قضايا
هاني جرجس: حين تصير الرحمة بابًا للعودة

دور المساجد والكنائس في احتواء المفرج عنهم
تُمثل الوصمة الاجتماعية عبئًا نفسيًا ثقيلًا يُلازم المفرج عنهم بعد خروجهم من السجن، حيث لا تنتهي العقوبة بانتهاء مدة الحبس، بل تمتد إلى نظرات المجتمع وأحكامه القاسية. في خضم هذا الواقع، تبرز المساجد والكنائس كمساحات تحتضن الإنسان قبل تاريخه، وتمنحه فرصة للبدء من جديد.
تُوفّر دور العبادة بيئة روحية آمنة تساعد الفرد على التصالح مع ذاته، وعلى تجاوز مشاعر الذنب والعار الداخلي عبر التوبة والرجوع إلى الله أو إلى منظومة الإيمان. قال تعالى: "قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله، إن الله يغفر الذنوب جميعًا" [الزمر: 53]. وفي الإنجيل، يقول يسوع: "لم آتِ لأدعو أبرارًا، بل خطاة إلى التوبة" (لوقا 5: 32).
تُلعب الخطب الدينية والمواعظ دورًا توعويًا بالغ الأهمية، إذ تُذكّر الناس بقدسية التوبة وحق الإنسان في الفرصة الثانية، وتدعو إلى قبول التغيير والإصلاح. قال تعالى: "إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين" [البقرة: 222]. ويقول بولس الرسول: "إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة: الأشياء العتيقة قد مضت، هوذا الكل قد صار جديدًا" (2 كورنثوس 5: 17).
تُعزز المساجد والكنائس مفاهيم الكرامة والمساواة، وتُرسّخ أن لكل فرد حقًّا في بداية جديدة، بصرف النظر عن ماضيه. قال تعالى: "ولقد كرّمنا بني آدم" [الإسراء: 70]. وفي الكتاب المقدس: "لا يكن لكم في إيمان ربنا يسوع المسيح، رب المجد، محاباة" (يعقوب 2: 1).
تُصبح هذه الأماكن، في كثير من الأحيان، موئلًا اجتماعيًا بديلًا، حيث يجد المفرج عنهم دعمًا نفسيًا وشبكة علاقات جديدة تعينهم على تجاوز العزلة والإقصاء. قال تعالى: "وتعاونوا على البر والتقوى" [المائدة: 2]. وقال يسوع: "كنت غريبًا فآويتموني، مريضًا فزرتموني، سجينًا فجئتم إليّ" (متى 25: 36).
ولم تتوقف بعض دور العبادة عند الدور الوعظي فحسب، بل امتدت لتُقدّم مبادرات تأهيلية ومساعدات عملية تُسهم في إعادة بناء الحياة بعد السجن، سواء عبر التدريب المهني، أو التوجيه النفسي، أو تقديم الدعم المادي والمعنوي، ما يجعلها شريكًا فعليًا في عملية الإدماج.
حين تتبنى المساجد والكنائس خطابًا يواجه الصور النمطية، فإنها تُحدث أثرًا عميقًا في وعي الناس. فحين يرى المجتمع أن هذه المؤسسات تحتضن من سبق سجنه، يُعاد النظر في المواقف، ويُمنح الأفراد مساحة للعودة والاندماج دون خوف أو خجل.
إن التحول الذي يحصل في هوية المفرج عنه عند احتضانه دينيًا هو تحوّل حاسم؛ فهو لم يعد مجرد "سجين سابق"، بل بات "تائبًا" أو "عضوًا نافعًا في الجماعة"، ما يمنحه معنى جديدًا لهويته، ويُقلل من شعوره بأنه منبوذ أو مرفوض.
وتساعد هذه البيئة أيضًا في التخفيف من مشاعر الذنب والرفض الذاتي، حيث تُوجه الفرد إلى مسارات جديدة من الإصلاح والعمل الخيري، وتُحفّزه على تجاوز ماضيه من خلال أفعال إيجابية تُعيد إليه احترامه لذاته وثقة الآخرين به. قال تعالى: "إن الحسنات يُذهبن السيئات" [هود: 114].
في النهاية، تُثبت المساجد والكنائس أنها ليست فقط مؤسسات دينية، بل حواضن مجتمعية قادرة على لعب دور فاعل في تضميد جراح العار الداخلي وتفكيك الوصمة الاجتماعية. ومن خلال جمعها بين الإيمان والعمل، تفتح أبوابًا كانت موصدة، وتُعيد للأفراد حقهم في الانتماء. وكما قال المسيح: "من كان منكم بلا خطيئة فليرمها أولًا بحجر" (يوحنا 8: 7).
***
أ.د. هاني جرجس عياد