قراءات نقدية

فاطمة عبد الله: قراءة نقدية في نص "أكثر من موت واحد"

للشاعرة د. مرشدة جاويش

الغياب ككينونة: تمثلات الفقد في شعرية الرثاء عند مرشدة جاويش ضمن أفق ما بعد الحداثة.

ظل الرثاء في الشعر العربي تقليداً ذا طابع وجداني يركز على تمجيد الراحل والبكاء عليه، غير أن تحولات الكتابة الشعرية الحديثة، خاصة في ظل تيارات ما بعد الحداثة دفعت باتجاه مساءلة هذا النموذج التعبيري. فقد أضحت الكتابة الرثائية مجالاً لتفكيك الحدود بين الحياة والموت، اللغة والصمت، الذكرى والحضور.

تنطلق هذه القراءة من فرضية أن نص مرشدة جاويش لا يرثي الغائبة بقدر ما يعيد بناء الغياب بوصفه تجربة أنطولوجية ولغوية معقدة.

الإشكالية:

كيف تتجلى تجربة الحداد الوجودي في نص مرشدة جاويش؟ وما الملامح التي تجعل هذا النص يتجاوز الرثاء التقليدي ليندرج ضمن أفق الكتابة ما بعد الحداثية؟

من الرثاء إلى الحداد الأنطولوجي:

في هذا النص، تُبلور الشاعرة مرشدة جاويش ملامح حداد وجودي لا يشبه الرثاء التقليدي، بل يتجاوز فعل التأبين ليغدو تجربة أنطولوجية حيث يتحول الغياب إلى مرآة للكينونة، ويغدو "الفقد" فضاءً معرفياً تعاد فيه صياغة العلاقة بين الذات والآخر، وبين اللغة والذاكرة.

الكتابة كفعل وجودي:

تتجلى الكتابة في النص كفعل وجودي من خلال نفس ما بعد حداثي Postmodern يتكئ على شعرية التفاصيل الهامسة، ويتحرر من مركزية المعنى لينتج دلالات مفتوحة عبر تراكيب تراوغ الظاهر وتدفع القارئ نحو تأويل غير مستقر. إنها كتابة تحاكي الحلم بانسيابه، والتأمل ببطئه، والمناجاة بعزلتها. لا تقدم الغياب بوصفه نهاية، بل تسائل الفناء نفسه وتعيد ترتيب الأبجدية بعين فقدت النطق وبقي لها الصدى:

"كنتِ تسيرين كنسمةٍ / في فكرةٍ أخطأت تجسدها"

تصور الشاعرة الراحلة ككيان شفاف لا يحتمله الواقع؛ تجل لم يكتمل، أو فكرة روحانية رفض الجسد استيعابها. الغياب ليس انقطاعاً، بل تحول، والموت ليس سوى شكّ أنطولوجي.

اللغة كبيت للكينونة:

توظف الشاعرة صوراً بصرية ونفسية على مستوى عالٍ من التجريد:

"ترتبين الدمع كنظرية كونية للعزلة"

"لم أعد أجيد التفرقة بين ظلٍّ يَعبرني وبين طيفك الذي لا يغيب"

تتداخل الفيزياء بالعاطفة، والرمزية الوجودية بالحس الصوفي، وهو ما يحيل إلى قول هايدغر: "اللغة هي بيت الكينونة، وفي هذا البيت يسكن الإنسان". فالشاعرة لا تصف الموت، بل تقيم في اللغة، لتشيد حضوراً بديلاً للغائبة.

تفكيك الرثاء وإعادة بناء الغياب:

يتجنب النص الندب والصراخ العاطفي؛ إنه لا يعلن الموت، بل يتأمله ويقاومه بلغة النفي:

"أنا لا أرثيكِ / أنا أصدق قيامتكِ الصغرى"

هذا التحول من الرثاء إلى الاعتراف بقيامة رمزية يعيد بناء صورة الفقد على نحو يتجاوز المألوف ويضفي على النص بعداً صوفياً. كما يلتقي مع قول رولان بارت: "الكتابة تبدأ حيث تتوقف اللغة عن أن تكون وسيلة، وتصبح سؤالاً في ذاتها". فالنص لا يكتفي بالبوح، بل يقوض مفهوم الغياب، ويفتح اللغة على جوهرها الوجودي.

الخصائص البنيوية ما بعد الحداثية:

إلى جانب المحتوى الدلالي الغني يتجلى النص بوصفه بنية مفتوحة تنتمي إلى أفق الكتابة ما بعد الحداثية، سواء من حيث تقنياته الشكلية أو أنساقه التعبيرية. من أبرز سماته البنيوية:

انفلات علامات الترقيم: وهو ما ينتج إيقاعاً داخلياً غير خاضع لتقطيع نحوي أو منطقي تقليدي، فيتحرر النص من الإيقاع المنضبط ليحاكي ما يعرف في النقد البنيوي بـ"تفكيك البنية المعيارية للخطاب". هذا الانفلات لا يعد فوضى بل هو وسيلة لتقويض سلطة السرد الخطي وإنتاج "تيار وعي" لغوي أقرب إلى الهذيان التأملي، بما ينسجم مع مفاهيم جوليا كريستيفا عن "النص المفتوح" و"تعدد المعنى".

التكرار التأويلي (Interpretive Repetition): وهو تكرار لا يراكم المعنى بطريقة خطية بل يدوره، مما يعكس تشظي الذاكرة الذاتية. فكل عودة إلى الغائبة لا تعيد الحزن ذاته بل تعيد تشكيله ضمن بنية دائرية تقاوم الخاتمة أو التحديد. هذا الشكل من التكرار يندرج ضمن ما يسميه جاك دريدا بـ"الاختلاف différance"؛ حيث لا معنى نهائي بل انزلاق دائم للدلالة.

الإيقاع ما بعد الوزني (Post-rhythmic): فالإيقاع في هذا النص لا ينبثق من الوزن أو القافية، بل من توتر الصور وانزياح التراكيب، وتتابع المفارقات الدلالية. إنه إيقاع ينبع من الداخل من صدمة اللغة لا من انتظامها ويعيدنا إلى تصورات أدونيس مثلاً حول الشعر كـ"لغة ضد اللغة"، حيث تتحول الموسيقى الشعرية من شكل خارجي إلى توتر داخلي ينطوي على مقاومة للمألوف البنيوي والمعجمي.

 إن هذه الخصائص الشكلية لا تنفصل عن مضمون النص، بل تعزز وظيفته الوجودية، إذ تجسد الانهيار الداخلي للذات الشاعرة أمام الفقد وتحول النص إلى فضاء مفتوح على الصمت وعلى ما لا يمكن قوله، وهو ما يشكل جوهر الكتابة الما بعد حداثية كما تصورها رولان بارت وجيل دولوز، كتابة تقاوم المعنى النهائي وتسكن حدود اللغة لا مركزها.

إننا، في نهاية هذا النص لا نواجه رثاءً شعرياً بقدر ما نقف أمام مشروع لغوي وفلسفي يتقصى حدود الكينونة من خلال الغياب. لا تسعى الشاعرة مرشدة جاويش إلى تمجيد الراحلة أو تأبينها، بل إلى تفكيك مفهوم الغياب ذاته وبناء خطاب شعري يقاوم النفي بالصدى، والغياب بالحضور اللغوي. بهذا المعنى، فإن النص لا يرثي الموت بل يعيد مساءلته، ولا يتوسل اللغة كوسيلة بل يقيم فيها كبيت للكينونة على حد تعبير هايدغر.

تنتمي هذه الكتابة إلى أفق ما بعد حداثي يتسم بتشظي الدلالة، وتفكيك البنية، وتحرير الشعر من وزنه ومرجعيته. من هنا، فإن ما تقدمه الشاعرة مرشدة جاويش ليس فقط نصاً "ما بعد رثائي"، بل تجربة أنطولوجية تخاطب القارئ لا بوصفه شاهداً على الفقد، بل مشاركاً في إعادة إنتاج معناه.

إنّ هذه القراءة تكشف أن شعرية الرثاء المعاصر، حين تكتب من موقع الحداد الوجودي، تتحول إلى مرآة للذات وهي تعيد بناء عالمها المنكسر وتتحول الكتابة نفسها إلى فعل نجاة مفهومي ضد العدم. ويبقى السؤال مفتوحاً: هل يمكن للشعر أن يعوض الغياب؟ أم أن اللغة، مهما ارتقت، تظل تكتب على حافة الصمت؟

***

من إنجاز فاطمة عبد الله

...........................

أَكْثَرُ مِنْ مَوْتٍ وَاحِدٍ

(لِينُ)

الغِيابِ في ذِكْرَاها

هُنا

فَوْقَ الرُّوحِ يَتَلاشى السُّؤالُ

وتَنْطَوِي الدُّموعُ على أَسْرَارِ الرَّحِيلِ

كنتِ تَسِيرِينَ كَنَسْمَةٍ

فِي فِكْرَةٍ أَخْطَأَتْ تَجَسُّدَهَا

كُنتِ خَفْقاً زَائِداً

فِي قَلْبِ الوُجُودِ

وَلَمْ يَسْتَوْعِبْكِ المَجَازُ

كنتِ تَسِيرِينَ فِي الحُلْمِ

كَأَنَّكِ بَقَايَا سَهوٍ إِلَهِيٍّ

تَكْتُبِينَ الأَبْجَدِيَّةَ

بِصَوْتِ الفَقْدِ

وَتُرَتِّبِينَ الدَّمْعَ

كَنَظَرِيَّةٍ كَوْنِيَّةٍ لِلعُزْلَةِ

فَمَاذَا نَفْعَلُ

أَنَا لَا أَرْثِيكِ

أَنَا أُصَدِّقُ قِيَامَتَكِ الصُّغْرَى

فِي كُلِّ نَفَسٍ

أَشْعُرُ أَنَّكِ

لَمْ تَمُوتِي

بَل أَنَا الَّذِي

تَفَكَّكْتُ فِيكِ

وَلَمْ أَلْحَقْكِ بَعْد

وأنا؟

لم أَعُدْ أُجِيدُ التَّفْرِقَةَ

بَيْنَ ظِلٍّ يَعْبُرُني

وبَيْنَ طَيْفِكِ الّذي لا يَغِيب

كُلُّ شَيْءٍ يُسَاوِمُنِي عَلَيْكِ

كُلُّ مَكَانٍ يَمُدُّ لِي يَدَهُ

فَأُحِسُّ نُقْصَاناً

كَأَنَّ يَدَكِ كَانَتِ الزَّائِدَةَ الَّتِي تَكْمُلُنِي

لم أَقُلْ شيئاً

غَيْرَ أَنَّ المَطَرَ يَتَسَاقَطُ فِي دَاخِلِي

وَالعَالَمَ يُواصِلُ مَشْهَدَهُ العَابِر

كَأَنَّكِ لَمْ تَكُونِي نُوراً

أَو كَأَنَّهُ لَمْ يُقْتَلْ كَفَصِيلَةِ مَعْنًى

بِرَحِيلِكِ

فَكوني بَعِيدَةً

كَمَا يَلِيقُ بِمَنْ

عَبَرَ هذا العَالَمَ

وَتَرَكَ خَلْفَهُ

كُلَّ ضَوْءِهِ

وَإِذَا سَأَلُوكِ عَنِ الدُّنْيَا

قُولِي لَهُمْ:

"أَتَيْتُ لأَكْتُبَهَا

فَلَمْ تَتَّسِعْ لِي"

وعنِّي

لَنْ أُطْفِئَ قَلْبِي

سَأَتْرُكُهُ يَنْبِضُ

فِي كُلِّ شَيْءٍ سِوَاي

لِيَكُونَ هُوَ الدَّلِيلَ

أَنَّكِ كُنْتِ

***

مرشدة جاويش

في المثقف اليوم