قراءات نقدية
عماد خالد رحمة: قراءة نقدية موسَّعة في قصيدة "عجزُ الكلامِ عن الكلام

لعبد الله البردوني.. مقاربة رمزية، أسلوبية، نفسية، هيرمينوطيقية
1) مدخل: بيانٌ شعري في عالمٍ مقلوب:
تبدو القصيدة بيانًا أخلاقيًّا ساخرًا يصوغ رؤيةً لكونٍ انقلبتْ فيه القيمُ والمعايير: النورُ تُطفِئه الظلمة، والأمنُ خائف، والنومُ يرفض أن ينام. يفتتح البردوني بنبرة تشي بانسداد اللغة أمام فداحة الواقع («عجزُ الكلامِ عن الكلام») ثم يمضي إلى تفصيلاتٍ صُوَرية ترسم خرائط هذا الانقلاب عبر مشاهد مكثّفة، متوازية، ومشحونة بالمفارقات.
2) المنهج الرمزي: حديقة الحيوان السياسية ورموز الافتراس
تُشيّد القصيدة حقلها الرمزي على ثنائية الافتراس/البراءة:
الذئب حارسًا للأرانب والحمام: رمزٌ لسلطةٍ تضطلع بحماية ما خُلقت لافتراسه؛ صورةٌ مكثّفة لفساد الوظائف.
الكلب سيدُ قومه في كهفٍ يقتات العظام: سلطةٌ دنيا تتغذّى على الفُتات وتحكم في الظلّ.
الثعلب المكار يضحك من «غباءٍ مستدام»: ذكاءٌ انتهازي يقابله عجزٌ جمعيّ.
ومن الرموز الكبرى النفط/الجوع: «النفط يملأ أرضنا والناس تبحث عن طعام»؛ مفارقةُ الثروة المهدورة (لعنة الريع) حيث الوفرة المادية تُنتج فقرًا بنيويًا. كذلك العدل في زوايا السجن، والموت يقتل نفسه: صورٌ تبلغ حدّ المفارقة الوجودية؛ العالمُ يلتهم ذاته.
3) المنهج الأسلوبي: نحو موسيقى المفارقة والتوازي:
القافية الموحدة (…ام) تمنح النصَّ تماسكًا لحنيًا يشيع وقعًا أناشيديًا يُناسب التعداد التراكمي للصور.
التوازي التركيبي: تتكرر بنية «X أصبح Y»، «X يَفعلُ Y»، بما يخلق ضرباً من الإيقاع التركيي الذي يراكم الدلالات ويُصعّد التوتر.
العطف المتتابع بالواو («والأمن… والنوم… والشمس…») يشي بأسلوب السرد التراكمي الذي يُحاكي انهمار الوقائع ويفضي إلى شعور بالاختناق.
المجاز والطباق: «النور/الظلام»، «المد/الجزر»، «الطهر/الرعية والإمام»، تُجسّد اقتصادًا لفظيًا يقدّم الدلالة عبر صدماتٍ قصيرة لا عبر إسهابٍ توصيفي.
المفارقة تُعدّ المكوّن الأسلوبي الأبرز: «الموت يقتل نفسه»، «النوم يرفض أن ينام»؛ مفارقاتٌ تولّد دهشةً معرفية وتعمل كآلية نقدٍ تُعرّي لا معقولية الواقع.
4) المنهج النفسي: وجدانٌ جمعي بين السخرية السوداء وقلق العجز:
تتحرك الذات الشاعرة من إحساس بالعجز التعبيري (عنوانًا وبداية) إلى تعويضٍ تخييلي عبر سلاسل الصور؛ فالفعل النفسي المركزي هنا هو تحويل القلق إلى تهكّم. السخرية ليست نُزهة لغوية بل آلية دفاع تُحافظ على اتزان الذات في عالمٍ مختل. كما أن تكرار فجائع «الجوع يمشي عاريًا…» و«الأرض تُروى من دماء الناس…» يوحي بذاكرةٍ صادمة تتبدّى في هيئة كوابيس يقظة، تتقاسمها الجماعة. إننا أمام وجدانٍ جمعيٍّ منكسر لا يفتش عن بطولة فردية بل عن معنى وسط الخراب.
5) المقاربة الهيرمينوطيقية: من المشهد الجزئي إلى الرؤية الكلية
تعمل القصيدة بوصفها دائرة تأويل تبدأ من صورةٍ جزئية (نوم يرفض أن ينام) إلى أفقٍ كُلي: عالمٌ يُدار بقوانين ضدّية. القارئ يُتمّ المعنى عبر خبرته التاريخية:
انقلاب المواقع («الصدر في الوراء والخلف في الأمام») يُقرأ كتعطّلٍ للتراتبيات الأخلاقية والمؤسسية.
«العدل في زوايا السجن» و«الطهر يبني حاجزًا بين الرعية والإمام» تُعيدان تأويل المؤسسات باعتبارها صارت أدواتِ إقصاء لا رعاية.
النفط/الجوع يؤسّس لأفق تأويلي سياسي– اقتصادي: وفرةٌ بلا توزيع عادل، وثروةٌ بلا سيادة اجتماعية.
الهيرمينوطيقا هنا تُبرز اندماج أفق النص بأفق القارئ: ما يورده الشاعر ليس وصفًا طبيعيًا، بل تمثيلٌ رمزي لزمنٍ عربي تتهشم فيه البداهات، فيصبح الحلم الاجتماعي مستحيلًا إلا بقلب المعادلات.
6) بناء الصورة: اقتصاد لغوي وحدّة تشخيص:
تجنح الصور إلى القصيرة المقطّرة: «الشمس باردةٌ»، «الكلب سيد قومه»، «الجوع يمشي عارياً». إنّها لقطاتٌ سينمائية مكثّفة، تُراكم ألبومًا بصريًا لعالمٍ مختل. ولاحظ كيف يزاوج الشاعر بين التجسيد (الموت يقتل نفسه) والتشييء (العدل يقعد في الزوايا) ليُكسِب المعاني المجردة جسدًا حركياً يَصدم ويعلّم.
7) خطاب السخرية الأخلاقية:
السخرية هنا ليست تندّرًا، بل أخلاقيةٌ احتجاجية: إذ يتولّد المعنى من التسمية الفاضحة للأشياء وهي في مواضع معكوسة. إنّ «الخصم يزحف نحونا والجيش يبحث عن غلام» جملة تُعرّي العطب المؤسسي عبر نبرةٍ تقريرية باردة تزيد المفارقة حدّة. هكذا تتولّد السخرية السوداء: وصفٌ محايد لوقائع فادحة يجعل التناقض يفضح نفسه.
8) زمن القصيدة: حاضرٌ مستدام:
غالب الأفعال في المضارع («يخاف، يضحك، يقعد، يمشي»)، ما يصنع حاضرًا ممتدًا لا ينقضي؛ كأن الخلل ليس حادثةً عابرة بل بنية زمنية. هذا الاختيار يُنتج أثرًا نفسيًا: استمرار الأزمة، واستدامة الشعور بالعجز، ومن ثمّ تَراكُم الحاجة إلى قولٍ يتجاوز عجز الكلام.
9) خاتمة: بلاغة الانقلاب ومعنى المقاومة:
في «عجز الكلام عن الكلام» يشيّد البردوني بلاغة الانقلاب: لغةٌ بسيطة ظاهريًا، عميقةٌ رمزيًا، قائمةٌ على مفارقاتٍ وتوازياتٍ وإيقاعٍ موحّد، تُنطق الحقيقة عبر قلب العلاقات. القصيدة تُجيد تشخيص اللامعقول لتوقظ ضمير القارئ: فإذا كان الكلام عاجزًا، فإن المجاز قادرٌ على أن يقول ما لا يقوله التصريح. هكذا تتحول القصيدة إلى مقاومة جمالية: تُعرّي، وتؤوّل، وتُذكّر بأن إعادة المعنى تبدأ من استعادة ترتيب العالم؛ أن يعود النور نورًا، والعدل عدلًا، وأن يبرأ الجوع من عُريه، فلا يكون النفطُ لعنةً، ولا يكون «السلام» شهادةَ موتٍ مجازي للجميع.
***
بقلم: عماد خالد رحمة - برلين
........................
عجزُ الكلامِ عن الكلام
عجز الكلامُ عن الكلام
والنور أطفأه الظلام
*
والأمن أصبح خائفاً
والنوم يرفض أن ينام
*
والصدرُ أصبح في الورا
والخلفُ أصبح في الامام
*
والشمس باردةٌ تخاف
الحرَّ تخبأ في الغمام
*
والذئب أمسى حارساً
يحمي الأرانب والحمام
*
والكلبُ سيدُ قومه في
الكهف يقتات العظام
*
والطهر يبني حاجزاً
بين الرعية والإمام
*
والثعلبُ المكارُ يضحك
من غباءٍ مستدام
*
والعدلُ يقعد في زوايا
السجن ارهقه القيام
*
والموتُ يقتل نفسَه
والشعبُ يقتُله اللئام
*
والظبيُ إن يعدو من
الصياد تلحقْه السهام
*
والدار أضحت خيمةً
والقبر يُبنى بالرخام
*
والأرضُ تُروى من دماءِ
الناس أرهقها الصيام
*
والجوعُ يمشي عاريًا
بين الجميع ولا يُلام
*
واليوم يهدمُ ما بناهُ
الأمسُ ذو المليون عام
*
والنفطُ يملأ أرضنا
والناسُ تبحث عن طعام
*
والكلُ فينا ميّتٌ
والكلُ يدعوا للسلام
*
والخصمُ يزحف نحوَنا
والجيشُ يبحثُ عن غلام
*
والقائدُ العربيّ
كالثعبانِ غدارٌ وَ سام
*
والشيخُ مشغولٌ
بتلوين العباءةِ واللثام
*
والدارُ تطعنُ اختَها
والغمدُ يطعنهُ الحسام
*
والنارُ تأكل كل شيءٍ
مثلَ أولادِ الحرام
***
عبد الله البردوني