍ متواصل، ليُفضي بعد حين - طال الزمان أو قصُر - إلى حلم يرى النور، وإنجاز يولد للوجود، وإنْ شئت فقل إن النجاح هو آخر حلقة في سلسلة التراكمات، وفي هذا المقال لست أتحدث عن هذا النوع من التراكمات.
وفي المقابل كل انهيار كارثي من الحتمي أن يكون مسبوقا بسلسلة من التراكمات، تراكمات من الكتمان أو القرارات بالغة الضآلة غير المسؤولة أو الاستهانة بعدم وضع حدود صارمة مع العالم الخارجي، أو كبت مشاعر تفرضها الطبيعة البشرية، أو الاتكال على تقدير الآخرين، والانصياع لإملاءات البيئة، وهنا أتناول قصرا هذا النوع من التراكمات.
لا شيء يحدث من فراغ، ولا حَدَثَ يظهر في الواقع اعتباطا، ولا أمرَ جَلَلًا يحدث عفو الخاطر، هكذا مضت سنة الحياة فينا نحن بني البشر، إنه أشبه بغرس بذور لنباتات سامة، وتركها لرعاية الزمن، حتى يأتي يوم الحصاد، بثمارٍ من جنس تلك النباتات لا غير، والأمل بِغُلّة ثمار يانعة من جنس مختلف ما هو إلا محض وهم وارتهانٌ للمستحيل وتجاهلٌ لحقيقة معيشة.
في أدبنا العربي دأبنا على ترديد هذا الشطر الخالد: "ومعظمُ النار من مُستصغر الشرر" وهو حقا كذلك، فالنار هي شرارة بعد أخرى، ولهب يتبعه آخر، حتى تصير نارا هوجاء تأكل الأخضر واليابس، ولا تُبقي على شيء، ما يطالنا من أغلب ما نئنّ تحت وطأته ما هو إلا ما اكتسبته أيدينا على مدى الزمن، كلمةٌ طائشة هنا، وانفعال متهور هناك، وتسرّع هنا، وإهمالٌ هناك، تغافلٌ هنا، وانجرارٌ هناك، مواقف نحسبها عابرة ليست بذي بال، وقراراتٌ لا نقرؤها إلا تصرفات لحظية تافهة، لكننا نستيقظ ذات صباح لنجد أن كل شيء قد احترق! ونتهم العالم بأنه مَن أوقد تلك النار.
البدء بالانتباه والمراقبة والمحاسبة لأفعالنا الصغيرة هو أولى خطوات إيقاف كرة الثلج الآخذة في التدحرج قبل أن تغدو انهيارا ثلجيا يطمر أنفاسنا حين يعبرنا، تلك الرغبة الجامحة التي أخرسناها، وتلك اللحظة التي وجب أن نتريّث فيها، وذلك الموقف الذي تحتّم علينا التفكير مليًا قبل التفوّه بكلمة لإشباع غرورنا أو إطفاء ثورة غطرستنا، وتلك العلاقة التي توجّب أنْ نحملها على مأخذ الجِدّ، ولحظة الغضب الذي احتاج إلى ضبط النفس، وذلك التردد الذي استلزم قطعه بالمبادرة، وذلك الموقف الذي تطلّب شجاعة، وذلك التجاوز الذي استلزم صرامة، وتلك الفرصة التي تَمَلّكنا الخوف لاقتناصها، كل تلك اللحظات ليست بمعزل عن الوضع الراهن الذي نعيشه، فهي شبكة مترابطة يعضد بعضها البعض، وتتبعها تداعيات قد لا ننتبه إلى صلتها بها، وما إنْ نتوقف لبُرهة للتصرف إزاءَها بطريقة مختلفة حتى تأخذ حلقة التراكمات تلك بالتصدّع، ونأخذ بزمام الأمر شيئا فشيئا، لنجد أنفسنا مع واقع مختلف، ما ظننا يوما أن يكون من نصيبنا.
إنّ الأزمات حين تحلّ بنا، ونسعى جاهدين للتصدي لها، ليست جوهر المشكلة، بل أعراضٌ لخطواتٍ صغيرة خطوناها، واستجاباتٌ متكررة ارتضيناها، هذه الأزمات قذفتها الحياة فوق رؤوسنا لتبعث لنا برسالة واحدة: يا صاحِ عليك بتصحيح المسار! إنها نداء استيقاظ يخبرنا عنّا، وإنذارٌ لوجود خلل مستمر يجب معالجته على جناح السرعة والاهتمام، وللكاتب (Ryan Holiday) لفتة أنيقة جدا في عمقها في علاقة وقع دروس الحياة إذا تجاهلنا الانتباه عن كيفية تعاطينا مع أحداثها واستهترنا بأجراس الإنذار بين الفينة والأخرى، إذ يقول في كتابه
The Obstacle is the Way:
(1) "Lessons come hard only if you’re deaf to them"
أي: دروس الحياة تكون قاسية إذا أعرتها أذنا صماء!
إنّ تحمّل المسؤولية مهنة الشجعان، والقيام بأدوارنا المنوطة بنا تجاه ما يحدث صنعةُ أولي النباهة، فما يحدث إنما يحدث خلالنا ولا يحدث لنا! وفي اللحظة التي نبدأ فيها بالتحرك من منطلق الجزء المسؤولون عنه أصالةً، والتوقف عن لوم الظروف والآخرين والنحس، وتعليق معاناتنا على مِشْجب الحظ العَكِر، يستجيب لنا الكون، فيتغير الواقع! فليس ثمة أسهل من إلقاء اللوم على العالم الخارجي، ولن نُعدَم التبرير بأنّنا ضحايا لا حول لها ولا قوة، ومن اليسير جدا أن نندب حظنا ونتباكى طوال الليل متذمرين مما نحن فيه، ولكن ذلك البكاء لن يزيدنا إلا بُؤسًا، أما الوعي بأننا نملك الكثير لنقوم به، وفي جعبتنا خيارات تنتظر أن نلتفت إليها، مهما كانت المعاناة التي نتجرّعها، فإن ذلك كفيلٌ بقلب المعادلة رأسًا على عقِب، لتصبّ في صالحنا.
ذلك الشعور المكبوت سنين طويلة الذي نقرر التنفيس عنه، وتلك المبادرة التي نُقدم عليها بجرأة متبصّرة، والتقدير الذاتي الذي نرجعه لحياض ذواتنا، وتوطين النفس على الاعتناء بالتفاصيل الصغيرة، وتلك المراجعة الحازمة لردات فعلنا وطريقة استجابتنا للمثيرات الخارجية، كل ذلك بداياتٌ قد تبدو صعبة بادئ الأمر أو إيلاء اهتمام أكبر من حجمه فيما يبدو، لكنها تخلق مسارات جديدة تحمل في تضاعيفها مآلاتٍ تخترق واقعنا البئيس، وتكسر الحلقة المفرغة من اللامبالاة والألم الذي ينشب بمخالبه عديمة الرحمة في حظوظنا في الحياة.
التراكم يدحضه تراكم آخر ولكن باتجاه معاكس، وكل تراكم مضادّ يبدأ بحركة مضادة، فيُستبدل باللامبالة الانتباهُ، وبالانفعال الأناةُ، وبالكبت التحرّر، وبالعشوائية التخطيطُ، وبالفوضى الهدوءُ، وبالجُبن الإقدام، ومرّة بعد مرة، ويوما بعد يوم، سيؤتي التراكمُ أُكُلَه؛ فينتج عنه واقعٌ مبتسم الحظ وبهيّ الملامح.
لا شيء يضاهي مبدأ التراكم في سلطانه على الأحداث، أكان تراكما نحو الهاوية، أو كان تراكما صوب العُلا، والحياة لا تحمي المغفلين! وقوانينها تنسحب على الجميع ولا تحابي صدق النوايا غير المتسقة مع الأفعال الصائبة.
فلا تستوي تراكمات الاستثمار والادخار مع تراكمات التبذير وهدر الأموال، ولا تستوي تراكمات الكتمان والكبت مع تراكمات السماح لاحتيجاتك الداخلية بالتنفيس، ولا تراكمات الإهمال مع تراكمات المسؤولية الذاتية، ولا تراكمات الانفعال مع تراكمات ضبط النفس، ولا تراكمات التساهل مع الآخرين في تجاوز مساحتك الخاصة مع تراكمات إرساء حدود صارمة تصون ذاتك من هضم حقها، ولا تراكمات الكسل مع تراكمات الالتزام.
أنتَ لست ضحية للعالم، بل نتيجة لتراكماتك! وكل علاج يبدأ من سبب المشكلة، وكل نهاية تقطعها بداية، والقرار بيدك، إما كسر حلقة التراكمات بتراكمات أخرى، أو ترك الحبل على غارب تراكماتك المشؤومة لتغوص بك في الضحالة أكثر وأكثر، لا أحد ينقذك إلا أنت، والسرّ - كلُّ السر - في الخطوة الأولى، ولكل شيءٍ مرة أولى.
***
محمـــد سيـــف
........................
الهوامش:
(1) The Obstacle is the Way, Ryan Holiday, P:86, Profile Books LTD, 2015.






