نصوص أدبية

مامند محمد قادر: الحافلة رقم 18

في كل صباح، تصل نسرين الى موقف الحافلات قبل الجميع، لا لأنها على عجل، بل لأنها اعتادت أن تسبق الزمن بخطوة، وكأنها تبحث عن لحظة صافية قبل زحام اليوم.

تركب الحافلة رقم 18، وتتجه مباشرة الى مقعدها الثابت، قرب النافذة. من هناك تراقب الحياة وهي تمضي خارج الزجاج، مشاهد صامتة تتكرر دون ان تصيبها بالملل. بل كانت ترتاح لذلك التكرار.

خمسة أعوام مرت على غياب زوجها، دون موت مؤكد، ولا خبر. حرب أخذته ولم تعده.

في البداية، كانت تتشبث بالأمل، ثم صارت تتشبث بالصمت، ومن ثم اعتادت على انتظار لا يحمل رجعة.

ذات صباح بارد، حين كانت تتابع بعينها ما وراء زجاج النافذة، صعد رجل في خريف العمر الى الحافلة. مظهره بسيط، كان يحمل ملامح رجل أنهكته الحياة دون أن تهزمه.

جلس امامها، لم ينظر اليها، بل الى الخارج.

في البداية لم تنتبه اليه الا كغريب جديد، لكنها لاحظت وبدافع الفضول انه لا ينظر الى الركاب، ولا مهتماَ بما يجري داخل الحافلة، بل ينظر بصمت الى خارج الحافلة.

مر اسبوع، ثم آخر، والرجل يظهر دائماَ في التوقيت ذاته .

لم يتكلما، ولكن لم يعد بالنسبة اليها غريباَ كما كان. كان هناك شيء بينهما، شيء لا يُرى ولا يفسر.

و ذات يوم، حين توقفت الحافلة فجأة، تمايل جسداهما في اتجاه واحد، وتلاقى نظرهما في ومضة خاطفة. نظرة واحدة فقط، لكنها كانت مثل نسمة ناعمة مرت على صفحة ماء راكد.

كانا يتحدثان بين حين وآخر وفي كل يوم بلغة تفهما القلوب، دون كلمات.

حل الشتاء، وتحولت الأحاديث من العيون الى صمت مشترك له مذاق غريب، صمت يقال فيه ما لا يقال.

صارت الحافلة بالنسبة لها موعداَ يومياَ، مع احتمال جديد، مع شخص يعيد ترتيب أنفاسها.

في أحد الصباحات، صعدت لتجده جالساَ يسبقها. حين جلست التفت نحوها وقال لاول مرة بصوت خفيض: - " الحافلة بدونك تصبح باردة ".

كانت جملة عادية، لكنها أربكت نبضها، وأحست بشيء يتحرك في صدرها، شيء يشبه الحياة.

في صباح آخر، أخرج من معطفه ورقة صغيرة، طويت بعناية، ومدها اليها بصمت.

فتحتها بتردد وقرأت: " أنا لا أعرفك، لكن قلبي يذكرك ".

ارتبكت، لم ترد. لكنها احتفظت بالورقة، كمن يخفي شيئاَ ممنوعاَ.

مضت الأيام، وبدأت الأبتسامة تزور عينيها في الصباح،  وأصبح للأيام نكهة أخرى.

صار يحمل غصن ياسمين أحياناَ ويضعه قرب مقعدها دون أن يتكلم. وصارت حين تنزل من الحافلة، تشعر بأن شيئاَ خفيفاَ يتبعها.. كالحنين، أو الود دون موعد.

 غاب عن الحافلة يوماَ. شعرت بأرتجافة باردة، كأن الغياب يعيد نفسه من جديد. جلست مكانها، لكن العالم بات باهتاَ، شيء ما قد فُقد.

في اليوم التالي، انتظرته، ولم يأت. وفي الثالث، صعد فجأة من باب الحافلة الخلفي، اقترب منها وهمس: " اردتُ أن أراك حين لا تتوقعينني، لأتأكد أنك تنتظرينني فعلاَ ".

كانت الكلمات مثل الدفء يفكك طبقات الجليد. ابتسمت. لم تتكلم.

مرت أيام، وذات صباح، كانت الحافلة تقترب من محطتها الأخيرة، كان هو واقفاَ عند الباب، يحمل غصن ياسمين، مده نحوها بهدوء، بلا وعود، ولكن بشيء من الأطمئنان.

شعرت أن قلبها يطرق صدرها. نهظت ببطء وسارت نحوه، وخرجت معه. لم يكن ذلك نزولاَ من الحافلة، بل صعوداَ الى شيء جديد، ربما الى بداية تأخرت. وادركت ان الحب لا يعود كما كان، بل يعود أجمل مما كان.

***

قصة قصيرة: د. مامند محمد قادر

شاعر وقاص عراقي كوردي

 

في نصوص اليوم