أقلام ثقافية
لمى ابوالنجا: النمنم

النمنم… مخلوق أسطوري من الميثولوجيا السعودية، تختلف صفاته ودوره حسب كل عائلة. لكن مهمته الأساسية التي يجتمع عليها الجميع هي “إرهاب الأطفال”.
طبعاً هذا يعكس حجم الاضطرابات النفسية التي عانى منها جيل الثمانينات وما قبل، جراء التعنيف التربوي وأساليب السيطرة.
وبعد استفتاء بسيط على صفحتي، اكتشفت أن أغلب النمانم كان يُرَوّج لهم بجرعات عنصرية: معظمهم إناث، يخرجون فقط في الليل، يلبسون العباءة على الرأس أو الجلابية والعمامة الكبيرة التي تغطي قرونهم إذا كانوا النمانم ذكوراً.
نمنمي الخاص
أما "نمنمي" الذي اخترعته جدتي رحمها الله هو الأشد ضراوة والأقوى تأثيراً على الإطلاق والسبب أنه خلا من العناصر السابق ذكرها، فليس لدى نمنمي أي صفات شكلية عنصرية بحيث يمكن حصره على فئة معينة أحذرها وكذلك صفاته الواقعية أكثر من الخيالية مما يجعله أكثر فتكاً بالمخيله..
أعتقد أن جدتي لم تكن تتمتع بمخيلة جامحة لتخترع كائنات أو قصص أسطورية فقد كانت كل قصصها منطقية مما يكسبها مزيداً من التأثير الذي مازلت ولأكثر من ٢٤ عاماً أذكره..
كان إنتاج جدتي لذلك المخلوق أنه عبارة عن شخص عادي ببشرة عادية بيضاء أو سمراء لاملامح محددة شكلياً له ولكن مايجعل هذا الشخص نمنم هو أنه وبعد الساعة الثامنة مساءً يخرج له ذيل ديناصور وأظافر غوريلا مع الإبقاء على هيئته البشرية فيما عدا ذلك..
كان يتربص في الباحة المقابلة للسوق حيث تسكن جدتي وينتظرني وبنات خالي عند محلات أبو ريالين..
قد يتحول أي شخص في محيطي القريب إلى نمنم بعد الساعة الثامنة مساءً بغض النظر عن أخلاقه أو علاقتي به
فقد يكون النمنم بائع الأقمشة في المحل الملاصق لبيت جدتي أو بائع الحلوى أو حتى البائع في محلات أبو ريالين بنفسه !!
رعب الثامنة مساءً
كنت أنام يوميا قبل الساعة الثامنة مساءً حتى أتخلص من النمنم وقصصه "من أكل اليوم من أطفال الجيران في الأحياء البعيدة التي لا أعلم عنها شيئاً، ولا من أفلت منه."
مواجهة النمنم
اذكر في أحد المرات أصرت إبنة خالي المدمنة على محلات أبو ريالين على النزول لشراء "الحمرة السحرية الخضراء وبعض الأساور والتيجان الذهبية"
كنت أصرخ من على السلالم بشكل هستيري محاولة منعها من الذهاب لأن هذا الوقت يبدأ حظر التجول وأن سبب نزولها ليس ضرورياً لكنها لم تستمع إلي وذهبت ثم عادت بعد نصف ساعة بسلامة!
سألت جدتي كيف لم يأكلها النمنم!؟
فأجابت وبسرعة بديهه: لأن الخادمة كانت معها ربي ستر عليها ماشافها النمنم
فقلت بلهفة: اذا استطيع النزول ومعي أي شخص كبير؟
أجابت بثقة: لا انا فقط أحميكِ من النمنم..
لكنني كبرت.
وانكسر الوهم أخيراً.
وتلاه انكسارات أخرى..
ومع انكساره لم يختفي النمنم من باحة السوق فقط بل تسلل إلى داخلي. صار يسكن في تجاويف روحي، يبتلع صفائي، ينهش من طهري النفسي، يسرق مني الإيمان العميق بالحب المطلق والثقة العمياء والسذاجة البريئة.
النمنم الآن لم يعد يطاردني في الأزقة بعد الثامنة مساءً، بل صار يهمس داخلي كلما هممت أن أصدق أحدهم، كلما هممت أن أفتح قلبي. صار يقف حاجزاً بيني وبين الآخرين، يذكرني أن الخوف أوفى من الطمأنينة، وأن الحذر أوثق من الثقة.
كان أول وهم أحزن لانكساره. أول مرة شعرت أن العالم لا يرحم، وأن الأحلام التي نحيا بها لا تدوم.
ومع رحيل جدتي، رحل النمنم، لكنه ترك لي هدية مسمومة: وعيٌ مبكر قاسٍ، وجدارًا سميكًا بيني وبين براءة الطفولة.
أدركت أن بعض الأوهام أجمل من أن تُكسر، وأن الحقيقة لا تمنحنا دائماً الحرية، بل أحياناً تحمّلنا سجوناً أشد قسوة من الخيال.
أفلتت جدتي قبضتها من يدي، لكنها أبقتها في قلبي للأبد
أحبكِ أينما كنتِ
أينما كنتِ
***
لمى ابوالنجا/ أديبة وكاتبة من السعودية