أقلام ثقافية

الطيب النقر: بوح الليل.. أحاديث اليأس والأمل

هذه الخواطر والتأملات "اعتقد" أنها صدرت من عزيز رافقته، وزاملته، وشاركته، في مدرسة عريقة اتخذت نفسها محوراً لتاريخ تلك المدينة التي ينحدر منها كلانا، مؤسسة تعليمية ما زلنا نهيم بها هياماً شديداً، ونعجب بها اعجاباً لا ينقضي، لأنها جعلت الأدب العربي ميسراً، سائغاً، ملائماً لعقولنا ونحن في تلك السن، و تأملات حسن عثمان طه الأدغم، التي يتاح فهمها، ويتاح تذوقها، ويتاح أيضاً تصورها، والاحاطة بمضامينها على اختلافها وتباعد مراميها، لا تكلفنا جهداً، ولا كداً في سبر أغوارها، هي لا تحتاج منا أن ننفق أكثر ساعات الليل، ومعظم ساعات النهار، حتى نجني ثمارها، ونستأثر بأنعامها، لأنها واضحة جلية، لا لبس فيها ولا غموض، ولأنها سهلة يسيرة لا صنعة فيها ولا تكلف، فصاحبها الذي لم يقلد فيها قديماً ولا جديدا، كما لم يذعن في قالبها لبريق اللغة، ويتكلف الاغراب فيها، كما يفعل كاتب هذه السطور، حسن عثمان الشهيرب"شلو" بين لداته وأقرانه، من يقرأ له، سيجد في أدبه هذه الخصلة، خصلة الصدق التي تبرهن أن من سطر هذه الأحرف، لم يكن ينشد من وراء رصد مشاعره تلك، أن ينصرف بها عن واقع حياته المزري، أو يتخذها أداة للتسلية والترويح، كلا، كان حسن الأدغم، ينذرها ويخيرها، بين أن تحسن العناية بوصف ما تجيش به نفسه من غير اغراق أو تهويل، وبين أن تنقطع صلته بها، لأجل ذلك ظل يستحثها لأن تلم به، وتعود إليه، حتى تفهم دقائق نفسه، وتدرك تفاصيل حياته التي لا يعجب بها، ولا يرضى عنها، لا في سفره، ولا في مقامه،

إذن الأدغم، أخرج لنا أدباً دفعه إلى كتابته الحس، والعاطفة، والشوق الجارف لديار يريد أن يهرع إليها، ويستقر في حضنها، واللوعة التي باتت ثابتة في ذوق صاحبها ومؤثلة في عقله، وفي مشاعره، لعل أعظم تبعة، وأثقل مسئولية، أن نطالب من أنفق عمره كله، أو معظمه متغرباً، بعيداً عن عائلته وأولاده، أن يتجرد عن حزنه وشوقه الذي لا يستطيع أن يحجم عنه، أو يرفع نفسه عن   سطوته،فطبيعي إذن أن يشعل الشجى قلبه، وأن تلهب الغصة احساسه.

دعونا أيها السادة نقف وقفة قليلة أو طويلة، عند "بوح الليل"، الليل وسحر الليل، وما أدراك ما ضنك الليل، فالليل الذي تثور فيه الرغائب، وتفور الشهوات، هو نفسه، تلك المساحة الحالكة الشاسعة، التي لا سبيل إلى قطعها، والهوة السحيقة التي سبيل إلى اجتيازها، الليل عابد يتهجد، وشيطان يغري و يوسوس، الليل شهوة تضطرم، وذكرى تتجدد، لتجعل نفسك تتقطع منها حسرات،  وفي الحق نحن معشر البؤساء، نزعم أن الليل لم يوف بنذر قد نذره لنا من قبل، وهو ألا يدركنا حزمه وعزمه، فيضطرنا إلى هذا البكاء الذي يمتد ويطول، البكاء الذي لا تأنف مهجنا من الاذعان لأمره، هو بلا شك أو ريب ثاوياً في تلك الرقعة الشاحبة الحزينة، التي سطرتها حنايا الأديب المرهف حسن عثمان طه، يقول حسن الأدغم فيها، في رقعته تلك التي نصب فيها الأسى راية خفاقة:

"بوح- الليل"

حين يهبط الليل، تسكن المدينة وتخفت الأصوات، لكن هناك صوتًا آخر يتردد في أعماق القلب، همسات لا يسمعها أحد، وأحلام تهمس للنجوم بما عجز النهار عن احتوائه.

الليل ظلام يمتد في الأفق، لكنه رفيقٌ لمن أثقلتهم الحياة، ملاذٌ لمَن تاهت خطاهم بين تقاطع الأمل واليأس.

إنه المساحة الوحيدة التي لا تخون المشاعر، حيث تنكشف الأوجاع في الصمت، وتبوح الأرواح بما لم تستطع قوله بين ضجيج النهار.

- أيتها الحياة، أما آن لك أن تهدأي قليلًا؟

لقد مضت السنوات، وأخذت معها أكثر مِما منحت، تأرجحنا بين الخيبات والإنتظار، بين الحُلم الذي يتلاشى والواقع الذي لا يكترث لأوجاعنا.

لم نعد كما كُنا، فقد سرقتِ مِنا بعضًا من بريقنا، وأرهقتِ أرواحنا حتى باتت مُتعبة لا تقوى على الركض خلف الأمل.

- إبتساماتنا خفتت، والفرح صار بعيدًا، كأنه سرابٌ نحاول الإمساك به فلا نجده‍.

صار الحُزن يسكن أعماقنا بلا استئذان، ونظراتنا تحكي قصصًا لا تُقال، وأصواتنا تحمل رجفةً لا يفهمها إلا مَن إقترب بما يكفي ليقرأ ما وراء الكلمات.

- نتظاهر بالقوة، نردد كلماتٍ تحفظ كبرياءنا أمام الآخرين : "أنا بخير"، بينما الحقيقة عكس ذلك تمامًا.

- نخفي وجعًا تحت ستار الصمت، ونغلفه بعزة نفس تأبى الإنكسار، لكن مَن يفهم؟

- تبًا لِعزة النفس حين تصبح حاجزًا يمنعنا عن البوح، وسحقًا لواقعٍ يخلو من الاحتواء، يجعلنا نكتم الألم حتى حين يكون البوح هو المخرج الوحيد.

- بعض الأوجاع لا تُكتب، لكنها تظهر في لمعة العين المنطفئة، في تلك الرجفة التي تعبر الصوت حين يحاول صاحبه أن يبدو قويًا، لكنها تبقى، عالقة بين القلب والذاكرة، تثقل الأيام وتجعلها أكثر قسوة.

- ورغم كل شيء، يبقى الأمل حاضرًا، هشًا لكنه موجود، ضعيفًا لكنه لا ينطفئ تمامًا.

- وربما يأتي يومٌ يحتضن فيه الواقع أحلامنا بدل أن يسحقها، وربما نجد ذلك الدفء الذي يجعل الحياة أقل قسوة، وأكثر رحمة مِمَا عهدناها.

#ختام- البوح..

وفي نهاية بوح الليل، يبقى القلب رغم كل شيء متمسكًا بشيء من الأمل، حتى لو كان هشًا، حتى لو كان بعيدًا.

فالأيام قد تأخذ مِنا الكثير، لكنها لا تستطيع أن تطفئ ذلك الضوء الصغير الذي يسكن أعماقنا، ذلك الإيمان بأن الغد قد يحمل لنا شيئًا مختلفًا، أكثر دفئًا، أقل قسوة.

لعلّ الليل كان شاهدًا على أوجاعنا، لكنه أيضًا يهمس لنا بأن الفجر قريب، وبأن ما يبدو الآن ظلامًا دامسًا، قد يكون مجرد صفحة أخيرة في فصل سينتهي قريبًا.

فليكن الليل مرفأً للبوح، لا مستقرًا للألم، ولتبقَ قلوبنا رغم كل شيء، متمسكة بذلك الخيط الرفيع الذي

يقودها نحو ضوء جديد".انتهى

حسن عثمان الأدغم الذي تزدحم على نفسه الهموم، عن وتتعبه هذه العاطفة التي يصغي لها، ولا يعرض عنها، ويمجه الصدى الذي يتردد في ردهات نفسه، يتحدث عن الحزن الذي أمعن في تحقيقه وفي تصويره، وعن الاخفاق الذي يحدثنا عنه في ألفاظ ضخام، حتى تصل صلصلة هذه الأصوات إلى سمعك فتتعاطف معه،  وتشعر حياله بالعطف والشفقة، الاخفاق الذي يغري بالاحباط، ويدفع إلى القنوط، ظل ملازماً لحسن ملازمة الفصيل لأمه، ولعل هذا الفشل الذي روض حسن جموحه بالصبر، وسعى أن يلطف حميا شبابة الدائم بالاذعان، كان بالفعل طويل، باق، شاق، وقد تحمله حسن في كثير من المشقة، وكثيراً من العنت، فلم يكن بدعاً أن يلجأ من باب التخفيف من حدته، إلى الكتابة التي تصيب صاحبها بالرعدة والاضطراب، إذا خلى يومه من ثبت حافل من الرسائل والمتون التي تعبر عن دخيلة نفسه.

والأديب حسن الأدغم يحدثنا عن تاريخ نفسه الملتاعة، التي تبددت أيامها، وهي حبيسة في دهاليز الألم والخوف والرجاء، فالشقاء في تفصيله وجملته

يتمثل عنده في كظم الغيظ، وحبس الدموع، والتشبث بالأمل.

وبوح الليل عند الأدغم، طابعه الشذوذ والتناقض، لأنه مترعاً بتيارات النفس الخفية، التي لا يؤثر القلب التوغل بين طياتها ولججها الكثيفة، لأنها تستغرق جهده وتؤذيه، وتجعل الكمد يتحرك ويتساير بين جنباته، فلا عجب إذا هاجت هذه التيارات في كل حركة، وأزرت بكل خفقة، وأودت بالحس والشعور، إن النزعة التي تصاحب حسن الأدغم، وتصاحب غيره من الناس، في هدأة كل ليل، هي الجوى الذي يشيع في حنايا الضلوع، الجوى الذي يرغم الوجدان أن يجتر أحزانه، ويتوه في هذه النواحي التي كان من المفترض أن يهجرها عن عمد، ويتركها عن اعتقاد، فالأحرى والأجدر، أن يسعى لكتمها وقهرها بككل ما أوتي من سبل، حتى يعيش هانئاً آمناً من ضراوتها وويلاتها.

يخبرنا الأدغم، الذي أخذ يجود بالبقية الباقية من أنفاسه، في الهزيع الأخير من الليل، بأن الأمل ما زال معقوداً بأن تنقشغ ظلمة حياته التي لا شكل لها ولا قوام، وتلوح أخياف الفجر الصادق الذي يسيره نحوه بقدم ثابته، وصدر مفتوح، ورأس مرفوع، لينشله من وهدة اليأس، ويتحفه بالشعور الذي لا يشتري بمال، الشعور الذي يجعل ذاته التي تراخى فيها وأهملها، من أهل الكفاية والترف، شعور يبهره بجماله البارع، وحسنه الوضاء، ويدفعه لأن يجمع شتات أمره، ويستفيض في هذه الحياة التي كان أمله فيها يمضي دون غاية.

***

د. الطيب النقر

الأحد 15/6/2025

في المثقف اليوم