أقلام حرة

لطيف القصاب: أشعار السنونو...

سألَ صحفي ياباني بارز أحد المضاربين قائلا: يا فلان حين نستمع لك وأنت تتحدث في وسائل الإعلام عن الاقتصاد، وحركة المال والأعمال، وبمنطق النزيه والعفيف المؤتمن! نرى فيك شخصًا مغايرًا لهذا الذي نعرفه في البورصة، وكلّ همه الحصول على أكثر ما يمكن اقتناصه من المال وبكلّ الوسائل حتى غير المشروعة منها!

 فرد عليه المضارب الياباني بما مضمونه: أنا في بورصة (طوكيو) أمثّل نفسي فقط لكنني في التلفزيون العام مثلا أمثّل أمتي العظيمة...

هذا مثال واضح على قضية الفصل بين ما هو شخصي ذاتي يدور في فلك المصلحة الخاصة، وما هو عام يولد من رحم الإحساس بالمصلحة العامّة...

 على المستوى الشخصي سنحت لي ذات فرصة مناقشة أطروحة دكتوراه في اللغة العربية، وكان الطالب المُناقَش أحد أقدم أصدقائي في مدينتي الحالية كربلاء، وحين رأيت أنّ الباحث وقع في محاذير أكاديمية لم أتردد قط في (مفاتشته) بها، وعندما لمحت في وجهه الحبيب الاستغراب والامتعاض قلتُ له على الفور، يا فلان تعلم، ويعلم بعض الحاضرين منزلتك في قلبي، ولكن هذا أمر، وأن أكون عضوا في لجنة علمية أنت طرف فيها هو أمر مختلف يا عزيزي.

لقد بدا هذا القول منّي ثقيلا عليه في بدايته، لكنّه قدّر موقفي في ما بعد، وأثنى على موقفي ذاك بعبارات ملؤها المحبة والتقدير زادت من تمسكي به أخًا وصديقًا وباحثًا ....

أعلم أن ما سيلي من سطور سيثير غضب كثير من صديقاتي وأصدقائي ممن أكن لهم عاطفة إنسانية خالصة ، مع هذا سأقول من دون تردد لو أن الآف رسائل الماجستير وأطاريح الدكتوراه كُتِبت في شعر النثر لما تزلزل إيماني قيد شعرة في أنها نوع أدبي -على جماله وجلاله- لكنّه أبعد ما يكون عن ما نعرفه من الشعر (العربي) العظيم لغةً واصطلاحًا، وأتصور أن كلّ من قرأ معلقات (الجاهليين)، وأشعار الأندلس، ودواوين أبي نؤاس، وبشّار، والمتنبي، والشريف وأبي فراس، والمعري، وعشرات آخرين مشهورين ومغمورين -بصرف النظر عن ترتيبهم التاريخي والفني- وكذا أعمال العشرات من (نظائر) هذه الدرر النفيسة ممن جاء بعدهم سيشاركني فكرة أن الشعر العربي عماده العمود سواء الكلاسيكي منه أو الحديث، أمّا سائر الأشكال المحدثة فهي من حيث التجنيس الأدبي تنتمي إلى دوائر إبداعية أخرى...

ما أثار سخطي في هذه المسألة، وحملني إلى تدبيج مقال (جديد) عن هذا الموضوع أن بعض المعارضين الأشداء -سابقا- لمحلّ قصيدة النثر من إعراب الشعر صاروا – ويا للغرابة- من دعاة قصيدة النثر، وحماتها في تنصّل عجيب عن " كامل" أرشيفهم النقدي الذي لم يزل غضا طريا !

ويا ليت أن القضية هنا تتعلق بتغيير القناعات، فهذه حالة صحيّة تماما لا يجادل فيها أي شخص زاول مهمة التفكير، ومهمة إعادة التفكير لكن الأمر للأسف أبعد ما يكون عن تلك المقاربة الفلسفية الرائعة .

إنّها – ببساطة- المصالح الخاصة هي التي جعلت من هؤلاء المتلونين يستديرون فجأة بهذه الزاوية الحادّة ...

ما يزيد من كآباتي وأنا أقرأ في بعض نصوص الأصدقاء من ذوي الميول " النثرشعرية" هو إزراؤهم عمليًا بأعظم ما في "ديوان العرب" ألا وهي اللغة الجزلة، وسمة الغنائية الرخيمة، وسائر ما يدخل في أبواب البديع والبيان والمعاني، هذا، فضلا عن خلو "منجزهم" كلًّا أو بعضًا من عواطف الإنسان الخالدة التي هي بطبيعتها مشتركٌ شعري جامع لكلّ الثقافات البشرية، وليت هؤلاء وهم سادرون في هدم المزايا العظيمة لتراثنا الشعري تاريخا وحاضرا جاؤوا لنا بمعادل موضوعي لما هم بصدد نسفه لوقدروا ولن يقدروا...

ختامًا (أُوَكِّد) ثانيةً ما نوهتُ به آنفًا فأقول: إن كثيرين سيغتاظون من كلماتي هذه لكنْ لا ضير، ولا غضاضة؛ فالدفاع عن الحق أو الحقيقة حتى لو كانت عبارة عن وجهة نظر شخصية يستحق كل أنواع التضحيات...

أيّتها السيّدات أيّها السادة: إنّ الغنائية والموسيقى أعظم ما في الشعر العربي بل العالمي بحدود ما اطلعت عليه من آداب الأمم القريبة منّا والبعيدة عنّا كما أنّ الشعر لاسيما نسخته العربية الفذّة مشتقٌ من الشعور، وأيُّ نصٍ يفتقر لهذا الجذر لا شعر فيه ولو كان كاتبه طرفة بن العبد، أو عنترة، أو المتنبي نفسه، أو طاغور، أو جلال الدين الرومي...الخ!

وكلمة أخرى هب أنّك مقتنع بقصيدة النثر، وأردت أن تقارن بين قصيدة سين، وقصيدة صاد فكيف تصل لهذه الغاية وليس في قصيدة الشعر أي مقاييس تحدد مناط الجودة والرداءة؟

***

د. لطيف القصاب

.......................

* أشعار السنونو تعبير مقتبس من مشهد لفلم كوميدي من بطولة نجم السينما العربية الفنان الكبير عادل إمام

في المثقف اليوم