قضايا

عصمت نصار: من غيبة آليات المعقول إلى الارتياب في قداسة المنقول

محنة غرابيل الفلاسفة (3)

قيل في الأثر أن قوة الأكاذيب ليست في براعة صُانعها، ولا في حبكة بنيتها واتساق مشاهدها ولا في دهاء المزيفين لوقائعها، ولا في قدرة سبكهم ثوابت الأحداث بتلفيقات الإفك والخيال، ولا في قوة ذيوعها وإن أصبحت شائعة، تلوكها الألسن وتعتادها الآذان، حتى لا تمجها الأذهان فتصبح بمرور الزمن حكايات موروثة وتدرج ضمن الحقائق المُصدقة. أجل كل ذلك لا يعظم من سلطان وأثر الأكاذيب في المجتمع بل إن الخطر الحقيقي يكمن في جهل الرأي العام وسذاجته في تصديق ما يسمعه من أخبار السوق أو الثقافة السائدة أو أحاديث المشاهير وتقاعس قادة الرأي المسؤولون عن تربية العقل الجمعي، وتوعيته عن مجابهة هاتيك الأضاليل وفضح مغزاها والشر الكامن في ثناياها.

وعندي أن غيبة التفكير الناقد عن مداركنا هي التي أعيت معارفنا وضللتها وحالت بين الرأي العام وقدرته على تحليل ما يدور من حوله من أكاذيب ممنهجة -ولاسيما في هذا العصر- أجل هي التي كانت وسوف تظل علة تشتت أذهاننا، وعجزِنا عن اتخاذ الرأي الصائب والحكم الصحيح فيما نتعرض له من قضايا وأحداث ومواقف، علمًا بأن تلك الآفة كانت السبب الرئيس في ظهور ثلاثة اتجاهات : أولها أصحاب الشك المطلق والجدل المتقن والسفسطة المنكرة للحقائق المطلقة، وثانيها : محترفو صناعة الكذب الشيطاني الذين جعلوا إضلال الأذهان وإعماء البصائر عن الحقائق حتى تكتب لهم السيادة وامتلاك أكبر قدر من اللذة والمنفعة، وثالثها: السلفيون المتواكلون الذين جاءت خطاباتهم إنشائية بمعزل عن المناهج العقلية والدفوع العلميّة في ردودهم ونقودهم ومناظراتهم ضد خصومهم.

وسوف نتحدث في عجالة عن الأكاذيب التي أنتجها الاتجاهان الأول والثاني، وسوف نسهب بعض الشيء في إيراد دفوع الاتجاه الثالث الذي يمثل الأباء والقديسين الذين حاولوا التصدي لأكاذيب المنتفعين، فارتكبوا من الشرور والآثام أخطاءً وجرائم بنيت دوافعها على الأكاذيب أيضًا.

***

وإذا ما تناولنا النقطة المركزيّة التي انطلقت منها أكاذيب الاتجاه الأول فسوف نجدها تتمثل في (الارتياب المطلق) أي الشك المطلق البيروني، وهو درب من دروب الشك الفلسفي أسسه بيرون الإيلي (نحو370:272 ق.م)، ومن تلاميذه تيمون  (حوالي 320 -230)، وإينسيديموس (قبل الميلاد)، أجريا   (قبل الميلاد)، سيكستوس إمبيريكوس ( القرن الثاني قبل الميلاد)، وينكر أصحاب هذا الاتجاه وجود حقائق مطلقة، ويكذبون ما يطلق عليه اليقين ودرجاته (علم اليقين، عين اليقين، حق اليقين)، ويرتابون كذلك في مدركات الحواس ونتائج التجريب ويتهكمون على الصوفية وخطاباتهم المفعمة بالحَدْس والإلهام والرؤى، فهم يعلقون كل الأحكام (صدق وكذب، خير وشر، غائب وحاضر) ويطلقون على ذلك المفهوم (الإيوخيه)، (أي تعليق الحكم)، وينعتون الأنبياء بأنهم مخادعون مهرة في الإفك والتدليس والسحر والتلفيق، ومحترفي صناعة الأوهام التي تُصيب العقول بالعجز، وتفتن العيون والبصائر، ولاسيما أحاديثهم عن العالم الغيبي، ورغم ذلك لا يبغضون السحرة، ولا المجترئين والهراطقة وينعتونهم بالأفاضل السعداء، لأنهم لا يسلمون بأي شيء، ولا يجهدون عقولهم بإدراك المتحولات، ما دامت النسبية والتغير هو الثابت الوحيد الذي يمكن الاحتكام إليه عبثًا، فلا جدوى من اعتناق أي دين أو التسليم بوجود أشياء، وإن اجتمع المغيبون على وجودها أو إنكارها، فالحكيم عندهم هو الذي يستمتع وحده بالهدوء والسكون والصدق مع ذاته، وكيف لا فهو لا يدافع عن رأي ولا يختصم مخالفيه، ولا يناظر أحداً، بل يتهكم على المتناظرين الباحثين عن لا شيء، والمنتصر منهم لا يظفر إلا بالوهم، ولا يستحق من المشاهدين إلا الظن في وجوده. وقد لعب الشكاك في العصر الوسيط الشاغل بالمعارف القطعية، واليقينيات الغيبية والبراهين الحدسية، الدور الأكبر في ذيوع الأكاذيب من جهة، وشكلت العائق المركزي لسلامة الاستنباط أو التحليل أو الاستقراء من جهة أخرى، وذلك نتيجة لهدمهم المقدمات الأولى أو الثابت الذي تحتكم إليه هذه النهوج، فعلى سبيل المثال إذا ما طرح أحد أمامهم قضية طالبًا الفصل فيها تجدهم يشككون في كونها قضية، وفي فهم السائل لها، وفي الحلول المقترحة، ومدى استيعابهم لما لم يفهموه منها، فيطلبون من السائل الانصراف أو تركهم لما يعتقدون أنهم كانوا فيه.

ويروى عن سيكستوس إمبيريكوس (نحو القرن الثاني الميلادي)، وهو أحد الشّكاك الكبار في مطلع القرن الثاني الميلادي، أنه حاور أحد المبشرين بالمسيحية فسأله عن علة اتهام أصحاب الشك المطلق بالهرطقة والكذب، فأجاب الفيلسوف الشاك : بأننا لسنا هراطقة ولا كذابين، فالشك عندنا لا يسقط أو يتوقف إلا عند بلوغنا الدليل أو البرهان أو الحجة، والواضح أمامنا أن كل ما تتحدّثون عنه مجرد كلام مرسل ليس له أي أداة من أدوات المعرفة التي نطمئن إليها، أو إثباتها.

أمّا تهمة الهرطقة فهي بعيدة كل البعد عنا، لأننا لا نؤمن بشيء على الإطلاق؛ فالإيمان عندكم هو التسليم والإذعان بحقيقة ترونها  ولا نراها، وتقدمون الإيمان على النظر العقلي الذي يكبل آليات إدركاتكم. وكل ذلك عندنا مرفوض تماماً، ومن ثمّ نحن لم نصدق لكي ننكر بعد ذلك فنصبح هراطقة.

ولعل هذا التصريح يبرر أمرين: أولهما إدراجنا أصحاب الشك المطلق ضمن صناع الكذب في هذا السياق.

وثانيهما أن بعض أصحاب الخطاب المتفلسف من اللاهوتيين وعلى رأسهم القديس أوغسطين قد أكدوا أن متفلسفي الشك المطلق قد شكلوا عائقاً كبيراً أمام العقل المؤمن وتسليمه بأن المعرفة الإلهيّة تحمل بين طياتها اليقين الذي يملك جوهر الحقيقة واليقين وحده.

 بذلك اللغو والسفسطة تناول الشكاك كل الآراء الفلسفية والعقدية والعملية، بل والمشاهدات اليومية، ومن أشهر الأكاذيب التي طرحوها لإثبات انعدام اليقين وتهافت البراهين وعجز العقل عن الإدلاء بأي حكم مقنع في ذاته أو يستدل على صدقه أو كذبه!

- إنّ أصحاب الدين الجديد يزعمون أنهم أصحاب عقيدة سماوية هبطت من قبل الإله في حين أنهم لا يملكون أي دليل مقنع على أن يسوع هو ابن مريم من قوة غيبية، وأناجيلهم تنسبه إلى يوسف النجار خطيب مريم الذي يبلغ من العمر 86 عام تارة، وأن عصبة من كهنة اليهود تتهمه بأنه ابن الخطيئة مع أحد جند الرومان، وتؤكد نصوص أخرى وردت في أناجيلهم أنه ابن الرب بالتبنّي، ونصوص أخرى تزعم أنه الوالد والمولود، وكل ذلك يؤكد أنهم يتحدّثون عن لا شيء يمكن تصديقه أو إنكاره بالقطع؛ فالغيب غير موجود.

- إنّ أصحاب الدين الجديد لم يتحرّوا الدقة في حكمهم على بولس الرسول الذي يعتبرونه الرجل الثاني بعد المسيح في الأهمية والقداسة، ويرجعون له الفضل في التبشير بالمسيحية في أوربا وآسيا، وذلك في 14 رسالة اشتملت على مائة إصحاح قد تعلمها على يد يسوع في يوم وليلة، وهذا الأمر لا يطيقه أبسط العقلاء ليؤمن به ولا يفلح أعظم الفلاسفة في الإتيان بدليل أو برهان يحتج بهما أمام منكريه ومكذبيه.

ألم يكن بولس شاول (نحو 5: 67 م) يهوديًا من طرسوس؟ ويرجح معاصريه أنه من يهود (الخَزَر) الأتراك الذين اعتنقوا اليهودية بعد وثنيتهم واستوطنوا روما، وكان شديد التعصب ومن أكبر المنكرين لخطاب يسوع، كما أنه قد تلقى الكهانة وتتلمذ على يد المعلم اليهودي غامالائيل (حوالي القرن الأول قبل الميلاد، وهو من كبار متفلسفة الخَزَر)؛ فبرع في العرافة وصياغة الأكاذيب وحبك الأحداث والمواقف، أمّا حسن صياغة الرسائل الدعويّة التبشيرية؛ فقد تعلمها من الرواقيين في روما، وقد تأثر بالمعارف الفلسفية التي لا يمكن لعاقل إنكارها، شأنه في ذلك شأن إكليمندس السكندري(150م) الذي صاحبه في رحلته التبشيرية وقام بكتابة الإنجيل الرابع الذي اعتمدته الكنيسة ونسبته الى (يوحنا الرسول -نحو10 م-) وقد نسب له أيضاً سفر الرؤيا وبضع رسائل لاهوتية.

وتكشف لغة بولس في رسائله تلك المسحة الفلسفية المحاكية لأسلوب صاحبه؛ والشاغلة بالعبارات التي تحتمل أكثر من معنى التي تحرض على الارتياب أكثر من التصديق أو التسليم؛ الأمر الذي يحرض أصحاب العقول على الشك في ذلك الخطاب الإيماني الشاغل بالأساطير والمواعظ المستنبطة من آراء الفلاسفة، والعجيب أن اللاهوتيين الأوائل وكذا فلاسفة المسيحية لم يتوقفوا عند هاتيك الملحوظات النقدية المريبة.

والأرجح أن رسائل بولس قد سعت إلى إفساد العقيدة المسيحية من الداخل بتوجيه من أحبار يهود الخَزَر، وقد نجح بالفعل وانقسم كهنة المسيحية إلى أرثوذكس يدينون بعقيدة أثناسيوس وكاثوليك تابعين لبولس وذلك عام (1054 م) ويرتابون في الوقت نفسه فيما كتبه بطرس الذي أنكر يسوع وتخلى عنه واجترئ على تعاليمه رغم وصفه من قبل البعض بأنه الكنيسة الحقيقية التي تبشر بعقيدة المخلص.        

 أمّا الاتجاه الثاني؛ فيشتمل على عصبة لا يجمع بينها سوى المروق والكفر بكل الأديان والسحر الأسود وعبادة الأوثان وتأليه البشر والعنف وجمع الأموال من كل صوب ودرب، أما قادة الرأي في هذه العصبة فكانوا من يهود الخزر وعبدة الشيطان الذين يقدمون الأضحيات البشرية قرباناً في طقوسهم الدمويّة وجعلوا المعتقدات الأخيرة ضمن العبادات السرية التي شكلت عقلية الساسة الرومان منذ القرن الثالث الميلادي حتى بات السحر والاتصال بالجن والعفاريت من أهم الطقوس الشائعة حتى بعد ظهور المسيحية والاعتراف بها كدين رسمي للإمبراطورية الرومانية.

 وكان يهدف هذا الاتجاه إلى استبعاد أي ثابت (ديني، فلسفي، علمي، عرقي تراثي) في مقدوره جمع شتات المجتمع الروماني فبات العنف والمنفعة واللذة المباشرة والشك في كل شيء سوى الشيطان هو الحقيقة الوحيدة والصدق المطلق القادر على فعل كل شيء بما في ذلك عصيان الآلهة، ومن ثم كان مقصدهم الأول عقب ظهور المسيحية هو الإيقاع بين الرهبان والقديسين من جهة والقيصر والنبلاء من جهة أخرى، ثم إفساد هذا الدين من الداخل، وذلك عن طريق التظاهر باعتناق المسيحية والتسلل إلي (الإكليروس) أو الرئاسة الكهنوتية عن طريق الرشاوى أو الترغيب بالمنافع تارة أو التهديد بحاشية القيصر وعسكرهم تارة أخرى، وكيف لا، وقد نجحت هذه العصبة أن تشكل طبقة من التجار تقرض الناس والأمراء وتتاجر في كل شيء، وأضحى لها عيون وجواسيس في كل المجتمعات المجاورة؛ الأمر الذي مكنها من بلوغ ما تريد.

 وها هي أشهر الأكاذيب والشائعات والفتن والتزوير والتزييف وغير ذلك من أشكال الهرطقات التي روج لها هذا الاتجاه:

- إنّ أصحاب الدين الجديد قد أبهروا العوام بقوة سحر قديسيهم وتناسوا أننا أهل هذا الفن، ورغم ذلك لم ندعي أننا أصحاب ديانة ولا فينا نبيّ مرسل من الإله، وبرهاننا في ذلك سمعان الساحر (سيمون الساحر) الذي أخبر بطرس ويوحنا - وكلاهما من كتبة العهد الجديد - أن قدرته السحرية تفوق ما روى عن سائر القديسين الذين حلت الروح القدس فيهم، ومن ثم يجب تنصيبه على رأس هذه الديانة عوضاً عن يسوع الذي قتل على الصليب.

فقد كذباه سامعيه ووصفاه بالدجل والهرطقة والكذب في حين أنه هو الذي علم كهنة الكنائس في القرن الأول النكروما سياNecroman    cy وتحضير أرواح الموتى وتسخير الجن وتوجيه القرين وفق رغبات سحره الشيطانية.

- إنّ أصحاب الدين الجديد يدَّعون أن قديسيهم يستنزفون الجهلة والضعفاء والمغفلين من الأغنياء ويستولون على أموالهم مقابل منحهم البركة والغفران والسعادة الأخروية، في حين أن الوثنيين منا لا يكذبون على من يسلبونهم أموالهم، بل يبيعون لهم الوهم والخرافة، وتحقيق بعض الرغبات التي يقدر عليها ما نسخره من جن وعفاريت لخدمة منافع العرافين وكهنتنا، وبذلك نفعل ما يفعله نبلاء الساسة من الرومان، أمّا آباء الكنيسة المجدّفون يفسدون الأخلاق والدين معًا.

- إن أصحاب الدين الجديد لم ينجحوا في تقديم نسقًا دينيًا يرضى عنه التَورَاتيون ولا الفلاسفة، وأرتاب فيه العوام والنبلاء والقياصرة الذين فرضوا عليهم شروط وتعاليم مناقضة لما كانوا يروجون له في ديانتهم؛ ليتوافق هذا الدين مع منافعهم.

وللحديث بقية عن أكاذيب الوثنيين وردود المتفلسفين المحافظين.

***

بقلم: أ. د. عصمت نصار 

في المثقف اليوم