أقلام حرة
عباس القسام: النفس والماضي

في مناقشة لي وزملائي مع الدكتور محمد راضي -أستاذ الحقوق والديمقراطية في جامعة بغداد- لبحث سوسيوثقافي يتناول عقبات الحكم الديمقراطي عند الفرد العربي، تناولت في مقدمة البحث السبب الأول لاحتجاب الرؤية السليمة في الحكم الديمقراطي لدى الفرد العربي -على وجه الخصوص- وهو الخوف بكل أشكاله سواءً كان حقيقيّا أو تخيّليّا أو مستقبليًّا أو حاضرًا.
و على أيّة حال قد خصصت الخوف من المتخيلات -التي تأتت نتيجة اكتظاظ الذات بأدلجة العقائد والأعراف والدين- سببا في محاربة الديمقراطية.
لكنّي حينما بتّ أعدّ أوجه المسببات (حقيقية، تخيلية، مستقبلية ....) قال لي الدكتور محمد بصورة تساؤلية ممزوجة بالتهكّم: وماذا عن الماضي؟ ألا نخاف منه؟
فأجبته جوابًا عابرًا ممزوجًا بشكل من أشكال الهروب: نعم، قد نخاف منه لكنّ هذا الخوف لفترة محدودة!
و أكملنا النقاش أنا والزملاء وخرجنا من القاعة، وتحاورنا قليلًا عن البحث ثم مضى كلّ لمشاغله.
و بقي هذا السؤال منذ ذلك الحين معلّقًا في ذهني ... ظللت أسائل نفسي كلّ حين: لماذا لم أذكر الخوف من الماضي؟، هل لأنّي أخاف منه؟، وكيف فكّر الأستاذ بهذا السؤال؟ كيف نقلني بصورة خاطفة من توجّه سياسيّ - ثقافي إلى توجّه نفسي فلسفي ؟ ما تلك البداهة والحذاقة التي جعلتني سارحًا في سؤاله حتّى تخبطت عليّ الأفكار واختلطت الأوراق!
أين الفلسفة وعلم النفس اللذان درستهما؟ ما إن أسأل سؤالا عابرًا صُيِّرتُ أسيرًا بين طيّات الزمان، واحتجت أيّامًا لأستوعب سؤالا يُجاب بإجابات وافرة!
بدأت أدرك أن المشكلة ليست في السؤال نفسه، فالإجابات موجودة، فكما أجبته جوابًا واهنًا، يمكن أن أجيبه جوابًا سامقًا.
لكن هذا لا يعني أنّ السؤال اكتفى بطرح نفسه!
حتّى تيقنت أنني عالق في الماضي فعلًا ...
و لم أذكر الخوف من الماضي لأنني خائف منه. وكيف يذمّ الخائف مخيفه!
بلى، نمضي مع الآخرين لكن أي مضيّ هذا .. نمضي بيولوجيا، أي ليس بإرادتنا وذلك لا يعني أنّ النفس تمضي مع الجسد .. فالنفس لا تعترف بالزمن، قد تختار تاريخًا معيّنًا تتوقف عنده، ويكمل الجسد دونها ... تتغير أشكال الزمان وتغير اشكالنا لكن هل تغير أنفسنا!
هل تخلّص النفس من أحداث وشخوص الماضي، هل تفكّ أسر النفس الضامرة ..
في الواقع لا يوجد نسيان، إنما تناسٍ ينسينا لفترة ويوهمنا بأنّ النفس ما عادت حبيسة الماضي.
ما يقابل التراكمات العاطفية والنفسية هي الأحداث المستقبلية، وقد تعمل على إبعادنا عن الماضي، لكنّها تحمل تلميحات تتمثل بحبال سميكة لا تنفكّ عن أيّ حدث مضى.
حتّى التفاصيل الصغيرة، يرسمها لنا الحاضر بأشكال مشابهة، تعود بنا للبّ الحدث، وبهذا لا ننفكّ من الماضي إلى أن نموت.
و نظنّ أن الزمان بمضيه يفكّ أسر النفس من الماضي فيأتي ذلك العقل المتهافت ليعيدنا لنقطة البداية.
وعليه أذكر قول المتنبي:
وحالاتُ الزّمان عليك شتًّى
وحالُكَ واحدٌ فِي كلِّ حالِ
***
عباس القسّام