دراسات وبحوث
ابراهيم طلبه سلكها: مفهوم مهارات التفكير الفلسفى

أولا: تعريف المفهوم
كلمة " مفهوم " Concept تتداول بشكل مألوف في معظم النظم الفكرية في عصرنا على السواء مثل التاريخ وعلم الاجتماع، علم النفس والفلسفة – الخ. والحقيقة أن المفاهيم تشكل الموضوع الرئيس للعديد من فلاسفة هذا القرن، فهي خبزهم وزبدهم، وطعامهم وشرابهم. فقد تساءلوا حول كثير من المفاهيم مثل: خير good، عدد " Number " احمر red وغيرها. ورأوا وجود ضروريات واستحالات معينة تحدد قيمة مفاهيمنا، وتشكل فئة خاصة ناتجة من الحقائق " المفاهيمية "، إنهم يصفون بنية العلم الطبيعي على أنها تشمل عدد من " الانساق المفاهيمية " conceptual Systems التى يمكن توضيحها، على نحو ما، بشكل ملائم بواسطة أنساق صورية أو بديهية ؛ كما أنهم يدرسون أصول "الأطار " العام للمفاهيم التى افترضت مسبقا في معرفتنا اليومية عن العالم. وكثيرين منهم يصفون حتى المهمة الرئيسية للفلسفة نفسها على أنها البحث عن ذلك التحليل المفاهيمي. ومع ذلك، فإنه بالرغم من كل اهتمامهم الشكوكي بالممارسة الفعلية للتحليل المفاهيمي، فإن المعنى الدقيق للمصطلحات " مفهوم " و " مفاهيمي " من النادر توضيحه ويظل غامضا في معظم الأحيان.. إنهم يعرفون تماما ما هي المفاهيم طالما لم يطلب منهم الحديث عنها ؛ لكن أى مفاهيم ؟، وما " المفاهيم ؟ " ؛.. هل المفاهيم تتعلق بكيفية استخدامنا للغة ؛ أو بكيفية تكوين خبرتنا،أو بكيفية تصنيفنا للأشياء التى يجب تناولها.. ما هي بالضبط ؟. (1)
والمفاهيم بدورها هي صور عقلية لا يمكن مشاهدتها. إن أمثال هذه المفاهيم ليست أكثر من نتائج استدلالية مشتقة من استدلالات سابقة عليها.. وهكذا. من هنا أثارت هذه المفاهيم تساؤلات فلسفية عميقة عن وضعها الوجودي وحقيقتها المعرفية. وكذلك عن معايير قبول النظريات العلمية. فهل تشير هذه المفاهيم إلي كائنات فعلية حقيقية، وإن قصرت دونها الحواس. وما برهاننا علي ذلك ؟ أم هي بناءات منطقية تستمد لبناتها من الملاحظة العلمية، ثم يكملها الخيال العلمي المبدع، جنبا إلي جنب مع قواعد الاستدلال المنطقي. وحينئذ، يجب ان نقنع منها بجانبها اللفظي مادام التحقق من نتائجها يكفل لنا جانبها التجريبي. أى الجانب التجريبي من النظريات التي تشتمل علي هذه المفاهيم. فصدق الكل يكفل لنا، ضمنا صدق ما ينطوي عليه من أجزاء. وهل المفاهيم ما هي إلا أدوات أو وسائل نحن الذين ابتدعناها واتفقنا عليها لتطوير فهمنا للطبيعة. ولتمكيينا من التعبير عنها بشكل أبسط يساعدنا علي تحقيق مزيد من التعميمات العلمية. وحينئذ لا يجوز لنا الحديث عن " حقيقة " هذه المفاهيم، او " وجود " ما تدل عليه " بل عن وظيفتها أو أو فائدتها فحسب. أم هي مجرد وسائل ابتدعناها لتسهيل فهمنا وتعبيرنا عن ما يصادفنا من ظواهر. أم مجرد تصورات مفيدة أكثر منها حقائق واقعية. ويمكننا إن شئنا أن نستبدل بها غيرها إن وجدناها أنفع منها. ومن الواضح ان هذه الأراء وغيرها لابد ان تنعكس علي تصورنا للطرائف التي يتوصل بها العلماء لأمثال هذه المفاهيم، أهي مواضعات يصطلح عليها العلماء كم يصطلحون علي دلالة أى رمز من الرموز وطرق مجالات استخدامه، ام هي نوع من البصيرة النافذة التي يتمتع بها قلة من العلماء النوابغ، تجعلهم يرون ملا نري، ويدركون ما نعجز عن إدراكه،أم....... ماذا.؟. (2)
والحقيقة أن الانقلاب الكبير الذي أحدثته الفيزياء المعاصرة في التصور التقليدي للكون، وما ترتب عليه من التشكك في كثير من النتائج التي كان ينظر إليها من قبل علي أنها صحيحة صحة مطلقة، مسلمات الفكر الفيزيقي النيوتني، دفع فلاسفة العلم المعاصرين إلي مزيد من الاهتمام بالمفاهيم ومنهم بريد جمان P. W. Bridgman مؤسس الاجرائية operationalism وتولمن رائد الأداتية Instrumentalism. أما بريد جمان فقد قضي عشر سنوات يتأمل في حقيقة ما يجري من أحداث في فروع علم الطبيعة،وفي اساس الفكر الطبيعي، وظهرت نتائج هذه التأملات علي مراحل، أهمها ما ظهر في كتاب له نشر سنة 1922 بعنوان "تحليل الأبعاد " ثم في كتابه " منطق علم الطبيعة الحديث " سنة 1927، ثم في كتاب ثالث بعنوان " طبيعة النظرية الفيزيائية " سنة 1936، ثم في كتاب رابع بعنوان " تأملات عالم طبيعة " سنة 1950، ثم في كتاب خامس بعنوان " طبيعة بعض مفاهيمنا الفيزيائية " سنة 1952.(3)
وبوجه عام: توجد تعريفات كثيرة للمفاهيم نذكر منها:
1- المفاهيم هى مكونات التفكير: المفاهيم هي مكونات فرعية لمحتويات الفكر، تشكل الأساس الذي يُبنى عليه التفكير. تمثل هذه المحتويات وقائع وقدرات عقلية افتراضية قد تكون مشتركة بين مفكرين مختلفين أو مستقرة لدى مفكر واحد عبر الزمن. ن امتلاك مفهوم يعني القدرة على التفكير في الأفكار التي تحتوي على هذا المفهوم. وبالتالي، تشكل المفاهيم أساليب أو طرائق ينظر من خلالها المفكر إلى الأشياء، الخصائص، والعلاقات. فمفهوم أي شيء هو الطريقة التي يتم بها التفكير في ذلك الشيء، مما يجعل المفاهيم أدوات ذهنية تساعد في تنظيم وفهم العالم من حولنا.(4)
فالمفاهيم، باعتبارها مكونات لمحتويات الفكر، تتسم بطبيعتها التمثيلية أو المقصودة، إذ هي مجرد تمثلات عقلية تعكس الواقع أو تبنيه. ولا يمكن فصل هويات المفاهيم عن خصائصها أو وظائفها المقصودة التي تحدد استخدامها وفائدتها. عادةً ما يتم التعبير عن المفاهيم من خلال اللغة، حيث تُجسّد في معاني الكلمات التي يستخدمها المتكلم. فعلى سبيل المثال، عندما نقول "هذا كرسي"، فإننا لا نعبر فقط عن وجود الكرسي كشيء مادي، بل نعبر عن "مفهوم الكرسي" ذاته باستخدام كلمة "كرسي"، مما يجعل اللغة أداة لتمثيل المفاهيم ونقلها بين الأفراد.(5)
2- هى الصفات أو المعاني التي يثيرها اللفظ في الذهن عندما يقرأ أو يسمع ... أو الخصائص أو الصفات التي تُفهم من هذا اللفظ، أي الخصائص والصفات التي يثيرها اللفظ في ذهن السامع أو القارئ.. مجموعة من الأشياء، أو الحوادث، أو الرموز تجمع معا على أساس خصائصها المشتركة العامة، التي يمكن أن يشار إليها باسم أو رمز خاص.
3- هى صورة عقلية لمجموعة من الأشياء لها سمات وخواص مشتركة. أو فكرة مجردة تصف جملة من السلوكيات أو المظاهر، يتم التوصل إلىها من خلال تعميم لحالات أو أمثلة خاصة. أو صورة عقلية (Mental image) للأحداث والأجسام والعلاقات اتى تتكون فى العقل).(6)
لقد استخدمت كلمة "مفهوم" concept فى البحث الفلسفى بمعان مختلفة عديدة يمكن التمييز بين ثلاثة منها:
أ- قد يدل المفهوم على الحالة النفسيةstate psychological للعقل عندما يستخدم المرء كلمة أو عبارة ليحدد شئ مفرد أو طائفة ما من الموضوعات.
ب- ربما يشير المفهوم إلى معنى كلمة أو عبارة عبر مرحلة معينة من مراحل تطور فكر الفرد، أو من مراحل تطور العلم أو ثقافة معطاة، أو حتى مراحل الجنس البشرى جملة.
جـ - يمكن أن يدل المفهوم على المعنى المنطقى للفظ. وهذا المعنى الثالث "للمفهوم" نجده فى التعريفات المعجمية، كما أنه يمثل المعنى المألوف "للمفهوم" فى دراسة المنطق(7)
وما يميز المفهوم، أولاً وقبل كل شيء، هو طابعه التجريدي والشامل. إنه يتسم بالقدرة على تجاوز الدلالات المتداولة والسائدة، بهدف بلوغ مستوى أعلى من التجريد والعمومية. هذا التجاوز يمنح المفهوم دقةً تقنية، وصرامةً موضوعية، وضبطًا إبستيمولوجيًا، مما يجعله أداة أساسية في التحليل الفلسفي والعلمي. والعملية المفاهيمية هى عملية تحول تُنقل خلالها دلالة ما من مستوى التصور الأولي، الذي يكون أقرب إلى الفهم العامي أو العفوي، إلى مستوى أكثر دقة وتنظيمًا. هذا التحول لا يهدف فقط إلى تحقيق وضوح معرفي، بل أيضًا إلى بناء أداة معرفية قادرة على التعامل مع الواقع بأسلوب منهجي ومتقن، حيث تُصبح المفاهيم وسيلة لفهم العوامل الأساسية وتحديدها ضمن سياقات معقدة.
ويجب التمييز بين المفهوم والماصدق، فاذا كان المفهوم هو المعنى أو الفكرة الذهنية التي يشير إليها لفظ معين، فان الماصدق هو التجسيد الواقعي أو الأمثلة الفعلية التي تنطبق عليها الفكرة أو المفهوم. الماصدق يمثل الجانب الخارجي والملموس لما يشير إليه المفهوم. كلمة ماصدق تتكون من مقطعين: ما: بمعنى (الذي)، صدق: بمعنى الذي دل عليه اللفظ.والماصدق هو الأفراد أو الأشياء أو الموضوعات التي يصدق عليهم أو ينطبق لفظ ما.
أمثلة توضيحىة:
مفهوم مسجد: مكان معد لصلاة المسلمين.
مفهوم إنسان: كائن حي مفكر.
مفهوم جامعة: بناء معد للتعليم.
مفهوم كرسي: شيء مخصص للجلوس، وله قاعدة وأربعة أرجل عادةً.
- ماصدق مسجد: كل المساجد في الواقع
- ماصدق جامعة: كل الجامعات في الواقع
- ماصدق انسان: عمر، أحمد، رباب..ألخ.
- ماصدق كرسى:: الكراسي الموجودة في غرفتك، مكتبك، أو في العالم الواقعي.
وهكذا يتمثل الفرق بين المفهوم والماصدق فى: التجريد مقابل الواقعية (المفهوم: تجريدي، يوجد في العقل- الماصدق: ملموس، موجود في العالم الخارجي.). الشمولية مقابل التحديد (المفهوم: عام، يشمل كل ما ينطبق عليه اللفظ - الماصدق: خاص، يشير إلى مثال معين أو حالة محددة (..التصور مقابل التطبيق) المفهوم: يتعامل مع الفكرة أو التصور الذهني- المصداق: يركز على التطبيق الواقعي أو المثال العملي.). وتتمثل علاقة المفهوم بالماصدق فى: المفهوم يسبق الماصدق منطقيًا، لأنه الأساس الذي تُحدد به الأمثلة الفعلية التي تنطبق عليه.
ثانيا: صناعة المفاهيم
الفلسفة ليست مجرد حقل معرفي أو مبحث أكاديمي، بل هي أسلوب حياة ورؤية شاملة للوجود. إنها التعبير الأسمى عن صوت العقل وفضاء لطرح الأسئلة العميقة التي تثيرها روح الإنسان القلقة والباحثة عن المعنى في خضم الحياة. الفلسفة تقف ضد الخضوع لأصوات تصادر حرية الإنسان في التفكير، تلك التي تقول له: "لا تفكر، نحن نفكر لك". بل تدعو الفلسفة الإنسان إلى رفض أن يكون ألعوبة في يد الآخرين، وإلى التحلي بالشجاعة الفكرية ليكون سيد ذاته، ممارسًا التفكير النقدي والمستقل.
وكل عصر يحمل روحه الفلسفية الخاصة، حيث إن الفلسفة تعبر عن الهموم الفكرية والمشاكل الوجودية التي تواجه الإنسان في كل حقبة. إنها تمثل حوار العقول الكبيرة عبر الأزمان، من سقراط وأفلاطون إلى الفلاسفة المعاصرين، الذين سعوا جميعًا لفهم طبيعة الإنسان، الكون، والحياة. الفلسفة هي ميراث الأسئلة الخلاقة التي رافقت الإنسان منذ أن وطأت قدمه الأرض: لماذا نحن هنا؟، ما معنى الحياة؟، كيف يمكننا أن نعيش عيشة صالحة؟. هي انعكاس للتطلع نحو السماء والبحث عن إجابات للأسئلة الكبرى، تلك التي لا تزال تتردد في عقول البشر عبر التاريخ.
كما يحمل تاريخ الفلسفة إرثًا غنيًا بالمفاهيم التي شكلت طرق التفكير وأسست لرؤى مختلفة عن العالم. الفلاسفة لم يكتفوا بتقديم أفكار مجردة، بل أضفوا دلالات خاصة على المفاهيم التي استخدموها في بناء أنظمتهم الفكرية، مما جعل أسماءهم تقترن بالمفاهيم التي صنعوها وأبدعوها.وهنا نذكر أمثلة من الفلاسفة والمفاهيم المرتبطة بهم:
1- سقراط: اقترن بمفهومي "الفضيلة والرذيلة"، حيث ركز على الوسطية كطريق لتحقيق الخير الأخلاقي.
2- أفلاطون: ارتبط بفكرة "الحوار" كما يظهر في محاوراته، التي أسست منهجًا للتفكير الجدلي والاستكشاف الفلسفي.
3- ديكارت: اشتهر بـ"الكوجيتو " (أنا أفكر، إذن أنا موجود)، كنقطة انطلاق لبناء يقين معرفي.
4- ليبنتز: ارتبط بمفهوم "الموناد"، الذي يمثل الوحدات البسيطة التي تتألف منها جميع الكائنات.
5- كانط: عرف بالفكر "النقدي"، الذي يهدف إلى فحص حدود المعرفة والإمكانات البشرية.
6- برجسون: قدم مفهوم "الديمومة" لفهم الزمن كتجربة داخلية وليس كمجرد تسلسل ميكانيكي.
7- هيجل: اشتهر بـ"المطلق" كنقطة نهاية للوعي الجدلي.
8- هيدجر: ركز على "الكينونة" و"الدازاين" (الوجود- هنا)، لفهم الإنسان في علاقته بالوجود.
9- هوسرل: أسس مفهوم "القصدية" لفهم الوعي في توجهه نحو الظواهر.
10- ناقش جون أوستن مشكلة المفاهيم في مقالاته الرئيسية "هل توجد مفاهيم قبلية؟" وأوضح أن البحث فيها أشبه بالنبش في قبور الموتى لالتقاط بعض العظام، ولكنه يبدو عملاً شيقاً ويستحق الاجتهاد والدراسة. ونجده يقسم مقالته إلي ثلاثة أقسام: الأول: يدور حول مسألة الكليات universals من حيث أصلها ووجودها، والثاني: يبحث فيه طبيعة المفاهيم، والثالث: يرتكز فيه علي دراسة فكرة التشابه.
فعند دراسة أفكار الفلاسفة، لا يمكن عزل أفكارهم عن المفاهيم التي انطلقوا منها، إذ إن هذه المفاهيم تمثل الأدوات التي بواسطتها أبدعوا رؤاهم وطرحوا إشكالياتهم. الفهم الحقيقي لفلسفة أي مفكر يتطلب العودة إلى هذه المفاهيم الأصلية ودراسة كيفية استخدامها وتطويرها. رأى كانط الفلسفة باعتبارها "تفكيرًا بالمفاهيم"، حيث يتم استخدام المفاهيم لتحليل الواقع وتأطير التجربة الإنسانية.وأكد جيل دولوز أن الفلسفة ليست مجرد تحليل للمفاهيم الموجودة، بل هي إبداع للمفاهيم. يقول دولوز: "الفلسفة إبداع للمفاهيم".وبهذا، يرى أن وظيفة الفيلسوف الأساسية هي صياغة مفاهيم جديدة تعيد تفسير العالم وتفتح آفاقًا جديدة للتفكير.
وهنا يتبادر إلى الذهن سؤالان أساسيان، الأول: من هو جيل دولوز؟ والثانى: ماذا يعني تعريفه للفلسفة بأنها "إبداع للمفاهيم"؟.
جيل دولوز (1925–1995) هو فيلسوف فرنسي بارز في القرن العشرين، اشتهر بأعماله التي تمزج بين الفلسفة والفن والأدب والسياسة. ركزت فلسفته على الإبداع والتجديد في الفكر، حيث عُرف بقدرته على تفكيك الأنظمة الفكرية التقليدية وإعادة صياغتها بطرق مبتكرة. تعاون مع الفيلسوف فيليكس غتاري في عدة أعمال بارزة، مثل الرأسمالية والفصام، وأسهم في تطوير مفاهيم جديدة حول الفلسفة، والذات، والرغبة، والسلطة.. تصور جيل دولوز الفلسفة بوصفها عملية إبداعية تُنتج المفاهيم التي تعكس تفاعلات الفكر مع الواقع، ووصف نفسه بـ"الميتافيزيقي الخالص"، مما يشير إلى اهتمامه العميق بالتساؤلات الأساسية حول الوجود والمعرفة. في عمله المميز الاختلاف والتكرار، سعى دولوز إلى تطوير ميتافيزيقا حديثة تتماشى مع تطورات الرياضيات والعلوم المعاصرة. في هذه الميتافيزيقا، يتم استبدال مفهوم الجوهر بمفهوم التعدد، والحدث يحل محل الجوهر التقليدي، كما تحل الافتراضية محل الإمكانية.(8)
وإلى جانب جهوده الميتافيزيقية، أنتج دولوز دراسات مهمة في تاريخ الفلسفة، تناول فيها أعمال هيوم، وليبنتز، وسبينوزا، وكانط، ونيتشه، وبرجسون، وفوكو. كما امتدت اهتماماته إلى الفنون، حيث كتب دراسة في مجلدين عن السينما، بالإضافة إلى أعمال حول بروست، وزاخر مازوخ، وفرانسيس بيكون. اعتبر دولوز هذه الدراسات أعمالًا فلسفية خالصة وليست مجرد نقد، حيث سعى فيها إلى خلق مفاهيم فلسفية تعبر عن الممارسات الفنية لهؤلاء الرسامين والمخرجين والكتاب. إلى جانب جهوده الميتافيزيقية، أنتج دولوز دراسات مهمة في تاريخ الفلسفة، تناول فيها أعمال هيوم، ونيتشه، وكانط، وبرجسون، وسبينوزا، وفوكو، وليبنتز.(9)
في عام 1968، بدأ دولوز شراكة فكرية مع فيليكس جواتاري، الناشط السياسي والمحلل النفسي الراديكالي. أثمرت هذه الشراكة عن مجموعة من الأعمال المشتركة، أبرزها كتاب الرأسمالية والفصام المكون من جزأين: ضد أوديب (1972) وألف هضبة (1980)، وقد توّج هذا التعاون بعملهم الأخير ما هي الفلسفة؟ (1991) الذي يُعتبر تأملًا عميقًا في طبيعة الفلسفة وأهدافها.(10)
يرى جيل دولوز أن الفلسفة تتمثل في خلق أو بناء المفاهيم، وهي عملية إبداعية تعيد تشكيل الفكر. يُعرّف دولوز المفهوم على أنه تعدد مكثف، ينشأ على مستوى المحايثة (immanence)، ويسكنه ما يُطلق عليه "شخصيات مفاهيمية"، وهي عناصر ديناميكية تُفعّل الآلة المفاهيمية. هذه الشخصيات المفاهيمية ليست ذواتًا مستقلة، لأن التفكير عند دولوز لا ينبع من ذاتية فردية، بل يحدث في إطار العلاقة بين الإقليم (territory) والأرض (earth)، مما يعكس تفاعلًا بين الفكر والمحيط. في مقابل ذلك، يميز دولوز بين الفلسفة والعلم والفن من حيث الأدوار التي يؤديها كل مجال. فالعلم يخلق وظائف على مستوى مرجعي، بمعنى أنه يصوغ نماذج تفسيرية ومنهجيات تجريبية تعتمد على الدقة المرجعية. أما الفن، فيقوم بخلق "كتلة من الإحساس"، وهي مركب يتكون من تصورات (percepts) ومؤثرات (affects)، مما يعني أن الفن لا يكتفي بالتعبير عن الواقع، بل يعمل على إعادة تشكيله من خلال تجربة حسية عميقة.(11)
تعريف جيل دولوز للفلسفة بأنها "خلق المفاهيم" يترتب عليه ثلاث نتائج مهمة:
أولا: يُعرِّف جيل دولوز الفلسفة كنشاط يرتبط تقليديًا بالإبداع، وهو نشاط يتماشى مع طبيعة الفن. يرى دولوز أن الفلاسفة مبدعون، تمامًا مثل الفنانين، لكن ما يُبدعونه ليس لوحات أو منحوتات أو أفلامًا أو روايات، بل مفاهيم. في لغة دولوز، الفلاسفة يُنتجون المفاهيم، بينما يُبدع الفنانون مجموعات حسية تتألف من التصورات والتأثيرات هذا التمييز يبرز الفلسفة كعملية إبداعية تتوازى مع الفنون، لكنها تختص بصناعة أدوات فكرية، تهدف إلى تفسير العالم وفهمه بطرق مبتكرة وعميقة، في حين يعبر الفنانون عن تجربتهم من خلال وسائل حسية تثير المشاعر والتصورات.(12)
الإبداعات المفاهيمية، وفقًا لجيل دولوز، تحمل طابعًا شخصيًا يعكس هوية الفيلسوف الذي ابتكرها، تمامًا كما تحمل الأعمال الفنية توقيع الفنان. في عالم الفن، نُشير إلى "عباد شمس" فان جوخ أو "أعلام" جاسبر جون كأعمال مميزة تحمل بصمة مبدعها. وبالمثل، في الفلسفة، نتحدث عن "كوجيتو" ديكارت، أو "موناد" ليبنتز، أو "إرادة القوة" لنيتشه، وهي مفاهيم ترتبط ارتباطًا وثيقًا بمبتكريها وتعبر عن رؤاهم الفكرية. حتى في الطب، يظهر هذا النمط من الإبداع المميز، حيث تُنسب اكتشافات معينة إلى مبتكريها، مثل مرض الزهايمر الذي يُنسب إلى الطبيب ألويس ألزهايمر، أو مرض باركنسون الذي يحمل اسم الطبيب جيمس باركنسون. هذا التشابه يعكس الطبيعة الإبداعية التي تربط بين المفاهيم الفلسفية والعلمية والفنية، حيث يُصبح كل منها نتاجًا فرديًا يعبر عن عبقرية مبتكره.(13)
ثانيا: تعريف دولوز للفلسفة بأنها "خلق المفاهيم" لا يقتصر على الإشارة إلى أن الفلاسفة مبدعون كالفنانين، بل يُظهر أيضًا أن الفنانين هم "مفكرون" على نفس القدر من الأهمية. بالنسبة لدولوز، التفكير ليس حكرًا على المفاهيم الفلسفية، بل هو عملية شاملة تتجسد بطرق مختلفة عبر الفنون. الفنانون، مثل الفلاسفة، يمارسون التفكير، ولكن من خلال أدواتهم الخاصة: الرسامون يفكرون من خلال الخطوط والألوان، حيث تتحول اللوحات إلى تعبير بصري عن أفكار معقدة. الموسيقيون يفكرون بالأصوات، حيث تصير الألحان والأنغام وسائل للتعبير عن حالات وجدانية وفكرية. الكتاب يفكرون بالكلمات، حيث تُصبح النصوص الأدبية حوامل لمعاني وأفكار عميقة. صانعو الأفلام يفكرون بالصور، حيث ينقلون رؤى وأفكارًا من خلال لقطات ومشاهد مترابطة.(14)
ثالثا: حسب جيل دولوز، لا يوجد أولوية لأي من الأنشطة الإبداعية – سواء كانت الفن أو الفلسفة – على الأخرى. فخلق مفهوم فلسفي ليس أكثر صعوبة أو تجريدًا من إنشاء صور مرئية أو مؤثرات جديدة في الفن. بالمثل، ليس من الأسهل قراءة صورة أو لوحة أو رواية مقارنة بفهم مفهوم فلسفي. هذه النظرة تشير إلى أن الفلسفة والفن يشتركان في نفس العملية الإبداعية، وكل منهما يعبر عن تفكير وتفاعل مع العالم بطرق مختلفة. دولوز يرفض الفصل بين الفلسفة والفنون أو العلوم أو السياسة. فالفلسفة لا يمكن أن تُمارس بشكل مستقل عن هذه المجالات الأخرى؛ فهي دائمًا في علاقة تفاعلية ومتبادلة معها. لهذا السبب، عندما كتب دولوز في موضوعات مثل الفنون أو العلوم أو الطب أو الطب النفسي، فعل ذلك كفيلسوف، مؤكداً أن أعماله في هذه المجالات يجب أن تُقرأ على أنها فلسفة، "لا شيء سوى الفلسفة" بالمعنى التقليدي للكلمة.(15)
نعم، هذه النقاط الثلاث تلخص بشكل دقيق طريقة دولوز في وصف العلاقة بين الفلسفة والفن، أو بشكل عام، بين الفلسفة وفعل الإبداع:
1- الفلاسفة مبدعون كالفنانين: الفلاسفة، مثل الفنانين، يبتكرون مفاهيم، وهذه المفاهيم هي أشكال إبداعية تعكس تفاعل الفكر مع الواقع. الفلسفة في هذا السياق تُعتبر فعلًا إبداعيًا بقدر ما هي عملية خلق مفاهيم جديدة.
2- الفنانون والمؤلفون هم مفكرون مثل الفلاسفة: الفنانين، مثل الفلاسفة، هم مفكرون، لكنهم يفكرون باستخدام مواد أو وسائط غير مفاهيمية. بدلاً من المفاهيم المجردة، يفكر الفنانون في صور، أصوات، ألوان، أو نصوص. هذه المادة الفنية هي وسيلتهم للتفكير والتعبير عن رؤاهم وأفكارهم.
3- لا أولوية لأي نشاط على الآخر: دولوز يؤكد أن لا أحد من هذه الأنشطة (الفلسفة، الفن، وغيرها) له أولوية على الآخر. يمكن للفلاسفة أن يخلقوا مفاهيم حول الفن، كما يمكن للفنانين والمؤلفين التعاون مع الفلسفة لإنشاء مفاهيم جديدة. هذا التعاون بين الفلسفة والفن يمكن أن يؤدي إلى ما يُسمى بـ "الفن المفاهيمي"، حيث يجتمع الفن والفلسفة لخلق شيء جديد يعكس التفاعل بين الفكرة والشكل.(16)
ثالثا: تعريف المهارة
تاريخيًا، استُخدم مصطلح "المهارة" skill للإشارة إلى العامل الحرفي والتقني. وقد كان مفهوم المهارة يشمل "القدرة على أداء مهمة محددة ذات طابع مهني أو تقني". أما اليوم، فقد توسّع ليشمل مجموعة متنوعة من المهام، مثل، فى مجال اللغة (القراءة، الكتابة، التحدث، الاستماع)، فى مجال الرياضة والأرقام (الحساب، القياس، التعامل مع الرسوم البيانية والجداول)، فى مجال التنسيق والبراعة فى الآداء (حل المشكلات، التعامل مع التحديات اليومية، بناء العلاقات الشخصية، محو الأمية الرقمية والتعلم المستمر). تُعد المهارات عنصرًا أساسيًا لإنجاز أي عمل، بدءًا من القراءة والكتابة والتواصل، وصولًا إلى التفكير النقدي، حل المشكلات، التحفيز، اتخاذ القرارات، القيادة، إدارة الذات، والتعلم المستمر.ومع تطور الزمن، تتغير المهارات استجابةً للمستجدات؛ حيث تختفي مهارات قديمة وتبرز أخرى، في إطار السعي نحو المزيد من الابتكار والتطور.(17)
للمهارة تعريفات كثيرة نذكر منها:
"البراعة والدقة في تنفيذ المهام."
"القدرة على استخدام المعرفة بفعالية وسلاسة في الأداء والتنفيذ."
"القدرة المكتسبة التي تمكّن الفرد من القيام بشيء ما بكفاءة عالية."
وتُعبر المهارة عن "الدراية والمعرفة المتكاملة، حيث إن المعرفة والمهارة يرتبطان بشكل متبادل، إذ تُعد المهارة تجسيدًا عمليًا للمعرفة يحدد العمل وينظمه."(18)
المهارة هى صفة شخصية تتميز بثلاث سمات رئيسية:
- البراعة: وتعنى القدرة على أداء المهام بدقة واتقان.
- الكفاءة: وتشير الى تحقيق النتائج الموجودة بأقللا جهد ووقت ممكن.
- التكيف: وهو القدرة على توظيف المعرفة واتلخبرة فى مواجهات تحديات وظروف متغيرة.
ويمكن توضيح ذلك كما يلى:
- إنتاجيًا: استخدام المهارة يؤدي إلى إنتاج قيمة معينة، سواء كانت مادية أو معنوية. فالمهارة تتيح تحويل المعرفة والخبرة إلى نتائج ملموسة ذات فائدة، مما يعزز الكفاءة ويزيد من الإنتاجية في مختلف المجالات.
- توسعيًا: يتم تعزيز المهارات وتطويرها من خلال التدريب المستمر والتعلم المنهجي. فالمهارات ليست ثابتة، بل يمكن صقلها وتحسينها عبر اكتساب خبرات جديدة، والتعرض لتحديات متنوعة، والاستفادة من الموارد التعليمية التي ترفع مستوى الأداء والكفاءة.
- اجتماعيًا: يتم تحديد المهارات وفقًا للسياق الاجتماعي والثقافي الذي ينتمي إليه الفرد. فالمجتمع يلعب دورًا محوريًا في تعريف المهارات ذات القيمة، وتحديد الأولويات بناءً على احتياجاته ومعاييره. كما أن التفاعل الاجتماعي يساهم في صقل المهارات من خلال التعلم التعاوني وتبادل الخبرات.(19)
6- خصائص النشاط المعقد الذي يتطلب فترة من التدريب المقصود، والممارسة المنظمة، بحيث يؤدى بطريقة ملائمة، وعادة ما يكون لهذا النشاط وظيفة مفيدة. ومن معاني المهارة أيضا الكفاءة والجودة في الأداء. وسواء استخدم المصطلح بهذا المعنى أو ذاك،فإن المهارة تدل على السلوك المتعلم أو المكتسب الذي يتوافر له شرطان جوهريان، أولهما: أن يكون موجها نحو إحراز هدف أو غرض معين، وثانيهما: أن يكون منظما بحيث يؤدي إلى إحراز الهدف في أقصر وقت ممكن. وهذا السلوك المتعلم يجب أن يتوافر فيه خصائص السلوك الماهر.(20)
7- هى القدرة على الأداء والتعلم الجيد وقتما نريد. والمهارة نشاط متعلم يتم تطويره خلال ممارسة نشاط ما تدعمه التغذية الراجعة. وكل مهارة من المهارات تتكون من مهارات فرعية أصغر منها، والقصور في أي من المهارات الفرعية يؤثر على جودة الأداء الكلي.(21)
8- هى:قدرة الفرد على داء االعمل بكفاءة اكبر من المعتاد.
9- هى السلوك المتعلم او المكتسب الذى يتوافر له شرطان جوهريان: اولهما ان تكون موجها نحو إحراز هدف معين وثانيهما ان تكون منظمة بحيث تؤدى الى احراز الهدف فى اقصر وقت واقل جهد ممكن.(22)
رابعا: تعريف التفكير الفلسفى
أي تفكير يتناول حقيقة معتقد فلسفي يُعد تفكيرًا فلسفيًا. وبينما يُعد الفلاسفة المحترفون أولئك الذين يجعلون التفكير الفلسفي مهنتهم، فإنهم لا يحتكرون هذا النوع من التفكير، حيث يمكن أن نجده أيضًا عند مفكرين آخرين، مثل العلماء، والأدباء، والنقاد، وغيرهم. تتسم المشكلات الفلسفية بتشابكها الوثيق؛ فكلما توصل الفيلسوف إلى حل لمشكلة معينة، ظهرت له مشكلات جديدة تتطلب حلولًا، مما يجعل الفلسفة عالمًا مليئًا بالإثارة والتجدد. وتتعدد فروع الفلسفة لتشمل مجالات متنوعة، منها: فلسفة العلم، فلسفة الدين، فلسفة الفن (الجماليات)، فلسفة التاريخ، فلسفة التربية، فلسفة الحكومة (الفلسفة السياسة)، فلسفة العلوم الاجتماعية، فلسفة الرياضيات وفلسفة اللغة، وغيرها من المجالات التى تعكس تنوع اهتمامات الفلسفة واتساع افقها.(23)
التفكر، ببساطة ووضوح، يُعد سمة من سمات الحياة اليومية، ويرتبط بالحس المشترك أو بالمفاهيم الدارجة. فهو جزء لايتجزأ من الممارسة الانسانية اليومية. بشكل عام، الفلسفة هي ممارسة الفكر المنضبط، تسعى باستمرار لتحقيق الحكمة وفهم الخبرة الإنسانية. وتهدف، في نهاية المطاف، إلى تحديد تلك الخبرة وتوجيهها. وفي هذا السياق، يرى ماكنتاير أن النشاط الفلسفي يمثل مخزونًا من الأفكار حول طبيعة الواقع والوجود والإنسان، بالإضافة إلى تقييم التجربة الإنسانية ذاتها. كما يشمل دراسة كيفية معرفة الأشياء، وتحديد المفاهيم التي يمكن توظيفها لحل المشكلات التي تواجه البشر.أما راندال، فيرى أن التقليد الفلسفي أشبه بـ"صندوق أدوات" يحتوي على مجموعة من الأدوات الفكرية التي يمتلكها الفيلسوف، ويستخدمها في معالجة المشكلات التي تواجهه.(24)
تسعى الممارسة الفلسفية جاهدة لتحقيق التوازن المثالي بين الوضوح والبساطة. إنها توازن دقيق بين التحليل الشامل للتجارب التي تشكل الإشكاليات المختلفة، وبين التكامل المستمر للتفاصيل المتناقضة داخل تلك التجارب.الغاية من التجربة الإنسانية تكمن في البحث عن جودة الحياة؛ حياة تتسم بالمبادئ، والقيم، والطمأنينة. ومن هذا المنطلق، يصبح البحث في الفلسفة بمثابة تنوير لما تعنيه جودة الحياة، وإضاءة للسبل التي تؤدي إليها.(25)
يقول الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت René Descartes (1596- 1650م): (أنا أفكر إذا أنا موجود)، وهو يؤكد بذلك أهمية التفكير فى الحياة وأن الإنسان (كائن لديه القدرة على التفكير). والتفكير أرقى سمة يتسم بها الإنسان الذي كرمه الله سبحانه وتعالى وميزه على غيره من سائر الكائنات الحية، وبه تمكن الانسان من بناء الحضارة الإنسانية وتحقيق الازدهار والتقدم فى جميع المجالات والانتقال من مرحلة البداوة إلى المدنية.
لكن اذا كان ذلك كذلك فما هو التفكير ؟.... ليس من اليسير تقديم تعريف دقيق لعملية التفكير، فهى من العمليات الحيوية المعقدة التى عجزت الدراسات الفسيولوجية والسيكولوجية عن ادراك كنهها،وكشف الغطاء عن أسرارها.(26) ومع ذلك توجد عدة تعريفات للتفكير نذكر منها:
1- تعريف ابن منظور:
يعرف الفكر بقوله: والفكر: إعمال الخاطر في الشيء، والتفكر اسم التفكير، ومنهم من قال فكري، ورجل فكير: كثير التفكير، وقال الجوهري: التفكر: التأمل.(27)
2- الفيروز آبادي:
يعرفه بقوله: "الفكر، بالكسر ويفتح إعمال النظر في الشيء كالفكرة".(28)
3- الراغب الأصفهاني:
يعرفه بقوله: “الفكرة قوّة مطرقة للعلم إلى المعلوم، والتفكّر جولان تلك القوّة بحسب نظر العقل، وذلك للإنسان دون الحيوان، ولا يقال إلاّ فيما يمكن أن يحصل له صورة في القلب".(29)
4- علماء البيولوجيا:
يعرفونه بأنه " المحاولات التى يبذلها الكائن الحى عندما يحاول أن يحل ما يواجهه من المشكلات فى بيئته، أو يتغب على ما يصادفه من صعاب لكى يتمكن من فهم هذه البيئة والسيطرة عليها أو التكيف معها ".(30)
5- شارلز فيرنيهو Charles Fernyhough
يعرفه بقوله: " التّفكير هو كل ما يقوم به العقل الواعي ويشمل العمليات الإدراكية، والحساب الذّهني، وتذكّر الأشياء كرقم الهاتف أو استحضار صورة معيّنة من الماضي وغيرها. وهو أيضاً الحوار الدّاخليّ المكثّف والموسّع، والذي يقوم بتجميع المعلومات وتحليلها".(31)
التفكير ميزةٌ أساسية منحها الله لكل إنسان، وبهذا لا يكون التفكير محصوراً بالفلاسفة وحدهم إنَّما يرتبط التفكير بكل إنسان، أما التفكير الفلسفي الذي يطرح التساؤلات المختلفة من خلال العقل، فإنَّ لكل إنسانٍ عقلاً، ولا بدَّ له أن يتفلسف في لحظةٍ ما، ويفكر في أي أمرٍ ما من حوله، أو يشك، ويحاول معرفة الحقائق وأسئلة الوجود وأعماق الأشياء، كما أنَّ التفلسف مفروضٌ على الإنسان كمعطى عقلي، أي أنّه جزءٌ من تكوين العقل البشري، وله علاقةٌ طبيعية ووثيقةٌ بالتفكير.(32)
بدأ التفكير الفلسفى المنظم فى اليونان منذ أواخر القرن السابع قبل الميلاد، وكان أقدم المذاهب الفلسفية المذهب الأيونى، وقد حاول أتباعه رد الأجسام المختلفة الى أصل أساسى، أو عنصر واحد، وزعم بعضهم أنه الماء أو الهواء أو النار أو التراب، وأجمعوا على أنه لاينشأ شىء من العدم، ولاينعدم شىء موجود، وقالوا بالشمول، وذلك فى أن هذا العالم روحا واحده تسوده وتنظمه.(33)
يسعى التفلسف أيضًا إلى توضيح الكلمات من خلال تحديد المفاهيم، ولهذا تكمن مشروعيته في تقليل أشكال سوء الفهم، وتفادي الالتباس، وضبط المحاور الدقيقة للخطاب. فالفلسفة تدفعنا إلى توجيه التفكير نحو الحقيقة، مما يساعدنا على فهمها بوضوح ودقة.(34)
خامسا: سمات التفكير الفلسفى
من خصائص التفلسف:
التحليل
التقييم النقدى
التفكير المجرد
الدافع العالى للانجاز
الاستقلال الفكرى
الشعور بالدهشة (35)
سادسا: تعليم الفلسفة
هل الفلسفة للجميع أم أنها حكر على الفلاسفة وحدهم، ولاتوجد عند غيرهم؟ وهل يمكن تعلم الفلسفة؟
" الفلسفة للجميع"، لذلك يعتقد مارتن هيدجر أنه من المستحيل فهم طبيعة الفلسفة دون الانغماس فيها أو ممارستها من خلال التفلسف. فعندما نسأل: "ما هي الفلسفة؟"، نحن بالفعل نكون داخل الفلسفة، لا خارجها. نحن نعيشها ونتحرك داخل فضائها، وليس على أطرافها أو بعيدًا عنها. مع أن البعض يرى أنه من المستحيل إعادة إنتاج فلاسفة مثل أفلاطون، أرسطو، أو كانط، وإنه لا يمكن "تعلم" أن تكون فيلسوفًا. فعلى سبيل المثال، يعتبر صموئيل تايلور أن "الفلسفة أداة " مفقودة لدى الكثيرين. أما فريدريك نيتشه، فيعتقد أن "الفلاسفة يولدون، ولا يُصنعون". وفي السياق نفسه، يرى جون هارولد هايك أن "الفلاسفة الذين صُنعوا ليسوا فلاسفة حقيقيين". تتجلى الفلسفة إذًا كدعوة مفتوحة للجميع، لكنها تتطلب استعدادًا داخليًا وقدرة فطرية على التفكير العميق والبحث عن الحقيقة.(36)
خلاصة القول: لا ضير إطلاقًا في قبول الركائز السابقة التي تؤكد إمكانية تعليم الفلسفة من خلال التفسير والتحليل والتقييم النقدي للحجج والقضايا، والمتابعة الإبداعية والتواصل الفعّال. فمثل هذه المهارات لا تتطلب خلفية خاصة، وهي في متناول كل من يرغب في تعلمها. ومع ذلك، ليس الجميع قادرين على تعلم هذه الأنشطة الفلسفية أو إتقانها. إذ يتطلب الوصول إلى مستويات عميقة ومؤثرة في الفلسفة خلفية خاصة محددة تتألف من ثلاثة:
قدرة عالية على التفكير المجرد: تمكن الشخص من التعامل مع الأفكار والمفاهيم المجردة وتحليلها بعمق.عناصر أساسية.
دافع عالٍ لتحقيق الاستقلال الفكري: رغبة قوية في التفكير باستقلالية بعيدًا عن القوالب الجاهزة والتبعية الفكرية.
القدرة على الشعور بالدهشة الفلسفية: امتلاك الفضول والرغبة في التأمل والتساؤل حول الوجود والحياة والعالم.
حتى الأشخاص الذين يمتلكون المهارات الفلسفية الأساسية يحتاجون إلى تعلم الفلسفة لتعزيز هذه القدرات وتنميتها خلال عملية الدراسة والتأمل الفلسفي. بمعنى آخر: الأشخاص ذوو القدرات الفلسفية المحدودة: يمكنهم اكتساب وتعزيز القدرات الفلسفية الضرورية، مثل التفسير والتحليل والتقييم النقدي، ليتمكنوا من الانخراط في التفلسف بطريقة ما، حتى لو لم يصلوا إلى مستويات الاحتراف العالية. الأشخاص ذوو القدرات الفلسفية العالية: يمكنهم الاستفادة من تعلم الفلسفة لصقل مهاراتهم واكتساب التقنيات المهنية التي تساعدهم على التفلسف بشكل أكثر فعالية واحترافية، مثل تطوير منهجيات التحليل النقدي، وبناء منظومات فكرية متماسكة، والتواصل الفلسفي الفعّال.(37)
الخلاصة: أن تعليم الفلسفة ليس حكرًا على فئة محددة؛ فهو يخدم جميع الأشخاص، بغض النظر عن مستوى مهاراتهم الفلسفية. فهو يعمل على تمكين الأفراد من فهم أعمق، وتطوير أدواتهم الفكرية، وتعزيز قدرتهم على مواجهة التحديات الفكرية المعقدة بطريقة منهجية ومبدعة.
***
ا. د. ابراهيم طلبه سلكها
أستاذ الفلسفة الحديثة والمعاصرة – جامعة طنطا
...............................
الهوامش
1- د.ابراهيم طلبه سلكها: فلسفة العلم عند ستيفن تولمن، دار المصطفى للنشر والتوزيع، ص129
2- المرجع نفسه، ص ص 120- 121
3- الموضع نفسه
4- TYLER BURGE: CONCEPTS, DEFINITIONS, AND MEANING, Source: Metaphilosophy, Vol. 24, No, 4 (October 1993), pp. 309- 310
5- Ibid, p- 311
6- Kevin Dunbar, David Klahr: Scientific Thinking, BritainOxford University Press2012, P- 611
7- Lewis, Clarence Irving: mind and The world – othe 39 Qutilne of a theory of knowledge, Dover publication p- 89.
8- Edward N. Zalta and Uri Nodelman: "Gilles Deleuze" In" The Stanford Encyclopedia of Philosophy" , First published Fri May 23, 2008; substantive revision Fri Jun 3, 2022
9- Loc- Cit
10- Loc- Cit
11- Loc- Cit
12- Daniel W. Smith: On the Nature of Concepts, Journal of Philosophy: A Cross- Disciplinary Inquiry, Spring 2011, Vol. 6, No.15,p- 20
13- Ibid, p- 21
14- Ibid,p- 22
15- Loc- Cit
16- Loc- Cit
17- Mohamed S. Abdel- Wahab and others: PRODUCTIVITY, SKILLS, AND TRAINING: APROBLEM OF DEFINTION? Loughborough University, UK,p- 109
18- Kantrowitz, T. M: Development and Construct Validation of a Measure of soft Skills Performance. Ph. D. thesis, Georgia Institute of Technology, Atlanta, GA, 2005,p- 3
19- Green, F : What is Skill? An Inter- Disciplinary Synthesis published by the Centre for Learning and Life Chances in Knowledge Economies and Societies at: http://www.llakes.org
20- آمال صادق وفؤاد أبوحطب: علم النفس التربوى، الأنجلو المصرية، القاهرة، ط4، 1994م، ص 330
21- Cottrell, S: The study skills handbook, London, Macmillan press, Ltd,1999,p- 21
22- آمال صادق وفؤاد أبوحطب: مرجع سابق، ص658
23- MONROE C. BEARDSLEY and ELIZABETH LANE BEARDSLEY: PHILOSOPHICAL THINKING AN INTRODUCTION, Library of Congress, PRINTED IN THE UNITED STATES of AMERICA,1965,pp- 5- 11
24- Alasdair MacIntyre, After Virtue, second edition, (Notre Dame, IN: University of Notre Dame Press, 1984): 187.
Sea Also:
- John Herman Randall, Jr., How Philosophy Uses Its Past, (New York: Columbia University Press, 1963): 19.
25- William James, The Will To Believe, (New York: Dover Publications, 1897, 1956): p- 65
26- د.منير كامل وسرحان الدمرداش:التفكير العلمى، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة،ط2،1963،ص 9
27- ابن منظور: لسان العرب، مادة فكر
28- الفيروز أبادى:القاموس المحيط،مادة فكر
29- الراغب الأصفهانى:معجم مفردات أعلام القرأن، مادة فكر
30- د.منير كامل وسرحان الدمرداش: مرجع سابق، ص 10
31- Charles Fernyhough: "What do we mean by'thinking'?" www.psychologytoday.com, Retrieved,p- 21
Sea Also
Kevin N. Dunbar and David "Scientific Thinking and Reasoning - Abstract and Keywords", Oxford Handbooks - Scholarly Research Reviews, Retrieved 2020,p- 13
32- جوزيف بوخينسكى: مدخل إلى الفكر الفمسفي، دار الفكر العربى، مصر،ط3،1960،ص ص 6- 8
33- لورانس ڤانين- ڤيرنا: لماذا نتفلسف؟ سبل الحرية، ترجمة محمد شوقى الزين، دار الروافد الثقافية، ط1، ص ص 34- 35.
34- Oleksandr Kulyk: On the Possibility to Teach Doing Philosophy, ASIANetwork Exchange A Journal for Asian Studies in the Liberal Arts, December 2018,p- 2
35- Ibid,p- 4
36- Ibid,pp- 8- 9
37- Loc- Cit