قضايا

إبراهيم برسي: من البروليتاريا إلى الكومنتاريا.. الثورة التي غيّرت أدواتها

منذ القرن التاسع عشر رسّخت النظرية الماركسية دور الطبقة العاملة “البروليتاريا” كمحرّك أساسي للتاريخ، وسخّرت هدفها في الثورة الاجتماعية.

كان ماركس يرى أن الصراع الطبقي يقود حتمًا إلى “ديكتاتورية البروليتاريا” كمرحلة انتقالية إلى مجتمعٍ غير طبقي.

وفي هذا الإطار الكلاسيكي، بدا أنّ الثورة الصناعية قد أنجبت الوعي الثوري ذاته، وأنّ العامل هو القلب النابض لكل حركة تاريخية.

لكن في العقود الأخيرة، ومع صعود الثورة العلمية والتكنولوجية، تغيّرت طبيعة العمل، وتحوّلت أدوات الإنتاج من اليد إلى الدماغ، من المطرقة إلى الحاسوب، ومن المصنع إلى شبكة رقمية تنتج الثراء عبر المعلومة… هنا بدأ السؤال الجوهري يطلّ برأسه: هل تضاءل دور البروليتاريا وجاء عهد الكومنتاريا؟

الكومنتاريا، وفق المصطلح الذي استخدمه ألفن توفلر في كتابه “تحوّل القوة” (Power Shift)، هي الطبقة المعرفية التي تملك وسائل إنتاجها بامتلاكها للمعرفة نفسها. إذ لم تعد أدوات الإنتاج مادية يمكن الاستحواذ عليها، وإنّما رمزية تتجسّد في المعلومة والفكرة والابتكار.

هي الطبقة المعرفية التي تملك وسائل إنتاجها بامتلاكها للمعرفة نفسها. إذ لم تعد أدوات الإنتاج مادية يمكن الاستحواذ عليها، وإنّما رمزية تتجسّد في المعلومة والفكرة والابتكار.

يقول توفلر إنّ “المعرفة أصبحت أعظم مضخّمٍ للقوة”، وإنّ الثروة لم تعد تُقاس بما تملكه من مصانع وأراضٍ، بل بما تملكه من عقول. لقد انتقل مركز الجاذبية في الاقتصاد العالمي من إنتاج السلع إلى إنتاج الأفكار، وأصبحت المجتمعات التي تستثمر في المعرفة أكثر قدرة على السيطرة من تلك التي تراكم رأس المال التقليدي.

هذه الثورة الهادئة أعادت صياغة مفهوم الطبقة نفسها؛ فلم يعد الصراع بين مالك المصنع والعامل، بل بين من يحتكر المعلومة ومن يستهلكها.

اقتصاديًا، لم تعد البروليتاريا الصناعية تمثّل القوة الكبرى في المجتمع كما كان الحال في زمن ماركس. فبنية الاقتصاد الحديث صارت تعتمد على قطاعات المعلومات والتقنية والابتكار أكثر مما تعتمد على العمل اليدوي. ومع تراجع الصناعات الثقيلة في أوروبا وأمريكا وتحويل خطوط الإنتاج إلى آسيا، تقلّصت الطبقة العاملة إلى أقل من خمس السكان في بعض البلدان، فيما تمدّدت الطبقات الوسطى والعمال المعرفيون الذين ينتجون الثروة عبر الذكاء والإبداع.

لقد تحققت نبوءة توفلر جزئيًا حين قال: “ان القوة تنتقل من أولئك الذين يملكون أدوات الإنتاج إلى أولئك الذين يملكون المعرفة”. أصبح العالم يعيش لحظة تاريخية لم يعرفها ماركس ولم يتخيّلها: طبقة جديدة تنتج وتتحكّم، ليس في المصانع فحسب، وإنّما في أنظمة التشغيل ذاتها.

غير أنّ هذا التحوّل لم يكن مجرّد انتقالٍ اقتصادي، بل هو أيضًا أزمة فكرية في قلب الماركسية ذاتها. فالمقولات التي صاغها ماركس وإنجلز في سياق الثورة الصناعية لم تعد صالحة لتفسير العالم الذي تتحكّم فيه المعرفة. لقد بنى ماركس تحليله على واقعٍ ماديٍ صلب، حيث الإنتاج يتمّ بالأيدي والآلات، وحيث العامل محروم من أدوات إنتاجه.

أمّا اليوم، فإنّ العامل الجديد — المبرمج، أو المصمّم، أو الباحث — يملك أداة إنتاجه في رأسه.

إنها ثورة داخل مفهوم “القيمة” نفسه؛ لأنّ القيمة لم تعد نتاج العمل اليدوي وحده، بل نتاج الذكاء الإبداعي والمعرفة القابلة للتحويل إلى ثروة.

في “رأس المال”، ربط ماركس بين القيمة وكمية العمل الاجتماعي الضروري لإنتاج السلعة، غير أنّ اقتصاد المعرفة كسر هذا الميزان، إذ بات بإمكان فكرة واحدة — أو خوارزمية صغيرة — أن تدرّ ثروة تفوق إنتاج مصنعٍ كامل.

إنها مفارقة زمنٍ أصبحت فيه “الملكية الفكرية” تحلّ محلّ “الملكية المادية”، ويُقاس فيه العرق بالعقل لا بالجهد العضلي.

في هذا السياق، قدّم المفكّر السوداني الخاتم عدلان قراءة نقدية مبكرة حين كتب في أوائل التسعينيات اعترافًا صريحًا بأنّ “المشروع الماركسي للتغيير الاجتماعي قد أخفق بفعل التاريخ”. لم يكن ذلك تخلّيًا عن اليسار، بل وعيًا جديدًا بحدود النظرية أمام تحوّلات العصر. فقد أدرك الخاتم أنّ الصراع الطبقي في السودان والعالم الثالث لم يعد بين العمال والرأسماليين، بل بين المجتمع ككل وطبقةٍ طفيلية تسيطر على الموارد والثروة باسم الدين أو العسكر.

كانت تلك رؤية استباقية لما نعيشه اليوم: صراعٌ بين من يُنتج المعرفة ومن يحتكرها، بين مجتمعٍ يسعى للانعتاق من الهيمنة، وأنظمةٍ تستخدم الجهل سلاحًا للبقاء.

الثقافة بدورها لم تكن بعيدة عن هذا التحوّل. لقد تغيّر مفهوم “العمل” نفسه. العامل لم يعد يرتدي “الأفرول” الأزرق، بل بدلةً أنيقة أو قميصًا رماديًا، أو حتى “جلابية بيت”، ويجلس أمام شاشة.

العمل أصبح أكثر فردية، لكنه أيضًا أكثر انفتاحًا على العالم.

ومع تحوّل المعرفة إلى سلعة، باتت الحدود بين العامل والمفكّر والفنّان تتلاشى… كلّهم أصبحوا منتجين في اقتصاد رمزي لا تراه العين لكنه يحكم العالم.

في هذا الاقتصاد الجديد يتغيّر معنى الثورة أيضًا: لم تعد ثورة الشوارع والمصانع، بل ثورة الأفكار والمنصّات والفضاء الرقمي. فالسلطة نفسها صارت تقوم على التحكّم في تدفّق المعلومات أكثر من السيطرة على الأرض أو السلاح.

وهكذا نصل إلى مأزق الفلسفة الماركسية: ماذا يعني “التحرّر” حين يكون الاستغلال معرفيًا وليس ماديًا؟

هل يمكن للعقل أن يكون أداة قمع كما كانت الآلة من قبل؟

يبدو أنّ الماركسية القديمة بحاجة إلى مراجعة لا تنفيها بل تُعيد تأهيلها لتفهم الواقع الجديد. فالصراع الطبقي ما زال قائمًا، لكنه انتقل من المصنع إلى المنصّة، ومن خطّ الإنتاج إلى خوارزميات الذكاء الصناعي. حتى الثورة ذاتها لم تعد تنفجر في الشوارع… صار يمكنها أن تبدأ في تغريدة، أو في مقال، أو في فكرةٍ تنتشر كالنار في هشيم الوعي.

أمّا في السودان والعالم العربي، فإنّ سؤال الكومنتاريا ما يزال في بداياته. فمجتمعاتنا لم تدخل بعد طور “اقتصاد المعرفة” الكامل، لكنها تعيش مقدماته عبر التعليم والإعلام والمبادرات التقنية. ومع ذلك، فإنّ الصراع بين قوى التنوير والجهل، بين المعرفة والولاء، بين الحرف والفكر، يعكس نسخة محلية من الصراع بين البروليتاريا والكومنتاريا.

هنا يصبح المثقف، لا العامل، هو حامل الوعي التاريخي، والمفكّر هو من يوقظ الجماعة من سباتها… كما كان الخاتم عدلان يفعل حين حوّل الماركسية من نصٍّ عقائدي إلى سؤالٍ مفتوح حول الإنسان والمجتمع.

لقد تحوّلت أدوات الإنتاج من المعمل إلى المعنى، وأصبحت الفكرة نفسها ميدانًا للصراع. ومن ثمّ، فإنّ الكومنتاريا لا تُلغي البروليتاريا، بل تُكملها في مستوى جديد: وعيٌ يُنتج ذاته بدل أن يُنتجه غيره.

ومع ذلك، فإنّ الخطر الأكبر — وما يجب الانتباه إليه — هو أن تتحوّل هذه الطبقة الجديدة إلى برجٍ عاجي يفصلها عن الناس، أو إلى نخبةٍ تقنية تخدم السلطة بدلًا من تحريرها. فكما أفسدت البيروقراطية حلم البروليتاريا، قد تُفسد التكنولوجيا حلم الكومنتاريا إن لم تُقرن بالوعي الإنساني والعدالة الاجتماعية.

ان القول بزوال البروليتاريا لا يعني نهاية الماركسية، بل انتقالها إلى طورٍ جديد من مادّتها التاريخية.

فما تغيّر ليس جوهر الصراع، بل طبيعة أدواته.

أصبح رأس المال يملك “المعلومة” بدل “الآلة”، ويُنتج الهيمنة من خلال الوعي لا الجسد.

هكذا تحوّلت البروليتاريا من فاعلٍ مادّي إلى فاعلٍ رمزي، ومن جسدٍ منتج إلى عقلٍ مُراقَب.

إنّ الكومنتاريا، بهذا المعنى، ليست طبقةً بديلة، بل هي البروليتاريا وقد ارتدت ثياب المعرفة.

وإذا كانت الماركسية قد قامت على تحليل علاقة العمل بالقيمة، فإنّ عصر المعرفة يفرض إعادة تعريف القيمة نفسها: أن يصبح الذكاء هو العرق الجديد، وأن يكون الوعي هو ميدان الصراع المقبل.

يبقى السؤال الأخير معلّقًا في فضاء الفلسفة: هل سنشهد “دكتاتورية جديدة للمعرفة” كما شهدنا “دكتاتورية البروليتاريا”؟ أم سيأتي زمنٌ تتصالح فيه القوة مع العقل، ويصبح الإنتاج فعلًا إنسانيًا خالصًا؟

لا أحد يعرف بعد… ما نعرفه فقط أنّ التاريخ لا يُعيد نفسه، بل يُبدّل أدواته.

والذين كانوا يصنعون الثورة في المصانع صاروا اليوم يصنعونها بالكلمات، بالشبكات، وبالمعرفة.

وربما كان هذا ما قصده توفلر حين قال: “من يملك المعرفة يملك المستقبل.”

***

إبراهيم برسي

في المثقف اليوم