قضايا

حسن العاصي: ضباع الثقافة العرب

منذ أواسط القرن العشرين، المرحلة التي شهدت استقلال الدول العربية تم تحديد صورة المثقف العربي الذي رسمت ملامحه الأحداث والأفكار التحررية المناهضة للاستعمار التي كانت سائدة في تلك الفترة. حيث استلهم المثقف العربي مكانته من تجارب المثقف الغربي النقدي وما أفرزته هذه التجربة من معارف نقدية وأفكار وعلوم تنتصر للإنسان في مواجهة السلطة القمعية. حيث قام المثقف العربي بتقليد ما قام به المثقف الغربي من مواجهة العسف وتقييد الحريات التي مارسها الاستعمار بأنماط متعددة في طول البلاد العربية وعرضها. وتبلورت صورة المثقف العربي في خضم القضايا العربية الكبرى، بدءً من معركة التحرر من الاستعمار الغربي، مروراً بمعركة تحرير فلسطين، إلى مناهضة الامبريالية وبناء الأوطان. ثم انخرط هذا المثقف بمهام تشكيل الهوية والسيادة والوحدة الوطنية، ومهام الحريات العامة، فكان المثقف الملتزم والعضوي والثوري والمناضل هي تسميات عكست الطابع الثقافي لتلك الحقبة الزمنية.

نجد أن المثقف تحول حينها إلى حالة رمزية واكبت جميع الأحداث التي ألمت بمنطقتنا. على سبيل المثال، أثناء العدوان الثلاثي على مصر ساهم المثقفين العرب في تحويل المزاج العام للشارع العربي إلى حالة مناهضة للاستعمار، والوجه القبيح للغرب. في فترة الثورة الفلسطينية احتل المثقف العربي مكانته الريادية في العداء للصهيونية وربيبتها إسرائيل. وفي المرحلة التي أعقبت هزيمة حزيران عام 1967 كان للمثقف العربي مساهمته أيضاً ودوره في جعل هوى الشارع العربي قومياً وحدوياً مؤمناً بمستقبله.

إن المثقف العربي الذي آمن بثورات التحرر العربية، وانخرط بحماس في القضية الفلسطينية، وارتفع صوته لنصرة القومية العربية، وسحرته الثورات الاشتراكية، وحلم بالمدينة الأفلاطونية، وجد نفسه خارج الأطر التي شكلت صورته عبر سبعين عاماً، حيث انهارت الأيديولوجيات الكبيرة من الماركسية التي أبهرت المثقفين العرب وسواهم، إلى القومية التي التف حولها كل من آمن بفكرة الصحوة العربية ومناهضة الاستعمار، فانتهت إلى عصبية فكرية عنصرية الميول. عبوراً للناصرية التي أفسدتها النزاعات العسكرية، وتراجع الانشغال بالقضية المركزية للعرب -فلسطين- إلى أدنى مستوياته، وصولاً للفوضى، وتقسيم المقسوم، وتعميق الحالة القطرية البغيضة.

أظهرت الأحداث التي وقعت في العالم العربي خلال العقدين الماضيين، أن النخبة العربية -بمعظمها- إما أن تكون من المثقفين والمتعلمين الذين يجلسون على كافة الموائد، وهم النخبة المرتزقة التي تنحاز إلى من يحقق مصالحها، ويشتري سلعتها – المعارف ومهارات الإقناع- بأغلى ثمن، تراهم يهتفون مع الجماهير تارة، ويهللون للحاكم تارة أخرى، دون أن تعرف لهم وجهاً حقيقياً. أو أن تكون من نخبة حاشية السلطة، وهم عادة يكونون أصحاب الولاءات ويتبعون الأجهزة الأمنية، عملهم الوحيد تبييض وتلميع وجه الأنظمة.

إن النخبة المثقفة الحقيقية العربية لا نسمع صوتها، فهي مشتتة ومتفرقة، منشغلة بالشقاق النظري، ومتابعة حرب الإبادة الجماعية التي ينفذها جيش الاحتلال الصهيوني في غزة من أمام شاشات التلفزة، ومراقبة الطيران الحربي الإسرائيلي الذي يدك عواصم عربية وإسلامية من خلف النوافذ، والاستماع ـ على استيحاء ـ إلى تصريحات قادة الكيان الصهيوني السياسيين والعسكرين وهم يتبجحون بكل عنجهية أن لا مكان في الشرق الأوسط لا يستطيعون الوصول إليه.

في مشهد عربي ملتبس مربك لم يعد التقدمي صاحب رؤية تنويرية حداثية، ولم يعد اليساري صاحب موقف يدافع فيه عن المضطهدين، ولم يعد اليميني هو الرجعي الذي يسعى لإعاقة التقدم. لقد خسر المثقفون اليساريون العرب التقدميون مصداقيتهم في القرن الحادي والعشرين عبر مواقفهم التي بررت كافة المظالم.

في وسط النضال الذي تلتحم به ومعه شرائح واسعة من الجماهير العربية المضطهدة لاستعادة حقوقها المنهوبة من الأنظمة العربية الطاغية، لا نرى مثقفاً يسارياً تقدمياً واحداً في الشوارع العربية يعاضد ويؤازر المطالب الشعبية، كما كان يفعل المثقفين والفلاسفة الغربيين التقدميين التنويريين.

مع انحسار دور قوى اليسار العربي وانعدام فاعليتها، اهتزت صورة المثقف بصورة عامة، وتراجع حضور المثقف الثوري في المشهد العام، وتعرضت صورته للانكسار في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحالي، وفقد هذا المثقف بريقه وجاذبيته وقدرته على الفعل والتأثير، وذلك بسبب المستجدات السياسية دولياً والتحولات الكونية الكبرى التي هزت العالم، وأدت إلى انهيار دراماتيكي لدول المعسكر الاشتراكي، وانتصار الإمبريالية على الشيوعية، وصعود تراجيدي للولايات المتحدة على قمة العالم.

هذه الأحداث والمتغيرات التي أصابت العالم والمنطقة العربية كانت مفاجئة لمعظم اليساريين العرب، حيث سار التاريخ كما لا يشتهون ولا يتوقعون ولا ينتظرون. وحصل عكس ما كان يبشّر به اليسار العربي من سقوط حتمي للرأسمالية وهزيمة الامبريالية والرجعيات العربية. اليسار العربي الذي أصابته صدمة التحولات المتسارعة -حينها- شعر بالخيبة الشديدة، وأن أفكاره قد خذلته ولم تتمكن من تحقيق تطلعاته. وصار مثل مغني ضرير ينشد لجمهور من الصم بعد أن انفض الناس عنه.

جدران الرعب

حاولت الشعوب العربية ـ طيلة عقود ـ هدم جدران الرعب والاستبداد في بلدانها، والخروج من المعتقلات الجماعية وانتزاع حقوقها بحياة بسيطة وبكرامة شأن جميع شعوب الأرض، لكن الفرسان المثقفون اليساريون التقدميون أصحاب الأيديولوجيا الخالدة وقفوا بين الشعوب وبين مستقبلهم. هذه المواقف للمثقفين اليساريين العرب الذين يسعون للسلطة دون مشروع حقيقي للتطور، ليست تقدماً، بل تخلفاً بقبعة ليبرالية. والتيار الديني الإسلامي الذي فشل في مقاربته ولا يزال عاجز عن الخروج من حالته النظرية اللاهوتية، ولم يدرك بعد أن متطلبات البشر الوضعية كالحريات العامة والغذاء والتعليم والعمل والأمن، لا تقل أهمية عن حاجتهم التعبدية الإيمانية، وبالتالي ليس مقبولاً مطالبة الناس أن يحافظوا على إيمانهم والصمت على الفقر والقمع والخوف. ومن اللافت بصورة عجائبية أن هذا التيار من المثقفين الذي تكوّن داخل الحركة القومية العربية قد حوّل مفهوم القومية إلى قضية قطرية وفي خدمتها.

هذا الخلل في تيار اليسار العربي يعود في الأصل إلى أنه لم يتشكل نتيجة تطور مجتمعاتنا العربية في سياقها التاريخي، ولا ارتباطاً بالتحولات الاجتماعية، ولا بناء على تراكم فكري ونضالي، ولا خبرة نظرية وثورية وسط الجماهير في ميادين العمل والشوارع. بل ظهر هذا التيار نتيجة صعود موجة الماركسية الثورية في ستينيات القرن العشرين، وانتشار تجارب الأحزاب الشيوعية العالمية وشيوع أسماء قادة حركات ثورية وصلت إلى كافة بقاع الأرض، في الصين وفيتنام وكوبا وكمبوديا وفي دول أمريكا اللاتينية. في هذه الأجواء الثورية الرومانسية التي تلاقحت مع غضب الشارع العربي على الأنظمة العربية نتيجة فشلها وكشف عجزها، ظهر التيار الماركسي العربي.

القوميون أيضاً ليسوا أفضل حالاً، فما أن غادروا الميدان حتى ارتدّوا إلى بدائية عصبوية وتحولوا إلى الأفكار العشائرية والقبلية والمذهبية، فأصبح خطابهم الذي كان يدعو للوحدة العربية ورص الصفوف، إلى خطاب يستحضر المظلومية الشيعية، فارتدوا الأسود وتقلدوا المناصب المهمة. أو لبسوا العمائم البيضاء واستبدلوا خطابهم الوطني القومي بأخر مذهبي. وأهملوا جميعاً شعارات الوحدة والحرية والاشتراكية التي كانت تعني كل الأمة بكافة طوائفها ومذاهبها وأديانها، واستبدلوه بفكر انقسامي تشتيتي يعمق الخلافات ويعزز الكراهية.

أما اليسار العربي فقد تم إصدار شهادة وفاته بعد معاناة طويلة مريرة مع الرجعية التي أثبتت أنها قادرة على التجدد والاستمرار والتكيف مع التحولات، مما دفع عدداً غير قليل من اليساريين للانتقال إلى ضفتها ولا زالوا يدعون أنهم ماركسيون. فهل بعد هذا التيه تيه؟

ضباع الثقافة

في العالم العربي الذي تتصاعد فيه أصوات الدعوة إلى الكراهية ورفض الآخر المختلف، ومحاصرته وتصفيته، وينقسم جماعات وكيانات ودولاً، وتتفسخ شعوبه قومياً وطائفياً ومذهبياً يتصارعون وينغمسون في نزاعات وحروب دامية تقضي على مقدراتهم وأوطانهم. في هذا الواقع البائس يُترك المواطن العربي وحده يواجه ظروفاً طاحنة، يتنازعه فيها قهر وقمع الأنظمة من جهة، وضنك الحياة لتوفير لقمة العيش من جانب آخر. ولا نرى مثقفاً تقدمياً واحداً يدافع عن حقوقه، ويتحدث باسمه ولا حتى يميني استغلالي بمنافع وأضرار محدودة. أصبح الإنسان العربي يعيش في وطنه مثلما يقيم النزيل في الفنادق، يعتبر وجوده مؤقتاً بعد أن بترت الأنظمة كل انتماء له للوطن.

إن بعض مثقفي المرحلة يشبه الضباع التي تتكاتف في مواجهة نمر اصطاد حيواناً برياً ليقتات به، وتسرق منه الطريدة بالغدر والخسة. لكن القانون هنا ينص على أن من لا يشارك في المعركة لا يحق له اقتسام الغنائم. يبدو أن معظم المثقفين العرب ينتظرون الحصول على مكاسب من معارك لم يخضها أحداً منهم.

هذه المجموعة من المثقفين أسوأ من الأنظمة العربية الحاكمة لأنها تتميز بالجشع وعدم الوفاء وبالغدر، وهي تحتال وتخادع حتى تظل على قيد التواصل والاستمرار تقوم بأكل الجيفة ولا تقوم بالاصطياد. وما تتقنه هو حديث المقاهي وجدال الصالونات المغلقة، وتوجيه الانتقادات دون بديل ورفض كل شيء، والتعامل مع الناس باستعلاء غير مبرر، فتحولوا من مناضلين إلى دعويين ثرثارين، يشبهون جرس الكنيسة يدعو الناس للإيمان لكنه لا يدخل قاعة الصلاة.

إن المعيار الذي يعتبر أن كل يساري هو مناضل فاضل مثقف معاصر، وأن كل يميني محافظ رجعي لم يعد صالحاً حالياً. في المشهد العربي سقط المثقفون اليساريون في ترف الأيديولوجيا الملتبس، فاعتبروا أن نضالهم ضد قوى اليمين هو أنبل وأسمى أشكال النضال، واحتل عندهم الصراع الطبقي العدمي -ولو كان تنظيرياً فقط- المكانة الرئيسية. بينما اليمين العربي هو الذي بادر وأطلق شرارة التحرر من الاستعمار، وقاد مرحلة ما بعد التحرر الوطني. حتى فلسطينياً فإن اليمين هو الذي أعلن بدء الكفاح المسلح لتحرير فلسطين، وقاد – ولا يزال- الثورة الفلسطينية المعاصرة ونضال الشعب الفلسطيني. ثم حين اشتد عود هذا اليمين وتصلب في غمار العمل الثوري، تسلل جزء من اليسار إلى تنظيم اليمين، وتمكن بعضهم الوصول إلى قمة الهرم القيادي. وبعد التحولات المهمة في مسار القضية الفلسطينية التي أدت إلى انحسار مفاعيلها ثم التوقيع على اتفاقيات أوسلو البغيضة، تم إنشاء السلطة الفلسطينية التي وفرت الوظائف للمناضلين. فجأة صار الحرام حلالاً عند اليسار الفلسطيني، وأصبح التحالف مع اليمين ضرورة وطنية، وسعى معظم اليسار نحو السلطة والحصول على الامتيازات بكل عزم، داس في دربه كافة المبادئ والقيم التي اختبئ خلفها طوال عقود.

المثقفون الهلاميون

المثقفون العرب التقدميون الذين عانوا من التهميش والاقصاء كثيراً من قبل الأنظمة العربية، وذاقوا حنظل الأمرين من قهر وقمع واعتقالات، هم أنفسهم يقيمون اليوم تحالفات سياسية مقدسة مع بعض تلك الأنظمة الطاغية، وصلت لدرجة التبعية المقيتة. وصار المثقفين العرب التقدميين يجرون تنسيقاً إعلامياً وسياسياً علنياً مع قوى رجعية وأنظمة طاغية، دون أن يتسبب ذلك بأي حرج للقوى "الثورية" التي تراجعت أولوياتها السياسية والاقتصادية والفكرية والاجتماعية، واختلطت شعارات اليسار مع مواقف اليمين، وتماهى خطابه أيضاً مع الخطاب الديني الطائفي لغوياً وتأويلاً وشعاراً، ومواقفاً متواطئة مع القوى والأنظمة المعادية للشعوب ومصالحها، ومعادية للحريات العامة والخاصة.

إن الصمت المريب المخجل من قبل معظم المثقفين اليساريين العرب على الفجور الذي أبدته أنظمة الموت العربية، وحيال التحولات في المنطقة العربية، وعدم اتخاذ موقف واضح وجلي لا لبس فيه من المستجدات والتحديات التي تواجهها الشعوب العربية التي كانت في مركز اهتمام اليسار، بدا أن اليسار العربي كمن أضل دربه وفقد هويته وأضاع رأسه، فظهر بصورة مسخية مشوهة. فبدلاً من أن يقوم بدعم ومساندة الجماهير العربية وتأييد مطالبها، وقيادة الحراك الشعبي لوضعه في مسار ديمقراطي يؤدي إلى إنهاء الأنظمة الشمولية ذات الحزب الواحد والزعيم الواحد والفكر الواحد، والانتقال إلى النظام التعددي الديمقراطي، كمقدمة لبناء الدولة الوطنية الحديثة، فقد آثر اليسار أن ينصاع للسلطة السياسية الرسمية، ويُحجم عن دوره ويتنصل من مسؤوليته مما جعله خارج السياق التاريخي والاجتماعي والأخلاقي.

في هذه البيئة المشوهة غير الصحية في المجتمعات العربية، كان المثقف العربي غائياً مغيباً نائماً مثل أصحاب أهل الكهف، ولو رفع رأسه قليلاً لرأى الخراب مجسداً في أكثر من مثال. ليس المثقف فقط، بل كافة التيارات القومية والليبرالية والعلمانية والديمقراطية والتقدمية العربية كانت غائبة في هذا المشهد القتالي. ضاعت الحدود واختلطت المفاهيم والمصالح والأهداف بين كافة القوى، وفقد المثقف العربي التقدمي هويته النظرية ولم يعد هناك فرقاً بينه وبين الليبرالي واليميني إلا في الشعارات. إن المثقف الذي يتحالف مع قوى رجعية ومع أنظمة استبدادية ليس مثقفاً حقيقياً. والمثقف الذي لا يكون مستقلاً ويرضى أن يكون ذيلاً لهذا وذاك ليس مثقفاً. والذي يقف في وجه الجماهير ومطالبها في تحصيل حقوقها التاريخية هو مثقف مزيف. والذي يدافع عن الطغاة وعن الديكتاتوريات هو مثقف منافق منحرف انتهازي. والذي يتماهى مع مجتمعه ويمتنع عن نقد الخرافة والأفكار الجاهلة لأسباب منفعية يكون مثقفاً مضللاً مخادعاً مداهناً. والذي لا يُحدث أي تأثير ولا يكون له فعل في رفع الوعي لدى الجماهير ونشر المعرفة وتحديث وتنوير المجتمع ليس مثقفاً صادقاً.

كش ملك

لقد تغيرت بنية المجتمعات العربية منذ ستينيات القرن العشرين، كان أبرزها الهجرة العشوائية للأرياف نحو المدن، فخسر الريف اليد الفلاحية وتدهورت الزراعة، وبذات الوقت لم تكسب الصناعة في المدينة، حيث إن القادمين غير مؤهلين للانخراط في سوق العمل المديني. ولم تبذل الأنظمة جهداً كافياً ولا رصدت ميزانيات ولا كان لديها برامج بالأساس لصهر القادمين سكانياً ودمجهم وتأهيلهم حرفياً. وكل ما حصل هو استيطان سكاني جعل من محيط المدن العربية الكبرى أحزمة بشرية ريفية من الفقر والحرمان والبؤس. تطورت المدينة وأبناءها حضارياً بصورة نسبية عبر زيادة الإنتاج وارتفاع مستوى التعليم وتطور قطاع المواصلات، وبقي الريف للأجداد وزيارات الأعياد، فيما ضواحي المدن قطنتها مجموعات سكانية ذات عصبيات مذهبية وطائفية وقبلية، تحتكم هذه الضواحي لعلاقات اقتصادية بسيطة، لذلك فإن علاقتهم مع اقتصاد المدينة لم يتخذ شكل اجتماعي وسياسي، بل مذهبي وإثني. وهذا ما يفسر تحول الصراع الطبقي في بعض المدن العربية إلى صراع بين الأديان والمذاهب.

في مواجهة هذه التحولات التي أحدثت إشكاليات فكرية واجتماعية شائكة ومعقدة، كان المثقفين العرب كمن يعطس في سوق الحدادين، لا يسمعهم أحد ليقول لهم يرحمكم الله. حيث جلسوا يراقبون ما يجري كأنهم ينتظرون خلاصاً غيبياً أوحلاً دون السعي له، وهذا منتهى العقل الاتكالي البليد.

في الحالة العربية تتحول الأفكار الدينية والانتماءات المذهبية والطائفية إلى نماذج مقنعة للشعوب العربية، أكثر كثيراً من الأفكار اليسارية ونماذجها الفاشلة. والبائس في الأمر هنا أن كثيراً من قادة حركة اليسار العربي من الأثرياء الذين لا يقبلون إلا ارتداء الثياب الغربية المستوردة، فيما الكوادر اليسارية المزهوة بالنظرية فإنهم ينتمون إلى الطبقات المتوسطة ويعرفون عدوهم الطبقي، لكنهم يفضلون النضال المكتبي عبر رقعة الشطرنج على نضال الشارع وسط الجماهير، وبهذا فهم يقدمون الخدمات الكريمة للتيارات المذهبية والطائفية لتتمدد وتفرض رؤيتها، لذلك يتوه الجميع ويبتعدون عن المعركة الاجتماعية السياسية، متأملين أن يُصاب الأثرياء بوباء يقضي عليهم. هذا يشبه تماماً قتل الملك فوق الرقعة بلعبة الشطرنج داخل غرفة مكيّفة.

المثقف كما عهدناه

المثقف العربي الحقيقي كما كنّا نعهده أصبح شيئاً من الماضي، تخطته الأحداث والتحولات التي تجري -وماتزال- في المنطقة العربية، خاصة بدءً من العقد الثاني للألفية الثالثة.

بعد أن أخفق المثقفون أتباع التيارات الليبرالية والقومية والدينية، وفشل اليمين واليسار والوسط جميعاً في إحداث أي اختراق بجدار الواقع العربي البغيض. أين سيقف المثقف العربي وماذا سيفعل؟ وماهي خططه لمواجهة كل هذا التطرف والتشدد والعنصرية والطائفية المذهبية، والانقسامات العرقية التي ظهرت جلية صريحة واضحة في عموم المنطقة؟ وكيف سينهي حروب الإبادة، ويوقف ثقافة الاجتثاث والاستئصال؟

ماذا ظل للمثقف العربي المسكين في مرحلة الانهيارات المتتالية التي مسحت ملامحه، وتعيد الآن رسها من جديد، في ظل صعود الدولة الأمنية التي لا تقيم اعتباراً لكافة قيم الحريات العامة وسلطة القانون التي ينتمي لها المثقف. ماذا ظل من صورة المثقف العربي بعد التطورات المرعبة التي تتوالى في أماكن متعددة من الوطن العربي، والتي أحدثت تغيراً جذرياً على كل ما نعرفه، وكل ما هو مألوف لدينا في المشرق والمغرب.

كثيرة هي الأسئلة التي تتواتر من رحم الواقع العربي المتخم بالأزمات، ظلت دون إجابات واضحة. ومع بداية العقد الثاني من الألفية الثالثة، تحولت إلى أسئلة مصيرية وجودية، تعبر عن حالة الانسداد والاستعصاء الفكري والسياسي والاجتماعي والاقتصادي، إذ وجدت معظم الشعوب العربية نفسها في حالة من التيه تعاني من ضنك الحياة ومن غياب الرعاية الصحية، وانخفاض معدلات التنمية، وارتفاع مستويات الفقر والبطالة، في حكم أنظمة استبدادية في معظمها تعتمد سياسة تكميم الأفواه. هنا أصبحت الأسئلة كبيرة عجز معها المثقفين العرب بصورتهم النمطية عن القيام بأية مقاربات موضوعية. وهذا يعود بظني إلى سببين، أولهما أن الأحداث التي وقعت في عدد ليس قليل من الدول العربية قد أسقطت الفكرة المألوفة عن المثقف العربي ودوره في الوعي الجمعي للشعوب، والثاني أن عدداً من المثقفين العرب قد وضعوا أنفسهم في مواجهة شعوب كانوا ذات يوم يتشدقون بالدفاع عنها وعن مصالحها وحقوقها، في حين جاء الوقت الذي ارتفعت فيه أصوات هذه الشعوب ضد الاستبداد العربي، اختار بعض المثقفين أن يقف إلى جانب الطغاة العرب، فيما انحاز بعضهم للفكر العدمي التكفيري.

هذا الانقلاب من بعض المثقفين مرتبط بما هو شائع وتقليدي عن مفهوم المثقف، هذا المفهوم الذي يغيب عنه أن هناك إلى جانب المثقف العضوي والنقدي والتنويري، هناك مثقف متواطئ مع الأنظمة السياسية القائمة لأسباب متعددة، منها تحقيق المآرب الخاصة، أو خشية بعض المثقفين من صحوة الإسلام السياسي في المنطقة جعلهم يرتدون إلى حضن الأنظمة.

السقوط الحر

إن نكوص معظم المثقفين العرب يُظهر عجزهم وفشلهم في دورهم المجتمعي ويبين قدراً كبيراً من الأنانية والانتهازية السياسية لديهم. إنه سقوط المثقف العربي في قعر السلطة التي تحدد له هامشاً لا يمكنه تجاوزه، حيث أصبح واحداً من الأدوات الخطيرة التي توظفها السلطة السياسية لتبرير استبداها وقمع شعوبها، وإلا كيف نفسر هذا الانحياز من قبل المثقف إلى سياسة الموت والقتل والحروب وإشاعة التفرقة والكراهية، عوضاً عن وقوفه إلى جانب النهضة والإصلاح والتحديث، ويساند الحياة والسلام ونشر المحبة والتسامح.

سقط المثقف العربي كذلك في شرك هويته -غير المتبلورة أصلاً- بمواجهة الآخر، وكأن الثقافة الغربية كلها شر مستطير، فنرى بعض المثقفين العربي يتبنون نظرية المؤامرة على الأمة لتبرير دفاعهم عن الأنظمة التي تقهر شعوبها. نعم ربما توجد مؤامرات غربية هدفها السيطرة وتمزيق وحدة شعوب المنطقة، لكن لا يمكن تبرير توظيف هذه الفكرة لتثبيت دعائم الأنظمة، ووضع الشعوب أمام خيارين لا ثالث لهما، فإما أن تقبلوا بهذه النظم العربية المستبدة، أو أن تكونوا عبيداً للغرب.

إنه سقوط للمثقف العربي في أحد جوانبه بمفارقات مرعبة، إنه جاهز دوماً لتوجيه رماح النقد لأي آخر لا يشاركه مفاهيمه، بينما لا يملك الشجاعة على النظر إلى فكره وسلوكه في أية مرآة. يستفيض بالحديث عن الديمقراطية أياماً دون انقطاع، ويدعم حججه بآلاف الأمثلة والتجارب التاريخية لشعوب متعددة، لكنه لا يجرؤ على إجراء اية مقاربة للاستبداد والقهر الذي يعيش فيه ويعاني من بؤسه يومياً. يحدثك عن الفقر والجوع ونسب البطالة في كل العالم، وهو لا يجد لقمة العيش في وطنه ويشقى للحصول عليها. يطالب بالحريات العامة ويمارس العنف والاستبداد. يؤمن بالحوار نظرياً، ويضيق صدره بالمخالفين. يريد من الآخرين أن يضحوا، ويموتوا في سبيل الفكرة أو الزعيم أو الوطن ليصبحوا أبطالاً، فيما هو يتلذذ بالرفاهية. يثقل رأسك بالحديث عن الوطنية والانتماء والصناعة الوطنية، وكل ما يرتديه هو ويأكله صناعة غربية. يخطب لساعات ضد الاستعمار الغربي وأطماعه وثقافته، ولا يثق إلا بالدواء الغربي.

سقط المثقف العربي -ليس الجميع- في هاوية الواقع الذي أنكره، سقط في قاع جموده العقائدي ودوغمائيته الضريرة، سقط في فخ اغترابه عن محيطه، مما أنتج إشكالية أخلاقية ترتبط بدوره ومهامه وموقعه.

سبب الأزمة

أزمتنا يسببها المثقفون الضباع العرب الذين يؤمنون أن دورهم هو تقبيل اقدام السلاطين، وتمجيد الحاكم. كارثتنا في الثنائيات المتضادة، مع هؤلاء الذين لا يرون خلاصاً إلا بنقل الفكر والحداثة الغربية، وأولئك الذين يظنون أن الكرب والضائقة التي تعيشها الأمة لا سبباً لها سوى الغرب وأطماعه ومؤامراته على المنطقة. هذه الثنائية وغيرها ما يضع الشعوب والمثقفين ومستقبل المنطقة في مأزق فكري أخلاقي حضاري، فإذا كان الغرب هو سبب جهلنا وتأخرنا، كيف يكون هو ذاته منقذنا؟ إنه تحدي مصيري يفرض إعادة تشكيل دور المثقف وتحديد وظيفته. إننا ببساطة نحتاج المثقف الحقيقي العضوي التنويري الذي يتمكن من إدارة الأزمات المستعرة في منطقتنا ويفككها بموضوعية وعقلانية، ويكون نبض وصوت الشارع العربي المأزوم وممثلاً له، المثقف الذي يقود الجماهير العربية المثقلة بالخيبات إلى حيث تتمكن من تحقيق بعض من طموحاتها، نحتاج المثقف الواثق غير المُربك لا المثقف الانفعالي الذي ينتج الأزمات والحرائق.

إن ما ينشده المواطن العربي المثقل بالقهر وضنك الحياة والذي لم يعد يؤمن باليسار ولا باليمين ولا بالوسط، وكل ما يحتاجه اليوم هو إطلاق الإنسان من معتقله الذي رسمت قضبانه أنظمة استبدادية، وتحرير عقله من قيود الجهل والخرافة، وتوفر المناخات الديمقراطية وتفعيل العقل وضمان حرية الفكر واستقلالية التفكير، وتشجيع الإنسان على التعلم واكتساب المعرفة وتنمية قدراته الخلاقة، وحثه على التجريب والتنقيب، والبحث، والابتكار، والاستنباط. والأهم من كل هذا توفير فرص التعليم والعمل وضمان حقه في العلاج وإبداء الرأي وتوفير لقمة العيش التي تضمن الحياة الكريمة.

ـ يقولون إن الضبع حيوان جبان. ذلك لكونه حيوانا "قماماً" أي يعتاش على أكل الجِيَّف وبقايا صيد وفرائس الحيوانات الأخرى، رغم أنه يمارس الصيد ويملك فكاً قوياً يستطيع أن يسحق به العظام. والضبع مولع ينبش القبور لكثرة شهوته لحم بنى آدم، ومتى رأى إنساناً نائماً حفر تحت رأسه وأخذ بحلقه فقتله وشرب دمه. وهو حيوان فاسق، لا يمر به حيوان من نوعه إلا علاه، وتضرب العرب به المثل في الفساد، فإنه إذا وقع فى الغنم عاث، ولم يكتف بما يكتفى به الذئب، فإذا اجتمع الذئب والضبع في الغنم سلمت لأن كل واحد منهما يمنع صاحبه.

***

الدكتور حسن العاصي

أكاديمي وباحث في الأنثروبولوجيا

في المثقف اليوم